المنشور

مسارات الرأسماليات الحكومية الشرقية

هناك ثلاثة اختيارات اقتصادية جرت في تواريخ الرأسماليات الحكومية الشرقية نبعت من ميزانِ قوىً اجتماعيةٍ ومن بُنى اقتصادية سابقة، ومن وجهاتِ نظرٍ سياسية مؤثرة في التطور، وهي قد انبثقتْ من هذه الأوضاع الرئيسية:
1 – ضعف الإقطاع وقوة البورجوازية.
2 – قوة الإقطاع وضعف البورجوازية.
3 – ضعف الإقطاع وضعف البورجوازية.
تتعلق التجاربُ من الصنف الأول المذكور أعلاه بمسار الشرق، حيث ان التدخلات الغربية في تاريخهِ الانتقالي بين الإقطاع والرأسمالية تحثهُ على التغييرِ والقفزةِ من واقعهِ المتخلفِ السابق نحو التحديث، وكلُ قيادةِ دولةٍ تكونُ لها خططها الاقتصادية، المنبثقة عن تجربتها وظروفها.
ينبثقُ الخيارُ الأولُ وهو ضعفُ الإقطاع وقوة البورجوازية من وجودِ ظروفٍ استثنائيةٍ قد لا تتكرر في بلدان أخرى، ففي العادة التاريخية للشرق وهو يخرجُ من دياجير الظلمات الزراعية إلى النور الصناعي، أن يكونَ العكس هو الصحيح، أن يكون الإقطاع المسيطر خلال القرون السابقة هو السائد والقوي، وأما البورجوازية فهي ضعيفة تقتصر على المتاجر والصرافين، ولا يدعمها قطاعٌ صناعي مهم، ولكن في التجربة اليابانية ظهرتْ ظروفٌ مختلفة، بيناها في الحديث عن التجربة الرأسمالية الخاصة اليابانية، جعلتْ من قوة الحكم السياسي طليعة لوعي هذه البورجوازية وتنفيذاً لوجودها المضمر وإتاحة لنموها بكل السبل من خلال تخطيط بعيد المدى يستوعب قوانين التجربة الرأسمالية الغربية الخاصة، رغم أن هذه القيادة تتمثل في حكم الامبراطور وجماعته، غير أنها تبنت خيار الغرب في البناء الاقتصادي بشكلٍ متكامل.
وتم تكرار تجربة اليابان في جنوب شرق آسيا عبر ما عُرف بتجارب النمور الآسيوية حيث يتاح نمو كبير للرأسماليات الخاصة، وتـُحجم الرأسمالية الحكومية، وهي تكرارٌ للتجربة اليابانية واستفادة من توظيفاتها وتقنياتها، وهذه الاستفادة من الجانبين البنيوي والتقني تعكس عمليات تسارع الرأسماليات الخاصة باعتبارها خطا تطوريا محوريا ومتصاعدا في تكوينات الرأسماليات الشرقية.
أما الخيار الثاني وهو (قوة الإقطاع وضعف البورجوازية) فهو خيارُ الكثير من دول آسيا وافريقيا، خاصة الدول العربية والإسلامية، فهي بسببِ تخلفها الاقتصادي، وسطوات ماكينات الدول القديمة المتنفذة، وضعف قواها السياسية الطليعية الحكومية المتبصرة لآفاق المستقبل وتبعية القوى الاقتصادية الخاصة لها، فإنها تراوحُ في مسارها بين الإقطاع والحداثة الرأسمالية، بين الاحجام عن مشروعات الصناعات الكبرى وبين البقاء في مشروعات التجارة والعقارات والتمويل.
ويتمظهر ذلك بقوة في تقزم القطاعات الصناعية وعدم قوننة تطورها بشكل صحيح، وضعف نمو التصنيع في الأرياف، وإبعاد قوى بشرية واسعة عن الصناعة، كالنساء والقوى الهامشية والموظفين الحكوميين، وعدم إيجاد ثورة ثقافية مواكبة للتصنيع، ومحدودية الحريات.
وهذا يقود لهدر الثروات بشكل مستمر وبأشكال متعددة، فمرة نجد التسربات المالية الكبيرة المستمرة من القطاعات العامة إلى القطاعات الخاصة في العتمة السياسية، أو في تهريب الأموال، أو في تكاليف التسلح ونفقات الحروب، أو في البذخ وغير ذلك.
أما الخيار الثالث وهو الخيار المترتب على(ضعف الإقطاع وضعف البورجوازية) فهو يعتمد على لحظات ثورية فريدة من تاريخ أمم عريقة كالأمة الروسية والأمة الصينية، تقومُ فيها قوى الفئات البورجوازية الصغيرة المتحالفة مع العمال بقيادة معركة التصنيع والتحديث.
ونظراً لهذه القوى الشعبية المتجذرة والمتضررة من الأبنية الاقتصادية القديمة فإنها توسع مدى التغيير وتضرب بشدة العلاقات ما قبل الرأسمالية، وتضرب العلاقات الرأسمالية الخاصة كذلك بهذا المستوى أو ذاك بين هذه الدول، مما يؤدي إلى جعل الدول هي المالكة الرأسمالية الكبرى، وهو أمرٌ يعيد تشكيل الرأسمالية الخاصة على مستوى زمني معين، وبأشكال من التعثر والتطور حسب تجربة كل بلد واختيارات قواه السياسية الحاكمة.
لكن ظروف ضعف الإقطاع وضعف البورجوزاية والمتجهة لتضخيم القطاعات العامة، لا تنفي التكون الرأسمالي. وتضخمُ القطاعات العامة يعودُ للتصدي لقوى الغزو الخارجي ومن أجل نهضة الأمم الشرقية خاصة في البدايات المُبشرة، لكن في نهاية مطاف بناء البنية التحتية يتوقفُ ويتراجع النمو الإيجابي لتصاعد عوامل الفساد الداخلية، وكون مشروع الرأسمالية الحكومية ليس له مالك معين فيضيعُ بين المالكين المتعددين من موظفين كبار وأحزاب وقوى اجتماعية مثل الأوقاف، وليس له علاقة مباشرة مع المنتجين ومع الجمهور المالك الوطني المُفترض، وبالتالي يصبحُ كماءِ السبيل، يتناقصُ ولا يزيد، يتآكل ولا ينمو. يتعطلُ نموه التقني، وتتراجعُ تطوراتهُ التكنولوجية الحفرية الداخلية، خاصة مع تفكك العلاقات بين المؤسسات الاقتصادية والتعليمية، بين العمال والإدارات، بين المؤسسات الاقتصادية والأسواق، وبهذا فإننا نجدُ القطاعاتِ الحكومية الرأسمالية بعد زمنٍ أنها هي الخاسرة، تدفعُ أكثر مما تقبض، تتسلفُ وتزدادُ ديونـُها، رغم وفرة المواد الخام والمُصنعة المُباعة.
وهذا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي النهائيين يتمظهرُ في تدني الأرباح وتراجع الخدمات، وتصاعد القطاعات الخاصة التي تقومُ على انقاض القطاعات العامة أو على تقزمها، فوزارات الصحة التي أكلتْ الكثيرَ من المالِ العام والأجسادِ وتردتْ خدماتها، تظهرُ إلى جانبها المستشفياتُ والشركاتُ الخاصة الأكثر نجاحاً والأكفأ علاجاً، لكن على ظهور الجمهور الذي يدفعُ باستمرار وبصورةٍ متصاعدةٍ أثمان الفئات البورجوازية كافة التي يتتابعُ ظهورُها في تاريخ الرأسماليتين العامة والخاصة، من جيوبه، مرة كمواطنٍ تابع لحكومات، ومرة كمواطن يشتري خدمات.
وفي الحالتين ينشأ رأسماليون يشكلون طبقة ويجمعون تراكمَ الأرباح مرة باعتبارها رواتب مجزية ورشا وإكراميات وسرقات، ومرة على اعتبار أنها أرباح خالصة.
أو أن تحدث عمليات الخصخصة حيث تـُباع القطاعات العامة، الخاسرة ليتحملها الجمهور، أو الرابحة ويشتريها الرابحون، وفي كلِ الأحوال يدفعُ الجمهورُ ثمنَ غفلته.

