المنشور

رؤى للحوار… شرعية النظام وشرعية المشاركة – الكاتب محمود القصاب


ليس بمقدور أحد أن يجادل بأن البحرين عاشت، ومازالت تعيش، منعطفاً مهماً وخطيراً بعد الأحداث التي شهدتها البلاد طوال الأشهر القليلة الماضية والتي كانت لها تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية، ستبقى الدولة والمجتمع والمواطنون جميعاً يدفعون تكاليفها لفترة من الزمن لا يعلم سوى الله كم ستدوم.
 
ولعل أخطر تلك التداعيات هذا الانشطار الاجتماعي والطائفي الحاصل اليوم، وما يولده من أفعال وردود أفعال متقابلة ستفضي حتماً في حال استمرارها إلى نتائج سلبية وإلى نشوء واقع اجتماعي غير متجانس يصعب تجاوزه بالنوايا الحسنة فقط.
 
وهذه النوايا هي التي تدفع اليوم بعض الأطراف والجهات الصادقة في الدولة والمجتمع للقيام بمحاولات وبذل الجهود لرأب الصدع، إلا أن البلاد مازالت تعيش أجواء يغلب عليها انعدام الثقة بين مكونات المجتمع وبين الدولة والقوى السياسية بفعل تراكم الغضب والاحباطات التي مازالت تفعل فعلها في النفوس.
 
ومع كل الآلام التي تعتصر القلوب، وعلى رغم النظرة السوداوية التي يصر البعض على أشاعتها وترسيخها، ومع الإقرار بوجود بعض الصعاب الحقيقية التي تحول دون تلك الجهود الصادقة لانتشال البلد من «عتمته» عبر إضاءة شمعة هنا وهناك، نقول على رغم كل ذلك، يجب علينا ألا نستسلم لهذا الواقع المؤلم والبغيض، بل على العكس نحن مدعوون جميعاً إلى اجتراح الحلول وشحذ العقول والضمائر من أجل الإمساك بأية نقطة ضوء نراها وسط هذه «العتمة»، فقدر هذا الوطن أن يكون موحداً، وقدر هذا الشعب أن يبقى متآخياً متصالحاً مهما بلغت الخصومة وانعدام الثقة بين مكوناته الاجتماعية والسياسية.
 
بسبب هذا «اليقين» ومن أجله نحن اليوم نرحب ونتمسك بدعوة الحوار التي دعا إليها جلالة الملك، لأنها تقدم الأمل من جديد وتفتح أمامنا نافذة على المستقبل، بعد أن سيطر اليأس والإحباط، وبعد أن جرى تغليب الخيار الأمني، وبعد أن تغلب منطق القوة والعنف وتراجع منطق العقل والعدل، والمهم اليوم كيف نحسن استثمار هذه الفرصة وكيف تثبت كل الأطراف (الدولة والقوى السياسية) مدى جديتها وحقيقة توجيهاتها للخروج من أزمتنا الراهنة.
 
ومن أجل تقريب المسافة بيننا وبين هدف الحوار والاقتراب من الحلول الناجحة والمطلوبة، نشير في سياق هذه المقالة إلى عدد من الرؤى التي نعتقد بأهميتها وضرورتها، دون أن نجزم بتفردها أو حصولها على إجماع كل القوى والمكونات السياسية في البلاد. وقبل الولوج في تفاصيل هذه الرؤى، نرى أنه بات من الضروري بل من الواجب الوطني لجم كل أصوات شياطين الطائفية وإسكات تخرصات جلاوزة التحريض والكراهية، مهما كانت الجهة التي ينتمون إليها أو العناوين السياسية التي يمثلونها وإرجاعهم إلى مخابئهم لأنهم وحدهم اليوم مصدر كل هذه السموم التي تلوث سماءنا وأرضنا، وهم وحدهم مصدر التأزيم الذي يعمل عل إفساد طيبة وسماحة وعفوية شعب البحرين الذي ظل على امتداد التاريخ يرفض كل دعوات التقسيم والتمزق الطائفي والمذهبي، ولم يكن يعرف مثل هذا الفجور والتوحش في الخصومات والعداوات.
 
نقول ذلك من باب أن دعاة الفتنة والتحريض هم في واقع الأمر نتاج للأزمة التي عصفت بالبلاد، بل هم أحد أسباب استمرارها وتعمقها، أي أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا جزءاً من الحل، وأن المرحلة تتطلب أجواء من التسامح وإشاعة روح المحبة والتآخي، والابتعاد عن كل ما ينكأ الجروح، وهذه قيم يصعب كما يبدو على مثل هؤلاء التعاطي معها أو التجاوب مع شروطها. لذلك ليس أمامهم سوى الانكفاء والتواري عن الأنظار وإفساح المجال لأصحاب الضمائر النقية والعقول السوية للقيام بدورها وواجبها الوطني، وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية والعمل على لم الشمل وتوحيد الصف الوطني، والشروع في تهيئة الأجواء التي تساعد على الاقتراب من آمال شعبنا وتطلعاته المشروعة في الاستقرار والعيش الكريم، وبناء الديمقراطية و العدالة والتقدم، انطلاقاً من قاعدة التوافق الوطني التي تمثل أحد أهم القواعد أو المرتكزات لإنجاح عملية الحوار والوصول به إلى غاياته النهائية، بالإضافة إلى قاعدة أخرى لا تقل أهمية وهي إتاحة الفرصة، وتوفير الضمان والحرية لكل التوجهات الوطنية والمكونات السياسية والاجتماعية للتعبير عن أفكارها وتصوراتها وتقديم مقترحاتها في شأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، سواء قبل أو أثناء الحوار دون أي حجر أو فرض قيود معينة على أية أفكار أو تصورات يراها البعض أنها تشكل جزءاً من سقف الحوار الذي أكد أكثر من مسئول في الدولة على مرونته (السقف) وقدرته على استيعاب العديد من المقترحات والتصورات طالما هي في إطار الشرعية الدستورية والقانونية.
 
بالعودة إلى الرؤى التي نوهنا بها، والتي نعتقد بضرورة استقرارها في وعي وسلوك كل «المتحاورين» نظراً لأهميتها ودورها في صيرورة التوافق الوطني والذي من دونه لا يمكن الحديث عن أي نجاح للحوار المنتظر، وأهم هذه الرؤى تتلخص فيما يأتي:
 
الرؤية الأولى:
أن تكون قاعدة انطلاق الحوار، قاعدة وطنية وليست دينية أو مذهبية بمعنى أن الأطراف المشاركة في هذا الحوار يجب أن تكون وفقاً لانتماءاتها وبرامجها السياسية، وليس وفقاً لانتماءاتها الدينية أو المذهبية، طالما أن الموضوعات والقضايا التي ستخضع للبحث والنقاش، هي موضوعات تتعلق بمفاهيم ورؤى سياسية وتشريعية قابلة للتبديل والتعديل، وعلى الذين ينادون بالدولة المدنية أن يقرنوا أقوالهم بالأفعال ويكونوا أول الداعمين لهذه الرؤية الوطنية، وإلا فإن النتائج ستكون من جنس المقدمات، أي أننا سنجد أنفسنا في نهاية المطاف نتحدث عما هي «حصة» كل طائفة وكل جماعة وهذا المبدأ أو الخيار (المحاصصة الطائفية) إذا ما تم اعتماده أو مجرد التلويح به نكون قد ضربنا «الدولة المدنية» في مقتل، ونكون قد ارتكبنا جريمة بحق بلدنا لا يمكن أن تغتفر، وهي وضع البحرين على أبواب الجحيم الذي سيكون مصدر كل الحرائق في البلاد، التي ستحرق الأخضر واليابس.
 
لذلك نحن نحذر من هذا التوجه الطائفي وندعو إلى رفض كل الدعوات التي تروج أو تطالب باعتماد «الرؤية المذهبية» سواء في صوغ أسس الحوار أو في شكل وطبيعة الأطراف المشاركة فيه (سنة وشيعة) لأن هذه النظرة الفئوية القاصرة والضارة سوف لن تحل أزمة البحرين كما يدعي البعض بل على العكس من ذلك ستدخلنا جميعاً في نفق مظلم وطويل من الأزمات والصراعات الطائفية التي لا نهاية لها.
 
وعليه نقول لكل الذين قد صدعوا رؤوسنا ليلاً نهاراً وحاولوا تخويفنا من تكرار «سيناريو» العراق أو استنساخ تجربة «لبنان أو الصومال» أن يتوقفوا عن الترويج للطروحات الطائفية وأن يكفوا عن استخدام المفاهيم والمصطلحات التي تعمل على تكريس الانتصار للمذهب وللطائفة في وجدان وعقول الناس وانعكاسها بالتالي على ممارساتهم الاجتماعية وإقامة الحواجز المادية والنفسية بينهم وبين شركائهم في الوطن.
 
ولسنا بحاجة إلى شواهد من الواقع كما لسنا بحاجة إلى اللجوء للتحليل أو التنجيم و»ضرب الودع» لمعرفة النتائج الكارثية المتوقعة لمثل هذا التوجه، فنحن اليوم نشهد العامل الإقصائي ونعيش للأسف الكثير من الممارسات والإجراءات التي يتم اتخاذها على – مستوى الدولة والمجتمع – بوحي من هذه النزعة الطائفية المقيتة، ولم تكن دعوات المقاطعة المتبادلة للمتاجر والمحلات، وكذلك الدعوات لإيجاد أسواق مستقلة في بعض مناطق البحرين وفق انتماء سكانها الطائفي، وأخيراً وليس آخراً ما يتم الترويج له من مشاريع التعليم وتقديم الدعم للطلبة بحسب هوياتهم المذهبية، كل هذه الدعوات وغيرها لم تكن سوى نماذج قبيحة وسيئة لما وصلنا إليه من انحدار وسقوط على المستويات الوطنية والأخلاقية والإنسانية.
 
إذاً لا سبيل أمامنا للخروج من هذا المأزق الخانق والخطير الذي يهددنا جميعاً سوى الحلول السياسية الوطنية المتوافق عليها من منظور وطني وليس طائفي، حلول تقوم على بنيات داخلية وآليات دستورية تؤكد إقرارنا وتمسكنا بشرعية النظام السياسي، وتؤكد حقنا في تطوير هذا النظام وفق ميثاق العمل الوطني الذي صوت عليه الشعب وعكس توافق الإرادتين الشعبية والقيادة السياسية في البلاد. ولا معنى لهذا الإقرار سوى مفهوم واحد وهو أن إجراء أية إصلاحات حقيقية ودائمة عبر «عملية الحوار» لا يمكن أن تكون مصدر خطر أو تهديد للنظام، بل على العكس ستقود إلى تقويته واستقراره على المدى الطويل، هذا عدا عن مسألة حاجة كل دولة أو حكومة إلى بلورة إجماع وطني حول سياساتها في الداخل والخارج، والذي يمثل السند الوحيد لها في مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية، ولا يمكن أن يتصور أحد أن تقوم الحكومة (أية حكومة) بضرب هذا الإجماع بيدها.
 
