المنشور

مرحباً بالدولة وبالسلم، وداعاً للحرب وللسلاح!… قراءة رومانسية لمرحلة ما بعد اتفاق الدوحة


رب ضارة نافعة.  ذلك هو المثل الشعبي الذي يطلقه الناس عندما ينتقلون من محنة تصيبهم إلى وضع جديد، مختلف عما كان عليه الحال في لحظة المحنة.  وهو الوضع الذي يعيد لهم بعض الراحة، ويخفف عنهم ما يكون قد لحق بهم من آلام من جراء تلك المحنة.   وهذا هو بالضبط، أو ما يشبهه، القول الضمني الذي عبّر به اللبنانيون بحذر عن مشاعرهم، في أعقاب الإتفاق الذي وقّع في الدوحة.

  وكان هذا  الإتفاق قد ولد، بعسر، بعد أحداث السابع من أيار المأساوية، ثم توّج في الخامس والعشرين من الشهر ذاته بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان، الرئيس الثاني عشر للجمهورية اللبنانية، منذ الإستقلال.  وتشاء الصدف أن يكون هذا اليوم بالذات، هو الذي تم اختياره  ليكون بداية النهاية للأزمة التي عصفت بلبنان، وطالت في الزمن والمحن، وأرهقت اللبنانيين، وعطلت الدولة ومؤسساتها. 

 فمن المعروف أنه في مثل هذا اليوم بالذات من عام 2000، كان لبنان قد حقق، بالمقاومة المسلحة، مقاومة حزب الله، وبالتضحيات الجسام، وبتضامن اللبنانيين من كل الإتجاهات، تحرير أرضه من الإحتلال الإسرائيلي. وهو كان انتصاراً تاريخياً في ذلك العام.  وكان ذلك الإنتصار الأول من نوعه، إنتصاراً غير مسبوق، في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي على امتداد الأعوام التي أعقبت “النكبة”.
صدفة هي أم ميعاد، تطابق هذين الموعدين، موعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، بعد سبعة أشهر من التعطيل المفتعل لهذا الإستحقاق، والعيد الثامن لتحرير الأرض من الإحتلال الإسرائيلي.  لا يهم.  فرب صدفة هي خير من ميعاد.
فرح اللبنانيين باتفاق الدوحة كان عظيماً.   لكن هذا الفرح العظيم، برغم صدق الشعور فيه، وبرغم أهميته السياسية، لم يقلل من الغصة عند كثرة من اللبنانيين.  ومصدر هذه  الغصة يكمن في الآلام العميقة التي سبقت ذلك الفرح.  وطبيعي أن يكون من حق اللبنانيين، في شكل عام، ومن حق بعض اللبنانيين، خصوصاً، الذين فقدوا أعزاء لهم خلال اجتياح حزب الله للعاصمة بيروت ولبعض مناطق الجبل، ومن حق كثرة من اللبنانيين الذين دفعوا من أموالهم وأرزاقهم الكثير في ذلك الإعتصام الذي عطلت به المعارضة وسط بيروت خلال عام ونصف العام، من حق اللبنانيين هؤلاء أن يسألوا، أو يتساءلوا، من دون أن يتنظروا الجواب من أي كان: هل كان اتفاق الدوحة الذي فرحوا به بحاجة، لكي يتحقق، إلى كل هذه الآلام، وإلى كل هذه الكوارث والمآسي، وإلى كل هذه التضحيات البشرية والمادية؟  وهل كان اتفاق القادة من طرفي الصراع بحاجة إلى كل هذا الحشد من القوى العربية والعالمية لكي يتمكنوا من الوصول إلى هذا الإتفاق؟  وهل كنا بحاجة فعلاً إلى كل هذا الحشد الكبير أيضاً لتأمين انتخاب الرئيس التوافقي العماد ميشال سليمان؟
لكن السؤال الأكثر إلحاحاً، بالنسبة إلى الكثرة الكبيرة من اللبنانيين، هو ذلك السؤال الذي لا يقدرون جميعهم على طرحه بالجرأة وبالصراحة المطلوبين، اليوم وربما غداً وبعد غد:  هل كان لبنان حقاً بحاجة إلى أن يبقى على الدوام في حالة مقاومة مسلحة، بديلاً من الدولة، بعد أن حقق شعبه، بتلك المقاومة بالذات، وبذلك التضامن الشعبي والسياسي، الإنتصار على العدو الذي كان يحتل الأرض، وأخرجه بالتضحيات الجسام مدحوراً؟  وما هي الحكمة في أن يبقى لبنان لوحده، بعد أن حرر أرضه، ساحة مفتوحة للصراع، تمارس فيها كل قوى الأرض تناقضاتها، على حساب مصلحته هو، أي لبنان، وعلى حساب حرية شعبه وأمنه وسلامه؟
ليس ضرورياً أن يجاب عن هذه الأسئلة اليوم، في هذه اللحظة العارمة العامرة بالفرح، المفتوحة على مستقبل أفضل، بالطريقة التي طرحت فيها.  ولا بد أن يأتي اليوم، ولو بعد حين، لتطرح فيه الأمور بحرية أكثر وبمسؤولة أكبر، وبمراجعة نقدية يقوم بها الجميع من مواقعهم المختلفة.  لكن الإجابة الأصح والأسلم عن هذه الأسئلة، في هذه اللحظة بالذات، الإجابة  الأكثر واقعية، التي يطالب بها اللبنانيون جميع القوى السياسية من دون استثناء، هي التي تتمحور حول مدى الجدية والصدقية في  ولوج لبنان، فعلاً لا قولاً، في شكل طبيعي، في إطار اتفاق الدوحة، وعلى قاعدة الدستور الذي أسس له اتفاق الطائف، ولوجه الطريق الموصل إلى استعادة سلامه وحريته واستقلاله.  وهو الطريق الذي يفترض أن تستعيد فيه الدولة وظائفها كاملة، ويستعيد فيها المجتمع اللبناني حريته كاملة، ويتم فيه الإحتكام إلى الديمقراطية التي كانت في أساس قيام لبنان، في تاريخه القديم وفي تاريخه الحديث.
على قاعدة ما تقدم أود أن أسهم في عرض تصوري لمرحلة ما بعد اتفاق الدوحة، ولمرحلة ما بعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية.  وهذا التصورهو  أشبه ما يكون بالقراءة الرومانسية لمستقبل لبنان في الحقبة القادمة.  والرومانسية، في قراءتي هذه للمستقبل، تكمن في أن ما  أطرحه من مهمات للجمهورية الثالثة، إنما يحتاج إلى وقت لكي يتطابق مع الوقائع الجديدة.  يتمثل الضروري من هذه الوقائع بارتقاء القوى السياسية المتصارعة إلى إدراك مسؤولياتها في التعامل مع بلدها.  كما يتمثل باستعادة المكونات الشعبية اللبنانية وعيها، لكي تكون، بالفعل لا بالغرائز، رقيباً حقيقياً على القيادات السياسية، وعامل ضغط على تلك القيادات لكي تقوم بالدور الذي يعود لها بالحفاظ على الوطن ومصالحه وعلى الشعب وحقوقه، بدل أن تكون هذه المكونات فاقدة للوعي وللإرادة، منساقة، في شكل غرائزي أعمى، وراء زعاماتها، وهي تمارس، أي هذه الزعامات، بحق الوطن والشعب، هذا الفعل التدميري للبنان من خلال انقساماتها وصراعاتها واستقوائها بالخارج.  وحين يلج لبنان هذا الطريق يكون قد دخل في الجمهورية الثالثة.
 
وفي الواقع،  فحين أتحدث عن الجمهورية الثالثة في لبنان، فلست أرمي بذلك إلى تجاوز ما نص عليه اتفاق الطائف.  بل إن ما أرمي إليه هو الإسهام في التحديد الدقيق للديمقراطية التي نص عليها اتفاق الطائف، من خلال إدخال بعض التدقيقات والتوضيحات والإضافات إلى هذا الإتفاق، لكي يتم البدء بتطبيق بنوده، وبنود الدستور الجديد الذي قام على أساس هذا الإتفاق، تطبيقاً صحيحاً، خلافاً لما ساد طويلاً في ظل الوصاية السورية.  فمن المعروف أن تلك الوصاية قد عملت على تجاوز بنود اتفاق الطائف، وعلى القفز فوقها، وعلى تعطيلها، وعلى تغييب جوهر ما رمى إليه الإتفاق، نصاً وروحاً.  وكان الهدف من ذلك التعطيل لاتفاق الطائف إبقاء لبنان رهينة لمصالح أصحاب تلك الوصاية، بهدف الوصول، في نهاية المطاف، إلى إلحاق لبنان بالوصي الشقيق الجار، سوريا، بدلاً من أن تكون العلاقة بين البلدين الشقيقين الجارين علاقة أخوية ندية تعمق الروابط التاريخية بينهما.   وهذا الأمر، أعني إعادة العلاقة بين سوريا ولبنان إلى طبيعتها التي أشرت إليها، يشكل اليوم هدفاً حقيقياً مطروحاً أمام جميع اللبنانيين العمل من أجل تحقيقه. 
إن هدف هذه التدقيقات والتوضيحات والإضافات هو الوصول إلى الصيغة التي تجعل الديمقراطية اللبنانية، العريقة في وجودها في هذا البلد، ديمقراطية أكثر رسوخاً، وأكثر قدرة على طمأنة جميع مكونات المجتمع اللبناني إلى أن حقوقها مصانة، وإن صيانة حقوقها هي من صلب هذه  الديمقراطية، التي استلهمها لبنان مما هو سائد في الأنظمة التي تحمل تلك الصفة في عالمنا المعاصر. 
غير أن الكلام عن الجمهورية الثالثة، لا سيما بعد توقيع اتفاق الدوحة، إنما يشير إلى أننا، باعتماد هذه الصيغة التي أشرت إليها لتطبيق اتفاق الطائف، من جهة، والبدء بتطبيق بنود هذا الإتفاق من دون تشويه أو إعاقة، من جهة ثانية، إنما ننتقل من جمهوريتين، هما جمهورية الإستقلال وجمهورية الوصاية السورية، إلى الجمهورية الثالثة، الجمهورية الديمقراطية البرلمانية، جمهورية التعدد والتنوع والإستقرار، جمهورية التطور في الإتجاه الأكثر ارتقاءاً، والأكثر استجابة لحاجات الشعب اللبناني، والأكثر تعبيراً عن أن لبنان هو جزء من العالم العربي وأنه جزء، في الوقت عينه، من العالم المعاصر، ومن تحولاته، مسابقاً في ذلك العديد من أشقائه العرب.
إن الحديث هنا عن الجمهورية الثالثة ليس جديداً بالنسبة إليّ.  فقد سبق لي أن أصدرت كتاباً تحت هذا العنوان في عام 2001، العام الذي تلا تحرير الأرض من الإحتلال.  وقد ركزت في فصول الكتاب على الأمور التي  اعتبرتها أساسية وجوهرية في تلك الحقبة، لكي يستعيد لبنان كيانه وحريته واستقلاله وسلامه، بعد عقد على انتهاء الحرب الأهلية، وبعد عام على تحرير الأرض. 
وإذ أشير إلى هذه الأمور التي ظلت تشغلني، مثلما تشغل شعبي، فلكي أتابع الجهد في الإتجاه ذاته.  لكنني لن أدخل هنا في قضايا ذات أهمية متصلة بتاريخنا القديم والحديث وبصراعاتنا وباستقوائنا بالخارج وبالنتائج التي ترتبت على ذلك الوضع.  سأدخل مباشرة في البحث في المهمة الراهنة المطروحة أمام جميع اللبنانيين، المهمة، التي  بانخراطنا في إنجازها، نسهم في إخراج بلدنا من الأزمات التي ظلت تعصف به منذ الإستقلال حتى هذه اللحظة من تاريخه.
فما  هي هذه الإقتراحات التي أرى ضرورة إدخالها في الدستور، أو في القوانين، لكي تؤمن، في الواقعية، الصيغة الأكثر استقراراً للنظام الديمقراطي في لبنان؟
 