صحيفة اخبار الخليج
24 مايو 2009

اقرأ المزيد

بهدوء.. حول ندوة «الأيام» الحوارية!

تابعت الندوة الحوارية التي نشرتها جريدة الأيام بتاريخ 5 مايو 2009 والتي أدارها الزميل سعيد الحمد وتحدث فيها كل من الأخوة عبدالله الدوسري ومحمد الحلواجي عضوي مجلسي النواب والشورى على التوالي، بالإضافة إلى رئيس جمعية الحقوقيين المحامي يوسف الهاشمي. سياق الحديث خلال الندوة لم يذهب بعيدا عن سياق حوار مماثل آخر عرضه تلفزيون البحرين قبل ذلك بأسبوع ضمن برنامج «الميزان» مع ممثلين آخرين لمجلسي الشورى والنواب. ما أردت قوله هنا ان المشاركين في ندوة «الأيام» لم يجيبوا على الكثير من تساؤلات الشارع أثناء حديثهم بالرغم من أن أسئلة المحاور كانت مركزة ودقيقة، فقد تاهت إجابات ممثلي السلطة التشريعية تحديدا، ولم تخلُ بعضها من أحكام مسبقة، وهناك خلط وتكرار لا يخلو من تعمد في بعض مواضع الإجابات، وأعطي هنا بعض الأمثلة للتدليل على ما أقول، فعندما جاء السؤال مركزا: هل تدعون الجمعيات التي تعمل وفق القانون للذهاب بآلية معينة وموحدة للتحاور مع السلطة التشريعية؟ جاء الرد هكذا: «نحن نرحب بالحوار عبر القناة التشريعية.. الدعوات التي تنطلق الآن هي محاولة للقفز على السلطة التشريعية التي لها حق التحدث باسم الشعب» وهنا يجب أن نتوقف قليلا لنؤكد أن أصحاب مبادرة الحوار لم يمارسوا القفز على السلطة التشريعية، بل بالعكس كانت وجهتهم الأولى وقبل أي شيء آخر لشرح مبادرتهم الخيّرة باتجاه الغرفتين المنتخبة والمعينة ممثلة برئيسي المجلسين حيث لقيت كل استحسان وترحيب منهما، وكنت شاهدا على ذلك وكنا في وارد الاستماع إلى أي تطوير يمكن أن يُدخل على المبادرة حيث سلمنا نسخا منها إليهما للعلم والاطلاع وبالتالي الحوار حول مضمونها فأين هو القفز هنا؟ وفي موضع آخر جاءت إجابة أحدهم كالتالي «ما لاحظته أن الذين ينشدون الحوار هم بمنأى عن التوافق مع المجلس النيابي، أنا أعتقد أنهم ليسوا بدرجة الجدية وأن كانت لديهم الجدية يجب أن يعترفوا بوجود سلطة تشريعية ويقوموا بالاتصال بها والتوافق على آلية للحوار وتقديمها عبر المؤسسات التشريعية حسب القانون» وبعيدا عن الخلط الواضح هنا، أريد أن اُذّكر صديقنا العزيز «بوراشد» بأن من أطلقوا مبادرة الحوار هم الطرف المعارض الذي شارك في برلمان 2002 وكانت له كتلة برلمانية اسمها كتلة النواب الديمقراطيين وهم من شاركوا بجدية في انتخابات 2006، علاوة على ذلك فإن الجمعيات المعارضة الست هي الأخرى أعلنت تبنيها مبادرة «التقدمي» للحوار الوطني بكل بنودها ومن ضمنها جمعية سياسية ممثلة بأكبر كتلة برلمانية وأقصد بها «كتلة الوفاق» فأين يكمن عدم الاعتراف إذا؟! وحيث لا يتسع المجال للرد على كل ما جاء من ردود وردت في الحوار الصحفي، فقط نذّكر الأخوة أنه إبان مسيرة برلمان 2002 كانت هناك حوارات حول الكثير من القضايا وشاركت فيها السلطة التشريعية إلى جانب مختلف مؤسسات المجتمع المدني حتى خارج قبة البرلمان وتركز بعضها حول مسائل مفصلية نذكر منه مناقشة مشروع مكنزي بكل أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومشروعي تنظيم سوق العمل وصندوق العمل وقانون العمل وقانوني النقابات والصحافة، وكانت حوارات مثمرة إلى ابعد الحدود واستفادت منها الحكومة في تعديل وتطوير تلك القوانين، فأين المشكلة في حوارات نتشارك فيها بتلك الروحية؟ ونتفق تماما مع المتحاورين أن مثل هكذا حوارات يجب أن تشارك فيها مؤسسات سياسية ومدنية وحقوقية ذات شرعية قانونية وشخصيات وطنية أيضا، كما أن آليات الحوار التي تنشدونها يمكن أن تطرح من قبل أطراف الحوار وليس من قبل من طرحوا المبادرة لوحدهم حتى نضمن التوافق وتقريب المواقف. وأختم بتساؤلات أرجو الإجابة عنها وانتم تبررون رفض الحوار وتضعون قيودا حوله، ما الذي ستقولونه غدا على سبيل المثال عندما يبادر جلالة الملك حفظه الله كما عودنا دائما ببعد نظره وثاقب رؤيته بالدعوة لبدء الحوار الوطني وبرعاية السلطة التشريعية وبمشاركة مختلف المؤسسات والشخصيات الوطنية ذات العلاقة؟! ثم ما الذي يمنع مجلس النواب كمؤسسة من المبادرة للدعوة للحوار بدلا من إضاعة الوقت في تبريرات البعض وحساباتهم وأحيانا تباكيهم، فما الذي ينتظره مجلس الشعب يا ترى؟ أليس من مسؤولياته أن يكون مبادرا للتصدي لهذه المهمة الوطنية باعتباره مؤتمنا على مصالح الوطن والشعب؟! أرجو أن تتفقوا معي أيها الأخوة أن قضايانا لن تحل بتعزيز منطق الخصومة والاصطفافات والولاءات أو حتى الهروب إلى الأمام إنما عبر بوابة العمل الوطني الجاد والمخلص حيث يكون الخيار ليكون الوطن.
 
