المنشور

التلصص في الحل والترحال

في كتابه “يوميات التلصص” أبحر د. حسن مدن في بحار من المعايشات لا تحدها شواطئ، ولامس أشياءً في الحياة تمرق من أمامنا دون أن نعيرها انتباهاً، فكشف زواياها المهملة لتغدو أبسط الأشياء أهمها، وغاص في أعماق وجوهٍ جرفته بما يلفت، وحلق في الأجواء وعبر الفيافي ليحط رحاله في بقاع الدنيا مستكشفاً الأماكن بتفاصيلها وأحداثها وشخصياتها.
التلصص لدى د. حسن مدن لا ينطوي على المعنى القاموسي للكلمة بمعنى التجسس أو تكلُف اللصوصية، بل يذهب كما طرح الكاتب في مقدمته إلى معاني المتابعة النابهة أو المراقبة المركزة المضاهية للفراسة. يقول نصاً: “ثمة بشر يمتلكون هذه الحاسة النافذة في التقدير ودقة الملاحظة.” ولعمرنا فكاتبنا أحدُ هؤلاء البشر بجدارة.
لم يكتب د. حسن مدن يوميات ولا سيرة ذاتية لكنه كتب الحياة معملاً فيها دقة ملاحظته وحاسته النافذة في متابعتها وتقليبها على الجنبين وانثيال التأمل في تفاصيلها لتنبثق خاطرةٌ فغوص في العمق يستدعي ما يحوزه كاتبنا من مخزون ثقافي متراكم يغرف منه ما يواتيه في المواءمة بين ما يُعمل فيه تأمله وبين آراء أو أقوال أو ابداعات لآخرين. وهو في ذلك يحلل ويفلسف ليس بغموض وفذلكة الفلاسفة بل ببساطة الحياة نفسها. يفلسف أبسط الأشياء والظواهر مضفياً عليها قيمة حياتية لافتة يكتشفها القارئ فيقول لسان حاله: كيف لم ألتفت لهذا الجانب. ينتهي د. مدن إلى بلورة رؤيته الخاصة ويصدر أحكامه الذاتية ويمررها لقارئه، وذلك نهجٌ يميز بتقديرنا غالب المقالات الصحافية التي يكتبها د. حسن مدن وبعض اصداراته أياً كانت القضية التي يتناولها.
يبدأ تطواف المؤلف بمعايشاته الذاتية البعيدة والقريبة، كملابسات خروجه للتقاعد وما يلمسه القارئ من وخزها المؤلم، وطقوس حياته اليومية البيتية، وتجربته في التخلص من المتراكم والفائض. كما يعود بذاكرته إلى بعض المعايشات التي حفرت أثرها مثيرة شجنه كذكريات تكليف والده له بكتابة الرسائل. ويتوقف عند تجربة تقنية الكتاب المسموع والأغاني العذبة التي تظل في وجدان الانسان رغم ما يمر عليها من زمن، وصولاً لتأملاته في سيرورة الزمن وفي السهد وقسوة مجافاة النوم للإنسان.
يحتفي الكاتب ببعض أشياء الزمن الماضي حتى تلك التي أفلت شمسها حين أزاحتها التقنيات الحديثة كدفاتر المفكرات الصغيرة والمذياع والهاتف النقال البسيط والسينما ويرى لكل منها مذاقه وفائدته، فالمذياع لا يبث سوى المادة القيمة الرصينة فيغذي الروح والفن الرفيع فيمد المستمع بالهدوء والسكينة. يهجو السيارة وهوس الكرة ويعرّج على العيد وأغانيه والورد وإهداءاته.
