المنشور

رائـد «الديمقراطية الخليجية» في مفترق الطرق


يتوجه الناخبون الكويتيون اليوم إلى صناديق الاقتراع لانتخاب نواب مجلس الأمة 2009 الجديد، في مشهد دراماتيكي مثير للجدل، في بلد يعتبر رائداً لما قد نسميه ‘’الديمقراطية الخليجية’’، تمتد تجربتها لفترة زمنية تقترب من نصف قرن (منذ 1962).
تُشكّل هذه الانتخابات مرحلة مصيرية للكويت المعاصرة، سيتمخض عن نتائجها توجه مؤشر بوصلة مصير الحياة الديمقراطية الكويتية، فيما إذا كان مجلس الأمة الكويتي القادم سيقضي فترة سنواته القانونية والدستورية الاعتيادية الأربع أم تُختزل – تلك الفترة- مبتورة كسابقاتها القريبات الماضيات. في هذا السياق لابد من الإشارة أنه رغم عدم السماح القانوني للأحزاب السياسية حتى الآن، فإن فرض الأمر الواقع هو سمة الوضع الحالي المتعلق بوجود تجمعات سياسية متباينة النهج والأهداف، تعود لمختلف الطيف السياسي.. ابتداءً من أقواها المتمثلة في؛ التيار اليميني الديني المتزمّت مروراً بالليبرالية، وصولاً إلى اليسار بتلاوينه (الحلقة الأضعف)، في التجمعات السياسية غير الرسمية وغير القانونية !
تميّزت الحياة البرلمانية الكويتية دائماً بديناميكية مشهودة، زادت سخونتها بدءً من منتصف سبعينات القرن الماضي، حينما تعثّرت التجربة لأول مرة، قام الأمير خلالها بحل البرلمان في سنة 1976 وعُلقت الحياة البرلمانية لمدة خمس سنوات، عادت فيها بجولات جديدة من الصراعات والمناكفات، برز خلالها فرسان جُدد في المعارضة البرلمانية، مما حدا بأمير الكويت مرة أخرى لحل البرلمان وتعليق الحياة النيابية في سنة 1986، لمدة ست سنوات أخرى، لم تعد خلالها الديمقراطية إلى الكويت إلاّ مع حرب التحرير، بمساعدة الدبابات الأميركية، في مستهل تسعينات القرن الماضي. إلاّ أنه مع نشوء الظرف الدولي الجديد وتأثيراته على الكويت في السنوات الفاصلة بين الألفيتين الثانية والثالثة، اضطر الحكم أن يحل البرلمان مرات عديدة؛ كانت الثالثة في سنة 1999، والرابعة في سنة 2006 ، والخامسة في سنة 2008 ، وأخيرا ( قد لا يكون آخراً ) السادسة في سنة 2009 الحالية
يتنافس في هذه الانتخابات 211 مترشحاً كويتياً ( 194 رجلا و 16/ 17 امرأة ) على 50 مقعداً برلمانياً، تنوب عن خمس دوائر انتخابية. يَعكس هؤلاء جميعهم تركيبة وذهنية المجتمع الكويتي (المحافظ وشبه المنفتح)؛ الإثنية والطائفية والقبلية، يُشكّل جُلّهم محافظين دينيين وقبليين مع أقلية عصرية من النساء والرجال، تهفو – الأقلية النوعية المستقبلية هذه – إلى تدشين مجتمع مدني عصري، عماده دولة المؤسسات والقانون، يرتكز على فصل مبدأ الدين عن الدولة (عدم استخدام الدين في الشؤون المصلحية السياسية). بينما لا تريد ‘’الأكثرية’’ السائدة الحفاظ على المنظومة المستبدة الذكورية (اجتماعيا وثقافيا) فحسب، بل تحاول فرض ‘’تغيير’’ إلى الخلف، من خلال تكتيك سلك طريق الابتزاز والضغط على الحكم.. أي الحلم في رجوع عقارب الساعة إلى الوراء بُغية العودة إلى الحكم ‘’الإسلامي’’ الخالص، ذي منهاج ‘’طلباني’’ قُحّ، الأمر الذي يتجلى في العداء الشديد لهذا التيار العتيق تجاه حق المرأة القانوني والديني للمساواة مع أخيها الرجل، المعيار الأول لمدى جدية أية حركة أو نظام يريد فعلاً التقدم للبلاد والعباد
شبّت الحملات الانتخابية مبكراً، شنّ فيها المترشحون الملتحون ، فرسان ‘’الإسلام السياسي ‘’، حملة شعواء ضد المترشحات من النساء (السافرات والمحجبات)، تركّزت في الأيام القليلة الماضية حول موضوعهم المفضل وهدفهم ‘’الأسمى’’ في الحياة، المركون على فلسفة القرونوسطية، المتأتية من عصور الانحطاط والجالبة لثقافة العداء الذكوري المطلق للمرأة واستبعادها عن ‘’الولاية الصغرى’’. بات المشهد الانتخابي وكأنه استفتاء عام على عدم أحقية المرأة في محاولتها دخول البرلمان، معتبرين ذلك أصعب من دخول إبليس الجنة، الأمر الذي عبّر عنه بوضوح ممثلو تحالف المجموعتين الأساسيتين للإسلام السياسي السلفي والإخواني (التحالف السلفي الإسلامي / الحركة الدستورية الإسلامية) من خلال الميديا (المرئية خاصة) المتوافرة لهم، وغيرها من الوسائل والأموال التي توجد تحت تصرفهم ما هو أُسّ المشكل الكويتي، الذي يشهد صراعاته وتناقضاته كل مجالات المجتمع الكويتي، يتركّز خاصة في الساحة والحلبة البرلمانية؟ .. وعلى ماذا يجري بالضبط هذا الخلاف المزمن، الذي لا يجد فيه الحكم في كل مرة مخرجاً آخراً غير الحق الدستوري الأعلى المتمثل في السلطة المطلقة للأمير في الحالات الاستثنائية، التي تُخوّل رأس الحكم من توقيف زمني مؤقت للحياة البرلمانية؟ بالطبع لا يختلف المجتمع الكويتي كثيراً عن المجتمعات الخليجية والعربية والإسلامية من حيث تركيبتها وثقافتها ومشاكلها الكثيرة. إلا أن للكويت (حالها كحال الدول الأخرى)، خصوصيتها أيضا، التي لا يمكننا في هذه العجالة من معرفة تفاصيل شعابها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والجيوبوليتيكية وغيرها، للوصول إلى أرقامها الإحصائية في شتى المجالات الحيوية (الاقتصادية والاستثمارية خصوصا) حتى يتسنى لنا تحليل الأرقام وتفتيت سحرها المكنون. يعزى ذلك بالطبع إلى شحّ قنوات حرية الوصول إلى مصادر المعلومات، مَثَل الكويت في هذا كمثل بقية البلدان العربية، التي تعتبر المعلومات الاستثمارية العامة والخاصة والوصول إلى دهاليزها من أسرار الدولة العليا.. على أية حال لنا وقفة أخرى حول الموضوع بعد ظهور نتائج الانتخابات.
 
الوقت 16 مايو 2009

اقرأ المزيد

ملفات ساخنة.. !!