في الجزء الثاني من هذه المقالة نستكمل تفاصيل الرؤى الأخرى..
 
محمود القصاب
صحيفة الوسط البحرينية – 17 يونيو 2011م
 
رؤى للحوار… شرعية النظام وشرعية المشاركة (2 – 2)
 
في الجزء الأول من هذه المقالة أوضحنا أهمية وضرورة أن تكون المشاركة في الحوار قائمة ومبنية على قاعدة وطنية وليس قاعدة دينية أو مذهبية طالما أن القضايا موضوع البحث والحوار هي قضايا سياسية وتشريعية قابلة للتبديل والتعديل، لذلك رفضنا كل الدعوات التي تحاول تسويق الصيغة أو الرؤية الطائفية لعملية الحوار سواء على مستوى الأسس والأهداف أو على مستوى الأطراف المشاركة فيه (سنة + شيعة). وقد أكدنا أهمية مبدأ التوافق الوطني، كونه يمثل قاعدة أساسية ومرتكزاً مهماً لإنجاح الحوار والوصول به إلى نهايته المرجوة، وكذلك نوهنا إلى أهمية الحلول السياسية الوطنية القائمة على «بنيات داخلية» وآليات دستورية مشروعة تؤكد إقرار كل الأطراف بشرعية النظام من جهة، والإقرار بأهمية إجراء إصلاحات حقيقية وشاملة من جهة ثانية. بالإضافة إلى ضرورة أن تعي الدولة حاجتها إلى الإجماع الوطني، الذي يمثل السند الوحيد في مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية واستبعدنا في ظل هذه الحقيقة أن تقوم الحكومة (أية حكومة) بضرب الإجماع الوطني بيدها.
ونريد، في هذا الجزء الثاني والأخير من هذه المقالة، تناول بقية الرؤى التي نرى ضرورة استحضارها في سياق الاستعدادات الجارية للدخول في عملية الحوار في الشهر القادم، كما جاء في دعوة جلالة الملك.


الرؤية الثانية:
أن تقوم جميع القوى والأطراف المعنية بالحوار الوطني بدراسة متأنية وموضوعية لفكرة أو مقترح وجود «هيئة» أو لجنة تمثل فيها كل الأطراف، تأخذ على عاتقها مهمة وضع أسس ومحاور الحوار وتحديد آليات عمله وبرنامجه الزمني، قبل الذهاب إلى مؤتمر الحوار. وفي تقديرنا أن وجود ولي العهد سمو الأمير سلمان بن حمد آل خليفة على رأس هذه الهيئة، إن من جهة القيادة أو من جهة الإشراف، سيكون عاملاً مساعداً، بل وضامناً لنجاح أعمال هذه الهيئة، كون سموه هو المعني والمكلف من جلالة الملك بهذه المهمة، كما أن سموه يمسك اليوم هذا الملف على المستوى الدولي للحصول على الدعم اللازم له. كذلك نعتقد بأنه ليس هناك أي تعارض أو تناقض بين القبول بالجلوس على طاولة الحوار، والدعوة إلى جعل مبادرة سمو ولي العهد ذات النقاط السبع المعروفة والمعلنة، منطلقاً في صياغة أسس ومحاور الحوار الرئيسية التي ستخضع بدورها للنقاش والتفاوض قبل التوافق عليها في المؤتمر الوطني العام للحوار الذي ستدعو إليه السلطتان التشريعية والتنفيذية، كما طالب به جلالة الملك عندما دعا إلى الدخول في عملية الحوار ليكون «استكمالاً» لمبادرة ولي العهد.
 
لذلك، ندعو جميع الأطراف إلى التعامل مع هذا التصور (المقترح) من منطلق المصلحة الوطنية، وعدم التسرع في رفضه أو اتخاذ موقف سلبي ومتشنج منه لمجرد أنه صادر عن هذا الطرف أو ذاك، فالعمل السياسي لا يجب إخضاعه لمثل هذه العواطف والانفعالات التي تحجب الرؤية الصحيحة عن المصلحة الوطنية، وتحول دون اتخاذ الموقف المناسب، فلابد أن تدرك جميع الأطراف أن أية مكاسب سياسية واجتماعية أو اقتصادية يمكن أن يسفر عنها الحوار، هي في نهاية المطاف مكاسب لكل المواطنين، ولن تكون حكراً على فئة دون أخرى، وبالتالي ليس هناك من معيار لجدية هذا الحوار وضمان نجاحه سوى الاتفاق على الخروج بإنجازات وخطوات جادة وملموسة على مستوى التشريعات الدستورية والسياسية وعلى مستوى زيادة هامش الديمقراطية والحرية على كل المستويات في الدولة. فليس لأحد أن يتصور أو يفكر في قبول نتائج يمكن أن تعود بنا إلى نقطة الصفر، أو «تقطم» من رصيد ما تحقق خلال العقد الماضي، هذا عوضاً عن البناء عليه وتطويره. نقول ذلك ونحن نعرف ونلمس بعض الهواجس وعوامل الخوف التي تتلاعب بعقول البعض، ونحن مع ضرورة أن يشعر الجميع بالاطمئنان واستبعاد أية محاولة «للاستحواذ» على تلك المكاسب وإقصاء الآخر منها، لذلك على الجميع في هذه المرحلة الإقرار بأنه لا مناص من «التوافق الوطني» واعتماد خيار «الديمقراطية التوافقية» نظراً لعدم إمكانية تحقيق مبدأ «الغالبية الديمقراطية» لأسباب داخلية وإقليمية ودولية، وان اللجوء إلى الديمقراطية التوافقية (رغم بعض سلبياتها) هي في الواقع تمثل حالة من إدارة الصراع الداخلي بين المكونات السياسية والمذهبية في البلاد وأنها تمثل أفضل البدائل والخيارات المتاحة في هذه المرحلة نظراً لسيادة حالة عدم الثقة وتفاقم حدة الاصطفافات الطائفية. وعلينا أن نقر، بكل أسف، أن الطائفيين قد نجحوا في تخويف وإرعاب الشعب، أو مكون أساس منه، تحت ذريعة تكرار «سيناريو العراق» واحتمالات بروز ظاهرة الفرز على الهوية، وهو الأمر الذي أدى إلى الانقسام الخطير الذي شهده الشارع البحريني، وساهم بالتالي هذا الوضع في خلط الأوراق، وتهيئة الظروف المناسبة للالتفاف على المطالب الحقيقية والمشروعة للشعب البحريني.
 
من هنا نحن اليوم نوجه حديثنا بشكل خاص إلى الأطراف التي «تتغذى» من هذا التصور، و «تتبنى» خطاباً حدياً، سمته الأساسية «التخوين» و «الإقصاء» للآخر والذي جعلت منه محوراً لتفكيرها ومرتكزاً لتحركها تحت ضغط الشارع الذي عبأته وشحنته بصورة خاطئة… إن هذه الأطراف مطالبة اليوم أكثر من غيرها بسرعة مغادرة هذا التفكير أو التوجه الضار، لأنه قائم بالأساس على عقلية أو معادلة (منتصر ومهزوم) واستمرار مثل هذا التوجه وسحبه على أجواء الحوار يلقي بظلال من الشك في النوايا، وفي سقف الإصلاحات والمكاسب السياسية والدستورية المتوقعة والتي يمكن التوافق عليها في «مؤتمر الحوار» وخاصة مع استمرار أجواء الشحن الطائفي وتنامي لغة التحريض والكراهية، وتزايد دعوات الانتقام الموجهة ضد بعض مكونات المجتمع وضد بعض القوى السياسية. ولابد للجميع أن يدرك أنه ليس هناك من سبيل أمام الديمقراطية، وأنه لا معنى أو أي مغزى للحديث عن «الدولة المدنية» طالما بقيت مثل هذه الأجواء مسيطرة على سلوكنا وتفكيرنا (ونحن هنا لا نستثني أحدًا) وطالما ظلت بعض الهواجس والظنون المذهبية تتلبسنا.
 
فليس هناك أية فرصة لنجاح دعوات الحوار إذا كانت «النخب» أو «القوى» المتصدية للحوار «متلبسة» بالنعرات الطائفية، ومتوشحة بالرايات المذهبية، وزاعقة بأصوات التحريض والكراهية!


الرؤية الثالثة:
على الجميع الإقرار والإعلان بأن البحرين جزء من منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربي، التي ترتبط شعوبها بأواصر الدم والنسب ووشائج القربى، بالإضافة إلى حقيقة عروبة البحرين وانتمائها إلى محيطها القومي العربي، وان شعب البحرين جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وهذا مبدأ ليس خاضعاً للنقاش أو المساومة وعلينا كذلك الإقرار والاعتراف بأن أوضاع البحرين لا تماثل أوضاع مصر وتونس واليمن وليبيا، (في التفاصيل) وأن لكل بلد خصوصياته، ولكن طالما أقررنا بأننا جزء من الوطن العربي الكبير، فالمؤكد أن البحرين ليست محصنة ضد التأثر أو التأثير بموجات الإصلاح التي تجتاح المنطقة العربية، بل إننا لا نتجاوز الحقيقة، إذا قلنا إن البحرين قابلة للتأثر السريع بتداعيات الموجة أكثر من غيرها من دول المنطقة بأسباب ليست خافية على أحد، لذلك ليس من العدل أو الإنصاف وصم كل الحراك الشعبي، وكل القوى المشاركة فيه بالطائفية وربطها بأجندات خارجية، مع إدراكنا التام بأن قوى إقليمية ودولية مثل إيران والولايات المتحدة الأميركية وغيرها سوف تلجأ حتماً إلى استغلال الأوضاع ومحاولة توظيفها لخدمة أهدافها ومصالحها في المنطقة، كما يجب أن نقر وندرك أيضاً بأن هناك بعض القوى والأطراف الداخلية لها أجندتها الطائفية، وهي عادة تلجأ إلى استخدام «المذهبية» كأداة للتعبئة والإثارة والتحشيد.
 
