المنشور

المعاهدة الأمريكية – العراقية ومقاومة الاحتلال

أحدث الاحتلال الأمريكي للعراق بعد نجاحه في إسقاط النظام السابق بالقوة العسكرية من الخارج، أحدث انقساما عميقا في صفوف القوى السياسية الأساسية، كما في صفوف القوى الدينية والاثنية التي يتكون منها النسيج الوطني للشعب العراقي المعروف بتعدديته الدينية والقومية. وكان محور الانقسام الأساسي يدور حول الموقف من الاحتلال، واستتباعا الموقف من مقاومته العسكرية، وشكل ووسائل هذه المقاومة وتوقيتها ومستقبل العراق وهويته السياسية وشكل نظام الحكم المزمع إقامته بعد انتصار هذه المقاومة. هذا فضلا عن القوى المشاركة في هذه المقاومة، ومدى واقعية أو جواز التحالف مع خليط غير متجانس متنوع الأهداف من المقاومة بل متنوع المشارب الفكرية، حيث ثمة قطاع غير قليل منها ينزع الى الأعمال المتطرفة والإرهابية التي تطاول المدنيين الأبرياء والمؤسسات والمراكز الدينية والأسواق ومؤسسات وأجهزة الخدمات العامة والبنية التحتية عدا عن أن بعضها لا ينتمي للشعب العراقي، فيما ثمة قوى تحدد نشاطها العسكري المقاوم ضد الأهداف العسكرية فقط لكن مهمشة على الساحة السياسية.
وفي المقابل ثمة قوى وأطراف سياسية أساسية، وفي مقدمتها ممثلو الإسلام السياسي الشيعي وممثلو الأكراد، انخرطوا في العملية السياسية تحت شعار إقامة نظام “ديمقراطي” جديد وان جرت العملية تحت رعاية ومباركة الاحتلال الأمريكي. وفي ظل هذا الاحتلال جرت غير مرة انتخابات للجمعية التأسيسية وانتخابات نيابية كما جرى على عجل سن دستور جديد للبلاد تضمن الكثير من نصوص المواد والبنود التي تشوه ليس هوية البلاد العربية فحسب، بل وتشويه حتى الطابع الديمقراطي للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنشود والمأمول من المشاركة في العملية السياسية ذاتها. وفي ظل انطلاق العملية السياسية التي استمرت من دون توقف منذ وطئت أقدام جنود الاحتلال وادي الرافدين فإن أعمال الفوضى والإرهاب والمذابح الدموية الجماعية ظلت مستمرة ومتفاقمة طوال السنوات الخمس الماضية.
وإذا كانت الاحتلالات والغزوات الأجنبية للبلدان العربية شكلت موضوعيا دائما عنصر توحيد لفئات الشعوب وقواها السياسية والدينية المختلفة لمجابهة الاحتلال الأجنبي ومقاومته، فإن ما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي في عام 2003 كان العكس تماما، أي ان الموقف من الاحتلال ومن العملية السياسية التي تجرى تحت رعايته ومباركته شكل سببا للانقسام بين هذه القوى، وهذه مفارقة تاريخية غير معهودة في تاريخ البلدان العربية الحديث، وما ذلك إلا لجملة من مفاعيل العوامل الموضوعية والذاتية العميقة المتشابكة الأبعاد التاريخية والسياسية والدينية، بدءا من نشأة الدولة الملكية العراقية الحديثة في ظل الاحتلال البريطاني في عشرينيات القرن الماضي، ومروراً بنشأة الحكم الجمهوري الذي جاءت به ثورة 1958 بقيادة عبدالكريم قاسم، وانتهاء بحكم البعث الذي جاء الى السلطة بانقلاب عسكري عام 1968 وظل فيها على مدى 35 عاماً، وهي أطول فترة حكم لواحد من الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق.
لقد كان المبرر الذي عبرت عنه القوى السياسية التي شاركت في العملية السياسية ومعظمها من القوى المعارضة للنظام السابق، انه لم يكن هناك بديل ممكن لإسقاط النظام إلا بهذه الطريقة المعروفة التي جرت بها، وان العملية السياسية وان جرت تحت الاحتلال إلا انها تفتح الطريق لخلاص العراق من إرث الدكتاتورية السابق المديد وتفتح آفاقا لبناء عراق ديمقراطي جديد طال انتظاره، وان هذه العملية اذا ما جرت على أيدي ممثلي الشعب العراقي الحقيقيين المنتخبين يمكن التحكم بعدئذ في مخارجها بإنهاء الاحتلال وإجلائه سلميا بالتوافق معه، ومن ثم يمكن الدخول معه في مهادنة مؤقتة ضرورية ضمن لعبة التكتيكات من دون افتقاد بوصلة الهدف الاستراتيجي المركزي في انتزاع حق تقرير مصير الشعب العراقي على أرضه وتحريره من ربقة الاحتلال وتحقيق سيادته الوطنية الكاملة.
والسؤال الذي يفرض نفسه الى أين قادت هذه العملية السياسية السلمية التي جرت في ظل كل تلك الأوضاع والظروف الخطيرة والمعقدة التي مر بها العراق تحت الاحتلال، وهي أخطر ظروف على الاطلاق يمر بها تاريخ العراق؟ غني عن القول ان هذه العملية لا تسير بسلاسة كافية ليس لأنها تجرى في ظل الاحتلال فحسب، بل ولأن القوى السياسية الأساسية المنخرطة فيها ليست مؤهلة بتاتا لقيادة مشروع وطني جامع لكل العراقيين على اختلاف قواهم وفئاتهم السياسية والدينية والقومية، هذا بافتراض ان الشروط التي تجرى بموجبها العملية السياسية مؤاتية لأن تسير بعيدا عن تدخلات وتأثير سلطات الاحتلال. وما يمكن قوله عن القوى الأساسية المنخرطة في العملية السياسية يمكن قوله الى حد كبير عن القوى المنخرطة في مقاومة الاحتلال من حيث غياب العنصر الموحد لكل أطياف العراقيين.
الآن وقد ظهرت لحظة الحقيقة التي لا مجال للمناورة حولها وذلك بانكشاف مخطط للاحتلال للبحث عن مكافأة يحفظ بها ماء وجهه للخروج من المستنقع الذي أوقع نفسه فيه والمتمثلة في رغبته فرض معاهدة استرقاقية استعمارية بعد خروجه من العراق على التحالف الحاكم الحالي، وهناك اجماع شعبي بمختلف أطيافه السياسية والدينية على رفض هذه المعاهدة السيئة الصيت والتي تمس سيادة العراق حتى بعد رحيل المحتل وتعطيه ضمن ما تعطيه حق وجود قواعد عسكرية، وحق ان ينطلق منها لشن عمليات على دول مجاورة، واطلاق يد المحتل في اعتقال مواطنين مشبوهين متى شاء، وتحريك القطاعات العسكرية، واستقدام قوات تعزيز جديدة، ومنح جنود الاحتلال الجديد القديم وشركاته الأمنية حصانة ضد القوانين والتشريعات الوطنية.. الخ من بنود هذه الاتفاقية.
نقول الآن وقد ظهرت لحظة الحقيقة حيث رفضت مرجعيات دينية ذات وزن في الائتلاف الحاكم هذه المعاهدة، كالسيد علي السيستاني، فضلا عن التيار الصدري بالرغم من الممانعة الخجولة التي يبديها ائتلاف عبدالعزيز الحكيم، فهل ينصاع الائتلاف الحاكم لهذا الاجماع الشعبي؟ وهل تشكل كل هذه الظروف المستجدة فرصة مؤاتية لبناء أوسع ائتلاف شعبي وطني لطرد الاحتلال صاغراً ذليلاً من دون مكافآت سياسية مسبقة؟!
 
