المنشور

هذا الركود السياسي


المعطيات الماثلة اليوم على الساحة السياسية المحلية توضح أن الجهة الرسمية ممثلة في الحكومة تتمتع بكامل لياقتها السياسية سواء على الصعيد الاستراتيجي البعيد أو التكتيكي المتجاوب مع المتغيرات. ترفدها في ذلك خبرة سياسية متراكمة وعقول استشارية محنكة متمكنة، أُحسن انتقاؤها. كافة المؤسسات الرسمية تمضي بكل وضوح وثقة في انجاز مهامها وفق الخطط المقرَّة، وبمرونة لافتة تلبية لأي طارئ أو متغير. الحراك السياسي الرسمي محلياً وخارجياً في أفضل إيقاع، السلطة التشريعية بغرفتيها تنعقد وتنفض في زمنها المحدد فصلاً بعد فصل ودوراً بعد دور. الفعاليات المحلية المكملة تتتالى من زيارات ولقاءات ومؤتمرات وورش عمل ومعارض وغيرها. يجري ذلك في ظل وضع محلي يتوفر على هدوء أمني لافت يعم البلاد، يوازيه نجاح بائن في التعامل مع الملفات والنجاح في تمرير المقر منها سيّان بضجة أم بهدوء.
على الضفة المقابلة يتراجع دور وتأثير منظمات المجتمع المدني الأهلية في عمومها بدءاً من الجمعيات السياسية بمختلف مشاربها، فالمنظمات التطوعية على أنواعها، وصولا للمنظمات المهنية. وحيث أننا نتحدث عن الحراك السياسي فنحن معنيون هنا بالحديث عن حال الجمعيات السياسية وهي تقف على أبواب انتهاء العقد الثاني من تأسيسها. خلال ذلك وكما يقال تحركت مياه تحت الجسر نقلتنا من أحوال لأحوال. فعلتْ فعلها في كل ما جرى العوامل الموضوعية والذاتية المحيطة بالعمل السياسي المجتمعي، لنصل اليوم إلى: إما جمعيات سياسية حُلَّت وأوقفت عن العمل أو جمعيات حلَّت نفسها ذاتياً أو جمعيات انفضّ جمهورها من حولها ويكاد يتوقف عطاؤها.
إضافة لذلك لا تجد الجمعيات السياسية كلها – بنسب متفاوتة – من بين أعضائها العنصر الشاب المؤهل ليمسك زمام قيادتها، ويظل حملها يقع على القيادات القديمة التي يتواتر تقدمها بالعمر. السكون، الركود يكاد يعم إلا من حركة هنا أو مشاركة هناك، مما لا يعكس الطبيعة الحيوية للمجتمع وللشارع البحريني. لم يتبق في ظننا سوى جمعية أو اثنتين تظهران حراكاً ملموساً، تتفاعلان مع المجريات، تطرحان رأياً، تعلنان موقفاً. ويبقى عموم الحراك السياسي متعثراً مقيداً ومحاصراً تحت ضغط الممنوعات التي تسندها نصوص قانونية شتى.
نطرح السؤال، هل أوصدت جميع الأبواب في وجه أي مستوى من الحراك السياسي. نسارع للإجابة المباشرة: لم يزل هناك منبرٌ يمكن أن يُطرح به الرأي، بل ويعلو فيه الصوت والسقف، هو منبر المجلس المنتخب. علينا هنا ألاَّ نتذرع بمقولة أن المجلس النيابي المنتخب مقيد بنصوص قانونية ولوائح تحد من صلاحياته، تقيده وتحوله لظاهرة صوتية لا أكثر. قد تصح المقولة المذكورة على الشق التشريعي من عمل المجلس المنتخب، لكنها غير نافذةٍ في مصادرة دور المجلس الرقابي المتنوع على أداء الحكومة، كما أنها لا تعني انفضاض الرقابة الشعبية من حول المجلس. يرفض صديقٌ ممن لا يعوِّلون كثيراً على منجزات للسلطة التشريعية في واقعها الراهن، يرفض الاستسلام متسائلاً: “هل نلتحف إذن تحت البرنص”، بمعنى هل نضع رجلاً على رجل ونستسلم يائسين مكتفين بالانتقاد وتوجيه التهم. إن كان ذلك ما يفترض أن يكون عليه دور الناخب الفرد فما بالك بالدور الجماعي للجمعيات السياسية.