وعلى صلة بهذه النقطة، يجب التأكيد على أمن وسلامة البحرين ضد أي تهديدات خارجية وأية تدخلات في شئونها الداخلية، وهنا المسئولية تقع على جميع المواطنين وكل القوى والمنظمات السياسية والمجتمعية، وواجبها الوطني يحتم عليها المحافظة على أمن واستقرار البلد، والمحافظة على الوحدة الوطنية ومنع انكشاف البلاد أمنياً أمام التحديات والمخاطر الأمنية الخارجية أو تحولها إلى ساحة صراع إقليمي ومذهبي سيقود حتماً إلى إشعال المنطقة برمتها.
 


الرؤية الرابعة:
التأكيد على سلمية كل التحركات المطلبية، ورفض اللجوء إلى العنف مهما كان شكله أو حجمه، وضرورة إبعاد هذه التحركات عن الخطابات «المتشددة» وعن الشعارات «المتطرفة» كما يجب ألا تكون هناك أية فعاليات خارج القانون وغير منضبطة، نقول ذلك من تجربة الأحداث خلال الأشهر الماضية، فقد كانت هناك بعض «الشعارات» المنفلتة، وكانت مسئولة بشكل أو بآخر عن أجواء التوتر والاستعداء الطائفي التي سادت البلاد في تلك الفترة دون أن نغفل عن حقيقة مهمة ذات صلة بالموضوع وهي أن الدستور والقانون قد أجازا تنظيم المسيرات والتجمعات السلمية وهذه حقوق ليس لأحد أن ينتقص منها أو يصادرها تحت أي ظرف من الظروف.
 
في موازاة ذلك، مطلوب العمل الفوري لوقف حالات الانتقام ودعوات الثأر وتصفية الحسابات التي باتت تسيطر على عقول ونفوس البعض، وهنا لابد من التطرق إلى دور الإعلام، بل وكل المفاصل الإعلامية في الدولة من «صحافة» و «تلفزيون» و «مواقع إلكترونية» ودورها في هذه المرحلة في أن تكون أدوات للإعلام الحر الذي يتعامل مع جميع المواطنين بحيادية ومهنية، وأن يساهم في تخفيف الاحتقان الطائفي، ووقف كل حملات التحشيد والتحريض.
 
كما أن المرحلة تتطلب توجه الجميع بشكل عاقل ومسئول من أجل استعادة اللحمة الوطنية، ووقف النزيف المتواصل والعمل على تضميد الجراح، لأن البديل يعني استمرار الشرخ الطائفي الذي يهدد وحدة البلاد ويشرع الأبواب أمام التدخلات الخارجية.
ماذا يعني كل هذا الذي قلناه بخصوص تلك الرؤى، في تلخيص مكثف وما الذي تتطلبه من خطوات والتزامات من قبل الأطراف المعنية بالحوار، وبمستقبل العمل السياسي برمته في البلاد؟ باختصار، هذه الرؤى تكشف حاجة البلد إلى استراتيجية وطنية شاملة تقوم على ثلاثة محاور أساسية وتعتمد لنجاحها بالإضافة إلى توفر الإرادة الصادقة للمواطنين ولكل القوى السياسية، دعم جلالة الملك لها, وسيشكل ذلك دون أدنى شك عاملاً أساسياً للنجاح كون جلالته صمام أمان هذا البلد ووحدة شعبه.
وأول هذه المحاور يختص بإقرار مبدأ الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية، القائمة على المواطنة والعدالة والمساواة بين جميع المواطنين. وثاني هذه المحاور التمسك ودعم خيار الأمن والاستقرار لكل المواطنين، ولكل مدن وقرى البحرين، مع التمسك بكل قيم حقوق الإنسان ومبدأ العدالة والإنصاف مع الجميع، فالتمسك بمطلب الأمن والقانون لا يعني السماح بأية تجاوزات على حرمات الناس أو التعدي على أرواحهم وممتلكاتهم، ومعاقبتهم بصورة جماعية.
 
في الوقت ذاته، مطلوب إقرار واعتراف الجميع بأن الحرية والديمقراطية والمساواة لا تعني السماح أو القبول بتلك المحاولات الرامية إلى ضرب الشرعية الدستورية والخروج على القانون عبر اللجوء إلى العنف والفوضى.
 
وثالث المحاور، ضرورة التوجه لتفعيل دور القوى الوطنية والديمقراطية، وجميع قوى ومؤسسات المجتمع الوطني والأهلي.
 
كذلك فسح المجال لكل الشخصيات الوطنية وعقلاء هذا البلد وهم – لله الحمد – ليسوا قلة، وليسوا حكراً على فئة دون أخرى! للعمل معاً من أجل إنقاد البحرين وإخراجها من أزمتها الراهنة واسترجاع عافيتها، بعد أن جرى خطفها وجعلها تدفع أثماناً باهظة بسبب حماقات بعض المتشددين، والتي مازالت للأسف تدفع حتى يومنا هذا تكاليف مضاعفة بسبب الغرائز المنفلتة لبعض الموتورين والمنتفعين.
 
أخيراً نقول لبعض الباحثين عن «الأدوار» على حساب عذابات الناس، أن يكفوا عن النفخ في النار وإشعال حرائق الثأر والانتقام، ويجب أن يعلموا أن استمرارهم في لعب هذا الدور «المشين» و «العدائي» سيأخذ البلاد إلى هاوية سحيقة ومدمرة، وسوف يكونوا هم وحدهم من يتحمل المسئولية أمام الله وأمام الناس والتاريخ، وهم من يتحمل المسئولية عما حملته وسوف تحمله نفوس الناس من أحقاد وكراهية تجاه بعضهم البعض.
 
وليكن قول المولى عز وجل – وهو قول الحق – هو الموجه لسلوكنا وخطابنا في هذه الفترة العصيبة. «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، أدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (فصلت: 34) صدق الله العظيم
 
محمود القصاب
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3206 – السبت 18 يونيو 2011م الموافق 16 رجب 1432هـ
 
 

اقرأ المزيد

نحو حوار متقدم لا متخلف!


لا يختلف في ذلك اثنان.. ان الحوار هو الطريق الأمثل في الخروج من الأزمة السياسية والاجتماعية.. التي شقت قلب الوطن طائفياً إلى نصفين!!

وبعيداً عن الأسباب والنتائج التي أوصلت الوطن إلى هذا الشرخ العميق الذي ما برح ينزف كراهية بطش الطائفية البغيضة.. حتى أصبح الوطن واقع طي اغتراب نصفيه!!

ويأتي السؤال مُبرراً: على اي « قاعدة يمكن ان ننطلق بالحوار.. على قاعدة من التقدم.. أم على قاعدة من التخلف؟! على قاعدة من الحرية والعدل والمساواة.. أم على قاعدة من الظلم والعنف والإقصاء؟!

ولا يمكن ان يُصبح الحوار في صميم منجز اكتمال وكمال مهماته الوطنية إلا إذا تأسس على قاعدة من التقدم والديمقراطية آخذاً بعين الاعتبار مبدأيه: الدين لله والوطن للجميع.. وهو ما يتشكل في روح العصر ومهماته العلمية والتقنية.

ان روح العصر يعني روح اليوم.. وليس روح الأمس.. الذي يمور بروحانية فقه الماورائية ومنجز مرئيات فكرية ودينية وطائفية أكل وشرب عليها الدهر. وفقدت صلاحيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية!!

روح العصر الذي تناضجت قيمه الإنسانية في الحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان.. وعدل ومساواة المواطنة وتحرير المرأة.. ونبذ الانغلاق والتقوقع في مفاهيم ورؤى أكل وشرب عليها الدهر.. والانفتاح أكثر فأكثر على منجز الحداثة والتحديث ومتطلبات الإنسانية في التحرر والانعتاق وإلى الأبد من مخازي القرون الوسطى.

ان منطق صدقية الحوار يجب ان يأخذ في عين الاعتبار تكريس فصل المفاهيم السياسية عن المفاهيم المذهبية والطائفية.. والعمل على تشريع قوانين في عدم الخلط بين كتاب الله وكتاب البشر ( الدستور ) وما يُلبي ويساوي ويعدل بين الناس في الحقوق والواجبات نساء ورجالاً وعلى مختلف الأديان والمذاهب والألوان والفئات والفرق والاقليات.. منطلق حوار يضع في الاعتبار ان الوطن فوق الجميع بدون استثناء وفوق المذهب والدين والطائفة والمرجعية ولا ولاية لفقيه أو مرجعية دينية فوق ولاية ومرجعية الوطن والمساواة في المواطنة ولا يمكن الحديث عن نجاح حوار وسد الثغور الطائفية والمذهبية داخل الوطن وخارجه.. إلا بالأخذ بروح العصر وما آتينا عليه سلفاً من رؤى وأفكار ازعم أنها تشكل قاعدة مهمة في تكريس الحوار المنشود في مملكة البحرين التي تتناهض من كبوتها خلال ما دعا إليه جلالة الملك إلى طاولة الحوار وتنادت إلى دعمه وتأييده قوى الحرية والتقدم والديمقراطية داخل الوطن وخارجه..

ولا يغيب عن الذاكرة ان حواراً يأخذ طريقه في عمق روح العصر.. وروح مشروع الإصلاح الوطني.. يترتب على حراكه عناصر وقوى سياسية وديمقراطية وتقدمية تنزع بطبيعتها الايديولوجية والتنظيمية إلى روح العصر وروح مشروع الإصلاح الوطني.. وهو ما يدفع المخلصين والديمقراطيين من أدباء وكتاب وفنانين ومثقفين واعلاميين ان يشدوا من ازر هذه القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية وطليعتها المنبر الديمقراطي التقدمي وبخصائصه التنويرية العقلانية لا ان يزيدوا الطين بلة فيما يعاني بعض أعضائه من انكسارات واحباطات نفسية.. فالمصاب الوطن برمته وبمؤسساته وقواه وأحزابه السياسية والوطنية.. ولا يمكن فصل الوطن عن مؤسساته المادية والفكرية.. وان التنديد المغرض والانتهازي المتحذلق ضد إحدى المؤسسات الوطنية السياسية وبوجدانيتها التقدمية والديمقراطية وتاريخيتها اليسارية.. واقع سلبي وانتهازي ينال الوطن قبل ان ينال إحدى قواه الراسخة رسوخ الجبال في روح العصر وروح مشروع الإصلاح الوطني.. وأكثر القوى تجلياً مادياً ومعنوياً بدور الجماهير والفرد في التاريخ!!
 
الأيام 16 يونيو 2011

اقرأ المزيد

الحوار مجـدداً..!


