المنشور

هل العولمة أمريكية؟!


كثيراً ما يجاب على ذلك بالإيجاب، فكثيرة هي الكتابات التي تساوي العولمة بالأمركة.. وهذه المساواة تنطلق في حالات عديدة من ردود فعل مشروعة تجاه ما نعيشه من غلبة لنمط الحياة الأمريكي على النمط المعولم الذي يجتاح العالم.

وإذ تقترن هذه الغلبة بالشعور العميق بالمظالم التي تسببها السياسة الخارجية الأمريكية في مناطق عدة من العالم، خاصة في عالمينا العربي والإسلامي، فإن الأمر يصبح مثل البداهة التي لا ترد: العولمة هي الأمركة.

لكن هذه البداهة بحاجة إلى فحص وتحليل.

هل أوروبا أقل اهتماماً بالعولمة من الولايات المتحدة الأمريكية، أليست الموجات الاستعمارية الأولى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر موجات أوروبية: فرنسية وبريطانية وهولندية وروسية وإيطالية… إلخ.

أليست هذه الموجات شكلاً مبكراً، أو جنينياً إن شئنا، للعولمة أدت فيما أدت إلى خلخلة البنى الاجتماعية التقليدية في البلدان الفقيرة النائية، وفرضت عليها أنماط إنتاج وسياقات ثقافية واجتماعية «دخيلة» عليها.

ولماذا العودة إلى التاريخ، تكفي نظرة متفحصة للحاضر: هل فرنسا أقل عناية بنشر الثقافة الفرانكفونية في النطاقات الجغرافية التي تستطيع إليها سبيلاً من عناية الولايات المتحدة بنشر الأنجلوساكسونية وحصراً نمط الحياة الأمريكي منها.

هل اليابان أقل عناية من أمريكا وأوروبا في السعي للمنافع الاقتصادية في مناطق مختلفة من العالم حتى لو استدعى الأمر أن تسير إلى تلك المناطق بوارج حربية وحاملات طائرات؟

هذه كلها أسئلة للتأمل..

ولكن ثمة أسئلة أخرى لا تقل أهمية: هل الأدب المنتج في أمريكا اليوم هو أدب أمريكي صرف.. ماذا عن الأدباء الأمريكان المتحدرين من جذور زنجية أو صينية أو لاتينية أو سواها.. هل ما تقدمه المختبرات الأمريكية من اكتشافات وتقنيات هي اكتشافات أمريكية صرفة؟

ما الذي يفسر أن عالم الكيمياء المصري الأصل أحمد زويل ينال جائزة نوبل في الكيمياء باسم أمريكا، وما الذي يجعل اللبناني أمين معلوف مقروءاً بالفرنسية قبل أن تترجم رواياته، وهو العربي المولد والنشأة والتجربة، إلى العربية؟!

ماذا نقول عن كاتبة ولدت في فرنسا من أبوين جزائريين أخذت منهما كل جيناتها الوراثية حتى لو لم تنطق بالعربية، ثم أنها في صباها هاجرت إلى أمريكا وفيما بعد أصبحت كاتبة بالإنجليزية: هل هي كاتبة عربية.. أم فرنسية أم أمريكية؟

هذه أيضاً عولمة..!

اقرأ المزيد

المرضى بين الأدوية المغشوشة والأدوية الغالية


ليس من قبيل القول ان تجارة الأدوية باتت من أكثر السلع إدرارا للأرباح في عالمنا اليوم، ولو قيض ان تتخصص نشرة علمية إحصائية في رصد الأرباح السنوية لشركات تصنيع الأدوية الكبرى في العالم ما لم تكن نشرة بذلك موجودة لهال المرء الأرقام الفلكية الخرافية التي تتقاضاها من ارباح مبيعاتها من الأدوية في العالم. والمفارقة ان ذلك يحدث فيما يفترض ان الأدوية تتراجع تجارتها ولو نسبيا بتقدم المجتمع الدولي صحيا وتقدم وسائل الرعاية الصحية، أليست زيادة المعمرين في العالم تفسر تدني معدلات نسب الأمراض في العالم وزيادة الرعاية الصحية في دول العالم المتقدمة.

إذًا ثمة أنواع جديدة من الأمراض التي لم يكن العالم يعرفها سابقا والتي هي من ضريبة الحضارة المعاصرة كالأمراض الناشئة عن التلوث بمختلف أنواعه والأمراض الناشئة عن الحروب والأمراض النفسية المتنوعة التي لربما ازدادت على العصور السابقة، فإن شركات الإعلان وما تملكه وتسخره من وسائل إعلامية عالمية للترويج لأدويتها تارة من خلال أساليبها الجبارة التي تضفي عليها صفة “العلمية” لاقناع المستهلكين الأبرياء بمفعولها الجبار الذي لا يقهر في العلاج، وتارة اخرى من خلال اثارة فزع العالم من امراض تصورها كأنها قنابل نووية ضخمة ستفتك بالبشرية برمتها، ولنتذكر هنا حالة الذعر التي عمت العالم من انفلونزا الخنازير، كل ذلك بلا شك يلعب دورا كبيرا هو الآخر في الترويج لأدويتها الفاعلة حقا او غير الفاعلة او غير الضرورية.

لكن ماذا عن الأدوية “المغشوشة” في عالمنا العربي ومنها دولنا الخليجية؟ وعلى وجه اخص لنتساءل هنا عما اتخذ من إجراءات رقابية لمواجهتها في بلادنا البحرين؟ ان ما نسمعه دوما هو تصريحات وبيانات مطمئنة من قبل المسئولين في وزارة الصحة حول ذلك. لكن هل يعقل أن هذه الوزارة التي لطالما عرفت برقابتها على الاغذية والمطاعم وحققت نجاحا في عمليات الضبط وان كان نجاحا اضحى بحاجة إلى تطوير وتعزيز.. هل يعقل ليست بحاجة على الاطلاق إلى ممارسة اي شكل من أشكال الرقابة على مدى صلاحية وجودة الادوية دع عنك الرقابة على أسعارها؟

حتى الدول الأوروبية المتقدمة لم تستطع بالرغم من تشريعاتها وأنظمتها الطبية والرقابية الصارمة الادعاء بأنها في مأمن حصين عن اختراق مافيا الادوية المرتفعة الأسعار او مافيا الأدوية “المغشوشة” فقد كشفت دراسة مسحية ان مواطنا واحدا من كل خمسة في الدول الأوروبية اشترى دواء عن طريق الانترنت من دون وصفة طبية او استشارة طبية، وان سوق الأدوية في غياب الرقابة الطبية الحكومية حققت مبيعات تقدر بـ 14 مليار دولار. وقد شملت هذه الدراسة دولا أوروبية معروفة بنظمها القانونية والديمقراطية المتطورة مثل بريطانيا وفرنسا وايطاليا وسويسرا وبلجيكا والسويد والنرويج والدنمارك وهولندا والنمسا وفنلندا وآيسلندا وتبين ان السبب الرئيسي لتكالب المستهلكين على شراء هذه الادوية هو انخفاض أسعارها.

