المنشور

إعلام القنابل الصوتية

عمليات تفجير القضايا التي هي ليست قضايا وإشغال الرأي العام بها، مع ترك القضايا المتفجرة الكبرى الحقيقية، هي مثل عملية طفولية بتفجير المفرقعات وحرق الأقدام السائرة ولفت الانتباه لجوانب عرضية مع خدش الأجسام وتفجير الدم.
إعلام التهويش هذا نشأ مع فراغ الساحة العربية من مركز قومي تحرري ديمقراطي يلملمُ الفسيفساءَ المناضلة التي تريد التغيير، وقد تسلمتْ مدنَ الكفاح هذه ومراكز التوحيد أنظمة موالية للغرب في سياسته الخارجية، وليس في الانتماء إلى تياراته الديمقراطية الداخلية العميقة، فعبرتْ عن تجريبية فئات بيروقراطية تراكمت في أيديها الثروات النفطية خاصة أو السياحية المنبثقة عنها من دون أن يكون لها مشروع حضاري تحويلي لحياة الجمهور المحلي في كل بلد، أو العربي عموماً، فجاء إعلامها باهتاً وفقدت ذلك الدور التجميعي القوي.
كانت الأنظمة التحررية لها مشروع، وقد شكلت جمهورا وطنيا في كل بلد، وجمهورا قوميا على امتداد الساحة العريضة، فكان إعلامها موجها للحفر في هذه الصراعات، رغم إنه كان إعلاما عاطفيا حماسيا، وربما كانت هذه الحماسية العاطفية هي التي صارت من مصادر إعلام التشويش الراهن، الذي ركز في شكل الصراع بين العرب والغرب، بشكل كاريكاتيري، وحمل كذلك سيوف دونكيشوت، وصياح أحمد سعيد وعدة الرقص البلدي.
وترافق هذا الإعلام مع تدفق الجمهور الطائفي الذي حل مكان الجمهور القومي السائد سابقاً، وهو جمهورٌ تم حبسه في خندقين أساسيين، ولم يعدْ قادراً على الخروج من هذا الحبس الثنائي، وهو أمرٌ يشير إلى غياب الأنظمة القومية التحررية وحدوث فراغ، حاولت الجماعاتُ والأنظمة الطائفية أن تملأه لكن من دون جدوى.
إعلامُ الشعاراتِ والهياج العاطفي العصبي كان موجوداً في السابق معتمداً فقط على هذه القشرة الرقيقة من طبقة الوعي الكبيرة غير المستخدمة، لكن كانت ثمة قضية كبرى وفي اتجاه تحولي مهم له مستقبل ممكن، وسوف يظل رافداً للتحولات القادمة مهما تكن سلبياته.
ولكن في إعلام التشويش الراهن ليست ثمة قضية مستقبلية يمكن مراكمة إنجازاتها، وفاعلياتها النضالية، لتحقيق سيادة عربية إسلامية إنسانية ديمقراطية تقدمية في المنطقة، حيث لا تتوحد فقاقيع هذا الإعلام التهويشي مع الرؤى العميقة الصادرة عن قوى الأغلبية الشعبية المرتبطة بالأرض.
إن موارد النفط وحدها لا تستطيع أن تكون منابر إعلامية، في ظل تحكم قوى لا يعنيها تنامي قوى النضال والديمقراطية العربية، ولا يهمها أن تسلط الأضواء على مدننا الملوثة وأريافنا الفقيرة الجائعة، لا يعنيها أن نجدَ حلولاً للتيارات السياسية وأسباب نخبويتها وانعزالها وأميتها. لا تعنيها أزمات الاسكان والبطالة ومؤسسات الاقتصاد المغيّبة في العتمة التحليلية الكاشفة والعائشة في البهرجة الإعلامية الخارجية والردح الإعلاني.
أي إن هذا الإعلام الطالع من فانوس النفط السحري الذي أخرجَ العفاريتَ النائمة، ليس جزءًا من تراكم الجراح والأصوات العربية، ومن ثقافتنا المضنية عبر عقود من المجابهة مع الواقع وإحداث التراكمات الصعبة، بل هو إعلام بلا قضية وإن ادعى انه كل القضية، ومن هنا فهو يعتمد على السماسرة والأبواق العنيفة التي ليس لها انتماء إلا إلى المال.
فركز هذا الإعلام في التشويش والصيد في الماء العكر وتفجير الخلافات بين الدول العربية والإسلامية وتمزيق قوى النضال العربية، وإدامة ذهنية المحورين الطائفيين المريضة، بأسلوب التفجيرات “الثورية”، حيث لا توجد سوى شقشقات اللغة الفارغة، والأصوات الحادة، وعراك الديوك اللفظي اللعابي الذي يكاد أن يصل إلى المصارعة الحرة، ومحاولات الإثارة الرخيصة.
هذا الإعلام لم ينتج من مواقع اجتماعية ذات ثراء ثقافي عميق، بل ربما حتى ان أهالي هذه البلدان التي ينطلق منها هذا الإعلام المبهر الأجوف، ترفضه وتريد تغييره لأنه لا يمثلها، بل هو فقاقيع مستوردة، ونبتاتٌ اصطناعية، لا يعكس تجاربها ولا يعرض مشكلاتها وأصواتها.
لكن الإمكانيات المالية تقوم بتكريسه وباستدعاء رموز كان لها وزنها في تاريخ المنطقة السياسي، لاستحضار ما مات فيها، وما عجزت عن تطويره عبر التراكم النقدي الداخلي، في منظماتها وبلدانها، لتعرض كوابيسها وليس أحلامها الجميلة السابقة، وتكرر الشعارات الشمولية نفسها التي فات زمنها وأورثتنا كل الهزائم، بسبب أنها لم تعد داخل التاريخ السياسي في هذه المنظمات والبلدان، لكنها تريد أن تبقى بأي شكل بعد أن صارت نفايات سياسية، تقوم هذه الأجهزة الاعلامية بثرائها العريض المقتطع من ميزانيات الناس، بسحبها من تلك الأمكنة المجهولة ومن عوالم الشيخوخة السياسية وفقد الذاكرة الوطنية، لتقدمها فوق المسرح بكل الديكورات المبهرة ولغات الزفة الإعلامية، لكي تفجر الساحة بكل الأمراض الجديدة في ساحة مريضة ممزقة تحت العناية المركزة. فتركز في الموتى وملفات الموت وأزمنة شاخ الوعي فيها واهترأت ملفاتها من كثرة التصفح والتكرار.
والأهم لهذه المراكز الإعلامية ألا توسع مجرى النضال العربي الديمقراطي وبناء عمارة العقلانية العربية ذات الأضواء المسلطة على سرقات المال العام وكنوز قارون الضائعة، وأن يتم تحويل الهامشي إلى رئيسي والرئيسي إلى هامشي، ولا أن تسلط الأنوار على الثورات التي تجري أمام أعينها الإعلامية المفتوحة على العماء وعلى الفراغ، وتديرها نحو الملاكمات الشخصية والسفاسف التاريخية، لصرف الانتباه عن تهافت الأنظمة والحركات الطائفية، وأنها لا تصنع تاريخاً بل لابد أن يتجاوزها التاريخ.

صحيفة اخبار الخليج
24 يوليو 2009

اقرأ المزيد

صخب الساحة العراقية

تشهد الساحة السياسية العراقية صخبا متعدد الجوانب ، فالانتخابات البرلمانية والرئاسية في اقليم كردستان ، التي ستجري في الخامس والعشرين من هذا الشهر ، اي بعد ثلاثة ايام من الآن ، لم يسبق ان شهدت هذا العدد الكبير من القوائم المتنافسة، ولا هذا العدد من المرشحين للرئاسة ، وهي اي الانتخابات، وإن لا يتوقع لها ان تنتج تغييراً جذرياً في اللوحة السياسية في الاقليم ، بمعنى ان تزيح سيطرة الحزبين الكبيرين المسيطرين على هذه الساحة منذ العام منذ العام1992، وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة رئيس الإقليم الحالي مسعود البارزاني ، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال الطالباني ، ولكنها ، بالتأكيد ، كما يرى العديد من المراقبين ، ستشهد تراجعاً نسبياً لنفوذ هذين الحزبين . وعلى صعيد العراق ككل، يتمثل الصخب في ان كل الكتل السياسية تعمل منذ الآن استعداداً للانتخابات البرلمانية التي ستجري في السادس عشر من شهر كانون الثاني/يناير 2010، آخذة في الاعتبار ما اسفرت عنه انتخابات المجالس المحلية ، في بداية هذا العام ، من تراجع لنفوذ القوى التي ظلت متمسكة بطروحاتها المذهبية الضيقة ، واتضاح ميل الجمهرة الواسعة من الناخبين الى ضرورة تغليب الطروحات الوطنية العامة . ولذا يجري الاعلان عن تجديد المساعي لترميم الائتلافات السابقة التي تفككت ، سواء اكانت شيعية او سنية ، والقول بأن مساعيها تستهدف إعادة تشكيلها على اسس وطنية عامة ، وليس على اسس طائفية ، كما كان الحال في انتخابات العام 2005. ولا يقتصر الصخب على القوى المنخرطة في العملية السياسية ، بل يشمل القوى المعارضة للعملية السياسية برمتها ، واعني بقايا تنظيم القاعدة الذي تلقى ضربات موجعة، ولكنه ما يزال ينازع ويسعى لتخريب العملية السياسية بما يقوم به من اعمال تخريب وجرائم بشعة ضد ابناء الشعب ، وتفجير الكنائس بقصد دفع المسيحيين والصابئة المندائيين على هجرة البلد ، وهم من اقدم مكونات الشعب العراقي ، ولزعزعة الامن والاستقرار في الوطن ، ومحاولة إثبات عجز اجهزة الامن العراقية من شرطة وجيش على حفظ الامن ، بعد انسحاب القوات المتعددة الجنسية من المدن ، وتولي القوات العراقية مهمة حفظ الامن . والى جانب نشاط بقايا تنظيم القاعدة ينشط انصار النظام السابق ، من البعثيين الصداميين في اعمالهم التخريبية ، من تفجير السيارات المفخخة وزرع العبوات الناسفة والاغتيالات لعناصر نشطة في العملية السياسية ولبعض من ترك صفوفهم وصار يتعاون مع الحكومة للوقوف ضد ما يقومون به من اعمال اجرامية . كما يحاول انصار النظام السابق الاستفادة من الحديث عن المصالحة الوطنية وضرورتها للتغلب على المصاعب التي تواجهها العملية السياسية وبناء العراق الديمقراطي التعددي الإتحادي الموحد المستقل لتشملهم هذه المصالحة من دون ان يعتذروا عما قاموا به من جرائم بحق الشعب ، اويدينوا النظام السابق لما الحقه بالشعب والوطن من كوارث ومحن بإرهابه الدموي وحربه الظالمة ضد الشعب الكردي وعدوانه على ايران وتسببه في الحرب التي طالت ثماني سنوات ودمرت اقتصاد البلد وبناه التحتية ،وغزوه الغادرللكويت وما سببه للبلد من كارثة وطنية كبرى وحصار جائر على مدى ثلاثة عشر عاما ، واستخدامه السلاح الكيماوي ضد الشعب وقبوره الجماعية التي ضمت مئات الالوف من المواطنين . ومما يؤسف له ان هؤلاء ،في مسعاهم هذا ، يلقون الدعم من بعض الاخوة العرب . إن ماجئت على ذكره من صخب الساحة السياسية العراقية ، لا يشمل كل جوانب هذاالصخب . فما زالت مشكلة كركوك قائمة، وهي ما كرست له المقال السابق ، وما زالت العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومة اقليم كردستان كدرة ويشوبها التوتر احياناً . وكذلك العلاقات بين القوى السياسية داخل البرلمان ليست على ما يرام ، مما يعيق انجاز مهمات ملحة في الوضع الراهن، تعديل الدستور،وقانون النفط والغاز، وقانون الانتخابات، وقانون الاحزاب، ومعالجة الفساد بكل اشكاله السياسي والاداري والمالي، بالحزم المطلوب ، وغيرها من الامور التي يتوق ابناء الشعب الى ارتفاع القوى المتنفذة في السلطة الى مستوى المسؤولية الوطنية، والعمل على حلها بما يخدم مصلحة الشعب العليا، وجعلها فوق كل مصلحة ضيقة .
 
