المنشور

هشام بن عبدالملك.. بين ” ليلة الوحشة ” و” الجمعة اليتيمة “


يّنصح الطبيب ألا يجري عملية دقيقة لأحد من أقربائه، لما لهذه العلاقة من تدخُّل – ولو بنسبة يسيرة – في سير العملية وما قد ينتج عنها.. ليس أقل من هذا أن يكتب المرء عن أحد أقاربه، شهادة هي أقرب إلى الرثاء، ورثاء أبعد ما بمقدوره أن يحمل ما يجهش به القرين الساكن داخلك.


عظيم أنْ تبقى كل هذه العقود معتقداً أنّ هشام الشهابي يستعصي على أن يلين، ولا يلين، تبقى مطمئناً أن بوصلتك الوطنية لم تصدأ عندما تراه على مبادئه التي غادرها كثيرون من رفاقه ولم يبق من جيش العُسرة الوطني إلا من وهبوا أنفسهم. ولا تحمل ذاكرتك إلا هشاماً من هشامين: ذلك الباشّ الباسم الذي يطلق التعليقات الساخرة اللاذعة على كل ما حوله، ويترك في كل شيء اسماً ووصفاً لا يجيده غيره وإن أعملوا آلات الاختراع فيهم.. كما ترى ذلك الرجل الذي لا يملّ ساعة من حمل همّ بلده، ويتحدث في هذا الهم ليل نهار، مطلقاً عنان اهتمامه بالشارع والحي ومسؤوليتهما الاجتماعية عن التربية الوطنية وحفظ النشء من اللامبالاة الوطنية والأهلية والعودة إلى نظام ‘رجالات الأحياء’ ما دام هناك حلقات مفقودة في تحمّل هذه المسؤولية في تركيبة النظام (وهو الحديث الذي كان محور آخر جلسة جمعتني به في أوائل شهر رمضان المتصرِّم)، وصولاً إلى قمم أهرامات المستعصيات التي يعيشها هذا البلد وما حوله، ومفاتيح الحل التي لا تصدأ أبداً في نظره، وهي: الديمقراطية الحقيقية.. وفي كلا الهشامين، هو نفسه بقمصانه ذات الكمّ القصير، والجيبين على الصدر والكتافتين، لم أره أبداً قط بربطة عنق أو في نســق التأنق الطاووسي، واقفاً على مسافة من الأنــوف كالمسافــة من الحــرام.. ‘فاجتنبــوه’!


أكثر من ثلاثة عقود، منذ أن تفتح وعيي واختزنت ذاكرتي ذلك المساء الكئيب وجدتي (رحمها الله) ممسكة بسبحتها وقد هدّها الحزن متكورة على سجادة الصلاة بعد أن أدت المغرب، باكية لأخذ ابنها هشام إلى السجن لانتماءاته السياسية، وتركُ البيت وفيه وشم أكثر من حفرة عميقة في ‘حوشه’.. كانوا يبحثون عما لا يوجد تحت التراب، لم يجدوا شيئاً مخبأ، فالفكر الذي دافع عنه هشامٌ أوضح من أن يُرى، وأصرح من أن لا يُسمع، أقرب إلى التناول، وأعمق من أن يُحفر له.