 الإقتراح الأول :

يتعلق بتحديد الصيغة التي تؤمن احترام التنوع والتعدد في المجتمع اللبناني، الصيغة التي تم تبنيها في اتفاق الطائف.  وهو ما يتعزز بالإقرار باللامركزية الإدارية، التي تتشكل من مجالس محافظات ومجالس أقضية ومجالس بلديات منتخبة جميعها ديمقراطياً، أي خارج التقسيم الطائفي.  ويتم ذلك بإعادة تشكيل المحافظات من خلال زيادة عددها.  على أن يراعى في زيادة العدد التمثيل الصحيح من جهة، ووحدة الشعب من جهة ثانية.  وبالطبع فإن  اللامركزية لا يجوز بأي شكل من الأشكال أن تتعارض مع مركزية الدولة في مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والمالية والقضائية والدفاعية والأمنية، وفي السياسة الخارجية.  لأن مثل هذا التعارض، إذا ما حصل، يكون بداية حقيقية لتقسيم البلد، أي لتحويله إلى فدرالية طوائف، مهيأة في أي وقت للإنتقال إلى نزاعات فيما بينها وإلى حروب أهلية.  إن هذه  المؤسسات المركزية، أسوة بما هو قائم في الكثير من الأنظمة الديمقراطية، هي التي تؤمن وحدة الدولة والوطن والشعب، وتؤمن استقلال البلاد عن كل تدخل خارجي في شؤونها.



الإقتراح الثاني:

 يتعلق بتحديد الصيغة التي تضمن لكل مكونات المجتمع وجودها وحقوقها الطبيعية.  وهذا التحديد وضعه اتفاق الطائف، وأكد فيه على أن تكون مؤسسات الدولة كلها مكونة من مسيحيين ومسلمين بالتساوي، لا سيما في السلطتين التشريعية والتنفيذية.  وقد نص اتفاق الطائف على إنشاء مجلس شيوخ يمثل تمثيلاً دقيقاً كل الطوائف اللبنانية.  لذلك ينبغي وضع هذا البند من الإتفاق موضع التنفيذ.  على أن تكون وظيفة هذا المجلس مشاركة مجلس النواب في اتخاذ القرارات المصيرية وحدها، من دون أي تدخل منه، أي مجلس الشيوخ، في القضايا المتصلة بإدارة شؤون البلاد اليومية.  والمقصود هنا بالقضايا المصيرية تلك القضايا التي تتعلق بالحرب وبالسلم، وبتوقيع المعاهدات، وبتعديل الدستور، وبسوى ذلك مما يتصل بحياة الوطن وبمصائره، وبنظامه الديمقراطي.



الإقتراح الثالث :

يتعلق بالنظام الإنتخابي الذي يستند إليه اللبنانيون لاختيار ممثليهم في المؤسسات والهيئات المنتخبة.  وهو الأمر الذي كان على الدوام موضوع خلاف واختلاف لم يكن من الممكن الحسم فيهما حتى هذه اللحظة من تاريخ لبنان، بما في ذلك في اتفاق الدوحة ذاته.  وفي اعتقادي فإن أفضل صيغة تحترم فيها إرادة اللبنانيين هي أن يكون الإنتخاب إلى مجلس النواب على مستويين مناصفة: نصف عدد النواب ينتخبون على أساسالدائرة الفردية المتساوية فيها نسب الناخبين.   والنصف الثاني من النواب ينتخبون على أساس الدائرة الوطنية  القائمة على النسبية.  على أن تحترم في كل من المستويين المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.  ولهذه المناصفة الطائفية وظيفة، تتصل بخصوصية لبنان، القديمة والثابتة، في محيطه العربي الكبير.  وجوهر هذه الوظيفة هو الإقرار، من خلال المناصفة الطائفية، بهذه الخصوصية للبنان، التي ينفرد بها عن سائر البلدان العربية.  أما فيما يتعلق بالمجالس المحلية، في المحافظات والأقضية، وبالمجالس البلدية، فيجب اتباع النسبية، وتجاوز القيد الطائفي في التمثيل.

 
الإقتراح الرابع :

يتعلق بالبحث في إعادة صياغة الأسس والقوانين التي تؤمن لمؤسسات الدولة القيام بوظائفها، وذلك أخذاً في الإعتبار التجربة التي مر بها لبنان، منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب حتى هذه اللحظة من تاريخه.  وفي تجربة الرئيس شهاب ما يستحق العودة إليه، وتجديده.  وتوجد في الأدراج قوانين كانت سائدة، تم تجاوزها، وتشويهها في التعديلات التي كانت تخدم مصالح ومطامح ومطامع، نأمل أن يكون لبنان قد بدأ، في العهد الجديد، التحرر منها، لصالح الوطن، ولصالح الشعب.  وعندما نتحدث عن المؤسسات القديمة، وعن القوانين التي وضعت لتأمين شروط أفضل لممارسة وظائفها، فإنما نرمي إلى الربط بين أمور أساسية:  التقدم الإقتصادي في مجالاته كافة، الذي توفره وتوفر شروطه القطاعات المنتجة، والدخول في ميدان إنتاج التكنولوجيا الحديثة، والتقدم العلمي والمعرفي الذي تؤمنه المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث الرسمية والخاصة، والتقدم الإجتماعي الذي يتمثل بوضع القوانين المتصلة بالأجور وبتأمين فرص العمل للشباب، وبالضمانات الصحية خصوصاً، وبضمان الشيخوخة ونهاية العمل، وسوى ذلك من ضمانات، والتقدم العمراني، الذي يجب أن توضع له قوانين تحد من عشوائيته، والتقدم في ميدان الحفاظ على البيئة.
ربما يكون من الرومانسية التفكير بإخراج لبنان من النظام الطائفي، في صيغته القديمة وصيغته الجديدة الراهنة.  لكننا لا نستطيع إلا أن نحلم بذلك، وأن نناضل من أجل أن نحقق هذا الحلم.  وربما يكون من المفيد، في هذا الصدد، أن نستعين بمادتين.   الأولى مستقاة من الدستور القديم، المادة 95، التي تشير إلى الإتجاه لتحرير لبنان من الطائفية.  والمادة الأخرى، التي وردت في اتفاق الطائف، والتي تدعو إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية من النظام السياسي.  وتدخل، في هذا السياق، الحاجة للبدء بوضع قانون جديد للأحوال الشخصية، من خلال ترك الحرية للمواطنين في اختيارهم نمط أحوالهم الشخصية.   هذا أولاً.  ثم جعل المحاكم الشرعية أكثر استقلالاً عن مرجعياتها الدينية، عبر تحويلها إلى محاكم يُختار لها، من خلال مجلس الخدمة المدنية، أصحاب الكفاءات العلمية التي بوجودها في هذه المحاكم تحررها، أي هذه المحاكم، من مزاجية لا رقابة عليها في تطبيق الشرائع الدينية للطوائف المختلفة، وتدخلها أكثر في صلب تلك الشرائع، مأخوذاً فيها في الإعتبار، العصر وتحولاته وتحولات البشر فيه.
هذه الخطوط العريضة التي تشكل، في نظري، أساساً لقيامة لبنان فيما يشبه جمهورية ثالثة، إنما تحتاج إلى أن تخرج عن صمتها تلك المجموعات الكبيرة من اللبنانيين، وتشكل بنهضتها الواعية كتلة تاريخية حقيقية حاملة مشروع لبنان الغد، لبنان الديمقراطي الحر السيد المستقل، لبنان التعدد والتنوع، لبنان الذي امتاز دائماً بصيغته الديمقراطية عن كل جيرانه وأشقائه، لبنان الثقافة والإبداع المفتوح على كل منجزات العصر في ميادينها المختلفة.  هذه القوى الكبرى من اللبنانيين، إذ تنهض للقيام بدورها التاريخي هذا، فإنها معنية، وهي في طريقها إلى تحقيق الحلم ببناء لبنان الغد، بأن تجهد لجعل المجتمع اللبناني، بمؤسساته المختلفة، مؤهلاً للتعامل مع الدولة، ليس فقط فيما يتعلق بوظيفتها كضامنة لوحدة اللبنانيين، والمدافعة عن استقلال لبنان وسيادته، بل كذلك للإهتمام بكل ما يتصل بمصالح الشعب، في كل المجالات، ومنع استئثار الرأسمال وأربابه بالثروة الوطنية.