صحيفة اخبار الخليج
4 يونيو 2008

اقرأ المزيد

عن إصلاح النظام الانتخابي

رد دائرة الشؤون القانونية على المذكرة التي‮ ‬تقدم بها المحامي‮ ‬عبد الله الشملاوي‮ ‬بشأن الطعن في‮ ‬الدوائر الانتخابية،‮ ‬تفتح مجددا النقاش حول هذا الموضوع‮.‬ أسوأ محذور‮ ‬يمكن أن نقع فيه عند معالجة موضوع النظام الانتخابي‮ ‬في‮ ‬البحرين،‮ ‬وطريقة توزيع الدوائر الانتخابية فيها،‮ ‬هو أن نتعاطى مع الموضوع بصورةٍ‮ ‬طائفية،‮ ‬فيصبح موضوع الحديث هو‮: ‬أيكون عدد النواب السنة في‮ ‬مجلس النواب،‮ ‬أو في‮ ‬المجالس البلدية أكثر من عدد النواب الشيعة أو العكس‮.‬ للأسف الشديد فان الأمر أخذ ويأخذ هذا المجرى،‮ ‬فيبدو كأن الهدف من المطالبة بإعادة توزيع الدوائر الانتخابية وإصلاح النظام الانتخابي‮ ‬هو إعادة رسم التوازن بين السنة والشيعة في‮ ‬المجالس المنتخبة،‮ ‬لا إقامة نظام انتخابي‮ ‬عادل وديمقراطي‮ ‬يتيح فرصاً ‬أفضل لتمثيل القوى الاجتماعية والسياسية في‮ ‬المجتمع في‮ ‬هذه المجالس بما‮ ‬يتناسب وحجمها وتأثيرها،‮ ‬بحيث لا‮ ‬يعود التمثيل فيها مقتصرا ‬على القوى الكبيرة،‮ ‬وعلينا التذكير بأن هذه القوى في‮ ‬ظروف البحرين اليوم،‮ ‬وبحكم طبيعة الاستقطاب والتجاذب السياسيين،‮ ‬هي‮ ‬قوى ذات نزوع طائفي،‮ ‬سواء أرادت هذه القوى ذلك أم لم ترد‮. ‬
كان المنبر التقدمي‮ ‬قد تقدم بمقترحٍ‮ ‬متكامل بتقليص عدد الدوائر الانتخابية تقليصا كبيرا بضم عدد من الدوائر الصغيرة المتجاورة في‮ ‬دوائر كبيرة، ‬لتفادي‮ ‬عيوب التقسيم الحالي‮ ‬للدوائر،‮ ‬؟وهو تقسيم‮ ‬يكاد‮ ‬يجعل الفارق بين عدد الناخبين بين دائرة وأخرى في‮ ‬بعض الحالات ؟ ثلاثة عشر ضعفا، ‬في‮ ‬تعبير واضح عن التفاوت الشاسع،‮ ‬الذي‮ ‬لا بد من معالجته بتقليص ملموس وكبير في‮ ‬عدد الدوائر،‮ ‬لا‮ ‬يتقيد بالحدود‮ ‬غير العادلة لتقسيم المحافظات ويساعد على التغلب على التقسيم المذهبي‮ ‬للدوائر الانتخابية،‮ ‬وإقامتها بدلاً‮ ‬من ذلك على أساس المواطنة‮.‬
سيؤدي‮ ‬ذلك،‮ ‬إذا تم،‮ ‬إلى تخفيف حدة الاستقطاب الطابع الطائفي‮ ‬أو القبلي‮ ‬أو العرقي،‮ ‬ويمنح فرصاً‮ ‬أكبر للقوى‮ ‬غير الكبيرة في‮ ‬التمثيل في‮ ‬مجلس النواب والمجالس البلدية،‮ ‬وإعطاء الناخب فرصا أوسع في‮ ‬الاختيار بين المرشحين بدل أن‮ ‬يكون خياره محصورا في‮ ‬مترشحي‮ ‬الدوائر الصغيرة،‮ ‬كما أنه‮ ‬يضفي‮ ‬على المنافسة الانتخابية طابعا سياسيا ليحولها إلى منافسة بين البرامج،‮ ‬مما‮ ‬يزيد من فرص المترشحين الأكثر كفاءة وكذلك من فرص فوز النساء،‮ ‬ويقلل بالتالي‮ ‬من الأصوات المهدرة وتقليل إمكانيات التلاعب في‮ ‬مخرجات الانتخابات،‮ ‬وتقليص المصاريف الإدارية للعملية الانتخابية‮.‬
ينص مقترح المنبر التقدمي‮ ‬على أن‮ ‬يكون عدد الدوائر،‮ ‬بعد التقليص،‮ ‬عشر دوائر بدمج مجموعة من الدوائر القريبة من بعضها دون التوقف عند حدود المحافظات،‮ ‬على أن‮ ‬يمثل كل دائرة أربعة نواب،‮ ‬بحيث لا‮ ‬يجوز للناخب انتخاب أكثر من اثنين من المترشحين،‮ ‬لضمان عدم هيمنة القوى الكبيرة على كل المقاعد،‮ ‬وحرمان القوى الصغيرة والمتوسطة منها‮. ‬ من المهم التأكيد على أن هذا المقترح ليس أكثر من مقترح أولي،‮ والمطلوب هو توافق الجمعيات السياسية على مقترح موحد‮ ‬يكون واقعيا ومطمئنا للقوى المعنية،‮ ‬ومقبولا من أوسع قاعدة‮ ‬يمكن أن تدعمه‮.‬
 