صحيفة الايام
24 يوليو 2009

اقرأ المزيد

ثورة يوليو بين النكسة والثورة المضادة

على خلاف كل الثورات العربية المعاصرة التي نالت الشعوب العربية بفضلها الاستقلال السياسي التام الناجز غير المنقوص، سواء الذي تحقق بفضل انقلاب عسكري على النظام التبعي السابق قادته مجموعة من الضباط، كمصر والعراق وليبيا، أم الذي تحقق على أيدي قادة الحركة الوطنية ضد المستعمِر (بكسر الميم الثانية) المحتل فإن ثورة يوليو المصرية تتميز بين كل هذه الثورات ليس فقط بكونها قامت في أكبر وأهم قطر عربي وعلى يد زعامة تمتعت بعدئذ بقدرات هائلة في الزعامة الكارزمية الشعبية والقومية، بل بالنظر إلى كون هذه الثورة تميزت باتساع وتجذر تحولاتها الاجتماعية التقدمية وتحقيق قدر ممكن من التوزيع العادل للثروة الوطنية، وذلك في ظل استقرار سياسي وأمني داخلي مديد نسبيا (1952 – 1970) افتقرت إليه دول الانقلابات العسكرية الأخرى التي أطلقت على نفسها “ثورة” أيضا.
وإذا كان أحد العوامل الرئيسية لانتكاسة الثورات العربية الوطنية سواء جاءت بواسطة انقلابات عسكرية أم غيرها هو تزعزع الأوضاع السياسية الداخلية، فلعل من المفارقة التاريخية أن نظام ثورة يوليو الذي كانت القضية الوطنية ممثلة في تحرير مصر من بقايا الوجود العسكري البريطاني أهم إنجازاته ينتهي هذا النظام أو على الأدق تنتهي هويته الوطنية التقدمية بسبب إخفاقه في الدفاع عن أراضي الوطن وتعريضها مجددا لدنس الاحتلال الأجنبي الصهيوني، وذلك كما تمثل في الهزيمة الكارثية الكبرى التي منيت بها مصر في حرب 1967 التي انتهت باحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء المصرية كاملة.
فلئن كانت ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر تمكنت من تحقيق الاستقلال الوطني الناجز التام عن المستعمر البريطاني فإن استعادة مصر لسيناء لم تتحقق بموجب اتفاق “كامب ديفيد” الإسرائيلي – المصري من دون قيود اسرائيلية مجحفة تحول دون فرض الأولى سيادتها الوطنية الكاملة، ناهيك عن تحييدها في الموقف من الصراع العربي – الاسرائيلي. وهكذا يمكن القول إن آثار عدوان عام 1967 – السياسية تحديدا – ليس لم تتخلص منها مصر تماما فحسب بل استطاع العدوان أيضا أن يوجه ضربة قاصمة إلى ظهر ثورة يوليو أفضت إلى أفول هذه الثورة سريعا وعلى الأخص بعد الرحيل المفاجئ لقائدها جمال عبدالناصر في سبتمبر عام 1970م.
على أن أفول الثورة وانتكاستها بنجاح قوى الثورة المضادة في الانقضاض على مجمل مبادئها بعد وفاة زعيمها لم يكن قدرا محتوما، بقدر ما كان للأخطاء الجسيمة المتراكمة الفادحة دور محوري رئيسي في وقوع كارثة 1967م وفي غروب شمس الثورة معا. ذلك بأن الأخطاء القاتلة التي أدت إلى الهزيمة هي ذاتها الأخطاء القاتلة التي أدت إلى انتهاء الثورة وانقضاض قوى الثورة المضادة اليمينية على السلطة من داخل نظام ثورة يوليو ذاته وبقيادة رموز من رفاق عبدالناصر بل من أقرب المقربين إليه، وعلى رأسهم الرئيس السابق أنور السادات الذي عينه الأول نائبا له قبل أقل من عام واحد من وفاته ليؤول إليه الترشح إلى الرئاسة بهذه الصفة وليفوز بموجب استفتاء شعبي، وليس انتخابا، وكمرشح وحيد في ذلك الاستفتاء وينقلب بعدئذ سريعا على مبادئ ثورة يوليو بزاوية 180 درجة.
وعلى الرغم من مرور 42 عاما على هزيمة يونيو 67 فإن منجم أسرارها الكبير مازال ثريا بمعادن أسراره التي لم يتم التنقيب والكشف إلا عن النزر اليسير منها بالرغم من خطورة هذه الأسرار وأهميتها في استخلاص الدروس والعبر التاريخية لوقوع الهزيمة ولانكسار الثورة في آن واحد.
ومنذ نحو عقد ونيف يجرى تباعا بما يشبه التقسيط الكشف عن بعض تلك الأسرار المطمورة في المنجم المشمع بالشمع الأحمر، إن جاز القول مجازا، وكلما اطلع المرء على شيء منها تجتاحه نوبة عارمة من التعجب والذهول، كيف لثورة بهذا الحجم وتقودها قيادة بهذا الوزن والشعبية الجارفة في مصر وخارجها ممثلة في عبدالناصر تقع في مثل تلك الأخطاء الجسيمة، سواء فيما يتعلق بالأخطاء السياسية المتعلقة بالنظام وعلى الأخص ما يتعلق بالمسألة الديمقراطية واختيار العناصر المخلصة الوطنية الحقة المختبرة والمجربة، أما فيما يتعلق بالاستعدادات التي جرت لحرب عام 1967م التي كشفت الفساد الكبير الذي كان ينخر المؤسسة العسكرية وقياداتها، من دون علم عبدالناصر بحجم ذلك الفساد، حيث لعبت عواطف عبدالناصر نحو رفيقه في مجلس قيادة الثورة وقائد الجيش دورا في بقائه على قيادة الجيش حتى حرب 67، بالرغم من تأكد فشله الذريع خلال حرب 1956م وخلال أحداث الانقلاب على دولة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م.
ولعل ما تم الكشف عنه هذا العام في ذكرى حرب يونيو وعشية ثورة يوليو التي تحل ذكراها الـ 57 هذا اليوم من أخطر ما كشف عنه حتى الآن من أسرار عن هزيمة 67، وذلك كما رواها ومازال يرويها تباعا الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في قناة الجزيرة، وكما رواها عدد من الشخصيات السياسية والقيادية السوفيتية إلى قناة “روسيا اليوم”، مثل الكاتب الصحفي قسطنطين كابيتوف، والجنرال نيقولاي ايفليف الملحق العسكري السوفيتي في القاهرة في أوائل السبعينيات، والجنرال محمود غارييف المستشار العسكري السوفيتي في القوات المصرية خلال الفترة نفسها، والجنرال قسطنطين بوبوف أحد الخبراء العسكريين السوفيت الذين شاركوا في حرب الاستنزاف (1967-1970)، وأخيرا بافل اكوبوف المستشار الاقتصادي في السفارة السوفيتية بالقاهرة.
ونأمل بإذن الله أن تسنح لنا الفرصة أن نتناول في الأسابيع القليلة القادمة بالتحليل والتعليق بعض أهم ما جاء في تلك الشهادات المهمة.