أكثر من ثلاثة عقود وأنا أحاول أن أجد فسحة لأسأله: لماذا سجن جدا، وما الذي حدث هناك، ولماذا ‘كتلة الشهابيين’ التي قاطعت انتخابات المجلس التأسيسي، وما دخلك بالنقابات العمالية، من كنت في ذاك الزمان ومن أنت اليوم.. و.. متى ستعلن أنك تعبت وأنك ستترك الساحة لآخرين يواصلون ما بدأت؟
في الكتلة الحرجة، في أكثر المواقف التي تحتاج إلى الصلابة والحضور الذي لا يتأتئ أو يتلعثم أو تتغبش أمامه الرؤية، تجد هشاماً هناك، ليس في الطليعة، ليس في تصدر المنابر وإن مع حضوره اللافت الذي لا يُخطأ، تجده واثقاً مما هو ماضٍ فيه، صامتاً، لا يتبارى في الظهور حتى نسيه من لا يعرفه، لم يباهِ بتاريخه العريض نضالياً، لم يبهرج جراحاته وسجنه ونضاله ويعلقها في البازارات التي افتتحت في كل مكان، وآتت أؤكلها لمن أراد استثمارها وطنياً وتجارياً حتى.. يمضي في دائرته، مع حواريي الوطن الذين لم يَهِنُوا ولم يحزنوا وخطهم أعرض من أن يضلوا عنه، يؤسس مع قلتهم تحت ظلال أحذية أمن الدولة العريضتين النخبوية والشعبية (1994 ,1992) ويكون اسمه من العشرة الذين شكلوا تلاوين أهله الذين آمن بهم ممتدين من دار كليب والزلاق، إلى عراد والحد، في سعيهم إلى حلم وطن يتركونه على جادة الصواب لأبنائهم، شركاء فيه، فاعلين بقدر محبتهم له، ولا مزايدات.. كما حلم خاله من قبله (محمد كمال الشهابي) بهيئة وطنية لوطن يقيهم بأسهم ويذهبون فداءه إن لزم.. لا غرو و’الخال أحد الضجيعين’.


في ‘ليلة الوحشة’ تعذر البقاء معه لنؤنس وحشتنا من دونه، لنطفئ إحساساً بأنه موجود هناك، يمارس نظامه الصارم مع نفسه، الساعة التي ضبط حياته عليها، برامجه التي لا تتخلخل، حمله للأثقال في نادي اتحاد الشباب، وعدم التردد في إعطاء دروس في الأخلاق لمن يتجاوزونها من الصغار في النادي تحسساً لواجب لا يتخلى عنه، أو ممازحته زملاء نادي الهلال، قيادته الشفيفة لاجتماع في جمعية المهندسين من دون تقطيب، وباسترسال مذهل، بانسحاب أقرب إلى النسيم عندما تنتهي فعالية وطنية، ويبرز الحاضرون وجوههم أن ‘نحن هنا’، بحفظه لكنى جميع من في حيّه ومن هم خارجه، وانحنائه الوحيد في حياته الذي يهبه للأطفال إذ يناغيهم.


صبيحة ‘الجمعة اليتيمة’ من رمضان، كان اليُتم يقرّبنا جميعاً إذ يلتف حول هشام عبدالملك الشهابي، أناس لم يروه قط وآخرون تحلقوا يوماً حول طاولة كان الوطن سفرهم وغايتهم وعزاؤهم ومنتهاهم، يودعون بضعة من هذا الوطن في طين مقبرة المحرق ذي الرائحة العميقة، لتحتضن أحد أبرارها.. قرأتُ حينها وصيِّته التي اختتمت ‘الوقت’ بها ملف ‘العقد المر’ حين قال ‘إذا كنتُ أشعرُ شعوراً متجذراً أنني صاحب حق، وأن هذا الحق ليس في يدي، فسأظل أطالب به، وأورث هذه المطالبة لأبنائي ومن سيأتون بعدهم.. سنخسر معارك كثيرة، ولكننا لن نخسر الحرب.. إنها مسألة حقوق وواجبات متبادلة’.
 
الوقت 27 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

تحركات مشروعة

الحراك المطلبي والنقابي الذي أخذ يتزايد في الفترة الأخيرة ليصل لقطاعات وفئات مهنية واسعة يشكل نقلة نوعية في حياة العاملين من أبناء شعبنا.
 لم تجرؤ تلك الفئات في السابق على القيام بأي تحرك أو اجتماع أو اعتصام، أو إضراب، بالرغم من أنه حق دستوري مكفول لها وفق المادة 28 – فقرة (ب) – التي تنص على أن (الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة وفقاً للشروط والاوضاع التي يبينها القانون، على أن تكون أغراض الاجتماع ووسائله سلمية ولا تنافي الآداب العامة).

