المنشور

سرقة الفضيلة والإبداع


سوسن حسن
أليس من الإجحاف أن نزور متحف اللوڤر دون المرور بتمثال “الوقت سارق الفضيلة والفنون” للفنان التشكيلي أونوريه بيليه ؟ إن حالفنا الحظ واستطعنا المرور بقاعة المنحوتات، لا نستطيع بالتأكيد إغفال الأعين عن التحديق بتمثال الوقت، وهو مجسد في صورة رجل ذات جناحين، يهاجم امرأة، ويجردها من فضيلة الابداع والفنون. في إشارة إلى شراسة الوقت الذي يأخذ كل ما نملك من موهبة وهو ماض في النفاذ، اختار أونريه أن يحيط هذه المرأة بثلاثة ملائكة ترمز للعمارة والكتابة والرسم وهي تبكي رحيلها.
ظلت تلك التحفة الفنية تشاغلني وأنا أفكر في شخص بول غادن، أحد الكتاب الفرنسيين غير المعروفين في عالمنا العربي بسبب إغفال المترجمين عنه. أكاد أقسم بأن قيمته الأدبية أعلى شأن من تلك الخاصة بألبرت كامو وسيلين، وكوليت، وسارتر وغيرهم من الكتّاب الذين لم يحفروا سوى في العدم.
لم يعش غادن طويلاً ، فقد أخذه الوقت قبل وقته، الا أنه كتب بغزارة عن الحب والإيمان والسلام والفضيلة. أهم رواياته هي “الأحياء العالية”، كتبها قبل موته لتكون سيرة احتضار .
تحكي تلك الرواية قصة رجل كان يعرف أن المرض سينال منه لا محالة، فيقرر أن يكتب رواية عن حياة القديسين في محاولة منه أن يعيش حياة مقدسة مهيبة كقبة السماء قبل أن يأخذه الموت. كان ديدييه، بطل الرواية يأمل أن يرى الله على الأرض قبل أن يستدير له على أعالي السحب. هي مهمة صعبة بالنسبة لبول الذي كان يحتضر عندما شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء، فبيئة الرواية تجسّد المجتمع الباريسي بعد الحرب، و آه كم كان الإيمان والحديث عن الدين مدان في تلك الفترة.
الذي يظن بأن مجتمع بعد الحرب، هو مجتمع ذا حماس متقد بالفضيلة والابداع مخطئ. فرنسا بعد الحرب، لم تكن دولة سلام مطلقاً، بل ساحة إعدام، محاطة بالتردي الفكري والأخلاقي، مجتمع برجوازي بدرجة أولى وأناني، وآثار تلك الأنانية منتشرة حتى وقتنا الحاضر. الرواية الفرنسية الحديثة ممثلة في أقلام ميشيل بوتور ونتالي ساروت، وآلان روب غرييه ومارغريت دوراس التي من شدة ظلاميتها، انتهى زمن الملحمة في الرواية الفرنسية هي خير دليل على تلك الانتكاسة. زمن بعد الحرب هو زمن خاو، زمن خالٍ من المعنى.
رغم كل ذلك، أصر بول غادن البقاء خلف مكتبه من أجل إنجاز ملحمة “الأحياء العالية”. الأحياء العالية هي حيث يعيش بطله ديدييه، الذي انتقل حديثاً إلى غرفة صغيرة وفي حقيبته روايات بلزاك ودستويفسكي. لم يتناغم ديدييه فقط مع غرفته الصغيرة بل كذلك مع مؤجرته، بيتي، تلك الفتاة الصادقة، التي آمنت سريعاً بموهبته وساعدته على اقتناء ما يحتاج من أوراق لكتابة أفكاره. معها عاش ديدييه أحلى فترة احتضار مشبعة بالحب والحيرة بين الشغف بالله والانسان أو الاثنان معاً. قبل بيتي، لم يكن ديدييه ليأبه بما تبقى له من أيام، ولكن غرقه في حبها جعله يقدر كل ثانية مشعة في حضورها.
يراسله صديقه بيير، من وقت لآخر للاطمئنان على صحته، وتدور بينهما محادثات شيّقة حول انحدار المجتمع ثقافياً وحول التزاماتهم السياسية. سنشهد لاحقاً في وسط الرواية حزن ديدييه لانقطاع تلك المراسلات وإعدام بيير من غير وجه حق بتهمة التواطؤ مع الألمان ومعاداة السامية.

تواجه ديدييه أيام يبدو المستقبل فيها كصباح ضبابي يجثم على النفس فلا يكاد المرء يبصر فيه موقع قدميه . لا شيء يسر روحه سوى الكتابة، فيبدأ أولى صفحات روايته وهو يفكر بكاتب التراجيديا بيير كورني، الذي سرعان ما يشمئز منه لاحقاً: “لقد كان كورني مسيحياً، ويعرف الدين بقدر ما أعرفه. لا ! مسيحياً بالاسم فقط، شأنه كشأن معاصريه من حقبة القرن السابع عشر المغبرة. مسيحي وغير مؤمن. مسيحي وروماني. كيف لم يكن يعي هذا التناقض ؟! كان يؤمن بإمكانية الإخلاص لله والدولة في آن، بعبادة الله والانسان في آن. هذا مستحيل ! لم يتغير ولن يتغير هؤلاء البشر. كورني لم يخطىء بل وصف الناس على ما هم عليه: منافقون، خطاؤون، عديمي نفع، فرنسيون. ان كنت تملك هذه الصفات فأنت فرنسي بالتأكيد وفخور بكونك ما أنت عليه!”. ليس ذلك مدعاة للفخر. غرورهم أفسدهم، أوصلهم للكراهية، والكراهية مضادة للحياة. كان ديدييه يسخر مما يراه وهو يعدّ كتابه. يظن أنه على مشارف الموت ولكن الأحياء أموات أكثر منه. لقد سرق الوقت منهم ما تبقى فيهم من فضيلة.
“الكتابة عن القداسة مهمة صعبة، وأنت إنسان ضعيف تتألم يا ديدييه” هكذا كان يقول بول الكاتب لبطله، أو لقرينه. لم يعد هذا زمان الفضيلة والإبداع. التافه والأتفه منه قادمين لا محالة والإيمان لم يعد بضاعة رابحة.
كتب بول غادن تلك العبارات غير مؤمن بها، لأنه لا يصرخ النبيل إلا اذا تجاوز الألم حده . “الأحياء العالية” لم تكن سوى صرخة في وجه ظلامية وخواء فكري ما زالت أوروبا تعاني منه وتنقل عدواه للشرق، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يستمر من وجهة نظره، فلا شيء يبقى على حاله، ومع كل انتكاسة، هنالك شفاء. هنا تأتي حتماً ضرورة شفاء العقول وترجمة ما يستحق أن يقرأ لتجاوز ما سبق.