وجاء في تعليق لجيم طومسون رئيس منظمة التحالف الاوروبي لتسهيل الحصول على ادوية آمنة ان الرواج المتزايد للأدوية المغشوشة يشكل خطرا على صحة المرضى لانها تحتوي على مواد مضرة او نسب غير صحيحة من المكونات النشطة لعلاج اي مرض من الامراض (انظر الشرق الاوسط 17/2/2010).
ولكن يظل السؤال المهم هل كان المرضى الاوروبيون، ناهيك عن المرضى في دول العالم الثالث الفقيرة، سيقدمون على شراء ادوية مغشوشة رخيصة الثمن بصرف النظر عن مدى سلامتها وجودتها الطبية الصحية لولا وجود ادوية باهظة الثمن من قبل شركات الادوية الكبرى ذات الشهرة العالمية؟

ان صحة وموضوعية السؤال تتعززان هنا اذا ما علمنا بأن من مول تلك الدراسة التحذيرية الاوروبية من الادوية المغشوشة هي شركات الادوية الكبرى ذاتها.
ومن يدري فلربما بعض الادوية التي تدعي هذه الشركات الكبرى بأنها “مغشوشة” ليست مغشوشة وانما يراد اقصاء هذه الشركات الصغيرة ذات الاسعار المعقولة عن منافستها للشركات الكبرى الاوروبية ذات الادوية المرتفعة الاسعار.

وفي كل الاحوال فإن المستهلك المريض الفقير هو الضحية بين الادوية “المغشوشة” ان تكن مغشوشة حقا والادوية المغشوشة الباهظة الثمن وخاصة تلك التي يروح اخطبوط من الاطباء الخالين من ضمير وشرف المهنة، فهل نسمع من وزارة الصحة ما يفيد بوجود رقابة على الادوية والصيدليات سواء بخصوص الادوية “المغشوشة” ام الادوية المرتفعة الاسعار؟

 أخبار الخليج 14 أبريل 2010

اقرأ المزيد

خليج توبلي وجريمة اغتصابه


لا يمكن فصل العلاقة الطبيعية بين خليج توبلي وجزيرة النبيه صالح ومن كـُتب له وهو طفل أن يقطن منطقة أم الحصم أو على ضفاف ساحل خليج توبلي من جهة الشمال لا يمكن أن تفارق مخيلته تلك الطبيعة البكر لخليج توبلي وسحره الخلاب في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي عندما كانت مياهه الزرقاء الداكنة تفوح بعطر الطبيعة الندي.

  فساحله الملاصق شمالاً لمنطقة أم الحصم كان نقطة تجمع الأهالي والمشدودة أنظارهم نحو الفردوس الأخضر الذي كان يتوسط بحر الخليج وهي جزيرة النبيه صالح ذات الحضارة التاريخية ومزار الأهالي وبخاصة النسوة مع أطفالهم لإقامة النذور على الضريح بقرية النبيه صالح كـُن النسوة يقدمّن النذور ويستأجرن “العبرة أو البانوش” للانتقال إلى جنة خليج توبلي قرية النبيه صالح الصغيرة والتي كانت محاطة بسياج من الحزام الأخضر الداكن والأجواء الباردة بأرضها الخصبة المليئة بينابيع المياه الحلوة وبرك السباحة والتي كانت من شدة صفائها لا يمكن أن تخفي مياهها سطح القاع وضيائه.

 وأهالي القرية كانوا جزءاً من تلك الطبيعة الصافية ببساطتهم وطيبتهم، كانت تلك القرية محط ولائم قرب المسجد ومزارات متكررة لأهالي المناطق المحيطة بخليج توبلي والذين كانوا ينتقلون بالعبّارة والقوارب التي تتهادى على سفح المياه الزرقاء معتمدة على “الخطرة والمجاديف والأشرعة”، في حركتها فلم تكن في تلك الساعة المحركات البحرية في قاموس البحر، كان خليج توبلي في تلك الآونة ثروة بحرية ومرقداً طبيعياً للعديد من أنواع السمك والحياة البحرية، إن كل تلك الطبيعة وجمالها الخلاب أصبح في خبر كان وأطلال مرثية في أذهان من عاشوا تلك الفترة وقُرت عينهم بتلك الطبيعة الخلابة.

 فاليوم تحولت الجزيرة إلى كتلة إسمنتية والكل يتباكى على نباتات “القرم” المنقرضة والجميع يستصرخ محطة توبلي للصرف الصحي لوقف تدفق مياه الصرف الصحي غير المعالجة في مياه الخليج والمناشدات للجهات المسؤولة وأصحاب القرار على قدم وساق تـُطالب بوقف عمليات الدفع العشوائي وعملية سرقة المتنفذون لمساحات وأجزاء شاسعة من مياه خليج توبلي، ربما قد تكون للحضارة والتقدم والمدنية نصيب في تغيير الطبيعة وجغرافيتها لكن ما جرى ويجري في خليج توبلي جريمة بيئية وطنية يتحمل مسؤوليتها أصحاب القرار والمسؤولون بالدولة ممن أجازوا وشرعوا وشاركوا في اغتصاب خليج توبلي وتدميره والقضاء على ثرواته الطبيعية وحولوا مياهه إلى أتربة مدفونة لتقام عليها قصور وفلل وأصحابها لا يشكون من أزمة سكن لديهم، بل من جشع لا حدود له. وأولئك هم ذاتهم من أسهم بتدمير واختفاء العديد من السواحل والمحميات الطبيعية.

وخليج توبلي جزء من ذلك والمخاطر الذي تحاصره اليوم وتخنق أنفاسه وأنفاس أهالي المناطق المحيطة به يتفرج عليها المسؤولون بالدولة وكأنهم يشيعون جنازة الخليج يوماً عن يوم في ظل غياب القرارات النافذة وسيادة القانون لفرض خط الدفان وتحديده فتلك قضية تتقادم وتـُعلك منذ العام 2006 وإلى يومنا هذا ناهيك عن خط الارتداد المسمى الجديد والذي ستكون عملية تطبيقه خاضعة لتعدد مراكز القرار!! وقد تبلغ كلفته 140 مليون كتعويض لملاك الأراضي في ظل شح الموازنة.
نعم يتباكى المسؤولون في هذه الفترة من أجل تنظيف خليج توبلي الذي بلغت ارتفاع الرواسب والمخلفات على قاعه حوالي 5 أمتار وتقلصت مساحة المياه فيه من 21 كيلومتر مربع إلى 13 كيلومتر مربع من جراء عمليات الدفن العشوائي وكلفة عمليات التنظيف قد تصل إلى 15 مليون. لقد تحول خليج توبلي من محمية طبيعية وثروة طبيعية إلى مجمع للقاذورات وتفريخ للملوثات البيئية.