نعود ونقول بأن الحوار الوطني لابد أن يكون حواراً.. أي أن الحوار لابد أن يكون بالأهمية التي يستحقها، وبالمنزلة التي تجعله حاجة وضرورة، وتجعل مخرجاته إشارة إلى الحكمة، والا فليؤذن لنا بالقول بأنه ان لم يكن كذلك فانه عمل عبثي بامتياز..!!

نؤكد على ذلك لأننا وجدنا بأن هناك من لا يريد لهذا الحوار ان يمضي لكي يكون حواراً. وبات واضحاً ان هناك من يسعى سراً او علانية إلى وضع العصي والافخاخ في دواليبه حتى وان كان ذلك عبر اللعب بالكلمات والمواقف الملتبسة والاسترسال في التمويهات التي لا تليق.

لسنا في وارد تحليل دوافع وحيثيات اي موقف من الحوار، او التعرض إلى محاولة طرف من هنا او هناك تعبئة الهواجس من الحوار، او من ما يقوم به «شياطين التفاصيل» الذين يريدون لسبب او لآخر ان ننجر إلى حوار لا يثمر سوى المزيد من التباينات والعقد المستعصية، ولن نتناول محاولة التشكيك المسبق في مدى جدية الحوار في البحث عن حل سياسي يحقق مطالب الشعب بكل مكوناته، او في التساؤلات التي طرحها البعض حول من يقود الحوار وحول قدرة أو عزم المقتدرين والنافذين على تنزيه مجريات الحوار لكي يمضي في الطريق المأمول، ولكننا هذه المرة نطرح تساؤلات مجرد تساؤلات ودائما هناك تساؤلات، فالوطن مرهق بالتساؤلات المقلقة على المستقبل، وهي على اي حال قليل من كثير ليس إلا:

• هل سيبعث كلام جلالة الملك في خطاب تكليفه لرئيس مجلس النواب برئاسة الحوار والمؤكد على ضرورة المشاركة الفاعلة في الحوار، والانفتاح على جميع وجهات النظر والشفافية في الطرح، وضرورة التوصل الى قواسم مشتركة، هل سيبعث هذا الكلام جرعة إضافية تبث الطمأنينة في نفوس من يثيرون الغبار حول جدوى الحوار. وهل سيجعل ذلك عقلاء السياسة على درتهم الفائقة يذهبون الى الحوار بروحية وعقلية ونيّة تخدم الهدف الوطني المنشود من الحوار.
• هل نعي بان المرحلة الأولى التي يفترض ان تمهد لأرضية الحوار الوطني الجاد والمسؤول تبدأ على الأقل من اللحظة التي نحن فيها الآن، رغم انه كان لابد ان يبدأ قبل ذلك، وعليه لابد للمعنيين الحقيقيين والاساسيين بأمر الحوار تأسيسا او نتيجة ان يسارعوا الى توفير بيئة الحوار ومناخاته ووقف هذه الأجواء غير السوية التي تصر على ان تضعنا امام رهانات متشائمة تجعل الحوار ليس فقط لا يبدأ البداية السليمة وانما تجعله ظاهرا يحمل عناوين سياسية فيما هو يستبطن استهدافات ليست ناصعة البياض..!

• هل يدرك الجميع بان الحوار لا يمكن ان يستقيم مبناه ومعناه بدون خلوص النية، وتجنب ان يكون الحوار وسيلة لمزيد من الطائفية والطوائفية السياسية التي تقسم وتفرق، وتثير المزيد من الحساسيات – وكأن ما فينا لايكفينا – وهل يدرك الجميع بان الحوار لا ينبغي ان يكون حواراً ضد فريق، او فريق يزعم الحق لنفسه وباطلا لسواه، او انه حوار بين زعماء وكتلك وطوائف او جمعيات او قوى تظن بانها الوكيل الحصري المعتمد المخول للتحدث باسم الشعب، او بين قوى سياسية تدعي انها غير طائفية، فيما هي ملحقات لهذا الفريق الطائفي او ذاك.

• هل يستوعب الجميع بان الحوار الحقيقي لا يأتي من زاوية «قل كلمتك وامش» بل لابد ان يكون حواراً مستوعباً لكل المشاعر والطموحات السياسية والوطنية، حوار لا يختلط نابل المطالب به لضرورته واهميته مع حابل المزايدين عليه لأجندات معينة او حجج اغلبها وهمي أو ذاتي أو مصلحي.

• هل يدرك من ستجمعهم طاولة الحوار بان هذا الحوار هو حوار مجتمع بكل فئاته واطيافه ومكوناته، حوار لا يعطي الفرصة لفتح ذريعة «حماية الذات» من الآخر في الوطن، ولكنه يعطي الفرصة لكي يشعر كل طرف بأنه منعتق من القيود الطائفية، واحتياج كل طرف الى الآخر، وان هناك مصلحة مشتركة من هذا الحوار.

• ما هي أسس اختيار المشاركين في الحوار، وهل ستكون هناك اختيارات من باب الترضيات، ثم إلى أي مدى سيكون للانتهازيين والطائفيين الذين بات المشهد المحلي يزخر بهم هنا وهناك بحثا عن حضور، او دور او زعامة او مصلحة وظهروا يسوقون أنفسهم باعة جائلون للوطنية، ممن وجدوا ما حدث فرصة وأي فرصة، إلى أي مدى سيكون لهؤلاء ومعهم المهيجون والمحرضون والمحنكون باستغلال العواطف والعواصف الذين أوغلوا فيما يثير الضغينة ونبذ الآخر، إلى أي مدى سيكون لهؤلاء حضور في الحوار، وهل يمكن أن يكون حضورهم مجديا ومفيدا، وهل سيترك أمر الدخول في الحوار لكل من يريد ان يوجد له موطئ قدم على طاولة الحوار، وهل وجود هؤلاء لن يؤدي بأحلامنا إلى «المقبرة».

• ثم الحوار مع من، هل بين الحكم وقوى المجتمع، ام هو حوار بين قوى المجتمع فيما بينها، ثم من هي أطراف الحوار المؤهلة والجديرة بان يكون لها موقع واعتبار في الحوار، وهل القوى والجمعيات السياسية رغم كل ما قيل في شأنها هل ستكون طرفا أساسيا في الحوار.

يبقى السؤال الأهم على ماذا سنتحاور؟ وما هي القيود والضوابط التي ستحكم الحوار، وما هي طبيعة وسقف المطالب السياسية التي يفترض النقاش حولها في الحوار، وهل ستكون إدارة الحوار فعالة كما يجب، وهل مخرجات الحوار ستشكل قفزة إصلاحية تلبي التطلعات.

حسبي ان ادعوكم ان تطرحوا المزيد من التساؤلات، او تفكروا في الإجابات وفي الحالتين مطلوب عقول سياسية كبيرة وخبيرة، ونوايا صادقة، وعمل سياسي استثنائي، باختصار مطلوب ان نتحمل المسئولية من اجل الوطن والمجتمع ومن اجل أنفسنا.

اقرأ المزيد

طاولة حوار من دون شوائب


لا نحتاج إلى أي نصيحة بشأن تهيئة الأجواء للبدء بحوار وطني حقيقي وشامل، بل المنطق يقول انه لا بد من هذه التهيئة حتى تكون الخطوات ملموسة بالنسبة للمواطن الذي وجد نفسه في أمواج السياسة المتلاطمة.

طاولة الحوار التي ستجمع مختلف الأطياف والرؤى يجب ان تكون طاولة هادئة منزوعة الشوائب حتى تتمكن من التوصل إلى ما يريده شعب البحرين من توافق وطني يحقق دفعة قوية نحو التقدم والاستقرار السياسي والاقتصادي.

أي طرف كان لن يستفيد من الضجيج العالي والصراخ الذي تستخدم فيه المفردات المستفزة ودعوات التشفي والانتقام، هذه الروح تتناقض مع التوجه العام نحو مشاركة مختلف الفئات في حوار هادف نحو مزيد من الإصلاح، وهو الإصرار الذي تلتمسه من خلال تصريحات المسؤولين بأنه لا عودة للمربع الأول أبدا، فالبحرين منذ انطلاقة المشروع الإصلاحي ترسم المستقبل الديمقراطي، وان كانت هناك أخطاء وهفوات او بطء او نقص فإن التوافق الوطني كفيل بأن يتجاوز هذه العراقيل التي كانت موجودة، او التي يريد البعض ان يضعها أمام طاولة الحوار.

ماذا يريد هؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة من العيش ويرفضون كل ما من شأنه ان يحقق التوافق، لماذا تتم إصدار الأحكام المسبقة على كل بارقة أمل.
قولوا لي بالله عليكم، ما الضير في حوار نسمع فيه كلام بعضنا البعض ونقنع المختلفين حتى نصل الى (كلمة سواء) من أجل وطن أرقى وأجمل وأكثر إصلاحا.

لذلك القوى السياسية عليها في هذا الوقت تحديدا ان تكون أكثر جرأة وتعبر عن كل ما تؤمن به وتعتبره هو الأصلح بكل صراحة ودون خوف من أحد، وبعيدا عن تأثيرات نابعة من أوهام نسجتها خيوط الطيش السياسي.
 
الأيام 18 يونيو 2011

اقرأ المزيد

الديمقراطية التمثيلية


لا أدري كيف شاعت بيننا وترسخت في أذهاننا المقولة الإغريقية القديمة القائلة إن الديمقراطية هي حكم الشعب من الشعب وللشعب، وذلك في تسطيح وابتسار مخل بالتراث الغزير والعظيم الذي خلفته لنا الفلسفة اليونانية وجهابذتها الكبار مثل طاليس أبو الفلسفة الفلكية الذي أدهش في القرن السادس قبل الميلاد سكان ملطيا عندما ذكر لهم أن الشمس والكواكب (التي كانوا يعبدونها كآلهة) ليست سوى كرات من نار، وتلميذه انكسمندر (610 – 540 قبل الميلاد) الذي كان أول يوناني يضع خرائط جغرافية وفلكية والذي شرح بأن التاريخ الفلكي يعيد نفسه في أوقات دورية في نشوء وانحلال عدد من العوالم لا حصر لها، وأناكسمانس (450 قبل الميلاد) الذي أشار إلى أن الأشكال الثلاثة للمادة: الغاز والسائل والجامد كانت مراحل تقدمية للتكثف، وهرقليطس (530 – 470 قبل الميلاد) القائل إن جميع الأشياء تجري وتتدفق وتتغير، وحتى في أكثر المواد سكوناً هناك تدفق وحركة غير منظورة .
 