إن هذه المادة خير سند قانوني يمكن الاستدلال به للقول بأن إضرابات واعتصامات واحتجاجات المعلمين والممرضين، وأخيرا العاملين في التلفزيون والإذاعة، وغيرها من الإضرابات والاعتصامات التي قامت بها النقابات العمالية، جاءت لتؤكد المطالب والحقوق المشروعة لتلك القطاعات، التي أُهملت وغيبت لسنوات وعقود عديدة، ولاسيما ابان حقبة قانون أمن الدولة والإجراءات التعسفية والترهيبية ضد المطالبين بحقوقهم النقابية والمهنية.

 ولم يعد اليوم مقبولاً من أي جهة كانت بأن يفصل العامل او العاملة والموظفة أو الموظف بسبب المشاركة في إضراب أو اعتصام ليطالب بحقه المشروع الذي يكفله الدستور، وما تحرك الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين من أجل التصدي للقرار، أو التعميم التعسفي الذي أصدره ديوان الخدمة المدنية، والذي ينص على معاقبة أي موظف أو موظفة تشارك في اعتصام أو إضراب تحت دعاوى عدم الترخيص لتلك الاعتصامات والإضرابات سوف يطبق عليهم الإجراءات.

 وبهذا تحول ديوان الخدمة المدنية إلى دائرة من دوائر أجهزة الأمن في بلادنا، فبدلا من إعادة النظر في العديد من الإجراءات والقرارات التي اتخذت في ظروف استثنائية من قبل هذا الديوان، الذي تصاغ القرارات فيه وفق رغبات ونوازع معادية لمصالح الموظفين والعاملين التابعين لديوان الخدمة المدنية، والموظفين في الوزارات الحكومية.

إن ما يثير الاستغراب هو كثرة نشر إعلانات مدفوعة من قبل جهات حكومية في بعض صحف البلدان العربية والآسيوية التي يُراد من خلالها جلب موظفين لبعض الوزارات الحكومية بدلاً من أن يفكروا بجدية بمصير الخريجين الجامعيين وتوظيفهم، وإعادة تأهيلهم وتدريبهم للوظائف الشاغرة.
إننا كقوى وطنية وتقدمية نقف بكل حزم مع المطالب والحقوق المشروعة للموظفين والعاملين في الوزارات الحكومية وندعم التحركات والاعتصامات والإضرابات المطلبية والسلمية التي يقومون بها.

 
نشرة التقدمي

اقرأ المزيد

وضـع توليفــي‮!‬


حسب إحصائية لليونسكو تعود إلى سنوات قليلة خلت، فان نسبة من يستفيدون من الاحتمالات الكاملة لشبكة الانترنت على المستوى العالمي لا تزيد عن ٢٪.  إن بدت لكم هذه النسبة لأول وهلة متواضعة جدا، فتريثوا في قراءة العبارة أعلاه التي تتحدث عن الاستفادة الكاملة من خدمات هذه الشبكة، وليس الاستفادة الجزئية، وهي استفادة متفاوتة النسب والمستويات تبعا لتفاوت مهارات من يتعاطون مع التقنيات اللازمة في عالمي الكمبيوتر والانترنت.


حتى مع تزايد مقاهي الانترنت وانخفاض أثمان أجهزة الكمبيوتر وتراجع نسبة الأمية، وكذلك تطور وانتشار الخدمات التي توفرها البنية التحتية الحديثة، فان عدد من لا يستفيدون من كل ذلك ما زال كبيرا جدا. وهناك فقط بضعة بلدان متقدمة في كل قارة هي التي تملك القدرة للإفادة الكاملة من ذلك، فيما تعاني بقية بلدان العالم من تلك اللعبة القديمة للحاق بالعالم المتقدم في ثورة المعلومات والاتصالات، كما كان عليه الحال بالنسبة للعالم المتقدم في الصناعة.