 وكما اغتصبت في بدايات الأمر جزيرة النبيه صالح جوهرة خليج توبلي لتتحول أراضيها إلى فلل وقصور لوزراء ووكلاء وزارة لا طائل منها للمواطن أو عائد على الناتج المحلي واقتصادياته فقد اغتصبت كذلك مياه خليج توبلي لتتحول مرتعاً لسماسرة العقارات والمتنفذين وليُحرم أهالي المنطقة ليس من مصدر رزقهم بالثروة السمكية بل وحتى من الاستمتاع بمنتزه كمتنفس على ضفاف ساحل الخليج. إنه في الوقت الذي كان من الممكن أن يـُستثمر خليج توبلي بشكل سياحي للنفع العام ومركز جذب تجنى منه عوائد مالية تحول بسبب سياسة التخبط إلى بلاء لتـُصرف عليه ملايين الدنانير لترميم وإصلاح عمليات التخريب والاستهتار المتعمد الذي دمر بيئته الطبيعية وأجهض ثروته الوطنية.


 

اقرأ المزيد

ماكياج للتاريخ


لا أذكر الآن اسم من قال مرة إن التاريخ يسخر من الذين يسخرون منه. ولكني قرأت للباحث والمؤرخ اللبناني نخلة وهبة عبارة مشابهة يتحدث فيها عن سخرية التاريخ ممن لم يجيدوا التعامل معه.
والعبارة وردت في حديث عن التاريخ من حيث هو علم لا من حيث هو وقائع: حروب ومعاهدات واتفاقيات ونشوء أو انهيار دول.. الخ. كانت صحيفة قد طلبت من نخلة وهبة أن يشارك في ملف يعده ملحقها الثقافي عن «إعادة كتابة التاريخ».

ففعل نخلة وهبة ما يفعله أي باحث صارم لا يركن إلى اليقين وإنما يغلب الشك والسؤال الدائم. أمسك الرجل بعنوان الملف المقترح وراح يُشرحه عمودياً وأفقياً، ليرى أصلاً ما إذا كانت الفكرة مدار البحث تستحق أن تكون أصلاً مداراً للبحث.

وبدءاً من السؤال الذي يقول: هل ينبغي إعادة كتابة التاريخ، وهو سؤال مستوحى من عبارة شهيرة للفيلسوف الألماني غوته فحواها: أنه ينبغي إعادة كتابة التاريخ من وقت لآخر. لكن نخلة وهبة لم ينسق وراء اسم غوته اللامع ولا وراء عبارته التي تبدو جذابة: «أنا لا أوافق على عبارة غوته ليس إدعاء بأنني أوازيه معرفة أو فكراً، بل انطلاقاً من حرصي على عدم الانبهار الآلي باسم المفكر قبل تقييم فكره وإبعاد احتمال التأثر بوهج شهرة الكاتب عند قراءة إنتاجه».

إنه لا يوافق على وجود تاريخ واحد قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً ولكنه يبقى واحداً على كل حال، فإذا اعتبرناه صحيحاً حافظنا عليه وإن رأينا بأنه خاطئ أعدنا كتابته أو صححناه، ولكن في جميع الأحوال أبقيناه وحيداً فريداً. مثل هذا التاريخ لا يوجد إلا في الكتب المدرسية ويكون مادة للامتحانات لأنه التاريخ الذي اختاره النظام التربوي وعمل على نقله للطلبة.

ثم إنه لا يوافق على أن التاريخ يمكن أن يكون خاطئاً ويمكن أن يكون صحيحاً، فالتاريخ ليس هو الأحداث، إنما هو تأويلها بعد ربطها ببعضها البعض، وتختلف التأويلات للحدث الواحد بقدر ما يتمكن المؤول من تصور شبكات علاقات جديدة بين المتغيرات.

الخلاصة أن التجسيدات المتعددة لمقاربة أحداث التاريخ كانت موجودة وستظل دائماً. لكن ثمة خلاصة أهم: الأجدى أن نهتم بصناعة التاريخ بدل هدر الوقت والمال في تأمين «مكياج» للتاريخ المصنوع بغيابنا أو بعد تغييبنا.

اقرأ المزيد

نريد طحناً بلا جعجعة


كثيرا ما تناقلت الأقلام المثل الشهير نسمع جعجعة ولا نرى طحنا ’ ولكننا اليوم سنحاول قلب المثل من على قدميه إلى رأسه لنقول نرى طحينا ولا نسمع جعجعة ’ واعتقد أن ذلك مقارب إلى حد بعيد مع شرائح ومؤسسات كثيرة وأفراد يعملون بصمت ويمضون لمشروعهم الجماعي والمؤسساتي والفردي أو الشخصي دون الحاجة للمرور إلى عناوين وباقات ورد بلاستيكية بلا رائحة ’ فهناك ظاهرة بدت في المرحلة الأخيرة من زمن الإصلاح والانفتاح ’ بروز ظاهرة التضخم والانا الفارغة والثرثرة المجانية ’ والمغالاة في جوانب عدة ’ إلى جانب حالة النفاق الاجتماعي والخمول السياسي ماعدا تلك الأصوات النيرة والنشطة دائما من اجل تمتين حالة الوضع وتصويب مساراته عبر المؤسسات القائمة ’ بدلا من الاختباء خلف المدرسة القديمة ’ حيث يقف الفرد منتقدا طوال يومه ’ فيما نرى الماء يتحرك من تحته والحياة تأخذ مسارها اليومي ’ حيث بائعو الكلام يظلون سماسرة للماضي ’ ويسقطون في متاهات التخبط والمراوحة ’ ورفض كل ما هو قائم وما هو ممكن ’ وما هو مستحيل أو حقيقة. الظاهرة السوقية في المزاد الكلامي قائم دائما طالما أن هناك أصواتا متعددة في السوق ’ سياسية كانت أم اجتماعية أو إعلامية’ المهم إنها مزدانة برونقها البهي وطلعتها الإعلامية المنتظمة .