جرياً على ما تعودنا عليه في البحرين، يتقدم ملف، ويتراجع ثان، ويطوى ثالث، ويعلق رابع، «ويلفلف» خامس، ويدخل سادس في دهاليز شتى، وقليلة تلك الملفات التي تناقش وتبحث بهدوء وتروٍٍ بعيداً عن الصخب وأجواء التشنج والانفعال والطأفنة والكيديات السياسية، ولا حاجة للتذكير بسائر الموانع والتحفظات والاعتبارات والاعتراضات والحسابات والمناورات والأهواء التي واجهت، ولاتزال تواجه ملفات ساخنة عديدة بات من المتعذر لجم التوظيفات المتعددة لكثير منها تبعاًً للمقاصد والنوايا.
من بين جملة الملفات تأتي في المقدمة ملفات الإصلاح، وتعزيز عناصر الإصلاح في المؤسسة التشريعية والرقابية، وإدارة التغيير الديمقراطي، ملف الشفافية والفساد وانفلات عيار المفسدين، وملف إدارة الاقتصاد، وملف الحوار الوطني، بالإضافة إلى ملفات تتصل بتعارض المصالح، جودة التعليم، التجنيس، المجتمع المدني ، والبيئة، والفقر والتنمية، والعدالة الاجتماعية، وحماية مقدرات الثروة الوطنية والمال العام، وملف التعديات على موارد الدولة من الأراضي والسواحل والبحار وفي ثنايا هذا الملف تجاوزات دفان البحر . هذا الملف هو بيت القصيد، وهو ملف يصدمنا مرتين، مرة في الفعل الذي غابت عنه الشفافية بأي مقياس، ومرة في رد الفعل الذي هوّن من شأن الفعل وكلاهما أعطيا حقهما من اللغط والإدانة.
إن بيانات لجنة التحقيق البرلمانية بشأن تجاوزات دفان البحر التي نشر جزء منها قبل أيام، تفرض هذا الاستدعاء، فهي بيانات وأرقام تستحق التأمل والوقوف عند قضية تجاوزات دفان البحر، وتدمير البيئة البحرية بكثير من الاهتمام والجدية وبدرجة عالية من الشفافية وبرغبة لابد منها في المراجعة والمعالجة والشجاعة المطلوبة المنزهة عن الهوى والمصلحة الخاصة.
من المفارقات التي لا تخلو من مغزى في شأن هذا الملف أن لجنة التحقيق البرلمانية المعنية بالنظر في تجاوزات دفان البحر، وجدت أن التشريعات القانونية ذات الصلة بحماية البحر وعددها 9 تشريعات، إضافة الى اتفاقيتين دوليتين لم تفلح جميعها في منع هذه التجاوزات أو وضع حد لها. صحيح أنه في ضوء الكثير من المعطيات والشواهد التي يزخر بها واقعنا الراهن ينبغي علينا ألا نذهب بعيداً في الطموح، فندعي أن اللجنة البرلمانية المعنية بالنظر في تجاوزات دفان البحر بمقدورها أن تضع حداً للتجاوزات المتعددة الأشكال والمستويات التي اشتدت وتيرتها في السنوات العشر الماضية، فإن الصحيح أيضاً أن هذا الملف هو اليوم أحد أهم وأخطر الملفات العالقة، لأنه شئنا أم أبينا هو ملف يتصل بالحاضر ويعني بمستقبل أجيال هذا البلد، كما أنه من جهة ثانية من بين أهم الملفات التي دارت حولها صفقات وشبهات، الأمر الذي لا يجب أن يقبل في ظله التبسيط والتهوين، أو الخطأ في الحساب والالتزام، ونعني هنا تحديداًً الالتزام بما نص عليه دستور مملكة البحرين في مادته «11» التي تقضي بالالتزام بالمحافظة على الموارد الطبيعية واعتبارها ملكا للدولة.
من هذه الزاوية، فإن من ينعمون بقسط وافر من البصيرة والفطنة، لاشك أنهم سيكتشفون بلا عناء بأن علامات استفهام وتعجب لا حصر لها تترامى من كل صوب إزاء هذه البيانات والمعلومات التي وردت في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية حول تجاوزات دفن البحر، معلومات من نوع بان أكثر من 92% من تراخيص الدفان تعود ملكيتها إلى أفراد من أصل 286 ترخيصاً صدرت في الفترة من 2002 حتى 2008 فقط، وأن 22 ترخيصاً فقط لا غير تعود إلى الجهات الحكومية والباقي استثمارات خاصة أما بهدف البناء أو لإقامة مشروعات بمساحات ضخمة من الأراضي التي تم دفنها دون إعلانات ومناقصات.. ! والبيانات التي خلصت إليها اللجنة لا تقف عند ذلك الحد فهي تلفت الانتباه إلى أنه لم يعد بالإمكان الاستمرار في عمليات الدفان دون وجود ضوابط قانونية، خصوصاً بعد أن لعبت عمليات الدفان «الردم » والتجريف الحصة الأكبر في التأثير السلبي على البيئة البحرية، أدى ضمن ما أدى إليه إلى فقدان البحرين لــ 465 نوعاً من الأسماك كانت تجوب مياهها الإقليمية ليتراجع عددها إلى 35 نوعاً بعد أن كان 500 نوع .. !! .
 إذن الضوابط القانونية كانت ولازالت الحاجة إليها واضحة وضوحاً يعمي الأبصار، واذا كانت التشريعات المنظمة لدفان الشواطىء والتوسع في البحرين وأهمها قانون رقم 20 للعام 2006 الذي حرم التصرف في الشواطىء والسواحل والمنافذ البحرية المخصصة للنفع العام والمطلة عليها المدن والقرى الساحلية بأي شكل كان، إلا في الحالات التي تقتضيها المصلحة العامة، وسمح القانون للوزير المختص إزالة موقع الدفن ادارياً وبالقوة الجبرية على نفقة المخالف بسبب ما تقتضيه المصلحة العامة، اذا كانت هذه التشريعات لم تستطع أن تأخذ مداها الحقيقي والمطلوب في حماية الشواطىء والسواحل والمنافذ، واستمرت التجاوزات حتى الآن وان جاءت تحت شعار «المصلحة العامة»، فهل سيكون بمقدور لجنة التحقيق البرلمانية وما خلصت إليه من نتائج في تقريرها خاصة في شأن التدمير البيئي الخطير أن تدفع إلى قراءة واعية وصحيحة لهذا الملف ومن ثم حسن التصرف فيه دون استخفاف بذكاء المواطن، لأن الكل يعلم أن هذا الملف فيه الكثير مما هو غير معقول والذي يراد لنا أن نعتبره معقولاً وعادياً وخادماًً للتنمية.. !! حللوا كيفما شئتم وقلبوا هذا الملف من جميع الوجوه.. لتتبينوا مدى المرارة التي تكتنف هذا الملف، وسيكون من سوء التقدير وسوء الفهم والتحليل ألا نكتشف بأن هناك قواسم مشتركة بين هذا الملف وملفات أخرى عديدة، حاولوا لعلكم تستخرجون العبر.
 
