المنشور

إلغاء نظام الكفيل‮..‬ انعكاســـات وردود أفعــال

أثار القرار رقم‮ (‬79‮) ‬لسنة‮ ‬2009‮ ‬الذي‮ ‬أصدره وزير العمل بصفته رئيساً‮ ‬لمجلس إدارة هيئة تنظيم سوق العمل،‮ ‬والقاضي‮ ‬بإلغاء نظام الكفيل للعمالة الوافدة إلى البلاد،‮ ‬اعتباراً‮ ‬من شهر أغسطس القادم،‮ ‬الكثير من الجدل واللغط في‮ ‬أوساط قطاع الأعمال ممثلاً‮ ‬في‮ ‬غرفة تجارة وصناعة البحرين وكذلك في‮ ‬أوساط اتحاد نقابات العمال‮.‬ وهذا شيء مألوف وطبيعي‮ ‬بالنظر لما سينطوي‮ ‬عليه هذا القرار،‮ ‬من تداعيات وتبعات اقتصادية كبيرة على ميزان القوى داخل سوق العمل البحريني‮ ‬واتجاهاته،‮ ‬عرضاً‮ ‬وطلباً‮ ‬وانعكاسات ذلك على مرونته،‮ ‬وهذه الأخيرة على متوسطات الأجور وعلى مستوى التضخم السائد ترتيباً‮.‬ فضلاً،‮ ‬وهذا لا‮ ‬يقل أهمية عن التداعيات الاقتصادية المفترضة للقرار،‮ ‬عن تداعياته على تنافسية قطاع الأعمال البحريني‮ ‬من حيث ما سينجم عن تطبيق القرار المذكور من وضع حد نهائي‮ ‬لحاله الاستقرار الوظيفي‮ (‬أي‮ ‬استقرار العمالة‮) ‬الذي‮ ‬يعتبر شرطاً‮ ‬ضرورياً‮ ‬لانتظام الدورة على صعيد الاقتصاد الجزئي،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬يفسر‮ ‘‬انتفاضة‮’ ‬قطاع الأعمال،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك قيادات هذا القطاع ذات الاستثمارات الضخمة والقطاعية المتنوعة،‮ ‬لاسيما في‮ ‬قطاع المقاولات والتجارة،‮ ‬حيث عبّر أكثر من مسؤول رفيع من قيادات‮ ‬غرفة تجارة وصناعة البحرين عن عدم رضاهم عن هذا القرار بسبب ما اعتبروه الانعكاسات السلبية التي‮ ‬سيخلفها على سير أعمالهم‮.‬ ولم‮ ‬يقتصر الارتباك الذي‮ ‬سبّبه القرار على الغرفة وقياداتها،‮ ‬إنما شمل أيضاً،‮ ‬وبشكل لافت وغريب،‮ ‬اتحاد العمال الذي‮ ‬ارتبك رئيسه وصرح بأن الاتحاد العمالي‮ ‬ليس له موقف راهن من القرار وإنما سيدرسه للوقوف على تبعاته قبل تحديد موقفه‮! ‬مع أن المفترض في‮ ‬الاتحاد العمالي‮ ‬وقوفه إلى جانب قرار‮ ‘‬تحرير‮’ ‬إخوته في‮ ‬المهنة من ربقة نظام الكفيل الحابس لحرية حركة التشغيل الأجنبي‮ (‬لاحظ أننا نتحدث بمنطق السوق وليس من خارجه‮). ‬ ويبدو أن تبايناً‮ ‬في‮ ‬الآراء داخل قيادات الاتحاد العمالي،‮ ‬هو الذي‮ ‬حال دون اتخاذ موقف واضح ومحدد لحظة احتدام الجدل المجتمعي‮ ‬بشأن القرار وذيوله‮. ‬إلا أنه وللأمانة فقد عبر رئيس الاتحاد العمالي‮ ‬فيما بعد عن موقف الاتحاد المؤيد للقرار،‮ ‬والمؤكد على وقوف النقابات العمالية البحرينية مع حرية العمالة الأجنبية‮.‬ كثيرون بالتأكيد لم‮ ‬يستوعبوا صدمة القرار الأولى،‮ ‬ومنهم كاتب هذه السطور،‮ ‬بالنظر لما سيترتب على تطبيقه من تغيير جذري‮ (‬نعم جذري‮) ‬في‮ ‬بعض المتغيرات‮ ‬Variables‮ ‬الاقتصادية ذات الصلة بالنمو السنوي‮ ‬لإجمالي‮ ‬الناتج المحلي‮ ‬والأهم بالميزان الاقتصادي‮ ‬الاجتماعي‮. ‬ فالقراءة الأولى للقرار وتبعاته تقول ما‮ ‬يلي‮:‬ ‮*‬بهذا القرار تتحول هيئة تنظيم سوق العمل رويداً‮ ‬رويداً‮ ‬نحو الاضطلاع بدور شبيه بالدور الذي‮ ‬تقوم به البنوك المركزية من حيث ممارسة الدولة لدورها السيادي‮ ‬بالتدخل في‮ ‬السوق‮ ‘‬لضبط إيقاع حركته‮’‬،‮ ‬مع الفارق أن البنوك المركزية تتدخل لضبط عرض النقد‮ (‬Money Supply‮) ‬والضبط والتحكم من خلال إدارة سعر الفائدة المصرفية،‮ ‬بينما تتدخل الهيئة لضبط جانب العرض لقوة العمل في‮ ‬السوق‮.‬ ‮*‬تقوم منظمة الأقطار المصدرة للنفط‮ ‘‬أوبك‮’ ‬بهذا الدور التدخلي‮ ‬في‮ ‬السوق للحفاظ على مستوى سعر البرميل المستهدف من خلال آلية التحكم في‮ ‬الإنتاج خفضاً‮ ‬أو زيادةً‮. ‬وللقيام بهذه المهمة لابد من وجود طاقة إنتاجية كافية تحت تصرف المنظمة،‮ ‬وبالفعل تملك‮ ‘‬أوبك‮’ ‬مثل هذه الطاقة الاحتياطية المرجِّحة‮ (‬Spare Capacity‮)‬،‮ ‬أما في‮ ‬حالة هيئة سوق العمل فإن القرار الجديد قد‮ ‬يضع حداً‮ ‬لظاهرة احتياطي‮ ‬قوة العمل المتوفرة في‮ ‬السوق متمثلة خصوصاً‮ ‬في‮ ‬عمال الـ‮’‬فري‮ ‬فيزا‮’‬،‮ ‬وهذا‮ ‬يعني‮ ‬أن السوق‮ (‬أي‮ ‬سوق العمل البحريني‮) ‬سيفتقد،‮ ‬بتقلص هذا الرصيد الاحتياطي‮ ‬من قوة العمل،‮ ‬إلى المرونة التي‮ ‬كان‮ ‬يتمتع بها على صعيدي‮ ‬العرض والطلب،‮ ‬وهي‮ ‬مرونة لا‮ ‬غنى عنها لضبط اقتصاديات السوق فيما‮ ‬يتعلق بمستويات الأجور ورديفها التضخم النقدي‮ ‬مؤقتاً،‮ ‬إذ سرعان ما ستتكفل آليات نظام اقتصاد السوق بإعادة تركيز احتياطي‮ ‬قوة العمل،‮ ‬سواء أكانت محلية أو أجنبية‮.‬ ‮*‬وعلى ذلك فإننا قد نشهد في‮ ‬الفترة اللاحقة‮ (‬مباشرة‮) ‬لتطبيق القرار،‮ ‬ارتفاعاً‮ ‬ملحوظاً‮ ‬في‮ ‬عدد القضايا العمالية المنظورة أمام القضاء البحريني‮ ‬كنتيجة طبيعية لارتفاع وتيرة دوران العمل‮ (‬انتقال ملموس للعمالة الأجنبية عبر مختلف الوظائف القائمة في‮ ‬السوق‮).‬ وجدير بالتنويه هنا أن قرار إلغاء نظام الكفيل،‮ ‬هو جزء من حزمة مشروع إصلاح سوق العمل لمجلس التنمية الاقتصادية‮. ‬وكما واجه المستوى الأول من تطبيق المشروع مقاومة شديدة من أرباب العمل وشرائح واسعة من المجتمع،‮ ‬فإن تطبيق المستوى الثاني‮ ‬من المشروع،‮ ‬وهو هنا إلغاء نظام الكفيل،‮ ‬لابد وأن‮ ‬يستدعي‮ ‬اعتراضات شديدة وواسعة من جانب قوى مجتمعية مؤثرة‮. ‬ولكن الراجح أن هذه المقاومة سوف تتلاشى رويداً‮ ‬رويداً‮ ‬مع تبلور نسق جديد لعلاقات العمل في‮ ‬السوق بين أطراف عملية الإنتاج‮.‬ ‮- ‬للحديث صلة‮
 
