المنشور

بين المؤسسة والتنمية ضاعت‮ “‬طاسة‮” ‬الشبابية


بالتأكيد إن التقرير المنشور الخميس الماضي بـ “الأيام”هو الذي حرك عمودنا لتناول قضية تحديد الجهة الإشرافية الرسمية على الجمعيات الشبابية فعدم تحديد الجهة الرسمية بشكل واضح انعكس سلباً على مشاريع وعلى تحركات الجمعيات الشبابية لاسيما وان الموضوع ما زال معلقاً لم يحسم كما فهمنا من التقرير وليس من مصلحة أي من الإطراف أن يظل الوضع كما هو عليه الآن.
 فإذا كانت الجمعيات الكبيرة “سناً” والكبيرة إمكانيات تعرف الجهة الرسمية الإشرافية وبالتالي تتعامل معها مباشرة بما سهل عليها متابعة أمورها وتنسيق تحركاتها بين الشعبي والرسمي وتحديد مشاريعها وفق التفاهمات بينها وبين الجهة الرسمية الإشرافية فإن الجمعيات الشبابية حائرة ولا تعرف بالضبط من هي الجهة التي تعود إليها ومن هي الجهة الرسمية المعنية بالإشراف عليها والقادرة بالتالي على مد الجسور معها من اجل تحريك مشاريعها التي لا شك وإنها تعطلت وتأجلت بسبب هذا الوضع الذي اشتكت منه الجمعيات الشبابية في أكثر من تصريح وأكثر من ندوة مفتوحة ناشدت فيها المسؤولين بتحديد الجهة الإشرافية الرسمية التي تتبعها جمعياتهم الضائعة بين المؤسسة العامة للشباب والرياضة التي تعلن بالتصريح حيناً وبالتلميح احياناً ان الجمعيات الشبابية لا تتبعها ولا تقع ضمن نطاق مسؤولياتها وبين وزارة التنمية التي بدأت مؤخراً بالتقاطع والتعاطي مع الجمعيات الشبابية لكنها لم تعلن بشكل رسمي صريح إنها الجهة الرسمية المسؤولة عنها مباشرة. بما ترك الباب مفتوحاً للوزارة لو أرادت التراجع عن دعم بعض المشاريع أو أرادت عدم فتح بعض الملفات العالقة عند الجمعيات الشبابية التي تفهمت الوضع فتقبلت دور وزارة التنمية الذي بدا كنوع من التعاطف والعطف على الشباب أكثر من كونه جزءاً من مسؤولية الوزارة بشكل مباشر وواضع.
 الغريب ولن نقول للأسف بعض الأفراد في الجمعيات الشبابية استثمروا واستفادوا من هذا الوضع الحائر فشقوا لهم قنوات خاصة او شخصية بشكل محدود إما مع وزارة التنمية او مع المؤسسة العامة ليملؤوا الفراغ الحاصل في عدم تحديد الجهة الرسمية الإشرافية في ترتيب علاقاتهم بشكل فردي استفادت منه جمعياتهم ولا شك، لكنه قائم في الأساس على العلاقات الشخصية والفردية وليس على مفهوم مؤسساتي واضح ودقيق لن يتحقق ما لم تتحدد بالضبط الجهة الرسمية الإشرافية على الجمعيات الشبابية بحيث يصبح الجميع قادراً على الحراك تحت هذه المظلة وتنسيق اتصالاته وتحريك مشاريعه دون الحاجة إلى جسور العلاقات الشخصية.
 قرأنا وتابعنا وشاركنا أيضا في الإعداد لمشاريع شبابية كبيرة واعدة ومهمة “اسراتيجية الشباب، برلمان الشباب، قمة الشباب” وغيرها أيضا من مشاريع تحملها أجندات الجمعيات الشبابية وجميعها توقفت وتأجلت وما زالت حائرة تتقاذفها الجهات الرسمية باعتبارها مشاريع ليست من مسؤوليتها رسمياً وذلك نتيجة عدم تحديد الجهة الرسمية المعنية إشرافا على الجمعيات الشبابية التي توزعت مشاريعها على أكثر من جهة رسمية واحتارت مع من تتابع ومن أين تبدأ ولمن تذهب ومشاريعها موزعة كما اشرنا على أكثر من جهة وهو أمر يحدث لاول مرة بحيث تتوزع فيه المشاريع هكذا بدلاً من ان تكون هناك جهة واحدة محددة رسمياً وتتجمع لديها كل المشاريع والمواضيع وتعود اليها الجمعيات الشبابية للتنسيق وتحديد الحراك والنشاط.
 وكما اشرنا ليس من مصلحة احد ان يستمر هذا الوضع لا سيما وان القيادة توجه باستمرار إلى الاهتمام وإلى احتضان الشباب ورعاية مشاريعهم وتذليل الصعوبات أمامهم حتى يمكن توظيف طاقاتهم الخلاقة بما يعود عليهم وعلى الوطن بالخير والفائدة كونهم يمثلون المستقبل الواعد..
 فأينكم من هذه التوجيهات واينكم من الوعي الحقيقي بدور الشباب وبإمكانياتهم.. لا اقل من ان تحددوا لهم الجهة الرسمية الإشرافية حتى تضعوا مركبة الجمعيات الشبابية على السكة الصحيحة لتنطلق وتعطي وتثري الحاضر والمستقبل.

 
الأيام 26 يوليو 2008

اقرأ المزيد

دراجة تشي‮ ‬غيفارا


نحن – معشر القراء – مدينون بشكرٍ جزيل علينا أن نقدمه للأستاذ صلاح صلاح الذي ترجم بشكل رائع إلى العربية كتاب ارنستو تشي غيفارا ” يوميات دراجة نارية “، وبشكر جزيل مماثل لدار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي التي أصدرت هذا الكتاب ضمن سلسلة رحلات عالمية.  الكتاب كما هو معروف صنع منه فيلم أثار اهتماماً واسعاً منذ زمن قليل، لكن الفيلم ليس أكثر متعة من الكتاب نفسه الذي وضعه الشاب تشي غيفارا الذي كان حينها طالباً في السنة النهائية في كلية الطب في بلاده الأرجنتين، قبل أن يغدو ثائراً عظيماً سيعرفه العالم كله بوصفه من ألمع الثوار في القرن العشرين.
  لكننا في هذا الكتاب لن نخطئ الإحساس بتلك الروح المتمردة، الثائرة، المشاغبة في هذا الشاب اللامع الذي ذهب في مغامرة رحلة طويلة يطوف بها القارة الأمريكية اللاتينية مع صديقه البرتو جرانادو الذي كان هو الآخر طالباً في الجامعة يدرس الكيمياء الحيوية، حيث أعدا دراجة نارية يبدو من الشرح الظريف في الكتاب أنها كانت متهالكة وقديمة، لكنهما عقدا العزم على القيام بتلك المغامرة مأخوذين بتلك الروح التي لم تغادر غيفارا أبداً حتى لحظة استشهاده المهيب في إحدى غابات بوليفيا وهو يقود حرب العصابات ضد النظام العسكري يومذاك المدعوم من اليانكي الأمريكي، وليس صدفة أن المخابرات المركزية الأمريكية بالذات هي من تولى تصفيته جسدياً.
 ابنة غيفارا اليدا جيفارا مارش كتبت تقديماً موجزاً، قالت فيه إنها قرأت هذه اليوميات أول مرة قبل أن توضع في شكل كتاب بعد ولم تكن تعرف أن والدها بالذات هو من كتب هذه المذكرات، وتشرح كيف أنها تماهت مباشرة مع ذلك الرجل الذي سرد مغامراته بطريقة تلقائية.
حين عرف فيما بعد أن أباها هو صاحب المذكرات انتابها شعور بالسرور، وكانت هناك لحظات عندما حلت محل رفيقه في الرحلة البرتو جرانادو، وشعرت أنها تتشبث بظهر أبيها فوق الدراجة النارية مسافرة معه فوق الجبال وحول البحيرات وهو يقطع أرجاء القارة العظيمة التي كانت بركاناً للثورات والكفاح، وكلما توغلت أكثر في الكتاب كلما أحبت الفتى الذي كان عليه والدها.
 ذات سفرة، أمسكت بالكتاب في الدقائق الأولى للرحلة التي تستغرق نحو ثلاث ساعات بالطائرة، حين هبطت الطائرة كنت قد قرأت أكثر من ثلث الكتاب الذي يقع في نحو مائتي صفحة. لقد حبست سطوره وأحداثه المثيرة أنفاسي. فيما تلا ذلك من أيام جاهدت للحصول على ساعات فراغ أكمل فيها ما تبقى من الكتاب الذي يأخذنا نحو عالم هذا الفتى الذي أدرك مبكراً، وبانسجام مميت مع الحقائق، كما يعبر هو نفسه، أن مصيره هو الترحال. وهو يقرن ذلك بأمنية أنه، في يومٍ ما وقد أضناه الدوران في العــالم، يعــود إلى وطنه الارجنتين ويستقر بالقرب من بحيراتها، إن ليس بشكل نهائي فعلى الأقل لوقفة قصيرة في غمرة تنقله من فهم للعالم إلى الآخر.
 لكن قدر غيفارا وسر ملحمته البطولية أيضاً تكمنان تحديداً في أنه لم يرغب في فهم العالم فحسب، وإنما رغب أساساً في تغيــيره.