وبعد هؤلاء هناك سقراط الذي عُد قبل أكثر من ألفين وثلاثمئة سنة أحكم أهل اليونان الذي رفض بإباء طلب الرحمة من جموع الدهماء التي تجمعت لمشاهدة عملية إعدامه بتهمة الفساد الخلقي بسبب دعوته الشباب إلى التحرر من الخرافات والأساطير القديمة، وتشكيكه في تعدد الآلهة وإيمانه بإله واحد . وكانت لدى تلك الجموع في تلك اللحظة السلطة في أن تعفو عنه لأن القضاة أرادوا إطلاق سراحه ولكنهم كانوا محرجين مع ترديد الدهماء هتاف “أعدموه . . أعدموه” فرفض استرضاءها وطلب كأس السم ليتجرعه، فكان ذلك أعظم موقف للنخبة الأثينية من الديمقراطية الشعبية .
 
وهنالك تلميذ سقراط، أفلاطون الأرستقراطي الأثيني صاحب أعظم مساهمة منهجية فكرية في تنظيم وإدارة المجتمعات، والذي شهد عملية إعدام معلمه وصديقه سقراط، وكان عمره يومها 28 عاماً، وهو الأمر الذي رسخ لديه فكرة الاستعاضة عن الديمقراطية بحكم الأعقل والأفضل من الرجال، والذي رسم له خريطة طريق، ينم الجهد الذهني الذي بذل في إنتاجها وإخراجها، عن عبقرية خارقة بغض النظر عن مثاليتها المترفة .
 
ولعل هذه المثالية المغرقة في حلمها بذلك المجتمع الفاضل المنشود هي التي “حرضت” تلميذه أرسطو في ما بعد على ابتداع مقاربة أخرى أكثر قابلية وعلمية للإدارة المجتمعية الكلية الحصيفة .
 
بهذا الصدد يقول أرسطو إن أفضل نظام عملي للحكومة هو الأرستقراطية، وهي حكم القلة من المثقفين وأصحاب المؤهلات والمقدرة، ولكن وبما أن هذه الأرستقراطية مرتبطة بطبيعة حب المال الأبدية، بما يجعل المنصب السياسي، إن عاجلاً أو آجلاً، لمن يستطيع أن يدفع أكثر، فإن أرسطو هنا يستعين بآلية الديمقراطية للتخفيف من وطأة وجموح الأرستقراطية الرغائبي اعتباراً من أن الكثرة أقل استعداداً من القلة للفساد والإفساد على حد قوله .
 
وعندما يصل أرسطو إلى السؤال عن السبل إلى إيجاد أكثرية ساحقة لدعم الحكومة الدستورية التي يقترحها، فإنه لايتردد في ترشيح الطبقة الوسطى للنهوض بهذه المهمة .
 
وهذا موقف يتسق مع مقاربة أرسطو الوسطية بين الديمقراطية والأرستقراطية (الحكومة الدستورية هنا)، فهو يقول إنه “ستتوافر في دولتنا ديمقراطية كافية إذا كان الطريق لكل منصب في الدولة مفتوحاً أمام الجميع، وأرستقراطية كافية إذا أغلقت أبواب المناصب ولم تفتح إلا للمتعلمين الذين قطعوا شوطاً طويلاً في التعليم” .
 
وهكذا، فإن الديمقراطية التي بشّر بها فلاسفة أثينا الثلاثة العظام: سقراط وأفلاطون وأرسطو، هي ليست الديمقراطية الشعبية المتوافق (بفتح الفاء) عليها عالمياً ويجري العمل بها كأداة إدارة مجتمعية كلية في بلدان العالم كافة التي اختارت الديمقراطية كمكون أصيل في استراتيجياتها التنموية الشاملة .
 
ونظن أن تجربتي التحول الديمقراطية في كل من سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، لا تبتعدان كثيراً عن رؤية ثلاثي أثينا الفلسفي ثاقب النظر .
 
المشكلة بالتأكيد ليست في الديمقراطية وإلا لكانت أفلست وأغلقت أبواب “مقارها الرئيسة” في بلدان المركز (الديمقراطي)، وهي هنا الدول الصناعية المتقدمة .
 
المشكلة تكمن في مدى توافر الوعي الكافي بها أولاً، وثانياً في مدى الإيمان العميق غير المهزوز بها (فلا يكفي الوعي بها وحده)، وثالثاً في ممارستها وفقاً لأساليب وتقاليد مسؤولة .
 
وكما نرى فإن توافر هذه المقومات الثلاثة في بيئات مجتمعية هشة البنى، هو مراد صعب المنال، ما يفسر إخفاق تجارب “الحشر” القسري للديمقراطيات الشعبية في عديد هذه المجتمعات بصورة اصطناعية ليس بهدف زرع بذرتها في تربة قاحلة، بقدر التماهي الاضطراري مع تيار التحديث والتمدين العالمي .
 
وبذا نحسب أنه لكي تنجح مثل هذه التجارب “الديمقراطية المخبرية” يتعين في البداية توفير شروطها، بما يعني تهيئة التربة المراد زرعها فيها، وذلك من خلال العمل المنظم والمثابر في اتجاه واحد يركز على إحداث تحول عميق في الثقافة السائدة لمصلحة احترام سيادة القانون واحترام الآخر ومقاربة المستويات المعيشية بصورة تقلل التهميش والإقصاء الاجتماعي إلى الحد الأدنى .
 
 . .وإلا فإن نجاح مثل هذه التجارب سيظل موضع تساؤل وتشكك، ليس هذا وحسب، بل إن ممارسة الديمقراطية على ذلك النحو الانتقائي والمجتزأ يمكن أن تتسبب في إحداث مزيد من البلبلة والاضطراب في الجسم الاجتماعي والاقتصادي .

اقرأ المزيد

تاريخنُا المشتركُ كبيرٌ


جاء أهلُ الحارات والمدن والقرويون من خريطة الجزر.

حملوا ديونَهم وأعباءَهم وزجاجات دمهم. قدموا من الأراضي المُباعة، ومن الحقولِ التي اصفرت وذبلت، ومن البساتين الخضراء على مدى النظر، ومن المغاصات والهيرات والسفن الشراعية الكبيرة ومن أعماق البحر.
سلموا أولادَهم وبناتهم لشوارع الكلمة والبحث عن شعبٍ جديد حديث في عمق الخليج الصحراوي البحري المستيقظ على طبول الحرية.

أرسلوا الصيادين الذين فقدوا بحارَهم وأسماكهم يتحدون بالقوارب الطرادات والمدمرات يرفعون راياتهم الوطنية.

هتفوا بصيحاتِهم شبه الأمية، لا يختلفون عن آبائِهم ذوي الإزارات يتحدون الباليوز والقراصنة.
جاء القرويون لمعمل التكرير بفؤوسهم.
نظفوا الصحراءَ من كل الحصى، وأسسوا بيوتاً وحدائق صغيرة.
شعشعتْ الأضواءُ في القرية، وبُني المسرح، وظهرتْ النساء للحرية!
اتحدتْ سفنُ الغوص القادمة من القرى والبلدات الصغيرة، تجمعوا يقطفون المحارَ ويبنون الدروب والبيوت.
ذهب المتعلمون إلى الهند وبيروت ومصر وجلبوا الكتب والصحف ونشروها في الأندية.
نزلتْ الحشودُ من المواطنين في الشوارع تطلب الحرية والاستقلال، سالتْ الدماءُ غير المعروفة من أي حي وقرية وحارة تدفقتْ، تمازج الدمُ الوطني، تعالتْ الأندية وازدهر الحبرُ الشعبي المغموس من القضية.
تقاربت الأحياءُ وأُسستْ الأنديةُ المشتركة، وتدفقَ اللاعبون والمشاهدون وامتلأت الملاعب بشعب واحد يصفق للوطن الواحد.

دور السينما ذات المقاعد البسيطة وأفلام الأبيض والأسود تمتلئُ كل ليلة بجموع الأحياء الذين يتداخلون ويضحكون ويتكلمون معاً.
من كان يفرق بين حي رأس رمان والعوضية؟
من كان يفرق بين المنامة والحرية؟

الباصاتُ الخشبيةُ تأخذُ الركابَ من كل زقاق وحي، من قلب جدحفص تذهب بهم إلى قرى المحرق، والأسواقُ التي تنامت في أيام الأربعاء والخميس حصلتْ على باعة ومشترين من كل مكان وضاعت هويات الأحياء والأزقة وصعدت هوية الأرض.
كَثرت الأعراسُ بين الأحياء والقرى، تمازج الدمُ، الأسوارُ المذهبية تنفتحُ فيها كواتٌ ونوافذ لكنها لم تسقط.
لأول مرة ارتفع شعارٌ صارخ في الأسواق والشوارع:(عاش الشعب!).
رجلٌ يصعد مبنى المحكمة بين العيون ويكتب(يسقط الاستعمار!).
الأجسادُ تتقدم في دروب الحرية، يظهر علم، وينتشر، وتاج الإمبراطورية يسقط.

هو زمن التوحيد، والشاحنة الطويلة(سالم الخطر) تنقل العمال من الأحياء والقرى وتوحدهم في مصنع للدخان والنور والزيت.
كانت ثمة اختلافات كثيرة وصراعات وتباينات لكن داخل الوحدة المتنامية في وعي ديمقراطي علماني، أبعد المذاهبَ عن السياسة، وركز في حل المشكلات الكبيرة في الواقع.

وجاء زمنٌ حدث فيه التفكك، وانعزلتْ أقسامٌ إجتماعية عن بعضها، وزادت وتضخمت واغتنتْ الفئاتُ الوسطى والكبيرة، لكن في عالم الخاص: الطب الخاص، التعليم الخاص، الإسكان الخاص، فيما كان العام يعيش في الضيق وشد الأحزمة على البطون.
عادت الطوائفُ إلى قواقعها، إن أزمةَ التغيير في العالم العربي الإسلامي لم تترافق مع توحيد وصعود معيشي مشترك ومع وعي حديث.
الجمهور الفقير الأمي المحدود الثقافة ظل هو جوهر الأزمة، وجاءتهُ أشكالُ وعي متخلفة أبعدته عن مشكلات حياته وتغييرها بشكل حقيقي.

كيف لقوى في الخمسينيات أو حتى الأربعينيات أن تكون توحيدية وطنية مضحية؟ لكونها أبقت على بذور التوحيد الصغيرة الفكرية التي تجسدت في الأندية – التيارات التي استخدمت شعارات النهضة والعروبة والأهلي المدنية وركزت في العام وليس في الخاص فقط.