صحيفة الوطن
25 مايو 2009

اقرأ المزيد

مستقبل الوحدة اليمنية

في السنوات الاولى القليلة من تحقق الوحدة بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي كانت ذكرى قيام الوحدة التي جرت في الثاني والعشرين من مايو عام 1989م عيدا وطنيا حقيقيا يعم ارجاء اليمن الموحد بشطريه، ولكن منذ حرب 1994م الأهلية بين الشطرين التي اكلت الاخضر واليابس في الشطرين وانتهت بهزيمة ما كان يُعرف باليمن الجنوبي وتصفية وتشريد معظم قادة الحزب الاشتراكي، الحزب الحاكم السابق في هذا الشطر والشريك الاساسي الثاني في اتفاقية اقامة الوحدة بين الشطرين، الذي لولاه لما قامت هذه الوحدة، نقول منذ انتهاء تلك الحرب خفت بريق هذه المناسبة السنوية تدريجيا حتى وصلت إلى أدنى خفوتها هذا العام في الذكرى العشرين، ولاسيما في الجنوب، وتركزت مراسم واحتفالات العيد في العاصمة صنعاء وكان أبرزها العرض العسكري الكبير الذي أقامة وحرص على التحشيد الجماهيري له وحضوره الرئيس علي عبدالله صالح.
وقد جاءت الذكرى في ظل مناخ حزين يخيم على اليمن بوجه عام والشطر الجنوبي منه بوجه خاص، نظراً لتجدد الاضطرابات والمظاهرات والمسيرات الشعبية في هذا الشطر احتجاجاً على التهميش وعدم المساواة في الثروة والسلطة والتي تفاقمت إلى درجة الهتافات والمطالبات العلنية بالانفصال، علماً بأن هذه الاضطرابات والحركات الاحتجاجية زادت وتفاقمت على نحو غير مسبوق منذ ثلاث سنوات خلت، حتى بلغت أوجها هذا العام مخلفة خسائر كبيرة في الارواح والجرحى والمعدات والعتاد في واحد من أفقر البلدان العربية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هل كل تلك الاحتجاجات والانتفاضات الجنوبية، سواء ذات الطابع السلمي التي تتخللها أعمال العنف والتخريب وتقابلها أعمال قمع أمنية وحشية هي من صنع أعداء اليمن واعداء الوحدة والاستعمار، ام لها مسبباتها الموضوعية والذاتية الداخلية؟ ولماذا مثل هذه الاضطرابات والحركات الاحتجاجية تتركز في الجنوب على نحو خاص؟ ولماذا بلغ مداها الى درجة المطالبة بالانفصال عن الشطر الشمالي واعادة قيام الدولة الجنوبية السابقة المحلولة بعد اندماج الشطرين؟ وبعبارة اخرى للسؤال: لماذا تتركز الشكاوى من التهميش والتمييز والمطالبة بالانفصال في الجنوب لا في الشمال؟ هل لأن أهل الشمال يعيشون في بحبوحة من العيش الرغيد واكثر وحدويين من الجنوبيين ولا يعانون التمييز والتهميش؟
في الواقع مثلما يعرف اهالي الجنوب، كما يشكون، صنوفاً من الفقر والتهميش واللامساواة يعرف أهل الشمال كذلك هذه الصنوف، ولكن لعوامل عديدة متشابكة لعبت السلطة التي يسيطر على جلها الشماليون عليها تركزت مظاهر الفقر والتهميش في الجنوب أكثر من الشمال، ولاسيما ان الشطر الشمالي هو الاكثر عدداً في السكان والاقدم في خبرة قيام الدولة والاقوى تسلحاً ولم يتم بسبب ذلك توزيع المناصب والقيادات والثروات بالمناصفة في دولة الوحدة.
ان تفسير احداث الجنوب بوصمها مجرد تحركات “انفصالية” هو من قبيل التبسيط السطحي السياسي المخل بتحليل الواقع واخفاء لتضاريس المشهد السياسي المعقد، وما لم تبادر الاطراف المعنية كافة إلى الجلوس الى طاولة حوار وطني جاد لحل الازمة التي تأخذ بخناق البلاد فإنه لا ينفع دائماً الحل العسكري الأمني للحفاظ على الوحدة المعرضة اكثر من أي وقت مضى للخطر والانهيار، ولاسيما ان هذه الوحدة الاندماجية لم تجر على أسس ديمقراطية سليمة متدرجة بل جرت على نحو متسرع فوقي سلطوي أشبه باقامة الوحدة بين مصر وسوريا التي انتهت بالانفصال خلال ثلاث سنوات فقط من اقامتها (1958-1961م).
كان احد الاسباب الرئيسية لنجاح القوى الانفصالية في سوريا استغلال أخطاء القيادات الادارية والتنفيذية المصرية داخل دمشق لتصويرها بأنها متسلطة على الشعب السوري، وبالرغم من وصول حزب قومي بعدئذ أطاح بالانقلابيين الانفصاليين ألا هو “البعث” فإن الوحدة لم تتم إعادة بنائها بين البلدين، رغم ان شعارات هذا الحزب تكاد لا تختلف عن الشعارات الناصرية.
ومن المؤسف أنه في الوقت الذي يصور قادة حزب المؤتمر الشعبي الحاكم في صنعاء أنفسهم الاكثر غيرة وحرصاً على الوحدة ودأبوا على تصوير قادة الحزب الاشتراكي الحاكم سابقاً في جمهورية الشطر الجنوبي أقل غيرة وحرصا على الوحدة، كان قادة هذا الحزب إبان وجودهم في السلطة الاكثر حماسة لاقامة الوحدة والاكثر الحاحاً على التعجيل باقامتها وبخاصة بعد الحالة الكارثية سياسيا واقتصاديا التي نكبت بها دولتهم وشعبهم على اثر الصراع الدموي الذي انفجر في 13 يناير 1986م بين جناحي الحزب الحاكم، وما هي الا ثلاث سنوات حتى عقدوا اتفاقية في ظل ظروف ومتغيرات عربية ودولية بالغة التعقيد، كان أهمها انهيار المعسكر الاشتراكي في اوروبا الشرقية في عام 1989م نفسه، عام الوحدة، ثم حرب الخليج الثانية على اثر الغزو العراقي للكويت عام 1990م.
وكان واضحاً ان قادة الجناح الجديد الذي خرج منتصراً في الحرب الداخلية بين جناحي الحزب يفتقرون الى الحنكة والنضج الكافي الذي كان يميز الجناح المهزوم بقيادة الرئيس الجنوبي الاسبق علي ناصر محمد وهو ما أدى الى تسرعهم من دون تبصر الى عقد اتفاقية وحدة اندماجية فورية.
والحال ان مقولة “أهل مكة ادرى بشعابها” ليست دائماً صحيحة بالمطلق، فكم كانت تنتابنا ونحن في مرحلة الشباب المبكر الدهشة بكيفية إقامة الوحدة بين نظامين سياسيين اجتماعيين مختلفين تمام الاختلاف، لكننا دائماً نبدد دهشتنا بالقول ان قادة الاشتراكي أدرى بشئونهم وأثبتت التجربة أنهم لم يكونوا يملكون البصيرة الكافية، فقد تم الاجهاز على كل ما بنوه وحققوه من مكتسبات تنموية واجتماعية وحقوق للمرأة في الجنوب. والأنكى من ذلك ان احدهم صرح مؤخراً لقناة الجزيرة أننا سقنا أنفسنا الى “فخ” كان يمكن تجنبه، هم الذين قدموا وشعبهم تضحيات هائلة من اجل الاستقلال الوطني عام 1967م ومن اجل توحيد مشيخات وامارات الجنوب المتجزئة والمتصارعة.
وصفوة القول ان التحديات التي تواجه الآن الوحدة اليمنية تثبت على نحو قاطع خطأ وخطورة اقامة الوحدات الارتجالية الفوقية المتسرعة بعيداً عن المشاركة الشعبية الديمقراطية، وبعيداً عن مراعاة المساواة الاقتصادية في توزيع الثروة، وهذا هو مكمن الفارق بالضبط بين نجاح الاوروبيين في وحدتهم وفشلنا نحن العرب في مشاريع الوحدة.

