المنشور

البقاء للأصلح‮!‬

قرأت العمود الذي‮ ‬كتبه راشد الغائب في‮ ‬جريدة الأيام‮ ‬يوم الخميس بتاريخ ‮٧ ‬أغسطس بعنوان‮ »٣٦٥ ‬جمعية‮ .. ‬مرحبا‮« ‬حول الجمعيات الكثر المشهرة والعدد الواقف في‮ ‬صفوف الانتظار لتنضم لقافلة تموجات‮ »‬المد والجزر‮«. ‬في‮ ‬النهاية أهلا وسهلا بالجميع في‮ ‬خضم العمل التطوعي‮ ‬غير الحكومي‮ ‬لعل مجتمعنا‮ ‬يستفيد من الطاقات المعطلة والكامنة‮. ‬فهل نتوقف عن تأسيس جمعيات تهمنا نحن البشر بدلا من الجلوس لساعات طويلة في‮ ‬المقاهي‮ ‬لنفث سموم الشيشة أو لعب الورق لوقت‮ ‬يطول ليلا أو الانغماس أحيانا في‮ ‬الشعوذة المبتكرة من التيارات الدينية المتشددة،‮ ‬التي‮ ‬لا تتركك ترتاح‮. ‬إنها‮ »‬مسجات‮« ‬كلها نصائح وعظات مرعبة تذكرك بالنار وعذاب القبور‮. ‬
في‮ ‬مثل هذا النوع من المجتمع الخامل والمعاق بالملل والتأفف والبجبجه،‮ ‬من الضروري‮ ‬أن تولد جمعيات جديدة نافعة وفاعلة ومنتجة،‮ ‬وإذا ما تعثرت وتراجعت كالحضارات التي‮ ‬سادت ثم بادت فذلك أمر طبيعي‮ ‬في‮ ‬تطور الحياة ومجراها،‮ ‬خاصة وإننا دعاة مقولة البقاء للأصلح‮. ‬
المهم أن تتحرك المجموعات الإنسانية وتمارس دورها الاجتماعي‮ ‬حتى وان بدأت نشطة ثم خملت وخمدت إلى درجة‮ »‬الضمور البيولوجي‮!« ‬أو انطلقت بقوة المدفع ثم شلتها الظروف أو تبخرت من تلقاء ذاتها أو نضب‮ ‬ينبوع الحماس لروادها فدخلوا دار العجزة الاجتماعي،‮ ‬أو أنها اكتشفت من تلقاء نفسها أن الدوافع الخفية للتسلق لم تنجح في‮ ‬الوصول لتحقيق الأهداف الخفية،‮ ‬بعد تكشف منطلقاتها وبرامجها وأهدافها المجردة على الورق،‮ ‬غير أنها تنمو وتترعرع بفضل ثقافة العمل التطوعي‮ ‬الصحي‮ ‬وفهم قيمته داخل المنظمات‮ ‬غير الحكومية،‮ ‬وهذه لا‮ ‬يمكن نسجها وتحويلها لكيانات فاعلة داخل مجتمع اتكالي‮ ‬أو مجتمع عاش خائفا داخل قبو الاستبداد،‮ ‬ثم فجأة اكتشف انه‮ ‬يعيش‮ »‬أنوار الإصلاح‮« ‬ومصابيحه الكاشفة فأصيب بالانبهار والدهشة‮.‬
إذ كان النظام سابقا‮ ‬يحرم كل أشكال التجمع ويعتبرها واجهات سياسية للمنظمات التخريبية،‮ ‬فما كان على الجماعات المرتجفة من كل دبيبة في‮ ‬الأرض‮ »‬إلا المشي‮ ‬بمحاذاة الجدار والاحتماء بظله قدر المستطاع‮. ‬فهل بالإمكان‮ – ‬بين ليلة وضحاها خلق منظمات وجمعيات بقيم فاعلة ومفيدة للمجتمع؟‮!«. ‬كانت الاندفاعة قوية‮ – ‬ولا تزال‮- ‬كجزء من تكوين وعاطفة شعبنا إزاء العمل الاجتماعي‮ ‬التطوعي‮ ‬التقليدي،‮ ‬وهو ما‮ ‬ينبغي‮ ‬الحفاظ عليه وتحويله إلى طاقة حيوية وليس مجرد عملية مزاجية تنتفخ كالبالون ثم تنفجر من لمسة عود الثقاب‮. ‬
حاجتنا لجمعيات كثيرة وفي‮ ‬مجالات عدة متنوعة،‮ ‬مثلما حاجتنا لتفجير طاقة الشباب كقوة منظمة جماعية،‮ ‬وليس مجرد مجموعة أفراد نشطاء،‮ ‬إذ باختفاء أولئك النماذج‮ ‬يضمر عمل الجمعية ويتراجع‮. ‬
نحن بحاجة لبناء ثقافة ونهج المؤسسة وليس هيمنة الفرد وجاذبيته،‮ ‬بحاجة لنشر ثقافة ودور عمل المنظمات‮ ‬غير الحكومية والجمعيات النافعة لمجتمعنا والذي‮ ‬من خلال ثقافتها تزدهر الجمعيات وعملها ويبقى روح تلك الظاهرة المجتمعية بصحة وعافية‮. ‬وإذا ما كان البعض مندهشاً‮ ‬من تلك الغيبوبة لبعضها وفي‮ ‬الوقت ذاته‮ ‬يبارك وجودها،‮ ‬فنحن من جانبنا نكمل الفكرة ونكشف بعدها النفسي‮ ‬والسياسي‮ ‬والمجتمعى،‮ ‬إذ‮ ‬يعتقد البعض أيضا أن كل جمعية في‮ ‬مجتمعنا‮ »‬المتمقرط‮« ‬ليست إلا ترفاً‮ ‬اجتماعياً‮ ‬أو علاقة ومصلحة سياسية‮ ‬غير مباشرة،‮ ‬وفي‮ ‬اقل الحالات نزوة تم فيها قرار وولادة تلك الجمعية‮. ‬ولا عجب أن تولد جمعيات تاريخية من رحم فكرة عظيمة سرعان ما تنتشر‮ »‬كالسرطان‮« ‬في‮ ‬جسد المجتمع،‮ ‬وبتعبير كلاسيكي‮ » ‬كانتشار النار في‮ ‬الهشيم‮« ‬وتهيمن عليه‮. ‬
أتذكر حكاية امرأة بحرينية بادرت بالتبرع بمبلغ‮ ٨ ‬آلاف دينار لاحتضان القطط المشردة وبناء مكان لهم،‮ ‬ففغر الناس أفواههم وقالوا‮ ‬يا لها من رحيمة وطيبة ولكن‮…. ‬ولماذا كلفت نفسها؟‮!. ‬هذه القصة نموذج لفاعليات قابلة للتطوير والتشكل وتحولها إلى جمعية مهمة للبيئة والمنظمات البيئية،‮ ‬إذا ما كنا فعلا نؤمن بحضارتنا وإنسانيتنا وعلاقتنا بالطبيعة والكائنات الحية،‮ ‬بل ونفهم فهما عميقا‮ – ‬وليس مسطحا‮ – ‬معنى حقوق الإنسان وحقوق الحيوانات التي‮ ‬تجعل الناس تندهش وتسخر لا مبالية،‮ ‬بل وتتحول المبادرات الإنسانية العظيمة إلى مجرد‮ »‬نكتة‮« ‬سخيفة نسخر فيها ومنها في‮ ‬كل وقت‮ – ‬وبلا وعي‮ – ‬وكأننا نسخر من أنفسنا كوننا بشرا على الأرض بلا فائدة اجتماعية‮. ‬
اعتقد أن البحرين بحاجة للتعلم من التجربة القبرصية في‮ ‬تأسيس جمعية باسم‮ »‬جمعية أصدقاء الحمار القبرصي‮«‬،‮ ‬إذ من المهم أن نفهم مسألة الحفاظ عليه لكي‮ ‬لا‮ ‬ينقرض،‮ ‬ومع الوقت سيكتشف الأخ والزميل راشد الغائب أن عدد الجمعيات التي‮ ‬لم‮ ‬يتم إشهارها قد بلغت ألف جمعية‮. ‬ومع الوقت سنسمع عن الجمعيات التي‮ ‬نبعت كالفطر في‮ ‬لوحة‮ »‬فسيفساء المملكة‮« ‬التي‮ ‬لا تعطب،‮ ‬والمدهشة بولادة الإبداع المنتظر‮. ‬
بلادنا ولاّدة وما علينا إلا احتضان ما‮ ‬ينبثق فيها ونتبرع قدر الإمكان من رواتبنا حتى وان كانت بمائة فلس،‮ ‬ولنبدأ من مدارس الأطفال،‮ ‬فهناك مرتع خصب لبناء فكرة الجمعيات التطوعية المتنوعة وثقافتها الراسخة‮.‬

صحيفة الايام
26 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

الطفرة المالية والإصلاح الاقتصادي


عدد العاملين في الحكومة يزداد يوماً بعد يوم، ومعاشات الموظفين (المدنيين والعسكريين) تستحوذ على نحو 80 في المائة من موازنة الحكومة… والحكومة تعتمد في وارداتها على النفط بنسبة مماثلة، وهذا يعني أن النفط حالياً يستخدم لصرف معاشات موظفي الدولة. وفي حال انخفض سعر برميل النفط فإن مشكلة ستحل بالموازنة شبيهة بما حدث في ثمانينيات القرن الماضي عندما انخفض سعر النفط وأدى ذلك إلى مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية جمة.
 ولو نظرنا إلى النسب المئوية في الصرف الحكومي فإن نحو 44 في المئة من الموازنة يصرف على الأمن والدفاع (مقابل نحو 10 في المئة في البلدان المتقدمة سياسياً واقتصادياً).