 

اقرأ المزيد

حول ندوة التعليم العالي الجامعي


في مطلع هذا الشهر استضاف مجلس الدوي في المحرق، المحاضر في جامعة البحرين د. ابراهيم عبدالله القلاف وقد كان موضوع الندوة رؤية تحليلية لمنظومة التعليم العالي الجامعي في مملكة البحرين «طموحات الميثاق».
كان بودنا في طرحه وسرده لهذه الورقة المهمة ان يتطرق بشيء من التفصيل عن تحديات التعليم العالي، ليس من حيث مخرجاته التي هي في أمس الحاجة لتتناسب ومتطلبات سوق العمل فحسب، وإنما أيضا لهذا الكم من الجامعات الخاصة التي أصبح بعضها يتنافس لتحقيق الربحية فقط على حساب التحصيل العلمي والبحث عن المعرفة واكتساب المهارات.
على أية حال، لماذا الكثير من الجامعات ومراكز البحوث في الدول العربية غير قادرة على التصدي للكثير من المشاكل والأزمات العلمية والثقافية؟ سؤال نعتقد نحن معنيون به لان التعليم في بلادنا رغم تطوره سيظل بحاجة إلى إصلاح.. ونعني من ذلك وجود تشريعات وقوانين وممارسات قائمة على الأسس الديمقراطية، وفضلا عن ذلك تطوير علاقة التعليم بالتنمية، وبالإضافة إلى هذا وذاك ميزانية التعليم التي يجب أن توفرها الميزانية العامة للدولة بسخاء.
على العموم يستطرد «القلاف» في مقدمة ورقته في إعطاء صورة واسعة عن المكانة العلمية المرموقة التي تتحلى بها الجامعات الأجنبية المتقدمة مثل أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا، ومن هنا كان يعتقد وهو محق في اعتقاده ان هذه المكانة لم تأتِ من فراغ بل بجهود كبيرة في مجال التعليم العالي، والبحث العلمي وفي هذا السياق يقول: ان أمريكا على سبيل المثال تنفق «40» في المئة على التعليم العالي و«35» في المئة على البحوث العلمية داخل امريكا من إجمالي ما ينفقه العالم عليها حسب إحصائيات 2005، ورغم كل ذلك تجد هذه البلاد صعوبة في تلبية طلبات الطلاب الراغبين في الالتحاق بها، وخاصة بعد أحداث سبتمبر التي زادت صعوبات الحصول على «فيزا» دخول الولايات المتحدة، الامر الذي دفع بالجامعات الأمريكية خاصة والأجنبية الأخرى عامة الى فتح فروع لها وعلى وجه الخصوص في الخليج والدول العربية، وكذلك الدول الآسيوية، ومن الحقائق التي اشارت اليها هذه الورقة هي ان بعض الحكومات العربية اعتمدت سياسات تنموية واستراتيجيات تعليمية لتضيق الهوة بين الدراسات الاكاديمية وسوق العمل والبطالة على المستوى العالمي، وكنتيجة مباشرة للعولمة ببعديها الاقتصادي والثقافي تم إعادة التفكير في التعليم الجامعي واعتباره سلعة خدماتية وسلعة قابلة للتصدير..
 لقد شجع هذا المفهوم العديد من رؤوس الأموال على الاستثمار في التعليم الجامعي الخاص. ومما له دلالة مهمة لدى «القلاف» هو ان التعليم الجامعي لاعتباره مكوناً أساسياً من عملية البناء، وبالتالي لابد له من تحقيق أركانه الثلاثة أو ما يسميه بالأعمدة الثلاثة:
 أولها ان يقوم على التفكير الحر وتشجيع النقاش والنقد والبحث وإخضاع كل ذلك لمقاييس كونية في سياق عصرها.. وحرية الرأي الجامعية هي حرية آراء نقدية تحليلية.
 والثاني الجانب المجتمعي وهو يقوم على بناء المواطن المنتمي لوطن ولغة وثقافة والوعي لفرديته وحقوقه كمواطن.
وثالث هذه الأعمدة او بالأحرى المرتكزات هو البحث العلمي الذي يحتاج الى استثمار والى تقدير اجتماعي..
ان اضعاف هذه المحاور قد تم بالفعل في التعليم الجامعي العربي، والاخطر من ذلك كما يقول: في بعض الدول حصل الأخطر اذ وجد فساد مستشرٍ طريقه الى المؤسسة الجامعية العربية وفي نظام التعيينات والترقية بدل معيار النجاح في البحث والتدريس. ويا ترى هل هذه الاعمدة متوفرة في جامعاتنا ومعاهدنا الحكومية والخاصة؟ وان توافرت الى اي مدى؟ وفي ختام الورقة يستعرض.. «القلاف» بعض المعلومات المختصرة جدا عن الجامعات والمعاهد التي فتحت بعد الميثاق الوطني عام «2001» ومن هذه المعلومات هناك اكثر من «25» جامعة ومعهداً مرخصة، وهناك ايضا ما يقارب «4500» طالب في التعليم العالي الخاص من اجمالي «25» ألف طالب.. وفي الختام أيضا يستعرض بعض نتائج مشروع تطوير التعليم والتدريب «مشروع مكنزي» من أهمها: ضمان الجودة هيئة مستقلة تستهدف الإصلاح، كلية المعلمين إصلاح المعلم وعملية التعليم، كلية البحرين للتقنية البوليتكنيك تستهدف تخريج فنيين. وأخيرا هناك تحذيرات أطلقها «القلاف» تجنبها يعد أساسا لتطوير التعليم العالي، ومن هذه التحذيرات المهمة أن إصلاح التعليم يجب أن لايحبط بمرئيات وانتماءات غير علمية وغير أكاديمية وغير مصلحية وربحية في آن واحد.
 
الأيام 16 مايو 2009

اقرأ المزيد

إعادة إنتاج العفاريت (3)