صحيفة اخبار الخليج
25 مايو 2009

اقرأ المزيد

ما وراء سيرة صدام حسين (1 – 5)

تقع طفولة وفتوة صدام حسين اليتيم الأب بين (تكريت) وقرية (شويش)، بين مدينةٍ صغيرة وقرية ضائعة في الريف، بين بيت خاله العسكري في تكريت، رمز التحديث والوعي القومي وبين تلك القرية حيث تزوجتْ أمهُ الأرملة (صبحة) بـ (حسن إبراهيم) الذي صار عمه.
الخال (خيرالله طلفاح) عضو حزب البعث سُجن في هذه الفترة وهو أمرٌ يشير إلى ارتباط الخال خيرالله بالحركة القومية المتنامية في العراق بصورةٍ معينة، حيث كان من مؤيدي حركة رشيد عالي الكيلاني الذي قامَ بانقلابٍ سنة 1941، لكن الانقلاب فشل في المواجهة العسكرية مع القوات البريطانية وتم اعتقال الضباط المشاركين ومنهم خال صدام خيرالله.
كان الانقلاب يجري في أجواء فكرية هتلرية من قبل الكيلاني الذي كان يرى انتصارات هتلر وصعوده الأخاذ والمدوي في سماء أوروبا بين القوى الاستعمارية القديمة وكان متأثراً بشعارات هتلر، ولم يكن هذا بعيداً عن المثقف ميشيل عفلق الذي ضفر بين أفكار الفاشية والقومية العربية، في ذات السنوات، والذي كان ينسجُ هذه الأفكارَ بين المثقفين بصورةِ مقالات وكتب، ولكن في قطرٍ مجاورٍ هو سوريا منتج الفاشية الأول في المنطقة.
صدام الطفل الذي بلغَ خمس سنوات كان لا يعرف ماذا يحدث، تم اعتقال خاله وغيابه بصورةٍ غريبة مرعبة له، ولم يجدْ راعياً يعتني به، وأُخذ إلى قرية زوج أمه، في مناخ مغاير كثيراً عن تلك الطفولة في رعاية الخال، الذي غدا مثل الأب، فوجد نفسه في كابوس متنوع الصور، فعمهُ زوج أمه كان رجلاً مغايراً كثيراً للخال (المثقف) فهو أمي ولص وسكير عدواني.
خلال خمس سنوات تالية لم يأخذه أحد إلى مدرسة، استخدمهُ العمُ للقيام بسرقات وضربه كثيراً بسادية، ولا يبدو هنا أي دور إنقاذي للأم، وتجمعت صورٌ كثيرة لصدام الفتى في هذه القرية الفقيرة الرثة، كلها مليء بشظف هذه القرية وتضاريسها القاسية، وضعف صلاتها بالمدن والمناطق المجاورة، وبتخلف أهلها، وانتشار الأولاد المراهقين العنيفين، الذين وجدوا في الطفل ثم الفتى صدام مادة مناسبة لإبراز قدراتهم في التعذيب، من هجمات بالحصى، إلى مباغتات في الليل الدامس والضرب المفاجئ برعونة شديدة ولذة، وهي أمورٌ تحدث كثيراً في حياة مثل هذه القرى أو أحياء المدن الفقيرة.
الأحساس بالخطر وهجمات الخارج المعادي وضخامة العالم الشرير المحيط الذي وصل لأسرته وانساق معه مشاركاً في سرقاته وشره وتخلفه، جعله يعتمد على العنف القاسي في الرد عليه إذا اتيحت له الفرصة في ذلك، وهو بشكلٍ سري يقومُ بتدريبِ نفسهِ على القوة والاحتمال حتى تجيء لحظة الهجوم على الخصوم فيجرعهم الغصص نفسها التي أذاقوه إياها بل أشد!
إلحاقه بقرية (شويش) التي يشيرُ اسمُها إلى شيءٍ من واقعها المشوش المضطرب، كان من خلالِ حدثٍ سياسي عام كبير، هو كما قيل سابقاً، واقعة اعتقال الخال وحدوث انقلاب وبدء ظهور الأفكار الهتلرية في هذه المنطقة السنية البدوية، حيث الكثير من الشباب والرجال يلتحقون بالجيش العراقي في العهد الملكي.
كانت الملكية الهاشمية العراقية بناء سياسيا حديثا تكون على إثر ما سُمي الثورة العربية الكبرى في الحرب العالمية الأولى، الإنجليزي التي قامَ بها الحسينُ شريفُ مكة وساعدهُ الانجليز على تشكلها ونموها، وتحولت إلى عصيانٍ مسلح توجه إلى الأردن والشام، ولم يُفلح فيصل بن الحسين في إقامة دولة في سوريا، نظراً لهجوم الفرنسيين، فلجأ للعراق وحوّله الإنجليز إلى ملكٍ على هذه المملكة، التي تفجرتْ فيها ثورة وطنية كبيرة تسمى ثورة العشرين، وظهرت أحزابٌ وصحافة مهمة وبرلمان ولكن فوق جسد مملكة متخلفة إقطاعية مهلهلة التكوين، وتوجهت الأسرة الملكية نحو تقوية أجهزة القوة وخاصة الجيش، ورفده بالقبائل السنية البدوية، وحتى تلك الفقيرة النائية، كما حدث لعميد أسرة طلفاح الضابط خيرالله، الذي انحاز بسرعة لعملية الانقلاب الكيلانية.
ويشيرُ ذلك إلى أنهُ رغمَ تخلف العراق لكنه كان ذا تعاضد وطني، تراجعتْ فيه الأفكارُ الطائفية، وقد كانت إصلاحاتُ (داود باشا) الحاكم النهضوي الوطني السابق للعراق قد هيأته لهذا المستوى التوحدي الوطني البسيط.
ويعبرُ هذا كذلك عن نمو الأفكار التحديثية الشمولية سواءً كانتْ القومية باتجاهها البعثي الهتلري أو الماركسية باتجاهها الستاليني. وانتشارُ هذين الوعيين العنيفين، الدكتاتوريين، بقوةٍ، يعبرُ عن مزاج الكثيرين من العراقيين، المتوجه لحسم قضايا الصراعات السياسية بالعنف الشديد، في حين ان الاتجاهات الليبرالية والسلمية لم تجدْ أصداء كثيرة ومناصرين منتشرين.
كان الخال خيرالله قد وصلتهُ جرعة من هذا المناخ العنفي فقد التحق بالجيش والانقلاب ولم يهتم بطبيعة هذا النظام الملكي (السني) المماثل لمذهبه، بل تملكتهُ فكرة أخرى هي (الأمة العربية) ذات الرسالة الخالدة، التي يجب أن تتحدَ وتزيل الاستعمار، ويمثلُ منظر الاحتلال الانجليزي، وتدخل الضباط الإنجليز في تشكيل الجيش العراقي وغيرهما من المظاهر أحساساً مريراً، مثلما تزايدت هذه المشاعر مرارة مع انتزاع الجزء الأكبر من فلسطين وهزيمة الجيش العراقي وغيره من الجيوش العربية لتحرير فلسطين السليب، وهو بعد الإفراج عنه تحول إلى مدير مدرسة، ورأى هجرة اليهود من العراق بكثافة، مائة وسبعون ألفاً يتمُ دفعهم من قبل نظام نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي للهجرةِ القسرية المنظمة من قبله ومن قبل الانجليز، ولكن مشاعر الخال لم تعتبر هؤلاء مواطنين عراقيين يجري التآمر عليهم من قبل قوى استغلالية شرسة عدة، بل مجرمين يجب قتلهم، أو انتزاع كل أموالهم، وهي فكرة نفذها نوري السعيد حيث حدد مبلغاً صغيراً هو الحد الذي يجب أن يخرج به كل يهودي عراقي نازح لفلسطين! فكانت عملية استثمار مشتركة من قبل الصهيونية والاستعمار والمحافظين العرب المحدودي البصيرة.
حين خرج هذا الخالُ من السجن استعاد صدام شيئاً من توازنه الاجتماعي، فقد ابتعد عن منفاه الاجرامي الأول، واستعاد عالم الثقافة، لكن في لحظة عمرية مغايرة لأترابه فهو ذو اثني عشر عاماً وفي الصف الأول الابتدائي، وجاءتْ مساعدة الخال مدير المدرسة لتتجاوز مثل هذا الفرق، وكان هذا مظهراً أولياً للمساعدات السياسية لصدام لكي يتعلم ويتجاوز إشكالية مستوى تعلمه المتدني، فقد جاءتْ مساعداتٌ أخرى فيما بعد، سياسية هي الأخرى، لكي يحصلَ على شهادةٍ ثانوية وجامعية، لكن مستوى المعرفة لم يتغيرْ كثيراً، فقد كانتْ قراءاتهُ حتى وهو في السجن وعمره يقارب الثلاثين عاماً تتوجه للقصص الغربية المترجمة ذات اللغة الشعبية غير العميقة، أو لكتاب (في سبيل البعث) التعبوي.