صحيفة اخبار الخليج
23 يوليو 2009

اقرأ المزيد

العسكر يعودون من نافذة الديمقراطية

لابد أن تكون الديمقراطية في الشرق عملية صعبة تاريخية مؤلمة، طويلة، فيكون لها متعرجات وهبوط والتفافات، مثل قطار يسير في أرض غير صناعية، وغير ممهدة، يصل أحياناً ولا يصل في أحيان أخرى.
وإذا كانت الديمقراطية هي شأن استثنائي في تاريخ الشرق فإن العسكر لهم تاريخ غير استثنائي ومهيمن.
وقد كانت كل القبائل والدول السابقة هي دول عسكرية، لأن القبائل كانت مسلحة، وتفرض أنظمة عسكرية، فالتاريخ السابق هو جذور للجيوش العصرية، التي ليستْ هي سوى القبائل والجماعات المسلحة نفسها ولكن صارت منظمة ومشكلة بالأنظمة والأسلحة الحديثة.
وفي المرحلة الليبرالية العربية والإسلامية المبكرة في التاريخ الحديث حاولت قوى التجار والمثقفين أن تشكل أنظمة ديمقراطية مستوحاة من الغرب، حين كانت الجيوش الغربية مسيطرة، فأعطتها بعض المساحة للتعبير ولكنس المخلفات التقليدية الأكثر ضرراً على التطور، لكن الجيوش العربية ظهرت من جديد، واستعادت القبائل والقوى القروية الإقطاعية نفوذها من خلال الجيوش التي انضم إليها ابناؤها، وراحت تزيح النفوذ الليبرالي الديمقراطي والنفوذ الاستعماري معاً.
فقد جمعت الجيوش نفوذ القوى القديمة وألبستها عباءة العداء للاستعمار، ولكن ذلك كان من جانب معين ضربة للتطور الديمقراطي، ولعدم تراكم وتوسع الحريات، وبقاء مجمعات التخلف في الريف والحياة الاجتماعية وفي الحياة الفكرية التي وضعت على أفواهها أشرطة عسكرية مانعة للتغيير والنقد.
وفي المرحلة الليبرالية الجديدة التي نعيشها الآن بعد أن استنفدت الأنظمة العسكرية نفسها وطورت أشياء قليلة وخربت أشياء كثيرة، ولم يبق منها إلا المتردية والنطيحة، وما سمح الاستعمار والتخلف، بدأ مجيء العسكر لكن من خلال ثغرات ونوافذ الأنظمة الحالية المترجرجة بين الليبرالية والشمولية.
ظهر العسكر في تركيا بشكل مختلف، ليمنعوا الانزلاق نحو الأنظمة الدينية الشمولية، ووضعوا إطاراً للحداثة، ولعدم التجارة في الدين على حساب النهضة، لكن لدينا قفزَ العسكر من ثغرات الأنظمة المتكونة حديثاً غير الحاسمة في انتمائها الى الوطنية والي الحداثة والعلمانية والمستمرة في التجارة في الدين.
في دول تسلل العسكر عبر عودة خدماتهم الحربية وتحول الجيش إلى الأداة الرئيسية للنظام في مجابهة عدو غاشم، ولم تستطع القوى المدنية التي أحضرتهم وقوت ساعدهم أن تعيدهم مرة أخرى للثكنات ليؤدوا واجبهم في التطور العسكري بل استغلوا مواقعهم العسكرية والتصنيعية الحربية ليفرضوا أنفسهم على الاقتصاد والإعلام والسياسة.
وهذا يعود للاضطراب في تشكل الأنظمة الجديدة، وعدم تطورها من خلال النسيج المدني السابق، وفرض تشكيلات غير عسكرية نظامية وميليشيات وأحزاب على الجيوش النظامية!
هي من قبيل عمليات إدخال الغوغاء لضرب التقاليد العسكرية النظامية الوطنية وكسر الانضباط ولكن يقوم بها الزعماءُ والضباط الكبار في البلد المعني، مثل الحرس الثوري في الصين فيما سُمي الثورة الثقافية أو مثل عزل الجيش الإيراني الوطني وترفيع الحرس الثوري كجماعات من المتاجرين في الأجهزة العسكرية والمواد الاقتصادية، واللجان “الثورية” في ليبيا وخزعبلات ثورة الانقاذ السودانية التي جعلتْ البلدَ كله يهرول عالمياً من أجل أن يُنقذ.
هي عملياتٌ تشعر بالخوف من الجيش وتتمرد عليه عسكريا لإضعاف قوى في السلطات لا تقبل المغامرات السياسية، أو قوى في المجتمع المدني لها آراء مختلفة عن المسار السائد المضر، أو لإضعاف الجيش نفسه، فالأنظمة تشعر بأنها هشة وتخاف من القوة المنظمة الوحيدة والقوية وهي الجيش.
ويحدث العكس أحياناً حين تقوم القوى السياسية المدنية بتطوير النظام الاجتماعي وتعمل على تغييره من السلبيات المتجذرة فيه، وتخلق تعددية حزبية وفكرية، لكن القوى العسكرية والتقليدية في الجيش تتحالف لضرب هذه التجربة خوفاً على مصالحها التي سوف يجهز عليها مثل هذا التطور.
فتلجأ الى الانقلاب أو إلى تزوير الانتخابات أو إلى غيرهما من الوسائل بحيث تبقى وتتاجر في حياة المواطنين.
وهي ترفع الشعارات البائدة لشحن مشاعر الشعب كمحاربة الفقر وتحرير فلسطين من الصهيونية، وهي لا تريد سوى تركيز السلطة في يدها، ووقف المسار الديمقراطي العميق في البلد.
وهذه كلها تحدث لعدم تجذر المسار الديمقراطي الهش في البلد، ولتفكك العلاقات الوحدوية بين قوى المعارضة، وتجذر القوى الشمولية في أجهزة الحكم خاصة في الأدوات العسكرية المختلفة، مع غياب حاضنة ديمقراطية دستورية عريقة.
هبوط العسكر بالمظلات فوق التجارب الديمقراطية وتضييع ثروات ضخمة وإدخال البلدان في حروب طاحنة مع دول أخرى، وظهور مجانين في هذه التجارب، لم يبق شيء لم يدعوه لأنفسهم سوى النبوة والألوهية، رغم تجرؤ بعضهم على مناوشة المقدسات والتدخل في حيثياتها، كل هذا مثل خراباً واسعاً وهدراً لإمكانيات أمة كبيرة حولوها إلى خرائب.

صحيفة اخبار الخليج
23 يوليو 2009

اقرأ المزيد

قبل الإجازة

بعد هذا المقال سأتوقف فترة لن تطول عن كتابة مقالي اليومي، رغبة في التقاط الأنفاس ولو قليلاً، والاستمتاع ببعض الكسل، أو ما يشبهه، مستذكراً في هذا المقام واحداً من أجمل مقالات الفيلسوف برتراند راسل الذي اختار له عنواناً معبراً: “في مدح الكسل”. برأي راسل إن الكسل في البلاد التي لا تستمتع بشمس البحر الأبيض المتوسط الساطعة أكثر مشقة، وأخشى من تعميم هذه الملاحظة النابهة، فنجد فيها نحن في منطقة الخليج ذريعة لممارسة المزيد من الكسل يضاف إلى كسلنا التقليدي، لأن المؤكد أن ذلك لم يرد في ذهن برتراند راسل وهو يكتب هذه العبارة. فهو كان يتحدث عن بلدان أخرى كمية العمل المنجز فيها أكبر مما ينبغي انجازه بكثير، ولا أظن أن بلداننا يمكن أن تصنف ضمن خانة هذه البلدان، خاصة وانه وضع لذلك شرطا يتلخص في انه من الظلم أن يستهلك الإنسان أكثر مما ينتج، وقد يقوم بطبيعة الحال بأداء خدمات بدلا من إنتاج السلع، ولكنه ملزم بتقديم شيء مقابل مأكله ومسكنه. لكن مقالة راسل تندرج في إطار عمل فلسفي عن مجتمع أشبه بالجنة يسوده الفراغ العظيم والعمل القليل. انه يتحدث عن يوتوبيا تتحقق في مجتمعات أنجزت ما هو ضروري كي ينعم أبناؤها بعد ذاك بالكسل، أو يمارسوا كسلهم مستفيدين مما جنته أيديهم من ثمار العمل الدؤوب الذي مارسوه طويلاً وبجد. ما أكثر ما تعنّ علينا متعة ممارسة الكسل، كأن تكون لدينا مهمة يتعين علينا انجازها، ولكننا نؤجلها للغد أو إلى ما بعد الغد، لا بقرار نتخذه عن وعي، وإنما لأننا ننساق انسياقا لذلك، كأن الأمر يصدر عن منطقة ما في العقل الباطن أكثر مما يصدر عن الذهن. وقرأت مرة حديثاً لرياضي مرموق، يصف فيه الحال التي تنتابه عندما يتوقف عن ممارسة الرياضة أياما أو أسابيع لسبب من الأسباب، ثم يقرر العودة إليها ثانية، حيث انه يشعر بثقل هذا القرار، وعزا الأمر في ذلك لما ندعوه باللياقة، فالانقطاع عن الرياضة يفقده اللياقة التي يحتاج بعض الوقت لاستعادتها ثانية، وهو أمر يعرفه الكتّاب أيضا الذين لسبب من الأسباب يتوقفون عن الكتابة، فما أن يعودوا إليها بعد انقطاع حتى ينتابهم شعور بأنهم يجربون الكتابة للمرة الأولى. لكن للأمر علاقة أيضا بما يمكن أن نصفه آلية الكسل، وحين نستخدم هذا التعبير فليس في النية هجاء الكسل أو ذمه أو تقريع من يمارسه، ذلك أن للكسل لذة، وتزداد هذه اللذة حين ينتابك الشعور انك عائد بعد حين لن يطول إلى دوامة سريعة الدوران لن تستطيع أن تقذف بنفسك خارجها متى شئت. نقول عادة : الكسل يجر الكسل، لكن في الحال التي نحن بصددها، فإن ذلك يحدث برغبة في تشرب متعة ممارسة هذا الكسل حد الامتلاء، أو على الأقل إلى الحد الذي تستطيع فيه أن تنال ما يمكن من متعة هذا الكسل. وبعيداً عن كل هذا “التنظير” فإننا نحس بقيمة الأشياء حين نفقدها، وحين يصبح الكسل عزيزا لأننا نفقده، كما أشياء أخرى عزيزة، لا نملك سوى مديحه.
 