صحيفة الايام
24 مايو 2009

اقرأ المزيد

حكايات من تاريخنا (75)… طلبة القاهرة (1970 – 1980)…

منذ تأسيس “رابطة طلبة البحرين في القاهرة” خلال أواسط خمسينيات القرن الماضي التي تم تفعيلها في منتصف الخمسينيات حتى بلغت أوج قوتها ونشاطها في مطلع السبعينيات، وحيث تحولت عندئذ الى واحد من أكبر فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين غداة تأسيسه عام 1972، لم يشتهر اسم شارع من شوارع القاهرة لدى خريجي جامعات القاهرة البحرينيين كما اشتهر “شارع الدكتور السبكي”، ومازال هذا الشارع محفورا بقوة في ذاكرة أجيال متعاقبة من هؤلاء الخريجين، والسبب ببساطة يتمثل في ان هذا الشارع، وعلى الرغم من انه ليس سوى شارع عادي صغير في منطقة الدقي القريبة من جامعة القاهرة، ويتفرع من شارع الدقي الرئيسي الكبير مثله في ذلك مثل شوارع اخرى عديدة متفرعة من هذا الشارع وموازية له، فإن في نهايته، وتحديدا خلف المدينة الجامعية جنوبا، تقع الفيلة العادية الصغيرة التي اتخذوا منها مقرا لرابطتهم ثم لفرعهم، وهذا المقر يجمعهم مساء كل يوم، ويشهد على امتداد ساعات طويلة حتى الفجر في أغلب ليالي الاسبوع أنشطة وبرامج عمل متنوعة ومناسبات مختلفة وان كانت تطغى عليها في أغلب الأحيان الانشطة السياسية، وحيث شهد هذا المقر الصغير ذاته صولات وجولات من المعارك والمجادلات المحتدمة بين التيارات السياسية المتصارعة في صفوف اعضائه، لكن ومع ذلك ظل هذا المقر في الوقت نفسه يرتبط في مخيلتهم وذاكرتهم الجمعية الى يومنا هذا وسيظل يرتبط بأحلى وامتع الأوقات التي امضوها في حياتهم الطلابية، من كلا الجنسين، بالقاهرة.
ذلك بأن مقر رابطة ثم “فرع القاهرة” بشارع السبكي لم يكن مجرد ملتقى طلابي للأنشطة السياسية فحسب، بل كان مقرا لتنظيم أمتع حفلاتهم الفنية، ولقضاء وممارسة هواياتهم المختلفة الثقافية والفنية والرياضية، وبضمنها تنس الطاولة، والكيرم، والدومنة، والورق، والشطرنج، علاوة على تنظيم برامج كرة القدم، كمباريات الفرع مع الفرق الطلابية المصرية وفرق فروع الاتحاد في عواصم ومدن البلدان العربية الاخرى.
وفي هذا السياق يحضرني الآن مقال صحفي رياضي قيم عن الاولمبياد للأستاذ جاسم أمين نشر في مجلة رابطة القاهرة عام 1965، ثم أعيد نشره في الزميلة “الوسط” الصيف الماضي عشية افتتاح أولمبياد بكين الأخير، وكان هذا المقال أشبة بواحدة من الوثائق التاريخية النادرة التي تؤرخ لعراقة هذه المنظمة الطلابية البحرينية الفريدة في تقديري من نوعها ما بين كل المنظمات الطلابية الخارجية قبل تأسيس اتحاد الطلبة. كما كانت الرابطة – الفرع مقرا لتنظيم أمتع الرحلات سواء في القاهرة أم الى المناطق والمدن السياحية والاثرية المصرية الاخرى، مثل صحارى سيتي، الفيوم، الاسكندرية، الأقصر واسوان، وغيرها. علما بأن الرحلات التي تنظم الى خارج القاهرة تمتد أياما.
ولا يقتصر ارتباط هذا المقر في مخيلة أجيال متعاقبة من خريجي القاهرة على قضائهم فيه طوال حياتهم الدراسية أمتع الأوقات والسهرات التي تتخللها عادة تلك البرامج والانشطة السياسية والثقافية والاجتماعية المختلفة، بل يرتبط المقر ومسماه لدى العديد منهم بأجمل الاوقات الحميمية رومانسية وخصوصية، حيث كان ملتقى للكثير من العلاقات الانسانية العاطفية بين الطلاب والطالبات التي تنتهي إما بالدخول الى القفص الذهبي بعد التخرج والعودة للوطن، وإما الى الفشل، فتغدو في مخيلاتهم بعدئذ ذكرى مطوية غير منسية من ذكريات سنوات المراهقة والشباب الممتعة في تلك العاصمة العربية الفاتنة خلال ذلك الزمن الجميل، الذي قد لا يجود الزمان بآخر مثله.
قبل نحو ثلاثة أسابيع كتبت في هذه الزاوية عن الحاجة إلى أن يبادر جميع خريجي الجامعات العربية والأجنبية البحرينيين الى إقامة روابط فيما بينهم يلتقون وينشطون من خلالها لتوطيد صداقاتهم القديمة وبرامجهم وعلاقاتهم الاجتماعية بما ينفع الوطن، واستعادة ذكرياتهم الجميلة، وتمتين أواصر العلاقات الشعبية مع البلدان التي درسوا فيها، كمصر والعراق وسوريا والكويت والسعودية الاتحاد السوفييتي السابق. علما بأن مثل هذه الملتقيات والروابط موجودة في بعض البلدان العربية الاخرى، كلبنان وسوريا التي توجد فيها رابطة تعرف بـ ” رابطة الجامعات الروسية والسوفييتية” وحيث يبلغ عدد الخريجين السوريين في هذه الجامعات اكثر من ألف شخص، وقد عقدوا ملتقاهم في اكتوبر الماضي.
ولقد سرني جدا بعد كتابة المقال بأسبوع ان بادرت مؤخرا ثلة من طلبة خريجي جامعات القاهرة الى تنظيم حفل كبير يجمع هؤلاء الخريجين وتحديدا خلال العقد 1970 – 1980، الذي يعد بحق العقد الذهبي في حياة هذه المنظمة الطلابية (رابطة/ فرع القاهرة) وحيث بلغ عدد خريجي تلك الفترة ما يقرب من 3 آلاف طالب وطالبة.
واذ تأخر طلبة القاهرة كثيرا في تنظيم مثل هذا الحفل أو الملتقى الذي سيجمع هذا المساء حشدا كبيرا من الخريجين من أجيال مختلفة خلال العشرية المذكورة، فان الآمال الكبيرة معلقة عليهم بألا يجعلوا هذا الحفل مجرد ملتقى سمر ترفيهي حتى لو تخلله عرض للصور والأفلام الوثائقية عن تلك الحقبة، بل ان ينطلقوا منه لتأسيس رابطة أو ملتقى دائم لخريجي القاهرة يجتمع ولو أربع مرات في السنة من أجل تحقيق الغايات التي أشرنا إليها آنفا.
وإذ لا يفوتني في هذه المناسبة سوى ان أعرب عن شكري وتقديري لاهتمام الصديقين العزيزين: جمال المؤيد (نجل المرحوم إبراهيم المؤيد، رئيس مجلس إدارة أخبار الخليج الراحل) وجمال فخرو (عضو مجلس الشورى) بدعوتي والحاحهما وتشديدهما علي بالحضور، فإني إذ اعتذر لهما وللجميع عن عدم الحضور بأسف شديد لظروف عائلية انسانية طارئة قاهرة، أقول لهما ولكل الحاضرين “طاب مساؤكم”، وأشد على أيديكم جميعا، متمنيا لكم قضاء أمسية جميلة تذرفون خلالها دموع فرح استرجاع أحلى الذكريات التي لا تنسى بينما لسان حالكم يقول: “أيا ليت الشباب يعود يوما”..
وكل عام وأنتم بخير.