أمام الجمعيات السياسية منبر النيابي ذي التشكيلة الغالبة من النواب الشباب المستقلين الذين وجدوا أنفسهم أمام وضعٍ معيشي صعب يكابده المواطن. فرض الوضع الاقتصادي الضاغط أعباء أثقلت كاهل المواطن وربما في الطريق أعباء أخرى قادمة. جاء النواب محملين بهموم المواطن، فوضعوا ملفات القضايا المعيشية على الطاولة، فتحوها وراحوا ينبشون منتظرين الدعم المجتمعي. كما أنهم وصلوا يسبقهم تحدٍ آخر هو أداء المجلس خلال الفصل التشريعي الرابع الذي لم ينل سوى امتعاض الناخب وخيبته وعدم رضاه، أداء نجحت السلطة التنفيذية على مدى الفصل المذكور في تحييده كي لا يبلغ إلا ما يتواءم مع التوجهات الرسمية. أمام التشكيلة الحالية مهمة رسم صورة مغايرة من خلال أداء منحاز للناس ولأحوالهم المعيشية، وإلا نالت السخط الذي ناله سابقوها. النواب الجدد الشباب المستقلون بحاجة للدعم المجتمعي الذي يشكل رافعة وحائط صدّ أمام أي تراجع، وهو ضامن لثباتهم على مواقفهم المنحازة لمصالح الناخبين. أما إن لم يجدوا سوى الهجوم ولم يشعروا سوى بعدم الثقة فسيحبطون ويضعفون.
المتابع المنصف سيجد النيابي مختٌلفاً هذه المرة والمستقلون يحاولون تعديل الأداء المخيب الذي أبدته التشكيلة السابقة. اليوم يعود الفضل للنواب في تحريك المياه الراكدة حول عدد من الملفات المعيشية الضاغطة التي يصطلي المواطن في نيرانها. وقد ترك ذلك الأداء الذي يكبره كل منصف صداه على الصعيد المجتمعي سواء على وسائل التواصل الاجتماعي، الملتقيات، المجالس والأحاديث المتداولة بين الناس. وليس لنا أن ننكر ثمار ذلك في إحداث زحزحة في الموقف الرسمي وإبدائه مستويات من التجاوب في التعامل الإيجابي مع ملفات معيشية هامة كالضرائب والرسوم، الإسكان، البحرنة، الخريجين العاطلين، الصيادين، فواتير الكهرباء، توفير الأدوية الخ.
وفوق ذلك يلمس المتابع إصراراً من قبل التشكيلة الحالية على أن يكون المجلس سيد نفسه فيما يتعلق بصلاحياته الرقابية برفض أي توجهات لقضم جوانب من تلك الصلاحيات. تمثل ذلك في قرار اتخذه المجلس مؤخراً بأغلبية لافتة برفض الاحتكام مقابل الحكومة لهيئة التشريع والرأي القانوني حول تحديد مدة عمل لجان التحقيق بفترة أربعة أشهر لا أكثر، خاصة في ظل ما طرحه النواب حول تأخر جهات حكومية عن امداد لجان التحقيق بالمعلومات والبيانات التي تطلبها.
في واقع تراجع حراك الجمعيات السياسية على الصعيد المجتمعي مقارنة بفترات سابقة، وبتفهم كافة الأسباب الموضوعية والذاتية التي أدت لذلك، فإن العمل التنسيقي المشترك بين هذه الجمعيات قد حان وقته بل هو يفرض نفسه في حال رغبت هذه الجمعيات أن تعود رقماً حاضراً ومؤثراً على ساحة العمل السياسي، وذلك كفيل بتجاوز النواقص وبعودة هذه الجمعيات إلى الساحة. الجمعيات السياسية على مشاربها وهي تشعر بالركود والانحسار السياسي منوطة بأن تجدول أولويات عملها المشترك التي نزعم أن أولها هو رفد عمل المجلس المنتخب في التعامل مع ملفات الأوضاع المعيشية، فتلك الأوضاع جامعة يلتقي عندها كل الأطراف وهي عابرة لكافة الاختلافات والخلافات.
أما الكيفية والأسلوب فالجمعيات السياسية لا تعدم الفعاليات الملائمة لذلك، بيدها ما يناسبها من خيارات وهي أدرى بهوامش تحركها.