الأيام 26 يوليو 2008

اقرأ المزيد

‮”‬تسخين”لا‮ ‬غنى عنه


التهدئة الظاهرية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران التي يجري عنها الحديث في الفترة الأخيرة، لن تلغي مناخ التسخين الذي ساد قبل ذلك. هذا التسخين بين واشنطن وطهران ضروري للجانب الأمريكي على الأقل، ولا نعلم إلى أي مقدار هو كذلك بالنسبة للجانب الإيراني، فلعل ذلك يتطلب وقفة ثانية. بدون هذا التسخين فان الحملة الأمريكية  ضد ما يوصف بأنه سعي إيراني لامتلاك السلاح النووي  ستفقد صُدقيتها، وستظهر على أنها ليس سوى تهويش سياسي ودعائي له أغراض أخرى غير منع طهران من بلوغ هذا الهدف، وهو أمر بينها وبينه برازخ زمنية على كل حال. من الأجدى، أمريكيا، إبقاء قوس التوتر مشدوداً حتى نهايتها، حتى لو لم يكن السهم وشيك الانطلاق.
 هذا الوضع يحقق منافع سياسية عديدة للولايات المتحدة، بينها جعل الحلفاء الأوروبيين، ومن في حكمهم، كاليابانيين مثلاً، في حالٍ من الذعر الدائم خوفاً من مجابهة عسكرية، عليها ستترتب مفاعيل ليس بوسعهم إدارة الظهر لها، بالنظر لما في جوف الخليج من ثروات نفط يعنيهم أمرها، بمقدارٍ لا يقل عن الولايات المتحدة ذاتها. وبين هذه المنافع أن الحلفاء الإقليميين في المنطقة الذين ليس بوسعهم تجاهل ما يمثله الوجود العسكري والنفوذ السياسي لواشنطن على أراضيهم وفي مياههم الإقليمية، سيظلون في حالٍ من الفزع الدائم من مجابهة يخشون نتائجها، وهو أمر يُحقق، في الحساب الأمريكي، غرضاً نفسياً، حين يظل هؤلاء الحلفاء مسكونين بهاجس أن لا غنى لهم عن المظلة العسكرية الأمريكية فيما لو وقع المحذور.
الاستدراك هنا واجب، فالتسخين الذي نشهده قد لا يكون مجرد مناورةٍ سياسية، فلربما تنطلق مقاتلات جيش الحرب الإسرائيلي من مرابضها وتقصف أهدافاً مُنتخبة في إيران، لا أحد يعلم حجم ما ينجم عنها من نتائج على صعيد إعاقة الطموح الإيراني في امتلاك الطاقة النووية، بصرف النظر عن أهداف ذلك الامتلاك. إذا حدث ذلك، فانه لن يخرج عن أهداف التسخين المرسومة، ولكن ما قد يخرج عن الحساب هو المدى الذي يمكن لردة الفعل في طهران أن تذهب إليه، فيحدث ما لم يحدث حين قصف الطيران الحربي الإسرائيلي المفاعل النووي العراقي في الثمانينات، حيث صرف صدام حسين النظر عن طموحاته النووية. إن لجأت طهران إلى ردود فعل انتقامية، كما تهدد، فان الإقليم الخليجي لن يكون ساعتها بمنجاة من أن يدفع التكلفة، إن لم يكن كلها، فجزء معتبر منها.