صحيفة اخبار الخليج
25 مايو 2009

اقرأ المزيد

اليمن في ذكرى وحدته

منطقياً، فإن تحقيق الوحدة بين شطري اليمن مكسب كبير ينسجم مع الحاجة إلى توحيد الأقطار العربية من داخلها، طالما بات حلم الوحدة العربية مؤجلاً، وربما عصيا في الظرف الراهن وفي الأفق المنظور. والوحدة، التي مرت ذكراها التاسعة عشرة مؤخرا تمت بشكل طوعي إلى حدٍ ما، ونقول إلى حدٍ ما لأننا لوعدنا للملابسات التي أحاطت بقيامها، لتذكرنا أن الشطر الجنوبي بزعامة علي سالم البيض يومها ما كان سيذهب بتلك الوتيرة السريعة نحو الوحدة، لولا أنه وجد ظهره إلى الجدار، بعد أن انهار الاتحاد السوفيتي أو أوشك، وكان هو السند الرئيس للتجربة اليسارية في جنوب اليمن. ولا يجب أن ننسى أن هذه التجربة تعرضت لتصدعات دامية من داخلها خلال سنواتها التي ابتدأت بتسلم الجبهة القومية للسلطة بعد رحيل الانجليز عن عدن، وانتهت بإعلان الوحدة مع الشمال. وفي نتيجة هذه التصدعات تصارع رفاق الأمس بصورة عبثية، كان من نتيجتها أن تعاقب على الحكم عدة رؤساء هم قحطان الشعبي وعلي سالم ربيع وعبدالفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد وأخيراً علي البيض، وانتهت حياة اثنين على الأقل من هؤلاء، ربيع واسماعيل، بصورة مأساوية، حيث تمت تصفيتهما جسدياً بأيادي رفاقهما في المكتب السياسي للحزب الحاكم. والوحدة التي بدت طوعية، في الظاهر، سرعان ما اعترضتها صعوبات حقيقية أدت إلى حرب بين الشطرين في نتيجتها دخل الشماليون عدن كفاتحين، مما خلق مرارات تظل تعيد إنتاج نفسها على النحو الذي تفاقم في السنوات القليلة الماضية في أعمال عنف، بدا واضحاً فيها طابع الثأر المناطقي، وربما القبلي أيضاً. وعلى عاتق الدولة اليمنية تقع مسؤولية تخطي تلك الآثار السلبية وتداعياتها، من أجل ألا تبقى هناك جراح مفتوحة، يمكن لها أن تكون قاعدة لاحتقانات راهنة ومحتملة. سيكون تصنعاً لو غلبنا الطابع الاحتفالي على ذكرى الوحدة اليمنية التي مرت مؤخراً، فالذي تناقلته وكالة الأنباء من خطابات وخطابات مضادة، بما فيها ذاك الذي جاء على لسان الرئيس السابق للشطر الجنوبي ونائب الرئيس الذي أقصي بعد حرب الشطرين علي سالم البيض، تشير إلى أن الأمور باعثة على القلق أكثر مما هي باعثة على الطمأنينة. يرجح هذا القول التطورات الميدانية على الأرض في الجنوب، حيث المواجهات بين مسلحين محليين وبين الجيش، والتي سقط ضحايا في نتيجتها، ونعلم ان مثل هذه المواجهات تكررت مراراً خلال السنوات الماضية. اليمن يعنينا كثيراً في الخليج، وتعنينا وحدته واستقراره، لذا نضع أيادينا على قلوبنا ونحن ندعو له ألا ينزلق نحو المتاهة. وتجنب هذا الانزلاق ممكن إذا ما أعيد صوغ العلاقة بين الشطرين بروح الوحدة الحقيقية والشراكة السياسية التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المسار التاريخي المختلف في العديد من تفاصيله بين الجنوب والشمال، والذي في نتيجته نشأت فروقات ثقافية ونفسية لا يمكن تجاهلها.
 
صحيفة الايام
25 مايو 2009

اقرأ المزيد

هيئة الاتصالات والتنصت على المواطنين


وافق مجلس النواب في جلسته الاعتيادية المنعقدة في 5 مايو/ أيار الجاري على «إحالة اقتراح برغبة بصفة مستعجلة» لوقف العمل ببعض البنود التي تطرحها هيئة تنظيم الاتصالات بشأن السماح للتنصت على المكالمات الهاتفية والمحتويات النصية على الهواتف النقالة وجميع أنواع الاتصالات «بدون إذن قضائي».

وكانت هيئة الاتصالات قد قدّمت في 26 فبراير/ شباط الماضي مسودة للائحة التنظيمية للنفاذ القانوني (التنصت) على اتصالات المواطنين والمقيمين وتخزين المعلومات لمدة ثلاث سنوات وتوفير الخدمة (التنصت) لأجهزة الأمن عندما تطلبها في أيِّ وقت. وكانت الهيئة قد أعلنت 26 مارس/ آذار 2009 موعداً لتسلّم التعليقات والمقترحات. والواقع أنه يتوجب علينا أن نشكر هيئة الاتصالات أنها أعلنت ما تقوم به فعلاً، وهو ما يفهم من تصريحات المسئولين في الهيئة، من أن اللائحة لم تأتِ بأمر جديد… وهناك من العاملين في قطاع الاتصالات مَنْ يؤكد أن قرارات فرض توفير خدمات النفاذ (التنصت) كانت مفروضة قبل أن تصدر الهيئة لائحتها التنظيمية. بل إنه وفي إحدى الحالات فرضت الهيئة شروطاً قاسية على معدات كانت تحمل كل المواصفات تحت ذريعة ضرورة توفير متطلبات النفاذ، وكان كل ذلك قبل أن تعلن الهيئة عن لائحتها.