لم تقم الثقافة الغربية المسيطرة على المنتجين الشرقيين أو الغربيين، بإنتاج ثقافاتهم العقلانية، فمثل هذا الإنتاج يتواكب مع تغيير ملكيات الصناعة الخاصة، التي تفيضُ عليهم بخيراتها، وإذا كانت ثمة عناصر عقلانية فيها، فهي لا تسود ولا تنتشر بشكل جماهيري.
بل توسعت الثقافات الغربية السائدة المعبرة عن أولئك المالكين للفوائض الاقتصادية غرباً وشرقاً، في نشر الخرافات وتيارات تغييب الحفر العقلاني.
كانت المدارس (الرفيعة) الأدبية والفنية كالسريالية والدادائية والبنيوية والشكلانية وغيرها تمثل عبادات الأشكال المفرغة مما هو حقيقي وما هو إنساني كفاحي، فتتركز في الخطوط والنقط المجردة والبُنى، ويتم تغييب الإنسان وإزالة وجوده الاجتماعي، وتـُعطى لتلك الأشكال أهمية مساوية لعبادة النجوم والكواكب والأصنام، وتغدو عبادة الأشياء تخريفاً على أساس تحديثي، وتنقل للمنتجين الثقافيين لينشروها ويعطلوا ملكات الحفر النقدي في مجتمعاتهم.
لكن الجمهور العادي لا يفهم مثل هذه المنتجات الصعبة، كما هي مستوياته وظروفه، فتـُسوقُ له الخرافات عبر الأفلام، وتظهر الوحوشُ على هيئات مصاصي دماء وموتى وقوى غامضة تنبعث من الكواكب والقبور والأرواح ويجيء سكان المدارات البعيدة ليحكموا الأرض، ويتشكل أفراد بقوى خارقة، “سوبرمان” يرفع الطائرات على كتفيه ويحول مسارات الصواريخ في دقائق، وحيوانات قديمة هائلة يتم ظهورها في المدن الحديثة والبشرية تغوص في حروب نووية كارثية وغيرها من السيناريوهات الخرافية المرعبة والمسلية، وتـُحشدُ معها تقنياتٌ رهيبة لتجسيدها وجعلها حقيقية، مثلما يترافق مع ذلك نشر المخدرات وأشكال التسلية الخطرة والأدمان.
وتـُسمم الجامعات والثقافة وعمليات الإنتاج الفكري بالمستوى (الرفيع) فيما يُسمم العامة بالمستوى المتدني، وبهذا تجد ترنح الثقافات العربية من هذه الفؤوس الواسعة الانتشار، فالكثير من الشعر يغدو ذاتيا نرجسيا أو فقاقيع، واللوحات تقلد اللاوجود الثقافي الغربي الخ…
ومع بقاء الرأسماليات الحكومية العربية الفاسدة المستنزفة للثروات وللأدمغة، وبقاء الأرياف غير المصنعة، والنساء الأميات يواصلن إنتاج الخرافة، تفيض البلاعات.
وتظهرُ مؤسساتٌ لعبادة الشيطان، ويُقال إن ذلك جزء من الحرية الدينية، ويُقال إن الإلهَ أو الشيطان تسميات خيالية مشتركة.
والقضية ليست الحرية هنا ولكنها في إلغاء التراث الإنساني المتمثل في الأديان، وصور الإله والملائكة واليوم الآخر هي رموزٌ لإنتاج الخير في تاريخ الإنسان، جوانبٌ روحية لتوسيع الضمائر وإحيائها في حالة الموات، ولكي لا تغدو الجريمة مبررة، والمذابح محترمة، وحين جاءت الهتلرية أنشأت الصليب المعقوف، صليبٌ يغيبُ التضحية، ويبررُ الحروب والقتل!
وهذا لا يعني جعل الفكر الديني مطية للاستغلال وهيمنة الطبقات والأمم، بل يعني رؤية التاريخ الديني كنضالٍ للإنسان في ظروفٍ فكرية مغايرة لنضاله في ظروف العلوم الحديثة.
وكم يحاول بعضُ المثقفين جعل تاريخ الأديان ومواده وسيلة لاستمرار الخرافة والقهر، ولهذا يشحنونه بما يجعل العقل يطير فوق ظروف الأرض الحقيقية، لتبرير اللاعقلانية!
فيظهر مثقفون يدافعون عن وجود الأرواح والروحانية ويعرضون فشل العلوم والسببيات والقوانين، في مواجهة ماديين آليين يريدون سحق الأديان بشكل لا يقل عن لا عقلانية أولئك.
يغدو الوجود مصادفة، والخير مصادفة، والعقول متاهة.
وفي ذات الوقت تبرز عبادة الشيطان وعبادة الدولار.
وفي ذات الوقت يفقد الكثير من الشعوب سيطرتها على أحوالها وأسواقها، ومعيشتها، وتتشردُ في أركان الأرض بحثاً عن لقمة العيش، حاملة معبوداتها وكتبها الدينية في أرجاء المعمورة، قد تغرق في قوارب أو تتلاشى في مجازر، وتنتفض الأريافُ بحروبٍ طاحنة مخربة لنفسها قبل الآخرين، وتلجأ إلى القرصنة وحروب العصابات لتأكيد عيشها الذائب في العولمة الرأسمالية الحديثة.
في حين إن كل أدوات الحداثة والعقلانية لم تستطع أن تضع حدا لفوضى الوجود السياسي الراهن، مع ازدهار الأنانيات الطبقية في كل مكان.
يعود الكثيرون إلى الخرافات، ويغدو بند مطاردة السحرة في كل اجتماعات وزارات الدول العربية والإسلامية المخصصة لتنمية العقلانية وبشكلٍ مستمر من دون إلقاء القبض على الفقر والبطالة والجوع والتشرد والهجرة.
ورغم نشر بعض التقنيات في المدارس فإن الطلبة يعودون إلى صفحات التنجيم وقراءة حظوظهم في الجرائد، بسبب أن الخطط الحكومية لتشغيلهم غير مضمونة.
في هذا الجو العالمي تنتعش زيارات البابا وتحصل المنظمات الدينية على مساحات عمل تخصصها في زيادة نشر اللاعقلانية، وتهاجم الحداثة والعلمانية والديمقراطية سبب مصائب العالم في رأيها، وفي هذا الجو الخرافي الدموي، يبرر مثقفون المجازر بدعوى المقاومة، ويؤججون تصادم الأديان والشعوب، ويعودون لاستحضار السحر والشعوذة وإدراجهما في الحياة اليومية.
لا عجب في مثل هذا الجو أن يستعين حملة رسائل الدكتوراه بأرواح أسلافهم عبر القبور ويستنجدون بملاحظاتهم المهمة، وتظهر دراساتٌ عن أهمية البصل في أشعار الأمويين، وعن مدى الملوحة في مياه البحار، وتكثر الخطب عن التنوير في قرى ومجمعات قـُطعت عنها الكهرباء، وتلتهم الأغاني تسعين في المائة من بث الفضائيات العربية، ويظهر قادة السحر في السماء وهم يرشدون الشعوب لكيفية محاربة الأمراض ودحر التخلف وهزيمة الصهيونية.

صحيفة اخبار الخليج
14 مايو 2009

اقرأ المزيد

صحافة الورق وصحافة الإلكترون

انشغلت إحدى جلسات منتدى دبي الإعلامي الثامن الذي انعقد على مدى يومين، في الحادي عشر والثاني عشر من هذا الشهر بمناقشة مستقبل الصحافة الورقية، أمام ما باتت الصحافة الإلكترونية تطرحه من منافسة، بالطريقة التي يبدو معها المستقبل لهذه الأخيرة. وكما في كل سجال حول هذا الموضوع، وُجِدَ متحمسون لكل رأي من الرأيين المتصلين بالأمر. محبو الصحافة الورقية ومدمنوها، وصناعها بالطبع، يرون أن مكانتها ستظل مكينة، ومهما اتسع الحيز الذي تحتله الصحافة الرقمية، فإنها لن تفلح في زعزعة مكانة الصحافة الورقية من قلوب وأذهان الناس، الذين اعتادوا ألفة ورق الجريدة، وطريقة قراءتها، ومتعة أن يلمسوها ويتصفحوها بأياديهم، ويأخذوها معهم إلى المكتب والبيت والمقهى. أما أصحاب الرأي الآخر فقدموا معطيات باعثة على التشاؤم حول مصير الصحيفة في صورتها التي نعرف اليوم، التي عليها أن تعد العدة لجنازتها الوشيكة، وقرأت على أحد المواقع الإلكترونية أنه مع الإنترنت تدهورت مبيعات صحف عدة، وانتهى بها المصير في ملكية شركات كبرى تعتبر الصحف منتجاً، شأنه شأن المنظفات أو المحركات، مثلما حدث لصحيفتي «لوس أنجلوس تايمز» و«شيكاجو تريبيون». في صيف عام 2006 توقعت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية أن تختفي الصحافة الورقية أمام اكتساح الصحافة الرقميّة وطموح إعلام الإنترنت والثورة الإلكترونية، موضحة أن أبناء الجيل الجديد لا يحبذون قراءة الصحف الورقية. مؤلف كتاب «نهاية الصحافة» فيليب ميير توقع أن عام 2043 سيشهد طباعة آخر صحيفة ورقية في الولايات المتحدة، أما المحرر العلمي في «نيويورك تايمز» ايكل روجر فبدا أكثر تشاؤماً حينما قال إن الصحافة الورقية ستصدر آخر أوراقها عام 2017. ولا تسأل هؤلاء عن البرهان، فلديهم من المعطيات ما يكفي: صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» أوقفت نسختها الورقية نهائياً، مكتفية بنسختها الرقميّة، التي يتجاوز عدد زوارها مليون متصفح، وفيما وصلت ديون صحيفة «اللوموند» الفرنسية إلى 150مليون يورو، فإن نسختها الرقميّة تحقق نجاحات متواصلة لدى الناطقين بالفرنسية، في فرنسا وخارجها. أنا واحد من أبناء الصحافة الورقية ومحبيها، ومن المأخوذين بسحر الإمساك بصفحات الجريدة وتقليبها، وأنا مسترخ على السرير أو الكنبة، ويعز عليّ أن أقدم معطيات مؤداها أن على هذه الصحافة أن تلوّح لمحبيها تلويحة الوداع، بعد عقد أو عقدين أو ثلاثة. لكن للزمن اعتباراته التي لا تأبه كثيراً أو قليلاً بالرومانسي أو الحميم من عاداتنا.
 