وبحسب التقارير المنسوبة إلى صندوق النقد الدولي فإن ارتفاع سعر النفط «أدى الى زيادة إجمالي فائض الحساب الجاري لدول مجلس التعاون الخليجي الى أعلى مستوى له على الإطلاق». وهذا سمح بنمو كبير آخر في ثروات المنطقة الهائلة من صافي الأصول الأجنبية التي تقدر الآن بنحو تريليوني دولار. وقدر صندوق النقد ارتفاع الفائض المالي (مقارنة مع العام الذي سبق) في دول التعاون بـ 21 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2008، كما قدر زيادة السيولة المحلية الخليجية بنسبة 17.4 في المئة (البحرين 21.8 في المئة)، والدخل القومي الخليجي يزيد حالياً على 1.1 تريليون دولار (وهو رقم مرتفع جداً).

عندما طرح مشروع إصلاح سوق العمل في 2004 كانت الأوضاع الاقتصادية ليست بالشكل الموفور الذي هي عليه حالياً، وكانت الإحصاءات تتحدث عن قطار مملوء بالعاطلين يسير بسرعة للاصطدام بواقع اقتصادي غير مستعد لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الشباب الباحثين عن عمل. ولكن، ورغم عدم تغير الهيكلية الاقتصادية، فقد أدت الطفرة المالية الحالية غير المسبوقة إلى تأخير وتسويف برامج الإصلاح الاقتصادي، في حين إن الاختصاصيين يشيرون إلى أن استمرار الحال الذي نحن عليه ليس مضموناً. ولذا فإن الطفرة المالية يجب أن تستغل في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الصعبة، وليس في تأخيرها؛ لأن الوفرة سرعان ما ينتهي زمنها لنعود مرة أخرى الى وضعنا السابق.

إن المال المتوافر حالياً لدى الدولة يمكن الاستفادة منه في رفع مستوى المعيشة، وفي تحقيق عدالة اجتماعية، وفي تأسيس بنية تحتية لتنمية بعيدة المدى، وفي تحويل بلدنا الى ما هي عليه الدول المتقدمة من مختلف النواحي.
 ففي البلدان الأوروبية تصرف الحكومة نحو 30 في المئة من موازنتها للحماية الاجتماعية عبر دعم الفئات الضعيفة مالياً بهدف رفع مستواها الى مستوى الطبقة المتوسطة وإشراكها في العملية الاقتصادية، بينما تصرف الباقي على الرعاية الصحية والتعليم المتطور والقطاعات التي تنمي المجتمع والاقتصاد، وهو أمر نستطيع القيام به مع توافر العزيمة والعمل الجماعي المشترك.

الوسط 20 أغسطس 2008

اقرأ المزيد

سيناريو أوسيتيا الجنوبية وتغيرات دولية ودولتية

غبار أحداث أوسيتيا الجنوبية وجورجيا لايزال يلف العالم رغم هدوء ساحات القتال وكأنه إشارة جدية لتغيرات قادمة على مستوى العلاقات فيما بين الدول أو على مصائر دول بعينها.
العدوان الجورجي وصده من قبل الجيش الروسي غير الوضع الجيوسياسي في منطقة القوقاز بشكل نوعي لصالح روسيا. وطبيعي أن يسعى الروس حاليا لتكريس وتعزيز هذه النتائج باستخدام كل أدوات القانون الدولي والأدوات العسكرية السياسية التي تؤدي إلى استتباب الوضع في منطقة القوقاز. ويتوافق ذلك تماما ومصلحة سكان أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. رئيس جنوب أوسيتيا قال بصراحة «سنطلب من قيادة الفيدرالية الروسية أن تقيم قاعدة عسكرية على أراضي أوسيتيا الجنوبية. فهنا يعيش مواطنون روس، ورسيا الاتحادية هي أهم ضمانة لهم». أميركا من جانبها ستسعى بكل الوسائل إلى أن تحول النصر العسكري والمعنوي الروسي إلى هزيمة دبلوماسية لروسيا.
الأربعاء الماضي وقعت واشنطن ووارسو معاهدة حول نصب قاعدة مضادات الصواريخ الأميركية على الأراضي البولندية. وتشكل هذه القاعدة العنصر الأخير والرئيس في النظام الأميركي للدفاعات المضادة للصواريخ في أوربا. ويعتبر هذا النظام ابن نظام «حرب النجوم» كما تسميه صحيفة «The Times». ورغم الحذر الذي كانت تبديه بولندا إزاء الإدارة الأميركية الحالية وتفضيلها انتظار وصول رئيس أميركي جديد إلا أن المراقبين يرون أن الانعطاف الحاد بالاتفاق في المفاوضات التي استمرت عاما ونصف مرتبط بتطور النزاع في جورجيا. وكرد على ذلك أعلنت روسيا وقف تعاونها العسكري مع الناتو. وقد أعلمت وزارة الخارجية الروسية وزارة الدفاع النرويجية بهذا القرار. ورغم أن الجميع يردد أن الحرب الباردة لن تعود إلا أن خطرها أصبح ماثلا أكثر من أي وقت منذ انتهائها في الثمانينات – التسعينات.
وترى صحيفة «لاستامبا – La Stampa» الإيطالية أن أكثر ما يفزع في التهديدات الروسية الأخيرة هي كلمات وزير الخارجية سيرغي لافروف بأن أعمال الأميركيين تدلل على رغبتهم في الخروج من معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية، معبرة عن خشيتها أن ذلك قد يعني أن يكون الروس البادئين بإلغاء هذه الاتفاقية معلنين العودة إلى الحرب الباردة.
الأمر العملي على الأرض هو أن روسيا تعمل مع حلفائها على تكريس وتطوير النتائج التي أفرزتها الحرب الأخيرة. ولصد محاولات الغرب هز استقرار منطقة القوقاز لا بد من تنسيق الجهود بين موسكو، سوخومي وتسيخينفال، خصوصا وأن موسكو لن تقبل بغير الحل الذي يقرره سكان أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وأكثر من ذلك فإنها ستسترشد به في نهجها في القوقاز، وهو ما أكده الرئيس الروسي ميدفيديف للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
أما أول الدول المرشحة لتغير وضعها الداخلي بعد الحرب فهي جورجيا التي تشير مصادر صحيفة «زافترا» الروسية من واشنطن (20 أغسطس/ آب) إلى أن الدوائر الأميركية تنظر بقلق إلى آفاق تفككها الفعلي، إما إلى قسم غربي وآخر شرقي، أو أن انقسامها سيجري على أساس الأقليات المكونة (سفانيتيا، كاخيتيا، إميريتيا.. إلخ). ويشار هنا أيضا إلى عودة أصلان أباشيدزه إلى أجاريا برفقة رئيس بلدية موسكو يوري لوجكوف، وإلى الموقف «غير المتسامح» الذي تتخذه السلطات التركية من ساكاشفيلي، وتصريحات أرمن جافاهيتي حول ضرورة إعلان الاستقلال الذاتي أو حتى الانضمام إلى أرمينيا. وتحت ضغط احتمال هذه المتغيرات وصلت الدوائر الأميركية إلى استنتاج يفيد بأنه إذا كان من المحتم إعادة تشكيل جيوسياسية لإقليم القوقاز مع استقالة ساكاشفيلي وعلى حساب جورجيا فإن ذلك في كل الأحوال يجب أن يتم بمشاركة نشطة من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
وتخشى تلك الدوائر أيضا من انعكاسات الوضع الناشئ على أوكرانيا. وترى بأنه لا يجب السماح بتطور الحوادث في أوكرانيا حسب «السيناريو الأوسيتي». لقد احتدم الصراع بين الرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو ورئيسة وزرائه يوليا تيموشينكو حول الموقف من أسطول البحر الأسود الروسي في ستافروبول. ويبدو أن مطالبة الأول بتغيير الوضع القانوني للأسطول في مقابل إصرار الثانية على بقاء ذلك الوضع، وكذلك تهم خيانة الدولة الموجهة ضد تيموشينكو مرتبطتان قبل كل شيء بفضيحة اختفاء 100 مليون دولار دفعت مقابل تزويد جورجيا بشحنة أسلحة، ما يهدد آفاق إعادة انتخاب يوشينكو رئيسا للدولة العام ,2009 وحدا به لإطلاق مكيدة ضد منافسته القوية تيموشينكو.
ورغم الخلافات الحادة بين بيلاروسيا وروسيا حول إمدادات الغاز الروسية، إلا أن حوادث جورجيا يحتمل أن تعجل من اتفاق البلدين حول القضايا الدفاعية والتعاون الاستراتيجي بينهما.
ولا يبدو تسريع استقالة الرئيس الباكستاني برويز مشرف بعيدا عن ضغط أحداث جورجيا. فقد جاءت تحت ضغط شديد من قبل المعارضة السياسية الموالية لواشنطن والمدعومة مباشرة من عمليات القطاعات العسكرية الأميركية المتواجدة في الأراضي الباكستانية. وحسب وجهة نظر مراقبين من دلهي فإن واشنطن تنوي تقديم هدية جيوسياسية كبرى للهند مؤكدة بذلك عزمها على السير في نهج الشراكة الاستراتيجية معها في مواجهة الصين. وفي إيران وحتى وإن بدا إطلاق الصاروخ الإيراني الحامل لنموذج قمر فضائي صناعي «مصادفة بحتة» مع احتداد الوضع السياسي في القوقاز، إلا أن من شأنها في هذا الوقت بالذات استعراض القدرة التقنية العسكرية لطهران التي تصبح هدفا أبعد فأبعد منالا للهجوم من قبل الولايات المتحدة الأميركية أو إسرائيل، وأن إيران يمكن أن تعول أكثر على التعاون مع روسيا في المستقبل.
وتشكل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى روسيا على إثر أحداث جورجيا معلما بارزا في التغيرات النوعية للوضع الروسي في الشرق الأوسط. الموقع الإلكتروني الإسرائيلي DEBKAfile المتخصص في موضوعات الأسلحة ذهب حتى إلى القول إن الجانب الروسي «ينظر في إمكانية نصب صواريخ نووبة في سوريا» وتزويدها بصواريخ «إسكندر» القادرة على حمل رؤوس نووية بقطر إصابة يصل إلى 200 كلم كتعويض عن نظام الدفاعات المضادة للصواريخ الأميركي في بولندا ومقابل الدعم الأميركي الإسرائيلي النشط لجورجيا.
إذا كان يراد لجورجيا أن تكون سكينا في خاصرة روسيا، فالذي يبدو الآن أن أحداث القوقاز ستغير كثيرا في العلاقات والتوازنات الدولية وفي مصائر دول بعينها.