الحكومة ردّت على سؤال نيابي بأن المواد التي تبيح التنصت على المكالمات الواردة في اللائحة التنظيمية لهيئة الاتصالات «تستند إلى قوانين الاتصالات، والأحكام الجنائية وحماية المجتمع من الأعمال الإرهابية»، وهذه كلها عناوين عريضة يمكن أن يدرج أي مواطن ومقيم تحت مثل هذه التعريفات الفضفاضة. الحكومة تقول إن اللائحة لم تمنح الأجهزة الأمنية أي حقوق أكثر مما ورد بنص «المرسوم بقانون رقم (48) لسنة 2002»، ولكن الحكومة لم تقل لنا إذا كان هذا المرسوم يخالف نصوص حقوق الإنسان الواردة في الدستور والواردة في العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالمادة 26 من دستور مملكة البحرين تنص على أن «حرية المراسلة البريدية والبرقية والهاتفية والالكترونية مصونة، وسريتها مكفولة، فلا يجوز مراقبة المراسلات أو إفشاء سريتها إلا في الضرورات التي يبيّنها القانون، ووفقاً للإجراءات والضمانات المنصوص عليها فيه».

كما أن المادة 93 من قانون الإجراءات الجنائية تنص على وجوب الحصول على إذن (على التنصت والتجسس) من قاضي المحكمة الصغرى، ويصدر القاضي هذا الإذن بعد اطلاعه على الأوراق التي تقدمها النيابة العامة، و «في جميع الأحوال يجب أن يكون الضبط أو المراقبة أو التسجيل بناءً على أمر مسبب ولمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة». لعلّنا لا نحتاج إلى الإطالة أكثر؛ لأن هيئة الاتصالات لن يهمها ما وردها من ملاحظات، فما نشرته إنما كان «تثبيت حال» وليس موضوعاً قابلاً للنقاش، وبالتالي لا يهم إنْ كان «مقترح برغبة» أم اعتراضاً من ناشطي حقوق الإنسان.


الوسط  19 مايو 2009

اقرأ المزيد

عندما يُسيّس الدين!

لست في صدد الحديث عن فصل الدين عن الدولة، فمثل هذا الفصل غير وارد في نظامنا الدستوري، الذي يقرر أنّ دين الدولة الإسلام وأنّ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع… وإنما سأتوقف أمام مساوئ محاولات تسييس الدين واستخدامه أداة من أدوات العمل السياسي… فالدين إلهي مقدّس ومطلق وثابت، في حين أنّ السياسة نشاط بشري، والمواقف السياسية تتسم بالنسبية وبالتغيّر وعدم الثبات… كما أنّ للدين منطقه في التحليل والتحريم، في حين يقوم منطق السياسة على الصواب والخطأ في التقديرات والمواقف… ومن هنا لا يصحّّ تسييس الدين واستغلاله كأداة في الصراع السياسي.

وأمامنا آخر نماذج إساءة استخدام الدين كمادة في الصراع السياسي والتنافس الانتخابي، حيث أعلنت «الحركة السلفية» على لسان عضو مكتبها السياسي مشعل المعلث «إنّ التصويت للمرشحات لا يجوز شرعاً، ويدخل في دائرة الإثم كل مَنْ منحهن الصوت، لأنّ ذلك الصوت قد يؤدي بهذه المرشحة أو تلك إلى عضوية المجلس التشريعي التي تعتبر من الولايات العامة الخاصة بالرجال فقط دون النساء… وأنّ هذا الرأي الذي صدر من المكتب الشرعي للحركة السلفية يتسق مع الفتاوى العامة لعلماء الأمة الأفاضل حول عدم جواز تولي المرأة للولايات العامة، وكذلك يتسق مع الموقف العام للحركة السلفية الرافض لإقحام المرأة في عملية الترشح للمجالس النيابية، فنحن مع حق المرأة بالتصويت ونرى أن الترشح تعدٍّ وتجاوز للنصوص الشرعية التي تحظر ذلك»!

وبالطبع ما كنت لأتوقف أمام مثل هذا البيان لو أنّه صدر عن جماعة إسلامية دعوية كـ «جماعة التبليغ والدعوة»، فهذا حقّها وهذا شأنها، ولكن هذا البيان صدر عن «الحركة السلفية» بوصفها بالأساس حركة سياسية تخوض الانتخابات، ومع ذلك نجدها في هذا البيان وغيره تستند إلى الفتاوى فتحرّم ما تحرّم وتُؤثّم مَنْ يخالف توجهاتها.

والمفارقة الصارخة، التي تؤكد حقيقة أنّ السياسة شأن متغير ونسبي وليست أمراً ثابتاً ومطلقاً مثلما هو الدين، أنّ «حزب الأمة»، الذي انبثقت غالبية مجموعته التأسيسية من رحم «الحركة السلفية» نفسها، قد كان المبادر في فبراير من العام 2005 بإعلان موافقته على الإقرار بالحقوق السياسية للمرأة انتخاباً وترشحاً وذلك قبل أن يقرّ مجلس الأمة تعديل المادة الأولى من قانون الانتخاب في هذا الشأن، وجاء في البيان الشهير الذي أصدره الحزب في ذلك الحين إن  «حزب الأمة ليدعو مجلس الأمة والحكومة إلى إقرار المشاركة السياسية للمرأة والالتزام بالضوابط الشرعية والأعراف المرعية اجتماعياً»… وإنّ الحزب يدعم «مشاركة المرأة السياسية انتخاباً وترشحاً، وذلك استناداً إلى النصوص العامة للشريعة الإسلامية وفتاوى العلماء المعاصرين الذين اختاروا هذا الرأي».

والمفارقة الأهم أنّ كلا الموقفين السياسيين لـ «الحركة السلفية» و«حزب الأمة» قد استندا إلى فتاوى العلماء ومع ذلك فقد خرجا بنتائج مختلفة، بل متناقضة، حيث نجد «الحركة» تحرّم وتؤثّم ترشح المرأة والتصويت لها بينما «الحزب» يبيحهما ويدعمهما!

أما عندما نستذكر موقف «الحركة الدستورية الإسلامية – حدس»، التي هي واحدة من أهم وأقدم الحركات الإسلامية، فنجد أنّها أشارت أول الأمر إلى بعض المنطلقات الشرعية لمحاولة تبرير معارضتها لنيل المرأة حقوقها السياسية الكاملة، ثم تخلّت «حدس» بعد ذلك عن تلك المنطلقات الشرعية وأعلنت أنّها تنظر إلى ممارسة هذه الحقوق من زاوية الاعتبارات والتقاليد الاجتماعية، وهو أمر مفهوم يمكن قبوله أو رفضه!

وهكذا نجد أنّ ثلاث حركات سياسية إسلامية تتخذ ثلاثة مواقف سياسية متباينة ومتفاوتة تجاه هذه القضية، وربما يتكرر الأمر ذاته تجاه قضايا غيرها، مع أنّ كلّ حركة من هذه الحركات السياسية الإسلامية استندت في تحديد موقفها السياسي إلى فتوى أو إلى مجموعة من الفتاوى، وهذا في حدّ ذاته دليل واضح ومثال ملموس على ما ينطوي عليه تسييس الدين من خلط غير مستحب والتباس غير مرغوب بين الدين، الذي هو إلهي مقدّس ثابت ومطلق، وبين السياسة، التي هي أمر بشري يتسم بالتغيّر والنسبية وعدم الثبات!
 
جريدة عالم اليوم 5 مايو 2009

اقرأ المزيد

انقلاب حكومي على “علاوة الغلاء”


أدى إعلان وزيرة التنمية الاجتماعية فاطمة البلوشي يوم أمس الأول (الإثنين) عن معايير صرف علاوة الغلاء، أو ما يحلو للحكومة أن تسميها بـ «الدعم المالي» إلى إحداث ضجة جديدة شبيهة بتلك التي حدثت مطلع العام 2008.

إذ استحدثت الحكومة معايير جديدة للعلاوة تختلف عن تلك التي طبقتها في العام 2008، وكان أهمها ربط العلاوات وأي مدخول آخر للمواطن بالحد الأعلى لأجر المستحق وكذلك ربطت هذا الحد الأعلى للمستحق بعلاوة السكن، بحيث تجمع وزارة التنمية والجهات العاملة معها كل ما يحصل عليه المواطن من مداخيل ومن ثم تطبيق معيار أن لا يتجاوز دخل رب الأسرة عن 700 دينار كشرط للحصول على علاوة الغلاء.