صحيفة الايام
14 مايو 2009

اقرأ المزيد

إعادة إنتاج العفاريت (2)

يؤدي ازدياد الاضطرابات في الحياة السياسية العربية إلى طريقين: إما إلى توسع السيطرة العقلانية على الاقتصاد وإما السماح للقوى المتنفذة الاستغلالية بالتلاعب به كما تشاء مصالحها.
طريق السيطرة العقلانية يقود إلى ازدهار العلوم بما فيها علوم فهم الأديان، والثقافة عامة، وإلى إعادة لحمة القوى الشعبية وامتلاكها مواردها الاقتصادية، وهي أمورٌ تقود لزعزعة الثقافة السحرية والغيبية فهي ليست سوى انعكاس لفوضوية الاقتصاد وتهميش العاملين.
أما طريق السيطرة الآخر الذي أنتج أغلب التاريخ الثقافي العربي، فهو يجعلها تزدهر، وهي تستغل مصطلحات الدين ورموزه من أجل إنتاج ثقافة لا تسيطر على واقع، ولا تجعل الجمهور يتحكم في إنتاجه الاقتصادي والخيرات التي يصنعها.
ولهذا كان نمو الموجات الأولى من الحركات الدينية يتم مع نشر السحر بصورةٍ واسعة، وهذا يتجسدُ بجعل العوالم الغيبية متحكمة تحكماً مطلقاً في الكائناتِ البشرية الشبحية، التي تفقدُ أي دورٍ خلاقٍ في تغيير المجتمع بشكلٍ عقلاني مخطط.
من هنا فهي تتوجه للجوانب الدينية الغامضة، التي يتداخلُ فيها الواقعُ مع الغيب، وهي تلك العوالم التي حسم الإسلامُ الموقفَ منها، وجعلها سلبية فاقدة التدخل في الحياة البشرية، كالجن والأرواح.
وحتى لو فرض جدلاً أنها غير موجودة فيزيائيا إلا أنها موجودة في الوعي البشري والوجود الاجتماعي، وهذا لا يغير من دورها.
فهناك استغلال للمناطق المتراوحة بين الوجود والغيب كالموت، وهي منطقة خطيرة محفوفة بالأسرار والمخاوف، وذلك عبر جعل البشر يرتعدون خوفاً منها، فتتراءى لهم الثعابين والنيران والأرواح المختلفة، التي عادة ما تـُدخل في مثل هذه المناطق البرزخية عبر التعبئة السحرية التصويرية السينمائية بقصد نزع العقلانية من وعي المسلم، ويتحول المؤدلجُ السحري هذا إلى قائد سياسي، يبطشُ بالعقل، ويهمشهُ، ويحيلُ الإنسانَ إلى أداة في يده من أجل المشروعات التي يخطط لها.
كما يقومُ بالتحكم في النصوص الدينية وإعطائها الأهداف التي يريدُها المتمثلة في زوال العقلانية، وفي اعتبار التاريخ وحركة المجتمع لا يسيران بقوانين، وأن الإسلام الأول لم ينتج خطة عقلانية للسيطرة على الاقتصاد، فتغدو منتجات التاريخ والتراث كلها بيدِ المنتج الساحر الحديث التي يوجهها كيفما شاءت مصالحُ الجماعات والدول الاستغلالية التي تتصرف بالمال العام كيفما تشاء.
إن الأغلبية الشعبية الجاهلة والأمية التي عاشتْ طويلاً في ثقافةِ السحر، يُعادُ السيطرة عليها عبر مثل هذا التداخل بين السحر والدين، فتتحول الآياتُ والجملُ المنتزعة من سياقاتِها إلى أدواتٍ للحكم والحروب والكوارث.
فيمكن للكلمة حسب هذا الفهم أن تحدث الانتصارات في الحروب، ويمكن استدعاء بعض المنجمين لمعرفة مصير الحرب مع إسرائيل، وإعطاء الجنود مفاتيح الجنان وهم يدوسون على الألغام في جبهات القتال ويفقدون شبابهم، ويغدو أمراء الجماعات هم المحددون لجنس الكفار – سواء كانوا من جنس المسلمين أم من غيرهم – بعد أن التحموا بالذوات العليا، فهم الذين يستطيعون نقل المجتمعات المتخلفة والفقيرة إلى الاسلام الأول عبر دكتاتوريات المجموعات الصغيرة الارهابية فيقررون الحياة والموت للناس.
إن حصول هذه القيادات على تلك الإمكانيات الخارقة يحيلُ الإسلامَ العقلاني التحديثي عند هؤلاء إلى شعوذةٍ سياسية، فهم قادرون على إقناع الجمهور الحاشد بأن يعود للوراء وأن يكون ضد مصالحه وتقدمه.
وهذا حدث ليس فقط لأن الجمهور جاهل وأمي، لكن لأن الجمهور يأمل في تسوية مشاكله الاقتصادية والاجتماعية الضارية بنفحةٍ سحرية، بتعويذةٍ تقدمُ له العفريتَ الهائل الذي ينقلهُ بين ليلة وضحاها إلى الجنة الأرضية، ويغدو الشباب غير المنتج وغير المشتغل في الصناعة وغير الدارس للعلوم وغير المصنعة في زنازين الدول الشرقية، يريد بلا عمل شاق أن يرى نفسه فجأة بين الحوريات، وأنهار اللذائذ حوله.
تتحول الجماعات الدينية السياسية إلى قوى خارقة ملكتْ السحرَ القادر بين عشية وضحاها على نقل المؤمنين للجنان الأرضية، فإن لم تستطع نقلتهم للجنان الأخروية، ولهذا تتحولُ سياساتـُها لبرامج سياسية فقيرة بفهم المجتمع وبفهم الدين معاً، معتمدة على زرع الأوهام في عقول الناس، فعبر وصفة (روشتة) حكم الأقليات أو الشركات الإسلامية أو شعارات العودة للشريعة، تجعل الناسَ يتصورون أن هذه الشعارات قادرة على حل أزماتهم المعيشية في غمضة عين وانتباهتها.
في حين ان أزماتهم وتخلفهم نتاج “علاقات اقتصادية” متجذرة بحاجة إلى تحليلات عميقة، ومشروعات طويلة الأمد، فنقل الملكيات العامة الحكومية للناس وإحداث تنميات كبرى، وتوزيع فوائضها للمشروعات والحاجات الأهلية، مسألة تحتاج إلى عشرات السنين، إذا عملت وتوحدت الجماهير الشعبية وتعلمت وازدهرت بالعلوم.
إن الفانوسَ السحري السياسي غير موجود، وإنه إذا لم يحدث الحراك الإنتاجي وتقلص هيمنات الدول على الاقتصادات والدخول والعمالة والفوائض، وبقيت الجماهير في أميتها وسحريتها وتخلفها وأعمالها الحرفية المحدودة، فلن يحدث أي تقدم، وسوف يزداد الفقر وتتكاثر الأرواح والأشباح.
إذا لم يحدث تعاون واسع بين القوى السياسية الديمقراطية لفهم الواقع الاقتصادي بالدرجة الأولى، وفهم عملياته ودخوله وكيفية تغييره، فلا تفيد أي وصفة أخرى، خاصة الوصفات السحرية.