صحيفة الوقت
25 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

تذوقوا «محاسن» الرأسمالية

‘خذوا من السيادة والاستقلال ما تستطيعون هضمه!!’.. بهذه الكلمات خاطب الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين شعوب جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، فكان لهذه الكلمات وقع السحر الذي يدغدغ العواطف للبعض، لكنها (هذه الكلمات) غدت بمثابة الضربات الأولى لمعول تهديم ثاني أكبر قوة بالعالم، ومحوها من الخريطة السياسية فيما بعد، وعلى إثر هذه الكلمات جرت مياه كثيرة، ودماء كثيرة أيضاً، بينما انشغل الحكام الجدد ـ ورثة الاتحاد السوفيتي ـ بتقسيم الإرث وكأنه إرث أبيهم، في تحولاتهم الدراماتيكية من النظام الاشتراكي إلى الرأسمالي، ومن ثم إلى نظام ‘الصيرفة’، وأصبحت مغازلتهم لـ ‘الند الامبريالي’ السابق تدعو للشفقة من فرط ‘الموافقات بلا تردد على ما يمليه عليهم’، حيث كان يلتسين ووزير خارجيته آنذاك يوافقان على كل شيء يُطلب منهما، فأداروا ظهورهم عن القضايا الساخنة في العالم.. والأخطر، ابتعدوا عن ما هو متصل بمصالح بلادهم، وكأنها لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، فكان ما كان وسط اندفاعة التصفيق الحار والاستحسان الأميركي ـ الغربي ـ الأطلسي، ورضا روسي بتجزئة المجزأ، حتى تم حصار ‘الدب ميشكا’ وعزله بأريحية.
الآن بات واضحاً، أن روسيا اليوم ليست روسيا يلتسين آنذاك، رغم أنها تحمل إرثاً ثقيلاً من عهده، خاصة بعد انفجار الوضع في أوسيتيا الجنوبية بهجوم مباغت جاء بتشجيع وإيعاز من الولايات المتحدة وحلف الناتو، الذي استخدم الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي كحصان طروادة للمغامرة العسكرية الجديدة ضد هذه الجمهورية الصغيرة، واقتحام قواته عاصمتها تسيخنفالي، وتدمير أحيائها وقتل وتشريد وإصابة عشرات الآلاف من المواطنين الآمنين فيها لساعات معدودات.
هذا الحدث كان تطوراً لأحداث سابقة ولاحقة: في البدء، كان إعلان استقلال كوسوفو عن صربيا من جانب واحد في فبراير/شباط، الذي أحدث جدلاً لا نهاية حول شرعية هذه السابقة التاريخية، وبعد الاعتراف باستقلال كوسوفو عن صربيا، جاء الاجتياح الجورجي لأوسيتيا، ثم الموافقة البولندية على نصب الدرع الصاروخية لتكتمل حلقات محاصرة روسيا، وما بعد.. بعد روسيا، وربما الصين، وظل الروس يتبعون ما أسموه بـ’السياسة الواقعية’، رغم خطورة الوضع وطرق معالجته.
ما عاد لـ ‘خط الوسط’ الذي كان يتبعه الكرملين واختياره برضاه لهذا الخط، إلا وبالاً عليه، ضمن مؤشرات لا تخطئها العين في توسيع الناتو القادم من آلاف الكيلومترات لفرض هيمنته على موسكو ومجال نفوذها القريبة، وكان لا بد أن تعطي هذه الأخيرة رد فعل لا يكون ‘قفزة في الفراغ’ مثلما حدث في البلقان، وما يحدث الآن في القوقاز، والمسألة أبعد من ذلك، حيث تمتد إلى بحر قزوين.
صحيح، أن موسكو لا ترغب في استثارة الخلافات مع واشنطن والناتو، وعليه لم تقدم على خطوات ملموسة للاعتراف بسوخومي (عاصمة أبخازيا)، وتسخينفالي (عاصمة أوسيتيا الجنوبية) رغم امتلاكها الكثير من الأوراق، خصوصاً رغبة الشعبين في تقرير المصير، غير أن هذا الموقف الوسط، وضعها الآن في موقف أخلاقي صعب، فهي من جهة؛ إذا اعترفت بسوخومي وتسخينفالي، فهي تنكث بتعهداتها السابقة للغرب، وإذا لم تعترف فإنها تلغي تعهداتها للشعبين اللذين اكتويا بنيران الإبادة الجماعية من قبل قوات الرئيس الجورجي سآكاشفيلي الموالي لواشنطن، وثالثاً، حماية أوسيتيا الجنوبية التي يحمل (90%) من مواطنيها الجنسية الروسية.
واضح، أن الروس أدركوا المخاطر في وقت متأخر، وتيقنوا بما لا يدع مجالاً للشك، أن واشنطن تريد تثبيت أقدامها على الأرض في منطقة القوقاز وانتزاعها من مجالها عبر عملائها عن طريق ضم جورجيا، أو أوكرانيا لحلف الناتو، وبالتالي إقامة قواعد عسكرية في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة للمجال الروسي لحفظ أمنها وأمن الدول المجاورة لها، وعليه، يبدو أن الكرملين لم يعد يسمح بتفريط آخر ولو بعد حين.
 