 
إلا أن لهذه الإقتراحات التي أسوقها هنا شرطاً ضرورياً، وأساسياً، لكي يكون بالإمكان الحلم بتطبيقها، والحلم بالسلم وبالحرية، في ظل ولوج الطريق إلى تطبيقها.  يتمثل هذا الشرط بتحقيق أمرين متلازمين:

 الأمر الأول : هو الإقرار من كل المكونات السياسية والطائفية اللبنانية بالدور الوحيد للدولة في كل ما يتصل بشؤون الوطن، لا سيما ما يتعلق بالدفاع عن أرضه وبتحرير ما تبقى منها تحت الإحتلال، وبتأمين مستلزمات حريته واستقلاله وسيادته. 

 الأمر الثاني : هو الدخول في زمن السلم من أبوابه الواسعة تحت الشعار الذي ينتظره اللبنانيون: وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلاح.

 
قد يبدو في هذا الطموح أنني أذهب في اتجاه الحلم.  لكنني أعتبر أن اتفاق الدوحة، الذي يعيد الإعتبار إلى اتفاق الطائف، قد مهد له.  وفي أي حال فإن أي تغيير من النوع الذي يحتاج إليه لبنان واللبنانيون لا بد أن يكون مقترناً بحلم يؤسس لغد أفضل.  وأزعم أن الوقائع الجديدة قد بدأت تشير إلى أن لبنان واللبنانيين قد بدأوا يقتنعون بالمخاطر التي قادهم إليها استقواؤهم بالخارج، وبأنهم باتوا أكثر تصميماً على الخروج من حروبهم الداخلية والخارجية على حد سواء.  ويعزز قناعتي هذه ما شهدته من مظاهر فرح، في أعقاب إعلان اتفاق الدوحة وفك الإعتصام الأسود، في وسط بيروت، ثم في يوم انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية.  فهي مظاهر تعيد إلى الأذهان مشهد اللبنانيين الذين خرجوا في الرابع عشر من آذار من عام 2005 ليعلنوا رغبتهم في الدخول في عصر الحرية والديمقراطية والإستقلال، وفي عصر السلم، عصر الدولة.  وإذا كانت الأحداث التي شهدها لبنان في السنوات الثلاث الماضية، بدءاً بالإغتيالات التي طالت رموزاً سياسية وثقافية وإعلامية كبيرة، مروراً بحرب تموز وبنتائجها الكارثية، وصولاً إلى الإعتصام السيء الذكر، وحرب بيروت الظالمة الأخيرة، إذا كانت تلك الأحداث قد خلقت إحباطاً لدى الشباب ويأساً، أو ما يشبه اليأس من المستقبل، فإن اتفاق الدوحة وانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، ومظاهر الفرح التي شملت بيروت وسائر المناطق، إن كل هذه الوقائع الجديدة مرشحة لأن تعيد إلى أولئك الشباب الحلم من جديد بوطن حر سيد مستقل، وطن لكل أبنائه، وطن لوحدتهم ولحقوقهم ولآمالهم بالمستقبل.
 

اقرأ المزيد

الأمن الوطني والمواقع الطائفية

لقد رحب الكثيرون بالأنباء التي انطلقت بعد لقاء جلالة الملك بمجلس الوزراء في 19 يونيو/ حزيران الجاري، والتي تتعلق بضرورة الوقوف بحزم أمام مصادر بث الكراهية بين المواطنين، وجاء قرار مجلس الوزراء بعد ذلك بتشكيل لجنة وزارية تتكون من وزير الداخلية ووزير العدل ووزير الإعلام لضبط الوضع ومنع انتشار تلك المحتويات التي تنال من الذات الملكية أو سمو ولي العهد أو الوحدة الوطنية أو الطائفية أو عروبة البحرين. ونحن نبصم بالعشر على هذه الأسس التي تحفظ لنا بلادنا وسيادتها ووحدة شعبها. وكان قرار وزارة الإعلام بإغلاق ثلاثة مواقع قد اتسم بالحكمة إذ إنه شمل مواقع محسوبة على جهات نافذة، وكذلك على مواقع معارضة. ولكن المفاجئ هو دخول جهاز الأمن الوطني على الخط بشكل ملحوظ، إذ قام باعتقال عدد من القائمين على موقع «أوال» ونشرة «الوفاق» وربما مواقع أخرى.
اللجنة الوزارية لم تحتوِ على من يمثل جهاز الأمن الوطني، (على الرغم من أن قرار تشكيل هذه اللجنة قد تضمن فقرة فضفاضة تشير إلى ضم «كل ما تراه مناسباً من الجهات ذات الاختصاص» إلى عضويتها)، وعندما استفسر البعض من وزارة الداخلية قيل لهم إن الاحتجاز والتحقيق بواسطة جهاز الأمن الوطني ليس من جهتهم لأن الجهاز مستقل. والأمر كذلك بالنسبة إلى وزارة الإعلام التي لم يكن لها دخل في الاعتقال والتحقيق، على الرغم من أنها الجهة المعنية بالدرجة الأولى، وكان بإمكانها أن تحوِّل ملفَّ أيِّ شخص أو جهة إلى النيابة العامة لكي يمارس القضاء دوره. فالنيابة العامة تفسح المجال لحضور المحامي وتتخذ إجراءات أكثر وضوحاً، أما جهاز الأمن الوطني فإن مهماته منوطة بالسرية.
إن دخول جهاز الأمن الوطني – وعدم صلاحية اللجنة الوزارية بشأن ما يجري لهذا الشخص أو ذاك – قد يؤدي إلى إطلاق يد الجهاز بشكل غير مؤطر بإطار واضح، وبالتالي فإن الإجراءات التي تبدو مشروعة تجاه قضية ما قد تتطور لتدخل في ما يتعلق بالحريات العامة التي كفلها الميثاق والدستور والعهود الدولية.
جهاز الأمن الوطني قال إن عملية استدعاء القائمين على المواقع الالكترونية التي تم إغلاقها مؤخراً وتلك التي تسيء إلى الوحدة الوطنية وتقوم بالترويج للطائفية فى المجتمع «مازالت مستمرة» وذلك بغرض «التنبيه» إلى خطورة تداعيات ما تبثه هذه المواقع من أخبار ومعلومات كاذبة ومغرضة ومثيرة من شأنها اضطراب الأمن العام وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة وأمن المملكة.
ونحن نتفق على ضرورة مكافحة المحتويات الطائفية ونتفق على ضرورة «تنبيه» هذه الجهة أو تلك، ولكن ومن أجل الحفاظ على دستورية الإجراءات فإن من اللازم الانتباه إلى ضرورة الشفافية في التعامل وعدم خلط الأوراق والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يثير تساؤلات حول طبيعة الإجراءات المتخذة.

صحيفة الوسط
30 يونيو 2008

اقرأ المزيد

مكانة رجل الدين


رجل الدين في أي مجتمع من المجتمعات كائنا من يكون دينه أو مذهبه أو طائفته يحظى بمكانة خاصة في هذا المجتمع بوجه عام وفي أوساط فئته الدينية الاجتماعية بوجه خاص. إن هذه المكانة والاحترام اللذين يتمتع بهما رجل الدين ينبعان من الرسالة والدور الكبير الذي يضطلع به كمرشد روحي ومصلح ديني واجتماعي وقدوة للفضيلة ومكارم الأخلاق.
وبهذا المعنى فانه اذا ما اهتزت هذه المكانة بالاساءة المقصودة أو غير المقصودة لصاحبها كان ذلك دافعا لحدوث توترات واضطرابات في الاوساط الاجتماعية والدينية غير محمودة العواقب في البلدان المعروفة بتعدديتها الدينية أو المذهبية، ولاسيما اذا ما جاءت الاساءة على لسان فرد من احدى الطوائف بحق رجل دين من طائفة اخرى. ولعل مما يفاقم من مخاطر مثل هذه الاساءة حينما تأتي بحق رجل دين معروف بثقله الكبير في أوساط طائفته فتؤخذ هذه الاساءة على انها اساءة بحق الطائفة برمتها، سواء قصد مطلق الاساءة بذلك أم لم يقصد بذلك.
وفي الوقت الذي يضطلع رجال الدين بأدوار استثنائية في المحافظة على السلم الاجتماعي في مجتمعاتهم وضرب قدوة عليا في التسامح والمجادلة بالتي هي أحسن من خلال احترام بعضهم بعضا وعدم التراشق بسقط الكلام او الكلمات النابية والقذف الشخصي المتبادل في خلافاتهم الفقهية والسياسية فانه للأسف الشديد هذا لا يحدث في اغلب بلداننا العربية وبخاصة تلك المعروفة بتعدديتها الدينية والطائفية حيث تجري الملاسنات وتحتدم علنية على منابر الجوامع والمساجد وعلى صفحات الصحف أمام الملأ والعامة، مما يعني عمليا ان رجال الدين هم أنفسهم في كثير من الأحيان يسهمون بأنفسهم في اهتزاز هيباتهم ومكاناتهم في المجتمع بانزلاقهم الى هذه المناكفات الصبيانية.
نقول هذا وان كان المعنيون من رجال الدين بهذه الملاسنات والمناكفات ليسوا جميعا يتحملون المسؤولية بدرجة واحدة، فمنهم من يعمد إلى جر نظيره في الطائفة الاخرى بغرض تسميم اجواء التعايش بين الطائفتين ودفعهما الى التحارب خدمة لأجندة سياسية معروفة. وهنا فان رجل الدين المستهدف يفترض بأن يتحلى بأقصى درجات ضبط النفس لتفويت هذه الاهداف والمآرب التي يبطنها نظيره في الطائفة الاخرى، وإلا فكلاهما يسهمان في تحقيق هذه المآرب التي تعود بالوبال على تماسك جبهتنا الداخلية ويعرض وحدتنا الوطنية إلى المزيد من التمزق والاهتزاز. لقد اثبتت التجربة التاريخية على مدى ثلاثة عقود ونيف منذ صعود تيار الاسلام السياسي ان القوى الوطنية والديمقراطية هي اكثر القوى التي تنتقد رجال الدين على أفكارهم السياسية والاجتماعية فحسب، دونما ان يطاول النقد شخصية رجل الدين أو يسيء إلى مكانته واحترامه، ودونما ان يتضمن هذا الانتقاد ايضا اساءة مباشرة او ايمائية الى الطائفة التي ينتمي إليها رجل دين كائنا من تكون طائفته.
ولم يحدث قط ان وجه كاتب وطني او ناشط سياسي انتقادا لرجل دين حمل على انه اساءة لطائفته او لمعتقده الديني، وان كان رجل الدين المعني بهذا الانتقاد عادة ما يحاول تأويل هذا الانتقاد السياسي لموقف رجل الدين على انه انتقاد للدين وقيمه وخروج على الشريعة. وعلى العكس من ذلك فانه من النادر ان يتلاسن رجال الدين من الطوائف المختلفة دونما ان ينسحب ذلك على احداث نعرات وتوترات بين هذه الطوائف. ولذلك قلنا إن مسؤولية رجل الدين ورسالته في المجتمع جد خطيرة. ان رجال الدين بامكانهم ممارسة الاختلاف بين بعضهم بعضا دونما الحاجة الى التراشق والقذف بسفاسف الكلام والايماءة بالحط من قدر طوائفهم، لا بل هم الذين يتحملون المسؤولية في توخي الحذر من الفتن الطائفية والحض على التسامح والتآخي الديني والوطني بين ابناء الطائفتين وليس العكس.
وينبغي ان نفرق جيدا بين النقد السياسي لرجل الدين حول أي موقف يتبناه وبين التجريح الشخصي له وللطائفة التي ينتمي إليها. ولو كنت مكان رجل الدين لابتعدت عن الحياة السياسية للحفاظ على المكانة التي اتمتع بها في المجتمع من الاهتزاز. على ان دخول رجل الدين معترك الحياة السياسية لا يعني البتة تبرير الاساءة إلى شخصه أو لطائفته تحت ذريعة الاختلاف السياسي أو الفقهي معه. اذكر اني كتبت في غير مرة ان احترام رجل الدين في مجتمعنا هو من القيم والمبادئ السامية التي فطرنا وتربينا عليها في مجتمعنا، مثلها في ذلك مثل قيم احترام الوالدين والمسن الكبير والمرأة.. إلخ، وغير ذلك من قيم انسانية ودينية واعتقد أنه بات لزاما على الجميع الحفاظ على هذه القيمة الدينية الانسانية بالامتناع حتى عن ممارسة أصغر الاساءات على نحو ما تعود بعض الكتّاب بالاشارة في كتاباتهم إلى بعض رجال الدين مجردين من ألقابهم الدينية، فهذا لا يجوز وغير مقبول في أعمال النقد والانتقاد، اخلاقيا وأدبيا لأن من شأن ممارسة كهذه تأليب القلوب واثارة الضغائن واثارة نقمة جماعية ضد أصحاب هذه الممارسة من الطائفة التي ينتمي إليها رجل الدين المستهدف بالنقد، وبخاصة إذا ما كان يتمتع بشعبية وكارزمية في اوساط طائفته.
 