 
للأمر جانب آخر، فلدى الناس أمور كثيرة أخرى في حياتهم أفضل من مجرد الجلوس أمام شاشات الكمبيوتر، فرغم وجود مُدمنين كثر على ذلك، فان عدداً كبيراً من الناس يكتفون باستخدام التكنولوجيا الجديدة وسيلة لتوفير جهد العمل أو كمصدرٍ للترفيه، وحتى الآن فان شعبية ألعاب الكمبيوتر وتحميل المواد من على الانترنت لم تؤد إلا إلى هبوط هامشي في مشاهدة التلفزيون، كما أن مبيعات الكتب لم تتأثر بصورة ملموسة، وما زالت دور السينما والمسرح والحفلات الموسيقية تستقطب أعدادا كبيرة من المشاهدين. ورغم أن كثيراً من الكتب موجودة على الشبكة العنكوبتية كما تسمى، لكن صعوبات تقنية مثل مستوى وضوح الرؤية في شاشة الكمبيوتر وبطء تحميل البرامج أو المعلومات وتكلفة طباعتها من الكمبيوتر، تعني أن الكثيرين ما زالوا يُفضلون شراء الكتب في صورتها التقليدية، أي الكتاب الذي نعرفه جميعا، كما أن متعة التفرج على الكتب وتصفحها في المكتبات ومعارض الكتب تظل من المتع الرئيسية، كما كانت خلال القرون الماضية منذ أن ظهرت المطابع.

هذا القول لا يرسم صورة نهائية لصيغة العلاقة بين المتلقي والتكنولوجيا الحديثة. ذلك أن التحول الاجتماعي يتأخر دائما عن الإمكانات التكنولوجية، والناس لا يقبلون على استخدام التكنولوجيا إلا عندما تصبح مناسبة لهم، ويسقط الحاجز النفسي بينهم وبينها، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ كيف ستكون عليه الأحوال في المستقبل، حيث تختفي الأجيال الكبيرة، وتصبح الأرض مُلكاً لأجيال أخرى تشربت التقنيات الجديدة منذ الصغر، واكتسبت عادات ومهارات غير تلك التي نعرفها الآن، فقد ينشأ وضع غير مسبوق تبدو فيه الأمور مختلفة جذرياً عما نعهده وعهدناه. في كل الأحوال، فإن وضع اليوم يبدو إلى حدود بعيدة وضعاً مركبا أو توليفياً بين عادات قوية راسخة موروثة لا يمكن إزالتها بقرار أو برغبة، وبين عادات جديدة توفرها التقنية تشق طريقها قُدماً للأمام، ومن عادة التوليف أن يُنشئ وضعا مزيجاً، لا هو بالجديد تماما، ولا هو بالقديم تماما، هو نفسه الوضع الذي نحياه اليوم، ولا نعلم إلى متى سيستمر.
 