صحيفة الوقت
25 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

الجيشُ الروسي يعودُ للواجهة

لا تستطيع الأممُ الشرقية أن تبنى حداثة وصناعة بأسلوب الغرب، فلها طريقها الخاص على مدى العقود الراهنة. وهذا أمرٌ لا يفهمه الغربيون الذين يريدون تطوراً على مقاسهم، وهو مقاسٌ غيرُ موجود في مستوى التطورين الاقتصادي والاجتماعي الشرقيين. لقد قامت ما سمُيت ثورة أكتوبر الاشتراكية لتشكل رأسماليةً حكومية جبارة، تخلق نهضةً كبرى، وراح الجيشُ الروسي يتسلم قيادتها، فكان زعماؤها السياسيون هم المسيطرون على الجيش، بدءًا من لينين ومروراً بتروتسكي قائد الجيش الذي سحق التدخلات الأجنبية والقوى المناوئة، ثم بستالين القائد العسكري والسياسي الشمولي الذي حكم بالحديد والنار ليشكل دولة نهضوية كبرى.
ثم أدركت القوى المتنفذةُ في الجيش والمخابرات السوفيتية إن خيار أمبراطورية الاتحاد السوفيتي صار مكلفاً، بسبب الصرف الهائل على التجارب الوطنية المحاربة للاستعمار، وترهل القطاع العام وضعف تطوره، فكان دور الإصلاحيين بدءًا من خروتشوف الذي سحقته البيروقراطية، حتى ظهر أندربوف الذي فتح الثغرة في تحكم البيروقراطيين، وجاء جورباتشوف مُصعّداً من أجهزة الجيش والمخابرات ليضع حداً لأمبراطورية الاتحاد السوفيتي المكلفة على الروس عماد تلك الأمبراطورية. لكن جورباتشوف كانت له أحلامه الإنسانية الإشتراكية حينذاك، فتم تصعيد يلستين المقوض لسيطرة البيروقراطية الروسية ومطلق الرأسمالية الخاصة بقوة كبيرة. وهكذا فإن الأجهزة العسكرية والمخابراتية الحاكمة صعّدت رجلاً مجهولاً تماماً هو الرئيس بوتين، الذي لم يكن له أي علاقة كبيرة بالحزب الشيوعي وتجاربه، وهنا ظهرتْ مقدرةُ الأجهزةِ العسكرية الروسية على قيادة روسيا في عالم مختلف، وتصفية الجمود (الاشتراكي) ورفض أن يدفع الشعب الروسي تكاليف البذخ السياسي في الدول الشرقية وما سمي حينها دول حركة التحرر الوطني، واعتمدت على الفواتير الاقتصادية الحقيقية وغدت التجارة ومعاييرها هي السائدة وصارت المساعدات والصرف على المناضلين من ذمة الماضي المالية. وقد ظنت الدولُ الغربية أن روسيا تم احتواؤها في ظل النظام الغربي الديمقراطي الرأسمالي، وكما قلنا فإن رؤى الغربيين السائدة المركزية تمنعهم من رؤية ان الأمم الشرقية لها مسار مختلف عنهم، بحكم مستوى التطور الاقتصادي، لا بسبب الدم والعرق والدين، وأن جهازَ الدولة سيلعبُ دوراً مركزياً كبيراً خلال العقود الراهنة والتالية، ومن هنا فإن الدولة الروسية الراهنة هي دولة رأسمالية ديمقراطية بمعايير الشرق، أي يقوم جهازُ الدولة بلعب دور اقتصادي كبير فيها، إضافة طبعاً لدوره السياسي ودوره العسكري. وبالتالي فإن له شهية كبيرة تجاه الثروات البكر خاصة النفط والغاز والماس والذهب، وهي هذه الثروات التي لا تحتاج إلى تقدم صناعي كبير. وديمقراطيته الرأسمالية لا تمنعه من استخدام أجهزة العسكر والمخابرات، وهي سمة مشتركة في كل الرأسماليات الغربية والشرقية، خاصة في مناطق الثروات كبحري قزوين والأسود، وهي أقل تطوراً من الرأسمالية اليابانية ذات المقدرات التكنولوجية المتقدمة، نظراً لاعتمادها على اقتصاد السوق بشكل مطول، أو من الرأسمالية الصينية (الشيوعية) ذات اليد العاملة الرخيصة الهائلة. لكنه يملك تكنولوجيا السلاح التي هيأته لها تجربة الاتحاد السوفيتي، والسلاح غدا سلعته الكبرى الثانية بعد النفط ومشتقاته، فهو عملاق يقف فوق رجلين ضعيفتين تقنياً. إن النهم للمواد الأولية الثمينة والتجارة بالسلاح كلاهما تجعل روسيا الاتحادية موقع شك وارتياب وتخوف، لأن هذه تجارة خطرة، وتعجز روسيا عن أن تكون دولة متحضرة بمعايير الغرب الرأسمالي، فتلجأ لأساليب هتلر وستالين مجدداً. فهي تعجز عن استخدام التقنية لكي تخترق الأسواق فتعتمد على الأساليب السياسية وبيع السلاح لدول شرقية دكتاتورية مقلقة للسلام. إن جهاز الدولة العسكري الهائل الذي كونته في الحقبة السوفيتية الماضية غير قادرة على إعادته لحجمه الطبيعي الموازي لمواردها، فتروح تستغلهُ في الوثوب العسكري أو في تصدير السلاح، ولا يسعفها عددُ سكانها ولا عراقة تقنيتها المدنية. وهذا ما يداعب أحلامُ الدول الاستبدادية الشرقية التي ترى في مثل الجموح الروسي فرصةً لبقاء أنظمتها، وحفزاً لمغامراتها، وبقاءَ شموليتها، وعجزها عن تطوير مهن الشعب وتحديثها. ولكن إذا لم تعتمد روسيا على تطوير قواها الداخلية المدنية وتضع حداً لهيمنة الجيش، ولم تطور قوى العمل والإنتاج والاختراع فإنها سوف تتمزق ولن تفقد جمهورياتها الآسيوية (الصديقة) بل حتى أقاليمها الروسية.
 
صحيفة اخبار الخليج
25 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

حول التيار الديمقراطي‮ (٢)‬

نشأ وضعٌ‮ ‬جديد في‮ ‬نتيجةِ‮ ‬التحولات التي‮ ‬حدثتْ‮ ‬في‮ ‬مواقف القوى السياسية في‮ ‬عام ‮٦٠٠٢‬،‮ ‬حين رجحت الوفاق،‮ ‬ومعها الجمعيات الثلاث الأخرى في‮ ‬التحالف الرباعي‮ ‬خيار المشاركة في‮ ‬الانتخابات النيابية،‮ ‬وهو أمر أزال،‮ ‬موضوعياً،‮ ‬واحدةً‮ ‬من أهم نقاط التجاذب بين أطراف التيار الديمقراطي‮ ‬خلال السنوات الأربع السابقة لهذا التحول،‮ ‬ونعني‮ ‬به الجدل حول التعاطي‮ ‬مع المؤسسة البرلمانية القائمة بالمشاركة أو بالمقاطعة‮.‬ أكثر من ذلك أظهرَ‮ ‬سير الانتخابات البلدية والنيابية في‮ ٦٠٠٢ ‬أن المدى الذي‮ ‬يمكن أن تذهب به التحالفات التي‮ ‬تشكلت فترة المقاطعة مدى محدود،‮ ‬وبدا ذلك في‮ ‬أن تلك التحالفات السياسية،‮ ‬إن جاز القول،‮ ‬لم تتحول إلى تحالفات انتخابية بالمعنى الجدي،‮ ‬دون التقليل أبداً‮ ‬من حجم الأصوات التي‮ ‬ضختها الوفاق لمرشحي‮ ‬التيار الديمقراطي،‮ ‬خاصة مرشحي‮ ‬وعد في‮ ‬الدوائر‮ ‬غير المغلقة على الوفاق،‮ ‬أما في‮ ‬الدوائر المصنفة بأنها وفاقية فان مرشحي‮ ‬التيار الديمقراطي،‮ ‬سواء المحسوبين على‮ »‬التقدمي‮« ‬أو على‮ »‬وعد‮« ‬فقد جرت محاصرتهم‮.‬ وكانت الحصيلة مجلسا نيابيا ومجالس بلدية قائمة على القسمة المذهبية الصرفة،‮ ‬وهي‮ ‬قسمة جرى تصميمها بعناية وذكاء،‮ ‬كان من نتيجتها المباشرة إذكاء روح المنافسة الطائفية والمذهبية،‮ ‬لا داخل البرلمان وحده،‮ ‬وإنما في‮ ‬المجتمع أيضاً،‮ ‬وفي‮ ‬الآونة الأخيرة بلغ‮ ‬الأمر حالاً‮ ‬من الاحتقان الطائفي،‮ ‬في‮ ‬شكل فعلٍ‮ ‬ورد فعل،‮ ‬بالتناوب بين المواقع الطائفية هنا وهناك،‮ ‬مما أثار المخاوف الجدية على مستقبل الوحدة الوطنية للمجتمع‮.‬ ومع أهمية التهدئة الحالية التي‮ ‬نشأت في‮ ‬أعقاب لقاء جلالة الملك مع رجال الدين،‮ ‬إلا أن مسببات هذا الاحتقان تظل قائمةً‮ ‬في‮ ‬ظل خفوت الصوت الوطني‮ ‬والديمقراطي‮ ‬البديل الذي‮ ‬يستند إلى تراث الحركة الوطنية البحرينية منذ تجربة هيئة الاتحاد الوطني‮ ‬في‮ ‬الخمسينات مرورا بالعقود التي‮ ‬تلتها حيث كان للتيارات الديمقراطية والقومية أبلغ‮ ‬الأثر في‮ ‬تسييد خطاب وطني‮ ‬جامع،‮ ‬كسر الشرنقة المذهبية والطائفية بجسارة ووعي‮.‬ الحاجة إلى هذا الصوت الوطني‮ ‬الجامع تتضاعف مرات في‮ ‬الظرف الراهن،‮ ‬وتكثر الدعوات داخل صف وطني‮ ‬واسع من القوى والشخصيات الوطنية المستقلة الداعية للتنسيق بين التيار الديمقراطي،‮ ‬والتغلب على معوقات هذا التنسيق،‮ ‬لأن المجتمع‮ ‬يفتقد الإرادة الموحدة لهذا التيار التي‮ ‬يمكن،‮ ‬لا بل‮ ‬يجب،‮ ‬أن تشكل مركز استقطاب للكثير من القوى الكامنة والمغيبة لهذا التيار،‮ ‬الجدير،‮ ‬وحده،‮ ‬بأن‮ ‬يكون كاسراً‮ ‬لحدة الاستقطاب الطائفي‮ ‬والمذهبي،‮ ‬والدافع في‮ ‬اتجاه الإعلاء من قيمة الوحدة الوطنية‮.‬ ويمكن لمركز الاستقطاب هذا أن‮ ‬يستوعب الكثير من العناصر المتنورة ذات التكوين المتسامح،‮ ‬التي‮ ‬تُدرك أن قدر البحرين هو في‮ ‬التعايش المشترك بين مكونات مجتمعها،‮ ‬على قاعدة المواطنة المتساوية والمتكافئة في‮ ‬الحقوق والواجبات،‮ ‬وعلى قاعدة تغليب الانتماء للوطن على أي‮ ‬شكلٍ‮ ‬من الانتماءات الأخرى،‮ ‬دينية أو مذهبية أو أيديولوجية‮.‬ وهذا‮ ‬يتطلب القدر الضروري‮ ‬من استقلالية التيار الديمقراطي‮ ‬في‮ ‬مواقفه وتكتيكاته المشتركة،‮ ‬بما‮ ‬يحقق النقلة المطلوبة في‮ ‬أن‮ ‬يكون هذا التيار فاعلاً‮ ‬في‮ ‬الأحداث لا منفعلاً‮ ‬بها،‮ ‬كما هو جارٍ‮ ‬في‮ ‬الكثير من الحالات‮.‬ غداً‮ ‬نواصل‮.‬
 