صحيفة الايام
23 يوليو 2009

اقرأ المزيد

السودانية لبنى الحسين.. من يتضامن معها؟

حينما قمت بزيارة اعلامية استطلاعية للسودان في أواخر تسعينيات القرن الماضي بدعوة من وزارة الطاقة أتذكر كان من الانطباعات التي خرجت بها من تلك الزيارة ودونتها في هذه الزاوية ان ثمة مرونة نسبية إلى حد ما لدى النظام السياسي العسكري السوداني القائم الذي يعد نفسه نظاما “اسلاميا” في الموقف من الموسيقى والأغاني وكذلك الموقف من الحريات الشخصية للمرأة وان بشكل ضئيل محدود، وتحديدا فيما يتعلق بملابسها مادامت على درجة معقولة من الاحتشام حتى لو لم تكن ذات ملابس احتشامية متشددة، وكنت أتوهم حينها بأن هذه “المرونة” على محدوديتها لربما تكون أفضل حالا، ولو بشكل نسبي، من دول اخرى تحكم باسم “الاسلام” كإيران، لكن ثبت بما لا يدع مجالا للشك ان هذه الأخيرة حتى بالرغم مما تجرده من حملات موسمية على الفتيات اللائي لا يراعين ضوابط الحجاب ولباس الحشمة حسب المقاييس التي فرضها الحكام الملالي في طهران أكثر مرونة وان تكن محدودة في هامش الحرية الشخصية فيما يتعلق تحديدا بملابس المرأة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فان لقطات عديدة برزت في صور المظاهرات والاحتجاجات الصاخبة ضد نتائج الانتخابات الرئيسية الأخيرة تظهر فيها فتيات بملابس شبه عصرية وبغطاءات رأس “شارب” تكشف نصف شعر رؤوسهن ويمشين خلف أو بجوار تقريبا ليس المرشح الاصلاحي مير حسين الموسوي فحسب بل على مقربة أو خلف رجل الدين المعمم الشيخ مهدي كروبي. أكثر من ذلك فان بعض مثل هذه النماذج النسائية وجدناها وان على نحو محدود جدا في المسيرات المضادة المؤيدة للرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد المطعون في شرعية نجاحه.
وبات واضحا ان الجميع، حكومة ومرشحين، مشغولون حتى النخاع بالمعركة السياسية الانتخابية أكثر من انشغالهم بهذه المعركة الدينية “الاخلاقية، حتى لو تعلقت بالأمر بالمعروف والنهي عن “المنكر”، لكن ذلك لا يعني ان النظام قد تخلى نهائيا عن حملات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتعلقة بملابس المرأة “الاسلامي”، بل فكما هو معروف فانه يجرد مثل هذه الحملات على نحو موسمي اختياري كلما شعر بحاجة إلى الهاء الشعب بقضية هامشية داخلية ما حينما تتأزم الأوضاع المعيشية والاقتصادية وقضاياه السياسية الداخلية والخارجية.
ويمكن القول ان الخرطوم البشيرية هي الأخرى عادة ما تلجأ إلى مثل هذا الاسلوب من الحملات على الفتيات في الشارع تبعا لمزاج السلطة، أي حيثما واجهت قضايا داخلية أو خارجية معقدة متفجرة، كالأزمة الاقتصادية، وكقضية دارفور، وكقضية اصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة ملاحقة قضائية باعتقال الرئيس، ولعل آخر واقعة من ممارسات السلطة السودانية في التضييق على الحريات الشخصية للنساء الحادثة المتعلقة بالناشطة السودانية السياسية الصحفية المعروفة لبنى الحسين التي باغتتها سلطات الأمن السودانية ومجموعة من الفتيات الاخريات بمداهمة مطعم كن يحتفلن فيه بزواج احدى معارفهن بحجة ظهورهن بملابس “غير لائقة” وتتنافى مع قواعد النظام العام، وقد تم اعتقالها مع 12 فتاة وتم جلد عشر منهن عشر جلدات في قسم الشرطة، ووجه إلى الصحفية لبنى واثنتين معها الاتهام بارتكابهن ما يسيء إلى الآداب العامة لارتدائهن لباسا “غير لائق” وبالتالي يواجهن الآن محكمة جنائية قد تحكم بجلدهن طبقا للقانون الجنائي السوداني 40 جلدة.
غني عن القول ان الشعب السوداني من أكثر الشعوب العربية تدينا ومحافظة حتى ان الحزب الشيوعي السوداني هو أكثر الاحزاب الشيوعية العربية على الاطلاق يضم في غالبية صفوفه أعضاء مؤمنين يؤدون فروض الدين كافة، بما في ذلك تأدية الصلوات الخمس في مواقيتها وكذا الحال بما عرف عن قياداته، وقد عرف عن أشهر عضو قيادية قديمة في الحزب وفي الحركة النسائية السودانية، الا هي فاطمة إبراهيم ارملة شهيد الحركة النقابية الشفيع الشيخ، ارتداؤها اللباس الشعبي النسائي المحتشم والتزامها واحترام القيم والعادات الدينية، وبالتالي فهل يتصور ان شعبا هكذا هي تقاليده وجذور المحافظة المتغلغلة في تربته ان تنبري فيما بين صفوفه نسوة قادرات على تحدي السلطة والمجتمع معا ويعرضن انفسهن لفقدان سمعتهن وسمعة عائلاتهن ودخولهن في عزلة اختيارية؟
وإذا ما تأملنا وامعنا النظر جيدا في اللباس الذي ترتديه الناشطة السياسية الصحفية لبنى الحسين وهي شابة في مقتبل العمر تتمتع بقدر من الجمال اللافت وبعينين يشع منهما الذكاء والتحدي في آن معا، فان لباسها الذي أقامت عليه سلطات الخرطوم “الاسلامية” الدنيا ولم تقعدها باعتباره يخدش “الحياء” ويتنافى مع الشريعة الاسلامية وان كان ليس بالمواصفات والمعايير الدينية المعروفة الموغلة في التشدد والتزمت الا انه لباس وسطي معتدل الاحتشام لا بل لربما عد في مجتمعات عربية اخرى لباسا محافظا. ومن الواضح ان لباس لبنى ليس سوى قميص عثمان لتصفية حسابات النظام السياسية معها كناشطة صحفية وسياسية لا تروق آراؤها ومواقفها المعارضة للنظام.
اما الاخريات اللواتي القي القبض عليهن بالتهمة ذاتها فلسن سوى كباش فداء للتمويه على دوافع الانتقام من الصحفية لبنى التي اساءت السلطات ايما اساءة إلى سمعتها وسمعة وشرف عائلتها من دون مسوغ عقلاني.
وإذ تعرضت مجموعة من الحاضرات، وبينهن مسيحيات من الجنوب، لتعذيب وحشي فظ تمثل في جلدهن بمركز الشرطة، وإذ تواجه لبنى ورفيقاتها ملاحقة قضائية قد تفضي بالحكم على كل منهن 40 جلدة فانه من المؤسف حقا ألا نسمع حركة احتجاج وتضامن قويين على الصعيدين المحلي والعربي لا من قبل جمعيات حقوق الانسان ولا من قبل الجمعيات النسائية والصحفية مع قضية هؤلاء الفتيات السودانيات المظلومات اللائي تواجه اجسادهن البضة مخاطر جدية لتعرضها للجلد.

صحيفة اخبار الخليج
22 يوليو 2009

اقرأ المزيد

لغتا الجمود والتحايل

هما لغتان مختلفتان، إحداهما تحاول أن تصورَ نفسَها بأنها لغة الحاضر والمستقبل، والأخرى تصورُ نفسَها بأنها لغة الماضي والحاضر والمستقبل.
فاللغة الأخيرة لغة الثبات والأجداد والدين والحكم الذي لا يرى التغيير إلا في أضيق نطاق، وهو يمثل المصالح التقليدية المتكلسة عبر الزمان، يأتي لاحقٌ ليواصل السابقَ، ويجيءُ الخلفُ ليؤكد السلفَ، بمعانٍ كثيرةٍ لكنها تعني كلها الكرسي الأبدي في مجال الدنيا والدين.
أما لغة الحرباء فهي كثيرة متنوعة مضطربة لا تستقر على كرسي، لأنها تهدفُ للكرسي الذي لا يجيء، ومتوهمة دائماً انه سيجيء، وإذا لم يجئ فهي تكتفي ببركات وخيرات الكراسي القوية الثابتة على مر الزمان النحس والبغيض.
الإقطاع، والرأسماليات الحكومية، التي توزع الخيرات، وتوزع اللعنات، حسبما يكون سلوك الرعية، لا تستطيع تكتلاتُ الحرباءِ المتعددة الهموم والسموم أن ترفضها كلياً، ولا أن تعتاشَ عليها كلياً، فهي فئاتٌ متوسطة صغيرة ساخنة في هذا العصر الذي يضغط عليها من كل اتجاه، فتجد أن ترمومتر الحقيقة النقية يكمن في المصلحة، والشموليات الشرقية تعطي هوامش صغيرة لحراكها كأنها فئران في أنابيب زجاجية مغفلة.
(علي أن أرى أين تكمنُ مصالحي)، (كفاية تضحية من أجل الغير، ولكن إذا كانت مصلحتي تتفق مع مصلحة الغير فليكن)، (لقد سقطت الأدلجة وانتصرت المصالح).
وهذه اللغة المصلحية الخاصة المتداخلة مع الهموم العامة بهذا المستوى أو ذاك، تشكلُ لغاتٍ سياسية محدودة الحفر في الواقع. إنها لا تقدر على أن تناضلَ من أجل الحقيقة، أن تكشف قوانينَ كلِ بناءٍ اقتصادي والجماعات التي تتشكلُ فيه، بل هي تنتقي مانشيتات ساخنة أو هادئة أو باردة حسب طبيعة كل جماعة.
المتماثلون الكليون مع الجمود حزبان لا ثالث لهما، حزب إيجابي وحزب سلبي، الإيجابي يؤيد الصخرة في كل صلابتها التاريخية وصمودها الأسطوري، والسلبي يرفض الصخرة ويريد بناء صخرة أخرى مكانها ليتمتع بنفس الصلابة والامتيازات المطلقة.
في التضاد هنا تماثلٌ كذلك، لأن مادة الصخور واحدة، والإقطاع والرأسماليات الحكومية المتمتعة بالفوائض الاقتصادية هي ذاتها في كل الدول الشرقية، لكن حسب الأديان والطوائف، وسواءً كان هذا الدين أو ذاك، أو كانت هذه الايديولوجيا قومية أو يسارية أو ربع ليبرالية، فإن قوانينَ الاستغلال هي نفسها، لكنها تتمايز حسب ألوان الشعوب ومدى عبوديتها.
لغاتُ الحرباء تتداخلُ بين كلِ هذه الصخور وتلتفُ حولها وتتغلغلُ بينها، عاجزة أن تكون من مادة الصخور، مهما أراقت من ماءِ وجهها ودمائها، لأن مادة الحرباء هشة، غير ذات صلابة، سرعان ما تهربُ من المعارك وتطلبُ السلامة والغنيمة.
تتوجه حرباءٌ ما إلى الهجوم على صخرة واحدة ملقية على رأسها كل المشاكل والهموم والكوارث، رافضة أن تكون هذه السلبيات مشتركة بين الصخور، بل هي تقوم بالرقص الإيقاعي مادحة صخرة أخرى، تحتوي السلبيات نفسها.
(صخرتنا أفضل، فهي مدافعة عن الحق الأبدي، وهي معادية لقوى الاستكبار، فبالضرورة يكون حزبنا أفضل وهو الممثل للدين).
وقد تتحول الصخرة إلى ثعابين كذلك، من دون أن تذوب صلابتها.
لا أحد يعرف في الشرق أين هي الصخرة وأين هي الحية؟
عالم في حالة سيولة من دون أن تخرج الصخور من الخزائن ومن الأملاك ومن رفاهيتها الخاصة.
الصخرة قد تظهر في حالة سيولة كاملة فهي الخير والحق والعدل والضمير وهي الوطن وهي التضحية وهي الشباب وهي النبل، لكن حاول أن تقبض على شيء من ذلك، فترى الصخرة تتبخر!
والحرباء هي كل شيء ولا شيء.
مجموعات من العيارة، مجموعات من الإيمان، مجموعات من الفضيلة، والنضال من أجل العقيدة والوطن، ثم أسربة في المراحل القادمة، وتراب ينضم للصخور القاسية، وتصير أشد صلابة من الصخور، فهي طارئة عليها وليست من مادتها.
لها ألوان خلابة في عهود الشكوك والتداخل، كلما قربت قرصاً من نار وأحست بلسعة غيرت الموقع.
لم تخرج قوى التقليد أو الحداثة عن هذه المعاني، فلا التقليد قادر على أن يتزحزح ويقدم تغييراً، ولا الحداثة المتهافتة أو المصطنعة قادرة على أن تطور التقليد.
هل تتخلى القوى الحديثة عن التحايل وهي معيار التاريخ وتقدمه، لا تستطيع ذلك لأن كيانات الفئات الوسطى عالة على غيرها، وليست لها في الأرض الموضوعية أقدام وطيئة.
وليس في السياسة فقط بل في الإنتاج الفكري وفي الإنتاج الثقافي، فهل تستطيع أن تذوب صخور القيود والتقاليد المتخلفة وأن تتوجه لحرث الأرض ونقدها وتشكيل زراعة جديدة؟
ماذا فعلت أكداس الكتابات الحديثة النقدية تجاه النقد القديم؟
لم تقم إلا في الإنتاج العميق الاستثنائي بعمليات نقد موضوعية، ولم تهتم بشخوص المكتوب عنهم، بل بالقضية المطروحة، لهذا يصير الإنتاج الفكري هنا حيلة فقط للعيش.
ولهذا ينفتح المجال لكتابات التعقيد الغامضة والتلاعبات الذهنية والحيل والتحايل على المؤسسات والجمهور، ثم يتكشف ذلك عن خواء ويعود الفرسان إلى الاسطبلات القديمة.
القوى التقليدية باقية في أمكنتها، حاول الشعر الجديد أن يصوغ عالماً أدبياً مختلفاً، ثم عادت القصيدة التقليدية والأشعار العامية العتيقة، وانتصرت الصخرة على الحرباء.
في السياسة تطرح الدول والتنظيمات أطروحات تحديثية في شكلها الخارجي من عالم التجديد لكنها من عالم التقليد والحرباء، فتعود بعد سنين إلى أن تكشف طبيعتها الصخرية.
المنطقة العربية الإسلامية تدور في حلقة مفرغة غير قادرة على أن تتجاوز نفسها، بسبب أن القوتين السائدتين من طبيعة التخلف.