صحيفة اخبار الخليج
21 مايو 2009

اقرأ المزيد

أين الاعتدال المزعوم؟

حين حدث الانقلاب على الأسس الاجتماعية للحكم في “الفتنة الكبرى” وما بعدها من نتائج استمرت إلى يومنا هذا، انقلبت تلك الأسسُ رأساً على عقب.
لم يكن ثمة ضرورة لأحزاب تقوم على أساس ديني، لأن الحكم هو للأغلبية الشعبية، وكان كبار الأغنياء قد أُبعدوا عن السيطرة على السلطة، ولهذا لم يخطرْ في بال عامة المسلمين أن تظهرَ أحزابٌ سياسية دينية، لأن الإسلام هو صوتُ الأغلبية العاملة.
وفي بداياتِ الانشقاق اعتبرتْ الأحزابُ السياسية المتوارية تحت لافتاتٍ دينية، انها مع ذلك الميراث الرافض للأحزاب السياسية الدينية التي تمثل خروجاً عن دربِ السلف.
أخذت فئاتُ كبار الأغنياء التي وصلت إلى السيادة السياسية في صفوفِ مختلفِ الفرقاءِ المتصارعين على الحكم والثروة، وراحت تصورُ نفسَها أنها الوريث لما قامتْ بتحطيمهِ وإلغائهِ من التاريخ لجماعة المسلمين.
وحين جاءَ أي حكم مذهبي سياسي في هذه الطائفة أو تلك قام على أساس الهيمنة الطبقية نفسه، فيصور نفسه بأنه الممثل للدين الحقيقي، وفي ذات الوقت له خزائنه المليئة بالمال والسندات والأراضي، وحين تقول فئة انها ممثلة الإسلام تقوم باحتكار الثروة العامة وتحويل حزبها العسكري السياسي إلى القوة المهيمنة على العاملين. كان ذلك كله هو تاريخ الأغنياء الحاكمين المحدودي العدد بين أغلبية الفلاحين والبدو والفقراء.
وفي ذلك التاريخ تكونت جذور الجماعات الطائفية السياسية المعاصرة، فكانت الجماعاتُ السابقة تقتطعُ خيوطاً صغيرة من النصوص وتركبها على مصالح جماعة حاكمة في مختلف تضاريس العالم الإسلامي، وتحيل نفسها إلى حارسة للمذهب والذهب الهارب خارج ديار المسلمين، وبالأحرى إلى معتقلة لتطور المذهب وتعبيره عن الناس.
فكان الحكام المستبدون يرون مدى شعبية هذا المذهب أو ذلك، ومدى قدرته على تكريسه لسطوتهم، ويكونون على أتم الاستعداد لتغيير المذهب وجعله سائداً في البلد الذي يحكمونه متى ما كان مفيداً لتلك المصلحة.
غدا مثل هذا التسييس ميراثاً عميقاً متجذراً، توظفه الجماعاتُ السائدة لانفصال دولة عن إمبراطورية، أو في هدم إمبراطورية، ويوظفه المغامرون السياسيون إذا ما ركبوا على أجساد القبائل المطايا للوصول إلى الكراسي.
والدائرة تدور والطاحونة تفرمُ عظامَ الناس، والقصور تمتلئ ثم تتحول لخرائب، وتتجدد ثانية بالمتع والعطايا والكنوز ثم تـُهدم وهكذا دواليك، واستغلال الإسلام يقوم به أي لص أو مغامر أو ثائر كذلك، لكنه يتحول مثلهما، فلا عقول تتسع ولا معرفة عميقة تتراكم، ولا حضارة تبقى.
كان هاجس الوحدة قويا في الإرث الأول، لأن الأرثَ وحد مصالح الأغلبية، رفض صعود الطبقية العليا، الفرعونية، والملأ المالي، وجماعات الربا الفاحش، وأبناء الأكرمين، فاستخدم الملأ البنكي و”السلطوي” والجمهوري والملكي ورقة التوت الرقيقة: الصدقات، والتظاهر بالتقوى، والشكليات الديكورية الخارجية، ليتظاهر بوحدة موهومة غير حقيقية للمسلمين، تفرقها كل يوم الضرائبُ على كواهل الناس، وتراكمات الثروة هنا وتراكمات الحرمان هناك، والسجون المفتوحة هنا والسفرات والصناديق المهاجرة هناك.
صارتْ الأقفاصُ المذهبية السياسية ضرورية، للحفاظ على هذه الهيمنات، رغم أنه حتى الهيمنات الطبقية الحداثية تصاعدتْ في أغلبية الدول الأخرى من دون الحاجة إلى مثل ورقة التوت تلك، والحالُ اليائسُ يقول اسرقونا لكن دعوا عنكم التلاعب بالدين.
لكن الوحدة الدينية المأزومة الموهومة هذه تزيد الانشقاقات والحروب والمعسكرات، لأن مئات الملايين تؤمنُ بها، ويظهر مغامرون من كلِ حدبٍ وصوب، يتنطعون لمثل هذه المهمة الجليلة المستحيلة الآن، فيركبون الطائرات للمغامرات ويتمردون بالجيوش ويقتطعون أجزاء من الدول لإقامة دول قطع اليد، والديكورات سهلة، والاكسسوارات برخص التراب، ويقدم متعلمون جبالاً من الكتب للحفاظ على التفاسير العتيقة والتعصب الديني والتعصب القومي.
ويزداد حرج بعض شيوخ الدين العقلانيين من هذه التجارة في المقدسات، لكن الأغلبية ماضية في المزاد الرهيب، فيتوارى هذا البعضُ ويقدمُ السياسيون من دون أن تحدثَ عملية فصلٍ عميقة بين المقدسِ والسياسي، بما كان أساساً للتوحيد، وما هو صار أساساً للصراعات على أموال الدنيا، بما كان تراثا عزيزا ساميا توحيديا، وما هو عراكٌ على الإبل والنقود ونهب الأراضي.
لقد وصلتْ العملياتُ الصراعية إلى ما هدم دولاً (إسلامية)،(بل قلْ تاجرت في الإسلام)، ونرى أمامنا جحافل المسلمين المساكين وهم يحملون عفشهم البائس مثلهم ويرفعون أطفالهم على أكتافهم، ليفروا من الصواريخ والقنابل، والطائرات (الإسلامية) تضربُ منازلـَهم وقراهم ومزارعهم، والجماعات الرافضة (الإسلامية) تطلقُ عليهم قذائفـَها وتحرقُ مزارعَهم وعالمهم الهادئ الساكن.
وتجمع الدولة (الإسلامية) الأموالَ وعَرق الملايين في مخازنها للجماعات المقربة، والاقاليمُ النائية (الإسلامية والمسيحية وغيرها من الملل) محرومة، عطشة للماء، ويقول رئيسهم (الإسلامي) للجمهور (سنعطيكم الماء)، ويصيرُ ابناؤهم الضباط حكامَ البنوك والشركات الدنيوية و(الإسلامية)، ليواصلوا ثقافة الفتنة الكبرى، أي ليضعوا مخططات تدهور الدول الإسلامية وتمزقها، وبدلاً من الأفراس ورباط الخيل يُعدون به عدة لضرب المسلمين، يستخدمون قذائف الهاون ومدفعية الدبابات سلاحاً يرهبون به المطالبين بأخذ أنصبتهم المتواضعة في الميزانيات والأموال التي انتجوها.
انظرْ إلى خرائط الرعب في افغانستان وباكستان والسودان والجزائر، سيول من الحروب وضحاياها الفقراء، ولا جماعة طائفية سياسية قامتْ بالتبدل والتوبة من هذا الميراث الدامي.
ليس ثمة أكثر أسىً من رؤية ما يجري في باكستان الآن، فمئات الالوف من البشر يتشردون في لحظة، هنا يفقدُ الناسُ بيوتـَهم الرثة، وهناك في أمريكا يفقد الأغنياءُ فللهم الفارهة من الفساد المالي والبذخ، صورتان تمثلان وجهين لعملة دولارية واحدة: فبؤسُ باكستان تغذى من دكتاتوريات عسكرية استخدمتْ الدين مطية، ونهبتْ خيراتِ البلد ورحلتها للغرب، وتلاعبت بهذه الثروة قوى مالية غربية كبرى إلى درجة الجنون بذخاً وعسكرة. ولكن هؤلاء الفقراء الباكستانيين يتعرضون للموت في كل دقيقة، وأولئك الأغنياء يُعرض عليهم التعويض.

صحيفة اخبار الخليج
21 مايو 2009

اقرأ المزيد

الدروب التي لا تنسى!