الأيام 24 يوليو 2006
 

اقرأ المزيد

حاكمية القانون‮.. !‬


في شأن موضوع دولة القانون وجدنا قراءتين، قراءة  إيجابية تؤيد حتمية إرساء مفهوم سيادة القانون وما يستتبعها من بناء دولة القانون بحيث يكون تعزيز النظام القضائي في صدارة الأولويات، وقراءة أخرى لم تنظر إلى ما أثير بهذا الخصوص بشكل إيجابي وفي سياقه الصحيح، ولذلك استاء من استاء حينما طرحنا الدعوة بإعطاء الهيبة والاحترام للقانون وضرورة انصياع الجميع الكبير قبل الصغير لسيادة وحاكمية القانون وكأن في ذلك ما يثير الريبة أو الالتباس وما يستدعي الاستياء من الأصل.
في القراءة الأولى وجدنا من ينظر إلى أن دولة القانون تبدأ بدولة القضاء الذي هو المعيار في حماية وصون الحقوق والحريات والكرامات، ووجدنا من يضيف إلى ذلك بأن دولة القانون تفرض معالجة أولويتي القضاء والإدارة العامة، فمن يريد دولة القانون لابد أن يعد العدة لقيام قضاء منزه ومستقل وفاعل وسريع، دون تجاهل حتمية العلاقة بين النزاهة والاستقلالية.
أما الأولوية الثانية فهي الإدارة العامة، لأنه اذا كان ثمة إقرار بأنه لا دولة قانون من دون قضاء منزه ومستقل، فإنه لابد اكتمالاً للصورة أن نستوعب بوعي بأنه لا دولة من دون إدارة تقوم عليها الدولة، فكما تكون الإدارة تكون الدولة والعكس صحيح، ولا تستقيم الدولة، أي دولة مهما تكـن “فاضلة” ما لم تتوافر فيها شروط قيام إدارة تمتلك مقومات الكفاءة والرشادة والنزاهة، لأن الإدارة المقصرة أو المتخلفة أو الفاسدة أو البيروقراطية في أي بلد تسيء إلى الحكومة وتضعف الأسس التي تقوم عليها الدولة، وإذا كانت الحكومة هي التي ترسم السياسات، فإن الإدارة هي التي تنفذ السياسات، ويمكن للحكومة أن ترسم أعظم وأفضل السياسات، ثم يأتي تنفيذ الإدارة لهذه السياسات فيشوهها، أو يعطلها، ويسيء إلى الحكومة أعظم إساءة، ولن يجدى حسن نوايا الحكومة إذا كانت عاجزة عن محاسبة الإدارة ومعالجة قصورها ووقف كل مظاهر الخلل والانحراف والفساد، وفساد الإدارة ينبغي أن يفهم بأنه لا يعني بالضرورة فقط الارتشاء والسرقة والنهب، فالإدارة حتى وان ادعت التقوى والصلاح تفسد إذا كانت إدارة متسيبة، عاجزة تعيّن وتبقي غير المؤهلين في مناصبهم، تنفذ السياسات بطريقة خاطئة لأن هذا يؤدي إلى نتائج سيئة لا يقل عن نتائج الارتشاء والسرقة والنهب.
إذن فالخلاصة انه لا إدارة نزيهة من دون دولة القانون، وأنه على هذا تتداخل الأولويتان لتصبحا أولوية واحدة: دولة القانون تبدأ بدولة القضاء، ودولة القضاء لا تستقيم من دون دولة القانون الذي يطبق على الجميع من دون استثناء، وعلى هذا الأساس تنظم الحياة وتصان الحريات، ويمنع الظلم، وتمنح الحقوق، والحقوق هنا تلك التي يجب ألا تتجمد على أعتاب النصوص، بل تغوص إلى الأعماق، تفتش عن الحاجات والأحلام، وتلبي تطلعات الناس وتكون أساس الديمقراطية والتنمية والعدالة، لذلك لا ينبغي أن تعد إشارة عابرة تلك التي شدد عليها قبل أيام عاهل البلاد حفظه الله والمتصلة بنزاهة القضاء واستقلاليته وحياديته، وتطور الجهاز القضائي البحريني، فهي إشارة من شأنها أن تفتح أبوابا جديدة تكثر من عناصر الموثوقية في جاهزية ونزاهة السلطة القضائية وتعزيز أوضاعها واحترام أحكامها والالتزام بتنفيذها.
وفي المقابل هناك من يرى بأن مفهوم دولة القانون هو مفهوم غامض خاضع لكثير من الضبابية في دولة تطرح نفسها كدولة قانون، لأنه لو رفع هذا الشعار في دولة من الدول العريقة في الديمقراطية والتي قطعت شوطاً طويلاً في إرساء سيادة وحاكمية القانون لما اهتدى المواطن فيها إلى مفهوم أو مضمون معين، لأنه لا معنى في هذه الدولة إضافة القانون للدولة، أو إضافة الدولة للقانون فهما معاً متلازمان في كل مناحي الحياة، وليس كما هو الحال في بلداننا التي تتحدث باسم القانون، وتطرح نفسها بأنها دولة القانون، في الوقت الذي يتوه المواطن في البحث عن تطبيقات القانون، عن الفعل والممارسة فلا يجد، مما يشعرك أن شعار دولة القانون أصبح يطرح من باب التمنيات أو الطموحات، الأمر الذي يفرض جعل إصلاح وتطوير النظام القضائي في دائرة الاهتمام الجدي.
وإذا اعتبرنا أن المدونة التي وضعها المجلس الأعلى للقضاء وأعلن عنها نائب رئيس المجلس في ٦ يوليو من العام الماضي، والتي تناولت في أولها استقلال القضاء معنى ومؤدى، وحقوق الخصوم والمتقاضين ومنهاج القاضي والتزاماته، وزيادة إعداد القضاء، وإعداد المحاكم، وإنشاء محاكم جديدة، والأخبار والتصريحات التي توالت في شأن رفع جاهزية السلطة القضائية جهود طيبة مبذولة في هذا الاتجاه، إلا أن ملف تطوير النظام القضائي برمته لازال كما قلنا في السابق يتطلب جهداً استثنائياً يجعل هذا الملف في قمة الأولويات بما يضمن تطويراً حقيقياً وملموساً في النظام القضائي يسرّع من وتيرة تطبيق العدالة وتنفيذ الأحكام، لأنه لا قيمة للعدالة إن جاءت متأخرة أو عندما تكون العدالة البطيئة سيفاً يهدد مصالح وحقوق الناس، ولذلك لم يعد مقبولاً أن تستمر بعض القضايا في أورقة المحاكم والتنفيذ سنوات وسنوات.
نعود إلى الشق المتعلق بالقراءة غير الإيجابية لموضوع دولة القانون، فهناك من وجد بأن ثمة مبالغة في عرض هذا الموضوع، وإذا قبلنا ذلك فإننا حتماً لا نقبل ذلك التلميح بأن مثل هذا الطرح “قد يسيء إلى البلد”.
لاولئك لا نجد كلمة نقولها لهم سوى عودوا إلى ما قاله جلالة الملك، وللتذكير لعل ذلك ينفع، فإن جلالته قد أكد إيمانه بحرية التعبير، وبحرية الصحافة ودعا بأن تكون لديها الجرأة لطرح الحقائق وتسمية الأمور بمسمياتها، مبدياً قناعته بأن ذلك هو صمام الأمان الذي يصون المجتمع، هذا ما قاله الملك، وما قاله حفظه الله لا يجوز تجاهله.