صحيفة الايام
25 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

التوجه نحو اليسار من أجل النمو


يزعم كل من أنصار اليسار وأنصار اليمين أنهم يعملون من أجل النمو الاقتصادي . هل يعني هذا أن الناخبين الذين يحاولون الاختيار بين الاتجاهين ينبغي عليهم أن ينظروا إلى الأمر باعتباره مسألة اختيار بين فريقين إداريين يصلح كل منهما كبديل للآخر؟
 
أتمنى لو كان الأمر بهذه السهولة والبساطة! إن جزءاً من المشكلة يتعلق بالدور الذي يلعبه الحظ. ففي تسعينات القرن العشرين كان الاقتصاد الأمريكي محظوظاً بنعمة انخفاض أسعار الطاقة، وتسارع خطوات الإبداع، والصين التي كانت تطرح سلعاً متزايدة الجودة بأسعار متزايدة الانخفاض . وكان اجتماع كل هذه العوامل سبباً في انخفاض معدلات التضخم وتَسارُع النمو.
 
الحقيقة أن الرئيس كلينتون، ثم ألان غرينسبان رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، لا يستحقان من الفضل في ذلك إلا قليلاً على الرغم من أن السياسات الرديئة كانت لتؤدي بكل تأكيد إلى إفساد كل شيء . وفي المقابل، سنجد أن المشكلة التي نواجهها اليوم  ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والنظام المالي المنهار  كانت في أغلبها ناتجة عن السياسات الرديئة.
 
إن الفوارق ضخمة بين استراتيجيات النمو المختلفة، وهو ما يعظم من احتمالات الوصول إلى نتائج متفاوتة. الفارق الأول يرتبط بكيفية النظر إلى النمو ذاته . فالنمو لا يتلخص في زيادة الناتج المحلي الإجمالي فحسب، بلا لابد أن يكون النمو مستداماً: فالنمو القائم على الإضرار بالبيئة أو العربدة الاستهلاكية الممولة بالديون أو استغلال الموارد النادرة، من دون إعادة استثمار العائدات، ليس بالنمو المستدام.
 
لا بد أن يكون النمو شاملاً أيضاً؛ فتعم فوائده أغلب المواطنين على الأقل. وهنا لا تصلح نظرية انتشار المنفعة الاقتصادية من الكبير إلى الصغير (Trickle-down economics): فالزيادة في الناتج المحلي الإجمالي قد تسفر في الواقع عن الإضرار بمصالح أغلب المواطنين. والنمو الذي شهدته أمريكا أخيراً لم يكن مستداماً على الجانب الاقتصادي ولم يكن شاملاً. إذ إن أغلب الأمريكيين اليوم في حال أسوأ من حالهم التي كانوا عليها منذ سبعة أعوام.
 
ولكن لا ينبغي لنا أن نجري مقايضة بين عدم المساواة والنمو . فالحكومات قادرة على تعزيز النمو بتعميم الفوائد. ويتعين علينا أن ندرك أن المورد الأعظم قيمة لدى أي دولة هو شعبها. لذا، يتعين على الدولة أن تضمن لكل فرد من مواطنيها أن يحقق إمكاناته، وهو ما يتطلب توفير فرص التعليم للجميع .
 
والاقتصاد الحديث يتطلب أيضاً خوض المجازفة . ويميل الأفراد إلى خوض قدر أعظم من المجازفة حين تتوفر شبكة أمان جيدة . وإن لم يتوفر ذلك فقد يطالب المواطنون بالحماية من المنافسة الأجنبية. وهنا سنجد أن الحماية الاجتماعية أكثر كفاءة من تبني نزعة الحماية الاقتصادية. والفشل في تعزيز التضامن الاجتماعي من شأنه أن يؤدي إلى تكاليف أخرى، مثل الاضطرار إلى الإنفاق الاجتماعي والخاص لحماية الأملاك ووضع المجرمين في السجون. وتشير بعض التقديرات إلى أن أعداد العاملين في الصناعات الأمنية سوف تتجاوز في غضون بضعة أعوام أعداد العاملين في التعليم. نستطيع أن نقول إن عاماً في السجن قد يكلف أكثر من عام في جامعة هارفارد . والحقيقة أن تكاليف احتجاز أكثر من مليوني أمريكي في السجون  وهي واحدة من بين أعلى المعدلات في العالم نسبة إلى عدد المواطنين  لابد أن يُنظَر إليها باعتبارها اقتطاعاً من الناتج المحلي الإجمالي، ولكنها على الرغم من ذلك تضاف إليه .
 
الفارق الرئيسي الثاني بين ما يهتم به اليسار وما يهتم به اليمين يرتبط بالدور الذي تضطلع به الدولة في تعزيز النمو وتشجيعه. فاليسار يدرك أن دور الحكومة في توفير البنية الأساسية والتعليم وتطوير التكنولوجيا، بل وحتى القيام بدور المستثمر، يشكل أهمية عظمى. فالحكومات تتولى إنشاء البنية الأساسية اللازمة لشبكة الإنترنت والثورات البيوتكنولوجية الحديثة. وفي القرن التاسع عشر كانت الأبحاث التي أجريت في الجامعات الأمريكية المدعومة من الحكومة بمثابة الأساس الذي قامت عليه الثورة الزراعية. ثم قامت الحكومة أيضاً بتوفير هذه التطورات للملايين من المزارعين الأمريكيين. ولعبت قروض الأعمال الصغيرة دوراً بالغ الأهمية، ليس فقط في خلق مشاريع جديدة، بل أيضاً في إنشاء صناعات جديدة بالكامل.
 
قد يبدو الفارق الأخير غريباً بعض الشيء: فاليسار اليوم يفهم الأسواق والدور الذي لابد أن تلعبه في الاقتصاد. أما اليمين، وبصورة خاصة في أمريكا، فلا يفهم السوق. واليمين الجديد الذي تمثله إدارة بوش-تشيني هو في الحقيقة ليس أكثر من النظام الشركاتي القديم في مظهر جديد.
 
وهؤلاء لا يناصرون التحرير، فهم يؤمنون بضرورة وجود الدولة القوية التي تتمتع بسلطات تنفيذية نشطة، ولكنها الدولة التي تدافع عن المصالح الراسخة، مع أقل قدر من الالتفات إلى مبادئ السوق. ولائحة الأمثلة طويلة، إلا أنها تتضمن الإعانات المقدمة للمزارع الشركاتية الضخمة، والتعريفات المفروضة لحماية صناعة الصلب، وأخيراً عمليات الإنقاذ الضخمة لمؤسسات مثل بير ستيرنز، وفاني ماي، وفريدي ماك . إلا أن التضارب بين التصريحات والحقيقة قديم وواضح: وتوسعت نزعة الحماية أثناء ولاية ريغان: على سبيل المثال، القيود الطوعية المزعومة التي فرضت على الصادرات من السيارات اليابانية.
 