ينوّه الكاتب باللافت والمميز من وجوه عرفها محتفياً بصداقاته، وهو في ذلك لا ينتقي الشخصيات اللامعة أو الشهيرة بل تلك الوجوه المغمورة التي طحنتها نوائب الدهر ومحن الحياة، كفاطمة الخجولة الحنون التي لم تنل فرصة التعليم لكنها تقدم دوراً مميزاً في الحياة، وجمال الذي خطفه الموت سريعاً، وعائدة الصديقة التي انقطع الكاتب عن التواصل معها ليتفاجأ بفجيعة موتها، والشاعرة الفلسطينية التي سحقتها المشاق بحثاً عن حق إقامة على أرض ما. من هؤلاء إلى معاناة وآلام وجوه في لقاءات الدقائق المعدودات على حدود الكوريتين بين أفراد العائلة الواحدة ممن فرقتهم الحرب والسياسة ومعاناة الأمهات المنسيات البعيدات عن أبنائهن في يوم عيد الأم، إلى وجوه لافتة كالعامل الآسيوي عند الإشارة المرورية والصيني الذي يحب تونس وغيرهم.
يستحوذ ما يربو على ثلث الكتاب على أماكن حطّ الكاتب رحاله على أراضيها، تحدث عما يقارب الثلاثين مدينة من مختلف بقاع الأرض. تستهويه مقاهي المدن بأناسها وحركتها وصخبها، يعاين الجالسين حول الطاولات، ماذا يفعلون، فيم يفكرون وماذا ينوون فعله وفقاً لما يشي به مظهرهم. تشده مدن بعينها لارتباطها بأعلام من المبدعين الأثيرين كمدن الأندلس برضوى عاشور وبيروت بمحمود درويش وعمّان بعبدالرحمن منيف وبراغ بالجواهري وفورميا بغرامشي.
صال الكاتب وجال في عوالم المعرفة والعلوم على أنواعها وولج قضايا يطرحها العصر وتشكّل اهتمام الباحثين الاجتماعيين والناشطين كقضايا المرأة وحقوق الانسان والعلاقة المثلى مع الأبناء ومع العاملين بالمنازل، فوسن صديقة أبيها بموازاة كونها ابنته ومدبرة البيت فردٌ من العائلة لها مكانتها الإنسانية المحفوظة. وهي علاقة إنسانية رفيعة مع العاملين في البيوت تتجسد بشكل جلي في بيوت المثقفين التنويريين الخليجية والعربية أكثر من أي فئة أخرى.
ما كتبه د. حسن مدن ليس عصياً على التصنيف فإن رحنا لكلاسيكيات التصنيف الأدبي نجده يندرج في خانة الخواطر والتأملات والانطباعات وهو صنف أدبي كان ولم يزل موجوداً. وإن جئنا لمعطيات آخر صيحات التصنيف الأدبي فهذه الكتابات تنتمي بتقديرنا للنص السردي التأملي.
هذا النوع من الكتابة مزية يتمتع بها الصحافيون كتاب المقال اليومي ممن يلامسون قضايا شتى ويملكون قلماً رشيقاً ولغة بليغة عذبة في آن، فتجد طابع النص الأدبي يطغى على الكثير من المقالات التي تخوض غمار كافة أنواع المعرفة وقضايا الحياة. وليس أدل على ذلك من كتاب كبار كثيرين من القدامى والحاليين اشتغلوا بالصحافة وأصدروا أو ترأسوا تحرير صحف ومجلات وكتبوا المقال اليومي.
غزارة ما انطوى عليه كتاب د. حسن مدن من معلومات ومعارف، اضافة لتسجيل ذلك ببساطة أسلوب ولغة سلسة مطواعة بليغة، يوصل للقارئ أعمق الأفكار وأعقدها. وذلك لا يتأتى إلا لمن يتحلى بملكة الكتابة الأدبية ما جعل د. أحمد الخميسي يعجب كيف لا يكتب د. مدن أدباً.
هذا الكتاب يهمس لأرواحنا أن تلتفت لأشياء الحياة البسيطة فقد تكون أهمها وأجملها، يدعونا كي لا نتعجل دون أن نتأمل. الكاتب يحيل العالم في أعيننا إلى عالم أقل قبحاً، وفي ذلك فهو يحثنا كي لا تمر أيامنا باهتة ويحفزنا كي نرى الجوانب المشرقة من الحياة.