شدني كثيرا ذلك العنوان اللافت: «الدروب التي لا تنسى». كم في هذه الدنيا من دروب، لكن بينها دروبا لا تنسى. لقد أودعنا في تلك الدروب فلَذات من أرواحنا، ذاكرة لن تنفك أن تكون حاضرة معنا أينما ولينا شطرنا. لم يكن الكاتب الذي اختار هذه العبارة عنوانا لفصل من كتابه يتحدث عن الذاكرة بوصفها حيزا فرديا، أو حيزا للفرد، ولكنه كان بصدد الحديث عن الذاكرة الجمعية للأمم والشعوب. لكن من منا ينجو من ذلك الربط الذي لامناص منه بين ما نعده فرديا خالصا وما هو جمعي، حين المصير الجمعي يشكل مصائر الأفراد أيضا. هل بوسع أي إنسان فلسطيني مثلا، رجلا كان أو امرأة، أن يفصل بين هذين المصيرين: الم تشكل المحنة الجماعية سيمياء المحن الشخصية للأفراد؟ «ينجز النسيان عمله الماحي – يقول الكاتب – نتيجة ضغط الحاضر، حين تسود أهواء تفتك بالذاكرة، لكن الذاكرة لا تدع نفسها تلغى ، فهي تنتعش وتجعل حفظتها ينبعثون»، أما كيف يحدث ذلك، فلأن الحفظة الأولين يصونون تقديس أماكن الذكرى، إنهم يعارضون بها ناشطي الإنكار الذين لا يريدون أن يظل التذكر باقيا، وأن يكون منقولا إلى الأجيال الجديدة. ما الإنسان إذا لم يكن ذاكرة وفؤاداً. وهذه الذاكرة قمينة بأن تجعله مشدودا إلى تلك «الدروب التي لا تنسى»، إلى تلك الأماكن التي لا تنسى، وبوسع أجيال لم تر هذه الأماكن والدروب، أن ترث من الآباء والأجداد الحنين إليها، شيْ ما ينتقل عبر الدم أو الجينات، بهذا المعنى تغدو الذكرى، لكونها رفيقة اللحظات العادية في الحياتين الفردية والجماعية، مساهمة في بناء الحاضر، في الطريقة التي بها يصلان إلى تماس واحدهما بالآخر». وللذاكرات الجماعية قدرة مدهشة على مقاومة وثبات التاريخ، ففي غضون أسوأ المراحل، تقي نفسها بالانكماش والانطواء في حياة خفية حين يشتد عليها ضغط الظروف أو القهر أو الاستبداد أو الاحتلال أو مصادرة الحرية، ولكن ما أن تخف وطأة هذه الظروف حتى «تنبجس وتتوصل إلى وجود متفجر بمقدار ما يكون قد طال زمن كبتها». في زمن اليوم يجري الحديث عن مفهوم «اللا أمكنة» حيث الاوتوسترادات العريضة الطويلة، وشركات الطيران وخدمات السكك الحديدية ذات السرعة الكبيرة، ثم أن الفنادق ذات الأسماء والماركات وكذلك محال التسوق الضخمة التي تحمل اسما واحدا وشكلا واحدا، لكنها موجودة في كل مكان، تجعل من الغريب العابر يحس بألفة مع هذه الأماكن لأنه يعرفها واعتاد زواياها وممراتها وكيفية التصرف فيها. لكن ما أكثر ما يجد الإنسان نفسه ممزقا بين أمكنة وبلدان عدة، انه في الحقيقة لا يقيم في المكان، إنما يقيم في الوقت، فالعلاقة التي ينسجها مع المكان على مهل بتروٍ بحيث يجد نفسه وقد انغرس في تربة هذا المكان، سرعان ما تتعرض للاهتزاز، حين يتعين عليه أن ينسج علاقة جديدة مع مكان آخر في متوالية تبدو في بعض أحيانها متوالية أبدية.
 
صحيفة الايام
21 مايو 2009

اقرأ المزيد

الدوائر الخمس والنساء الأربع


لا يمكن النظر إلى الفوز الانتخابي المهم الذي حققته المرأة الكويتية في الانتخابات النيابية بوصول أربع نساء إلى مقاعد مجلس الأمة  بمعزلٍ عن نجاح الكويتيين قبل ذلك بتعديل النظام الانتخابي وطريقة توزيع الدوائر الانتخابية هناك، وهو الأمر الذي أتاح الفرصة لكسر احتكار المقاعد النيابية من قبل قوى الإسلام السياسي، وخلق المناخ الملائم للنساء وللمستقلين بالفوز، رغم أن القوى الإسلامية ظلت ممثلة بثقل في المجلس المنتخب حديثاً.

كلنا يتذكر الحملة الشعبية الواسعة في الكويت والتي خيضت تحت شعار: “نَبِيْهَا خَمسة”،  والمقصود هنا إعادة بناء الدوائر الانتخابية لتصبح خمس دوائر كبيرة، وهي الحملة التي اشترك فيها الشباب بصورة واسعة، ولعبت منتدياتهم الاليكترونية ومدوناتهم دوراً تعبوياً كبيراً فيها، وتكللت، في نهاية المطاف، بالنجاح.

هذا النجاح خلق الأرضية المناسبة التي حسنت من شروط  التنافس الانتخابي للنساء ولممثلي القوى الليبرالية والديمقراطية ومختلف القوى متوسطة وصغيرة الحجم، ومكن بعضها من الفوز في الانتخابات الأخيرة، وهو الفوز الذي وجد تعبيره الأعمق والأكثر دلالة من وجهة النظر السياسية والاجتماعية في فوز النساء الأربع.
العملية الديمقراطية مترابطة ومتكاملة الأوجه، فالحقوق الدستورية يجب أن تتعزز بنظام انتخابي ديمقراطي عادل يتيح تمثيل مكونات المجتمع المختلفة بما يتناسب ووزنها، وبالتالي ينهي ظاهرة الأصوات المهدرة، ويتيح لأصحابها أن يجدوا من يمثلهم في المجالس المنتخبة.

واحد من أهم درسين يجب أن نتعلمهما، نحن هنا في البحرين، من تجربة أشقائنا في الكويت هو ضرورة إعادة النظر في النظام الانتخابي المعمول به حالياً، بالإضافة طبعاً إلى درس دعم فكرة تمكين المرأة لا بالخطاب السياسي وحده، وإنما بخلق آليات فوزها ودمجها في الحراك السياسي.
وسبق للمنبر التقدمي أن أقام في عام 2007 حلقة حوارية حول توزيع الدوائر الانتخابية قدم خلالها مقترحاً بديلاً للنظام الانتخابي الراهن، وقلنا في مسببات هذا البديل نفس الأفكار التي برهنت نتائج الانتخابات الكويتية على صحتها.

ونشعر اليوم بالحاجة إلى ضرورة تسليط الضوء على هذا المقترح، وإعادة طرحه للمناقشة مجتمعياً على الأقل في المرحلة الأولى، ونتطلع إلى أن يكون للنساء ممثلات في اتحادهن النسائي وجمعياتهن النسائية والمكاتب النسائية في الجمعيات النسائية مساهمة في الحملة من أجل تعديل النظام الانتخابي بصورة ديمقراطية، وتحريره من القسمة المذهبية البغيضة التي صممت الدوائر الانتخابية على أساسها.

لم يبق الكثير على انتخابات 2010 وتطلعنا أن يشكل فوز شقيقاتنا الكويتيات حافزاً لنا لأن نرى المرأة البحرينية وقد شقت طريقها بقوة الانتخاب الحر المباشر إلى مقاعد مجلس النواب، وهذا لن يتحقق بالأمنيات وحدها، وإنما بإيجاد آليات هذا الفوز، وفي مقدمتها، كما نرى، ضرورة إعادة النظر في نظامنا الانتخابي، ليصبح قادراً على كسر احتكار القوى المحافظة على المجلس الانتخاب، ولأن يعكس ما في مجتمعنا البحريني من تنوع اجتماعي وتعدد سياسي وفكري، لتأتي مخرجاته منسجمة مع ما يليق بما في المجتمع البحريني من تقاليد سياسية واجتماعية.