صحيفة اخبار الخليج
22 يوليو 2009

اقرأ المزيد

من تحت المجهر: الفرد أم الدولة؟

في السنوات الأخيرة شاع مصطلح الشفافية في وسائل الإعلام المختلفة، وفي الخطاب السياسي للحكومات والأحزاب والقوى السياسية وحتى الأفراد. أضحت الكلمة مثل ” الموضة ” التي تتعمم بقدرة قادر وتصبح نسقا مفروضا على الجميع، ويبدو من هو خارج هذا النسق في صورة الشاذ عن الإجماع أو الخارج عليه. ولم تعد حتى أشد الأنظمة توتاليتارية وقمعية تتردد في استخدام هذا المصطلح للتعبير عن رغبتها في جعل الفرد على صلة بالبيانات والمعلومات والوقائع. وهذه المفردة القاموسية المجردة غدت مصطلحا سياسيا يقصد به وضع سلوك الحكومات والهيئات تحت الضوء، بحيث لا تعود هناك أسرار أو حواجز تعوق تدفق المعلومات، بل أن هذه المفردة جردت من سياقها اللغوي الذي يقرنها عند الحديث عن الأفراد بسمة أو قيمة إنسانية عالية حين تميز بين الإنسان الشفاف والإنسان الغليظ . كان أحد الكتاب قد عبر عن حلمه في العيش في ” بيت من الزجاج “، حيث يكون تحت أعين الجميع، ويرى الناس كل ما يقوم به. كيف يأكل وكيف يشرب، كيف يعمل وينام؟. ولكن ذلك حلم لا يمكن تحقيقه. ليس بوسع الإنسان أن يعيش داخل قمرة زجاجية أو من زجاج أبدا. هذا في المعنى الحرفي للموضوع، أما في المعنى المجازي فان الحضارة الحديثة قد حققت ذلك، حيث أن الإنسان من حيث هو فرد باتت حياته منتهكة في أدق وأشد خصوصياتها. يتندر الفنان زياد الرحباني في إحدى أغنياته الساخرة بعدد ملفاته لدى الدولة، بصفته فردا أو مواطنا، مومئا إلى أن عدد هذه الملفات يبلغ سبعة، وقد تكون القوة الآسرة في الرقم سبعة المعروف بدلالاته المتعددة منذ الحضارات القديمة، هي ما يجعل الرحباني يتحدث عن الملفات السبعة تحديدا. لكنه، رغم ذلك، لم يجافِ الحقيقة. إن الإنسان الفرد هو تحت المجهر في كل شيء: في أحواله الصحية، في أمواله، في وضعه العائلي وحياته الخاصة. في كتاب ” فن الرواية ” يمسك ميلان كونديرا بمفارقة على قدر من الأهمية. انه يزيح الدثار الذي أحيطت به كلمة الشفافية، ملاحظا التناقض الصارخ بين حقيقة أن شفافية الحياة الشخصية للفرد هي المنتهكة، فيما تبقى شؤون الدولة مكتومة وعصية على الكشف أو المعرفة. إن شؤون الدولة من حيث هي أمر أو شأن عام تظل مجهولة وسرية وغير واضحة، أما الإنسان الفرد فانه مطالب بكشف كل التفاصيل التي تخص حياته من وجوهها المختلفة. ويرى كونديرا أن الرغبة في انتهاك حميمية الآخرين التي هي شكل دائم من أشكال العدوانية ، صارت اليوم جزءا من المؤسسات عبر البطاقات والاستمارات التي علينا أن نملأها بالبيانات التفصيلية في البنك والمستشفى والمطار ومكان العمل أو عند انجاز أي معاملة ذات شأن أو غير ذات شأن . هذا الشكل من انتهاك الخصوصيات بات مبرراً، لا بل وحتى شاعرياً تحت وقع الكلمة الجميلة: الشفافية. أما الدولة من حيث هي مؤسسات وهيئات وأساليب إدارة فإنها تظل مُحاطة بالحماية المكينة التي ليس بوسع أية آلية من آليات الشفافية اختراقها.
 
صحيفة الايام
22 يوليو 2009

اقرأ المزيد

مقابلة نشرتها جريدة الوطن البحرينية بتاريخ 18 يوليو 2009 للنائب السابق والأمين العام المساعد للتقدمي


لكونك نائب سابق كيف تقيم اداء النواب على صعيد العمل التشر يعي والرقابي؟

ج1) سبق أن أشرت في أكثر من مقابلة  ولقاء صحفي إلى أن شهادتي تعتبر مجروحة عندما يتعلق الأمر بمسالة تقييم أداء النواب كوني نائب سابق وغالبية الموجودين هم إما زملاء أو أصدقاء، ولكن إذا كان ولا بد  من إعطاء وجهة نظر باعتباري مراقبا للأداء البرلماني على خلفية تجربة سابقة، فيمكن القول أن أداء مجلس النواب في الفصل التشريعي الثاني الذي بقي على انقضاءه دور انعقاد واحد،  يمكن القول أن أداء النواب والكتل سواء بالنسبة للتشريع أو حتى الرقابة  هو أداء لا يرقى لطموحات الناس أو حتى للتجربة النيابية التي يفترض أن  تكون راكمت خبرات متزايدة في كيفية التصدي للتشريع والرقابة، والواقع يقول أن الأداء سلبي وضعيف في غالبية الملفات ويمكننا أن نقول ذلك من دون أي تجني على أحد، حتى أن كبرى الكتل تعترف أن المحصلة صفرا، ويمكن القول أن رجل الشارع العادي أصبح هو الآخر مراقبا قريبا الى حد ما من التجربة  بفعل تعاطي وسائل الأعلام  مع البرلمان بصورة مكثفة، ولكن من ناحية حرفية لا يمكن أن نجد ما هو لافت، فملفات الرقابة مبتسرة والقضايا المعروضة ولجان التحقيق المشكلة لا ترقى أهمية بعضها إلى ما هو ملح وضاغط من قضايا وحتى المهمة منها تضيع  وسط ضجيج طائفي ومناكفات بائسة وعدم حرفية تؤخر ولا تقدم، ففي حين يهمل المجلس والكتل مناقشة جميع تقارير الرقابة المالية الصادرة خلال السنوات الثلاث الماضية والتي تعج بالتجاوزات والفساد الصريح والتعدي على المال العام وتهمل قضية فساد ” البا” وطيران الخليج وغيرها، نرى هروبا جماعيا للنواب لتشكيل لجان تحقيق في  ربيع الثقافة وفي ملكية بعض الفشوت وفي حفر قناة بحرية في سترة وهكذا، وبقدر ما يفصح ذلك عن غياب في الأولويات وعدم وضوح في الرؤية وأقول عدم جدية أحيانا في مناقشة قضايا أساسية، نجد أن هذا الضعف يقابله انقسام طائفي معيب من دون مبرر يلقي بضلاله على الشارع دون رحمة واحترام لهذا الوطن وشعبه، وتتم مناقشة الموازنة العامة التي تحصر في  تحديد سعر برميل النفط واللهث للضغط على الحكومة لدفع علاوة الغلاء التي أهدرت لأجلها كرامات الناس مرارا وتكرارا، وهناك العشرات من الأمثلة التي يمكن أن نعطيها على أداء النواب وكتلهم.                                              

 ماذا عن اداء المعارضة تحت قبة البرلمان؟ أين القصور في اداء الوفاق؟
ج2) لست معنيا بتقييم أداء الوفاق سواء تحت قبة البرلمان أو حتى خارجها فلديهم ما لديهم من لجان متابعة،  وهم مسئولون عن أداء نوابهم والشارع بعد مرور أكثر من سبع سنوات على العمل البرلماني يفترض أن يكون قد أصبح قادرا على التفريق بين الغث والسمين، فالحس النقدي لدى الجمهور يجب أن يكون قد تطور، وأعتقد أن الوفاق كفصيل معارض ذو جماهيرية كبيرية، المطلوب منه أكثر من غيره  سواء من تحت القبة أو حتى خارجها، وبكل إخلاص أقول أن الوفاق لا ينقصها الاجتهاد لتحقيق إنجاز ما من تحت القبة تحديدا أو حتى من خارجها، ولكن العمل السياسي المعارض يحتاج بكل تأكيد إلى عوامل عدة تتجاوز الاجتهاد وحتى الإصرار إلى ما هو ابعد من ذلك، فالحرفية والقدرة على المناورة السياسية وتحديد الأولويات وفرض الاحترام وعدم الركون إلى معالجات أو صفقات أو تسويات جانبية  لملفات محددة من شأنها أن تلغي التأسيس الفعلي لعمل برلماني حقيقي، والتي من شانها أن تفقد الطرف المعارض القدرة على إيجاد حلول لا تكون مجتزأة، أضف إلى ذلك تظل مسألة اختيار الكفاءات للعمل النيابي هي بمثابة حجر الزاوية في مجمل العمل النيابي، ونرجو أن يستفيد الأخوة في الوفاق باعتبارهم فصيلا معارض من سلبيات العمل النيابي في الفصل التشريعي الثاني، فالتحدي الآن أصبح في كيفية توظيف القصور والعمل مع الآخرين بشكل يخدم العملية السياسية ولا يسمح بتراجعها إلى الوراء خاصة وأن معوقات العمل البرلماني لدينا كثيرة، وأصبح التعاطي معها يحتاج إلى أكثر من انتظار تحقق عدالة الدوائر الانتخابية أو حتى النظام الانتخابي لنبدأ العمل مع الآخرين! فالأفق السياسي المعارض يجب أن يفتح على العمل الوطني  المشترك من دون تبريرات لا تقبل الصمود على أرض الواقع والمهم أن لا تضيع أربع سنوات أخرى قادمة على الوطن والناس.                                             