صحيفة الايام
4 يونيو 2008

اقرأ المزيد

مرحلة الانهيار الذاتي للهرم الـنـقدي

حتى الآن، لا تملك أساساً واقعياً تلك التصريحات المتفائلة لعدد من السياسيين والماليين والخبراء الغربيين بأن الأزمة الاقتصادية العالمية لا تبدو عميقة كما كان يفترض، وأنه قد تم بلوغ القاع وأصبح من الممكن رؤية النور في نهاية النفق.
شهر مارس/ آذار الماضي فقط سجل تدفقاً مالياً صافياً من الولايات المتحدة إلى الخارج بقيمة 2,48 مليار دولار. هذا يبين بوضوح أن الدعم، وحتى النمو الظاهري لسوق المال الأميركية حدث نتيجة الضخ المالي الهائل من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي. وفي سبيل ذلك جندت أهم المؤسسات المالية الأميركية مثل «سيتي غروب»، «مورغان تشيس»، «غولدمان ساكس»، «ميريل» لينتش وغيرها[1]. أي أن ما يحدث هو جعل سوق الأسهم حكومياً شكلاً مغلفاً. وذلك ينذر بهزات اقتصادية اجتماعية مفاجئة غاية في الجدية، كما يحذر عدد من كبار الاقتصاديين في نيويورك. الأكثر من ذلك أن ما حذر منه اقتصاديون أميركيون مثل ليندون لاروش وتنينباوم واقتصاديون روس مثل غلازيوف وكوبيكوف وخازين وغيرهم بشأن حتمية انهيار الهرم المالي العالمي المبني على قاعدة إصدارات سندات الدين الأميركية قد أصبح قاب قوسين.
كيف نشأ هذا الهرم المالي ولماذا يجب أن ينهار؟ دعونا نتابع ذلك كما يبينه الاقتصادي سيرغي غلازيوف، لعل فيه عظة لصانعي القرارات النقدية والمالية في بلداننا[2].
في كل عام، أثناء وضع مشروع الموازنة تقوم الخزانة الأميركية بتحديد مقدار الأموال الضرورية لتغطية عجز الموازنة والوفاء بالتزامات الدين السابقة. بعدها تتخذ اللجنة المعنية قرارها بإصدار الكمية المناظرة لذلك من سندات الدولة. وأخيراً تقوم إدارة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (التي تضم أصلاً نصف أولئك الذين اتخذوا القرارات السابقة) بتحديد كمية الإصدار النقدي الضرورية لشراء هذه السندات. وتحت ضمان رهن هذه الصكوك تحصل المصارف التجارية على الأموال التي أصدرها الاحتياطي الفيدرالي بأدنى سعر فائدة. العنصر الأساسي في هذه الآلية يكمن في عملية إعادة تمويل المصارف التجارية تحت ضمان رهن الأوراق المالية الحكومية حيث تشكل «العملية» القناة الأساسية لإصدار الدولارات.
إذاً، مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يصدر النقد بهدف تمويل دين الدولة. وعن طريق هذه التكنولوجيا جرى إطلاق أكثر من ثلثي الكتلة الدولارية في التداول. وبحسب الخبراء لا يتعدى الغطاء من الاحتياطي الذهبي – النقدي لهذه الكتلة اليوم 4% فقط.
آلية إصدار النقد التي جرى وصفها أعلاه هي بالضبط ما يشكل الهرم المالي النموذجي. أي أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يطبع الدولارات تحت ضمان ديون الحكومة الأميركية. والحكومة الأميركية تقترض الأموال من أجل خدمة وإطفاء الديون السابقة. وبما أن الإنفاق الأميركي يتزايد بشكل أسرع من تزايد الدخل ما يصيب الموازنة بعجز مزمن، فإن حجم الدين يظل في ارتفاع مستمر. وعليه أيضاً يتزايد إصدار الدولارات. هذه العملية تنحدر على العالم بتسارع ككرة الثلج منذ أن بدأت العام .1971 في ذلك العام رفضت الولايات المتحدة الأميركية طلب الحكومة الفرنسية استبدال دولاراتها بالذهب. وبهذا هدمت نظام العلاقات النقدية المالية العالمي القائم حتى ذلك الوقت على المعيار الذهبي المحدد لمقادير الإصدار النقدي لعملات البلدان الرأسمالية المتقدمة. ومنذ ذلك الوقت أخذت أميركا تجبر حلفاءها في الناتو، ثم دولاً أخرى، على اعــتماد الدولار بدلاً عن الذهب كاحتياطي نقدي لعملاتها الوطنية، بينما أخذت هي تصدر الدولار انطلاقــاً من حاجاتها إلى تمويل النفقات الحكــومية. وهكذا حولت أميركا دول العالم الأخرى إلى مقرضين مجانيــين لها، بينمــا تحصـل هي على «ريع صك العملة» (seigniorage أو seignoragc) على نطاق عالمي. وبما أن أكثر من نصف كمية النقد التي يصكها الاحتياطي الفيدرالي يتم تداولها خارج أميركا، يتضح أن أميركا تعيش أساساً على ما تستدين من سكان المعمورة.
آلة إصدار الدولار تدور الآن أسرع فأسرع تحت ضغط تزايد الدين الأميركي. وتشير المعطيات المتوافرة إلى أن خدمة هذا الدين تتطلب طبع 2 مليار دولار يومياً، وأضعاف ذلك في فترات معينة. وهكذا يتزايد عرض الدولارات اعتماداً على حاجة أميركا إلى مزيد من الدين، في حين أن الطلب عليها يتحدد بقدر حاجة السوق العالمي للدولارات. ويعتمد هذا الطلب على تفضيلات المستثمرين بالدولار وحجم العمليات الجارية به. وحتى وقت قريب كانت المصارف والشركات الأميركية هي التي تحدد حجم هذا الطلب فتغرق الاقتصاد العالمي بالدولارات.
لكنه مع تسارع نمو اقتصاد الدول النامية وتراجع وزن أميركا في الاقتصاد العالمي يصبح الطلب على الدولار معتمداً أكثر على نشاط الشركات الأميركية. وحكماً على وضع الاقتصاد الأميركي اليوم يمكن استنتاج أن الفجوة ما بين العرض المتزايد للدولارات والطلب المحدود عليها آخذة في الاتساع. وتبعاً لذلك يتهاوى سعر صرف الدولار، ويفقد المستثمرون بالدولار مدخراتهم. النتيجة العامة هي أن الثقة بالدولار قد اهتزت بشكل كبير، وأصبح يزاح ويستبدل بأدوات نقدية أخرى. وهذا ما يقلل الطلب على الدولار من جديد ويزيد في الفجوة بينه وبين العرض ويؤدي إلى مزيد من انهيار سعر صرفه. وابتداء من لحظة تاريخية معينة، يراها الخبراء قريبة، سيدب الذعر لدى المستثمرين وسيحدث الهروب الكبير من الدولار. وبذلك ستبدأ عملية جديدة أخرى من تسارع انهياره، وعندها سيدخل الهرم المالي العالمي الذي بنت السلطات النقدية الأميركية نموذجه مرحلة الانهيار الذاتي.
وإذا كان إصدار الدولار بهدف تمويل عجز الموازنة الأميركية هو الهدف الأساسي، فإنه ليس الوحيد للاحتياطي الفيدرالي. إنه أيضاً يصدر النقود من أجل دعم السيولة للنظام المصرفي ولتمويل النفقات الموسمية وإعادة تمويل مؤسسات الإقراض الحكومية، بما فيها الصناديق العقارية. وهذا الأخير لعب، كقناة إصدار نقدي، دوراً كبيراً في دعم النمو الاقتصادي الأميركي على مدى السنوات العشر الأخيرة، وشكل قاطرة سحب الاقتصاد الأميركي من الانهيار المالي بعد أزمة الاقتصاد الجديد في التسعينات. لكن هذه القاطرة توقفت الآن. ويأمل المتفائلون في ظهور قاطرة جديدة للخروج بالاقتصاد الأميركي من الركود الراهن، وتؤدي إلى استقرار سعر صرف الدولار من جديد.
غير أن هذا التفاؤل وصل حدوده التاريخية هذه المرة. فالعلامات الماثلة للعيان أصبحت تبين، كما جاء أعلاه بأن الهرم المالي الدولاري قد دخل مرحلة الانهيار الذاتي التي لا رجعة عنها.

صحيفة الوقت
2 يونيو 208

اقرأ المزيد

من قضايا حقوق الإنسان المحلية

كتبت غير مرة في هذا المكان طوال السنوات القليلة الماضية منتقدا ظاهرة توظيف المساجد والجوامع والمآتم والحسينيات للأنشطة والاعمال السياسية باعتبارها مؤسسات دينية عامة مخصصة حصرا للأنشطة والاعمال الدينية وهي اماكن دينية مقدسة “عامة” لمختلف فئات وعوام الناس على اختلاف مشاربهم الفكرية والثقافية وليست حكرا على تيارات حزبية محددة ايا تكن ما تحمله من نعوت وتوجهات دينية – سياسية، وكان يفترض في جمعياتنا السياسية – الدينية، وبخاصة بعد تطبيق قانون الجمعيات السياسية، ان تنتبه جيدا من خطأ توظيف المآتم العامة وتسخيرها لأنشطتها الحزبية. فالمأتم له قدسيته الخاصة، وله وظيفته العامة الدينية الجليلة وليس مقرا حزبيا.
ومع تفهمنا الكامل للمبررات الاضطرارية وضعف الامكانيات والموارد التي لا تتيح للجمعيات السياسية الاسلامية عقد انشطتها في صالات عامة مدنية غير دينية، فان ذلك لا يبرر البتة التمادي في هذه الظاهرة حتى تتكرس وتصبح عرفا خاطئا بكل المقاييس ليس في قواعد العمل السياسي العام فحسب، بل وفي اختلال شروط المنافسة المتكافئة بين الجمعيات السياسية بحيث تكون هناك جمعيات سياسية قادرة من خلال هويتها الدينية على احتكار هذه المآتم والجوامع وتوظيفها لانشطتها السياسية والتنظيمية، فضلا عن توظيفها كأماكن عامة جماهيرية للدعاية السياسية والتعبئة الحزبية، فيما تظل في المقابل هنالك جمعيات سياسية اخرى محرومة من هذه الميزة حتى لو ارادت مجرد عقد ندوة سياسية عامة يحاضر فيها ضيف عربي حول قضية عربية آنية فما بالك بقضية محلية؟ هذا بخلاف اضطرارها لاستئجار صالات مدنية عامة مدفوعة الثمن في ظل مصادرة حقها في عقد الندوات والانشطة السياسية في تلك الجوامع والمآتم والحسينيات العامة.
ولما كانت هذه الظاهرة مستمرة منذ ما قبل صدور قانون الجمعيات على امتداد السنوات السبع الماضية، أي منذ صدور الميثاق الوطني، حتى كادت أن تصبح عرفا في ظل صمت الجهات القانونية الرسمية المعنية إلى ان بوغتت بعض الجمعيات الاسلامية مؤخرا بموقف وزارة العدل المعارض لممارسة هذه الانشطة السياسية والحزبية في المآتم، فالمأمول الآن بعد احترام “الوفاق” لهذا الموقف أن يأخذ بعدئذ القانون مجراه في التطبيق مستقبلا بكل حزم وجدية ويكون ساريا على الجميع من دون استثناء ويطبق على كل أماكن العبادة بما في ذلك الجوامع والمساجد في كل اماكن البلاد قاطبة. 
سبق ان كتبت غير مرة في هذه الزاوية مشيدا بتجربة مصر في انشاء المجلس القومي لحقوق الانسان والذي شكل من نخبة ممتازة من الشخصيات الحقوقية الرسمية والاهلية ورموز من الاكاديميين والمثقفين والكتّاب الصحفيين وخلافهم على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية والدينية والاجتماعية فضلا عن عدد من الشخصيات النسوية. وعلى الرغم من الطابع الرسمي لتشكيل المجلس، فإن هذا القدر من التنوع وانضمام اليه عدد معقول من الاعضاء المعروفين بحيادهم واستقلاليتهم عن الحكومة كل ذلك اكسب هذا المجلس قدرا من التوازن والمصداقية في اعماله وتقاريره الدورية وقراراته امام الرأي العام المحلي والعالمي بما يصب في صالح سمعة المشروع الاصلاحي المصري وبخاصة في ظل اعتماد منهجية متوازنة بين النقد المعتدل، والاشادة بالتطور في حالة وجوده لدى رصد سجل الحكومة المصرية لحقوق الانسان.
وكنت قد اقترحت أن تقدم قيادتنا السياسية وحكومتنا على الاقتداء بمثل هذه التجربة المصرية عند العزم على تشكيل المؤسسة الرسمية العامة المعنية بحقوق الانسان. أما وقد زفت لنا الصحافة المحلية مؤخرا خبر قرب تشكيل الهيئة الوطنية لحقوق الانسان وان ثمة توقعات بأن يُضم في عضويتها لفيف من الشخصيات الحقوقية العاملة في جهاز الدولة وفي العمل الحقوقي الأهلي العام فضلا عن بعض الرموز الاخرى من المثقفين فلا يسعنا الا ان نبارك لقيادتنا السياسية ولحكومتنا هذه الخطوة، آملين ان تكون فاتحة خير نحو تطوير النشاط الحقوقي المؤسسي المتصل بحقوق الانسان في المملكة، وأن تكتسب الهيئة الجديدة، كمجلس حقوق الانسان المصري، السمعة الدولية الجديرة بها كمؤسسة حقوقية وطنية بحرينية تتمتع بحد ادنى من المصداقية وبقدر معقول من النزاهة في تقاريرها وقراراتها.
بقدر ما تستحق الجهود والمساعي التي يقوم بها وزير الدولة للشئون الخارجية نزار البحارنة للإفراج عن المواطنين الثمانية المحتجزين في الرياض الشكر والتقدير، ومنها التقاؤه مع ذويهم والاستماع إلى ملاحظاتهم وشكاواهم حول هذه القضية الانسانية التي أقضت مضاجعهم واقلقت زوجات الموقوفين واطفالهم الذين طال بعد آبائهم عنهم.. بقدر ما نأمل أن تتعزز هذه الجهود الرسمية، كما ذكرنا الاسبوع الماضي، بجهود حقوقية اهلية موازية من خلال تشكيل وفد مشترك للالتقاء بالحكومة السعودية الشقيقة أو بالجهات المعنية الاخرى كمجلس الشورى ومجلس حقوق الانسان السعودي، ولاسيما ان مؤسساتنا الحقوقية تتمتع بالشرعية القانونية. ونحن على ثقة بأن حكومة خادم الحرمين لن تتوانى عن ابداء استعدادها التام للتعاون مع أي وفد رسمي او وفد اهلي حقوقي من شقيقتها مملكة البحرين لإجلاء الغموض الطويل الذي يلف هذه القضية الانسانية، وتسهيل كل ما يمكن لتسويتها وانهائها سريعا بين البلدين الشقيقين بعيدا عن تدخلات المنظمات الحقوقية الدولية أو أي جهات خارجية اخرى.
 