ربما يكون كلام الحكومة به شيء من العقلانية، وخصوصاً أن الحديث عن مدخول لا عن راتب أساسي، ولكن هذا الحديث لم نسمعه من قبل، لا أثناء صرف علاوة غلاء 2008، أو أثناء سعي الحكومة لإقناع النواب بتمرير موازنة الدولة للعامين 2009/2010 بكل ما فيها من مساوئ وعيوب، بشرط تمرير علاوة الغلاء 2009/ 2010 بمعايير متفق عليها أهمها أن يكون الراتب الأساس لا يتجاوز الـ 700 دينار.

من الواضح أن الحكومة انقلبت على اتفاقها السابق بعد أن مرر النواب لها الموازنة، كما أنه من الواضح أن الحكومة كانت تبيت النية لهذا الأمر منذ فترة طويلة وخصوصاً ربط علاوة الغلاء بعلاوة السكن لتخفيض النفقات على حساب المواطن الفقير فيما تصرف الملايين في مجالات عدة لا تحتاجها البحرين أبداً.

كما أن ربط الـ 700 دينار بكل ما يدخل على المواطن من مال، لابد وأن يكون مقروناً أيضاً باحتساب كل ما هو خارج من هذا المواطن من قروض أيضاً لمعرفة المدخول الحقيقي للمواطن البحريني بعد استقطاع القروض والديون التي لا يخلو أي بيت منها، فليس من العدل أن تحسب الحكومة كل ما يحصل عليه المواطن دون أن تنظر أيضاً إلى صافي المواطن الحقيقي من دخله ومن ثم تحاسبه على ذلك، إذا ما علمنا أن الكثير من المواطنين لا يبقى لهم من دخلهم شيئاً يذكر.

نتمنى من وزارة التنمية التي تسلمت زمام أمور صرف علاوة الغلاء إعداد قواعد بيانات واضحة لمدخول كل مواطن، ومن ثم النظر إلى الصافي الذي يبقى لهذا المواطن من جملة تلك الاستقطاعات سواء كانت من قروض أو ديون، إذا ما أرادت أن تنظر إلى العلاوات التي يحصل عليها المواطن وتحسبها لتكن حسبة الحكومة صحيحة وواضحة وبها من الإنصاف والعدالة ولو القليل فقط.
 
الوسط  20 مايو 2009
 

اقرأ المزيد

أربع كويتيات يدخلن التاريخ !


سيسجل التاريخ الكويتي المعاصر في سِفره الخالد بأسطر من ذهب عما حدث في يوم السبت 16 مايو / أيار 2009م ، مدوناً عملاً كان يعتبر انجازه- حتى الأمس القريب- من العجائب السبع، المتمثلة في اختراق حتى ولو امرأة واحدة، سدود العالم الذكوري المحتكر.. فما بالنا باختراق أربع نساء عصريات دفعة واحدة متاريس ثقافة الظلام المحافظة، ونجاحهن المنقطع النظير في انتخابات مجلس الأمة الكويتي 2009 ( بعد أربع سنوات بالسماح للمرأة في الترشيح والانتخاب) ووصولهنّ الى قبة البرلمان بجدارة واستحقاق، في سابقة قلّ نظيرها في المنطقة الخليجية والعربية وحتى الاسلامية، المنطقة التي مازالت تمثل حصناً منيعاً للموروث الذكوري القديم وتفاهات عصور الانحطاط العربية والاسلامية القرونوسطية، إلى درجة فاقت أكثر التوقعات تفاؤلاً، التي لم تتنبأ بأكثر من اثنتين أو ثلاث نساء للتأهل لمجلس الأمة القادم، على أكثر تقدير! 

 ولكن لماذا جاء هذا الانتصار النسوي المفارق والمدوّي، الذي يعزز صوت المستقبل الزاهي للحياة العصرية لدنيا العرب، بقدر ما يزلزل أركان صوت الماضي المتزمّت، الذي يرفع رايته جنرالات “الاسلام السياسي” ؟! ما هي القوة الرافعة لهذا النجاح غير المتوقع؟!
 
عندما كنتُ مسمراً أمام الفضائيات، ساهراً حتى الفجر لأطمئن على نتائج الانتخابات الكويتية هذه، مشاهداً الشباب والشابات( خاصة) وهن يعملن بهمة ونشاط لايعرف الكلل وحماسة ما بعدها حماسة .. ايقنتُ – في قرارة نفسي- أن “القديم” قد بدأ يحتضر تدريجياً و”الجديد” يتأهب للقدوم عاجلاً أم آجلاً.. بشرط العمل الدؤوب والمشاركة الفعالة من قِبَل العناصر والقوى العصرية والديمقراطية بثقة وثبات. والنأي بمسافة مستقلة عن القوى غير الديمقراطية والمتزمتة لـ”الاسلام السياسي”.. ولابد من أن هذا الحماس من الجيل الجديد والفعاليات من الدعايات الانتخابية تلك ستُترجم إلى تغيير ما.. هذا بالرغم من مسحة تشاؤم كانت تراودني، متأتية من السياسات الرسمية المتَبعة للحكومات التقليدية، فيما يتعلق بوصالها العضوي مع “الاسلام السياسي” وعضدها الدائم له، آملة من الأخير فتواه الفقهي في الدفاع المستميت عن الحصون الاستبدادية للمنظومة العربية التقليدية.
 
غير أن المؤشرات التي طفحت على وسائل الاعلام إبان الانتخابات الكويتية الأخيرة، قد بينت بوضوح وقوف الاعلام على الحياد، بل إن الاجهزة الرسمية بات واضحا موقفها غير المساند -هذه المرة-  لقوى “الاسلام السياسي” بعد أن ضاق الحكم ذرعاً من مناوراته الكيدية له، الذي كشّر عن أنيابه، وانكشفت طموحاته لطرح نفسه البديل الرجعي للحكومات العربية الحالية.. وهذه تعتبر من الظواهر الجديدة، الأكثر التباساً، إلى درجة تبدو أن الحكومة الكويتية المعروفة ببعد نظرها السياسي، قد وصلت الآن الى قناعة- قبل غيرها من الدول العربية- على ضرورة فكّ الارتباط التقليدي مع القوى “الاسلامية” والتوجه نحو القوى العصرية البديلة من ليبراليين وعلمانيين ونساء وغيرهم لإعادة التوازن المجتمعي من جهة وللحفاظ على المصالح الحيوية لأجنحة الحكم ومصالح الناس عامة من خلال معادلة جديدة تتوافق مع روح العصر، الأمر الذي يشكل درساً ابتدائياً للمنظومة العربية التقليدية التي مازالت مصرّة على اللعب بـ”الروليت الاسلامي” لتأخير الاستحقاقات الديمقراطية والعصرية!
 
اتسمت هذه الانتخابات بمشاركة ضعيفة (أقل من 60%) بجانب مجموعة من الظواهر والمفارقات تمثلت في :

 أولاً .. تراجع مُركّب لقوى”الاسلام السياسي” .
ثانياً .. عانى هذا الاخير -هذه المرة- من شحّ السند الرسمي له وحياد “الميديا” تجاهه .
ثالثاً.. تصاعد ليبرالي/عصري نسبي.
رابعاً..اختراق نسويّ واضح، جاء نتيجة عمل جماعي دؤوب لا يكلّ، ضد السائد من القيم الذكورية التقليدية.
لا يتّسِمْنَ الفائزات الأربع بدرجات أكاديمية عالية فحسب (الدكتوراة) بل يتحلّينَ بالنفس الطويل في العمل السياسي، بجانب مرجعيتهن الفكرية المشتركة (العصرية / الليبرالية) ولكن أيضا تتبايَنّ كالفراشات، إن كان في شكلهنّ الخارجي أو في درجة اللون أوالطيف السياسي للفكر المعاصر عامة .. فـ”معصومة المبارك”، التي حصلت على المركز الأول في الدائرة الأولى من الممكن اعتبارها ليبرالية محافظة، شيعية لكنها محجبة بالوشاح الأبيض. تعمل استاذة جامعية. كانت أول وزيرة عُينت في الحكومة الكويتية في سنة 2005 .  أما “سلوى الجسار” فهي قبلية / حضرية، ليبرالية محجبة، ناشطة نسوية. خاضت انتخابات 2008 وتعمل محاضرة جامعية أيضا.  في حين أن “رولا دشتي” ؛ سافرة شيعية، ليبرالية قُحّة ومتحررة، خبيرة في الاقتصاد، رئيسة جمعية الاقتصاديين وناشطة بارزة في مجال حقوق المرأة. خاضت من قبل المعترك السياسي الانتخابي مرتين في سنتي 2006  و 2008. 
 