صحيفة الايام
25 يوليو 2008

اقرأ المزيد

محمد حميد الأسود‮.. ‬في‮ ‬زمن‮ ‬غير زمنه‮..‬

هناك نماذج من البشر تستوقفك من الوهلة الأولى لتبدأ معها بعد هذه الوهلة رحلة لا تعرف منتهاها،‮ ‬بل أحياناً‮ ‬لا تعرف كيف بدأت،‮ ‬لكنك ربما تعرف شيئاً‮ ‬واحداً،‮ ‬وهو أن هذه النماذج البشرية جديرة بالاهتمام والاحترام والتقدير‮. ‬
واحد من هذه النماذج التي‮ ‬استوقفتني،‮ ‬محمد حميد الأسود،‮ ‬شاب‮ ‬يبلغ‮ ‬من العمر واحداً‮ ‬وعشرين عاماً،‮ ‬يعمل في‮ ‬أحد المحلات التجارية التي‮ ‬اكتسبت سمعة طيبة في‮ ‬السوق لبيعها الأجهزة المنزلية كالثلاجات والغسالات والماكرويف والشوايات وغيرها بجانب الأجهزة الإلكترونية والأثاث،‮ ‬وبيعها بأسعار مناسبة وبضمانات لا‮ ‬يشوبها‮ ‬غش أو خداع‮. ‬
محمد حميد هذا الشغيل النشط الذي‮ ‬يتحرك ويحرك المتجر كخلية نحل،‮ ‬ربما،‮ ‬بل أجزم،‮ ‬أنه أحد أسباب هذه السمعة الطيبة للمتجر،‮ ‬فهو شاب مكافح منذ نعومة أظفاره،‮ ‬يدير المتجر بمهارة فائقة،‮ ‬ويتحدث اللغة الهندية كما لو أنه من أبناء القارة الهندية،‮ ‬ويوجه العمال الهنود وبلغتهم بدقة،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت نفسه‮ ‬يتمتع بحاسة إدراكية نادرة في‮ ‬فهمه لذائقة المشتري،‮ ‬ولكنه الناصح وإن قل سعر الجهاز الذي‮ ‬وجهه إليه عن السعر الذي‮ ‬اختاره الزبون،‮ ‬يتعامل محمد حميد مع كل الأجهزة بوصفها أفراد عائلته،‮ ‬يعرف كل صغيرة وكبيرة عنها،‮ ‬ويعرف ما إذا كانت هناك أخوات أو إخوان لها في‮ ‬المخزن،‮ ‬ومتى ستأتي‮ ‬البضاعة الجديدة للمتجر،‮ ‬هناك أيضاً‮ ‬أجهزة تسهّل المهام أمام من لا‮ ‬يعرف اللغة الإنجليزية،‮ ‬محمد حميد‮ ‬يدلك عليها ببساطة،‮ ‬إنها ترشدك عبر لغتها العربية،‮ ‬وإذا استعصى عليك أمر ما محمد حميد‮ ‬يقصد منزلك أو مكان عملك ليحل لك المشكلة ببساطة شديدة‮.‬
محمد حميد‮ ‬يدعك لحظات مع نفسك لتقتنع في‮ ‬نهاية الأمر بأن اقتراحه كان صائباً‮ ‬ومعقولاً،‮ ‬وليعطي‮ ‬زبائن أجانب إنجليز أو‮ ‬غيرهم بعض وقته وليتحدث قدر الإمكان بلغتهم،‮ ‬وابتسامته الطفولية البريئة لا تفارق وجهه وحركته الخفيفة التي‮ ‬اعتادت التكيف مع زوايا المكان المكتظ بالأجهزة تجعلك تتوقع بأن محمد حميد سيباغتك هذه اللحظة من خلف أحد الأجهزة أو ربما من داخلها‮. ‬
محمد حميد الشاب البسيط العصامي‮ ‬الذي‮ ‬يوزع جسمه ومرحه على جميع العاملين والزبائن في‮ ‬المتجر،‮ ‬يتعامل مع الكمبيوتر بمهارة أيضاً،‮ ‬فيدون حسابات ويخصم من هذا الزبون أو ذاك،‮ ‬ويحدد مواعيد،‮ ‬وكما لو أن محمد حميد الأسود هو كل شيء في‮ ‬المتجر،‮ ‬بل إني‮ ‬أحياناً‮ ‬أزعم أنه ربما‮ ‬يدرك أموراً‮ ‬لا‮ ‬يدركها مالكها‮. ‬
محمد حميد لم‮ ‬يبلغ‮ ‬من الدراسة إلا الثاني‮ ‬إعدادي،‮ ‬لم‮ ‬يكمل دراسته،‮ ‬فهو منذ كان طفلاً‮ ‬يستيقظ مبكراً‮ ‬في‮ ‬قريته كرّانة ليباشر عمله في‮ ‬حصاد الخضروات وبيعها في‮ ‬سوق جدحفص،‮ ‬ليبدأ هناك في‮ ‬حوار مع الباعة والمشترين،‮ ‬مع جنسيات مختلفة،‮ ‬ليعود قريته مساء وبحوزته بعض النقود والكثير مما تعلمه في‮ ‬شؤون البيع والحياة‮.‬
محمد حميد اشتغل في‮ ‬المخازن الكبيرة وهو صبي‮ ‬مع الآسيويين وتعلم الكثير منهم وأهمها لغتهم،‮ ‬حمل العبء الكبير ولم‮ ‬يكف محمد عن التعلم والإصرار على التعلم كما لو أنه‮ ‬يرغم الفرصة أن تسمح له بالتعلم وتعويضه ما فقده من المدرسة مبكراً،‮ ‬بل إنه لم‮ ‬يكتف أن‮ ‬يكون عاملاً‮ ‬في‮ ‬المخازن فحسب،‮ ‬إنه إلى جانب ذلك كان سائقاً‮ ‬للمتجر،‮ ‬يوصل العمال والأجهزة إلى مكانهم الآمن من دون تذمر،‮ ‬ويعتبر ذهابه وإيابه في‮ ‬الباص بجانب العمال فرصة لتعلم ما لم‮ ‬يتعرف عليه بعد من لغتهم‮. ‬
محمد تزوج مبكراً‮ ‬ولكنه‮ ‬يعرف مطالب الحياة والزوجية،‮ ‬فأغلب وقته‮ ‬يمنحه للعمل ولكنه بعقل راجح‮ ‬يرى أن بعد التعب راحة ويكفيه أن زوجته تتفهم حالته‮. ‬
مثل محمد حميد الأسود كيف نصنفهم؟ إلى أي‮ ‬حد‮ ‬يتفهمهم أرباب العمل؟‮ ‬
هل‮ ‬يدركون الجهد والطاقة التي‮ ‬يبذلهما محمد حميد من أجل الترويج للمتجر؟ ولكن محمد حميد دائماً‮ ‬يبدي‮ ‬ارتياحه من عمله ومن القائمين عليه ذلك أن الإخلاص الذي‮ ‬يتحلى به من أجل الحفاظ على سمعة المتجر نادر كشخصه وبلا شك لا بد أن له مصادر قد‮ ‬يكون أحدها صاحب المتجر نفسه‮.‬
إن الجولة السريعة التي‮ ‬قمت بها وزوجتي‮ ‬في‮ ‬المتجر الذي‮ ‬يعمل به محمد حميد،‮ ‬عرفتنا على أشياء وخصال كثيرة تمتاز بها نماذج ربما أخرى من أمثال محمد حميد،‮ ‬والذين‮ ‬يتمتعون بتجربة وخبرة‮ ‬غير عاديتين في‮ ‬العمل،‮ ‬وينبغي‮ ‬أن‮ ‬يوضع لهما حساب حين‮ ‬يتعلق الأمر بالتوظيف،‮ ‬فليست الشهادة الأكاديمية دائماً‮ ‬هي‮ ‬المهم،‮ ‬فربما ما‮ ‬يتمتع به محمد حميد في‮ ‬تسويق بضاعة المتجر‮ ‬ينقص أهل دراسة في‮ ‬المجال،‮ ‬كما إن تعامله مع الزبائن والعمال‮ ‬يحتاجه كثيرون‮ ‬يعملون في‮ ‬إدارات العلاقات العامة وإدارات الأعمال‮.‬
محمد حميد الأسود ورشته الحقيقية هي‮ ‬الحياة،‮ ‬ولكنها المسؤولية أيضاً‮ ‬وليست اللا مبالاة،‮ ‬فهو‮ ‬يتحلى بصبر لا‮ ‬يستعجل فيه أمر راتبه أو ترقيته أو محصل شهادته،‮ ‬إنه‮ ‬يصغي‮ ‬جيداً‮ ‬إذا سألته وغالباً‮ ‬ما‮ ‬يجيبك باستحياء وإن كان واثقاً‮ ‬مما‮ ‬يجيبك عنه،‮ ‬إنه الشاب العصامي‮ ‬الذي‮ ‬تتمنى أن‮ ‬يكون المستقبل سنداً‮ ‬له،‮ ‬وأن‮ ‬يكون أنموذجاً‮ ‬يحتذي‮ ‬بتجربته وخبرته وبساطته وعفويته وصبره وإنسانيته كثير من الشباب،‮ ‬ومحظوظ من حظي‮ ‬بمحمد حميد في‮ ‬متجره لأنه حظي‮ ‬بذاته الأخرى في‮ ‬هذا المتجر،‮ ‬فأية ثقة بعده‮ ‬يحتاج؟
 