صحيفة اخبار الخليج
2 يونيو 2008

اقرأ المزيد

عن الاستخدام السياسي‮ ‬لدور العبادة

في‮ ‬مشروع‮  ‬قانون التنظيمات السياسية الذي‮ ‬كان المنبر التقدمي‮ ‬قد بادر إلى طرحه في‮ ‬الفصل التشريعي‮ ‬الأول كمسودة للنقاش بين الجمعيات السياسية،‮ ‬ليكون قانوناً‮ ‬بديلاً‮ ‬لقانون الجمعيات السياسية الذي‮ ‬كان مجلس النواب‮ ‬ينظر فيه في‮ ‬حينه،‮ ‬ورد نص‮ ‬يحظر استخدام دور العبادة لأغراضٍ‮ ‬سياسية‮.‬ معلوم أن الجمعيات السياسية في‮ ‬البلد توافقت في‮ ‬حينه على هذا المشروع،‮ ‬وتقدمت به إلى مكتبي‮ ‬الرئاسة في‮ ‬مجلسي‮ ‬النواب والشورى،‮ ‬ومعلوم أيضا أن المجلسين أخذا ببعض ما جاء في‮ ‬هذا المشروع،‮ ‬أو استفادا من نصوصه،‮ ‬فيما جرى استبعاد تلك النصوص التي ‬توسع من فضاء العمل الحزبي‮ ‬في‮ ‬البلد،‮ ‬حيث حفل قانون الجمعيات السياسية الذي‮ ‬أقره المجلسان بكثير من القيود التي‮ ‬أثارت وتثير اعتراض الناشطين الحزبيين،‮ ‬الذين‮ ‬يسعون،‮ ‬جدياً،‮ ‬لتأسيس حياة حزبية راسخة تليق بالتقاليد السياسية في‮ ‬البلد‮.‬
غاية القول إن رفض استخدام دور العبادة لأغراض النشاط السياسي‮ ‬ليس امراً‮ ‬خاصاً‮ ‬بالدولة وحدها كما‮ ‬يجري‮ ‬تقديم الأمر أحياناً،‮ ‬وإنما هو ‬يعكس أيضاً‮ ‬رغبة قوى مجتمعية وسياسية عديدة تريد الحفاظ على قدسية هذا الدور،‮ ‬وتنأى بها عن أغراض التوظيف السياسي،‮ ‬خاصة وان هذا التوظيف مقصور على جمعيات بعينها تجعل من الدين صفة لها،‮ ‬فيما‮ ‬يجب ألا‮ ‬يكون الدين حكراً‮ ‬على أحد‮.‬ بالنسبة لنا لم نكن ننتظر أن تتخذ وزارة العدل الموقف الذي‮ ‬اتخذته من عقد مؤتمرات الجمعيات السياسية في‮ ‬أماكن العبادة،‮ ‬لنعبر عن موقفنا هذا،‮ ‬لأننا من دعاة أن ننأى بهذه الأماكن عن التجاذبات السياسية،‮ ‬وأن نكرس مفاهيم العمل الحزبي‮ ‬في‮ ‬مضامينه المدنية الحديثة،‮ ‬التي‮ ‬تجعل من الجميع سواسية في‮ ‬استخدام وسائل العمل وسط الجمهور‮.‬
وعلى الدوام فإننا نرى أن على وزارة العدل وهي‮ ‬تتعاطى مع نشاط الجمعيات أن تتبع أساليب الحوار،‮ ‬لأن تكريس مبدأ الحوار‮ ‬يسهم في‮ ‬خلق أجواء ايجابية تساعد على تذليل الصعوبات،‮ ‬ومد جسور الثقة وتسوية ما‮ ‬ينشأ من خلافات،‮ ‬وهذا ما نأمل أن‮ ‬يسود في‮ ‬التعاطي‮ ‬مع عقد جمعية العمل الإسلامي‮ ‬لمؤتمرها في‮ ‬صالة مأتم سار‮.‬ ويقتضي‮ ‬الموقف الإشادة بالقرار الحكيم لجمعية الوفاق في‮ ‬عقد مؤتمرها في‮ ‬ساحة خارجية،‮‬والنأي‮ ‬عن عقده في‮ ‬صالة المأتم،‮ ‬ففي‮ ‬ذلك ما‮ ‬يعبر عن بُعد نظر،‮ ‬وتحاشٍ‮ ‬لمواجهة لا مبرر لها مع وزارة العدل،‮ ‬لأن الجهود‮ ‬يجب أن تنصرف نحو قضايا أكبر تتصل بتكريس الإصلاح والديمقراطية،‮ ‬عوضاً‮ ‬عن تضييع الجهود والوقت في‮ ‬مواجهة عنوانها عقد مؤتمر في‮ ‬مأتم‮.‬
 