كيف تتوقع أن يكون دور الانعقاد الرابع؟
ج3) عادة ما يكون دور الانعقاد الرابع هو دور قصير  ومكثف، وكثيرا ما تلقي الانتخابات البرلمانية المنتظرة بظلالها عليه وعلى الكتل وأداءها الذي عادة ما يكون مرتبكا ولاهثا، وأعتقد أننا سنشهد اتجاها محموما ناحية تحقيق الخدمات خاصة الإسكانية والبلدية على حساب التشريع والرقابة، التي اعتقد أن الحكومة تعتبر نفسها في وضع مريح حيالها، حيث المسائلة لا تتعدى الحديث عن الكم وليس الكيف، أو النوع سواء فيما يتعلق بأسئلة النواب أو حتى بالنظر للجان التحقيق التي لم نشهد فعلا وتأثيرا حقيقيا لها على الأرض.                             .                                                                                                      


الآن ماذا عن المعارضة خارج قبة البرلمان، كيف تقييم ادائها؟ هناك من يرى بان المعارضة تعاني من ضياع البوصلة والتشرذم،ما رأيك؟ ما الذي يضعف المعارضة اليوم؟ هناك من يتهم المعارضة باللعب على عواطف الناس أكثر من العمل ضمن برنامج سياسي؟ خصوصا وان بعض اطرافها لعب دورا في تبرير حالات العنف التي شهدتها المملكة في السنوات الاخيرة؟ ما تعليقك؟ 
ج4) بكل أسف أقول أن أداء  قوى المعارضة خارج البرلمان تكتنفه عدة أمور من بينها حالة عدم الانسجام بين مختلف الأطراف المعارضة، مع محاولة البعض منها اللجوء أحيانا إلى خطابات تصعيدية  لاهثة أو استحواذية، بحيث تكفل لهذا البعض أن يكسب أرضية وشعبية غالبا ما تكون وقتية وزائفة ومضرة لمجمل العمل السياسي المعارض، وكل ذلك على حساب العمل السياسي الحقيقي المدروس والممنهج لتحقيق أولويات القوى المعارضة ومصالح الجماهير ألتي يطرب بعضها أحيانا لخطابات التصعيد  التي كثيرا ما تذهب كالزبد ولا تقدم جديدا ولا حتى عملا معارضا ايجابيا بل عدمياً، فهو عمل يعتمد لغات عدة منها التهييج والمبالغة والقفز على الأولويات وخلط المفاهيم وضياع الرؤية والابتسار، والتي بكل أسف سرعان ما تتحول إلى سخرية لدى الشارع وتصيب بسلبيتها مجمل العمل السياسي في مقتل، وتزيد بالتالي من حالات الإحباط لدى الجمهور الذي كان يوما مشدودا إلى ذلك الخطاب تحت ضغوط أزماته، التي لا يجد لها حلولا سوى التنفيس الوقتي ، وهذا كما تلاحظين لا يبني معارضة صحية وحقيقية ذات مسئولية أدبية تجاه الشارع، ومن شأن ذلك أن يفقد المعارضة ثقة الناس والجمهور، وبالطبع ينعكس ذلك على الحالة المعارضة ككل وليس على أطراف دون غيرها، ورغم أن هناك قوى سياسية مهمة تسعى لتجويد وترشيد العمل السياسي إلا أن جهودها سرعان ما تضيع في زحمة وفوضى غير مبررة، والمطلوب مزيد من الوعي السياسي لدى الشارع ومزيد من الخطاب السياسي الراشد  لبعض القوى المعارضة التي يجب أن تكون بوصلتها  الوطن والناس ومصالحهم بالدرجة الأولى، وليس عواطفهم العابرة وطوائفهم أو حتى معتقداتهم التي تقحم بتوظيفات  عقيمة وبائسة، فالمعارضة العاقلة والحقيقية هي التي تضع بوصلتها باتجاه مصالح الوطن والجماهير وليس باتجاه نجاحات وقتية أو حتى انتخابية سرعان ما تصطدم بالحقائق على الأرض لتظهر انتهازيتها ووصوليتها أو حتى خواء بعضها، خلاصة القول إن المعارضة بشكل عام في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في الكثير من الأمور المرتبطة بطبيعة  ومرتكزات العمل السياسي المعارض حتى لا تجر من حيث أرادت أو أريد لها إلى متاهات ومنعرجات تفقدها دورها ورسالتها الحقيقية وتخلي الشارع من حولها لتبقى مكشوفة الظهر وفي عجز مريع!                                                                                
 


ما رأيك في موقف الوفاق من تقاعد النواب؟
ج5) لا ادري لماذا الإصرار على  سؤالي حول موقف الوفاق من هذه المسألة فقط، فلماذا لا يكون السؤال حول موقف جميع الكتل التي  وافقت على المشروع؟  من واقع خبرة برلمانية متواضعة اعتقد أن مشروع تقاعد النواب هو بصراحة لعبة سياسية اكبر من كونها حقا أصيلا لكل نائب كما هو معمول به في أكثر بلدان العالم،لكن اللافت في موقف الوفاق تحديدا هو انتقادهم المستمر لتقاعد النواب طيلة الفصل التشريعي الأول لنا ولغيرنا من النواب والذي كان مستندا على فتاوى ومرجعيات وجمعيات أربع ومؤتمر دستوري نعرف جميعا مواقفه السابقة واللاحقة من العمل البرلماني، وانتقادات لم تهدأ بالانتهازية لنواب 2002 وحتى تخوين من قبل البعض الذي كان يلاحقنا بالسؤال من مجلس إلى مجلس ومن ديوانية إلى أخرى رغم أننا الكتلة الوحيدة التي رفضت المشروع في برلمان 2002 رغم أننا كنا نتفهم المبدأ  وضرورات التقنين لمثل هكذا أمور، وكان يفترض أن ينظر إلى المشروع من مختلف زواياه من قبل جميع الكتل التي صمتت جميعها محملة الوفاق مسئولية الرد والدفاع حتى هذه اللحظة، بصراحة أقول أن تقاعد النواب كان يمكن أن يحسم بمرسوم على شاكلة حزمة المراسيم التي خرجت تباعا قبيل انعقاد برلمان 2002 فلماذا لم يتم ذلك؟ فهل كان ذلك أمرا مجيّراً؟ وبالطبع هناك من يجير هذا الخلط الى حيث يتداخل  ما هو سياسي بما هو مبدئي وحقوقي وقانوني ومبدأي وعلى ألشارع هنا ان لا يكون مسيرا أو موظفا بل أكثر وعيا ويقظة وان يمتلك حسا موضوعيا ناقد.
                                          
برأيك لماذا كان هناك رد فعل عنيف إزاء الوفاق من قبل الشارع تجاه هذا الملف؟
ج6) اعتقد أن ردة الفعل  جاءت من الشارع وبعض القوى السياسية  الحليفة للوفاق، خاصة وان التوقيت  رغم انه اعد بين الكتل والحكومة إلا أنه لم يخدم الوفاق كطرف معارض، والتي وجدت نفسها مدافعة عن المشروع الذي وقفت ضده واستثمرته لسنوات، وجاء دفاعها هذا عبر مناظرات وندوات لم تتوقف حتى اللحظة وساندتها مواقف لبعض المرجعيات وصلت إلى استدعاء فتاوى من خارج الحدود، دون جدوى، فاللعبة السياسية وبعض الخصومات والمناكفات السياسية كانت لها أبعاد لم تستنفذ أغراضها حتى هذه اللحظة على ما يبدو.                 

هل تتوقع أن تحصد الوفاق ذات المقاعد في البرلمان القادم؟
ج7) اعتقد أن الواقع الانتخابي لانتخابات 2010 سوف يكون مختلفا على الوفاق وعلى غيرها فإفرازات الواقع السياسي ربما تكون قد خلقت واقعا سياسيا سوف تكون له إسقاطات مباشرة وغير مباشرة، وأنا لا استبعد استحضار أدوات وحقائق سوف تكون بلا شك صادمة للجميع، وإن كنت لا أتمنى ذلك لأنها سوف تعني مزيدا من الخسائر لنا كشعب ووطن، وهنا لابد من القول أن هناك حاجة للتأسيس لفهم يتجاوز منطق الخصومة والمكابرة أو حتى استحضار الماضي بسبب وغير سبب، ولابد من التفكير في مستقبل البلد الذي لن  تفيده المماحكات السياسية الباعثة على السام والتي تضر بمستقبل هذا الوطن بكل طوائفه وتياراته ولها نتائج وخيمة بدأنا نتحسس بعضها بشكل أكثر وضوحا، والتي لا تريد أن تتوقف والتي يظهر منها استعداد أطراف بعينها لتسقيط أو تقليص بعضها لصالح حسابات هي ابعد ما تكون عن الوطن ومصالحه، وهي لغة غير عاقلة بل  أقول متآمرة ويجب أن تتوقف فهذا الوطن لا يستحق منا أن نقحمه على الدوام في صراعات عبثية  المستفيد منها فقط أفراد أو جماعات كثيرا ما تجد في الاستحقاق الانتخابي مدخلا لتمارس عبثيتها بكل صفاقة، فهذا لا يخدم الإصلاح وعملية التطور الديمقراطي ولا حتى المشروع الإصلاحي ذاته، والذي ننتظر  منه أن يجدد نفسه باستمرار ويزيل عنه ركام سنوات من التراجع الذي ناله كمشروع،ليفرض نفسه على الأرض كمشروع كل البحرينيين وليس مشروع  بعض النخب أو الأطراف المتصارعة إلى ما لا نهاية من دون طائل.
                                     


بشكل عام هل ستكون تركيبة برلمان 2010 مماثلة للتركيبة الحالية؟
ج7) أتوقع أنه  في ظل المعطيات الحالية أن لا يتغير الكثير وإن كنت أرى أن برلمان 2010 يراد له أن يكون برلمان فيه نسبة اكبر ممن يسمون بالمستقلين، خاصة وأن الدوائر الانتخابية لا زالت تمثل إشكالية كبرى والقانون الانتخابي أيضا يعتبر عقبة أخرى ويساعد هكذا وضع ما أفرزته الأحداث ومجرياتها من فرز طائفي سنظل نعاني منه إلى فترة لن تكون قصيرة.                                                                   