صحيفة الوطن
25 يوليو 2008

اقرأ المزيد

يستغل ماضيه الوطني ليمارس دكتاتوريته حاضرا

ليس بمستغرب ما يجري في زيمبابوي من أعمال عنف وملاحقات لرموز المعارضة السياسية، طالما جمهورية زيمبابوي هي أحد أنظمة دول العالم الثالث المشهورة بالدكتاتورية والانقلابات العسكرية والقبضات الحديدية. كما أنه ليس من الغرابة بشيء في أن يخوض الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي خلال جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية هو وحده من دون أي منافس له وبلا معارضة تذكر، بعد أن خسر في الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية في 29 مارس 2008م بنسبة 2،43% من الأصوات، أمام زعيم المعارضة «حركة التغيير الديمقراطي« مورجان تسفا نيجراي الذي كسب تلك الانتخابات بنسبة 9،47% من الأصوات..
ولكن بدلا من اعتماد نتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع العام واحترام إرادة الشعب وأصوات الناخبين.. يقوم الرئيس موجابي بتزوير الانتخابات في جولة الإعادة بعد خسارته، لكنه يعلن في نهاية المطاف فوزه بالأكثرية الساحقة شكليا بينما هي مزورة جوهريا وبالتالي يلاحق المعارضة والتنكيل بها وقد جاءت نتائج تلك الملاحقات والمداهمات «قتل تسعين من أعضائها ومناصريها وإصابة أكثر من عشرة آلاف خلال فترة الانتخابات وتهجير أكثر من عشرة آلاف طفل من منازلهم وتحويل بعض مدارسهم إلى مراكز للتعذيب« بحسب ما أورده تقرير الأمم المتحدة.. ولعل من سخرية الأنظمة الأوتوقراطية وعلى رأسها نظام زيمبابوي في أن تهمش المعارضة وإبعادها عن المشاركة واتخاذ القرار ويلاحق رموزها ويفرض على زعيمها تسفا نجيراي بالانسحاب من الانتخابات لجولة الإعادة بعد فوزه في الجولة الأولى، مناشدا أنصاره التصويت لصالح الرئيس موجابي «لتجنب تعرضهم للأذى بل سيخاطرون بحياتهم إذا ما اقترعوا ضد موجابي« بحسب ما جاء على لسان زعيم المعارضة (تسفا نيجراي).. هكذا تظل المعارضة السياسية لدى دول العالم الثالث ليست مهمشة فحسب ولكن أيضا بث الرعب في نفوس مناضليها عبر ملاحقاتهم وترهيبهم والبطش بهم بالاغتيالات والمنافي والسجون والمعتقلات، وفي عدم الاعتراف بهذه المعارضة السلمية أو العقلانية تلك.. لعل القول يبقى صحيحا بهذا الصدد أنه مهما عظم شأن الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي بحمله ألمع الألقاب وكبرى التسميات كلقب أبي الاستقلال أو مناضل في تصديه الاستعمار الأجنبي ونضالاته ضد نظام التمييز العنصري برئاسة الرئيس الروديسي أيان سميث آنذاك، ومعاداته الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية المتحدة، فإن هذا الرصيد الوطني الذي حمله الرئيس موجابي بالأمس لن يشفع له البتة اليوم، حينما ينصب نفسه حاكما لزيمبابوي مدة ثلاثة عقود تقريبا، ويمدد حكمه بولاية خامسة مشوبة بالتزوير والنصب مفعمة بالعنف والاستبداد.. كما أن رزوح الرئيس موجابي في السجن عام 1964 مدة عشرة أعوام ابان نضالاته ضد النظام العنصري فإن التاريخ في الوقت ذاته لا يصفح عما ارتكبه ويرتكبه اليوم الرئيس الزيمبابوي من أخطاء فادحة بحق المعارضة ومصادرة حقوقها وانتهاك شرعيتها وملاحقة زعيمها ومن ثم إبعادها عن المشاركة في الحكم بل اتهامها بالعمالة للغرب، كذريعة لدكتاتوريته واستبداده بحسب مبررات الحكام الدكتاتوريين، التسويفية والديماغوجية… لعل في ضوء هذه الحقائق المريرة، فإن الرئيس روبرت موجابي باع تاريخه من أجل كرسي الحكم الذي اعتاده واستهواه، وتشبث به بقدر ما نسف تضحياته الوطنية من أجل أهوائه الشخصية ومصالحه السياسية هو ومصالح حزبه الحاكم.. ليس هذا فحسب ولكن سعي الرئيس موجابي بحثيث خطواته في ضرب تاريخه وتضحياته عرض الحائط لا يهمه الإساءة لسمعته وأفكاره ومبادئه، حينما سد أذنيه بالطين والعجين لتفادي السماع وتجنب الإنصات لتلك الاحتجاجات والانتقادات سواء الصادرة عن الأمم المتحدة وأمينها العام (بان كي مون) الذي أكد بقوله «إن الانتخابات الرئاسية في زيمبابوي التي جددت ولاية الرئيس موجابي غير شرعية بسبب أعمال العنف التي تخللت الاقتراع«.. أم مناشدات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا الحاكم للرئيس موجابي «بتأجيل انتخابات الإعادة بعد انسحاب زعيم المعارضة تسفا نجيراي من جولة الإعادة«.. أم احتجاج واستياء المعارضة حركة التغيير الديمقراطي بقول زعيمها «هو يوم إهانة وعار مناشدا أبناء زيمبابوي مقاطعة الانتخابات لأن موجابي يتجاهل مشاعر الزيمبابويين«.. في نهاية المطاف نستطيع القول إن الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي الذي حرف عملية الانتخابات الرئاسية بالاحتيال والتزوير من أجل الاستئثار بالكرسي والسلطة بقدر تهميش وإقصاء المعارضة وعدم الاعتراف بفوز زعيمها تسفا نجيراي في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية.. فإن الرئيس روبرت موجابي قد سلك السياسة الدكتاتورية على غرار سياسات الطغاة من الرؤساء الأفارقة أمثال جعفر نميري وموبوتو سيسكو وعيدي أمين وسياد بري.. بل يظل الرئيس الزيمبابوي موجابي أسوأ من أقرانه الدكتاتوريين.. لكون هؤلاء الطغاة لن يثيروا الاستغراب أو التساؤل لأنهم كشفوا عن دكتاتوريتهم أصلا من بدايات حياتهم السياسية وأحكامهم وسلطاتهم الرسمية الجاثمة على صدور شعوبهم والتنكيل بمعارضيهم.. ولكن الرئيس الزيمبابوي موجابي بعد أن كان مناضلا وطنيا ثوريا، فإنه سقط من أعلى السلم النضالي إلى أسفل السلم الدكتاتوري.. ولذلك فإنه قد يثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام.. من هذا المنطلق يمكن القول إن تاريخ المناضلين مهما اتسم بالصلابة والصمود في فترة تاريخية، ولم يستطع في الوقت ذاته الاستمرارية والديمومة في فترات تاريخية لاحقة بل يتحول إلى النقيض من ذلك.. فإن هذا التاريخ لن يشفع لصاحبه في أن يدرج اسمه في قائمة المناضلين الحقيقيين، بقدر ما يدرج في قائمة الدكتاتوريين والطغاة والاستبداديين.. حتى إن كان صاحب هذا التاريخ الوطني عميدا لسجناء العالم المناضل (نيلسون مانديلا) الذي حافظ على سمعته النضالية وصان تضحياته المبدئية فوجد المكانة العظيمة في ضمير شعبه، بل ضمائر شعوب العالم قاطبة، مثلما سجلت إنجازاته وعطاءاته في صفحات التاريخ، وبحسب ما دون اسمه في سجل الخالدين.. فهل يقتدي الكثير من دعاة الوطنية وعلى رأسهم الرئيس الزيمباوبي روبرت موجابي بحكمة المناضل نيلسون مانديلا (نزاهة مواقفه المبدئية وصلابة نضالاته الوطنية وديمقراطية أفكاره الثورية وتسامح روحه الإنسانية وواقعية أنماطه الحياتية، وارتقاء قيمه الأخلاقية والتزاماته الفكرية) التي هي صفات ومميزات إنسانية بالغة الرقي والسمو تجلى بها المناضل نيلسون مانديلا طوال عمره المديد؟ هل يدرك الرئيس الزيمبابوي موجابي هذه الحقائق التاريخية والوقائع المجتمعية والجماهيرية التي هي واضحة وضوح الشمس التي لا يحجبها الغربال؟
 
صحيفة اخبار الخليج
25 يوليو 2008

اقرأ المزيد

البياض عندما يُخيف


كل شيء أبيض في المستشفى.. لا، ربما ناصع البياض إن شئت، لأنه ببساطة هكذا: الحيطان مكسوة بالبياض، وكذلك الأسرة، أغطيتها، شرا شفها، ألحفتها، مخداتها، وما بها، ومَنْ عليها، وما في جوفِها مزهو بالبياض.


القطن المستعمل لتضميد جراح المرضى أبيض، وكذا اللفافات على الرأس والرقبة والأيدي والأرجل وأي مكان في جسم الإنسان هي الأخرى بيضاء.. ‘الجبيرة’ لتجبير الكسور، أيضاً بيضاء، ثم إن الأطباء يجولون على غرف وأجنحة المستشفى وهم يرتدون ‘روب ‘ أبيض، وقفازات بيضاء، والمفارقة، عندما يموت إنسان ما يلف جثمانه بقطعة قماش بيضاء اللون تسمى ‘كفن’، تلك القطعة التي ‘يتبارك’ أصحابها، ويكونون محظوظين كلما احتفظ بها حاج زار بيت الله الحرام في مكة المكرمة، أو ذهب للعمرة في آخر أيام حياته لتلف به قبل دفنه ورحيله إلى مثواه الأخير.