صحيفة اخبار الخليج
30 يونيو 2008

اقرأ المزيد

الذود عن المصالح في العلاقات الروسية الأوروبية

منذ أشهر كانت مدينة خانتي – مانسيسك الواقعة في أطراف روسيا الشمالية تستعد للحدث الذي شهدته يومي الخميس والجمعة الماضيين. في المدينة التي ازدانت بمئة وخمسين ألف وردة عقدت القمة الـ 21 بين روسيا والاتحاد الأوروبي. ورغم أن الحدث كبير، إلا أنه لم يكن بين الضيوف الأوروبيين شخصيات من الوزن الثقيل. أبرز الحاضرين ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى لشؤون الخارجية والأمن، رئيسة المفوضية الأوروبية (حكومة الاتحاد الأوروبي) جوزيه مانويل باروزو، ويانيش يانسا رئيس وزراء جمهورية سلوفينيا التي ترأس الاتحاد الأوروبي حالياً. عشاء غير رسمي تبعته مشاهدة لمباراة كرة القدم بين روسيا وإسبانيا، وفي وقت مبكر من صباح الجمعة تهيأت الفرصة لإجماع واحد على الأقل بتأجيل الافتتاح ثلاث ساعات.
ومع ذلك للحدث أهميته من نواح عدة. في ديسمبر/ كانون الأول الماضي انتهى سريان مفعول الاتفاقية السابقة. وكان من الممكن تمديدها ببساطة. لكن كلا من موسكو وبروكسل مقتنعتان بأنها لا تلبي راهن علاقاتهما ومستقبلها. غير أن عقبتين اعترضتا، فأفشلتا المفاوضات التي جرت في سمارا الروسية العام الماضي بشأن الوثيقة الجديدة. حالت بولندا وليتوانيا دون ذلك بسبب مطالب اقتصادية وسياسية من قبلهما تجاه روسيا. والآن تمكن الاتحاد الأوروبي بصعوبة من إزالة اعتراضات البلدين.
حضر الطرفان وهما مدركان لاختلاف الرؤى والمصالح بينهما. الرئيس الروسي قال قبيل ساعات من اللقاء إنه يجب أن يسفر عن «وثيقة مهمة، لكنها يجب ألا تثقل بأشياء مطلقة ومحددة. يجب أن تكون بمثابة تصميم إطاري يضع القواعد الأساسية لتطور العلاقات على مدى السنوات المقبلة». وتحدث ميدفيديف عن «خارطتي طريق»؛ الأولى لفضاء التعاون الاقتصادي الشامل، والثانية، بشأن الأمن الداخلي في أوروبا. لكنه أكد أن «الأهم بالنسبة إلينا اليوم هو إلغاء نظام تأشيرات الدخول»، أما المفوضة الأوروبية للشؤون الخارجية بينيتا فيرريرو والدنر فقد أكدت أن الاتحاد الأوروبي متجه نحو «اتفاقية طموحة، متعددة الجوانب، ملزمة قانوناً وتشمل كل المجالات الرئيسة للتعاون فيما بيننا».
الخلاف واضح بشأن شكل الوثيقة المنشودة، لكن الخلاف أعمق بشأن ما ستتضمنه من محتوى. مدينة خانتي – مانسيسك المضيفة هي نفسها تشي بالقضية الأساس بالنسبة إلى الأوروبيين. شركة الطاقة المساهمة هنا تحتل المرتبة الأولى في روسيا من حيث إنتاج النفط والطاقة الكهربائية، والثانية في إنتاج الغاز الطبيعي. وكما أشارت صحيفة «غازييتا»، فهنا بالذات تتشكل أنهر الطاقة التي تصب في أوروبا. وفي خطابه، أكد مدفيديف أن اللقاء يكتسب مغزى خاصاً كونه ينعقد على خلفية تصاعد مشكلات الطاقة «رغم أننا عندما دعوناكم لهذا اللقاء قبل ثمانية أشهر لم يكن يدور بخلدنا مدى الحدة التي ستبلغها هذه المشكلة».
إذاً، الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى روسيا كمُصدّر لمواد الطاقة، وكسوق لتصريف المنتجات الأوروبية. وترجمة ذلك في المفاوضات تعني السعي إلى كبح أسعار مواد الوقود وإطلاق العنان لأسعار المنتجات الأوروبية. كان الاتحاد الأوروبي يسعى إلى إجبار روسيا على التوقيع على ميثاق للطاقة وبروتوكول «ترانزيت» ملحق بالميثاق ويسمح للاتحاد الأوروبي بالوصول الحر إلى خطوط أنابيب النقل الرئيسة من شمال روسيا إلى أوروبا. ويصر على أن يصبح الميثاق والبرتوكول جزءين لا يتجزءان من الاتفاقية الجديدة. وفي حين تقاوم روسيا ذلك تعمل بالمقابل على إزالة الحواجز من وجه الاستثمارات الروسية في أوروبا. الحديث هنا يدور عن محاصرة الاتحاد الأوروبي محاولات شركة «غازبروم» الروسية لشراء شبكات توزيع الغاز في أوروبا.
في هذه المواجهة يستخدم الاتحاد الأوروبي الأسلحة ذاتها التي يستخدمها في التفاوض مع بلدان مجلس التعاون الخليجي: موضوعَي قمع الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان. وفي روسيا على الأقل لم يثبت الاتحاد الأوروبي مبدئيته. ففي حين كانوا يقصدون بقمع الديمقراطية إزاحة «البرتقاليين» بقيادة كوسيانوف، فإنهم لا يبدون أي احتجاج حيال ما يعانيه ناشطو وقادة القوى اليسارية الأكثر عدداً وأصالة في روسيا. كما يواجهون روسيا بتشكيلة واسعة وصارمة من المطالب ابتداء من وقف دعم أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وحتى المطالبة بتوضيحات بشأن «قضية ليفينينكو».
أشارت صحيفة «نيزافيسيمايا غازييتا» إلى أنه مع هذه العصا تلوح أوروبا لمدفيديف بجزرة التأشيرات التي طالب بإلغائها كهدف رئيس. لكنها تجعل من هذه الجزرة ملغومة بطرحها ما يشبه النظام المرن للتأشيرات بين تشديد وتخفيف. وفي هذا يمسك الاتحاد الأوروبي بالحكم في روسيا من يده المريضة. الأمر يتعلق بكبار رجال الأعمال والسياسيين المتنفذين في روسيا والذين استفادوا في عهد يلتسين والحقبة الأولى من عهد بوتين فاقتنوا بفوائض أموالهم أملاكاً مهمة في أوروبا ونقلوا عائلاتهم للعيش هناك، ولايزالون يضخون دخولهم الكبيرة من روسيا إلى الغرب. وبهذا يأتي استخدام نظام التأشيرات ليشكل أداة فعالة للضغط على كبار رجال السلطة في روسيا وممثليهم. إنهم يراهنون على إمكان أن يصبح الرئيس الجديد أكثر ميالاً للغرب، وأنه سيحتاج إلى بعض الوقت قبل أن يخرج من وصاية سلفه بوتين. ومن هنا يفهم تريُث بروكسل بشأن المفاوضات. ونظرة فاحصة لمجريات لقاء خانتي – مانسيسك الذي استغرق عشاء قصيراً «بلا ربطات عنق» وثلاث ساعات من المفاوضات فقط، تبين أن الهدف الأساسي منه كان التعرف عن قرب على الرئيس الروسي الجديد واستكشافه.
لقد أعلنت القمة أن الجولة الأولى من المفاوضات بشأن الاتفاقية القاعدية الجديدة بشأن الشراكة والتعاون ستبدأ في 4 يوليو/ تموز المقبل. وفي إجابته على سؤال صحافي دعا مدفيفديف إلى عدم شخصنة الأمور في هذا الصدد. وإذا كانت ميدفيديف بالروسية (منسوبة إلى ميدفيد) تعني الدب، فهل سيثير الدب الروسي بثقله وبطء حركته غيظ الأوروبيين وحنقهم أم أن نفَسَهم سيكون أطول؟