في المقابل، يحاول اليسار الجديد تفعيل دور الأسواق. فالأسواق المحررة من القيود لا تعمل جيداً من دون دعم  وهو الاستنتاج الذي تعزز بفعل الكارثة المالية الحالية . ويعترف المدافعون عن الأسواق في بعض الأحيان بفشلها المحتمل، والذي قد يكون مأساوياً، إلا أنهم يزعمون أن الأسواق “قادرة على تصحيح ذاتها” . كانت مثل هذه الحجج منتشرة، حتى أثناء الأزمة الاقتصادية العظمى: فقيل إن الحكومة لا ينبغي لها أن تفعل أي شيء، وذلك لأن الأسواق سوف تستعيد قدرتها على التشغيل الكامل للعمالة على الأمد البعيد . ولكن كما ذكر الاقتصادي الكبير جون ماينارد كينيز في مقولته الشهيرة: “على الأمد البعيد سوف نكون جميعاً بين الأموات”.
 
إن الأسواق غير قادرة على تصحيح ذاتها في الإطار الزمني المناسب. ولا تستطيع أي حكومة أن تقف موقف المتفرج بينما تنزلق البلاد إلى الكساد أو الركود، حتى ولو كان ذلك راجعاً إلى الجشع المفرط من جانب رجال البنوك أو إساءة تقدير عامل المجازفة من جانب أسواق البورصة والهيئات المختصة بالتسعير . ولكن ما دامت الحكومات مضطرة لتحمل فاتورة علاج الاقتصاد فلابد أن تعمل على مكافحة الأسباب المؤدية إلى مرضه في الأساس. كان تبني اليمين لنظرية إلغاء القواعد التنظيمية من قبيل الخطأ الفادح، ونحن الآن ندفع الثمن . ولسوف يكون الثمن باهظاً  إذا ما وضعنا في الحسبان الناتج المفقود  حيث قد يتجاوز 5 .1 تريليون دولار في الولايات المتحدة وحدها.
 
كثيراً ما يعزو اليمين نسبه الفكري إلى آدم سميث، ولكن على الرغم من إدراك سميث قوة الأسواق، فإنه أدرك أيضاً الحدود التي تقيد قدرتها. فحتى في عصره، اكتشف أهل الصناعة والتجارة أنهم قادرون على زيادة أرباحهم بقدر أعظم من السهولة من خلال التآمر لرفع الأسعار، مقارنة بتحري قدر أعظم من الكفاءة في دعم المنتجات المبدعة. وهنا تتجلى الحاجة إلى الاستعانة بقوانين قوية لمكافحة الاحتكار.
 
إن الاستعانة بالعلاجات السريعة أمر سهل، حيث يشعر الجميع بالرضا لبرهة من الزمن . أما تعزيز النمو المستدام فهو أمر أشد صعوبة . واليوم أصبح اليسار، على النقيض من اليمين، يحمل أجندة عمل متماسكة. ولا تكتفي هذه الأجندة باستهداف رفع معدلات النمو، بل إنها تستهدف أيضاً العدالة الاجتماعية. وإذا كانت هذه هي الحال فلابد أن يكون الاختيار سهلاً بالنسبة للناخبين.
 
  
 
 
*أستاذ في جامعة كولومبيا، وحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في العام 2001
 

اقرأ المزيد

جولة الدوحة‮ .. ‬مرة أخرى

ذكرنا في‮ ‬المقال السابق أن جولة الدوحة من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في‮ ‬إطار منظمة التجارة العالمية التي‮ ‬انطلقت في‮ ‬العاصمة القطرية في‮ ‬نوفمبر‮ ‬2001‮ (‬بعد شهرين من هجمات الحادي‮ ‬عشر من سبتمبر في‮ ‬نيويورك وواشنطن‮) ‬بعد محاولتين فاشلتين لإطلاق أول جولة مفاوضات في‮ ‬إطار المنظمة‮  ‬منذ إنشائها في‮ ‬عام‮ ‬1995‮ (‬الجولات الثمان الأولى جرت في‮ ‬إطار الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية‮ ‘‬جات‮’) ‬إحداهما في‮ ‬سياتل الأمريكية وكان دوي‮ ‬فشلها مدوياً‮ ‬‭-‬‮ ‬إن جولة الدوحة ما كانت لتُطلق لولا الموقف العاطفي‮ ‬التآزري‮ ‬الدولي‮ ‬مع الولايات المتحدة حينها ولولا أن أُغريبت الدول النامية بأن هذه الجولة،‮ ‬على خلاف جولة أوروغواي‮ ‬السابقة،‮ ‬ستوجه لخدمة التنمية في‮ ‬الدول النامية،‮ ‬حتى سميت بجولة الدوحة للتنمية‮ ‬‭(‬Doha Development Round-DDR‭).‬
وقد كان مقرراً‮ ‬في‮ ‬الأصل للانتهاء من هذه الجولة الجديدة في‮ ‬غضون سنتين،‮ ‬على اعتبار أن الدول النامية تشكل‮ ‬غالبية أعضاء المنظمة وهي‮ ‬سترحب وستسهل بالتالي‮ ‬المستوى الجديد من التحرير الاقتصادي‮ ‬الذي‮ ‬يفترض أن تقدم عليه الدول المتقدمة لتمكين الدول النامية من النفاذ إلى أسواقها بما‮ ‬يحقق هدف الجولة التنموي‮.‬
ولكن تبين أن وعد التنمية لم‮ ‬يكن سوى طعم صيد،‮ ‬فلم تبد الدول المتقدمة المرونة الموعودة لجعل الجولة جولة تنمية،‮ ‬فكان أن طال أمدها إلى اليوم‮.‬
وجاءت المحاولة الأخيرة لإحيائها،‮ ‬من خلال مفاوضات ماراثونية في‮ ‬مقر المنظمة في‮ ‬جنيف امتدت لتسعة أيام بلياليها في‮ ‬أطول اجتماع للمنظمة على المستوى الوزاري‮ ‬منذ إنشائها‮ ‬‭-‬‮ ‬جاءت تلك المحاولة ووقائع جلسات المفاوضات لتعكس حقيقة أن جولة الدوحة لا تختلف عن باقي‮ ‬الجولات السابقة في‮ ‬سياقها وجوهرها من حيث هي‮ ‬جولة صراع مصالح بين الدول المتقدمة والدول النامية لانتزاع أقصى ما‮ ‬يمكن انتزاعه الواحد من الآخر من تنازلات في‮ ‬النفاذ إلى سوق الآخر‮.‬
بدليل أن الطرفين نجحا في‮ ‬تحقيق توافق تبادلي‮ ‬بالنسبة لثمانية عشر موضوعاً‮ ‬من أصل‮ ‬20‮ ‬اقترحها مدير عام المنظمة باسكال لامي‮ ‬لتحقيق الاختراق الحاسم والمنتظر في‮ ‬جولة الدوحة،‮ ‬إلا أنهما تعثرا عند النقطة التاسعة عشرة المتعلقة بإنشاء آلية لحماية مزارعي‮ ‬الدول النامية من سيل الواردات الزراعية من الدول الغنية في‮ ‬حال حرر قطاعها الزراعي‮ (‬حسب الاتفاق‮)‬،‮ ‬وعند النقطة‮ ‬20‮ ‬المتعلقة بالرسوم الجمركية المفروضة على واردات القطن‮.‬
لاشك أن الدول النامية وهي‮ ‬تفاوض في‮ ‬جولة الدوحة،‮ ‬تتذكر كيف أدى عدم التكافؤ في‮ ‬جولة أوروغواي‮ ‬إلى نجاح الدول الغنية في‮ ‬عدم إلزام نفسها بإلغاء الدعم الزراعي‮ ‬أو خفضه على الأقل،‮ ‬في‮ ‬ذات الوقت الذي‮ ‬تمكنت من إلزام الدول الفقيرة بحزمة قواعد وقيود حماية حقوق الملكية‮. ‬ولولا أن تغيرت قواعد اللعبة في‮ ‬منظمة التجارة العالمية لتكرر سيناريو جولة أوروغواي‮ ‬في‮ ‬جولة الدوحة‮. ‬حيث كشرت الدول الغنية مرة أخرى عن أنيابها جشعاً‮ ‬لانتزاع تنازلات من الدول النامية من دون أن تقدم ما‮ ‬يوازيها من جانبها‮. ‬الولايات المتحدة في‮ ‬الاجتماع الماراثوني‮ ‬الأخير رفضت إحداث خفض رئيسي‮ ‬في‮ ‬دعمها للقطن الأمريكي‮ ‬استجابة لطلب الدول الفقيرة المصدرة للقطن في‮ ‬غرب أفريقيا‮.‬
أما الحكومة الفرنسية فقد هددت منذ بداية جولة المفاوضات الأخيرة في‮ ‬جنيف بأنها لن توقع اتفاق جولة الدوحة إذا لم‮ ‬يتضمن ما‮ ‬يوفر‮ ‘‬الحماية لمصالح الصناعة الأوروبية في‮ ‬وجه الدول الناشئة‮’.‬
وكما هو واضح فإن هذه الدول،‮ ‬فرنسا والاتحاد الأوروبي‮ ‬بمجمله،‮ ‬والولايات المتحدة الأمريكية لا تريد التسليم بحقيقية أن الوضع في‮ ‬منظمة التجارة العالمية لم‮ ‬يعد كما كان إبان‮ ‘‬الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية‮’‬،‮ ‬وأن الصين والهند لهما نفس القوة التي‮ ‬يتمتع بها الاتحاد الأوروبي‮ ‬والولايات المتحدة داخل المنظمة‮. ‬والولايات المتحدة تتعمد القفز على حقيقة أن عدد المزارعين الذين تدافع عنهم‮ (‬بالدعومات وبالرسوم الجمركية الحمائية‮) ‬لا‮ ‬يتجاوز عددهم المليون مزارع مقابل‮ ‬200‮ ‬مليون مزارع في‮ ‬الهند لا ترى واشنطن‮ ‬غضاضة في‮ ‬التضحية بمصالحهم في‮ ‬سبيل‮ ‘‬حرية التجارة‮’.‬
هذه العقليات المزدوجة المعايير‮ (‬حمائية داخل حدودها وساعية لحرية التجارة في‮ ‬أسواق الآخرين‮)‬،‮ ‬وهي‮ ‬عقليات عتيقة النظرة بالنسبة لمفاهيم التوازن الاقتصادي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬العالمية الجديدة،‮ ‬هي‮ ‬المسئولة عن فشل اجتماع جنيف الأخير،‮ ‬والذي‮ ‬يمكن أن تتسبب مجموعة من الظروف‮ ‬غير المواتية‮ (‬اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية،‮ ‬وتجديد المفوضية الأوروبية نهاية العام القادم،‮ ‬وانتهاء ولاية باسكال لامي‮ ‬كمدير عام لمنظمة التجارة العالمية في‮ ‬سبتمبر‮ ‬2009‮) ‬‭-‬‮ ‬أن تتسبب في‮ ‬تنزيل قيمة ما اتفق عليه والذي‮ ‬يربو على نسبة تسعين بالمائة من الاتفاق،‮ ‬وتأجيل الاتفاق إلى سنة‮ ‬2010‮ ‬التي‮ ‬يقال إنها ستشهد بداية سيناريو أزمة الكساد العظيم في‮ ‬ثلاثينيات القرن الماضي.
 