اقرأ المزيد

الوجه الآخر لجدران القرى

*سبق أن تناولت في هذه الزاوية مرات عديدة الحالة المزرية التي اضحت عليها بيئة القرى والتي زادها قبحا الحال التي آلت إليها جدرانها بفعل الخرابيش السوداء العشوائية الفوضوية المقيتة التي ظلت تغطي كل جدران منازل ومساجد ومآتم ومحلات ودكاكين القرى على نحو مكثف ومتعاظم يوما بعد يوم على امتداد ما يقرب من 15 عاما منذ مطلع أحداث التسعينيات المؤسفة، ولربما لم تقل هذه الخرابيش بصورة ملحوظة سوى خلال الثلاث أو الأربع السنوات التي أعقبت اعلان جلالة الملك مشروعه الاصلاحي حتى عادت وتكاثفت بصورة جنونية منذ سنوات ثلاث خلت على نحو أشد واسوأ من التسعينيات.
واذا ما استثنينا قدم معظم بيوت القرى التي يغلب عليها المعمار الشعبي، وتخلف بنيتها التحتية، وغياب الوعي الصحي لدى معظم أهاليها البسطاء والذي ينعكس بجلاء في حال طرقها وازقتها الداخلية القذرة، دع عنك أوضاعها البيئية من الداخل، فقد كانت هذه القرى على امتداد قرون تنعم وهي قابعة في قلب الحقول والبساتين بأطيب الهواء العليل المنعش صحيا، أما الآن فقد حلت محل الحقول الغناء المصانع والورش والكراجات ماعدا الفيلل والمجمعات السكنية الراقية على أطرافها، والتي أنقذت ما يمكن انقاذه من أشجار ونخيل داخل أحزمتها الجدارية الجديدة. وهكذا أضحى هواؤها فاسدا وأبعد من ان يكون صحيا ان لم يكن قاتلا، كما في بعض القرى. وزاد من الطين بلة ان تفشت روح اللامبالاة مع غياب الوعي الصحي الشعبي، لدى شرائح شبابية وعمرية مختلفة متعلمة، وتضافر ذلك مع العبث الجنوني المقزز بجدرانها وببراميل وحاويات قماماتها التي تستخدم كذخيرة حية مشتعلة لسد الطرقات والشوارع من خلال نثر محتوياتها المحروقة المشتعلة على عرض هذه الطرقات والشوارع، فتظل أكياس القمامة عرضة لهجوم الذباب والقطط طوال الأيام التالية متراكمة على طرقات القرى بلا حاويات.
وبعد بادرة جلالة الملك الأخيرة بالعفو العام عن الموقوفين والمعتقلين خفت نسبيا أعمال الخربشة على الجدران، ولذا فكم هو جميل ورائع ويثلج الصدر انطلاق خلال الايام القليلة الماضية حملات تنظيف فنية لجدران القرى من تلك الخرابيش الكئيبة لتحل محلها رسومات ملونة وشعارات جميلة من الحكم والآيات تكتب بخطوط عربية تبدعها انامل شباب وشابات في عمل تطوعي انطلاقا من احساسهم العالي بالمسؤولية وحبهم العميق لوطنهم بكل ترابه وبكل الشعب الذي يعيش فوق هذا التراب المقدس حبة حبة وقطعة قطعة، مدنا وقرى واريافا وصحارى وسواحل و”جزرا”.
ولا شك ان هذه الحملة التطوعية الوطنية، بكل ما في كلمة “الوطنية” من معنى، والتي انطلقت تحت شعار “ارتقاء” تستحق كل الشكر الجزيل والتقدير الكبير، وعلى الأخص جنودها المجهولون من الفنانين المبدعين رسما وخطا، سواء الذين جاءوا ضمن مبادرة المرسم الحسيني ام الذين حضروا من تلقاء انفسهم بمبادرات فردية من مناطق اخرى ينتمي بعضها إلى فئات اجتماعية مختلفة. والشكر بطبيعة الحال موصول إلى القائمين على الحملة الذين قدموا صورة أنموذجية مثلى لتضافر العمل الرسمي مع العمل الشعبي كما تمثل ذلك في تعاون المجلس البلدي والبلدية في المحافظة الشمالية على تنظيم هذه الحملة.
وقد صادف مع انطلاق الحملة ان انعقدت فعالية اهلية ارى بأنها على درجة من الاهمية جرت في مركز السنابس الثقافي وتتمثل في انعقاد الملتقى الأول حول “واقع العمل التطوعي.. السنابس نموذجا”. ومن المعروف ان هذه القرية من اكثر القرى التي تأثرت بيئتها الجدارية والعامة بالاحداث الاخيرة ناهيك عن أحداث التسعينيات. وقد ذكرت قبل قليل ان روحا من اللامبالاة شاعت وسادت في صفوف شباب القرى المتعلمين والمثقفين وبخاصة في ظل خوفهم من استبداد وسيطرة “القبضايات” أبطال الخربشة على الجدران وحرق البراميل وتفجير السلندرات وسد الطرقات وقذف القنابل الحارقة.
وهذه الروح من اللامبالاة هي التي انتهى إليها بالضبط ملتقى السنابس حيث وصف العمل التطوعي في القرية بأنه تراجع مقارنة بالتسعينيات، على حد تعبير استبانة الملتقى الالكترونية، وان صح القول مقارنة قبل ثلاثة عقود خلت، اذا ما عرف جيل اليوم بأنه الى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات كانت الاعمال التطوعية في القرى تشمل القيام بأقسى الاعمال كالتطوع الشبابي لبناء بيوت اصدقائهم في القرية وبناء المساجد.
لقد ذكرت في احدى المرات مشيدا بحملات تطوعية لتنظيف السواحل والمناطق السكنية: ما فائدة مثل هذه الحملات اذا كان التلوث سيعود مجددا الى حالته السابقة في الايام التالية؟ وهأنذا اعيد التساؤل نفسه حول جدران القرى: ما فائدة كل هذه الحملة الفنية إذا ما عادت الخرابيش السوداء الفوضوية (لا سمح الله) لتقضي على ثمار جهد ساعات طويلة من تلك الابداعات التشكيلية والخطية الجميلة؟ فما قام به المبدعون بحاجة إذًا الى تدخل مجتمعي محلي فاعل وحازم لحمايته من العبث قبل أن تعود حليمة الى عادتها القديمة.
واعتقد ان للوجهاء ورجال الدين والقيادات السياسية “المتشددة” والمرنة دورا كبيرا محوريا لحماية تلك المناظر والخطوط، فهل يمنع مثلا بعض الآيات والاقوال والحكم المأثورة المخربشين من اعادة الخربشة عليها إذا لم تمنعهم الرسومات والمناظر الجميلة الملونة لجدران قراهم؟ نرجو ذلك.
ان الحملة مازالت في تقديري في بداياتها ولاسيما ان معظم جدران القرى الداخلية مغطاة بأكملها بسواد الخرابيش والتي يزيدها قبحا خطها الرديء جدا وأخطاؤها النحوية والاملائية ناهيك عن ان العديد من شعاراتها السياسية بذيئة لفظا. والمطلوب توسيع الحملة على اوسع نطاق، ويا ليت النظر في امكانية تركيز الرسومات والشعارات على جدران المباني العامة لا المنازل التي هي بحاجة الى اعادة طلاء، وان كان بعض المباني العامة، كجدران بلدية جدحفص، الأنسب هو اعادة طلائها بدلا من الرسومات. لكن في ظل توقع أن تكون جدرانها بيضاء ناصعة مغرية للمخربشين فلا بأس من اللجوء الى الرسومات الملونة مؤقتا، عليها وعلى جدران المنازل التي يحتمل اعادة الخربشة عليها.