اقرأ المزيد

لماذا الجـودر؟

لأن صلاح الجودر من رجال الدين المستنيرين والمدافعين بشدة عن الوحدة الوطنية والتعايش الاجتماعي والتعددية، إذن فهو من المغضوب عليهم عند جماعات الغلو والتطرف الديني شأنه شأن أنصار الديمقراطية والليبرالية الذين يتعرضون إلى هجوم قاس من بعض خطباء الجمعة الذين لا هم لهم إلا بث التفرقة وإصدار فتاوى التحريم والتجريم وملاحقة حريات ومعتقدات الآخرين.
الشيخ الجودر المعروف عنه بالاعتدال والوسطية لا يمكن أن يكون منعه من نشر خطب الجمعة في الصحف المحلية مجرد صدفة ولماذا الجودر بالذات؟ أسئلة نطرحها وخاصة إن الجودر طلب منه أكثر من مرة بعدم نشر خطبه.
المنع الواقع عليه يعني مصادرة حق من حقوقه وإذا كانت هذه المصادرة لها ما يبررها لماذا لا تحرص تلك الإدارة على توضيح الأسباب؟
ما حدث له محط دهشة واستغراب وخاصة انه يؤمن إيمانا راسخاً بقوله: “انا عندي مرجعيتان الأولى هي توجيهات جلالة الملك والمرجع الآخر هو مؤتمرات الوحدة التي تقيمها وزارة الشؤون الإسلامية وأنا من المشاركين فيها والكل يشهد للبحرين برقي شعبها وثقافة أهلها ولذلك فإنني أسعى الى ترجمة المؤتمرات الوحدوية “.
 فهو من أنصار وحدة أبناء هذا الوطن ومن أنصار السلم الأهلي والاجتماعي وبالتالي ما حدث له نأمل أن يكون طارئا وعابرا لان لا علاقة له لا بقرارات وتعميمات الخدمة المدنية الداعية إلى حظر النقابات والاحتجاجات والإضرابات في المواقع الحكومية ولا بقوى العنف والتخريب والإرهاب المدعومة من قبل التيارات  المتأسلمة التي تسعى ليس فقط لبسط نفوذها على الجهات الحكومية وإنما أيضا لفرض وصايتها على الحريات التي كفلهـا الدستور.
الجودر بحسه الوطني غالباً ما تدعو كتاباته  الصحفية إلى نبذ الطائفية والطائفيين والى مكافحة الإرهاب والتعصب وباختصار له من الآراء الحرة الناقدة وخاصة فيما يتعلق بأداء النواب الذي يعد في مجمله متعثراً وله أيضا من الآراء الداعية بوضوح إلى الحوار الوطني والتسامح وترسيخ دعائم المشروع الإصلاحي وبالتالي لا ندري لماذا كل هذه القيود على نشر خطبه في الصحافة المحلية؟ في حين ان هناك من الخطباء المتشددين لم يترددوا يوماً في إشعال  الفتن الطائفية! نعم هناك من الخطباء من يستغل دور العبادة من مآتم ومساجد لأغراض حزبية وانتخابية!!
مرة أخرى لماذا الجودر بالذات؟
ومن هنا يجب أن ندرك بأننا لسنا بصدد توزيع الاتهامات على هذه الجهة أو تلك وندرك أيضا إننا لسنا مع الحرية غير المسؤولة ولكن أن نصادر حق المواطن في التعبير فهذا لا يجوز لان  دستورنا وتشريعاتنا تنص على غير ذلك.
 
الأيام 27 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

مستقبل السياسة الإيرانية المذهبية ( 3 )