هؤلاء بائعو الكلام جوقة مستعدة طوال الوقت للدخول في المهاترات والتصعيد والدربكة والتشقلب البهلواني والبهرجة المسرحية المفتعلة ’ مثلها مثل لاعبي السيرك المحترفين ’ الذين يكررون عملهم في كل مكان وفوق كل مسرح ’ هؤلاء جوقتهم أشبه بجوقة المهرجين الفاشلين ’ وهم يعيدون إنتاج عمل مسرحي رتيب وممل ’ المهم أن يذيعوا على الملأ برنامجهم التمثيلي في كل محفل اجتماعي ويروجون بضاعتهم الكلامية حتى وان كانت في علب فارغة ’ المهم أن تباع للعامة والناس البسطاء . ترى لماذا يعيش في كل الأزمنة مثل هذه الجوقة من الجماعات ’ ولماذا يتم احتضانهم إعلاميا واجتماعيا ’ بل ويسردون لنا جملا من قاموسهم القديم-الجديد مفردات عن الوطنية والإخلاص ’ والتكاتف الاجتماعي والتاريخ المثقوب بتشوهاته المستمرة ’ غير أنهم يعودون لنا بأصواتهم النشاز حول دروس الوطنية . كلنا قلنا كلمتنا للميثاق وقلنا الكثير دون الحاجة أيضا لارتداء جلباب الزفة في يوم جنائزي عن معضلة سيتم قبرها قريبا ’ ولن نسمع بعدها صوت تلك الجوقة’ التي يتم ترويج وطنيتها صباحا ومساء . ابحث ضمن ذلك الطحن وتلك الجعجعة عن الحالة الحقيقية للموضوع فلا المس تفاصيله ’ اقرأ اتهامات عدة مسطحة ولكن لا اشعر بوجودها ’ ففي الوقت الذي تصمت الأصوات الرسمية عن حقها في الدفاع عن مشروع الانتهاكات والتدخلات في قضية ما ’ نجد المجتمع المدني المشوه ’’ المصنوع تحت الطلب وحسب الحاجة ’’ يمارس الفزعة والركض في الفضاء المفتوح ’ ويعلن عن احتجاجه ودفاعه عن تربة الوطن التي كاد الأجنبي أن يدنسها ’ رغم إن التربة وقداستها باتت عزيزة أكثر على الذين ينوون بناء بيوتهم ’ ولكنهم لا يجدونها ’ فنفاذ المواد الأساسية من الأسواق وغلاء سعرها هي الأكثر أهمية للناس من تلك الجعجعة والطحن ’ فسيوف الامبرطور – كما يقولون – في روما ولم تصل بعد إلى المدن البعيدة ’ فيما إمبراطورية لم تغب عنها الشمس تصبح اليوم تحت طائلة الاتهام والدعوة إلى ترحيل أو طرد سفيرها ’ سفير دولة ’’ عزيزة وصديق استراتيجي بالأمس واليوم وغدا !!’’ فكيف حدث هذا الانقلاب الاجتماعي والسياسي الآن ؟ هل هناك دوافع هامة وضرورية للتصعيد مع التاج البريطاني وشمسه الغاربة ؟ وما الذي دفع تلك الأصوات بحمل راية أثقل وزنا من قدرتها على فهمه ؟ اللهم إن الإيماءات البعيدة تقول لنا امضوا بقدر ما تستطيعون من ضغط ؟ قد ينتج حالة مفيدة على كل المستويات ’ فربما ننجح في ’’ تعقيل السياسة البريطانية ’ وترويض فلسفتها القديمة فرق تسد ’ أو نعلمهم الرماية مثلما علمونا الرماية حتى اشتد ساعدنا عليها بتلك الأصوات والنفير المستنفر. بائعو الكلام ومحبوه هم كثر ’ وبائعو الشعارات أكثر وهم لا يتوانون عن خداعنا وخداع الناس في عز الظهيرة ’ المهم أن تجذب الكلمات والصيحات المدوية الشعب المهان في وطنيته !! الشعب الذي يتم تدنيس كرامته ! ’ بتلك الممارسات التي فتحنا بابها حول دروس الدبلوماسية واتفاقية فيينا ’ وسبحان الله كيف تعلم الناس بين ليلة وضحاها جملهم الجديدة القادمة من وراء الكواليس وجوقة تصوغ مفرداتها المهيّجة . بعد مدة سنجد أنفسنا دخلنا السرداب السياسي ’ بتوتيرنا الأجواء والعلاقات ’ حيث النار تحرق الأخشاب والغابات الصغيرة والكبيرة ’ ولحظتها لا ينفعنا السمع والطاعة لأولي الألباب ’ حيث فصول المسرحية تنتهي عند الستارة المسدولة. ويغلق بوابة مسرح من الوهم ويغادر ممثلون من الطين ’ ويختفي سيناريو مكتوب من العبث ’ يحاول التشبث في الفراغ المنهار. دعونا من التصعيد غير المجدي ’ ودعونا نراجع رؤوسنا بهدوء وبرودة متناهية ’ بعدها بإمكاننا أن نشعل حربا كلامية في مستوى الصراع بين بلدين ومملكتين ’’ حمتهم الآلهة من التصدع لزمن طويل ’’ فهل يفسد العطار ؟؟؟ . لعلني أكون مخطئا من إن الموضوع فاق حده المطلوب وحان الوقت للهدوء لمعالجة الأشياء عبر الدهاليز الدبلوماسية وليس المجالس الغاضبة التي تتشبث بتراث الأجداد ’ وصارت البيانات مرعبة حقا ! بحيث لم نر رد فعل مماثلة من المجالس ’’ الوطنية ’’ تجاه ما يهدد اقتصادنا الوطني من حالة تأثيم وتحريم . هل من الأفضل نسمع مرة أخرى جعجعة أم من الأحسن أن نرى طحينا بدونها ؟! .

 
الأيام  13 أبريل 2010

اقرأ المزيد

جعفر الصياد…! ( إلى راحل لا يغيب )


 
يطل اليوم من نافذة الذاكرة وجه رفيق مناضل، قدم التضحيات الجسام بكفاحه ضد الاستعمار ومؤامراته وتحمل الاضطهاد والتخفي والسجون وخبر المنافي والمحن دفاعا عن حق شعبنا في وطن حر وشعب سعيد. إنه الرفيق جعفر الصياد التي تمر هذه الأيام ذكرى رحيله الأول في السابع والعشرين من مارس 2009. وإحياء لذكراه   يتألق شاعرنا عبدالصمد الليث في قصيدته ” إلى راحل لا يغيب”  ليؤكد بقاؤه في نفوسنا مهيب الصدى  ليشرق بالخير يوم جميل.
 
 



جعفر الصياد…! 
  