تُرى، لماذا بات اللون الأبيض مخيفاً، مرعباً في تناقض مع شموخه الجميل؟.. قطعة قماش راية الاستسلام أيضاً بيضاء، حليب الأم أبيض، وكأس الحليب الذي يقدم للمرضى كل صباح مساء، هو الآخر أبيض، وحليب الناقة، أبيض ،وهو كما يصفونه مفيد جداً: ‘يقوي البصر، ويصقل العظام، ويقي المعدة من الأمراض’، هكذا يقول صاحب الوهم ‘عجيل’، الذي ‘يشرب حليب الناقة من خف الجمل كما قرأته في إحدى قصص كاتب عراقي.


نزلاء المستشفى، حين يتأملون ما يحيطهم من بياض يصابون برهبة مزدوجة: لون مريح في الشكل، مربك في مضامينه. وما أن تطأ قدماك عتبات المشفى، لابد أن تصاب بالهواجس.. هناك أطباء، ممرضون وممرضات، قلوبهم ‘بيضاء’ يسألونك عن العِلة ويدونونها على أوراق بيضاء قبل العلاج.. يسألون أسئلة تبدأ بـ ‘حجي’ أو ‘يبه’ إذا كان المريض كبيراً في السن، وبـ’يا ولدي’ إذا كان المعلول شاباً، وهنا ينتظرون أجوبة عفوية من الموجوع ومكامن ألمه في محيط البياض، أما ذو ‘الروب الأبيض’ (الطبيب) الذي يشخص المرض قبل العلاج يكتب على أوراق بيضاء في ملف شخصي. ويبدو أن الورقة البيضاء التي يدوّن الطبيب ملاحظاته في تقاريره الطبية هي أيضاً مخيفة، تماماً كما هي مخيفة عند الكتّاب الصحافيين الجالسين على مكاتبهم وأمامهم ورقة بيضاء تحتاج إلى عصارة مخ لتسويدها بأمانة ضمير، أو بكلمات مفيدة لا تتجه إلى البحر، بل تستقر في أعمق أعماق القراء لبناء الحقيقة.


يبدو، أن الفنانين يواجهون رهبة اللون الأبيض أيضاً، خاصة عندما يعدّون لمشروع فني، للوحة فنية، حيث في العادة مادتها الخام وخلفيتها بيضاء لقماش أبيض جاهز للرسم بانتظار ضربات الفرشاة واللّون قوس قزح، و’في قوس قزح كل الألوان’، ليتشكل إبداعا حقيقياً لشيء مختلف غير متكرر، ألم يقولوا: إن ‘الفن هو إبداع وليس تكراراً’ حتى تغدو اللوحة ساحرة للعيون وللعقول معاً!.


في جناح رقم 23 بمستشفى السلمانية، غرفة عامة رقمها 14 ينام فيها ستة أشخاص، اثنين منهم آسيويان، وأربعة بحرينيون جمعتهم مصائب مختلفة: حوادث سيارات، عمليات جراحية، وآلام في الركب والأرجل والأيدي والمفاصل والظهر، وأيضاً تهشم في الصدر. وكان بيننا شاب وسيم في العشرينات من عمره، اسمه يوسف، ذو شعر فاحم ولحية خفيفة، وفي مصادفة عمياء كان يرتدي ‘تي شيرت’ أبيض و’بنطال رياضي’ رمادي اللون، وكان يؤدي فرائضه الخمس بانتظام فيصلي جالساً على سريره بمساعدة ارتفاع طاولة طعامه في المستشفى التي تعلو على السرير، وبعد أن ينتهي من صلاته تحت رقابة شرطيين بلباس مدني ينظران إليه من نافذة الغرفة أحياناً، أو من بابها المفتوح، وأحياناً أخرى يجلسون بجنب سريره في مراقبة أشد، وكأنه ‘مسجل خطِر’، يبدأ بقراءة آيات من الذكر الحكيم من مصحف بحجم كف اليد، ثم يفتح كتاب يحتوي على مجموعة أدعية وروحانيات يكثر فيها الدعاء بخشوع، وما أن يفرغ من هذا التقليد اليومي ‘بعد كل صلاة ويغسل همومه بالقراءة’، تراه يطلق النكات ويخفف على المرضى أوجاعهم بأحاديث تبدد الجو الكئيب إلى مرح وقهقهات.


دخل هذا الشاب المستشفى، أو أدخلوه، ربما لحفظ ماء الوجه، جراء ما تعرض له من محاولات انتزاع اعتراف (…) وذلك في الخامس عشر من يونيو/ حزيران الماضي، وكان يتكئ على عكازين ويد أخرى مكسورة، وأضلاع على الجهة اليسرى من الصدر منتفخة، وكان قد واجه القضاء فيما بعد، في لحظات كامل حريته المفترضة في الثامن من يوليو/ تموز.. جاء ذلك اليوم وقال ما قاله للقاضي وتم تأجيل محاكمته وآخرين إلى شهر سبتمبر/أيلول القادم. فلننتظر لنرى.


عندما أنهيت أوراق إدخال المرضى بجهود لا بد أن يشكر عليها الدكتور علي جعفر العرادي بعد طول مكابرة للحصول على سرير، عبرت جناح 23 قاصداً غرفة رقم ، 14 فوجدت على بابها كرسيين بأربع عيون، وأربع آذان، وخشمين شمامين، مهمتها، على ما يبدو، مراقبة الداخلين والخارجين بعيون ‘فضولية’ إلى هذه الغرفة الناصعة البياض، والمقصود فيها بالطبع، يوسف.
كما هي العادة عند التعارف الأول، تلقي التحية على الموجودين مصحوبة بتمنيات الشفاء العاجل لهم جميعاً، فيرد الجمع بتحية أجمل منها مقرونة بدوام المعرفة وطول العمر، وطبعاً الصحة، إلا أن يوسف كان مختلفاً في تحيته إذ قال: أهلاً بالصحافة، أهلاً بـ ‘الوقت’ وموضوعيتها.. ثم سأل: عسى ما شر؟


بطبيعة الحال أدخل إلى قلبي السرور والزهو في آن، وذلك لمرتين: الأولى، لأنه يعرفني بالاسم والمهنة، والثانية لإطرائه على الصحيفة التي أعمل فيها.. مما حفزني الفضول الصحافي أن أسأله عن يده المجبرة باللّون الأبيض والعكازين المستقرين تحت سريره؟ وهنا تذكرت ‘نصاً مقدساً’ عند طائفة الصابئة المندائية في ‘كتابهم المقدس’ ‘كنزا ربا’ كما يصفونه يقول: ‘إن عكازتكم يوم الحساب أعمالكم التي عليها تتوكأ ون، فانظروا إلى ماذا تستندون؟’.


بعد صمت امتد لأكثر من دقيقة، كانت عيونه تراقب الرقيبين، وربما بعد أن اطمأن، أشار بإبهامه وكأن في الأمر إنَّ (…) فهمت إشاراته الشاردة، لكنه زاد من فضولي الصحافي لمعرفة المزيد، حول ما يجري لهم هناك. وهنا، ونحن نتجاذب أطراف الحديث بهدوء، حاولت أن استعين بكلمات تعلمتها من عبد الرحمن منيف في رائعته ‘الأشجار واغتيال مرزوق’، فقط لأقويه. كدت أقول له: ‘لا تضعف، أتسمع ما أقول لك؟ لا تضعف[1]’. لكن غصة كبيرة وقفت في بلعومي ومنعتني عن الكلام.. تراجعت متسائلاً: ماذا لو كنت مكانه؟ ألم أضعف لتخليص نفسي من العذاب وأوقع على ما يريدون، وأقر بجرم لم أرتكبه، رغم أن المعادلة تقول: ‘افعل ما تريد، ثم فتش عن الأسباب والمبررات’.
سرح خيالي في التفكير والتأمل.. مرّ طيف لمقولة شهيرة قالها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي تلامس الواقع مفادها: ‘القديم لا زال قديماً، والجديد ينتظر الولادة’.