يقتطعُ الدستورُ الإيراني بعضَ الآيات من القرآن ويضعُها في سياقِ مواده، معبراً بهذا عن استمرارية تمسك الأمم الإيرانية بالإسلام، وهو أمرٌ جيد، ولكن بأي فهم يجري ذلك؟ وإلى أي غايات؟ يستخدم الدستور آية (وأمرهم شورى بينهم)، ناقلاً إياها من سياقها التاريخي القديم، إلى سياق تاريخي معاصر، وقد عبرتْ هذه الآيةُ عن المرحلةِ المدنية وظهور بداية الدولة الإسلامية، فلم يكن هناك سجونٌ ولا شرطةٌ ولا برلمان منتخب، فأخذت الدولة الوليد ما هو شائع من عقوبات عند العرب وما في الدينين السماويين اليهودي والمسيحي، كما حولت مؤسسة القبيلة التشاورية إلى هيئة سياسية عفوية، ولكن مؤسسة التشاور البسيطة والشعبية المؤثرة هذه كان يرفدها نظام اقتصادي للغنائم التي توزع على المقاتلين والفقراء عموماً بشكل توسيع للملكيات الصغيرة وليس لتعضيد ملكيات كبيرة في ميدان الإنتاج، وخاصة لم تكن هناك مؤسساتُ دولةٍ اقتصادية هائلة وأجهزة عنف متمرسة وقديمة، ولهذا كانت القيادة تلتقي المؤمنين خصوصاً بشكل حر، وكان النصُ القرآني الآلهي نفسه يرتبطُ بهذه العملية الحوارية، هنا تغدو(الشورى) معبرةً عن سياق تاريخي محدد.
 أما حين تكون الدولةُ تملكُ الأخضرَ واليابس، كالدولة الإيرانية وغيرها من دول الشرق فأي شورى حينئذٍ تكون؟! إن الدولةَ هنا قادرةٌ على خياطة بدلة برلمان مناسبة لسطوتها، فالتحكم في ملايين العاملين في الدولة والمنظمات الجماهيرية التابعة وفي أرزاق الفقراء والأغنياء يكفي لتشكيل برلمانات تابعة لجهازها أو لأجهزتها، وليس دور البرلمان سوى نقد بعض السلبيات في ملكية الدولة هذه. ولهذا فإن نقلَ تلك الآية من سياقِها التاريخي الديمقراطي ووضعَها في سياقٍ آخر مضاد، استبدادي، يكونُ جملةً من التعمية للوعي الديني المسيطر على الحكم وعلى الجمهور، في حين ان المطلب هو تطبيق آية الأخماس القرآنية وتوزيع الثروات على الناس وتفكيك سطوة الملكية العامة الهائلة عن الأسواق ورقاب البشر. وإذا كان هذا ممكناً سينعكسُ ذلك على السياسة الخارجية، لكن ذلك يتطلبُ صعود رؤى ديمقراطية شعبية داخل المذهب المُسيّس وبروز زعماء يؤيدون ذلك من داخل الأجهزة وخارجها.
لكن تلك الآية القرآنية وتوظيفها المؤدلج يترافقُ مع جملةٍ من الأدوات التحكمية، حيث تطبقُ عقوباتٌ لا تعبرُ عن إنسانية الإسلام، وبجعل رجال الدين من مساهمين في الحكم ورقباء عليه إلى حكام مطلقين يوقفون الاجتهاد.
وهكذا فإن إيران بحاجة إلى حلقة وسط من التحكم الكلي لرجال الدين إلى أن يظهر رجالُ دينٍ يخففون من هذه الملكية العامة، ويدعمون حضورها الديمقراطي الاجتماعي المسعف لفقر الناس ومساعدتهم، مثلما ينشطون المنظمات الجماهيرية باتجاه الحرية والالتزام كذلك بمصلحة الدولة والمجتمع.
 ومن هنا فإن الدستورَ الذي يضعُ السلطةَ الحقيقية الكلية في إيدي رجال الدين الكبار، يكونُ سلطةً شموليةً بزحزحة آيات القرآن من دلالاتها الحقيقية، وجعلها في خدمة القلة الغنية الكبرى، مثلما حدث في زحزحة الجمهور الشعبي عن الثورة ووضعها في أيدٍ أخرى.
وهذا السياقُ المضاد للآية السابقة الذكر يرينا المسارَ المعاكسَ الراهن للدول التي ترفعُ الآيات بهذا الشكل، أي تؤدلجها خلافاً لجوهرها، مثلما فعلتهُ الدولتان الأموية والعباسية، التي أخذت الملكية العامة المتكونة في عهدي عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وبلَعَها أمراؤها وخلفاؤها، وقد كانت توجهتْ للتوزيع العادل والرحمة بالأغلبية، وبتجاوز خاص لآيات الأخماس وبفهمٍ جديد لها، ينقلُ العدلَ السابق إلى مرحلة أكثر تطوراً وأوسع شمولاً للفيء، بخلاف ما جرى في الدولتين الأموية والعباسية، وإذا كان لدى القطاع العام في إيران بعض الجوانب الاجتماعية المفيدة إلا أن أحجام البيروقراطية الهائلة ومشروعات الدولة العسكرية وغياب الديمقراطية تؤدي إلى التوزيع الأموي – العباسي نفسه.
إن السلطة العليا هي بأيدي رجال الدين الكبار، وليس رئيس الجمهورية والبرلمان والوزراء سوى التجسيد البشري للسلطة العليا الإلهية، ثم يخفت النور كلما نزلَ للأرض السياسية الاجتماعية حتى يتمرغ في الطين البوليسي، ويمكن لهذه السلطات الأرضية المتعددة أن تختلف لكنها لا تستقل وتصبح مستقلة. يؤسسُ ذلك الفيضُ النقودي البترولي، فأغلبيةُ الدخل القادمة من النفط لا يعادلها دخلٌ مالي من قوة أخرى، ولم تستطع البرجوازية الصناعية الإيرانية أن تمثلَ ثقلاً كبيراً بهذا الصدد، وحين تصل إلى مقاربة الدخل الحكومي يكونُ لها شأنٌ آخر فيبدأ هذا البناءُ السياسي بالتغير. فالأبنيةُ ليست وليدةَ الرغبات بل نتاج علاقات اقتصادية موضوعية. وعلينا مراجعة وجود هذه البرجوازية الصناعية والخاصة عموماً ومدى قدرتها على الحراك الاجتماعي المغاير. وهو أمرٌ شديد الصعوبة ولكن نستطيع أن نطرح بعض الشظايا الاقتصادية والاجتماعية التي لن تشير إلا إلى تضخم الدولة وجبروتها مهما كانت خصخصتها.
 