صحيفة اخبار الخليج
13 مايو 2009

اقرأ المزيد

الجواهري في براغ

سأعود إلى كتاب الصديق الدكتور عبدالحسين شعبان عن شاعر العراق والعرب محمد مهدي الجواهري الذي أهداني، منذ أيام، منه نسخة، في طبعته الثانية المنقحة، حين التقيته في مؤتمر بمدينة الشارقة، ولكن الكتاب أعاد الى ذهني ذكرى تخص الجواهري وإقامته لسبع سنوات متواصلة في مدينة براغ الجميلة، عاصمة جمهورية التشيك اليوم، وتشيكوسلوفاكيا في تلك السنوات. في عام 1996 قصدتُ براغ سائحاً لأيام. صديقي منذ أيام الأنشطة الطلابية والشبابية رواء الجصاني ابن شقيقة الجواهري، المقيم في براغ أخذني إلى مقهى في قلبها. قال لي انه من المقاهي المفضلة للجواهري في المدينة، فطالما قصده، ولعل فيه لمعت في خياله الخصب مطالع قصيدة أو أكثر من روائعه التي خلدها الزمن. حين عدت إلى الإمارات، وكنت حينها مقيماً فيها، كتبت انطباعاتي عن براغ وعن الجواهري في زاويتي اليومية في جريدة «الخليج»، وبحثت عن هذا المقال بين أوراقي منذ فترة فلم أجده لحظتها. ومنذ أسابيع وربما شهور قليلة كانت الشاعرة الإماراتية خلود المعلا تعد الرحال للسفر في مهمة إلى براغ، فسألتني: هي المرة الأولى التي ازور فيها هذه المدينة، فهل تستحق أن ترى؟ فأجبتها: يكفي براغ مجداً أن الجواهري أحبها. يتذكر دارسو الأدب التشيكيون بفخر ما قاله الجواهري عن مدينتهم الجميلة، التي تكاد تكون مدينة مطلية عن آخرها بماء الذهب، حيث القباب الذهبية التي تعلو الكنائس والمتاحف والمباني، لذلك سموها مدينة الذهب، وهي من المدن الأوروبية القليلة التي نجت من الدمار فترة الجنون النازي، لأن هتلر باغتها بالاحتلال في بدايات الحرب قبل أن تستعد للمقاومة. بُهر الجواهري ببراغ التي اتخذها ملاذاً يوم كان القمع الدموي يطبق على العراق مطالع ستينيات القرن العشرين، وما أكثر ما حياها في العديد من قصائده، بينها تلك التي يقول مطلعها: «أطلتِ الشوط من عمري * أطال الله من عمرك/ وما بُلغت بالسر * ولا بالسوء من خبرك/ وغنتني صوادحك النشاوى * من ندى سحرك/ ولم يبرح على الظل * بعد الظل من شجرك». لكن كما السياب الذي في غربته ظل يهتف: «الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام * حتى الظلام أجمل وهو يحتضن العراق»، فان عشق الجواهري لبراغ، لم ينسه «دجلة الخير»، التي ظلت توق الروح ومقصدها، لأنه مهما أصبح الوطن جاحداً بحق أجمل وأروع أبنائه، فيدفع بهم قسراً الى ما وراء أراضيه، ليس بوسعه أن يحول بينهم وبين حبهم له. ومن براغ بالذات خاطب أبو فرات دجلة: «حييتُ سفحك عن بعد فحييني * يا دجلة الخير يا أم البساتين/ حييتُ سفحك ظمآنا ألوذ به * لوذ الحمائم بين الماء والطين/ يا دجلة الخير يا نبعا أفارقه * على الكراهة بين الحين والحين/ إني وردت عيون الماء صافية * نبعا فنبعا فما كانت لترويني».
 
صحيفة الايام
13 مايو 2009

اقرأ المزيد

كيف مر يوم الصحافة العالمي؟ (1)