صحيفة الايام
2 يونيو 2008

اقرأ المزيد

قانون الاجراءات مثالاً‮ ‬

بدلاً‮ ‬من انشغالات نوابنا الكرام بتوافه الأمور وصغائرها،‮ ‬وبدلاً‮ ‬من انشغالهم بانسحابات من قاعة البرلمان،‮ ‬أو مساومات الاستجوابات لنيل مكاسب والتوسع في‮ ‬الدولة للهيمنة على مفاصلها لبث أفكار الضلال والرجعية،‮ ‬فليتوقفوا قليلاً‮ ‬أمام رزمة القوانين والتشريعات التي‮ ‬صدرت ولا تتناسب مع المشروع الإصلاحي‮ ‬لجلالة الملك،‮ ‬لانها تتضمن روح قوانين سيئة الصيت في‮ ‬المرحلة الغابرة التي‮ ‬لم نحصد منها لا بصل ولا رمان‮.‬
قوانين تتناقض مع اتفاقيات ومعاهدات دولية وقعت عليها البحرين،‮ ‬ويجدر بالتشريعيين ان‮ ‬يقوموا بتحديث هذه التشريعات‮ ‬غير الملائمة،‮ ‬ومنها على سبيل المثال قانون الإجراءات التي‮ ‬يتضمن مادة‮ ‬يتم استغلالها لحبس المتهم مدداً‮ ‬احتياطية‮ ‬غير معقولة دون ان‮ ‬يحال الى المحكمة لمباشرة إجراءات القضاء‮.‬ بعيداً‮ ‬جداً‮ ‬عن قضية موقوفي‮ “‬ألبا‮” ‬اللذين مازالا في‮ ‬التوقيف لمدة ‮٩ ‬أشهر نتيجة لاستغلال هذه المادة التي‮ ‬يفسرها المحامون بطريقة والنيابة والقضاء بطريقة أخرى،‮ ‬فإن هناك خللاً‮ ‬لا‮ ‬يتناسب مع مكانة البحرين الحقوقية والإنسانية في‮ ‬تطبيق مثل هذا القانون‮.‬
ويقع على عاتق النواب ان‮ ‬يفكروا ملياً‮ ‬في‮ ‬تحديث هذه التشريعات وأن‮ ‬يكون دور الانعقاد المقبل محطة لتحديث هذه القوانين،‮ ‬ومنها قانون الإجراءات،‮ ‬عبر تضمينه مادة تحدد سقفاً‮ ‬محدداً‮ ‬للحبس الاحتياطي‮ ‬تكون واضحة وغير قابلة للتأويل،‮ ‬إلا إذا أصر النواب على ان‮ ‬يكون بداية دور الانعقاد المقبل متوتراً‮ ‬نتيجة لصراع كتل تلعب بها الطائفية لدرجة كبيرة،‮ ‬وهو ما حذرنا منه مسبقاً‮.‬
ان التشريعات التي‮ ‬لا تتلاءم مع روح وجوهر الاتفاقيات الدولية التي‮ ‬وقعتها البحرين ليست بالقليلة،‮ ‬وان الإجراءات القضائية تحتاج الى تطوير،‮ ‬وهو ما أكدته القيادة من ضرورة تسريع الإجراءات القضائية في‮ ‬جميع مراحلها،‮ ‬فقد بات من المزري‮ ‬ان تكون إجراءات التقاضي‮ ‬والمحاكمة لمدة تطول على ‮٣ ‬سنوات،‮ ‬وإجراء توقيف تطول على السنة‮. ‬ قد أوافق على هذه البيروقراطية لو كنا في‮ ‬عصر لم تسوده لغة التكنولوجية،‮ ‬ولكن ما هو العذر الان وبكبسة زر تنقضي‮ ‬حوائج الانسان.
 
صحيفة الايام
2 يونيو 2008

اقرأ المزيد

الدلالة الاقتصادية لأزمة مواد البناء

عادت أزمة مواد البناء لاسيما الأسمنت إلى الظهور على السطح ثانية،‮ ‬حيث عاد السوق وتحديداً‮ ‬سوق التشييد والتعمير إلى الشكوى من نقص إمدادات الأسمنت وسط طلب متنام على مواد البناء تزامناً‮ ‬مع موجة المد الاقتصادي‮ ‬العالية المستمرة منذ أكثر من أربع سنوات بسبب أسعار النفط المحلقة على ارتفاعات شاهقة تخطت منذ فبراير الماضي‮ ‬حاجز المائة دولار للبرميل‮.‬
واللافت أن أنباء شح مواد البناء في‮ ‬السوق التي‮ ‬تواردتها الصحافة المحلية البحرينية،‮ ‬قد تزامنت مع زف أنباء‮ (‬في‮ ‬نفس اليوم‮) ‬عن نجاح شركة تلال الغروب المطورة لمشروع تلال الغروب في‮ ‬إبرام صفقتين بقيمة‮ ‬5‭,‬23‮ ‬مليون دولار تم بموجبهما بيع‮ ‬6‮ ‬بنايات من المشروع المتفرع عن مشروع العرين التطويري‮ ‬الذي‮ ‬يتشارك في‮ ‬ملكيته كل من بيت أبوظبي‮ ‬للاستثمار وشركة صروح للاستثمار‮. ‬وكذلك إعلان شركة درة البحرين التي‮ ‬تنفذ أكبر مشروع عمراني،‮ ‬سكني‮ ‬وتجاري،‮ ‬فاخر في‮ ‬سواحل البحرين الجنوبية،‮ ‬إن فلل المرحلتين الأولى والثانية سوف تسلم إلى أصحابها في‮ ‬شهر نوفمبر المقبل بدلاً‮ ‬من شهر أبريل الفائت وذلك نظراً‮ ‬للنقص الحاد في‮ ‬مواد البناء الذي‮ ‬يعاني‮ ‬منه السوق بسبب تخطي‮ ‬الطلب للمعروض منها‮.‬
وما الإعلان عن وجود نقص في‮ ‬السوق من معروض الأسمنت قدره‮ ‬30‮ ‬ألف طن شهرياً،‮ ‬سوى تعبير عن جانب واحد من أزمة شح مواد البناء‮.‬
والغريب أن المطورين‮ ‬‭(‬Developers‭)‬‮ ‬والمستثمرين العقاريين الجدد راحوا‮ ‬يندفعـون بقـوة في‮ ‬توسـيع الرقعـة الاستثمارية العقارية إلى حدودها القصوى براً‮ ‬وبحـراً‮ ‬من دون التفكـير في‮ ‬تبعـات الضغـط على طاقة عرض السوق المتاحة‮ ‬‭(‬Market disposable supply capacity‭).‬
وما زاد الطين بلة أن قطاع التشييد المحلي‮ ‬قد رهن نفسه بالكامل لاستمرار تدفق إمدادات الإسمنت من الدول المجاورة‮. ‬ولأن الدورة الاقتصادية في‮ ‬هذه الدول هي‮ ‬بدورها في‮ ‬قمة نشاطها ورواجها فكان لابد لهذه الدول من أن تتخذ إجراءات لضمان تلبية حاجة أسواقها من الأسمنت المنتج محلياً‮.‬
بهذا الصدد قررت دولة الإمارات العربية المتحدة وقف صادرات مصانع الأسمنت لديها إلى الخارج لمقابلة الطلب المحلي‮ ‬المتصاعد وتوفير احتياجات الدولة منه ووقف تصاعد أسعاره‮. ‬وكانت مصانع الأسمنت الإماراتية قد وقعت مذكرة تفاهم مع وزارة الاقتصاد في‮ ‬الخامس من مايو الجاري‮ ‬تم بموجبها تحديد وتثبيت أسعار الإسمنت بواقع‮ ‬16‮ ‬درهماً‮ ‬للكيس من المصانع مباشرة و19‮ ‬درهماً‮ ‬من السوق‮. ‬واستتبع الطرفان ذلك بالاتفاق مبدئياً‮ ‬على افتتاح واعتماد منافذ ومراكز لبيع الأسمنت في‮ ‬جميع إمارات الدولة ومناطقها‮.‬
فقط عندما أطلت أزمة عرض‮ ‬‭(‬Supply crisis‭)‬‮ ‬مواد البناء من جديد‮ (‬للمرة الثانية خلال بضعة أشهر‮) ‬بادر أولئك المطوِّرون والمستثمرون العقاريون الجدد إلى الإعلان عن إنشاء شركة بملياري‮ ‬دولار متخصصة في‮ ‬إنتاج الأسمنت بطاقة تغطي‮ ‬30٪‮ ‬من احتياجات الشرق الأوسط،‮ ‬حسبما أُعلن‮!‬
كيف نفهم هذا التعاطي‮ ‬مع هذه الأزمة من جانب كافة أطراف العملية الإنتاجية وأطرافها؟
من الناحية الاقتصادية‮ ‬يتمثل فهمنا لها في‮ ‬التالي‮:‬
(1)‬ إن عمليــة تمددنا الاقتصادي‮ ‬قطاعياً‮: ‬عمودياً‮ ‬وأفقياً‮ ‬‭(‬Upstream‭ & ‬Downstream‭)‬،‮ ‬وجغرافياً‮: ‬براً‮ ‬وبحراً،‮ ‬تتم وفقاً‮ ‬لقرارات اللحظة ووفقاً‮ ‬لإملاءات السوق من دون أن نخلق الآلية التي‮ ‬تمكننا من إدارة عملية التوازن الاقتصادي‮ ‬التي‮ ‬تتحرك الاقتصادات العالمية المحدَّثة في‮ ‬إطار ضوابطها باعتبارها حاكماً‮ ‬ومرجعاً‮ ‬للإطار العام والمساحة‮ ‘‬المخصصة‮’ (‬في‮ ‬المخطط العام‮) ‬للحركة الاقتصادية المرنة والمنضبطة في‮ ‬آن‮.‬ بمعنى أنها لا تجري‮ ‬وفقاً‮ ‬لمخطط عام للتنمية الشاملة حاكم لإيقاع الحركة الاقتصادية بشقيها العام والخاص،‮ ‬كما هو مفترض شرطاً‮ ‬لتحقيق عنصر الاستدامة‮.‬
(2)‬ كما هو واضح فإن إيقاع التنمية المتسارع وفضائها المفتوح‮ ‬يتجاوز الطاقات المتاحة للاقتصاد الوطني‮ ‬على كثير من الأصعدة،‮ ‬المادية من حيث وفرة مصادر الطاقة الكافية،‮ ‬والأراضي‮ ‬الاستثمارية،‮ ‬والبشرية لاسيما قوة العمل الفنية عالية التجهيز والتمهين‮.‬
وللاقتصاد البحريني‮ ‬والاقتصادات الخليجية بوجه عام تجربة سابقة‮ ‬يتوجب عليها تَذَكُّرها دائماً‮ ‬لأنها تشكل مأزقها التنموي‮ ‬الحالي‮. ‬فلقد عملت طوال عقود ما بعد الطفرتين الأولى والثانية‮ (‬1974‮ ‬و‮ ‬1979‮) ‬على تكبير أحجام اقتصاداتها الوطنية وتمطيطها على مقاسات قوة عمل‮ (‬ومن بعد استهلاك واستثمار‮) ‬تتخطى بكثير جداً‮ ‬طاقاتها الاستيعابية‮ (‬لمعدلات النمو‮)‬،‮ ‬فكان أن أصبحت وجهاً‮ ‬لوجه أمام معضلة العمالة الأجنبية التي‮ ‬لا تهدد هوياتها وحسب وإنما هي‮ ‬تضغط على مخرجات الفائض الاقتصادي،‮ ‬ناهيك عن الأصول الثابتة‮.‬
(3) ‬في‮ ‬العلاقة،‮ ‬المتوازنة افتراضاً،‮ ‬بين الدولة والسوق،‮ ‬يلاحظ في‮ ‬خضم هذه الهجمة الاستثمارية‮ (‬العقارية ترجيحاً‮) ‬أن دور وحركة السوق قد تخطيا جهاز الإدارة العامة أو جهاز التسيير الكلي‮ (‬المجتمعي‮)‬،‮ ‬وهو ما‮ ‬يجب التحرز منه لأن فيه فتحاً‮ ‬لأبواب اختلالات قد تفضي‮ ‬إلى نوع من اللانظام أو الفوضى المذمومة‮.‬
(4) ‬لقد أدت حركة التدافع الاستثماري‮ (‬العقاري‮ ‬أساساً‮) ‬إلى إحداث نوع من التسخين الزائد في‮ ‬الاقتصاد‮ ‬‭(‬Over-heated economy‭)‬‮ ‬يمكن مشاهدة تجسيداته في‮ ‬معدلات النمو المرتفعة وفي‮ ‬معدل نمو عرض النقود المتاحة في‮ ‬السوق من قبل الجهاز المصرفي،‮ ‬وفي‮ ‬تخطي‮ ‬الطلب للعرض في‮ ‬عدد من القطاعات الأكثر استقطاباً‮ ‬للاستثمار خصوصاً‮ ‬قطاع الإنشاء‮.‬
ونعلم جميعاً‮ ‬الآثار التي‮ ‬يمكن أن‮ ‬يخلفها مثل هذا التسخين الزائد على معدل التضخم السنوي،‮ ‬ومن خلاله،‮ ‬على بقية مؤشرات ومتغيرات‮ ‬‭.