لنتقل الى التيار الوطني، سمعنا كثيرا عن وحدة التيار الديمقرطي، الا اننا لا نجد سوى تنسيق على صعيد البرنامج الاجتماعية لا أكثر لماذا الى الآن لا يوجد تحرك جاد لتأسيس هذا التيار؟
ج8) التنسيق بين مكونات التيار الديمقراطي  تجاوز الى حد ما مسالة البرامج الاجتماعية، وان كنا نام لان ياخذ مساحات اكثر، وهو يلقى اهتماما كبيرا من قبل المعنيين من جمعيات وشخصيات ونحن في المنبر الديمقراطي  تحديدا سعداء بمستوى التنسيق وإن كنا نتمنى تسارع وتيرته باعتباره هدفا إستراتيجيا نحو بناء حركة وطنية ديمقراطية نجد فيها بالفعل خيار المستقبل لهذا الشعب الذي لا زال يستذكر بكل فخر أمجاد العمل الوطني الحقيقي أبان هيئة الإتحاد الوطني مرورا بكل تاريخنا الوطني ونضالات شعبنا للإنعتاق من الاستعمار والهيمنة ونحو مجتمع الحريات والعدالة والديمقراطية، والتي لا  تغذيها تمايزات العرق والمذهب أو القبيلة أو النسب ولا تضللها المرجعيات بكل تلاوينها بل يظللها الوطن بكل تاريخه، وتحميه الجماهير التي تجد فيه الملاذ من كل تلك الأحقاد التي بدأت تتناوبنا من كل حدب وصوب، وأصبحت تحملنا  نحن في التيار الديمقراطي مسئولية أن نكون جميعنا على استعداد للاضطلاع بها بأمانة للأجيال القادمة وكل المخلصين الذين لا يساومون على تراب ومستقبل هذا الوطن ويرفضون تقسيمه تحت أية مسميات.                                                                        



هل يمكن النزول في الانتخابات بقائمة وطنية موحدة تجمع اطراف التيار الديمقراطي؟
ج9) المنبر الديمقراطي التقدمي هو أول من بادر في انتخابات 2006 بالدعوة لتشكيل كتلة الوحدة الوطنية والتي دخلتها شخصيات سياسية وحقوقية ودخلتها المرأة وكان فيها من التنوع  الكثير وكنا نأمل أن تجد الكتلة تجاوبا اكبر، لكن هكذا هي طبيعة العمل السياسي وتحولاته، والمهم  ان الحاجة لكتلة الوحدة الوطنية هي ما يطرحه الجميع ومنهم من هو جاد ومنهم من سيستخدمها للاستهلاك من دون قناعة حقيقية، ونحن بحسب فهمنا للعمل السياسي وتراكماته نتفهم حاجة الآخرين للتحالف في صيغ مختلفة من دون شك ولكن آمالنا في تشكيل وطني  للانتخابات النيابية القادمة هي باتساع الفضاء الذي يمكن أن يستوعب كل المخلصين.                                                                     

هناك من يتهم المنبر بالانتقاء في تأسيس هذا التيار، واستثناء جمعيات سياسية لبيرالية منه، بمعني ان المنبر متهم باختزال التيار الوطني والديمقراطي في الامتداد القومي والشعبية والتحرير، ما تعليقك؟
ج10)  هذا كلام غير دقيق ، لكن الواقع يقول أن أي تحالفات أو تنسيق  بين مختلف مكونات التيار الديمقراطي لا يمكن لها أن تستتب وتقوى من دون وجود تنسيق مشترك وأولي بين هذه المكونات الثلاثة، ونحن لم ولن نضع فيتو على أي طرف نجد فيه الإخلاص  للوطن ووضوح الأجندات ولديه مفهوم وطني ديمقراطي حقيقي، ونتيجة حرصنا على نجاح التنسيق بين مختلف القوى فإننا بحاجة لتفهم وإفهام شركائنا في هذا العمل الاستراتيجي الذي نرى فيه المستقبل بضرورة الاستفادة من تجارب الماضي خاصة وان موقعنا النضالي وتاريخنا المشترك كقوى تقدمية ووطنية وديمقراطية  يشفع لنا بأن نؤسس معا فهما موضوعيا يضمن تحقيق أقصى درجات النجاح ونحن لهذا منفتحون على كل الفضاء الوطني والشخصيات الوطنية من دون استثناء وللأمانة فإننا نلقى تشجيعا ودعما من قبل كل هؤلاء للاستمرار والمضي في مهمتنا التي نراها ويراها معنا كل هؤلاء المخلصون أنها مهمة تاريخية لابد أن ننجزها مهما برزت أمامنا من عقبات.      



ما سبب الضعف الذي يعانيه التيار الديمقراطي؟
ج10) الضعف الذي يعانيه التيار الديمقراطي له عدة أسباب بعضها موضوعيا وبعضها ذاتيا، فكما تعلمين التيار الوطني الديمقراطي هو من كان يقود مسيرة العمل الوطني طيلة  العقود التي سبقت عقد التسعينات بل أن عقد التسعينات ذاته يخبرنا أن العشرات من مناضلي جبهة التحرير الوطني البحراني كانوا  يملئون المعتقلات حتى منتصف التسعينات وكانت المنافي شاهدة على ذلك العدد  الكبير من المناضلين الذين ينتمون للتحرير والشعبية حتى مجيء الميثاق، فيما كانت الأبواب مفتوحة  والمنابر والأموال وعناصر التعبئة الجماهيرية متوافرة لدى من يتصدرون العمل السياسي اليوم،أضف إلى ذلك تحولات العمل السياسي على المستوى المحلي والإقليمي  والعالمي والتي ترافقت مع انتهاء فترة الحرب الباردة وما لها من انعكاسات سلبية على دعم حركات التحرر الوطني ودخول المنطقة في أكثر من ثلاث حروب مدمرة والعسف الذي أصيبت به القوى الديمقراطية التي حوصرت واضطهدت وهمشت طيلة العقود الثلاثة الأخيرة لحساب تيارات وقوى  أصبحت بفعل ذلك تمتلك مقومات العمل الجماهيري التعبوي ولكنها لا تمتلك مقومات العمل الوطني الديمقراطي الحقيقي.               



من ضمن الانتقادات الموجهة للمعارضة الوطنية بأنها ترفض مد اليد للتعاطي مع السلطة، ما رأيك؟
ج11) هذا سؤال ملتبس، فما هو المقصود باننا كقوى وطنية لم نمد اليد للتعاطي مع السلطة، وأنا لا أتحدث بالنيابة عن الكل ولكنني اؤكد أن القوى الوطنية الديمقراطية قدمت الكثير  من الدعم والإسهام لإنجاح كل المشاريع التي رأينا فيها مصلحة وطنية فقد دعمنا ميثاق العمل الوطني ودعمنا كل توجهات الإصلاح التي تعطلت بفعل فاعل وليس بسبب عدم مساندتنا، ودعمنا مشاريع التنمية السياسية والاقتصادية كما في قوانين العمل والنقابات وتنظيم سوق العمل ورؤية البحرين الاقتصادية وشاركنا من موقعنا في انتخابات 2002 وانتخابات 2006 رغم علمنا بقصور التجربة وكل المحاذير الدستورية التي لا زلنا نطالب بإصلاحها وليس هناك من يسمع ودعونا لمحاربة الطائفية والتمييز والفساد في برامجنا وندواتنا وعملنا البرلماني وورش عملنا وبرامجنا السياسية ووضعنا تحت تصرف الوطن كل طاقاتنا  وخبراتنا التي صقلتها التجارب لعقود لخدمة الوطن من قانونيين وحقوقيين وأطباء واقتصاديين ونقابيين ومفكرين وأدباء ومفكرين ومثقفين وغيرهم كل ذلك في سبيل نهضة وطننا ولم نطلب سوى أن نكون شركاء حقيقيون في نهضة الوطن  من دون منة عليه.                                                  

المنبر التقدمي دخلت انتخابات 2002 وفازت بثلاثة مقاعد ولم تكن حينها قد شاركت الوفاق، وفي2006 أيضا شاركت الوفاق واسقطت التقدمي، كيف للمعارضة أن تسقط المعارضة؟
ج12) هذه هي طبيعة الحراك السياسي والإنتخابات بشكل عام، خاصة عندما ينعدم التنسيق بين مقومات قوى المعارضة أو تغيب التحالفات أو يصاب العمل السياسي المعارض بعاهات وتشوه.. ونحن نتقبل ذلك ونتفهم ظروف العمل السياسي بشكل عام ونسعى لإصلاح ما اعوج منها بقدر طاقاتنا، من هنا  يمكنك  فهم مغزى حرصنا الدائم على إيجاد صيغة عمل وطني  ربما تبدأ مع الانتخابات لكنها حتما يجب ان تمتد إلى أفق العمل الوطني الواسع والبناء.                     



مجلس النواب متهم بالطائفية والانقسام، ما هو السبيل للخروج من هذه الازمة؟
ج13) السبيل لذلك هو أن يكون لدينا أولا قانون مفعل لتجريم الطائفية والتمييز وان يعاد النظر في النظام الانتخابي برمته وأن ترسم الدوائر الانتخابية على أسس أكثر إنصافا للجميع، وحتى تزول كل مظاهر الغبن الاجتماعي وتسود العدالة، ويعاد النظر بصورة عملية في كافة التشريعات التي تغذي عوامل الفرز المذهبي والطائفي، وعلى الدولة أن تتحمل كامل مسئولياتها تجاه ذلك بالدرجة الأولى حتى  تكون لدينا وزارات لا تعرف الطائفية ومسئولون لا يعملون لأجل الطوائف  ومناهج لا تخرج أجيال مشوهة طائفيا ووطنيا وتشريعات عادلة تنصفنا جميعا على قاعدة المواطنة، حينها فقط سوف يكون لدينا مجلس نيابي وطني لا يعرف الطائفية، واعتقد أن ذلك ممكن جدا لو تفاعل المعنيون من رسميين وعلى مستوى الدولة مع هذا النهج والتوجه حبا في البحرين وأهلها.                              