[1] عبد الرحمن منيف، ‘الأشجار واغتيال مرزوق’، ص13

– من أسرة تحرير ‘الوقت’

 
الوقت 22 يوليو 2008

اقرأ المزيد

قوس اللهيب عند المضيق

تتالت الشهور ونحن نتابع مسألتين بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬وبينهما إسرائيل المحرض الكبير للفتنة وإشعال اللهيب‮. ‬
المسألة الأولى كانت وما تزال عملية تبادل الاتهامات والتجاذب السياسي‮ ‬الدولي‮ ‬حول حقوق إيران في‮ ‬عملية تخصيب اليورانيوم من أجل الأغراض السلمية واحتياجات إيران المستقبلية للطاقة،‮ ‬فيما تردد الولايات المتحدة وإسرائيل موالهما الدائم بأن التخصيب‮ ‬يتم من اجل أغراض عسكرية،‮ ‬وقد تم تخصيص واعتماد كل الإجراءات الشرعية والدولية المعنية بمراقبة المشروع النووي‮ ‬الإيراني،‮ ‬وخصصت فرق ولجان دولية للتفاوض والتفتيش،‮ ‬بل وتواصلت المفاوضات السياسية إلى حد بات العالم‮ ‬يدرك أن المسألة ما عادت فقط هي‮ ‬مسألة تخصيب اليورانيوم،‮ ‬وإنما خلع أظافر النمر الإيراني‮ ‬وتطويق حركته داخل القفص،‮ ‬إذ لا تحتمل القوى الكبرى والإقليمية وجود دولة مؤدلجة تحمل من العداء والاستشراس الواضح لخصمين لدودين لديها هما الولايات المتحدة وإسرائيل،‮ ‬وبالمثل‮ ‬يبادلها الطرف الآخر الكراهية والعداء ذاته‮. ‬
بينما ظلت المسألة الثانية مرهونة ومرتبطة بالمسألة الأولى وهي‮ ‬مسألة الإرهاب ووضع إيران في‮ ‬محور الشر‮. ‬
تلك الثنائية النووية والإرهاب ظلتا طوال سنوات على المحك والهجوم الإعلامي‮ ‬والسياسي‮ ‬والحصار المتنوع،‮ ‬غير انه في‮ ‬السنوات القليلة الأخيرة تصاعد إلى حد بدا أكثر استنفارا،‮ ‬خاصة مع مرحلة ضرب البرجين في‮ ‬نيويورك وتداعي‮ ‬قضايا بعدها ومن أهمها سقوط حكومة طالبان المؤقتة وانهيار نظام صدام حسين ودخول القوات الأمريكية إلى قلب بغداد‮. ‬فبدا اللعبة والصراع أكثر وضوحا لدى العالم،‮ ‬وتوترت القضايا والعلاقات بين إيران والولايات المتحدة إلى حد التأزيم،‮ ‬حالما وجدت إيران نفسها مهددة من الجوار العراقي‮ ‬وانتشرت القواعد العسكرية الأمريكية في‮ ‬المنطقة بشكل مكثف‮. ‬ولم‮ ‬يكن تمرين إسرائيل العسكري‮ ‬في‮ ‬صيف ‮٦٠٠٢ ‬في‮ ‬جنوب لبنان ومواصلتها الحصار في‮ ‬غزة إلا تعبيراً‮ ‬عن مشروع أوسع في‮ ‬المنطقة طرحت إيران نفسها كبديل للمواجهة العربية والإسلامية من خلال دعمها للقوى المعارضة لسياسات الولايات المتحدة وتدخل إسرائيل‮ ‬غير المباشر والمباشر في‮ ‬شؤون ومصير المنطقة بشكل سافر‮. ‬
ويبدو واضحاً‮ ‬أن الخطوات تقترب من إشعال الفتيل بين الأطراف حتى وان تم بناء جسور من التفاوض السري‮ ‬والعلني‮ ‬ووجود وسطاء عجزوا عن تخطي‮ ‬العقبات حتى آخر نفس لديهم،‮ ‬وقدموا حزمة من الحوافز لعل إيران تتراجع عن مشروعها النووي‮ ‬الذي‮ ‬زاد من توتر العلاقات في‮ ‬المنطقة عبر لهجة‮ »‬العسكرة والقوة‮«‬،‮ ‬فكلما توتر الخطاب السياسي‮ ‬بين الخصوم والحلفاء وجدنا بروز استعراض القوة وشهدنا مناورات متواصلة‮ ‬يعبر فيها كل طرف عن استعداده للمواجهة‮. ‬هذا الخطاب السياسي‮ ‬في‮ ‬نبرته العسكرية‮ ‬يضع منطقة الخليج القائمة على بحيرة من النفط،‮ ‬بجعل مضيقها الضيق نقطة لهيب‮ ‬ينتظر الاشتعال من أول عود ثقاب قادم من الجهتين‮. ‬
وهناك مؤشرات في‮ ‬اتجاه التصعيد في‮ ‬حالة رفض الجمهورية الإيرانية في‮ ‬نهاية شهر‮ ‬يوليو لكافة المقترحات،‮ ‬حتى وان التقت الأطراف حول‮ »‬اسطوانة التكرار الممل‮«‬،‮ ‬فلغة التحدي‮ ‬والتحدي‮ ‬المضاد هي‮ ‬الأكثر بروزا طوال هذه السنوات،‮ ‬وكأننا ننتظر اندلاع الحريق لكل تلك البراميل السابحة في‮ ‬مياه الخليج‮. ‬فهل بالفعل تقلق القوى العالمية ودول المنطقة من حالة نشوء‮ »‬تملك إيران النووي‮ !!« ‬أم أنها مسألة مخاوف سياسية من المشروع الأيديولوجي‮ ‬الإيراني‮ ‬الذي‮ ‬تقوده قوى الحرس الجمهوري‮ ‬والصقور المتربعين في‮ ‬طهران وهم‮ ‬يواجهون صقوراً‮ ‬ومحافظين جدداً‮ ‬في‮ ‬واشنطن؟ فكلما قلبنا المسألة النووية‮ – ‬سلمياً‮ ‬وعسكرياً‮ – ‬نرى أن تملك باكستان والهند وإسرائيل في‮ ‬تلك الدائرة الجغرافية،‮ ‬يضعنا أمام منطق الحق والحقيقة بأن إيران من حقها تمّلك ما‮ ‬يملكه الغير‮. ‬
نحن اليوم أمام اختبار كبير للقوة والتحدي‮ ‬والكارثة المحتملة،‮ ‬فليست المسألة من الذي‮ ‬سينتصر،‮ ‬فتلك قضية مفروغ‮ ‬منها في‮ ‬ظل توازن القوى،‮ ‬ولكن بأي‮ ‬ثمن ستكون تلك المواجهة القادمة‮. ‬ما نشهده من تبادل في‮ ‬الخطاب السياسي،‮ ‬ولعبة الخطاب المزدوج بين الولايات المتحدة وإسرائيل‮ ‬يربكنا بخداعه،‮ ‬فإن ما تقوله الأولى ترفضه الثانية بل وتحاول أمريكا إشعار العالم بأنها الطرف الذي‮ ‬يهدّئ من روع إسرائيل ويؤجل الهجوم الإسرائيلي‮ ‬المحتمل،‮ ‬وكأنما إسرائيل وحدها المعنية باختلال توازن القوى العسكري‮ ‬في‮ ‬المنطقة ولا‮ ‬يمكنها القبول بذلك كونها‮ »‬سيدة القوة المطلقة‮«. ‬
هذا الوهم المكسور في‮ ‬حرب الجنوب اللبناني‮ ‬سنراه قريبا في‮ ‬امتحان القوة عند مضيق اللهيب وفي‮ ‬تلك المراكز السرية والمعلنة لمشاريع التخصيب،‮ ‬التي‮ ‬سيستهدفها الطيران الإسرائيلي،‮ ‬الذي‮ ‬قام منذ شهور بمناورات عسكرية على طيران طويل المدى لا‮ ‬يمكن تفسيرها إلا بوجود دولة مستهدفة من إسرائيل تنوي‮ ‬تدمير مواقعها الحيوية‮. ‬ولن تكون الولايات المتحدة طرفا متفرجا أو محايدا وإنما لاعبا أساسيا في‮ ‬ذلك التدمير المحتمل والممكن،‮ ‬غير أننا لا نعرف حجم ردود الفعل في‮ ‬حرب خاطفة لن تكون فيها للأرض والجغرافيا أهمية تذكر‮. ‬