(إلى راحل لا يغيب)

 



تناهى…

إلى قلبه ضوءها…

فأبصر فيها سواء السبيل

تباهى…

بما زانه حبها…

فأبدى شموخاً كجرح النخيل

تماهى…

بأفعاله صدقها…

فأدرك بالعشق مجداً أثيل



أمدت (جتوب) رفيق العلى…

نسوغ الكرامة والسلسبيل

وكان ومن زال من كلنا…

وملْ الحنايا كنبض أصيل

رأى البيت تغمره هجمة…

وحقد الطوارق حد صقيل

وعايش قيد الظلام المقيم

وأيقن جعفر:

                أن البلاد ولود

               وأن النساء النساء

               وأن الرجال الرجال



بفعل تجلى

قصائد تتلى

على الرغم من مسمع المستحيل

فأبحر جعفر…

أبحر في غمرات الكفاح:

زخام النقيض

وقحط يفيض

وبحر يغيض

وفكر ينير دجى الأرخبيل



تناوشه العسسالقيد

جايل آه الندى

صرخة الورد

جسماً مدمى

تلمس بالحب روح القتيل

مشى جعفر الشعب نحو المنافي

بتلويحة من شغاف الحنين

وينشر أضلاعه كالشراع

فيركب غربته المزدراة

ويكتب في صفحات الثبات

سطور الموله والذكريات





كشوق الحمائم للباسقات
وصار المغيب عبر السهاد


وأرصفة الهم والعاديات

ومرت سنون

وعاد الحنون

وجعفر مستشرفا للبديل

يعانق رمل البلاد الوداد

لينبت شهقته كالفسيل

وما زال فينا مهيب الصدى

ليشرق بالخير يوم جميل

وما زال جعفر

 

 عبد الصمد الليث

27 مارس 2010



    

اقرأ المزيد

في مجلس الـدوي


في مجالس المحرق يمكن تلمس ما في مجتمعنا البحريني من حيوية، ومن تفاعل حر مع القضايا المختلفة، بما فيها تلك التي يمكن أن نعدها قضايا ساخنة، لا بل وشائكة، للدرجة التي يُخيل فيها للمرء انه من المتعذر الاقتراب منها، لتكتشف، بعد النقاش والتفاعل بين الآراء، أن النخبة السياسية في البلد هي من قيّد نفسها في أسوار وأحاطت نفسها بحواجز، تحسب ألف حساب قبل محاولة تخطيها.

منذ أيام قليلة طلب مني الأخوة المشرفون على برنامج الندوات والأنشطة في مجلس الدوي، إقامة ندوة في المجلس، الذي هو واحد من مجالس المحرق النابضة بالنشاط، من خلال برنامج أسبوعي متنوع، يتسع لفعاليات متنوعة تتراوح بين الفكري والسياسي والإعلامي وحتى الفني، وفي ذلك، على ما أرى، امتداد للتراث الثقافي لمدينة المحرق التي كانت منذ مطالع القرن العشرين مختبراً للأفكار الجديدة، أفكار النهضة والرقي والتنوير.

اختار المنظمون للندوة موضوعاً مُعقداً، ولكنه في غاية الحيوية، وبأنفسهم اختاروا له العنوان أيضاً: «العلمانية ضرورة تاريخية»، ورغم إدراكي لما يثيره الموضوع من جدل ونقاش، وحتى سوء فهم، لم أتردد في الموافقة على الندوة وموضوعها، بل لعل ذلك كان، أحد بواعث استجابتي الفورية للدعوة الكريمة من المجلس المذكور.

ولهذا علاقة بقناعة راسخة في ذهني بأن علينا التحلي بالجرأة في الإفصاح عن آرائنا ومواقفنا والدفاع عنها، وتفنيد الحجج التي تساق ضدها، خاصةً حين يحاول البعض تصوير محتوى العلمانية على خلاف ما هي عليه حقيقة، فيقرنها، مع سبق الاصرار والتعمد، بالزندقة والتجديف.

مع أن اطلاعاً بسيطاً على تعريفات العلمانية في أي موسوعة أو مصدر رصين، غير منحاز، سيكشف زيف هذا القول، حين لا تعدو العلمانية كونها في الجوهر فصلاً للدين عن الدولة، بعد مخاض تاريخي عسير، رداً على تحول الكهنوت المسيحي في أوروبا في التاريخ الوسيط إلى سلطة تُنكل بالرأي الآخر وتُقيم محاكم التفتيش، وتُجبر العلماء على التخلي قسراً عن قناعاتهم واكتشافاتهم ونظرياتهم العلمية، تحت طائل جرهم إلى المشانق أو المقاصل.

في ظروف مجتمعاتنا العربية الإسلامية، خاصة منها تلك القائمة على تعدد الطوائف والديانات، أو حتى المذاهب في إطار الديانة الواحدة، تغدو العلمانية عاصماً من التمزقات التي تعصف بالمجتمعات، فمجتمعات مثل هذه لا يمكن أن تُدار إلا بجعل الدولة حرة من هيمنة طائفة أو ملة أو مذهب، وأن تكون دولة مدنية، مُوحدة لكافة مكونات المجتمع دون استثناء في إطار وطني جامع.

والعلمانية وفق الفهم الذي هي عليه نشأت ليست ضد حرية المعتقد الديني، ولا هي تتدخل في قناعات المرء ولا في علاقاته بدينه وبربه، لكنها تدعو لتنزيه الديني عن السياسي، وإخضاع السياسة للقانون الوضعي الذي ينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبينه وبين الدولة.

ندوة مجلس الدوي المشار إليها تبرهن أن الحوار العقلاني المثمر، البناء، البعيد عن التشنجات وعن الأحكام المسبقة التي لا تجادل الحجة بالحجة، وبالتي هي أحسن، يمكن أن يُزيل الكثير من اللبس الذي يحيط بالمفاهيم، كمفهوم العلمانية مثلاً، التي كثيرا ما يجري تداوله دون تمعن جدي في محتواه، لترمى هي وأصحابها بما هي ليست عليه أو فيه.


 

اقرأ المزيد

محاصصات طائفية وليست ديمقراطية


بعد حصار الغرب طويلا للمعسكر “الاشتراكي” ودفعه إلى الانهيار، ومحاصرة حركات التحرر الوطني بأنظمتها اليسارية العسكرية، تم تحطم الأشكال الشمولية لليسار في العالم النامي، وقد ولد ذلك فوضى عنيفةً في العالم.

لقد أرادتْ الدولُ الرأسماليةُ الغربيةُ توسعَ العمليات الرأسمالية في العالم، ودخول الأسواق المُغلقة، وكان ذلك يجري حتى بآلات عسكرية هائلة أحاطت بالعالم شرقاً وغرباً، وتغلغلتْ كهيئاتِ تجسسٍ وتدخلٍ وتنصيب حكام وهزم ثورات الخ..
وقد نجحت الخطط الغربية في تغيير العالم، فإمكانياتها الهائلة القائمة على استغلال العالم لخمسة قرون سابقة، أتاحتْ لها الدخولَ العاليةَ التي تقدرُ على استنزافِ الخصوم وهزيمة تجاربهم الرأسمالية الوطنية المغلقة أمامها.