صحيفة اخبار الخليج
20 مايو 2009

اقرأ المزيد

الانتخابات على الأبواب والمزاد مفتوح

يضحكنا الساسة اللبنانيون المتفقون كلهم على سرقة الشعب، في اختلافاتهم البسيطة الضحلة، فهذا يقول (أنا ضد المحور الفلاني) لأنه محور دكتاتوري طائفي ميثولوجي سحري ديني، لكنه لا يكشف محوره، بل يخفيه، لأنه كذلك محور دكتاتوري طائفي سحري.
فماذا يختلف أن تتفقَ مع محورٍ متخلف في هذا البلد عن محورٍ متخلف في ذاك البلد؟
ماذا يختلف الأمر بين محور يذبحُ الغنمَ ويُعلي شأن الصحراء وبراميل النفط للخيام اللاهية، ومحور يذبحُ البقرَ ويخصص براميل النفط للضباط الكبار؟
الحكوماتُ البيروقراطية الفاسدة هي مظلتنا جميعاً، وهي كلها ذات الوشائج القوية بالغرب وشركاته، هذا المحور يجري علاقاته فوق الطاولة، موضحاً بعض الصفقات بأشكالٍ يعجزُ الجنُ الأزرق عن كشف محتوياتها، وذاك يجري صفقاته تحت الطاولة ويعجز أهلُ الأرض السفلى الكرام عن معرفة أي إبرة فيها.
هذا المحور يقول انه اشتغل وكدح لأغلبية الناس، المظلومين، الفقراء، لكنه في واقع الأمر اشتغل لنهب أغلبية الناس المظلومين الفقراء، وذاك رفض ذلك بشدة وقال إنه يعمل من أجل جميع اللبنانين الشرفاء، لكنه عمل لسرقة اللبنانيين الشرفاء جميعاً. وبطبيعة الحال هذا فرق كبير جدا.
بدلاً من أن يكون لبنان بسبب ثقافته العالية وطبعه للكتب التي لا يقرؤها، نموذجاً لاختزال “الحرامية” السياسيين، كما يجري في بقية الدول العربية، قدم تجربة حضارية فريدة في الاكثار منهم وتنويعهم تنويعاً شديداً تعجز أي آلة حسابية سياسية عن معرفة أديانهم ومذاهبهم وحواريهم وكيفية هروب الليرات إليهم.
تجد فيه المذاهب والملل والنحل كافة من جميع أقطار العالم، ولم تبق سوى البوذية والهندوسية من التمثل داخله البهي، فتغلب على سوء تجربة الهند ومحدودية رؤاها السياسية وهي الحاوية على آلاف الأديان ومقتصرة فقط على بضعة أحزاب قليلة، لكن عدمَ التمثــُل الكامل لأديان الأرض وعقائدها يجرى تلافيه في لبنان فالعائدون من (تنمية) نيجيريا وغيرها يعتزمون الاستفادة من عبادة الأرواح لجعلها مسيّسة داخل لبنان ويتفقون على ضرورة استثمار عجائبها الكبيرة في السيركِ السياسي ودكاكين السحر والشعوذة.
المقاولون الدينيون السياسيون في لبنان جاهزون للاستفادة من أي دين وملة، حسب أسعار البورصة، سواءً بالدولار البدوي أو بالريال الإيراني، لكن الجنيه المصري غير مقبول حاليا لضعفِ قيمتهِ الشرائية، وربما يُستفاد لاحقاً من الشيكل الإسرائيلي، حسب تحولات البورصة القادمة، وهناك أقبالٌ كبيرٌ على اليورو فإمكانياته واعدة، وكذا على شقيقه الأكبر الدولار، وعين المقاول صارت حولاء من كثرة النظر إلى الجانبين.
المقاول اللبناني إقطاعي وتاجر ونصف رأسمالي، متدين وصاحب كباريه، مقاوم ومقاول حسب كمية الدفع الوفيرة من أهل الكرم المسموم في المنطقة، ولا يهم هنا كم البيوت والبشر المحالين على القبور والآثار، فالقضية عظيمة جدا وتستحق كل التضحيات الجسام، (الضمائر المرهفة هنا ميتة بسببِ مستنقعات الدم الهائلة التي تغوصُ بها الأحذية من دون أن تشعرَ بسوائلها وبصراخ بشرها في الخرائب فلا تاريخ سوى تاريخ زعماء الطوائف وكل ما عدا ذلك ملغى، هم الأحياءُ الوحيدون في مقبرة الصمت الشعبي وجمهورية الدم هذه)، والمقاول هو كذلك مع الحداثة وأمنا فرنسا الحنون والديمقراطية لكن لابد أن تقتصر كل هذه القيم العظيمة على البيوتات العريقة والأسر الكبرى والمخاتير وشيوخ القبائل وفرسان الكنائس الصليبيين الشمعية المتجمدة عن تضحيات المسيح والشرهة لعطايا شيلوك وسيرته العطرة، وألا يلوثها أهل التراب واللجوء للخارج وأهل السبيل اللبنانيون الضائعون في القارات، والغارقون في المياه ولكن لا بأس من أصوات اخوتنا المهاجرين العظام في البرازيل وحي الشانزلزيه في باريس.
قد يكون للمقاول لحية أو بلا لحية، فمثل هذه الديكورات مرتبطة بنمطِ الإنتاج الاستعماري وتنوعاتهِ في فسيفساءِ المنطقة وسفاسفها، وليس بغياب الأمواس وغلائها، وقد يكونُ جنرالاً طلعَ فجأة من أزقةِ المحرومين لكن الإرسال الغيبي أتاحَ له أن يعرفَ جميعَ العلوم العسكرية وخاصة المتعلقة بتخريب الوطن، وقد يكون جنرالاً فقد رتبه العسكرية كلها وهرب من دبابته إلى المراقص الأوروبية، وصارتْ لديه دبابة وهمية يريد بها اقتحام الوزارات والمكتب الرئاسي ليجلس مرة واحدة عليه ثم يموت سعيداً عجوزاً مخرفاً وهو بين الخرائب والجثث.
وهو في كل لحظة لديه بيان خطير للشعب، وفي كل دقيقة له رؤية استراتيجية مذهلة، فتتزايد مشروعاتُ الجمهورية مثل كوابيسه التي يريدُ إنزالـَها على يافوخ الإنسان العادي، وقد سمعَ وهو في هلوساتهِ الباريسية بجمهورياتِ فرنسا، وعرفَ شيئاً من تاريخ الثورة الفرنسية وحكوماتِها المتحولة عبر الصناعات وقوانين الحريات لا عبر الدراجات الهوائية، فتوهم انه مثل روبسبيير، ونابليون خصوصاً، لكن فتوحاته مثل تصورات جمهورياته الشبحية الكابوسية، وفي حين قام روبسبيير خصوصاً بقطعِ رقابِ الأكليروس الإقطاعي يريدُ الجنرالُ نشرَها في المعمورة وتحويلها إلى دراكولات تمتصُ دماءَ العامة.
وقد يكون جنرالاً أوغل في الدماء ثم اكتشفَ فجأة الحداثة والديمقراطية وهمه هزيمة بقية الجنرالات وجيوشهم وليس معه سوى بقايا جيش مهزوم عشرات المرات في حروبه الصليبية.
أما بقية المقاولين السياسيين فهم إما متحالفون مع جنرالات فاشلين في الحروب العسكرية، وإما مع جنرالات فاشلين في الدبلوماسية، وهذا الفشل المزدوج أهلهم لأن يكونوا الحكام، المعترف بهم، في ساحاتِ الانتخاباتِ والتهامِ خرافِ الشعب في يوم العيد.
لم يستطعْ المقاولُ التاجرُ أن يؤثثَ البيتَ الديمقراطي إلا بديكورات الأشباح الكنسية والعروبية وما أنزل الملكان ببابل وبصواني الذبائح الصحراوية ذات الذبحات الصدرية والسياسية وظلال الدولارات النفطية الشيطانية الملعونة الهاربة دوماً إلى الغرب الكافر العديم الرحمة الذي أوقف الحروب والمعجزات السحرية الطائفية لغرضٍ في نفس يعقوب. وهو يُصابُ بجلطةٍ جيبيةٍ حين يسمع كلمة علمانية فهي تحولُ قضبانَ الذهب إلى صيصان، فيرتعدُ ويتنفضُ خوفاً حتى انه يمتطي حصانه الخشبي ويرفعُ سيفـَهُ الروحي ليحارب هذه الملة الفاسدة الدخيلة على إيمان لبنان العريق.

صحيفة اخبار الخليج
20 مايو 2009

اقرأ المزيد

وثيقة التقدمي السياسية

انتهى المؤتمر العام الخامس لجمعية المنبر التقدمي يوم الجمعة الماضي، بالتصويت على وثيقة سياسية قدمتها اللجنة المركزية المنتهية ولايتها الى المؤتمر العام لإقرارها. وفي الوقت ذاته، رفعت اللجنة الى المؤتمر وثيقة اقتصادية تناولت العديد من المستجدات الاقتصادية التي أدخلت العالم في أزمة نتيجة للبطش الرأسمالي. الوثيقة السياسية للمنبر التقدمي تناولت اهم المعوقات التي تتسبب في عمليات التراجع السياسي، ولهذا ينبغي التوقف طويلاً ليس من أعضاء المؤتمر الخامس للتقدمي، بل من جميع المهتمين بالشأن السياسي، لما أشارت اليه الوثيقة من معوقات الاصلاح السياسي. وسلط المؤتمر الخامس الضوء على الاصلاح السياسي، فقد كان شعاره الفرعي، هو (لا اصلاح بدون اصلاحيين)، وهو شعار شامل لا يقتصر على الجهاز التنفيذي في الدولة، بل يتوسع هذا الشعار ليشمل جميع القوى سواء التنفيذية أو السياسية التي تتعاطى مع الشان المحلي، فلا يكفي ان ننادي بالاصلاح دون ان نكون مقتنعين بكل قضايا الاصلاح ومقوماته. كثيرون هم من ينادون بالاصلاح ويطالبون به، وتراهم في مقدمة صفوف من ينادي ويرفع الشعار، إلا انه في داخله لا يريد ان يرى إلا عكس ذلك، لأن هناك من يستفيد من ضياع الاصلاح. ما يحتاجه الوطن هو ان نرى من يخلص من أجل الاصلاح بعيداً عن مكتسبات حزبية او من أجل الزعامة والكرسي، كما يقول أحد أصحاب الكراسي (لو نازعني فيه ابني لاقتلعت عينيه). ان المؤتمر الخامس للتقدمي محطة مهمة، ليس على مستوى التنظيم فقط، لأنه وكعادته تناول الملفات بهدوء واتزان وحاول ان يجد لها الحلول، عبر حوار جاد وشامل، وهو ما عمل من أجله المكتب السياسي الماضي بعد إعلانه لمبادرته التي لاقت صدى واسعاً لما لهذا التنظيم من دور مهم على الساحة السياسية ولما يمثله من تاريخ طويل في العمل السياسي.
 