صحيفة الوقت
30 يونيو 2008

اقرأ المزيد

إلى أين تسير عربة الوحدة الأوروبية؟


خرجت فكرة الاتحاد أو الوحدة الأوروبية من محاولات مضنية لوضع حدٍّ وحلول للمشكلات التاريخية المزمنة بين الألمان والفرنسيين والمنافسة التقليدية بينهما على النفوذ والسيطرة وهما خارجين من الحربين العالميين وخصوصاً فيما يتعلق بنتائج الحرب العالمية الثانية، التي همشت القوى القومية المتطرفة من جهة وأنهكت اقتصاديات دول أوروبا من جهة أخرى، مما سهّل تلمّس مخرجٍ جماعي عن المآسي التي حلت فيما مضى بالشعوب الأوروبية.
نفذت الفكرة تلك بدءاً بتعاون نقابي في الحقلين الاقتصاديين والصناعيين الأساسين، الفحم والحديد، حيث توصل البلدان المذكوران إلى نوع من الاتفاق والتعاون، ما لبث إلا أن تحول إلى مشروع واعدٍ، عبّر عنه في حينه وزير خارجية فرنسا ‘’روبرت شومان’’ في العام 1950 حينما صرح عن خطته التي حملت اسمه مستقبلاً، الأمر الذي أدى إلى توصل ستة دول أوروبية في ابريل/ نيسان العام 1951 إلى التوقيع على اتفاقية لتنظيم صناعتي الحديد والفحم، انطلاقاً من المصالح المشتركة لتلك الدول المتكونة من النّدّين السابقين ألمانيا وفرنسا إضافة إلى ايطاليا، هولندا، بلجيكا، ولوكسمبورغ، حيث صارت هذه الأخيرة مركزاً إدارياً لتلك المنظمة الوليدة.
بعد النجاحات المتراكمة توصلت الأطراف السداسية المعنية للتوقيع على اتفاقية ‘’روما’’ في العام ,1957 التي وضعت حجر الأساس الابتدائي لدول الاتحاد الأوروبي، من خلال بنود الاتفاقية التي شملت الكثير من التسهيلات والتعاون الشامل في مختلف الصّعُد، لعل أهمه الحرية الجمركية والانتقال الحر للناس والسلع بين تلك الدول. طُبقت الاتفاقية بنجاح ملحوظ حتى السبعينات من القرن الماضي، تحديداً في ابريل/ نيسان العام 1972 حينما اتفقت الدول المذكورة على تنظيم عملية صرف العملات الوطنية وتدشين فكرة العملة الموحدة ‘’اليورو’’ (أصبحت حقيقة قائمة بعد 30 عاماً). وتوطدت مسيرة العملية الوحدوية الأوروبية من سداسية إلى تساعية، بانضمام ثلاث دول إضافية للستة الأساس، الدانمرك ، جمهورية ايرلندا، والمملكة المتحدة، في مستهل يناير/ كانون الثاني العام ,1973 وان ظلت الأخيرة ومازالت خارج نطاق العملة الموحدة ‘’اليورو زون’’.
بسقوط الدكتاتوريات اليمينية والحكومات شبه العسكرية في جنوب القارة مثل اسبانيا، البرتغال، واليونان توفرت إمكانات جدية أمام أجندة الاتحاد الأوروبي بُغية التطور وتشجيع الدول المذكورة للانضمام إلى المنظمة الأوروبية. بحلول 1986 اختفت الضرائب الجمركية فيما بين دول الوحدة الأوروبية وتوسعت من تساعية إلى 12 دولة، بانضمام: النمسا، فنلندة، والسويد إليها، ثم ما لبثت وصارت 15 دولة في 1987 بانضمام اسبانيا، البرتغال، واليونان.
أما الحدث التاريخي الأبرز والأهم الذي أعطى دفعة قوية لطموح الأوروبيين هو تفكك المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا وعودة النظام الرأسمالي إلى تلك الدول في مستهل تسعينات القرن الماضي، حين وقعت دول الوحدة الأوروبية اتفاقية ‘’ماستريخت’’ في فبراير/ شباط ,1992 تمخضت عنها مع بداية 1993 محاولات جدية لتكوين السوق الموحدة. وتلا ذلك في يونيو/ حزيران 1997 معاهدة ‘’أمستردام’’ المنبثقة والمكملة اتفاقية ‘’ماستريخت’’.
وشهدت العام 1997 المباحثات والمفاوضات مع دول أوروبا الشرقية والوسطى العشر. وفي بداية الألفية الثالثة تغيرت وتطورت معاهدة ‘’أمستردام’’ إلى اتفاقية’’ نيس’’، التي عنت بمسألة توسيع عضوية دول الوحدة الأوروبية، وحددت أهمية الاستفتاءات العامة في الدول الأوروبية لتلك الاتفاقية، التي تعثرت من جراء تصويت بعض الأعضاء ضدها، الأمر الذي حدا إلى تغييرها وإيجازها، في ما عرف أخيراً باتفاقية ‘’لشبونة’’، المُعَرّضة هي الأخرى لعدم الإقرار والإجماع الجماعي. والجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن تلك الاتفاقيات ما برحت تتغير تباعا طيلة السنوات الأخيرة ومرد ذلك أنها لم تحظ بالإجماع من قبل برلمانات البلدان الأعضاء أو لم تقر من قبل الرأي العام المحلي في كل بلد حينما تعرض للتصويت، كما حدث قبل أسبوعين حينما صوت الشعب الايرلندي ضد اتفاقية ‘’لشبونة’’ ومن قبلها في فرنسا وهولندا ودول أخرى!
صدرت العملة الموحدة ‘’اليورو’’ في العام 1999 بشكل ابتدائي، بديلة للعملات الوطنية. توطدت مجالها مع حلول الألفية الثالثة باشتراك اليونان في ‘’اليورو زون’’ في العام .2001 في الأول من يناير/ كانون الثاني 2002 تم تدشين ‘’اليورو’’ عملة رسمية في 12 دولة أوروبية في البداية وتوسعت بعد ذلك في بقية البلدان الأوروبية، ثم انتشرت عالمياً عملة ساخنة رئيسة تقارع الدولار والعملات الرئيسة الأخرى، الأمر الذي يعبّر بالطبع عن تعزيز الاقتصاد الأوروبي على مستوى العالم.
وفي الأول من مايو/ أيار 2004 انضمت 8 دول (من أصل 10) إلى بقية الأعضاء الأساس الـ 15 وهي، بولندا، المجر، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، سلوفينيا، لاتفيا، لتوانيا، واستونيا، موقعين جميعهم على اتفاقية ملزمة لإصدار مسودة الدستور الأوروبي، منهين بذلك انقسام القارة الأوربية الذي كان قد دُشن قبل 60 عاماً في مؤتمر يالطا. وها هي مجموعة الدول قد وصلت 27 دولة، بعد انضمام قبرص ومالطا (23 + 2 = 25) ثم رومانيا وبلغاريا (25 + 2= 27) عدا اثنتين من المرشحتين وهما، كرواتيا وتركيا، فإن هناك تشجيعا جدّيا لجذب أوكرانيا وحتى جيورجيا (مرحبتان جدا)، ولو ان هذه الخطوات سوف تغيظ روسيا وتوتر العلاقات الأوروبية، الآسيوية والدولية.
على أية حال. يبدو أن ‘’الوحدة الأوروبية’’ سائرة لمصيرها التاريخي المحتوم، المنطلق من المصالح المتبادلة لدول القارة الأوروبية وحاجتها الموضوعية للتعاون والتكامل الشاملين وضرورة تشكيل قطب اقتصادي جبار، يمَكّن الأوروبيين من الاستمرارية في المنافسة على صدارة الهيمنة العالمية للقوى الكبرى، ولو أن الاستفتاء السلبي الايرلندي الأخير قد عمل على تباطؤ حركة الطموح الأوروبي نحو الوحدة الأوروبية والتوسع شرقاً وجنوباً، على حساب الاستقرار العالمي المنشود!
 
صحيفة الوقت
29 يونيو 2008

اقرأ المزيد

كتابة تاريخنا الوطني (2-2)