ولكن كان لعمليات الانهيار الوطنية في العالم النامي أثمان باهظة كذلك، لقد وجدت شعوب وأديان انها مكتسحة مهانة محطمة أمام هذا التدفق الكوني، العسكري والإعلامي، والنقدي، والجنسي، فكانت الفوضى والحركات الإرهابية والدينية وحروب العصابات وتمزق بلدان عريقة.
فلا المعسكر “الاشتراكي” ولا المعسكر الرأسمالي ساعدا على قيام ديمقراطية نهضوية متدرجة في العالم الثالث، عبر دعم القوى الوسطى والعمالية المنتجة، ونشر سياسات الانفتاح والشفافية.

صارتْ كلُ قارة تنمو حسب إمكانياتها الاجتماعية الموضوعية، من وجود رأسماليات وطنية متجذرة ومن وجود قوى عمالية ذات مؤسسات حزبية ونقابية متجذرة في صفوف الشعب، فبلدان أمريكا الجنوبية ذات التاريخ اليساري الطويل تحولت إلى التجارب الديمقراطية الحقيقية، لمستوى مقاربتها مع التطور الرأسمالي الغربي.
في حين توجهت دول آسيوية كبرى كالصين وروسيا والهند ودول جنوب وشرق آسيا، إلى الملاءمة بين رأسمالياتها الحكومية والقطاعات الخاصة في حكم ثنائي بين رأس المال العام ورأس المال الخاص متفاوت في ديمقراطيته، لكن الدول العربية والإسلامية والافريقية لم تكن لها بُنى رأسمالية خاصة مستقلة كبيرة وقوية، ولم تتشكل علاقات ديمقراطية اجتماعية في حياة المواطنين وفي القوانين وفي الحياة الإعلامية والثقافية عامة.
وبالتالي فإن القوى الرأسمالية الخاصة والقوى العمالية الديمقراطية لم يكن لها أي نفوذ في هذه الدول، ومع هذا فإن “الديمقراطية” الغربية أرادت أن تطبق معاييرها الشكلانية العالمية على هذه الدول التي لا تمتلك أي أسس ديمقراطية حقيقية.
فكأن الديمقراطية بضاعة ليست ذات مضامين اجتماعية عريقة.

ومن هنا فإن القوى ما قبل الحديثة وما قبل الديمقراطية وما قبل الرأسمالية هي التي فازتْ وفرضتْ العودةَ لمقاييس متخلفةٍ من محاصصةٍ طائفية ومن هجومٍ على الحداثة وعلى الحريات، فصارت هذه النسخ من الديمقراطية الشكلانية في الدول العربية والإسلامية والافريقية وسائل للعودة للوراء وتفكيك الدول الوطنية وإقامة أقاليم متمردة وغير هذا من صنوف الأوبئة التي تحملها قوى اجتماعية عاشت طويلاً في كهوف التخلف.

استفادت الحكومات الغربية والحكومات المتعاونة معها من التوسع الاقتصادي واستغلال الثروات بأبخس الأسعار، وبيع السلاح والبضائع الثمينة الأخرى كافة، ونقل أرباح وموارد إلى محافظها، وتحولت “الديمقراطيات” إلى ديكوراتٍ غيرِ قادرةٍ على تغييرِ حياة الجماهير الفقيرة التي انتظرتْ طويلاً أعمال هذه البرلمانات ورفع الأجور وتحسين حياتها المادية، بسبب الأعطال الجوهرية في الدساتير، وغياب إرادة الشعوب المُفككة طائفيا، العاجزة سياسيا، وضحالة خبرتها السياسية وجهل شبابها الذي لم يسبق له أن عرفَ أدوات النضالِ والديمقراطية والثقافة العقلانية.

كانت إراداتُ رجالِ الأعمال والقادة النقابيين والسياسيين اليساريين، متضادة، بسبب هذه المحدودية السياسية وأمية الثقافة الفكرية للجانبين، فتمت هزيمتهم وتنحيتهم من الحياة السياسية الحاكمة، وجلب قوى تجهل حتى فهم العالم بشكل أولي، تجهل مساراته الراهنة، وطبيعة قضاياه، وكيفية إدارة التطور الوطني في كل بلد، وفهم سببياته، وهو الأمرُ الذي تم استغلالهُ من قبل القوى الأخرى، وإدامة تحكمها في الألعاب السياسية الجارية.

قامت القوى اليسارية والبرجوازية في أمريكا اللاتينية بإقامة علاقات مختلفة، ورُوجع تاريخُ اليسار، وروجعَ تاريخُ الأحزابِ الليبرالية الهشة، وتنامتْ علاقاتٌ بين الجانبين، وحُددت النقاطُ الجوهريةُ الجامعة، وتحولتْ إلى سياساتٍ مشتركة ومستقلة كذلك. ولهذا ظهرتْ حكوماتٌ يسارية متعددةٌ تنمي الرأسماليات الوطنية وأحوال العاملين معاً.

وبطبيعة الحال فإن الديكورات الغربية الديمقراطية المجلوبة تُفهم من قبل الغرب نفسه على أساسِ مستوى تطور الشعوب، فهي لا تستطيع أن تصنع هذه الشعوب، ولكن زج شعوب ما قبل التاريح الديمقراطي من دون أسسٍ تحضيريةٍ كافية، ومراحل تمهيدية، لا يؤدي إلا إلى محاصصات طائفية تمزقُ الأنسجةَ الوطنية المهلهلة، وتظلُ فيها الحكوماتُ الشرقيةُ الاستبدادية متحكمةً في الألعاب السياسية الجارية واحتكار الغنائم بينما البرلمانات عاجزة عن تغيير سعر الدجاج، وأسعار الخبز تفلت من أيديها.


أخبار الخليج 11 ابريل 2010
 
 

اقرأ المزيد

حماقة نتنياهو ربما أفسدت تخطيطه بشأن إيران


في انقلاب أبيض، هو من سنن النظام السياسي الإسرائيلي بالمجمل، حكم ومعارضة، نجحت الطغمة المالية والعسكرية والسياسية التي تشكل نسيج الطبقة الحاكمة فعلياً في إسرائيل، في الإطاحة برئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود أولمرت زعيم حزب كاديما المنشق عن حزب الليكود بزعامة مجرم الحرب أرييل شارون، الذي مازال مستغرقاً في غيبوبته، وذلك بواسطة الأداة إياها التي كانت استُخدمت ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي عندما كان رئيساً للحكومة، ألا وهي تلطيخ السمعة والاستدراج لتحقيقات بشأن قضايا فساد متورط فيها تقوده للاستقالة.