واخيرا .. “أسيل العوضي” : سافرة سنية، هولية أو”كندرية”( حسب المصطلح الكويتي) تبلغ الاربعين من العمر، عصرية التفكير تميل الى اليسار المعتدل، تعمل استاذة في جامعة الكويت. درست الفلسفة السياسية في جامعة تكساس الامريكية. خاضت انتخابات 2008 وكادت أن تفوز( المركز الحادي عشر) لولا أن حدث ما حدث !.. تعرضت لضغوطات مركّزة ودعايات مغرِضة من قبل أبواق “الاسلام السياسي” ..الا أنها -مع ذلك- جاءت في الترتيب الثاني في الدائرة الثالثة (شبه المحافظة) متقدمة على مخضرم في وزن “احمد السعدون” الذي حل ثالثا. والغريب أن الأصولي السلفي” وليد الطبطبائي” أحد أعمدة ” الاسلام السياسي” من الجيل الجديد. خصم المرأة اللدود حل في المركز التاسع (قبل الأخير) في نفس الدائرة، بعدد من الأصوات يقل عن “أسيل” بـأكثر من أربعة آلاف وأربعمائة صوت (4408) !
 
الخلاصة أن خريطة ميزان القوى في المجلس الجديد تنمّ عن وضع يختلف -الى حد ما- عن المجالس السابقة. ومرد ذلك أن القوى المتزمتة “الاسلامية” و”القبلية التقليدية”  قد تقلصت أسهمها من المقاعد الى حد معين. أما القوى العصرية عامة فقد زاد هامشها النسبي، متمثلة أولاً في المرأة وثانياً في البرجوازية الوطنية من الليبراليين والعصريين وقلة من العناصر التقدمية.. وحتى القبليين الذين يملكون نصف مقاعد المجلس الحالي، فان الوجوه الجديدة من القبائل البدوية والحضرية خاصة (خليط من الاسلاميين المعتدلين) وغيرهم من العناصر المتعلمة، قد تعبر عن منحى شبه عصري بشكل أو بآخر.
 
الوقت 23 مايو 2009

اقرأ المزيد

ديمقراطيـة تتجــدد..


انتهت انتخابات مجلس الأمة الكويتي ، ولم تنته أصداء نتائجها، ولم تنته التساؤلات، ولا التحليلات ، ولا الإشارات والرسائل التي أثارتها هذه النتائج التي وصفها الكاتب الكويتي أحمد البغدادي في ندوته بالبحرين مساء الاثنين الماضي بأنها ” مثلت تحولاً في الثقافة السياسية على مستوى الخليج برمته ” خاصة على صعيد دخول المرأة الكويتية لأول مرة إلى قبة البرلمان، وهو نصر نراه مضاعفاً لأنه جاء من خلال أربع نساء دفعة واحدة، كما أنه لم يأت بالمرأة في ذيل القائمة أو يجعلها تحقق فوزاً بصعوبة، بل فوزاً مستحقاً تمكنت من خلاله المرأة الكويتية من تصدر بعض الدوائر متقدمة على من هاجموها وحاولوا بشتى الطرق والوسائل وضع العراقيل أمامها .
إن ذلك الفوز للمرأة الكويتية اعتبر مؤشراً إلى التحول في منظومة القيم والثقافة السياسية عنوانه « التغيير»، وهو الذي أدى إلى تغيير في الوجوه داخل مجلس الأمة الكويتي بلغت نسبته 42 في المئة ، مما جعل الأطياف والكتل السياسية تعيد حساباتها وتتجه إلى وضع خطط تأخذ بالاعتبار الواقع الجديد الذي فرضه هذا التغيير الذي بالإضافة إلى أنه أوجد حضوراً قوياً للمرأة، فقد عزز دور المستقلين ، وأبرز مرشحين كانوا خارج الترجيحات أحدثوا اختراقاً وقلبوا معادلات ، كما بعث الشارع الكويتي برسالة واضحة حينما أعطى بعض التيارات الإسلامية ما وصف باستراحة اجبارية فأقصى البعض وأضعف الآخر .
 الحماس الكويتي في التغيير ما أعجب أن يكون هناك ما يماثله أو يفوق عنه في البحرين، وليس غريباً أن تتشابه هذه الحماسة حتى في معانيها ودلالاتها ودواعيها ومبرراتها، كما تتشابه في أسبابها وجوهرها ومظهرها ، لذلك ليس من الحكمة والحصافة أن نتجاهل هذا الذي حدث في الكويت، فالإشارات والرسائل التي أطلقها الناخب الكويتي تستحق وقفة خاصة من قبل أعضاء مجلس النواب البحريني والقوى السياسية في بلادنا.. وقفة لربما يتأملون فيها الدروس والعبر ويعملون على ما ينقّي تجربتنا البرلمانية، لاسيما وأن الوضع الراهن لبرلماننا عليه مآخذ شتى في الأداء، والممارسات، والصلاحيات وإثارة المشاحنات بأنواعها، وإهدار قيمة المراقبة والمساءلة ، وما دام لم يتبق من عمر مجلسنا النيابي الحالي إلا القليل ، فعلينا أن نتدارس في كيفية الاستفادة من دروس وعبر التجربة الكويتية بما فيها من ايجابيات وسلبيات، وقبل ذلك علينا أن نقيّم تقييماً موضوعياً أداء أعضاء المجلس الحالي أفرادا وكتلا ، وعلى كل القوى السياسية أن تبادر إلى التفكير في العمل المؤدي إلى برلمان مقبل جدير بنا.. برلمان يحترم المواطن، ويحترمه المواطن، برلمان يكون النائب فيه ممثلاً للشعب وليس الطائفة أو مذهب أو منطقة أو قبيلة … برلمان يأتي بأعضائه عبر انتخابات نزيهة تعبر عن الحيوية السياسية التي افتقدناها لسنوات عدة وأدت إلى النتيجة التي نعرفها جميعاً .
إن حزمة الرسائل السياسية التي أطلقها الناخب الكويتي لا نشك بأنها ستكون ذات الرسائل التي سيحملها الناخب البحريني في انتخابات مجلسه النيابي المقبل، فهذا الناخب كما كان نظيره الكويتي ينشد التغيير .. تغييراً ليس بالوجوه فحسب، بل تغيير حقيقياً ملموساً يترجم وينفذ على أرض الواقع .. تغييراً لا يجعل نواباً يدمنون الازدواجية في الأقوال والمواقف ، تغييراً نريده لا يجعل أي نائب حينما يريد أن يطفئ ناراً يطفئها بنار فتنة أخرى، أو لا يجعل نواباً يفهمون الديمقراطية بطريقة لا علاقة لها بالأصول والأسس التي يجب أن تقوم عليها، تغييراً لا يجعل من يمثلوننا أحوج ما يكونون إلى معرفة ألف باء العمل السياسي . ما ننشده ونتطلع إليه من تغيير في انتخابات مجلسنا النيابي المقبل لابد أن يؤدي إلى إزاحة أولئك النواب الذين يشكلون ظاهرة صوتية نسمع منهم كلاماً كثيراً هو في غالبه باعث على الأسى والقلق ، ولم نر منهم إلا القليل من الأعمال، بل ومعهم أولئك النواب الذين وجدوا بأن مصلحتهم تقتضي أن ينشدون في جوقة الحالة السياسية بدون وعي أو إدراك، ولا يطيقون إلا المصفقين معهم ولهم وورائهم ، نواباً اتقنوا من المراوغة والتباهي بالانتصارات وأية انتصارات . لقد وجدنا نواباً رأوا في أنفسهم مرجعية مطلقة في كل شتى ، لا مرجع فوقها ولا قبلها ولا بعدها، وظنوا بأنه لولاهم لغرقت البلاد في بحر من الفوضى والمشاحنات الطائفية والمذهبية ونسوا أو تناسوا بأنهم منابع تلك المشاحنات. كما وجدنا نواباً المزعج والمؤسف أنهم باتوا غارقين بهواجس الكسب والمزايدة والشعارات، وأصبحوا يعتقدون بأنهم نجحوا على حملنا بأننا نراهم يؤدون دوراً إيجابياً في خدمة الوطن، وأنهم اذا لم يتمكنوا من تحقيق ما رموا إليه فلأن هناك من أعاقهم، ولا لوم عليهم لأنهم سعوا ولم يوفقوا ، مثل هذه النوعية من النواب لابد أن تريح وتستريح.. والانتخابات المقبلة لابد أن تعكس وعياً كبيراً بضرورات المرحلة والحساسية لمتطلباتها بحيث نمضي قدماًً إلى الأمام بتجربتنا البرلمانية تماماً كما فعل الناخب الكويتي الذي لم يرتض بواقع حال مجلسه النيابي ومضى نحو التغيير والتعديل قدر المستطاع ليطور من تجربته البرلمانية، فهل يفعل الناخب البحريني ذلك ويوقف المسار الانحداري الذي سارت فيه تجربتنا البرلمانية في السنوات الماضية ويدفع نحو الصعود المطلوب لينهض الجميع بمسؤولياتهم تجاه الوطن والمواطن .