في الحلقة الماضية اشرت الى ان كتابة تاريخنا الوطني بحاجة ماسة إلى باحثين ومؤرخين نزيهين متجردين من النزعات والعواطف والاهواء المريضة على اختلاف أنواعها، كما اختتمت الحلقة بالاشارة الى ان الباحثين والمؤرخين العرب المتميزين بهذه الخاصية مازالوا قلة في كل الاقطار العربية، وعزوت ذلك لغياب حرية التعبير وحرية البحث العلمي في كل هذه الدول العربية وان بدرجات متفاوتة، وبضمنها للأسف دول معروفة بتبني قياداتها شعارات ومشاريع اصلاحية فيما هي مواقفها من حرية البحث العلمي في كتابة التاريخ على النقيض من ذلك أي لا تعكس ما ترفعه من شعارات ديمقراطية.
على ان الامانة الموضوعية تقتضي القول في هذا السياق والمناسبة ان صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء كان المتبني والحاضن الأول لفكرة تشكيل لجنة وطنية علمية لكتابة تاريخنا الوطني والتي تقدم بها نفر من كبار المؤرخين والمثقفين المرموقين في بلادنا، ومنحها التفويض الكامل والاستقلالية لمباشرة اعمالها الى ان تنتهي من عملها، فقد رحب سموه بمنحها كل اشكال الدعم والرعاية المطلوبة وبالفعل فقد تشكلت اللجنة غداة التصويت على الميثاق مدفوعة بحماس بأجواء الانفراج السياسي الجديدة حينئذ. وجاء تشكيلها منسجماً تماماً مع نسيجنا الوطني على نحو توازني بل ويعكس ايضاً في الغالب التنوع الثقافي والفكري السائد في مجتمعنا. وقد عكفت هذه اللجنة العلمية التاريخية على القيام بأعمالها بجد ومثابرة وبكل تفان واخلاص وبلا كلل حتى شارفت أعمالها على الانتهاء.
وبشر احد ابرز اعضائها الرأي العام الثقافي والعلمي في المملكة بقرب صدور مجلدها الأول وكان ذلك، إن لم تخني الذاكرة، في مثل هذا الوقت قبل نحو ثلاث أو أربع سنوات. وحينها اتذكر أن غمرتني الفرحة لهذا النبأ السعيد، مثلي في ذلك مثل المئات من كتابنا ومثقفينا وقرائنا الحابسين انفاسهم بتلهف على احر من الجمر بانتظار المولود الاول (المجلد) لهذا الانجاز العلمي الحضاري التاريخي الكبير. لكن فجأة انقطعت تماماً كل ما يتعلق باللجنة التاريخية من اخبار عن نشاطاتها، حتى علمنا بعد مضي الوقت بأن المجلد الأول لن يرى النور، وإنْ كانت فرصة ولادته مازالت قائمة بانتظار معجزة انقاذية عليا من جنس المعجزة التي حققها سمو رئيس الوزراء حينما تبنى واحتضن على الفور فكرة المشروع وتعهد بدعمه ورعايته الكاملة.
وقد بر سموه بوعده الكريم منذ انطلقت اعمال اللجنة متشجعة من رعاية ودعم سموه للمشروع ومتابعته عن كثب لأعمال اللجنة. وإذ شكل عدم صدور المجلد الأول صدمة كبرى لنا نحن معشر المثقفين والاكاديميين العاشقين لتراث وتاريخ وطنهم، فما بالنا بمدى حجم الصدمة في نفوس الجنود المجهولين اعضاء اللجنة الذين سهروا الليالي الطويلة والأيام مضحين بأوقاتهم في تفانٍ واخلاص من اجل انجاز هذه المهمة العلمية الجليلة التي شرفوا بتكليف انجازها وشارفوا على الانتهاء منها؟ ناهيك عن ابلاغهم بشكل مفاجئ وعلى حين غرة بعدم الاستمرار في اعمالها. ولك ان تتخيل عزيزي القارئ هنا الحالة النفسية وحجم الاحباط الكبير الذي يخالج نفوس كل أعضاء اللجنة دون استثناء. والمستغرب اكثر ان لا أحد من اعضاء هذه اللجنة يميط اللثام عن اسباب توقفها بكل وضوح وبشفافية كاملة امام الرأي العام المحلي بالرغم من اجواء حرية التعبير التي كفلها المشروع الاصلاحي لجلالة الملك اللهم عضوا واحدا بارزا فيها ورغم ما كتبه دفاعاً عن اللجنة في صحافتنا الوطنية فإنه لم يمط اللثام بشفافية وبما فيه الكفاية عن خلفيات اعمالها وما حققته وما لم تحققه؟ وما هي الخلفيات الحقيقية الكاملة لاسباب توقف اعمالها المفاجئة؟.. وعما اذا سيكون هذا التوقف هو لأسباب مؤقتة طارئة ستزول ام هو توقف دائم ولن ترى كل اعمالها النور لا قريبا ولا بعيدا لا سمح الله؟ وإذ نحيي بحرارة جهود سمو رئيس الوزراء ودعمه لكتابة تاريخنا الوطني ونجدد ترحيبنا بتصريحه الصريح “إن تاريخ الوطن لا يكتبه إلا أهله” وهو تصريح يرقى الى مرتبة القول المأثور الذي يستحق ان تعلقه لجنة كتابة التاريخ شعاراً على جدار غرفة جلساتها اذا ما استأنفت أعمالها، أو ان تجعله شعاراً ووساماً على صدور اعضائها، فإن الآمال تحدونا بقوة وبما عهدناه عن سموه الكريم من شفافية ومصارحة بإقالة اللجنة من كبوتها الراهنة المزمنة الخارجة عن ارادتها أو مساعدة اعضائها على البوح باطلاع الرأي العام عن اسباب توقف اعمالها.

صحيفة اخبار الخليج
29 يونيو 2008

اقرأ المزيد

القابعون خلف المكاتب‮ ‬يلعبون بالأوراق‮!!‬

ماذا‮ ‬يعني‮ ‬قدرة التنظيم السياسي‮ ‬على الاختراق؟ وكيف‮ ‬يخفي‮ ‬وجهه بعدة أقنعة؟ وأين هي‮ ‬المواقع الأكثر أهمية وممكنة للاختراق؟ تلك أسئلة لا نحاول التركيز على مناقشتها هنا وان كانت هناك أسئلة كثيرة تتعلق بفن العمل البيروقراطي‮ ‬وقدرة الموظفين القابعين خلف تلك الأوراق في‮ ‬القدرة على التلاعب بأوراق الناس متى ما رغبوا في‮ ‬التلاعب بها،‮ ‬خاصة إذا ما كانت تلك الزمرة لوبياً‮ ‬محترفا ومرتبطا بتنظيم سياسي‮ ‬أو ما‮ ‬يشبه العصبة المنظمة كما هي‮ ‬تلك الشبكات الأخطبوطية في‮ ‬الدول،‮ ‬حيث نجد أن كلما كانت تلك الزمرة قابعة خلف تلك المكاتب مددا أطول وجذورها ضاربة في‮ ‬أوصال وشرايين المؤسسة بدرجة أفقية وعمودية فيها،‮ ‬فان الوضع عسير إذ تصل إلى اكبر رجل فيها‮ ‬يمتلك القرار إلى ابسط موظف قادر على تمرير الأوراق بسلاسة ويسر كلما استلم الأوراق من‮ “‬عمدة‮” ‬لديه الأصابع الميسرة‮. ‬
هؤلاء‮ ‬يمثلون اليوم قوة خارقة متنفذة تمتلك تحريك القرار حسب وجهتها دون علم أو قدرة صاحب‮ “‬التوقيع‮” ‬أن‮ ‬يناقشها،‮ ‬فقد اعتاد أن‮ ‬يترك لهم تحريك الأوراق حسب مشيئتهم وإرادتهم سواء بقناعة او انطلاقا من ثقة عمياء أو شراكة خفية قائمة بين المراتب العليا وتلك القوة القابعة خلف المكاتب توزع ابتساماتها‮ “‬الذهبية والخبيثة‮!” ‬فحين تترك أوراقك وتغادر المكتب لا تعلم ما الذي‮ ‬يصيبها من تعثر وحوار وتآمر،‮ ‬لكونهم وحدهم‮ ‬يلعبون بتلك الأوراق فلكل أصابع منهم مساحة في‮ ‬تشكيل لون المؤسسة ووجهها الوهمي‮ ‬والحقيقي‮ ‬دفعة واحدة،‮ ‬فيما‮ ‬يرى الناس المراجعون لأوراقهم مجرد معاملات باهتة وأوراقاً‮ ‬متطايرة من شخص إلى آخر،‮ ‬وكأنك تتحرك ككرة المضرب في‮ ‬لعبة‮ “‬البنغ‮ ‬بونغ‮”‬،‮ ‬وكلما حركت عنقك أسرع ازدادت الضربات في‮ ‬سرعتها إلى درجة تشعر بدوار‮ ‬يومي‮ ‬بين قسم وآخر،‮ ‬وإذا ما ارتفع صوتك فإنهم‮ ‬يتمتعون في‮ ‬ذات الوقت بقدرة مسرحية وبصوتين معا بدا لك متناقضين،‮ ‬فهم قادرون على الرد بدبلوماسية كبيرة وأيضا‮ ‬يردون بصوت أعلى متصلبا ومهينا بقدر ما‮ “روح شوف المسؤول الأكبر‮” ‬فتحال إليه بل ويعطونك أوراقك التي‮ ‬نامت لشهور في‮ ‬أدراج مكاتبهم بعد أن عثروا عليها بحكاية جديدة هو أن الموظف خرج في‮ “إجازة‮” ‬وقد ترك الأوراق في‮ ‬مكتبه المغلق‮. ‬وكأن المؤسسة باتت مؤسسة لأفراد ومكاتب خاصة وليس عملا داخل مؤسسة تتمتع بدرجة عالية من عملها الإداري‮ ‬والمؤسساتي‮. ‬
بعد كل تلك الإجابات الباهتة المثيرة للأعصاب فان الإجابة الأعظم لجعلك صامتا هو أن أوراقك لدى الوزير ولكن الوزير خرج للمؤتمر وسيعود بعد أسبوع،‮ ‬وإذا ما راجعتهم فإنك ستجد عملا منظما آخر هو أن الوزير جاء بالأمس وداوم ساعتين ولكنه خرج في‮ ‬إجازة طويلة قد تطول إلى شهرين وعليك الانتظار‮.. ‬فتدور حلقة اللعبة لمنظومة قررت أن تؤدبك أو تنتقم منك أو تدفعك للتطفيش أو إغاظتك عمدا‮ “لعبة الفخ والمكيدة‮” ‬لكي‮ ‬تلبسك تهمة الإساءة والقذف لرجل‮ ‬يؤدي‮ ‬مهماته الوظيفية بكل اتقان وتهذيب وأمانة‮!! ‬فتضحك من الكلمات الثلاث فتقول في‮ ‬نفسك بعد أن تستلم أوراق المحكمة فجأة وتكتشف بأنك مطلوب‮ ‬غدا للمحاكمة في‮ ‬القاعة ولنقل‮ “‬ج الكبرى‮” ‬فتتحيّر من كل تلك الإجراءات فتتصل بالمحامي‮ ‬والذي‮ ‬بدوره‮ ‬يحَار مثلك فتكتشف انك في‮ ‬جزيرة الحيرة وربما تكتشف بعد أيام انك في‮ ‬جزيرة الكوابيس عندما‮ ‬يخرج لك ذلك الموظف الجدير باللعب‮ “بأوراقك باتقان‮!” ‬ضمن منظومة واسعة ومنتشرة في‮ ‬أقسام متنوعة في‮ ‬المؤسسة ومتغلغلة بتجذر طويل الأمد بحيث‮ ‬يتغير وزير ويموت وزير،‮ ‬ولكن المنظمة وشبكتها باقية لكونها تدير عملا مؤسساتيا مرتبا‮. ‬
فماذا‮ ‬يضحكك في‮ ‬الأوراق عادة أكثر من تلك الجمل والكلمات اللعينة التي‮ ‬خاطها مشرع من نمطهم فاسد حتى العظم وقد تم استدعاؤه والطلب منه بوضع نصوص سهلة الامتناع وصعبة المعنى وشفراتها ملغزة ورموزها هيروغليفية‮! ‬ولكنك في‮ ‬النهاية تعرف العربية بكل وضوح إن كنت قد شتمت أو تطاولت على الموظف واتهمته في‮ ‬أمانته ونزاهته الوظيفية،‮ ‬وتلك هي‮ ‬التي‮ ‬أضحكتك كثيرا ثم اتهامك له بالرشوة والكسل والبلادة،‮ ‬فيما هو معروف بنشاطه واتقانه للعمل وهذه نكتة إضافية في‮ ‬ورقة الدعوة‮.. ‬أما تهمة القذف فهي‮ ‬وحدها مخجلة،‮ ‬فيما‮ ‬يرى أولئك من‮ ‬يلعبون بأوراق خفية انك قذفتهم بمفردات‮ ‬يمنعها القانون وقوة القانون وكان أجدر بك تهمة الاهانة بدلا من تهمة القذف‮!!‬
‮ ‬حمانا الله من النجاسة وطهرنا بحسن المعاملة فسرتهم تلك العبارات عندما سمعوها بعد أن وجدت أن المكتب برمته عيون بغيضة تحتكر كل الأوراق والمعاملات في‮ ‬شتى المكاتب بل والشركات،‮ ‬غير ان ظاهرة الاستحكام والانغلاق العصبوي‮ ‬نراها في‮ ‬مؤسسات الدولة اقل من المؤسسات الخاصة ولكنها باتت في‮ ‬البنوك الإسلامية ظاهرة واضحة،‮ ‬بينما تراجعت في‮ ‬شركات ومؤسسات‮ “‬نظفت‮” ‬نفسها من هجمة وتحكم تلك الأصابع الخفية‮. ‬
فلماذا‮ ‬يغيب دور الرقابة الإدارية والمحاسبة فيما نسمع ليلا ونهارا عن الشفافية وملاحقة الفساد ومناهضته بهدف دفع مشروعنا الإصلاحي‮ ‬للأمام وبجعل فضاء الحريات والديمقراطية أكثر عدلا ونزاهة‮. ‬فإذا تغلغلت تلك الأصابع في‮ ‬التعليم والإعلام والقضاء ثم مؤخرا‮ “‬بيت الشعب‮” ‬هل‮ ‬يكون خيارنا سهلا ونصمت أم نواصل مواجهة كل نمط من الفساد المستشري؟ وكيف‮ ‬يكون مصير كل صوت‮ ‬يؤمن بالمواجهة ويجد نفسه ذات‮ ‬يوم‮ ‬يحمل أوراقه الرسمية إليهم،‮ ‬فهناك لن‮ ‬يجد إلا تلك الابتسامة الذهبية فيما تبدو العيون تخفي‮ ‬لعبتها أيضا،‮ ‬وهذه المرة في‮ ‬جهاز الكمبيوتر‮.. ‬فالسيستم معطل‮!‬