صحيفة الوطن
24 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

خمسة أيام هزت العالم.. وستظل تداعياتها تترى

لا تتصف مرتفعات القوقاز بجمال طبيعي أخاذ فحسب كإحدى أجمل المناطق الغرّة في العالم، إن لم تكن الأجمل على الإطلاق، بل شكلت على الدوام نقطة ساخنة بين الشرق والغرب، وزادت الآن أهميتها الجيوسياسية للمخطّطين الغربيين عامة والأميركيين خاصة فيما يتعلق بالخطط الإستراتيجية لحلف شمال الأطلسي من التمدّد شرقا للوصول إلى خاصرة روسيا وحصارها من المنطقة الجيوستراتيجية الأهم، الجنوب القوقازي.
من هنا تبدو الأيام الخمسة التي هزّت القوقاز في حرب طاحنة وهزّت معها أركان العلاقات الدولية بين الشرق الروسي والغرب الأميركي/الأطلسي/الأوروبي قد شكلت نقطة تحول تاريخية، وحداً فاصلاً بين مرحلتين. مرحلة اتسمت فيها روسيا الجريحة بضعفٍ مشهود، على اثر تفكك الاتحاد السوفيتي في مستهل العقد الأخير من القرن الماضي، وروسيا أخرى قادمة – لا محالة- لتأخذ مكانها الشاغر كثاني قطب دوليّ على خريطة العالم والنّدّ الوحيد الذي سيكون بمقدوره، أكثر من غيره، الحدّ أو التقليل(على أقل تقدير) من الهيمنة الأميركية على العالم، بُغية استعادة التوازن الدولي المفقود.
وما اندلاع الهجوم الجيورجي المباغت على شعب اوسيتيا الجنوبية الصغير (سبعين ألف نسمة) وقوات حفظ السلام الدولية الروسية، العاملة تحت إمرة الأمم المتحدة، سوى عملية محبوكة في الدوائر الأطلسية والاميركية العليا لتكون بمثابة اختبارٍ ومِحَكٍّ عمليّ لمدى القدرة الروسية واستجابتها الفعلية لخطط التمدّد الأطلسي تلك، حيث وجد الغرب ضالته في شخص تلميذه ومريده المخلص والطموح، الرئيس الجيورجي ‘ميخائيل سَآكاشفيلّي’ بطل ما يمكن تسميته بـ ‘الديمقراطية الجيورجية التسلطية’.
لأول مرة يحدث هذا بين شعبين قريبين وجارين من دول جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة وذلك بقيام جهة أقوى بمحاولة تطهير عرقيّ لشعب أصغر! على انه ليس واضحا بالضبط سبب اختيار توقيت المجابهة قبل يوم واحد من افتتاح اوليمبياد بكين، عاصمة الدولة المضيفة الصين، التي لابد أنها امتعضت من جرّاء هذه الحرب، وان لم تأتِ بأي رد فعل ملحوظ. في اعتقادنا المتواضع بان التوقيت جاء بسبب انشغال الرأي العام العالمي بهذا الحدث الرياضي العالمي الكبير. وقد تكون خطة التوقيت تضمنت – فيما تضمنت – افتعال شرخٍ نفسيّ للنجاح الصيني في استضافته لأحد أفضل دورات الاولمبياد، ومحاولة التأثير النفسيّ السلبيّ على لاعبي دول معينة!
لعله من المفيد محاولة الوقوف على أهم نتائج حساب الربح والخسارة المتأتية من حرب القوقاز الأخيرة على المدى القصير والمتوسط، التي يمكن تلخيصها في الآتي:
أولا: تسريع عملية تركيب منظومة الدرع الصاروخي في بولندة، والتوقع الوشيك لمثيلتها في جمهورية التشيك بالإضافة إلى إمكانية الانضمام الأسرع لكل من أوكرانيا وجيورجيا لمنظمة حلف شمال الأطلسي، وهي نقطة ليست في صالح روسيا وان كانت العاقبة النهائية ستفضي لنفس النتيجة.
ثانيا: احتمال انسلاخ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من خريطة جيورجيا إذا اعترفت روسيا باستقلالهما، وهو بالطبع قد تشكل نقطة لصالح روسيا.
ثالثا: خسارة روسيا لرساميل تقدر بـسبعة مليارات دولار بالإضافة إلى أكثر من نصف مليار دولار الخسائر الحربية الأخيرة بجانب الخسائر البشرية.
رابعا: العودة الأقوى لروسيا لملف مشكلة الشرق الأوسط، كلاعب أساس في هذه المنطقة التي تعاني منها أميركا من مشاكل عديدة في أكثر من ملف وبلد.
خامسا: عودة المصداقية للموقف الروسي الحازم إيذانا بالدور الروسي المرتقب على الصعيد الدولي والإقليمي، مما قد يعزز دورها الاقتصادي والسياسي مع البلدان العربية والمشرقية.
سادسا: قد يؤدي الوضع الحالي في تغيير ما، في تركيبة النخبة السياسية الحاكمة في جيورجيا نفسها، الأمر الذي قد يطيح بالرئيس الجيورجي الحالي.
سابعاً: من مفارقات هذه الحرب أنها ستقوي الموقف الإيراني والسوري، بينما ستضعف الموقف الإسرائيلي، التي ساعدت جورجيا بتكنولوجيا الأسلحة المتطورة.
على أن روسيا، التي بدت خاسرة أو في موقف أضعف من ناحية حرب الدعاية والإعلام الغربيين، وان ربحت عسكريا على الأرض، في حاجة ماسة إلى تغيير كبير ونوعيّ في إستراتيجيتها التنموية الشاملة، وذلك بخلق نموذج اقتصادي ناجح ينطلق أساسا من استثمار حقول سيبيريا المتعددة الموارد، ذي الكلفة العالية وعدم تبدّد مصادرها الخام في التسويق والربح السريع. ومد جسور التعاون المتبادل مع العديد من دول المنطقة التي ضاقت ذرعا من التسلط الأميركي والبحث عن شراكة استراتيجية مع مجموعة من الدول المشرقية والأسيوية، على رأسها الصين بدل الدخول في تكتيكات خاسرة كالتحالف مع سوريا أو إيران بالإضافة إلى الضرورة القصوى لتحسين علاقتها مع أوكرانيا بالذات واستحداث سُبل جديدة للتعامل مع الدول السوفيتية السابقة بجانب مدّ النفوذ للحديقة الخلفية الأميركية، أي دول أميركا اللاتينية.
أصبح واضحاُ الآن أن خطة الهجوم على اوسيتيا الجنوبية ومحاولة استعادتها بالقوة لجيورجيا الأم كانت موجودة مسبقاُ، وجرت بضوء أخضر أميركي وبتعاون وتسليح إسرائيلي / أوكراني/ أطلسي. ولكن بدا أكثر وضوحا من أن القوى الغربية، التي انجرت خلف الرئيس الجيورجي المهوس في عدائه للروس، لم تتوقع أبداً من أن يكون رد الفعل الروسي بهذا الحزم. ولابد أن الغرب قد اقتنع الآن خطورة التعامل مع شخصٍ مصابٍ بمرض الرهّاب الشخصيّ الانفعاليّ، حسب العلماء الروس النفسانيين الذين أجروا تحليلات نفسية دقيقة لوضع شخصيته غير المتوازنة.
ماذا بعد هذه الحرب؟ يعنى قبل كل شيء من أن مرحلة جديدة قد بدأت تتجلّى في التاريخ المعاصر( 0 8/ 0 8/0 8) وهي مرحلة أفول أو بداية أفولٍ لمرحلة القطبية الواحدة المهيمنة، ووقوفنا على مشارف مرحلة تعدد الأقطاب التي لم تتوضح معالمها بعد، كونها مرحلة ضبابية، حيث لم تطل بعد رؤوس تلك الأقطاب المتعددة وخاصة أن القطب الأوروبي الغربي مازال أسير الهيمنة الأميركية.