أخبار الخليج 27 سبتمبر 2008
 

اقرأ المزيد

وزراؤنا.. واللغة العربية

لعل من نافلة القول إن مظاهر التردي والتراجع التي باتت تواجهها لغتنا العربية في المرحلة التاريخية الراهنة التي تمر بها الأمة العربية لا تقتصر فقط على تزايد التخاطب باللغات الأجنبية، وعلى الأخص الانجليزية، في المعاملات الإدارية الرسمية، ناهيك عن إحلالها وتوطينها في وسائل الإعلام العامة من صحافة وقنوات فضائية وبريد اليكتروني و”انترنيت”.. إلخ، سواء استدعى الأمر لهذا أم لم يستدع مادامت هذه اللغة الأجنبية أضحت وسيلة للتباهي بالنبوغ والمعرفة والتحضر. وبات من أبرز مظاهر هذا التدهور التي تواجهه لغتنا العربية أنها حتى عند استخدامها في المخاطبات الإدارية الرسمية لا تسلم من العبث الصارخ بقواعدها النحوية والإملائية.
ويمكن القول بكل اطمئنان إن ما لا يقل عن 90% من المراسلات والمخاطبات الرسمية المتداولة اليوم فيما بين الإدارات والمؤسسات الرسمية باللغة العربية لا تخلو من الأخطاء اللغوية والنحوية الصارخة حتى في أبسط العبارات التي يفترض أن يلم بها طالب في السنة الرابعة ابتدائي، في حين يقع في هذه الأخطاء وزراء ومسئولون إداريون كبار من وكلاء ووكلاء مساعدين ومديرين ورؤساء أقسام.
وهي أخطاء تحدث إما لتدني مستوى الوزراء وكبار هؤلاء المسئولين الإداريين المساعدين له حتى في أبسط قواعد اللغة العربية، ناهيك عن ركاكة الأسلوب اللغوي، وإما لعدم تأنيهم بمراجعة ما يوقعون عليه من مراسلات وتقارير ومذكرات وقرارات إدارية بأسمائهم حيث تكون أعينهم في الغالب مصوبة على موقع التوقيع بعد الاكتفاء بنظرة عابرة سريعة جداً على نص القرار أو الخطاب أو المذكرة الزاخرة بالأخطاء المطبعية والنحوية والإملائية.
ولعل هذه الظاهرة اللغوية المؤسفة باتت تسود معظم الوزارات والمؤسسات الحكومية العربية وعلى الأخص في دول الخليج العربي ودول المغرب العربي. ولربما الحالات الاستثنائية الأفضل نسبياً هي الحالات التي تتطلب توقيع الشخصيات القيادية العليا في الدولة العربية كرؤساء الدول أو رؤساء الحكومات حيث يجرى التدقيق مقدما في نص الخطاب أو القرار أو المذكرة أو المرسوم المزمع عرضه على رئيس الدولة أو رئيس الحكومة للتوقيع عليه.
وفي تقديري الشخصي انه كلما كان المسئول العربي الأعلى في المنظمة الإدارية، حكومية كانت أم خاصة، غيوراً على هوية بلاده اللغوية ولديه اهتمام بسلامة هذه اللغة العربية والارتقاء بالأسلوب الذي يكتب به نص الرسالة أو المذكرة أو التقرير أو القرار، انعكس ذلك على حرص المستويات الإدارية الأدنى منه بدورها اقتداء ومراعاة بهذا الاهتمام لدى رئيسهم الأعلى، هذا إذا ما كان هؤلاء المرؤوسون قديرين حقاً وعلى كفاءة في الإلمام بأبسط قواعد اللغة وأساليب الكتابة الصحيحة السليمة.