صحيفة الايام
20 مايو 2009

اقرأ المزيد

شباب ضائع

شبابٌ غضُ الأعمار في قاعة صغيرة يثيرُ الضجيجَ العنيف. أغانٍ وكلماتٌ مبتذلة، وضربٌ على الطاولات وحناجر متحمسة للهراء، وعدم احترام للناس وصرخات نابية ضد رجال الأمن في المكان. عربدة منذ الصغر تبدو مروعة ورهيبة بشكلٍ لا يطاق.
والجو في الخارج ملبدٌ بغيوم الماء والغبار، السيارات تتحول في بضع دقائق إلى حديد محنط بالتراب.
تصورت انهم من الوافدين. لا يزيد عمر الواحد منهم على خمسة وعشرين عاماً، شبابٌ متوردون، كل الدنيا مقبلة أمامهم، ولكنهم بدوا كمدمنين قدماء، كهياكلَ عظميةٍ فاقدةٍ للدم والنور، وكشيوخٍ يائسين من الحياةِ ومستعدين للموت بلامبالاة بأي شيء!
أخرجوا بطاقاتهم ليؤكدوا انهم بحرينيون.
(ظننتكم مجنسين وعراقيين من لهجتكم؟!).
(هي الأغنية العراقية التي نرددها، الريل وحمد!).
(نعم، أعرف هذه الأغنية الحزينة جداً!). (لكن ما الذي يجعلكم بمثل هذه الحدة والصراخ والفوضى؟!).
واصلوا إثارة الضجة، واقتربوا مني ، وسألوني من أنت؟ وما هذا الورق الذي بين يديك؟!
حدقوا في بريبة. قلتُ لهم: (إنني أدون الآن ماذا تفعلون، إنني كاتب وأسجل القصص والمشاهد والقضايا التي تجري أمامي، تجعلون الناس في المكان تستاء وتهرب، تبرزون عضلاتكم وتهددون كل من يقترب منكم. لماذا هذا الصراخ والضجيج؟).
انتابهم خوفٌ غريب. حدقوا في الورق، تساءلوا: هل سوف تكتب عنا؟ نحن لا نخاف، حتى لو أوصلت هذا لرؤوسنا. نحن نعمل في وزارة مهمة. لكن هل سوف تكتب أسماءنا؟
يقول الكهلُ الوحيدُ المهدمُ فيهم مثل خرابة، ومع هذا فهو ليس كهلاً بل هو قريب لسن الشباب، ولكنه مثل تمثال محروق، أو كتلة من العظام من دون لحم أو شحم، هيكلٌ عظمي فيه لحية صغيرة وجمجمة فارغة إلا من تجاويف العظام وعينين غائرتين في الكهف العظمي، تعودان ربما لعصر آخر.
ولهذا فهو في هذه السن المبكرة حُول للتقاعد!
إنه يصرخ بشكل مستمر، رافعاً قبضته النحيفة، ومع هذا يتوجه لكل الحاضرين بالقبل والعناق بالأحضان، وهو لا يعرفهم، ثم يتجمدُ في مقعده طالباً المشروبات لكل موجود، من دون أن يضع يده في جيبه ويخرجُ فلساً.
رحتُ أدون على الورق، فهدأت ضجتهم. سكتوا. راحوا يهدئون بعضَهم بعضا.
اقتربوا مني وتساءلوا مرة أخرى: (هل تكتب عنا؟)
دهشتُ كيف أن هؤلاء المراهقين يحترمون الكلمة هكذا. دوتْ كلمة (الجريدة) بينهم كأنها يوم الحساب!
يصرخون: (هل سوف تكتبُ عنا؟) (نحن لم نفعل شيئاً)، نحن لا نخاف، انشرْ ما تريد!
لكنهم هدأوا كثيراً! في دخيلة أنفهسم هابوا سلطة الكلمة.
وتداخل مع صراخهم العنيف دخول رجل أشبه بمجنون راح يوجه لهم التهديدات، ويطالب بإغلاق المكيف، وهو بلباس أشبه بتلك التي يلبسها الهاربون من المستشفيات النفسية!
كان يوما من أيام الخماسين، هذا الذي نعيشهُ بين الشتاء الذي لم يجئ، والصيف المندفع وهو يحملُ الحرَ والغبار وزوابع كاذبة من المطر!
يتقدم القائدُ الصغيرُ في شلة الفوضى نحوي، وعمره ثلاثة وعشرون عاماً، كان أكثر أفراد هذه الشلة شغباً وصراخاً، يغني الأغاني العاطفية بكل التلميحات الجنسية والألفاظ الوقحة، يقحم شتى الكلمات النابية ويظهر كأنه خرج تواً من سجن العقوبات المشددة، ثم إذا به يظهرُ كحملٍ وديع!
يقول: (أنا لستُ عراقياً! أنا بحريني ومن المحرق!)، ويظهر بطاقته الشخصية مبرهناً على براءته من العروبة.
قلت: (أن تكون عراقياً ليست تهمة!).
هدأ الشباب واهتمت القاعة بتدخل الكلمة، وارتاح المكان قليلاً من الشغب.
سألتهُ: (لماذا تفعل بنفسك هكذا؟ الآن هي الظهيرة وكأنك كنتَ تشربُ منذ الصباح الباكر؟).
قال: ( ليس من الصباح الباكر، بل منذ أمس، لم أتوقف عن الشرب.)!
ثم تدفق الشابُ فجأة: (أنا أعمل في وزارة، وراتبي لم يتجاوز مائتي دينار، وزوجتي تعمل أيضاً!).
قلتُ ؛ (هذا شيء جيد، اثنان يعملان في أسرة واحدة، ماذا تريد أفضل من ذلك؟ فلماذا هذا اليأس؟).
قال: (زوجتي لا يزيد راتبها على مائة وسبعين ديناراً. وإيجار الشقة هو مائة وسبعون ديناراً!).
سكتُ بحيرة وأسى.
أضاف: (لدي طفلان، ومعنا عمتي، التي تداري الولدين وتعتني بهما وتقوم بأعباء البيت. الشقة مكونة من غرفتين، ويغدو الاختلاء بزوجتي مستحيلاً في هذه الظروف. أطلب من العمة ترحيل الولدين لكي أتمكن من الانفراد بزوجتي! لكن ذلك لا يتم بسهولة!).
ران حزنٌ ثقيل عليّ.
خرج الشباب من القاعة بهدوء بعد ذلك.
رحتُ أفكرُ بالشباب الذين لا يمتلكون مثل هذه الشقة الصغيرة الخاصة، والذين لم يحالوا إلى قوائم الانتظار للزواج وللسكن والأولاد، ولإيجاد وظيفة، وينتظرون طويلاً بلا أمل، ثم يحولون عذابهم هذا وغياب أمانيهم إلى غضب وكوابيس للمجتمع.
وهم الأكثر والأسرع للغضب والعنف!

صحيفة اخبار الخليج
19 مايو 2009

اقرأ المزيد