فكان أن جاءت الانتخابات المبكرة بزعيم حزب الليكود نتنياهو إياه المتحالف مع أعتى أحزاب اليمين الصهيوني المتطرف مثل حزب إسرائيل بيتنا بزعامة وزير الخارجية افيغدور ليبرمان وحزب شاس الديني.

لقد أُطيح بأولمرت بعد أن اشتمت تلك الطغمة (العصابة) منه رائحة تشي بميله لعقد صفقة تسوية مع سوريا ومن ثم مع السلطة الوطنية الفلسطينية. ولذلك جاء نتنياهو إلى كرسي الحكم في إسرائيل وكله عزم وتصميم على وضع ملف القضية الفلسطينية على الرف والعمل بشتى سبل الاحتيال والضغط الممنهج من أجل بلورة توافق دولي على جعله أولوية ثانوية في سلم اهتمامات وجدول أعمال الاجتماعات واللقاءات والمشاورات الدولية، الثنائية والمتعددة الأطراف. والعمل في الجانب الآخر وبنفس الزخم، على وضع الملف النووي الإيراني على رأس قائمة اهتمامات وأولويات الأسرة الدولية.

والهدف هو إحكام الطوق السياسي والدبلوماسي الدولي على إيران وإظهارها في صورة الدولة المارقة الخارجة على القانون والمهدِّدة للاستقرار العالمي بأسلحتها التدميرية الشاملة، الصاروخية والنووية التي تصر على امتلاكها، بما يوفر المسوغ والمبرر السياسي والأخلاقي لقيام إسرائيل بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية وتدميرها وتخليص المنطقة والعالم من خطر داهم تحرص حكومة نتنياهو على تشبيهه بالخطر النازي على أوروبا والعالم.

كان كل شيء يبدو متسقاً مع ما كانت تشتهي سفن نتنياهو في الشهور الأولى من تسلمه رئاسة الحكومة الإسرائيلية. فلقد أدار ظهره للآليات الجديدة المستنسخة من عملية التسوية في الشرق الأوسط ومنها خريطة الطريق والتحركات الدبلوماسية المتقطعة للبيت الأبيض واللجنة الرباعية. ومثل ذلك فعل مع خط المفاوضات غير المباشرة مع سوريا الذي أطلقته وأدارته تركيا بالتوافق والترتيب مع سوريا ومع حكومة سلفه إيهود أولمرت.

ولا ريب أن لغة التحدي التي استمرت طهران في انتهاجها والخطابات العنترية التي ما برح الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يطلقها بين الحين والآخر لإظهار تمسك بلاده ببرنامجها ومشروعها النووي الطموح، قد سهلت على الحكومة الإسرائيلية ورئيسها نتنياهو، مهمة تحريض وتأليب عواصم القرار الدولي على طهران وتشديد الضغوط السياسية عليها توطئة لإنفاذ حزمة جديدة أكثر صرامة من العقوبات ضدها، حتى إذا ما تم الانتقال إلى المرحلة التالية وهي إقناع الغرب بعدم جدوى العقوبات تكون إسرائيل في حل، من الناحية السياسية، لتنفيذ خطتها بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية وتدميرها، وذلك بأقل قدر من الاعتراضات والتحفظات الأمريكية والأوروبية والدولية.

لكن نزق وحماقة نتنياهو خانتاه وأبتا إلا أن يظهرا في الوقت الخطأ، على جري عادة شخصيته المجبولة على إظهار غطرسة القوة في الانعطافات السياسية الحادة، المعبرة عن فيض نرجسي حاد، وهي نقائص لا تليق بساسة ورجال الدولة على مر العصور، ولا تتماشى مع متطلبات مكرهم ودهائهم وجَلَدِهم وصبرهم. فتشاء نرجسية نتنياهو أن تورطه في ‘اشتباك حاد’ مع سيد البيت الأبيض الجديد: الرئيس باراك أوباما، ولم يكد يمر على تسلمه رئاسة الحكومة الإسرائيلية عام واحد، وذلك على موضوع المستوطنات التي واصل نتنياهو وحلفاؤه في التحالف الحكومي العنصري بناءها في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وذهب استهتارهم واستهزاؤهم بالرئيس أوباما وإدارته لحد الإعلان عن بناء 1600 وحدة سكنية استعمارية في القدس الشرقية في حضرة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن!

الآن وقد ‘نجح’ نتنياهو ‘بامتياز’ في توتير علاقاته مع الرئيس أوباما ومع كبار مساعديه في الإدارة الأمريكية، وتسبب في خلق أجواء ‘غير مريحة’ – على غير العادة – لدى إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة في أروقة الحكم في واشنطن، للدرجة التي باتت مسألة كلفة إسرائيل كمشروع قبالة المصالح الأمريكية، تنطرح علناً بما في ذلك في نقاشات وجلسات استماع لجان الكونجرس.. فهل نستطيع القول إن حماقة نتنياهو وعنجهيته قد ‘خربت’ عليه ‘خطته الإيرانية’ سالفة الذكر؟

ربما، ذلك أنه حتى في هذه القضية.. قضية الطموحات النووية الإيرانية، تتغاير المصلحة الأمريكية عن المصلحة الإسرائيلية. ففي حين لا تتصور إسرائيل وجود قدرات نووية لدى إيران يمكن أن تشكل تهديداً لأمنها ولوجودها في المنطقة وهي لذلك مندفعة بقوة لوضع حد ‘لهذا الكابوس’ المؤرق، فإن الولايات لا ترى أن من مصلحتها إضافة جبهة صراع مسلح جديدة إلى الجبهتين اللتين تحارب عليهما وهما الجبهة العراقية والجبهة الأفغانية. وحتى وإن قررت إسرائيل الذهاب للحرب مع إيران بمفردها فإنها تظل بحاجة ليس فقط إلى المباركة الأمريكية وإنما أيضاً إلى الدعم والمساندة الأمريكية، وهذا لن يتأتى إلا إذا تمت تصفية الأجواء بين تل أبيب وواشنطن.

على أي حال في هذه التفصيلة بالذات يقول المفكر الأمريكي اليهودي المناهض للسياسات الإسرائيلية وفاضح جرائم الاحتلال والصهيونية نورمان فنكليستين: ‘أستبعد أن توجه إسرائيل ضربة إلى إيران لأن واشنطن لن تمنحها الضوء الأخضر لفعل ذلك، ولأن إدارة أوباما لن تستطيع تحمل نتائج الحرب من الناحيتين العسكرية والاقتصادية ويداها مغلولتان في العراق وأفغانستان. والولايات المتحدة لا تستطيع المخاطرة بإغلاق مضيق هرمز ورفع أسعار النفط’.
فما بالك في ظل علاقة الشد المتوترة التي تسود منذ بعض الوقت بين واشنطن وتل أبيب!
 