صحيفة الوطن
1 يونيو 2008

اقرأ المزيد

في لبنانْ.. كلُ حزبٍ بما لَدَيهم فَرِحونْ

وضع اتفاق الدوحة أخيراً العربة على السكة في لبنان، لكن السؤال الآن من يحرك تلك العربة المليئة بالألغام ومصالح الأحزاب المتباينة، المنطلقة أساسا من نظام المحاصصة الطائفية، سيئ الصيت وكيف يجري تطبيق جميع بنود ذلك الاتفاق على الأرض وهنا تكمن الصعوبة الحقيقية.
صحيح أن لقاء الدوحة الأخير قد نجح في صيغة «لا غالب ولا مغلوب» بين الفرقاء اللبنانيين، مما أبعد شبح حرب أهلية طاحنة، كانت تطل برأسها وكادت أن تندلع حين غزت ميليشيات «حزب الله» بيروت الغربية في ذلك اليوم، الذي سيدخل التاريخ، كونها انعطافة سلبية تظل في الذاكرة الجمعية للبنانيين لفترة طويلة. وسيحل أول يوم في رحلة الألف يوم، الذي يجري حثيثا في نهاية المطاف نحو بسط سلطة الدولة في لبنان على جميع أراضيها، الأمر الذي يعني عمليا سيطرة الجيش اللبناني على أي سلاح خارج سلطته وهيبته والمقصود أولا سلاح حزب الله. وهو البند الأساس (بسط سلطة الدولة) ضمن بنود انتخاب رئيس الجمهورية التوافقي العماد ميشال سليمان (الرئيس الثاني عشر والعسكري الثالث بعد فؤاد شهاب وإميل لحود) وتشكيل حكومة وحدة وطنية بصيغة محاصصة أعطت 16 حقيبة وزارية للموالاة، 11 للمعارضة، 3 لرئيس الجمهورية والاستعداد للانتخابات القادمة (حسب قانون الانتخابات العائد لسنة 1960).
على أن تنفيذ هذه البنود الملتبسة على الأرض أمر آخر، خاصة أعقد البنود، المتمثل في بسط سلطة الدولة، الأمر الذي ينظر ويؤول له حسب المصلحة والمزاج الحزبيين والطائفيين، بل يجري ليّ عنق الواقع إلى درجة أن المراقبين خصوصا المثقفين، قد انقسموا وتخندقوا إلى فئتين صارا يتباريان في مسألة الفائز والخاسر في محصلة اتفاق الدوحة. سنرجع في فرصة سانحة أخرى لتحليل هذه الظاهرة الملتبسة لدى الكثرة الكثيرة والتي في حاجة إلى معرفة الأصول الفكرية والفلسفية لمنهاج التفكير والتحليل لدى هؤلاء.
لقد حُلّ الإشكال الأهم، المتمثل بانتخاب «العماد ميشال سليمان» بأغلبية قلّ نظيرها في التاريخ السياسي اللبناني، 118 صوتا من أصل عدد النواب الـ ,127 مقابل 9 أصوات، ضم 6 أوراق بيضاء اعتراضية و3 أوراق تهكمية مكتوبة، مجهولي الهوية، عدا ورقة النائب «بطرس حرب» الذي اقترح جلسة سريعة للبرلمان اللبناني، لتغيير البند المتعلق بالتصويت الرئاسي حتى لا تشوبه أية شائبة قانونية أو دستورية، لكن رئيس البرلمان نبيه بري أسقط الاقتراح بجرة قلم. بدا «سليمان» وهو يتلو خطاب القسم حكيما بالفعل في وقت تعتبر الحكمة مفقودة، بل عملة نادرة أكثر من أي وقت مضى. تتّسم شخصية الرئيس الجديد بخصال وميزات لا تتوافر دائما. مثل، الاعتدال، الحزم، التواضع والبساطة، الإخلاص والتفاني. الأمر الذي انعكس في طرحه لسلة من البنود والمشاريع الواقعية، البعيدة عن الوعود والحلول السحرية، لافتاً إلى أنه لوحده لا يمكنه تحقيق أي شيء. جاءت خلاصة البنود كالآتي: بسط سلطة الدولة، الاعتراف المتبادل للتمثيل الدبلوماسي مع سوريا، أولوية ملف المغتربين، الملف الاقتصادي والاجتماعي، استراتيجية الدفاع والمقاومة الوطنية ضد العدو الإسرائيلي فقط، ضرورة وأولوية لغة الحوار بعيدا عن التشنج والبذاءة والتخوين، المحافظة على الحريات الشخصية والعقائدية المنطلقة من دولة المؤسسات الديمقراطية.
إن مقارنة بين خطاب الرئيس ميشيل سليمان وخطاب أقوى قطب سياسي، أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، ترينا بوضوح كم أصبح السيد حسن بعيداً عن حركة الواقع وسمة العصر وعن موازين القوى الدولية والإقليمية. جال في قوقعة غريبة، مقسما فئات الشعب اللبناني إلى سبعة أقسام (قدسية النظرية السباعية الخرافية) معتبراً نفسه ومريديه أشبه بالفرقة الناجية السابعة، المخولين بأنفسهم للذود عن الوطن. دخل في صومعة الانتشاء والذّوب في حاكمية «ولاية الفقيه» الغريبة عن العصر والمنطق.
أما فيما يتعلق بردود الفعل المتنوعة بإعادة تكليف فؤاد السنيورة لرئاسة الحكومة، فإنها تعبر عن حالة الاحتقان السياسي التي سوف تستمر، خاصة وان المعارضة مجبرة الآن على قبول شرب هذا العلقم (التعامل مرة أخرى مع ثعلب سياسي في وزن فؤاد السنيورة)، وذلك بسبب توقيعها على اتفاق الدوحة أمام الملأ، ولا يمكنها الرضوخ عن ذلك وان كانت تريد ذلك في قرارة نفسها. اختير السنيورة ليرأس الحكومة الانتقالية القادمة بـ 68 صوتاً، هي مجموع أصوات «الموالاة» ضد بقية الأصوات «المعارضة» الـ,59 التي امتنعت جُلّها عن تسمية أحدٍ، عدا قلة سميت أشخاصا آخرين.
في اعتقادي المتواضع أن اختيار السنيورة جاء ضربة معلم ولو أن فريق الأغلبية أكد على عدم كيدية ذلك الاختيار، الذي أُخذ فيه بعين الاعتبار عدة أسباب وجيهة. أولا جاء اختياره لدهائه السياسي المتمكن، حيث إن السنيورة واضح في خطابه المعتدل، فلم يأتِ بكلمة في غير محلها (سابقا أو لاحقا) إضافة إلى أنه ورقة مستعملة، من الحكمة الاستمرار في الاستفادة منها، بُغية تهيئة «سعد الحريري» أو غيره للدورة القادمة. وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يفلح بعد الفرقاء المتنافسون في الاتفاق على توزيع الحقائب الوزارية بل إن العملية التي قيلت إنها لا تستغرق أياماً معدودات، سوف تستغرق أسابيع. والخلاف الآن يتركز على الحقائب السيادية والخدماتية، لعل أهمها، حقيبة الداخلية التي قد تؤول إلى شخص محسوب على رئيس الجمهورية. أما الحقائب الأربع الباقية (الخارجية والدفاع والمال والعدل) فستتناصف بين المعسكرين اللدودين.
 
صحيفة الوقت
1 يونيو 2008

اقرأ المزيد

خطاب القسم والمقاومة اللبنانية