صحيفة الايام
22 يوليو 2008

اقرأ المزيد

ترشيد الخطاب السياسي

الدعوة إلى صون الوحدة الوطنية للمجتمع التي‮ ‬أكد عليها جلالة الملك في‮ ‬لقائه مع رؤساء تحرير الصحف المحلية،‮ ‬أتت في‮ ‬سياق شعور عام في‮ ‬البلد بأن المجتمع‮ ‬ينزلق نحو متاهة طائفية مدمرة‮.‬ وتحدثنا مراراً‮ ‬بأن في‮ ‬يد الدولة الكثير من الإمكانيات التي‮ ‬تجعلها في‮ ‬وضع القادر على ضبط الأمور كي‮ ‬لا تخرج عن السيطرة،‮ ‬فتغدو الطائفية عنواناً‮ ‬ومحتوى للتناقض في‮ ‬البلد،‮ ‬فيما منهجنا‮ ‬يقول بأن مصدر التناقض في‮ ‬أي‮ ‬مجتمع،‮ ‬هو مصدر اجتماعي‮ ‬ذو صلة بتوزيع الثروة على المواطنين بروح العدل والمساواة،‮ ‬حيث أن هذه الثروة حق عام للمجتمع كله،‮ ‬ومن حق أفراد هذا المجتمع الانتفاع بها بشكلٍ‮ ‬يؤمن لهم الحياة الكريمة‮.‬ التأكيد على فكرة المواطنة مدخل صائب لمواجهة الطائفية فكراً‮ ‬وسلوكاً،‮ ‬وهذا ما نرى أن الجزء الأكبر من المسؤولية في‮ ‬تثبيته وتطبيقه‮ ‬يقع على عاتق الدولة‮.‬ لكن للأسف الشديد فان الطائفية،‮ ‬وعياً‮ ‬وسلوكاً،‮ ‬باتت في‮ ‬ظروف اليوم ممارسة مجتمعية أيضاً‮ ‬تتورط فيها جمعيات سياسية وصناديق خيرية ومنابر دينية وصحافية ومواقع اليكترونية‮.‬ عندما كانت تياراتنا الوطنية والديمقراطية في‮ ‬صدارة المشهد السياسي‮ ‬نجحت في‮ ‬خلق وعي‮ ‬وطني‮ ‬عميق لدى منتسبيها وأنصارها وجمهورها،‮ ‬عمت تأثيراته على المجتمع،‮ ‬وفي‮ ‬أصعب الظروف استطاعت هذه التيارات أن تُبقي‮ ‬جذوة الأمل حيةً‮ ‬في‮ ‬القلوب والعقول بالمستقبل الموحد للشعب‮.‬ لكن ما أن أصبحت المبادرة في‮ ‬أيادي‮ ‬ممثلي‮ ‬تيارات الإسلام السياسي‮ ‬على تلاوينها ومذاهبها المختلفة،‮ ‬حتى شاع الخطاب الطائفي‮ ‬البغيض،‮ ‬وصار‮ ‬يمارس تأثيره على عامة الناس،‮ ‬فلم تعد المسألة مواجهة الاستحقاقات الوطنية الجامعة،‮ ‬وإنما التعبير عن مصالح الطائفة،‮ ‬مما ولدّ‮ ‬مفاهيم ومفردات جديدة من نوع المظلومية أو المحاباة،وهي‮ ‬تعبيرات حين تُطلق فان التفكير‮ ‬ينصرف نحو الطوائف لا نحو المجتمع كاملاً‮.‬ هذا الخطاب الطائفي‮ ‬غالباً‮ ‬ما اقترن بدرجة من السوقية السياسية والابتذال التي‮ ‬نطالع نماذج لها على بعض المواقع الاليكترونية وفي‮ ‬بعض خطب المنابر الدينية،‮ ‬وفي‮ ‬بعض الفعاليات الاحتجاجية التي‮ ‬لا تأخذ طابع الدفاع عن حقوق الناس،‮ ‬وإنما الانتصار للطائفة ورموزها‮.‬ جلالة الملك دعا في‮ ‬كلمته أمام رؤساء تحرير الصحف إلى الابتعاد عن السباب والشتائم والإساءة،‮ ‬وهي‮ ‬دعوة تصب في‮ ‬اتجاه ترشيد الخطاب السياسي‮ ‬في‮ ‬البلد وعقلنته ليكون خطاباً‮ ‬مسؤولاً،‮ ‬يتوجه نحو الجوهري‮ ‬من الأمور،‮ ‬حيت تغدو الجمعيات السياسية معنية ليس فقط بأن تقوم بدور الرقيب لأداء السلطة التنفيذية ونقد ومعارضة أوجه الخلل والتقصير والفساد في‮ ‬أدائها،‮ ‬وإنما أيضاً‮ ‬تقديم البديل المقنع على شكل برامج اجتماعية واقتصادية وسواها،‮ ‬وهي‮ ‬أمور لن تنجزها الخطابة الثورية وما‮ ‬يندرج تحتها من أشكال تحريض لفظية.
 
صحيفة الايام
22 يوليو 2008

اقرأ المزيد

عودة حليمة إلى عادتها القديمة..!

 

 

 



حتى في حمأة اشتداد التصارع بين السلطة المستقوية بواجهاتها الدينية التي صنعتها واستبسلت من أجل ايصالها إلى البرلمان في نسختيه الأولى والثانية، وبين المعارضة الدينية التي اختارت بمحض ارادتها خوض هذا الصراع بمواد وأدوات طائفية مدمرة – حتى في حمأة اشتداد هذا التناطح، لم تفقد القوى الوطنية والديمقراطية بوصلتها قيد انملة، بل صعّدت من خطابها المشدِّد على الطابع الوطني الديمقراطي للنضال المشروع للشعب البحريني والذي وضعت بينه وبين التخريب والفوضى الغوغائية حدا فاصلا لا يقبل المساومة.



وهي لذلك إذ تؤكد على سلمية النضال الذي كفلته لكافة شعوب الأرض المواثيق والمعاهدات الدولية، فانها تدين وتستنكر بأشد عبارات الشجب والتنديد أعمال التعذيب التي أكدت هيئات الدفاع عن المعتقلين الذين حوكموا في قضايا العنف مؤخرا تعرضهم لها.

 
والقوى الوطنية والديمقراطية التي أخذت على عاتقها مطلع تسعينيات القرن العشرين الماضي كسر حاجز الخوف الذي انشأه نظام أمن الدولة وقانونه سيء الصيت بتصدرها لمبادرة العريضة النخبوية، والتي قدمت تضحيات جسيمة، استشهادا، وسجنا ونفيا ومحاربة في الرزق، من أجل وضع حد لمناخ الخوف المشاد على صنوف التعذيب التي مورست على نطاق واسع في تلك الحقبة السوداء، لن تسمح بأن يستغل الجلادون حالة الارتباك والعشوائية التي تجتازها حركة النضال الوطني راهنا، للعودة ثانيةً إلى عادتهم القديمة بعد أن أمَنوا عقوبة جرائمهم السابقة.   


 

اقرأ المزيد