سيظهر التوحيديون التنويريون الجامعون للشعب من كل الفئات، سيخرجون وهم يستعيدون تراثَ آبائهم، سيمد الأغنياءُ أيديهم للفقراء في نضالٍ مشترك ينتشلونهم من البطالة والفقر، سيتقارب أصحابُ المصانع والعمال في توحدٍ بحريني يختلف ويتقوى، ستركز القوى فيما هو ديمقراطي مشترك، ستعزز الوطن في اختلافه عن بقية الدول، وفي مشاركته لها في تطورها الديمقراطي.
 
أخبار الخليج 17 يونيو 2011

اقرأ المزيد

أي حـوار نريـد؟


قبل أكثر من سنتين من الآن بأيام قلائل شاركت مع الأخ حسن مدن الأمين العام للمنبر الديمقراطي التقدمي في ندوة بمقر المنبر، كان موضوع الندوة يدور حول الحوار الوطني في ضوء المبادرة التي كانت مطروحة في ذلك الوقت من المنبر التقدمي في دعوته لإجراء حوار وطني.
 
الآن ونحن على أبواب الحوار الوطني الذي دعا إليه جلالة الملك والمتوقع له أن يبدأ في الثاني من شهر يوليو/ تموز المقبل، أجد أن مداخلتي في تلك الندوة مناسبة لأن أشارك المواطن في الاطلاع عليها، لتناسبها مع موضوع الدعوة القائمة للحوار الآن، مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليها.
 
نحن جزء من العقلية العربية التي دائماً ما تأتي متأخرة؛ ما يجعل نتيجة ما تأتي من أجله ليست في مستوى ما هو مطلوب، إن لم تكن النتيجة معدومة. إن الدعوة للحوار الوطني ليست وليدة الأحداث الأخيرة، وليست هي وليدة الدعوة إليه من قبل المنبر التقدمي قبل سنتين، بل هي وليدة بداية العهد الإصلاحي لجلالة الملك، إلا أن الحوار لم يأتِ وتأخرنا كثيراً.
 
إنه من مصلحة النظام السياسي ومن مصلحة المواطنين ومن مصلحة القوى السياسية أن يكون هناك وطن آمن مستقر مزدهر تصان فيه الحقوق والواجبات، والحوار بين جميع الأطراف هو أمر واجب ومطلوب في كل الأوقات، ويساهم بكل تأكيد في خلق الأمن والاستقرار والازدهار.
 
على صلة بموضوع الحوار الوطني المطلوب، هناك الكثير من التساؤلات والعناوين يجب علينا تناولها والبحث لها عن إجابات.
العنوان الأول الذي أعتقد أنه مهم وذو علاقة بأيِّ حوار وطني، هو الواقع الذي يعيشه التيار الوطني الديمقراطي ذاتياً. فهل واقع هذا التيار يؤهله إلى أن يشكل رقماً فاعلاً يدع قوى الإسلام السياسي بداية أن تعطيه الاعتبار الذي يستحقه بدلاً من أن تستخدمه ورقة بيدها ساعة تشاء وتعطيه ظهرها ساعة تشاء؟ هذا التيار بيده أن يقزم نفسه تجاه الإسلام السياسي وتجاه السلطة، لذا فإن الطرفين يتعاملان معه وفقاً لذلك، وكذلك بيد هذا التيار أن يعيد الاعتبار لنفسه.
 
في هذا الشأن أطرح على قيادتي المنبر الديمقراطي التقدمي والعمل الوطني الديمقراطي التقدمي (وعد) جملة من التساؤلات، باعتبارهما الجمعيتين اللتين تشكلان الركن الأساسي لقوى التيار الوطني الديمقراطي، وهي تساؤلات كانت ومازالت مطروحة من قبل الكثيرين الحريصين على قوة وفعل هذا التيار. هل نحن نعيش وهماً اسمه التيار الوطني الديمقراطي؟ بالرغم مما تعلنه الجمعيتان بين وقت وآخر عن اجتماع بين قيادتيهما وصدور بلاغ عن الاجتماع واحتفال مشترك بمناسبة ذكرى استشهاد الشهيدين محمد بوجيري وسعيد العويناتي، هل هذا هو أقصي ما تستطيع الجمعيتان الوصول إليه؟ عندما تعصف بالوطن أحداث خطيرة كالتي جرت خلال الشهور الماضية، هل اجتمعت قيادتا الجمعيتين وتدارستا ما يجري لاتخاذ موقف مشترك، بدلاً من غطاء الرباعي والسداسي؟ ما الذي يحول دون دخول الجمعيتين في حوار معمق وجريء؟ لماذا لا تسعى الجمعيتان إلى خلق آلية تمتاز بالوضوح والشفافية نحو إيجاد طاولة حوار مستمرة تأخذ وقتاً قد يكون طويلاً تكون أداة معلنة تجاه قواعدهما وأنصارهما يشارك فيها من يملك رؤية ووجهة نظر تتناول واقع هذا التيار وآفاقه المستقبلية بدلاً من دفن الرؤوس في الرمال وتجهيل النفس والآخر؟
 
إن لم نعِ واقعنا وقدراتنا لا نستطيع الدخول في حوار مع الآخر سواء سلطة أو قوى سياسية أخرى. إن السعي نحو الحوار الوطني الشامل، وهو الحوار الذي يجب أن يشارك فيه الحكم، هو مطلوب ومرغوب فيه، لكن لا بد أن يسبقه حوار مع الذات وحوار مع بقية القوى السياسية ومن ثم التوجه للحكم لطلب الحوار معه.
 
العنوان الثاني الذي أرى أنه ذو علاقة بالحوار الوطني المنشود هو لماذا الحوار الوطني مطلوب ومرغوب فيه؟ ومن هي أطراف هذا الحوار؟ وهل التوجيه الذي قال به جلالة الملك هو أن مكان هذا الحوار هو المجلس الوطني هو ما نوافق عليه؟ هذه بعض التساؤلات، فهناك أسئلة كثيرة وعديدة لدينا جميعاً. أحاول من وجهة نظري المتواضعة أن أقول بعض الرأي فيها. لا بد لنا من أن نقر مجتمعين أن هناك الكثير من التطورات الإيجابية منذ تسلم جلالة الملك مقاليد السلطة، هذا مقارنة بحقب سوداء عاشها الوطن على مدار عقود طويلة من الزمن، لكن هذا لا يعني أن ما هو مرجو قد تحقق، وأن الأيام الجميلة التي لم نعشها ووعدنا بها قد جاءت، فمقابل ما هو إيجابي وبطبيعة الصراع ما بين الخير والشر، هناك من هم أصحاب مصلحة بإبقاء العجلة عند مكانها، بل والعمل على إعادتها إلى الخلف. لذا فإن الكثير من الملفات التي تؤدي إلى إيجاد الأرضية الخصبة لأعمال العنف المتكررة مازالت قائمة وربما تفاقم وضع البعض منها، هذا يضع الحكم أمام مسئولية تاريخية تطالبه بفتح هذه الملفات، وهي ملفات خطيرة تستدعي الحوار حولها، ليس المجال هنا لتعدادها والحديث عنها فهي معروفة لدينا جميعاً.
 
من هي أطراف الحوار المطلوب؟ إن الأمر المؤسف له في هذا المجال أن الجهات المسئولة قد اتبعت سياسة التفاوض وليس الحوار مع زعماء الطوائف سراً، وهذا يتكرر دائماً وهو ما حصل أخيراً قبل العفو الملكي الأخير، حيث بدأنا نرى مشاريع التفاوض مع زعماء طائفة، وهذا التفاوض لم يجرِ حول المسائل الوطنية التي تخص الوطن بمجمله، فالذي تسرب إلينا حول ما تم في هذا التفاوض هو بناء المآتم والمساجد وإطلاق سراح الموقوفين والمحكومين، والأمر المؤسف له هو قبول الجمعية الرئيسية من جمعيات الإسلام السياسي الشيعي وهي جمعية الوفاق الإسلامية لذلك عبر مرجعيتها الدينية، متجاهلة في ذلك بقية الجمعيات السياسية الأخرى. (كان ذلك قبل أكثر من سنتين من الآن)
 
إن أطراف الحوار المطلوب مشاركتها هي جميع القوى السياسية دون استثناء وممثلو مؤسسات المجتمع المدني وعلى وجه الخصوص اتحاد نقابات العمال والاتحاد النسائي وغرفة صناعة وتجارة البحرين والشخصيات الوطنية صاحبة الرأي والخبرة ورئيسي مجلسي الشورى والنواب وممثلي الحكم المفوضين.
 
وحول توجيه جلالة الملك ليكون المجلس الوطني المكان المناسب لإجراء الحوار، فمع كل الاحترام والتقدير لتوجيه جلالته، لكننا سنجد أنفسنا أمام علامة استفهام كبيرة ومعقّدة هي: هل المطلوب أن يتفاوض أعضاء المجلس الوطني مع بعضهم البعض باعتبارهم ممثلي الشعب المعينين والمنتخبين؟ إن التجربة طوال السنوات الماضية أثبتت أن تشكيلة المجلس المنتخب لم تكن مشجعة كي يتحاور الأعضاء مع بعضهم البعض حول القضايا الوطنية المهمة، فالاصطفاف الطائفي كان هو الغالب عليها حقاً أو باطلاً.
 
المطلوب ليس حواراً بين أعضاء المجلس الوطني، بل المطلوب هو حوار بين الحكم وقوى المجتمع.
ما هي الآلية للحوار المطلوب؟ أعتقد أن جلالة الملك بما يملك من صلاحيات ومبادرات جريئة هو القادر على قيادة مثل هذا الحوار ووضع الآليات المناسبة له. فهو صاحب مبادرة الميثاق الوطني الذي حصل على ما يقارب الإجماع الوطني عند التصويت عليه. لذلك هو القادر على إطلاق مبادرة وطنية شجاعة لإجراء حوار جريء وشفّاف حول جميع الملفات دون استثناء.
 