يكتسب خطاب القسم الذي القاه الرئيس اللبناني ميشال سليمان أمام البرلمان دلالاته المهمة إزاء التحديات والمهام الراهنة الملحة التي تواجه لبنان من جوانب عديدة، ومن أهمها موقف الدولة وعلاقتها بالمقاومة الوطنية ولاسيما في ظل استمرار احتلال اسرائيل لجزء من التراب اللبناني والمتمثل في مزارع شبعا وتلال شوبا، وهنا تكمن بالضبط دلالات الفقرات التي وردت في خطاب الرئيس سليمان بما تنطوي عليه من مواقف مبدئية وطنية تجاه الاحتلال وتجاه المقاومة معا والتي اتخذها بحزم ووضوح مدشنا بها عهده الجديد في ظل الظروف الدقيقة البالغة الخطورة التي تمر بها بلاده غداة ازمة الصدام المسلح الاخير الذي عصف بلبنان عدة أيام قبل انطلاق حوار الدوحة الذي مهد الأرض لانتخاب رئيس توافقي جديد ممثلا في الرئيس ميشال سليمان ذاته.
وفي هذا الصدد أكد سليمان بعبارات لا تقبل اللبس أو المراوغة “إن نشوء المقاومة كان حاجة في ظل تفكك الدولة، واستمرارها كان في التفاف الشعب حولها، وفي احتضان الدولة كيانا وجيشا لها، ونجاحها في اخراج المحتل يعود الى بسالة رجالها، وعظمة شهدائها، إلا ان بقاء مزارع شبعا تحت الاحتلال، ومواصلة العدو الاسرائيلي لتهديداته وخروقاته للسيادة يحتمان علينا استراتيجية دفاعية تحمي الوطن، متلازمة مع حوار هادئ للاستفادة من طاقات المقاومة، خدمة لهذه الاستراتيجية، ونحفظ بالتالي قيمها وموقعها الوطني”.
وفي سياق إشارته للتحديات الامنية القومية الكبرى التي تواجه لبنان في ظل بقاء جزء من اراضيه تحت الاحتلال الاسرائيلي، ومواصلة ما وصفه بكل شجاعة “العدو الاسرائيلي” لتهديداته وخروقاته للسيادة، لم ينس الرئيس سليمان المهمة الوطنية الملحة الاخرى المترابطة مع مهمة بناء استراتيجية الدفاع الوطني والاستفادة مما وصفها بطاقات المقاومة، الا هي مهمة العمل الدؤوب لاطلاق الاسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال “وكشف مصير المفقودين واستعادة ابنائنا الذين لجأوا إلى اسرائيل فحضن الوطن يتسع الجميع”.
ان أهمية هذا الموقف الوطني المبدئي الشجاع الذي اتخذه الرئيس الجديد المنتخب ميشال سليمان انما تكمن فيما تعرضت له المسألة الوطنية، أي قضية تحرير الأرض من الاحتلال من تعقيدات والتباسات عديدة جمة داخل لبنان وعلى مختلف الاصعدة الاقليمية والعربية والدولية على امتداد 30 عاما بالتمام والكمال منذ الاجتياح الاسرائيلي للجنوب في مارس عام 1978، ومرورا بالغزو الاسرائيلي عام 1982، وليس انتهاء ببقاء جزء من الاراضي اللبنانية تحت الاحتلال حتى بعد تحرير الجنوب (مزارع شبعا) عام 2000 ثم عدوان صيف عام 2006 الفاشل. وطوال هذه الظروف والمراحل التي مر بها لبنان في ظل الاحتلال الاسرائيلي لجزء من اراضيه كانت المسألة الوطنية محورا رئيسيا من محاور السجال المحتدم والصراع الداخلي بين الفرقاء اللبنانيين، وعلى الاخص طوال سني الحرب الاهلية (1975-1990)، حتى بلغ الأمر ان طرفا يمينيا معروفا في هذا الصراع كان لا يجد حرجا في الدفاع عن هذا الاحتلال الغاشم وتبرير اسبابه بل والتعاون مع المحتلين ملقيا باللائمة في حدوثه على المقاومة الفلسطينية فحسب أو على الفريق اللبناني المتحالف معها والذي على حد تعبيره يخوض هو والعرب حروبا داخلية بالوكالة عن القوى الاقليمية والدولية في تفجير الوضع الداخلي اللبناني.
وينسى هؤلاء أو يتناسون ان اسرائيل ظلت على الدوام ومازالت تشكل خطرا داهما على الامن القومي اللبناني، كما الامن القومي العربي الشامل، منذ انشائها عام 1948 في قلب الوطن العربي واحتلالها فلسطين، وقد ازداد هذا الخطر الاسرائيلي على الامن القومي اللبناني بعد هزيمة 1967 فاحتلال اسرائيل بعد ذلك لجزء من الأراضي اللبنانية وانطلاق مسلسل اعتداءاتها الوحشية المتواصلة على لبنان. وبسبب هذه الاشكالية المعقدة التي انقسم اللبنانيون حولها، ونعني بها الاحتلال ومشروعية المقاومة، غابت هذه المهمة الوطنية ومفرداتها اللغوية عن الخطاب السياسي لأربعة رؤساء لبنانيين متعاقبين عاصروا الاحتلال الاسرائيلي وهم على التوالي كل من الياس سركيس (1976-1982)، وبشير الجميل (أغسطس 1982 – سبتمبر 1982)، وأمين الجميل (1982-1988)، ورينيه معوض و(اغتيل بعد 17 يوما من توليه سدة الحكم).
ولم تظهر هذه المهمة كقضية ومسألة وطنية ملحة في الخطاب السياسي لرئيس الدولة إلا في ظل عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي (1989-1998)، ثم في عهد أميل لحود (1998-2007). وما كانت لتظهر هذه المسألة الوطنية خلال عهدي هذين الرئيسين وتفرض نفسها لو لم تقو شوكة المقاومة وتقض مضاجع الاحتلال، ولو لم يتعاظم خطر الاحتلال على كل اللبنانيين بعدما تزايدت اعتداءاته وجرائمه الوحشية التي طاولت كل اللبنانيين للثأر من المقاومة وتأديبها على عملياتها العسكرية في مكافحة الاحتلال. ولعل واحدة من المفارقات التي لا تخلو من مغزى في المرحلة التاريخية الراهنة من الصراع العربي – الاسرائيلي وما آلت إليه الاوضاع العربية من تدهور مريع بغياب كل اشكال الممانعة العربية تجاه اسرائيل وانكشاف مظلة الامن القومي العربي ونزوع اغلب الدول العربية للتطبيع والصلح معها انصياعا للإملاءات الامريكية ان لبنان يكاد يكون هو الدولة العربية الوحيدة اليوم الذي ينعت اسرائيل رسميا على لسان رئيسه بـ “العدو الاسرائيلي”، فحتى السلطة الفلسطينية شطبت من قاموسها وخطابها اليومي هذه المفردات وهجرتها لكي لا تغضب اسرائيل والصديق الامريكي.
وما كان هذا الموقف المبدئي على لسان الرئيس لولا ان المقاومة اضحت قوة ومعادلة جديدة يحسب لها ألف حساب في الوفاق الوطني الداخلي، وبخاصة بعد دحر الاحتلال عام 2000، وإفشال الاحتلال الاسرائيلي الغادر صيف 2006، فهل يكون هذا الموقف المبدئي الذي اتخذه الرئيس الجديد ميشال سليمان كرئيس توافق عليه الفرقاء اللبنانيون تجاه المقاومة، كحق وطني مشروع، بداية عهد جديد لتعاون الدولة وجميع الاطراف مع المقاومة نحو صياغة استراتيجية الدفاع الوطني التي نادى بها الرئيس الجديد المنتخب لتحرير الارض والاسرى والدفاع عن الوطن وعدم الانفراد بقرارات الحرب والسلم من قبل طرف وطني وحده وحسب مزاجه وتقديراته الحزبية الخاصة؟
 