صحيفة الوقت
24 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

قراءة في الوثيقة الشيعية – السلفية

لم يكن مستغربا ان تثير وثيقة التفاهم التي وقعها حزب الله «الشيعي« مع اطراف سلفية سنية في لبنان كل هذه ردود الفعل المتواصلة على الساحتين السياسية والدينية والمتفاوتة بين الترحيب الشديد، والترحيب بتحفظ، والانتقاد المعتدل اللهجة، والادانة الشديدة اللهجة. فالوثيقة بقدر ما تنطوي على ايجابيات تبتغي تخفيف حدة الاحتقان الطائفي والمذهبي في لبنان، وبضمنه الشيعي – السني، بقدر ما تنطوي أيضا على سلبيات عديدة قد تسهم من دون قصد في زيادة وتكريس الحساسيات المذهبية بدلا من ازالتها: أولا: ان الوثيقة ورغم كل ما قيل انه جرى اطلاع واحاطة الاطراف الاخرى غير الموقعة في كلا الجانبين فانه من الواضح ان اعلانها جاء مفاجئا للجميع وان تلك الاطراف لم تشرك ولم تحط بما فيه الكفاية في التحضيرات التي تمت للوثيقة.
ثانيا: ان أي قراءة تمحيصية متأنية لنصوص بنود الوثيقة يخرج المرء باستنتاج لا يقبل اللبس باختلاط وتشابك الابعاد السياسية بالابعاد المذهبية فأنت هنا لا تعرف هل أنت إزاء وثيقة معنية حصرا بالتقارب المذهبي – المذهبي و هذا من اختصاص المراجع الدينية الكبار في كلتا الطائفتين؟ أم انت إزاء وثيقة سياسية للتقارب السياسي والمذهبي معا؟ وهذا من اختصاص الرموز والمراجع الفقهية بالتشارك مع الرموز والقوى السياسية في كلا المذهبين، وبالتالي فإذا كانت الوثيقة معنية حصرا بالتقارب المذهبي الديني بين الشيعة والتيار السلفي فمن قال ان حزب الله، وهو حزب سياسي، هو الممثل الشرعي والوحيد للطائفة الشيعية برمتها فقهيا ودينيا؟ وإذا كانت الوثيقة معنية بالتقارب السياسي والمذهبي معا، نظرا لتداخل الابعاد الدينية والسياسية للصراع، فمن قال ان حزب الله هو الممثل الشرعي والوحيد للطائفة الشيعية دينيا وسياسيا معاً؟ وما ينطبق من جميع هذه التساؤلات المثارة على حزب الله في الصفة التمثيلية ينسحب تماما على الاطراف السلفية السنية التي وقعت على الوثيقة، فمهما كان وزن هذه الاطراف الا انها بانفرادها بالصفة التمثيلية للتيار السلفي والطائفة السنية أثارت ردود فعل غاضبة أو متحفظة داخل الطائفة السنية بكل ألوان طيفها من مراجع فقهية ورموز دينية وقوى سياسية على رأسها تيار الحريري «المستقبل«. ثالثا: جاء في البند الاول «انطلاقا من حرمة دم المسلم فاننا نحرم وندين أي اعتداء من مجموعة مسلمة على أي مجموعة مسلمة«.. وبالرغم من ايجابية التأكيد على هذا المبدأ الديني الاسلامي، فانه لم يكن موفقا من دون ان يكون معطوفا بالتأكيد على حرمة دماء اللبنانيين جميعا من دون استثناء على اختلاف طوائفهم، ذلك بأن الصراع الدموي الذي جرى في مايو الماضي بعد دخول مقاتلي حزب الله المنطقة الغربية من بيروت انما جرى على خلفية تجاذبات واحتقانات سياسية شديدة بين طرفي صراع لكل منهما تحالفاته مع قوى سياسية وطائفية أخرى شاركت أو استدرجت لذات الصراع، ومن ثم فان نص البند المذكور وبذلك الشكل الذي ظهر عليه يعطي انطباعا، ولو من دون قصد، وكأن دماء الطوائف اللبنانية الاخرى الشريكة قواها السياسية في ذات الصراع مستباحة، وان الحرمة هي فقط لدماء الطوائف الاسلامية. رابعا: نص البند الثاني على الامتناع عن تحريض وتهييج العوام لمنع الفتنة.. والسؤال هنا: من الذي يهيج العوام ويذكي الفتنة؟ هل هي الاطراف الموقعة على الوثيقة؟ وهنا يمكن فهم التزامها بهذا البند وتوقيعها عليه ام انه في الصراع السياسي الديني الطائفي اللبناني المعقد والمتعدد والمتشابك الابعاد محليا واقليميا ودوليا ثمة قوى عديدة تلعب ادوارا متفاوتة في اذكاء الفتنة؟ وإذا سلمنا بدور قوى واطراف عديدة في ذلك فما سلطة اصحاب الوثيقة (حزب الله واطراف سلفية) لتفعيل هذا البند عليهم، وعلى الاخص القوى الدينية والسياسية في كلتا الطائفتين؟ خامسا: نص البند الرابع على التعاون المشترك للقضاء على «الفكر التكفيري« في كلتا الطائفتين وهنا ايضا يثار التساؤل السابق: من المسؤول عن القضاء على الفكر التكفيري لدى الطائفتين هل هي الاطراف الموقعة على الوثيقة؟ أم أن هناك اطرافا اخرى ينبغي التعاون معها لكنها استبعدت في التحضير وفي التوقيع مما اثار سخطها؟ سادسا: نص البند السادس على تشكيل لجنة من كبار مشايخ الطرفين الموقعين للبحث في النقاط الخلافية عند الطائفة الشيعية والطائفة السنية لحصرها وعدم انتقالها للشارع، وهذا النص يعني ضمنيا وبوضوح وصاية حزب الله الكاملة على الطائفة الشيعية اللبنانية باعتباره الوكيل المفوض عنها في حصر النقاط الخلافية مع السنة، كما يعنى ضمنيا وصاية الاطراف السلفية الموقعة على الوثيقة باعتبارها الوكيلة والممثلة عن الطائفة السنية في بحث وحصر الخلاف مع الطائفة الشيعية! وهكذا فلا غرابة بناء على كل هذه الاعتبارات ان تثير الوثيقة الزوابع التي اثارتها لدى القوى السياسية والدينية المستبعدة وهي اطراف في الصراع، ولا عجب أيضا إذا ما عجزت في ان تترجم بنودها «الجميلة« على ارض الواقع مادام قد اختلطت فيها وتداخلت الابعاد الدينية والطائفية بالابعاد السياسية، والتكتيكات الحزبية بفنون الجمباز السياسي التي يجيدها ببراعة اقوى الاطراف الموقعة على الوثيقة.
 
صحيفة اخبار الخليج
24 اغسطس 2008

اقرأ المزيد