الوفاق طرحت مشروع الدائرة الانتخابية الواحدة ما رأيك فيه؟ المنبر التقدمي طرح خمس دوائر الانتخابية، لماذا خمس تحديدا؟
ج14) بين طرح الوفاق لتوجهها  نحو الدائرة الواحدة وطرحنا لرؤية متكاملة ومفصلة للدوائر الخمس يكون هناك عامل مشترك بين قوتين أساسيتين في مجتمعنا البحريني تسعيان لأن يكون هناك نظام انتخابي أكثر عدلا ويحقق مصالح الجميع وبإمكاننا كقوى سياسية وبالتعاون مع الآخرين أن نحقق تفاهما وطنيا حول النظام الأنسب للانتخابات ولكن الأهم من ذلك هو أن تقبل السلطة بالتنازل عن موقفها لمصلحة بناء نظام انتخابي صحي وحقيقي، ونحن في المنبر الديمقراطي التقدمي نجد أن مشروع الدوائر الخمس يحقق العدالة للجميع  ويعطي مساحات من المشاركة السياسية لمختلف مكونات المجتمع وللنساء تحديدا  وللقوى الأصغر حجما جماهيريا وهذا في حد ذاته مكسب للمشروع الإصلاحي الذي لا نقبل أن يكون جامدا وغير متطورا، وسوف نطرح رؤيتنا للدوائر الخمس بصورة أكثر تفصيلا وشرحا للجماهير في الفترة القلية القادمة ولدينا كامل الثقة في قبولها الجماهيري بشكل كبير ولكن يبقى تجاوب السلطة معنا في تحقيق ذلك.                                                      


هل يمكن أن تحل المشكلة الطائفية في ظل الانقسامات الحالية وسيطرت الإسلام السياسي؟
ج14)  أنا لا اعتقد أن قوى الإسلام السياسي بقادرة  أو مؤهلة للإسهام في حل الانقسامات الطائفية ، فهذه القوى إما يعتاش بعضها على الطائفية أو يستفيد أو يوظف بعضها الآخر تداعياتها، وهي قوى لا يمكن التعويل عليها أبدا لحل المشكل الطائفي، والدليل هو ما تقوم به قوى الإسلام السياسي من توظيف طائفي ومذهبي بغيض إبان الانتخابات والتحشيد  لها على أسس طائفية ومذهبية وفئوية فكيف لها أن تقنعنا بعد ذلك بقدرتها وحرصها على محاربتها.
 
هل صحيح ان التيار الوطني يحمل خطاب نخبويا بعكس التيار الإسلامي الذي يتعامل مع الناس بشكل مباشر؟
ج15) التيار الوطني لم يكن فيما مضى  يحمل طابع نخبويا محضا، فقد كانت إسهامات الحركة الوطنية ممتدة على كل شبر من ارض الوطن وتاريخه وعبر تضحيات ونضالات لا يمكن لأحد نكرانها فالتيار الوطني كان في المدارس وفي المصانع وفي الأدب وفي الثقافة  وفي الفكر كما كان في الزنازن والمعتقلات والمنافي، لكن إرهاصات العمل السياسي ومحاصرة القوى الوطنية في رزقها وعملها وإمكانات تطورها والسعي الممنهج لتحجيمها فرضت واقعا لا يمكن له أن يستمر حيث انكفأت النخب وعُزلت عن الجماهير والعمال والبسطاء، وتكونت نتيجة لذلك طبقات وفئات نفعية سخرت ووظفت الفراغ الذي تركه عزل القوى الوطنية وتهميشها لبناء قوى تقوم على مفاهيم تتخذ من الدين وسيلة ومن المشاريع الخيرية منفذا لقلوب الناس وحاجاتهم، من هنا تحولت القوى الوطنية قسرا لكي تصبح معزولة وفي أحسن الحالات نخبوية، ولكن هذا الوضع لن يستمر فالساحة ومعطيات الواقع تقول بالحاجة لإعادة الاعتبار للقوى والتيارات الوطنية التي ترى فيها شرائح واسعة مستقبل الوطن.   

كيف تقرأ مستقبل المعارضة السياسية في البحرين؟
ج16)   أعتقد أن مستقبل المعارضة سيظل مرهونا بقدرتها على  فهم واقعها السياسي بشكل أكثر عمقا وموضوعية، كما أن مستقبلها مرهون بقدرتها على نسج تحالفات وعمل وطني حقيقي فيما بينها ليس بهدف مصالح انتخابية وقتية،  وإنما لمصالح ذات أبعاد إستراتيجية يكون فيها الوطن ومستقبله وتنميته خيارا لا رجعة فيه بالنسبة للمعارضة والحكومة، ويجب حينها مغادرة العقلية القائمة بالنسبة لطبيعة إدارة الملفات بينها وبين السلطة ، وهنا يتحتم على السلطة أن تبدي مزيدا من الشراكة مع المعارضة باعتبارها ضرورة وليست ترفا، حيث أن عملية التطور السياسي في أي بلد لا تبنيها الحكومات في معزل عن المعارضة، فالمعارضة هي عامل صحة وقوة للنظام السياسي لأي بلد، ومن شأن العمل السياسي أن يُرشد كل بوادر التطرف لدى الطرفين، فالمسألة إذا تكمن في  ضرورة الإذعان لمبدأ الشراكة الذي تحتاجه الحكومات كما تحتاجه المعارضة، وهو خيار يجب تفعيله  والتدرج فيه على أرضية من الشراكة الفاعلة وليس عبر تهميش القوى المعارضة أو إلغاءها.

اقرأ المزيد

من يتلقف شكوى حسن مدن؟

عن المجتمع المدني «الجديد» كتب الدكتور حسن مدن الأسبوع الماضي. وتساءل في ما إذا كان من الممكن إطلاق صفة “المجتمع المدني” على مجموعات تأسست خلال السنوات الماضية وانتشرت كالفطر في دول عربية عدة، بما فيها البحرين وبعض دول الخليج الاخرى. كثير من هذه المنظمات والجمعيات (وبعضنا يعرف أصل وفصل البعض منها) تلتحف برداء المجتمع المدني لكنها تتنفس هواءً غير مدني بالتأكيد. فالأكسجين الذي يمدها بالحياة يقتل «المدني» الذي يفترض بها أن تمثله أو تدافع عنه. تساؤلات الدكتور لم تنح منحى اتهاميا، بما عرف عنه من هدوء دبلوماسي وكياسة كاتب لا ينزع نحو السجال غالبا. لكنه أضاء على أية حال زاوية معتمة. وظاهرة ملتبسة. اختلط فيها علينا الأبيض بالأسود. فباتت الجمعيات والنوادي تراوح في المنطقة الرمادية. بلا نكهة أو رائحة. ومن دون هوية. ليس هذا الكلام تعميما بالتأكيد. فعلى الأرجح أن هناك مؤسسات مخلصة لرسالة المجتمع المدني. لكن تلك المنظمات هي التي تعمل بصمت. وتسهم في إزالة معاناة الكثيرين من المعوزين والمقهورين في أرجاء المنطقة العربية. كما أن هناك مؤسسات اشتهرت في المنطقة باستقلاليتها. وفرضا احترامها. واحترام من تمثل. مثل نادي القضاة المصري الشهير. لكن هناك فقرة تثير الانتباه في مقالة الدكتور حسن، وهي التي تشير إلى انتقال «الحزبيين» من خانة السياسة والمعارضة إلى خانة «الناشطين في المجتمع المدني» من دون أن لهم القدرة، في ما يبدو، على إنقاذ الحياة الحزبية أو إثراء المجتمع المدني. يقول: «نجد الكثير من الحزبيين الخائبين الذين هجروا تنظيماتهم تحولوا بقدرة قادر إلى خانة جديدة، حيث يروق لهم أن يوصفوا، تبعاً لمواقعهم الراهنة، بالناشطين في المجتمع المدني، فيضمنون بذلك مجد البقاء في دائرة الضوء والتزاحم على حضور الفعاليات والمؤتمرات التي لا يمر شهر من دونها في هذه العاصمة أو تلك، لكن (من دون) أن يتعين عليهم دفع الضريبة الباهظة التي يسببها العمل السياسي النضالي». كمخضرم في العمل الحزبي، وكسياسي في زمن الإصلاح، يصبح الدكتور حسن «شاهدا من أهلها» في قضية حساسة وحرجة تخص منظمات عقد الكثيرون عليها الآمال في التغيير المأمول. ويعلق الجرس للتحذير وضرورة المساءلة (الذاتية) حول ما وصلت إليه حال تلك المنظمات. لا أحد يشكك في «ذكاء» الحكومات وقدرتها على تحويل «الهزيمة» إلى نصر. وقدرتها على كسب «ولاء» جمعيات أهلية يفترض بها مراقبة أداء الحكومات ومحاسبة صناع القرار وانتزاع حقوق البسطاء من فم الهوامير. لكن المثير سقوط عدد هائل من تلك المنظمات في حضن الحكومات. وصارت رأس حربة في الدفاع عن الفساد والترهل الإداري. بعضها تورط في محاربة مؤسسات المجتمع المدني الأخرى، عبر اتهامات «العمالة» والتخوين. قضية الدكتور سعد الدين ابراهيم لا تزال حاضرة في الذاكرة. وكذلك القضايا التي تورطت فيها بعض جمعيات حقوق الإنسان في دول خليجية دافعت عن الظلم المحيق مثلا بالعمالة الأجنبية. وثارت ثائرتها حين نشرت منظمات حقوقية دولية تقارير عن سوء معاملة الخدم في بعض دول الخليج. أو عن التمنع عن دفع رواتب العمالة غير الماهرة. أو احتجاز جواز السفر. كذلك انحرفت بعض تلك المؤسسات عن نظامها الداخلي لتصبح مرآة للأنظمة التي تنتقدها. فتجد المسؤولين فيها متربعين على «الكرسي». وتأتي نتائج الانتخابات بالتزكية. أو يحرم البعض (من مناوئي الرئيس) من حق التصويت لأسباب «فنية». أو يصبح بعض مسؤولي الجمعية كتبة تقارير لمؤسسات الأمن الرسمية. إن السنوات العشر الماضية كافية لتقييم عمل الكثير من هذه المؤسسات. وربما الحكم على المبدأ الذي يحكم عمل الغالبية العظمى منها. لكن الدكتور حسن في مقالته تلك (13 يوليو 2009) يتوقف عند حد النقد. ولا يشرح كيف يمكن الحد من التشوه الذي طال عمل مؤسسات المجتمع المدني. يشكو من أن «ذلك ليس بالمجتمع المدني الذي نريد». لكنه لا يقارب ما يمكن عمله لتصحيح الوضع المزري لبعض هذه المؤسسات. ربما ذلك ليس مطلوبا منه على كل حال. حسنا فعل بإضاءته تلك. ويبقى على المتصدين للعمل «الأهلي» مناقشة ذلك الوضع وتشريحه. وتقييمه. فليس كل تلك المؤسسات فشلت في رسالتها. فيها ما يبعث الأمل. وفيها ما يمكن اعتباره نوذجا مثاليا لما يمكن عمله بإمكانات محدودة. لكن التقييم مطلوب. ولا بأس أن تكون البداية في البحرين. وهي من الدول العريقة في الخليج في احتضان وتشجيع العمل الأهلي. وتمتلك من المقومات ما يجعلها رائدة في «الحركة التصحيحية» المطلوبة في قطاع مؤسسات المجتمع المدني. وتتمتع بحريات تمكنها من النقد والتقييم ما يتعذر القيام به في دول عربية وخليجية أخرى. فمن يطلق صافرة البداية..؟ ومن يتسلم الراية..؟ حرام أن تضيع جهود مخلصين أسسوا لعمل مدني متفان. والأشد حرمة أن نرى تلك المؤسسات تتحول «مزارع» جديدة لمتنفذين، فلا نستطيع اعتراضا.
 
صحيفة الايام
21 يوليو 2009

اقرأ المزيد