العنوان الثالث هو، الشروط اللازمة لتحقيق الحد الأدنى من النجاح للحوار، فليس المطلوب منا أن نكون متفائلين بنتائج هي أكبر بكثير من الواقع المتاح. إن المطالبة بتهيئة المناخات اللازمة لنجاح أي حوار لا يعني ذلك وضع شروط مسبقة كما يحاول البعض أن يصور ذلك، فالأمر الطبيعي لأيِّ عمل ناجح هو تهيئة الأسس المناسبة للنجاح. أعتقد أن الجهات المسئولة تدرك جيداً أنه دون تهيئة مناسبة للحوار الذي دعا إليه جلالة الملك، لا يمكن لهذا الحوار أن يحقق النجاحات المطلوبة. علينا جميعاً أن نقر وبوضوح وصدق وبشفافية بشرعية الحكم واختيارنا الحر له وإن اختلفنا معه وإن كنا نعارضه في الكثير من السياسات، علينا أن نرفض وبوضوح بعض الخطابات التي تصدر من هنا أو هناك وهي خطابات ضارة بالعمل الوطني وبحقوقنا المشروعة. قد يسأل البعض هنا عن الخطابات التي أقصدها، فأقول بوضوح هي خطابات تصدر من بعض الناشطين في العمل السياسي في داخل البحرين وبعضها يصدر في خارج البحرين من أشخاص اختاروا لأنفسهم خطاباً متشنجاً بعيداً عن الواقع.
كذلك على الحكم أن يكون واثقاً أننا حريصون على استتباب أمن هذا الوطن وازدهاره، بمثل ما نحن حريصون على نيل الحقوق المشروعة، بمثل ما نحن حريصون على رفض السياسات الخاطئة، يجب علينا أن نكون حريصين على النضال السلمي البعيد عن كل أشكال العنف قولاً وفعلاً.
 
هذه عناوين قليلة لموضوع كبير، بالتأكيد لدى الجميع ما يختلف عما قلته ويضيف إليه
 
شوقي العلوي
صحيفة الوسط البحرينية –  09 يونيو 2011م
 

اقرأ المزيد

حتى يكون الحوار حوارًا..!

كم مرة على جلالة الملك ان يقول مثل هذا الكلام بشكل واضح وصريح لا لبس فيه وبإشارات واضحة ورسائل أوضح حتى يفهم ويقتنع هؤلاء المتهورون عشاق الفتنة ويتوقفون عن محاولة المضي بنا إلى تيه لا يظهر عليه أفق يجعلنا في مهب الريح.. وأي ريح..
وهل يفتح هذا الذي قاله عاهل البلاد قلوب وعقول هؤلاء المتجاهلين والجاهلين – لم نعد نعرف – الذين لا تهمهم كميات الجروح الغائرة في الجسد البحريني ولا المشهد المفرط في الخلل إلى حد العبث في فضاءاتنا الوطنية.

وهل يشجع هذا الذي قاله جلالة الملك أولئك الذين عليهم أن يراجعوا أنفسهم ويصوّبوا مواقفهم وان يكفوا عن المراوغة والتعويق، ومنهم أصحاب الأهواء السائبة وأولئك الذين جاءت بهم الصدفة، ومدعو تمثيل الطوائف وأصحاب الضمير المثقوب والغارقون بهواجس الكسب والمزايدة والشعارات من السياسيين والانتهازيين وهواة إطفاء الأنوار في الأفراح الذين كان ولازال جل همهم ان نمّول طموحاتهم الشخصية عبر الاصطفافات في أطر مذهبية وطائفية وفئوية وانكفائية واستعدائية وضيّعوا بذلك الممكن في السعي لطلب المستحيل، هل يشجعهم ما قاله الملك في ان يتقوا الله في الوطن والشعب وان يمتلكوا الشجاعة بالاحتكام الى المنطق وصوت العقل.

أسئلة كثيرة، وهناك الكثير غيرها، ولكن لا بأس بتجاوزها الآن على الأقل، لنعود إلى الأعماق، إلى معاني الكلمات، إلى الكلام الجدي الذي نراه يفرض على الذين ينسبون الى الوطن من أي ملة، وأيا كانت رؤاهم واختلافاتهم وخلافاتهم ان يفهموه، وان يستوعبوه، وان يدركوا مضامينه، لعلهم -وهذا ما نرجوه- يقتنعون أخيرا بان البلد لم يعد يحتمل المزيد من المنغصات والأخطاء والأخطار والنبش في المسائل التي تصب الزيت على النار.

الكلام الجدي الذي نعنيه قاله عاهل البلاد حفظه الله في حديثه الى الصحفيين والإعلاميين، وقبل ذلك خلال لقاءه بشيوخ الدين وأعضاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وأخيرا ما قاله في لقائه بممثلي عائلات المنامة، فهو في كل تلك اللقاءات يفصح بوضوح عن الموقف الحازم والقاطع من موضوع الحوار الوطني ويراه بانه موقف لا مساومة عليه ولا مجال للاجتهاد فيه، ويمضي الى أبعد من ذلك بتحديد موعد لانطلاقة الحوار، ونحسب بان ذلك كاف لكي يتدفق الدم في عروق المسكونين برغبة حقيقية إلى الحوار، وأولئك اللاهثين لاستقبال أي مبادرة تضع حدا للمناخات الراهنة، وتوقف جنون الطائفية ومجانينها، حتى تستنهض كل الأطراف والقوى الوطنية في سبيل عودة حبة العقد والعروة الوثقى، ولذلك جاءت دعوة عاهل البلاد في محلها خلال لقائه بالصحفيين، وهو لم يكتفِ بالدعوة الى الحوار، بل سمعناه في كلمات لا تخلو من دلالة يدعوا الى رأب الصدع الاجتماعي، والى ترشيد الرأي العام، والى استعادة الثقة بين الجميع، والى الدفع نحو خلق رأي عام وطني جامع، والى المحافظة على الوحدة الوطنية، كل ذلك كلام سمعناه مقرونا بتأكيد على عدم الحيدة عن المشروع الإصلاحي وعدم التوقف عندما مر بنا من أحداث إلا من اجل استخلاص الدروس والعبر.

كل ذلك الكلام وأكثر موجه الى الجميع وشكرنا عميق للعاهل، وبودنا ان يستوعب ويتجاوب الكل مع هذا الكلام الذي نحسب بأنه لابد منه لإطلاق ديناميكية التوجه الملح نحو الحوار الذي من خلاله علينا ان نتجاوز ما حدث من تداعيات وامتدادات واستنفارات وانشطارات وكل ما ينبت الزرع الشائك بشكل يجافي الحكمة وبعد النظر.

المهم .. ماذا بعد..؟!
انه دائماً السؤال المحير والمعقد الذي يدق الرؤوس، والذي لا نجد إجابة له سوى ذلك الكلام الذي نراه بعد كل ما مررنا به يرسم طريقا لاستعادة عافيتنا على كل الصعد.. إذن الحوار الوطني هو احتكام إلى المنطق وصوت العقل، فهو يفتح نوافذ الأمل أمام الجميع، المهم أن نبدأ البداية الصحيحة لبلوغ الأهداف والمقاصد المرجوة، حوار سياسي صادق وشفاف لا يسوّق قسرا لعله بذلك يكون بعيدا عن تسجيل المواقف والمزايدات والمراوغات او طرح المطالب التي تولد ضدها مطالب وكأن الواحد منا مطلوب منه ان يكون مع الجميع ضد الجميع وان يضيع الفرصة تلو الفرصة، وإنما المطلوب حوار يحقق الآمال المشروعة لكل شعب البحرين بكل مكوناته في التقدم والتطور والإصلاح المرتكز على توافق وطني حقيقي في شأن كل ما ينهض بالوطن، مقرونا برغبة حقيقية في استخلاص الدروس والعبر لما مررنا به.
علينا جميعا.. ولمصلحتنا جميعا ان نقتنع بان الحوار بات ضرورة حتمية، وخيار استراتيجي.. والجدية مطلوبة، وكذلك حسن النوايا كما الإصرار مطلوب بان يكون الحوار حوارا، هذا هو عين العقل، ومن الحكمة ان نسلم بهذه الحقيقة حتى لا نبقى نعيش في مآزق وتمزقات من نوع ما عشنا ولازلنا نعيش فيه.

لا بديل عن الحوار إذن، مهما كان الرأي في شروطه وظروفه وأطرافه، ولا أظن إن أي طرف يجد نفسه معنيا في حاجة الى مواطن بحريني يقول له كما نحن في حاجة الى الحوار.. فلنتهيأ للحوار، وقبل ذلك علينا ان نؤمن بقيمة الحوار، وانه ليس في المقدور اختطافه من قبل جمعية، او جماعة، او تيار، او مدعى تمثيل الطوائف، وما قاله عاهل البلاد في شأن الحوار.. لا نريده فقط مجرد فرصة للحوار.. بل نتمنى أيضا ان يكون فرصة لتطهير النفوس.. فرصة للشفاء من الجنون.. جنون الطائفية ومجانينها.
 

اقرأ المزيد

الهزات الارتدادية للثورات الاجتماعية


في تونس التي أطاحت فيها الثورة في يناير/كانون الثاني الماضي نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي أمضى في الحكم 23 عاماً، ثار جدل كبير ومتصاعد سرعان ما اتخذ تجسيداته الاحتجاجية، العنيفة في الغالب، في الشارع بين الشرطة والمتظاهرين، وذلك إثر تصريحات لوزير الداخلية السابق بأن انقلاباً عسكرياً سيحدث لو وصل حزب النهضة الإسلامي الذي يتزعمه راشد الغنوشي إلى السلطة .
 
وفي مصر التي نسجت على المنوال التونسي نفسه، حيث أطاحت الثورة المصرية في الشهر نفسه نظام الرئيس حسني مبارك الذي حكم مصر طوال 30 عاماً متصلة، واحتفل المصريون ومعهم العالم أجمع بما حققوه من نيل الحرية في إعادة صوغ سياسات بلادهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على صعيديها المحلي والدولي – في مصر أيضاً يجري الحديث عن حصاد ما بعد المئة يوم الأولى من انتصار الثورة والمال الذي انتهت إليه البلاد في ظل النظام الجديد الذي قام على أنقاض النظام السابق، ويتركز الجدل تحديداً على الجزء المرّ من هذا الحصاد، وهو هنا الصعود المفاجئ والمخيف للأصوليات الدينية وتصدرها في أكثر من حالة صراعية مجتمعية (دينية وليس اجتماعية) في الآونة الأخيرة، للمشهد السياسي المصري .
 
علماً أن التاريخ الاقتصادي والسياسي المصري والطبيعة السهلية الزراعية للبلاد المصرية التي طبعت نفسها على قسمات الاقتصاد الطبيعي ثم الزراعي ومن بعده التصنيعي للدولة المصرية الحديثة ولعلاقات الإنتاج التي حكمت وتحكم مكونات مجتمعها الضارب بحضارته الإنسانية في عمق التاريخ علماً أن هذا التاريخ المديد والغني بمحتواه الإنساني، لم يكن ليعرف مثل هذا الغلو والتشدد الغريب كلياً عن التربة المصرية .
 