الوطن 2010-04-10    
 

اقرأ المزيد

المدينة الشمالية… لماذا يُقتل الحلم؟!


رفع مجلس النواب توصياته المتعلقة بنتائج تقرير لجنة التحقيق البرلمانية بشأن تنفيذ مشروع المدينة الشمالية إلى الحكومة، هذا المشروع الحلم الذي طال انتظاره على الرغم من أهميته. إلا أن نظرة أولية لما جاء في التقرير تكاد تفصح لنا عن عدة وجوه نراها تتكرر باستمرار في مختلف وجوه تعاطي السلطة التنفيذية مع ما تطرحه السلطة التشريعية من اقتراحات ومشاريع وبشكل خاص كيفية تعاطيها مع لجان التحقيق، وهذا الأمر ليس وليد اليوم أو الفصل التشريعي الحالي، وإنما هو نهج مستمر منذ الفصل التشريعي الأول، فقد أظهر تقرير لجنة التحقيق في تنفيذ مشروع المدينة الشمالية سمات لا زلنا نتحدث عنها حول طبيعة التعاطي الرسمي مع مشروع لجنة التحقيق في أملاك الدولة وكان ذلك قد تأصل في تقارير لجان تحقيق سابقة مثل لجنتي التحقيق في تجاوزات التأمينات والتقاعد وتجاوزات خليج توبلي، وكذلك في لجنة التحقيق في غاز المعامير، علما ان لجان التحقيق هذه وكما يعلم الجميع، غالبا ما تستهلك وقتا وجهودا كبيرة من أعضاء السلطة التشريعية على حساب بقية الملفات والأولويات، فلماذا إذا يتم استهلاك وقت المجلس ونوابه والبلد بصورة متكررة ومن دون طائل؟! خاصة إذا علمنا أن التوصيات المرفوعة للحكومة تحتاج هي الأخرى لمعجزات لتنفيذها وإن نفذ بعضها إلا أن بعضها الآخر يجري تعويمه وإهماله تدريجيا، لتصبح نتائج بعض لجان التحقيق في واقعها مجرد واجهات للتنفيس وإشغال الرأي العام دون نتائج جدية أو ملموسة!!

فمشروع بأهمية المدينة الشمالية ما كان ليحتاج أصلا للجنة تحقيق في ماهية تنفيذه من عدمه، باعتباره مشروعا على درجة كبيرة من الأهمية، نظرا لما يمثله ملف الإسكان من أولوية قصوى بالنسبة للجميع، وهو مشروع كان مدرجا منذ موازنة العامين 2005-2006 وتعاقبت عليه حتى الآن ثلاث موازنات عامة دون أن يرى النور، في حين أن مشروعا آخر هو مشروع حلبة البحرين الدولية كانت الحكومة قد استكملته في أقل من عام، وهو بكل تأكيد مشروع حيوي واستثماري مهم جدا، لكنه لم يواجه بمصاعب ومعوقات كالتي يواجهها مشروع المدينة الشمالية، الذي كان بداية معد ليستوعب أكثر من 26 ألف وحدة سكنية، وسرعان ما قلص إلى 13 ألف وحدة سكنية ليصل بنا الأمر الآن لحدود 1500 وحدة سكنية سنويا ولا ندري بعد ما الذي ستخرج علينا به وزارة الإسكان بعد فترة وجيزة حوله! في الوقت الذي تنتظر آلاف الأسر في جميع مناطق البحرين مجرد البدء فيه لتستبشر خيرا، وهذا المشروع الذي كان من المفترض أن يقوم على ما مجموعه سبع عشرة جزيرة نراه قد تقلص ليصبح فقط عشر جزر!!

وبحسب تقرير لجنة التحقيق البرلمانية الأخير فان الحكومة لم تبدِ تعاونا جيدا في توفير المعلومات حوله، في الوقت الذي لم يتبقَ من المشروع سوى بضعة أوراق وخرائط تفيد بأنه لازال قائما، فيما تتضارب تصريحات المسؤولين بشأن تنفيذه دون أن يستشعر أحد من المسؤولين مدى الإحساس بالخسارة الذي بات ينتاب المواطنين وأحلامهم التي أصبحت في مهب الريح، وتزيدها مرارة تصريحات الوزارة المستمرة بعدم وجود أراض كافية مخصصة للمشاريع الإسكانية الأخرى!
نتساءل باسم كل المواطنين لماذا لا يوجد من يعلق الجرس بشكل مسؤول لتنفيذ هذا المشروع الحلم؟! وما الذي تنتظره الجهات الرسمية لتقوم بذلك؟ ولماذا يسمح للبيروقراطية أن تقتل طموح البسطاء في الحصول على مسكن للمّ شمل أسرهم؟ ولماذا لا يتم البدء في مشروع المدينة الشمالية والدعوة لسرعة استكماله في فترة زمنية معلومة وبوحدات ومساحات معروفة للرأي العام؟ كما أنني أتساءل عن معنى توصية لجنة التحقيق البرلمانية ببناء 1500 وحدة فقط، فيما نحن نرى على سبيل المثال أن مشروعا إسكانيا آخر هو مشروع وادي السيل بنيت فيه في اقل من عام أكثر من سبعمائة وحدة، وهو مشروع يفترض أنه أصغر من مشروع المدينة الشمالية؟! نتعشم في من يعنيهم أمر المدينة الشمالية كوزارة الإسكان والبلديات وإدارة التخطيط العمراني أن يكونوا أكثر وضوحاً مع مشروع كهذا تنتظره عشرات الآلاف من الأسر وهي تزداد عاما بعد عام دون أن يوجد لهم من أمل في الحصول على وحدة إسكانية، وهو أحد الحقوق الدستورية التي أصبحت متعذرة بكل أسف في ظل طبيعة التعاطي الرسمي الذي نطمح أن يرتقي قليلا ليتفهم حجم المعاناة والقلق وما يعنيه كل ذلك من انعكاسات اجتماعية واقتصادية سلبية بات المواطن العادي يئن تحت وطأتها وهو الموعود بالأمل في الخروج من هكذا أوضاع، بل إننا بذلك نزيد من حجم احباطاته وتراجع ثقته في قدرة الدولة على اجتراح الحلول لقضاياه وعلى رأسها القضية الإسكانية.
 

اقرأ المزيد