اقرأ المزيد

دلالات الانتخابات الكويتية

لا يوجد دستور في العالم يخلو من السلبيات أو يخلو من المزايا، سواء كثرت أم قلت في هذا الجانب أم ذاك الجانب، بما في ذلك دساتير الدول الديمقراطية الغربية العريقة. بعض هذه السلبيات والمزايا الايجابية تعرف من نصوصها ومضامينها، كما في دول الديمقراطيات المحدودة، وبعضها الآخر يُعرف من الممارسة التطبيقية، كما في دول الديمقراطيات الغربية على الأغلب.
من عيوب الدستور الكويتي قبل أن يمر ببعض التعديلات انه ترك حق النساء في المشاركة السياسية فضفاضاً غير قاطع التفسير لتأكيد هذه المشاركة وجاء دستور 1973 البحريني الذي سار على منوال شقيقه الدستور الكويتي مشابهاً في ذلك. وعجزت القوى الوطنية والليبرالية في كلا البلدين في تفسير الدستور أو تعديله بما يكفل القطع، بلا لبس أو التفاف حول حق المرأة في المشاركة. لكن من مزايا دستور 2002م البحريني، بصرف النظر عن عيوبه، انه أكد هذا الحق بكل وضوح من دون أدنى التباس. ومع ذلك لم تتمكن المرأة من الفوز تصويتياً في دورتين انتخابيتين باستثناء فوز لطيفة القعود بالتزكية بعد انسحاب منافسيها المرشحين الرجال في دائرتها.
وكان من الواضح جيداً أن تمكين المرأة في البحرين من حق المشاركة في الترشح والانتخاب بعد استئناف الحياة البرلمانية شكّل حافزاً للكويتيين المؤمنين بهذا الحق على المطالبة به للمرأة، وبذلت القيادة السياسية الكويتية الدور الأكبر في هذا الصدد، لكن القوى المتشددة وقفت في وجهها بالمرصاد وبذلت كل ما بوسعها لعرقلة تلك المساعي ونجحت في ذلك حتى عام 2005م وهو العام الذي نجحت الحكومة والقوى السياسية المستنيرة من مختلف التيارات والفئات في تأمين وفرض حق المرأة الكويتية في المشاركة.
على أن النساء الكويتيات ورغم هذا الانتصار الذي حققنه بممارسة حقهن في الانتخاب والترشح لم يقابله انتصار في التمكن من الفوز بانتخابات عامي 2006 و2008 بسبب اصطفاف قوى للتيار الديني المعادي لحق مشاركتهن الانتخابية، فما بالك بحقهن في الترشح؟ وعوّضت القيادة السياسية الكويتية هذا الفشل الذي مُنيت به المرأة عام 2005م بأن عينت أول امرأة كويتية، ألا هي معصومة المبارك، في تشكيلتها الحكومية دونما النظر إلى معتقدها الفكري أو منحدرها الفئوي، حيث ان الكويت تزخر بالكفاءات النسائية من مختلف العرقيات والفئات والطوائف. وهكذا وعلى طريقة “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم” فإن الاضطرابات والعواصف التي شهدتها الحياة النيابية في السنوات الخمس الماضية والتي أدت إلى حل البرلمان دستورياً ثلاث مرات أفرزت عن ايجابيتين مهمتين، في المرة الأولى تمكنت الحكومة والقوى المقتنعة بحق المرأة في المشاركة السياسية من فرض هذا الحق في انتخابات .2005 وفي المرة الثانية ممثلة في الانتخابات الأخيرة فقد فجرت المرأة الكويتية مفاجأة مدوية من العيار الثقيل وذلك بانتزاعها أربعة مقاعد، وكان من ضمن الفائزات الوزيرة السابقة معصومة المبارك، إلى جانب رولا دشتي واسيل العوضي وسلوى الجسار.
وكان أجمل ما في فوز هؤلاء الأربع انهن يمثلن الفسيفساء الجميل للنسيج الوطني للشعب الكويتي والذي يتماثل في مكوناته مع نسيجنا الوطني. ولك أن تتأمل في الأسماء للتأكد من هذه الحقيقة. والراجح ان التصويت لكل منهن لم يقم في الغالب على دوافع واصطفافات مذهبية، نقول في “الغالب” لأن مثل هذه النزعات تبقى موجودة عند الناخبين بنسبة أو أخرى، ولا يمكن التخلص منها في المرحلة التاريخية الراهنة بين عشية وضحاها.
والمفاجأة المدوية التي فجرتها المرأة الكويتية لا يقتصر بطبيعة الحال دويها وصداها على الفضاء الكويتي والخليجي فحسب بل ويمتد إلى فضاء العالم العربي برمته، إذا ما عرفنا ان انتصاراً بهذا الحجم يبدو في المرحلة التاريخية المظلمة الراهنة أشبه بالمعجزة حتى لو جرى في أكثر الدول العربية عراقة في حركاتها النسائية، كمصر والعراق وسوريا ولبنان. ولئن صحت المقولة “ليس هناك أعداء أو اصدقاء دائمون في السياسة” يصح القول ليس ثمة ثوابت أبدية لا تتزحزح قيد أنملة من دون مفاجآت في الصراعات السياسية والاجتماعية وفي أمزجة ووعي الناخبين حتى في ظل المؤشرات الغالبة التي تطبع كل مرحلة تاريخية بسماتها المميزة. وهكذا فخلال شهر واحد لقن الناخبون في بلدين إسلاميين، اندونيسيا والكويت، درساً للتيارات الإسلامية المتشددة والمتطرفة بعد أن ملّوا مناكفاتهم وصراعاتهم الشكلية على حساب مصالحهم الآنية. ففي اندونيسيا خسرت تلك التيارات نسبة كبيرة من المقاعد في الانتخابات الأخيرة. وفي الكويت كما نعلم لم تقتصر النتائج على فوز أربع نساء فحسب، بل وعن خسارة “الإخوان” والمتشددين مقاعد عديدة.
وتأسيساً على كل ما تقدم يمكننا القول إن ثمة دروسا مستخلصة من النتائج الانتخابات الكويتية الأخيرة جديرة بالإمعان فيها جيداً للاستفادة منها ليس كويتياً فقط، بل وعلى الصعيد العربي بوجه عام وعلى الصعيد البحريني بوجه خاص، لاسيما اننا مقبلون على أبواب انتخابات قريبة تجرى في خريف العام القادم.

صحيفة اخبار الخليج
24 مايو 2009

اقرأ المزيد