فلقد افتعل أولئك المتطرفون الجدد صدامات بالغة الخطورة مع المصريين الأقباط في قلب القاهرة نفسها تم احتواؤها بصعوبة بالغة، وهم الآن في تحفز دائم لاختلاق صدامات مجتمعية جديدة مستفيدين من حالة السيولة السياسية التي تمر بها مصر في مرحلتها الانتقالية الحالية .
 
لا شك في أن مخاض عبور المرحلة الانتقالية بالنسبة إلى تغيير جذري في بلد عربي مركزي بحجم مصر، هو مخاض عسير ومعقد . لقد استغرقت فترة  الانتقال من الفوضى التي شاعت بعد قيام الثورة الفرنسية في عام 1789 والتي عمت معظم مناحي الحياة الفرنسية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى الاستقرار والتعافي والعودة للحياة الطبيعية – عشر سنوات (1789 – 1799) .
 
بعد السكرة تأتي الفكرة كما تقول الحكمة . فالناس وهم في غمرة حماسهم واندفاعهم الثوري لا يدركون، بل يأبهون “باليوم التالي”، ولأنهم من فرط نشوتهم وسعادتهم الغامرة بما نجحوا في تحقيقه، في مصر كما في تونس، لم ولن يكونوا، بهذا الحال، مهيئين لتلقي واستيعاب صدمة الواقع الجديد المتخلق في زحمة التداعيات الدرامية للحدث الكبير، ما أن تنجلي الرؤية وتتضح معالمها الصادمة والمفزعة والمقلقة إلى أبعد الحدود . ذلك أن النظام الذي كانت تسير عليه البلاد (المصرية والتونسية) قد انفرط عقده، والنظام الجديد مازال طور التشكيل ولم يتم بعد تجميع وتوفيق وتناغم أجزائه في بوتقة واحدة، ناهيك عن أن هذا “النظام” لا يعمل الآن بكامل طاقته نتيجة للفوضى التي نشبت فور وبُعيد سقوط النظام القديم . وإحدى علائم تلك الفوضى هي الخروج العلني والفوضوي للمتطرفين الاقصائيين بصورة أثارت الذعر والمخاوف والتوجسات من خطورة منحى الخطاب التحريضي الطائفي وانعكاساته المرجحة على النسيج الوطني والتماسك المجتمعي واستقراره الذي يشكل عماد أي حياة طبيعية منتظمة لأي مجتمع حضري يروم الانتظام في الدورة الحياتية التنموية المستدامة للمجتمع البشري .
 
هذا الصعود الصارم والمتجاسر للجماعات المتطرفة وغيره من التمظهرات الفوضوية استدعت قلقاً وردات فعل سلبية تجاهها وصلت حد المطالبة بالحجر عليها . وهذه ليست بالتأكيد المقاربة التي تليق بأي مشروع إصلاحي أو نهضوي . فهذه الجماعات استفادت، كبقية المكونات السياسية والاجتماعية والثقافية، من ارتخاء القبضة الأمنية ومناخ الحرية المنبسط، فراحت تعبر عن ذاتها على طريقتها التي وإن كانت ضد مشروع التغيير النهضوي، إلا أن التعامل معها بعقلية الحصار والحظر سيغذي منابعها .
 
وبهذه المعنى فإن التحدي الذي يطرح نفسه اليوم على شعوب البلدان العربية يتمثل في كيفية نهوض النخب فيها بدورها الإيجابي والحصيف لعبور المرحلة الانتقالية بسلام .
 
11 يونيو 2011
 
 

اقرأ المزيد

دخول حاد في الليبرالية


لم يعد الدخول في النظام الليبرالي الديمقراطي الحديث مسألة تنظير أو تحضير، بل توجه المجتمعان المصري والتونسي إليه.

لم تعد الرأسمالية على النمط الغربي على مرمى حجر بل دخل المجتمعان فيها، وبفواتير مثقلةٍ من التخلف والبطالة والفساد كذلك، والخروجُ من الواقع والماضي صعب، وتشكيل حاضر جديد أصعب.

الهيئتان الحكوميتان الشموليتان المانعتان أُبعدتا بشكل ليس كليا، فلا تزالان تقومان، وتفجران العجلات السائرة بالألغام وبقوى الفوضى والإجرام وبالمشكلات الدينية والاجتماعية التي تبدو قضايا نضال وحق زائفة.
الهيئتان الحكوميتان السابقتان سرقتا المجتمعين بشكل حاد، في مصر أكثر من عشرة ملايين إنسان يعيشون في سكن عشوائي، ثروة أسرة مبارك تُقدر بأربعين مليار دولار لم تحصل الحكومة على شيء كبير منها حتى الآن، وتبلغ ثروات الرأسماليين الحكوميين والمتعاونين معها أضعافاً مضاعفة على ذلك، لكن كيف تُحصل وتدخل عجلة الاقتصاد؟ ثروة العائلة الحاكمة في تونس أكثر من عشرة مليارات من الدولارات حسب الجردة الأولى.

وقُدرت فاتورة الفساد سنويا ما بين 6 و10 مليارات سنويا في مصر، ونفختْ المساعداتُ الأمريكية في تكوين طبقة من رجال الأعمال المرتبطين بها ويتم بذلك ربط هؤلاء بالشركات الأمريكية والسياسة الأمريكية.
وقُدرت خسائر الاقتصاد المصري من تكون طبقة المحاسيب المتعانقة ماليا مع الحكومات المصرية والأمريكية بنحو 343,2 مليار جنيه، وجاء أغلبها من التهرب الضريبي والفساد والجريمة والهجوم على الأراضي الزراعية، حسب جريدة الأهالي، 7 يونيو .2011

يؤدي الفساد إلى هروب الشركات وتضاعف كلفة الخدمات المقدمة للناس، وعلى نشوء الاحتقانات الاجتماعية، وعدم نمو البنية الاقتصادية بشكل معقول.

الطبقة المسيطرة على الاقتصاد المصري لم تنته، وشكلها السياسي الحزب الوطني وبعض الإدارات الحكومية انتهت من فوق السطح السياسي لكنها لم تُزل.
قوى البرجوازية الجديدة الديمقراطية المرشحة للوصول إلى الحكم اكثر من غيرها التي تريد أن تشارك في العملية السياسية من موقع المؤثر الفاعل مشتتةٌ، في أشكالِ وجودِها السياسية، وهي تتكون أساساً من الليبرالية ذات التوجهات الحرة المماثلة للتوجهات الغربية ويجسدها الوفد، وهناك أيضاً شريحة قوية معروفة من قوى برجوازية ذات أصل ريفي تؤيد الحريات الاقتصادية من دون الحريات الاجتماعية والفكرية، وهي جماعة الاخوان المسلمين التي شكلت واجهةً سياسية جديدة لها باسم «حزب الحرية والعدالة»، ومن المؤمل أن تحرك العمليات الاقتصادية السياسية الحرة مع بقاء الجذور الدينية المحافظة، وقد بدلتْ شكلَها السياسي المُعلن فضمتْ المسيحيين والنساء وأبعدتْ اللغةَ الخطابية الدينية من عملها السياسي بمقاربة معينة للعلمانية التي ترفضها.

لكن ثمة حراكا سياسيا قويا في جماعة الإخوان فبرز الجيل الجديد من الإخوان رافضاً الجيل القديم، طارحا خطابا سياسيا حداثيا، ومن أهم رموزه حزب الوسط، الذي يقرأ الواقع بشكل تركيبي وتحليلي واسع، محدداً خطاه عبر الارتكاز على قوى طبقية معينة هي الفئات الوسطى والفقيرة، مكونا بينهما تحالفًا إجتماعيا، طارحا خريطة سياسية علمانية، بفصل الدين عن الدولة وتشكيل دولة المواطنين، والقيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة في ميادين الاقتصاد الصناعي كافة وبإصلاح عميق للزراعة، وهي أمور تحدد علاقة الجيل الجديد من الفئات الوسطى المتدينة العلمية بالتحولات الديمقراطية العالمية المتسارعة.

وهذا التنوع في الإخوان وانفضاض الجيل الجديد عن القديم، يتجسدان في تركيز الجيل الجديد في الحداثة، ووضعه الإسلام والمسيحية كقاعدتين حضاريتين، والتركيز الكبير في السياسة والبرامج الاجتماعية والاقتصادية، ومعالجة ذلك عبر الأطروحات والمناهج الاجتماعية السياسية الغربية المتطورة. فهنا هوة بين الجيل القديم من الإخوان الذي عاش على الأدبيات العربية القديمة، والجيل الجديد الذي ظهر في الجامعات المصرية والغربية خاصة.
فيما الوفد يكتفي بشعارات عامة قديمة ليبرالية تعبر عن فجوة علاقته بالمجتمع خلال العقود الأخيرة.

الشرائح المتعددة والكثيرة من اليمين تتوجه لوراثة الحزب الوطني، في المستوى السياسي الحاكم، وهي متضادة بين جناحيها المدني التحديثي، وجانبها الريفي التقليدي، بين قوى تعتمد على منظمات رجال الصناعة وعلاقاتهم بدوائر الحكم، وقوى تعتمد على المؤسسات الدينية والاجتماعية، وستقوم بتحرير الأجهزة من الفساد والتوجه لتطورات اقتصادية حرة واسعة، نحو تكوين طبقة برجوازية حاكمة جديدة متبدلة المواقع عبر الانتخابات، متأثرة بصراع القوى الشعبية والعمالية الرافضة سيطرتها الكلية على الحياة السياسية.

إنها أول طبقة برجوازية حرة تتسلم السلطة بعد عقود من العسكرة، لكنها ستعمل لمصالحها كذلك، ولن تؤيد حراك العمال الواسع النطاق. إنها مقاربة للغرب تخضع للممارسة وللتجربة القادمتين، ونرى إذا ما كانت قادرة على تكوين تطورات اقتصادية نهضوية واسعة، ومعالجة الخلل في البناء الاقتصادي، حيث أجنحة البرجوازية متجهة لقطاع العقارات والخدمات بشكل أساسي ومهملة قطاعي الصناعة والزراعة، وإذا ما كانت قادرة على رفع مستوى معيشة الأغلبية.
اليسار سوف يكون له حضوره عبر القوى الشبابية الجديدة والقديمة، وسينجح في اختراق القوى الكبيرة ويشكل مراقبة شعبية على أداء اليمين ويركز في القضايا المعيشية والأجور ورفع مستوى الخدمات.
 
أخبار الخليج 11 يونيو 2011

اقرأ المزيد