صحيفة اخبار الخليج
1 يونيو 2008

اقرأ المزيد

‬صناعة “‬التعصب”

شاركت في‮ ‬ملتقى استضافته إمارة الفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة للبحث في‮ ‬قضايا التنمية الثقافية العربية،‮ ‬تميز بمشاركة مثقفين وفنانين أجانب‮.‬ وجدت في‮ ‬ذلك أمراً‮ ‬لافتاً،‮ ‬فلقد اعتدنا أن نتحدث إلى بعضنا بعضاً،‮ ‬ونقول الكلام الذي‮ ‬يصادف هوى في‮ ‬نفوسنا،‮ ‬لكن من النادر ان نجلس مع ممثلي‮ ‬الثقافات الأخرى على طاولة واحدة،‮ ‬لا لنقول فقط ما نفكر فيه،‮ ‬وإنما نسمع كيف‮ ‬يفكر الآخرون،‮ ‬وكيف‮ ‬ينظرون إلى قضايانا وقضايا عالمنا المعاصر‮.‬
ورغم أن موضوع الملتقى الذي‮ ‬استضافته هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام التي‮ ‬تديرها مجموعة من شبان الفجيرة المفعمين بالحماس والهمة والمأخوذين بالانشغالات الثقافية،‮ ‬كان‮ ‬يتصل بموضوع ثقافي،‮ ‬إلا أن الحوار لامس القضايا الإشكالية التي‮ ‬يواجهها الفكر لا في‮ ‬عالمنا العربي وحده،‮ ‬وإنما في‮ ‬العالم كله‮.‬ كان هناك ضيوف من سويسرا وهولندا وألمانيا وبنغلاديش،‮ ‬وهؤلاء‮ ‬يتبوأون مواقع قيادية في‮ ‬مؤسسات ثقافية وفنية لا في‮ ‬بلدانهم وحدها،‮ ‬وإنما في‮ ‬هيئات ثقافية دولية،‮ ‬مما‮ ‬يجعلهم على تماس مع قضايا الحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة،‮ ‬ليقفوا على المشتركات بين هذه الثقافات وعلى أوجه التمايز والخصوصية أيضاً‮ ‬في‮ ‬كل ثقافة على حدة‮.‬
لفتت نظري‮ ‬مداخلة قدمها ضيف من بنغلاديش،‮ ‬الأستاذ رامندو،‮ ‬وهو مسرحي‮ ‬وفنان تشكيلي،‮ ‬لكنه عبر عن قلقه من تنامي‮ ‬ظواهر التعصب والتطرف والعداء للآخر في‮ ‬بلدان العالم الإسلامي،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك في‮ ‬بلده بنغلاديش‮.‬ تحدث الرجل عن تنامي‮ ‬ظاهرة المدارس الدينية في ‬بنغلاديش،‮ ‬فمع تفشي‮ ‬الفقر والعوز في‮ ‬صفوف القطاعات الشعبية الواسعة خاصة في‮ ‬القرى والأرياف،‮ ‬مع عجز التعليم الرسمي‮ ‬عن استيعاب الأعداد المتزايدة من التلاميذ المتلهفين للمعرفة،‮ ‬فان هذه المدارس التي‮ ‬تحظى بدعم من دول وهيئات عربية توفر لها المال الضروري، ‬تتلقفهم فيتلقى هؤلاء التلاميذ الدروس على أيدي‮ ‬أساتذة محدودي‮ ‬الأفق والوعي،‮ ‬متعصبين ومشحونين بالفكر المتطرف وبالعداء للثقافات الأخرى وللأفكار الحديثة‮.‬
نتيجة ذلك هي‮ “‬تكوين‮” ‬جيل من الناشئة والشبان المشبعين بهذه الأفكار،‮ ‬حيث تتلقفهم الجماعات الإرهابية،‮ ‬التي‮ ‬تجعل منهم وقوداً‮ ‬في‮ ‬معارك عبثية،‮ ‬محرضة في‮ ‬دواخلهم بواعث الكراهية والنقمة والغضب لا على واقعهم البائس الذي‮ ‬يحتاج إلى جهودهم وأدمغتهم من أجل تطويره والارتقاء به،‮ ‬وإنما على العالم وعلى ما فيه من أفكار ومن تراث إنساني‮ ‬حافل في‮ ‬الفكر والفن والموسيقى والمسرح والسينما وغيرها من مجالات‮. ‬
لا نندهش بعد ذلك حين‮ ‬يزج بهؤلاء الشبان العرب والمسلمين في‮ ‬متاهات الانتحار العبثي،‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يودي‮ ‬بحياتهم هم فقط،‮ ‬إنما بحياة المئات وحتى الآلاف من الأبرياء الذين‮ ‬يموتون تحت ركام الأبراج المقصوفة أو في‮ ‬عربات القطارات والحافلات فيما متوجهون إلى أعمالهم‮.‬ علينا تصور أي ‬حجم من الجهود‮ ‬يجب أن تُبذل في‮ ‬سبيل صحوة عربية‮- ‬إسلامية توقف كل هذا العبث الدموي‮.‬
 
صحيفة الايام
1 يونيو 2008

اقرأ المزيد