* القيادة السياسية والصحافة
لربما تكون بلادنا، مملكة البحرين، من الدول العربية القليلة التي تولي اهتماما فائقا للاحتفال بمناسبة يوم الصحافة العالمي على الصعيدين الرسمي والشعبي معا بما يليق وعظمة هذه المناسبة العالمية التي تعكس مكانة “السلطة الرابعة” في المجتمع وما تلعبه من دور محوري فائق الاهمية في الحياة السياسية في أي دولة تحظى فيها الصحافة بذلك الاهتمام.
فعلى الصعيد الرسمي فإن الاهتمام بهذه المناسبة جاء معبرا عنه على أعلى مستوى في الدولة ممثلا على وجه الخصوص في الكلمة السامية التي وجهها جلالة الملك ونشرتها صحافتنا المحلية في يوم المناسبة نفسه الموافق 3 مايو 2009، وكذلك في اللقاء الذي عقده سمو رئيس الوزراء قبل أيام قليلة من المناسبة ذاتها مع رؤساء تحرير الصحف المحلية. ففي الكلمة التي وجهها جلالة الملك بمناسبة “اليوم العالمي لحرية الصحافة” أكد جلالته ان المشروع الاصلاحي ثبّت أهمية الصحافة باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز الحوار والتنمية والتطوير.
وأضاف جلالته: “ان البحرين تحث الخطى نحو أفق من التطلع الديمقراطي يحافظ على توهج المكتسبات في الذاكرة، ويجسد الاشعاع الدائم لمبادئ وقيم الاصلاح التي آلينا على أنفسنا، قيادة ومواطنين، ان نعززها ونؤكدها، من خلال الحفاظ على شراكة رؤيوية واحدة عمادها الميثاق والدستور ومؤسسات التمثيل الشعبي، وهي خيارنا الذي لا نحيد عنه، ورائدنا في استكشاف درب الغد المشرق دوما بإذن الله”.
كما أكد جلالته ان “حرية الرأي والتعبير صيانة لا تقبل المزايدة، مضمونة بموجب الدستور والقانون”. كما أشار عاهل البلاد الى ان الاحتفال بيوم الصحافة يأتي في ظل سعي السلطتين التشريعية والتنفيذية الى تحقيق أقصى حد من الأمان والحماية والحرية للصحافة والصحفيين في اطار القانون، وتنظيم الاطر الاجرائية التي ترتب ممارسات العمل الصحفي.
وأكد الملك استمرار العمل معا لتطوير المشهد الاعلامي واستكمال أدواته وفقا للمعايير المهنية وثقافة المجتمع. أكثر من ذلك فقد دعا جلالته الى اطلاق مبادرات مجتمعية وحكومية من أجل تعزيز دور الصحافة في حماية الوحدة والسلام الاجتماعي وتطوير مفهوم الاعلام المدني الذي ينمي الشعور الوطني الصحيح والمساند لروح المسئولية الوطنية القائمة على أمانة الكلمة ووازع الضمير.
ولئن كان ذلك أبرز ما تضمنته كلمة جلالة الملك من مضامين مهمة واضحة في الدفاع والتمسك بحرية الصحافة كركيزة أساسية من ركائز مشروعه الاصلاحي، فإن لقاء سمو رئيس الوزراء الذي عقده مع رؤساء تحرير الصحف المحلية لم يقل أهمية ووضوحا في التعبير عن كل تلك المضامين والقيم وفي التمسك والدفاع عن حرية الصحافة التي تسمى مجازا بـ “السلطة الرابعة” تقديرا لدورها الرقابي اسوة بالسلطات الثلاث الدستورية في الدولة الحديثة.
* * *
} رئيس الوزراء ورؤساء التحرير
التقى سمو رئيس الوزراء رؤساء تحرير الصحف اليومية عشية الاحتفال بـ “اليوم العالمي لحرية الصحافة” وجرى اللقاء تحديدا في يوم الاربعاء الموافق 29 ابريل .2009 وتميز هذا اللقاء كالعادة بالحيوية والتفاعل مع رؤساء مؤسسات “السلطة الرابعة”، وكانت أحاديث سموه المسهبة وحواراته خلال اللقاء تنم ليس فقط عن تقدير سموه الشديد للدور الكبير الذي باتت تلعبه صحافتنا في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، بل تنم أيضا عن احساس عميق ووعي كبير بأهمية تفعيل ذلك الدور باعتبار الصحافة أداة محورية لنهوض الأمم وتحريك دورتها الدموية واكتشاف كوامن صعودها وكوامن الكوابح التي تحد من انطلاقتها متجلية في الاخطاء والسلبيات التي قد تحدث في أي سلطة من السلطات الأربع: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، و”الصحفية” كسلطة رابعة مجازا تقديرا لدورها الكبير الرقابي الفائق الاهمية.
وما كان سموه ليعي ويؤمن بهذا الدور الكبير الذي تلعبه الصحافة في نهضة الامم وفي تصحيح مسيرات الدول لولا تجربته الثرية الطويلة ضمن القيادة السياسية للدولة على امتداد ما يقرب من نصف قرن، فضلا عن سعة أفقه وإلمامه الثقافي والاعلامي والصحفي. وفي ذلك اللقاء أكد سموه ان صحافتنا المحلية تركت أثرا بارزا في الوعي المجتمعي، وأفرزت العديد من الاقلام الجديدة التي هي اليوم مصدر فخر واعتزاز بما تقدمه من اسهامات تشكل جزءا فاعلا في المجتمع.
ومن الكلمات البليغة المأثورة المرتجلة التي اطلقها سموه خلال لقائه المفتوح مع رؤساء التحرير قوله: “إن الصحافة هي من يطلق النور عبر الظلام”. وأضاف سموه: “ونحن نعتز بأن صحافتنا تشكل عنصرا محوريا برصدها لمسيرة الخير والنماء، التي تعيشها المملكة ومتابعتها لكل قضايا الوطن”، كما جدد سموه خلال اللقاء الترحيب بالنقد الرصين الذي تمارسه الصحافة والمتأسس على الموضوعية.
وبطبيعة الحال ثمة نقاط عديدة أخرى عبر عنها سمو رئيس الوزراء خلال لقائه المهم المثمر مع رؤساء التحرير عن تمسكه وإيمانه بحرية الصحافة مما لا يتسع المجال في هذه العجالة للإشارة اليها وتحليلها، وكان من اللافت الذي أحسبه مريحا لرؤساء التحرير ويتسم بالحيوية والتجديد في بروتوكول اللقاء ان اجتماع سموه معهم جرى على طاولة مستطيلة تصدرها سموه.
وإذ جرت بالاضافة الى كلمة جلالة الملك المفدى ولقاء سمو رئيس الوزراء احتفالات وفعاليات أخرى على الصعيد الرسمي ذاته ممثلة في وزارة الاعلام خصوصا، فماذا عن الاحتفال بالمناسبة على الصعيد الشعبي، وتحديدا الصحافة؟ وكيف عبرت في هذه المناسبة عن تطلعاتها وآمالها؟
 
صحيفة اخبار الخليج
12 مايو 2009

اقرأ المزيد

إعادة إنتاج العفاريت (1)