صحيفة الايام
29 يونيو 2008

اقرأ المزيد

لماذا كل هذا العزوف؟


تصريحات المسؤولين في قطاع الفنادق تشير بوضوح إلى أن هذا القطاع في مقدمة القطاعات الخاصة التي بامكانها توفير فرص عمل للشباب، وان هناك ألان حوالي “٨٥٣٦” وظيفة شاغرة.
 وفي مقابل ذلك نجد صندوق العمل يؤكد على أن أكثر من أربعة ملايين دينار تم رصدها لبرنامج التدريب في مجال الضيافة، بمعنى إن هناك ميزانية ا́قرت من اجل تدريب “1870” بحرينيا في قطاع السياحة، وان هذا البرنامج يشمل درجات البكالوريوس في الضيافة وشهادات في إدارة الموارد البشرية في المناصب الأولية والمتوسطة.
هذا ما قرأناه من خلال صحافتنا المحلية التي تجري بين وقت وآخر لقاءات وتحقيقات مع المسؤولين في هذا القطاع الذي يبدو مزدهرا، وما يدل على هذا الازدهار تزايد عدد الفنادق في البلاد، ولكن الأمر المحير هنا هو رغم كل هذه الوظائف الشاغرة ورغم اهتمام صندوق العمل بتدريب وتأهيل الشباب في قطاع الفنادق .. لماذا لا يشغل شبابنا تلك الوظائف؟
شبابنا الذين اثبتوا جدارتهم وكفاءتهم في أكثر من موقع عمل، وأكثر من نشاط اقتصادي وتجاري وسياحي لا نزعم إنهم لا يميلون إلى الوظائف الفندقية، فهناك عدد لا بأس به يعملون في هذا القطاع وان كانت نسبتهم في تراجع، أي تقدر نسبتهم عام 2005 بـ 26٪  أما اليوم 21٪، وبالتالي .. لماذا انخفضت هذه النسبة؟
 هذه قضية يجب أن تكون محط اهتمام المسؤولين في الجهات المختصة سواء كانت وزارة العمل أم السياحة، والقضية الأخرى التي يفترض تدارسها – كما أسلفنا  – هي وظائف شاغرة لا يقبل عليها الشباب البحريني العاطل .. لماذا؟ هذا هو السؤال المهم على صعيد البطالة.
إذن أمامنا مشكلة مازالت قائمة، هل ترجع أسباب هذه المشكلة إلى الشباب نفسه؟ وإذا كان الجواب بالنفي ما هي الأسباب الفعلية التي تقف وراء ذلك؟ وإذا كانت هناك وظائف شاغرة في قطاع الفنادق تصل إلى “6358” وظيفة لماذا كل هذا العزوف؟؟
لا نريد أن نختزل أسباب هذه المشكلة في سبب واحد، فهذا إن حدث فهو خارج المنطق والعقل، ولكن نعتقد إن تدني الأجور احد الأسباب الهامة، ومن هنا كان رأي الدكتور احمد الشيخ احد مسؤولي صندوق العمل في احد اللقاءات الصحفية المحلية صريحا خاصة عندما قال: أهم أسباب العزوف عن هذا القطاع هو التدني النسبي للرواتب، وهذا يرجع إلى سبب رئيسي هو عدم وجود معايير مهنية محددة، فمثلا من الممكن أن يعمل أجنبي كجرسون في احد مرافق هذا القطاع براتب متدنٍ بعد أن يدرب فترة معينة من دون أن يحمل شهادة في حين أن البحريني يحمل دبلوما وشهادات وبالتالي لا يقبل بنفس الأجر، ولو كانت هناك معايير واضحة للتوظيف والتدريب لارتفعت الإنتاجية والمستوى والأداء وهذا كفيل بتحسين الإقبال على هذا القطاع.
إذن من البديهي وفي ظل هذه المعايير التي ذكرها “الشيخ”ان تشهد البحرين في هذا النشاط السياحي انخفاضا وهو أمر لا بد أن يؤسف له بشدة.
وإذا كانت المهن القيادية والإشرافية في قطاع الفنادق أجورها مجزية وفقا للكفاءة والتأهيل والتدريب والخبرة ودرجة المسؤولية فان تحسين الأجور وظروف العمل في المهن الأخرى من أهم العوامل التي تؤدي إلى استقطاب الشباب العاطل في هذا القطاع. ويعزو بعض الشباب العاطل ظاهرة العزوف هذه إلى العادات والتقاليد ونظرة المجتمع ومع احترامنا وتقديرنا لعاداتنا وتقاليدنا إلا إننا لسنا نغالي إذا قلنا إن بعض هؤلاء الشباب العازف عن العمل في الفنادق خاصة في مجال الضيافة لا يزال رهن تبريرات وحجج متزمتة مغالية أكل عليها الدهر وشرب!!
وخلاصة الأمر إن شبابنا العاطل عليه أن يكسر حاجز التردد، وان يقدم على مثل هذه الوظائف طالما هو جاد، كما لا بد من تعديل الأجور بما يتناسب وطبيعة العمل وظروفه والحياة المعيشية الراهنة.
 
الأيام     28 يونيو 2008

اقرأ المزيد

نعم‮.. ‬لا للطائفية ولكن‮!!

نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’.. ‬
ولكن هل تمكنا من تجاوز هذه المعضلة وتأثيراتها السلبية على الدولة والمجتمع بالنضال من أجل ترسيخ قيم المواطنة والتمثل بمبادئ المشروع الإصلاحي‮ ‬للعاهل سعياً‮ ‬وراء إقامة نظام ديمقراطي‮ ‬بديل للوضع الطائفي‮ ‬القائم والطافح والرامي‮ ‬إلى تقويض كل ما من شأنه الارتقاء بوعي‮ ‬الإنسان وضمان مستقبله؟‮  ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل أدركنا واستوعبنا أن تعدد الأديان والمذاهب والطوائف لا‮ ‬يعني‮ ‬وجوده بالضرورة صراعاً‮ ‬طبقياً‮ ‬بين هذه الأديان والمذاهب والطوائف وتصفية قهرية لسيادة وطغيان واحد منها وتجاذبات سياسية لقوى داخلية وخارجية ذات مصالح خاصة بها؟ لماذا لا‮ ‬يكون هذا التعدد أنموذجاً‮ ‬للدولة الحديثة التي‮ ‬تنتهج التعايش والتمازج بين كل الاتجاهات نبراساً‮ ‬للإعلاء من قيم الديمقراطية المستنيرة؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل تنبهنا إلى أن في‮ ‬استمراريتها والتمسك بها،‮ ‬استمرار لمصالح من‮ ‬يغذي‮ ‬جذوتها ويهيجها وتجديد لجلده ولمآربه على حساب الوحدة الوطنية والتئام لحمة المجتمع؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’.. ‬
ولكن هل أعددنا الورش بعيدة المدى والتي‮ ‬نستعرض من خلالها مخاطر الطائفية بأوجهها المختلفة وكيفية مواجهتها والتغلب عليها ودعونا كل الأطياف والطوائف للحوار حول إمكانات القضاء عليها؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل تمكنا من التخلي‮ ‬عن الشعارات التي‮ ‬تفصح عن طائفية‮ ‬غير عادية ولها مصادرها ومغذيها في‮ ‬الداخل والخارج؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل تعلمنا من دروس الفتن الطائفية التي‮ ‬مزقت مجتمعات وورطت شعوباً‮ ‬وقوضت أركان دول وأعاقت نمو وعي‮ ‬كان له أن‮ ‬ينهض ويبث رؤاه المستنيرة في‮ ‬جسد الوطن؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل تأملنا الدستور ووقفنا عند بنوده الداعية إلى اللحمة الوطنية بعيداً‮ ‬عن الامتثال لأوامر دعاة وأهل الطائفية من خارج الدستور والقانون؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل كففنا أصواتنا بعض الوقت عن التشهير بالوطن عبر الفضائيات الخارجية المدسوسة والطائفية بامتياز ولجأنا إلى حسن النوايا وانطلقنا‮ ‬يداً‮ ‬بيد من منبر إعلامي‮ ‬مشترك‮ ‬يدين الطائفية ويمقتها؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل أدركنا أن عدونا الأول‮ ‬يكمن فينا،‮ ‬في‮ ‬دواخلنا قبل التعلل والتذرع بإسرائيل وأمريكا؟ هل نملك القدرة وبشفافية على مصارحة الذات وعلاجها في‮ ‬آن؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل سعت مؤسسات المجتمع المدني‮ ‬بما فيها الجمعيات الدينية إلى المطالبة وبإلحاح إلى تشكيل هيئة وطنية لبحث كيفية تجاوز الطائفية؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل أدركنا أن تفشي‮ ‬الأيديولوجيا الطائفية والانطلاق منها في‮ ‬النظر إلى تكوين الدولة ومؤسساتها‮ ‬يقف ضد أي‮ ‬زعم بالانتماء الوطني‮ ‬والإنساني‮ ‬ويسهم في‮ ‬نشوء حالة من التناقض‮ ‬يستحيل معها تثبيت التوازنات الطائفية كما‮ ‬ينجم عنها تعميم ثقافة الطائفة بديلاً‮ ‬عن ثقافة الوطن المبنية على وحدة المواطنة؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن ألا نخشى على الوطن أن‮ ‬يغيب عنه مفهوم الدولة بسبب الاستفحال الطائفي‮ ‬والمذهبي‮ ‬وتكريس الزعامات والمرجعيات والمقلدين؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل فكرنا في‮ ‬وضع برنامج تربوي‮ ‬وطني‮ ‬فعلي‮ ‬يمنع‮ ‬غرس الطائفية في‮ ‬نفوس الأجيال الصاعدة واستثمارها بشكل‮ ‬غير ذي‮ ‬جدوى؟‮ ‬
نعم‮ ‘‬لا للطائفية‮’..‬
ولكن هل فكرنا في‮ ‬مواجهة الطائفية بأسلوب آخر‮ ‬غير طائفي؟‮!‬
 
صحيفة الوطن
27 يونيو 2008

اقرأ المزيد

الخطاب ضد الإسلام السياسي.. جاء موضوعيا وعقلانيا

لقد اطلعت على مقالة الدكتور علي فخرو، المنشورة بجريدة «أخبار الخليج« في صفحة قضايا وآراء بتاريخ 5 يونيو 2008م والمعنونة بـ “الخطاب الانتقائي ضد الاسلام السياسي”، وما تمخض عن ماهية المقالة التي جاءت ردا على ما أورده محاضر في محاضرته عن الاسلام السياسي في احد بلدان الخليج.. واعلان الدكتور علي فخرو شيئا من استيائه وانتقاده لما “اكتنف المحاضرة بالتعميم التبسيطي المخل بالأمانة الفكرية.. واصدار المتحدث حكما سلبيا جارحا واحدا على كل الحركات الاسلامية السياسية” حسبما جاء على لسان الدكتور علي فخرو من خلال مقالته..
ولكن ايا كانت الأمور وما تمخض عنها من نتائج، فنحن بدورنا نستطيع القول انه لا يوجد وجه للتمايز او الاختلاف ما بين حركة اسلامية متخلفة ومتشددة وحركة اسلامية مستنيرة ومتسامحة.. لكون حركات ومنظمات تيار الاسلام السياسي جميعها التقت في بوتقة واحدة باقحامها الدين في السياسة، ومزجت السياسة بالدين واعتمدت اجندة خطابها الديني، المتسمة بـ “المفارقة الدينية والميتافيزيقية الغيبية” غير القابلة للحوار أو المناقشة او مبدأ الاجتهاد، التي هي خطوط حمراء لا يمكن ولا يسمح بالاقتراب منها.
ولعل المفكر الدكتور نصر حامد ابوزيد قد اصاب كبد الحقيقة بهذا الصدد حينما اكد في كتابه نقد الخطاب الديني بقوله: “ان التيارات الاسلامية (المعتدلة والمتطرفة) تلتقي على عناصر وثوابت اساسية غير قابلة للنقاش واهمها (النص والحاكمية)”. غني عن القول إنه حينما يسترسل الدكتور علي فخرو خلال مقالته بقوله: “المقصود هو ان يكون الخطاب الفكري السياسي خطاب تحاور مع الخصم لا تدميره، خطاب تسامح معه لا اقصاء له، خطاب عدل لا خطاب ظلم” فان هذا الكلام هو كلام العقل بعينه.. كلام موضوعي عقلاني يؤمن صاحبه بمفاهيم الديمقراطية والرأي الآخر، بقدر ما يؤمن بوظائف العقل لا وظائف العاطفة، ولكن عندما نسحب هذا الكلام على واقع تيار الاسلام السياسي، فإن مغازيه وتداعياته ستظل نقيضة وغريبة وخارجة عن تلك العقول الجامدة المنغلقة، لا تنسجم والاجندة الدينية لخطاب هذا التيار الاسلامي، الذي يدافع عنه الدكتور علي فخرو.. طالما تنظيمات الإسلام السياسي من دون أي تمييز بينها ترفض هي أصلا مبدأ التعددية والرأي المعارض الآخر، وتغلق الابواب امام الحداثة والتحديث والتنوير، وتنزل الحدود على رقاب من اختلف معها، وتؤمن بإسقاط الماضي على الحاضر بالثوابت والنصوص على حساب تعطيل وظائف العقل واغلاق باب الاجتهاد وتحرم الديمقراطية وحرية الرأي والفكر المعتقد وتمارس دعوى الحسبة، وتحرم ترشح المرأة إلى الانتخابات، بل تدعوها للعودة الى المنزل، وتحظر الاختلاط في المعاهد والجامعات.. وبالتالي إقحام الدين في السياسة وتسييس الدين واسلمة السياسة ثم تتوج بأسلمة القوانين والتشريعات، لتمهد الطريق لاقامة الامارة الاسلامية، التي تتسم بـ “النص والحاكمية” وامتلاك الحقيقة المطلقة.
ولعل القول يبقى صحيحا ان الدكتور علي فخرو هو من اعرف العارفين، بأن بعض قوى وعناصر تيار الاسلام السياسي هي صنيعة الدول الغربية والولايات المتحدة من جهة، وصنيعة الانظمة العربية المتخلفة من جهة ثانية.. ولكون هذه الانظمة متخلفة بتشكيلتها الهرمية البطريكية والسياسية، فإن هذه القوى الاسلامية وفي مقدمتها “جماعات الاخوان المسلمين” قد استطاعت منذ عقد الخمسينيات ان تستحوذ على المواقع المهمة لدى مختلف الدول العربية وخاصة الدول الخليجية، وتهيمن على اعلى المناصب في وزارات التربية والتعليم ووزارات الاعلام. ولكن يظل بالمقابل ان تيار الاسلام السياسي بخطابه الديني هو اكثر تخلفا من تخلف صنيعته الانظمة العربية.. ليضاعف هذا التيار الاسلامي التخلف بجميع اشكاله، لأن احزابه وتنظيماته المتخلفة قائمة على الاصطفافات الطائفية والمذهبية بطابعها ذي البعد الواحد، وذي الطائفة الواحدة، والمرجعيات الدينية.. وبالتالي غرست هذه الاحزاب الدينية بذور التخلف في واقع الارضية المجتمعية “الرسمية والشعبية” التي لاتزال تعاني تداعيات الارث الظلامي، وفي مقدمتها شعوب هذه الدول ومجتمعاتها.. ويكفي نتائج الانتخابات البرلمانية والبلدية والمحلية، التي فاز فيها على مدار الاعوام الاخيرة مختلف التيارات الاسلامية من اخوان مسلمين وسلفيين وخمينيين في كل من البحرين والكويت والاردن ومصر، بأصوات ناخبين انخدعوا بشعار “اطعم الفم تستحي العين”، اي حين اطعمت افواههم استحت عيونهم.. وذلك من خلال مساعدات زهيدة ترقيعية تسلم اليهم عبر المال السياسي. وفي هذا الصدد فان المفكر نصر حامد أبوزيد قد وضع النقاط على الحروف، حول تخلف الوجهين النظام السياسي والتيار الاسلامي.. بقوله: “ان الخطاب الديني يمثل الغطاء الايديولوجي للأنظمة الدكتاتورية الرجعية وتكريس اشد الانظمة الاجتماعية والسياسية رجعية وتخلفا”.
في نهاية المطاف فإننا نحاور الدكتور علي فخرو الذي من خلال مقالته ساند حركات تيار الاسلام السياسي المستنيرة من وجهة نظره.. نحاوره بأسئلة بالغة الاهمية: ما مدى حكمه العقلاني والموضوعي على ما ورد في رد مقالتنا لما جاء في مقالته؟ وما مدى ايمانه بهذه الحركات الاسلامية التي هي حركات طائفية ومذهبية اصلا؟ على الرغم من ان الدكتور علي فخرو ينتمي إلى الفكر العقلاني والعلماني والديمقراطي حيث صاحب هذا الفكر يمقت بطبيعة الحال النعرات الطائفية والمذهبية والقبلية والفئوية على حد سواء.
 
صحيفة اخبار الخليج
27 يونيو 2008

اقرأ المزيد