حين تسيطر الأغلبية الشعبية على الموارد العامة يقل حضور العفاريت في الحياة. فهي تعبير عن عدم سيطرة الإنسان على واقعه الاجتماعي وحياته وأمراضه.
وقد شكلت سورة الجن في القرآن تعبيراً ترميزا مثاليا عن إلغاء دور العفاريت في حياة المجتمع وإبعادها عنه، بجعلها جزءًا من عالم الإسلام، من عالم الخير، فانتهت تدخلاتها الشريرة، وانتهى حضورها في عالم الإنس، وغدت السيطرة لدى الإنسان.
ان الأدوات السياسية والاقتصادية لذلك العصر المحدود الثقافة العلمية، لكن المسيطر على ثروته المادية الموزعة على الأغلبية، تجعل مقاربته مع عالم الجن مقاربة دينية مثالية، فلا تتم إزالتها بل تتم اسلمتها.
ولكن المسلمين في مسيرتهم التالية وبسبب عودة الأغنياء للحكم، وإبعاد الأغلبية عن السيطرة على واقعها الاجتماعي، أعادوا حضور الجن بكثافة، وصار الجن الشرير خاصة هو المهيمن على الفضاء الثقافي.
فكلما فقد الإنسان السيطرة على واقعه، وتاريخه، وصار في مهب الرياح السياسية، لجأ لما هو خارج وجوده الاجتماعي، واستعان بالقوى الخفية ذات القدرات السحرية لكي تعيد له صحته أو ماله أو الأعزاء الذين فقدهم أو الشباب الذي مضى أو لكي تزيل العقم الجسدي والعقم الروحي، ولهذا لا بد من تقديم أعطيات لها مثل القوى الشريرة الاجتماعية وعمليات استرضائها وخدمتها.
كانت الكلمة القرآنية والثقافية والتوحد الشعبي الواسع هي أدواتهم للسيطرة على الواقع الاجتماعي، لكن الواقع فلت من أيديهم لغياب الأدوات السياسية المناسبة، وجاءت قوى الأغنياء وحكومات الأقليات لتلغي ذلك الانسجام بينهم وبين وجودهم الاجتماعي التعاوني.
فراحوا يتصورون تاريخهم السابق كتاريخ من الأساطير ومن التدخلات السحرية العجائبية، فالكائنات والحيوانات والرموز العجيبة كلها هي التي صنعت تاريخهم الذي صنعوه هم بأيديهم، ويتراجع حضورهم الجماعي الذي تمزق فرقا وأحزابا.
لا يمنع من هذا ان المسلمين لم يسيطروا على ثقافة الخرافة كلياً، فهي نتاج موغل في القدم، فثقافتهم كانت تؤمن بالرقى والتعاويذ لكن المسيطر عليها بالقرآن، وهو جانب يماثل تحييد الجن وأسلمتها، والجانب التنويري الإسلامي حسمَ الخيار في بعض الجوانب، خاصة في تنحية الكائنات العلوية – الأرضية الشريرة، متوافقا مع الكائنات العلوية الخيرة، والأفكار المثالية الفكرية الغيبية الخيرة الأخرى باعتبار العالم نتاج إله، وهو الذي يحكم الكون بالخير والفترة الأرضية هي فترة مؤقتة تجريبية، وبالتالي فإن الأفكارَ الدينية هي التي تعاونه على استئصال الشر من حياة البشر.
ومع غياب الدولة الشعبية التي ترفد هذه التكوينات الفكرية العامة الخيرة، وتصاعد سيطرة الأشرار الاجتماعيين السياسيين الاستغلاليين، فإن الكائنات السحرية الشريرة تنطلق هي الأخرى في الحياة الاجتماعية.
لا يستطيع الإنسان في هذا المجتمع الذي فقد فيه الناس سيطرتهم على مصادر إنتاجهم، سوى أن يرتعب من كل بوادر الشر والموت والخراب والحروب، ولا يستطيع وعيه أن يفهم تاريخه وكيف عجز عن السيطرة عليه، وما هي أسباب الحروب والأوبئة وسوء العلاقات البشرية، فهذه كلها تخرج عن فهمه، ويتصور ان مسبباتها موجودة في كائنات غيبية وفي حيوانات وطيور شريرة:
(العرب مثلا تكني البوم بطائر الخراب، إذ ينظرون إليه على أنه طائر شؤم تنقبض صدورهم لدى سماع صوته ليلا، ويتوهمون جهلا حدوث مكروه كموت عزيز أو خراب ديار، ويصف الكتاب الأوروبيين بأنهم يرون في صوت البوم إعلاناً لموت أحد الأشخاص أو أن أحد الناس يعاني في تلك اللحظة سكرات الموت، ويتوهمون أن البومَ إذا ما حط على سقفِ أحد البيوت أصابه بالشقاء!)، تعليق صحفي على كتاب مُترجم بعنوان (معجم الخرافات).
ان ارتباط البوم بالخرائب الناتجة عادة من كوارث الحروب وخراب العمران التي لها أسباب شتى، تتحول مع تكرارها في مثل هذا الوعي الشعبي العفوي إلى أن تكون هي مصدر الشر.
ان اعطاء الطيور أو الزواحف كالحيات قدرات على التدخل الواسع في الحياة البشرية تتصاعد إلى حد اعطاء الألوان والألبسة والوجوه إمكانية السيطرة على حياة البشر المستقبلية.
فالتطير والطيرة هي رؤية تشاؤمية من بعض الطيور كرؤية الغربان والاستدلال من وجودها على أحداث سيئة سوف تجري في المستقبل، مع ارتباط الغربان بالجثث الناتجة من الحروب خاصة.
ومع فقدان البشر السيطرة على واقعهم يبحثون عن مفاتيح السيطرة والتحكم خارجهم، نظرا لغياب التراكم المعرفي العلمي في حياتهم، وتظهر فئاتٌ متخصصة في مثل هذه الرؤى الغيبية، المستقبلية والمصيرية، وهي تقوم بإنتاج مثل هذا الفهم الخرافي، كشكل آخر من توظيف الخرافة من أجل عيش تلك الفئة المنتجة لهذه الأشكال من الوهم.
تغدو النجوم والكواكب والأرواح مصدرا لهذه المعرفة المستقبلية مع عجز العقول الأرضية عن التحكم في يومها، فهذه الأشياء خارج الملموس، ولها ظلال وصور لا نهائية وغير محددة، يمكن عن طريقها تسريب الأفكار والتوجيهات والنبؤات وايجاد أشكال من التفكير المحتاجة إلى المعونة الماورائية نظرا لأزماتها المعيشية والسياسية والجسدية والنفسية المختلفة.
وإذا كانت هذه الأشكال السحرية عفوية وواضحة ببساطة فإن جر جوانب من الدين لعمليات سحرية هو الأمر الأكثر صعوبة في الكشف، حيث تجرى تلك المناطق الغيبية لإنتاج ممارسات سياسية عامة مضرة بالتطور.
 
صحيفة اخبار الخليج
12 مايو 2009

اقرأ المزيد

إدوارد سعيد الموسيقي

المطلعون على سيرة المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد يعرفون عمق اهتمامه واطلاعه الموسيقيين. فقد كان عازفاً ماهراً على البيانو ودارساً للموسيقى ومحللاً لها، فناً ودوراً وأثراً. في هذا النطاق لاحظ سعيد أن أجهزة الأمن في السجون الإسرائيلية كانت، في نطاق التعذيب المنهجي الذي تمارسه ضد المعتقلين الفلسطينيين، تبث أشرطة موسيقية لبتهوفن مع الاستعانة بسماعات ضخمة ورفع درجة الصوت إلى حده الأقصى لإجبارهم على الاعتراف. كان الإسرائيليون يطلقون على هذا النوع من التعذيب تعبير «الضغط البدني المعتدل». في نتيجة ذلك أصبح بيتهوفن، هذا الموسيقي العظيم الذي نشعر بالمتعة الروحية والاسترخاء ونحن نسمع موسيقاه اسماً مكروهاً لدى بعض المعتقلين لأن سماع موسيقاه يرتبط عندهم بفكرة التعذيب. أشار ادوارد سعيد إلى هذه المعلومة وهو يناقش فكرة أن الموسيقى يمكن أن توظف لأغراض غير إنسانية، وهو بهذه الروحية في السجال كان يفعل الشيء نفسه الذي فعله في دراساته الأدبية والفكرية، خاصة في اختلافه مع بعض نظريات النقد البنيوي التي أنكرت الدلالة الاجتماعية للنص، واشتغلت عليه مستقلاً عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي يأتي فيه. سيبدو لافتاً للكثيرين منا أن ادوارد سعيد الذي كان مولعاً بمصر، وعاشقاً للهجة المصرية التي يعتبرها من أرشق وأجمل اللهجات العربية على الإطلاق، لم يكن ميالاً لاستطرادات أم كلثوم الغنائية، ربما بسبب تنشئته الموسيقية المبكرة التي جعلته مأخوذاً بالموسيقى الكلاسيكية الألمانية، وهي بعيدة في روحها عن الموسيقى العربية والشرقية الأقرب إلى الموسيقى اللاتينية. بعد وفاته نشر لإدوارد سعيد كتاب بعنوان:»الموسيقى في أعلى تجلياتها» حوى مجموعة مقالاته عن الموسيقى والنشاط الموسيقي، وخاصة منها تلك التي نشرها في المجلة اليسارية «نيشين»الأمريكية بعد أن أصبح مُحررها الثقافي والفني، وكان عمله في تلك المجلة قد شكل له دافعاً إضافيا لتكثيف دراساته الموسيقية واهتمامه بالموسيقى التي كان الاستماع إليها، بالنسبة له، وسيلة للتغلب عل القلق والهموم ومقاومة المرض بعد اكتشاف إصابته بـ «اللوكيميا». تروي مريم سعيد، أرملة الرحل، أن زوجها اتصل قبل وفاته بابن عم له يعمل قساً وسأله عن المكان الذي يتحدث فيه الإنجيل عن أن «الساعة آتية وهي الآن» وبعد أن استمع لإجابة ابن عمه التفت إليها وقال انه قلق من أنها لن تعرف أي موسيقى ستعزف في جنازته. تريثت مريم قبل الإجابة، لكنها أدركت انه كان يخبرها أن هذه هي بداية النهاية وانه كان يموت.
 
صحيفة الايام
12 مايو 2009

اقرأ المزيد