وقد كتبت مرات عديدة بأنه إذا ما استمر تجاهل المراسلات والقرارات والدراسات الرسمية في الدول العربية بلغة عربية سليمة فإن ذلك سيمتد حتى إلى رموزها وشعاراتها المهمة، وهذا ما وقع على سبيل المثال، لا الحصر، من خطأ مؤسف في كتابة تمييز العدد في بعض القطع المعدنية الجديدة لعملة مملكة البحرين والذي نبهنا عليه عدة مرات، وطالبنا بضرورة تجاوزه عبر السحب التدريجي لهذه القطع واستبدالها، وما من مجيب. وفي تجربتي الشخصية الإدارية في العمل الحكومي الممتد طوال ثلاثة عقود ونيف فلعل من الوزراء الذين احتككت بهم وعرفت بأن لديهم اهتماماً بسلامة اللغة العربية في نصوص المذكرات والتقارير والقرارات الإدارية التي تمرر عليهم كلا من محمد علي منصور الستري وزير العدل السابق حينما كان مديراً لإدارة التخطيط والشئون الفنية بوزارة العمل والشئون الاجتماعية، وهو بالمناسبة من خريجي حوزة النجف الأشرف، ووزير العمل والشئون الاجتماعية الأسبق الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة، وهو بالمناسبة لا يتوانى أحياناً خلال العمل عن إضفاء روح الدعابة بطرائف عربية فصيحة حتى في تعليقاته المكتوبة على الأوراق الإدارية. كما يُعرف عن مستشار سمو رئيس الوزراء للشئون الثقافية الاستاذ محمد المطوع بطرائفه واهتماماته اللغوية في كلماته وتصريحاته. ومن الوزراء أيضاً الذين أعرفهم وربطتني بهم علاقة عمل إدارية ويولون اهتماماً فائقاً في مراجعة نصوص المراسلات والتقارير الإدارية والتدقيق في مدى سلامتها لغويا وأسلوبا وزير العمل والشئون الاجتماعية السابق عبدالنبي الشعلة، إذ من المعروف عن “أبي مشعل” أيضاً ليس اهتمامه بالتدقيق في التقارير والمراسلات الإدارية من حيث سلامة اللغة ورقي الأسلوب فحسب، بل وقدرته أيضاً على توليد الأفكار ومزجها وصقلها في قالب أو نص لغوي متناغم واحد وذلك من خلال تكليف أكثر من باحث أو مستشار من مستشاريه بمهمة إعداد التقرير أو الخطاب المطلوب ليتضمن مقترحات أو أفكاراً محددة ثم يقوم أبو مشعل باستخلاص حصيلة تقرير كل منهم ودمجها في صيغة واحدة في تقرير واحد أو خطاب واحد. كما يُعرف عن وزير خارجية مصر الأسبق عمرو موسى، الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية، بشغفه باللغة العربية وهوسه أيضاً بالتدقيق اللغوي في المراسلات والتقارير الإدارية، كما يتمتع العديد من الوزراء العرب بقدرتهم على الارتجال الفصيح أو إلقاء كلماتهم المكتوبة بلغة عربية خالية من اللحن أو الارتباك والتأتأة، كما هو الحال المؤسف والفاضح لدى وزراء بحرينيين وعرب آخرين. وأخيراً فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: مادام كل المؤسسات والدواوين الحكومية، ولاسيما دواوين القيادات العليا، لا تخلو من المتخصصين اللغويين الذين يبذلون قصارى جهودهم بأن تكون نصوص المراسيم والقرارات الإدارية التي تعتمدها وتوقع عليها تلك القيادات العليا سليمة لغويا ولائقة أسلوبا، فما الذي يمنع من تعميم هذا الاهتمام نفسه وجعله قانونيا الزاميا في كل المستويات والمؤسسات الإدارية، بلا استثناء، إذا ما كنا مقتنعين حقا بأن صيانة لغتنا العربية وحفظ مكانتها ينبغي ألا يقتصر على مستوى إداري دون آخر؟!



أخبار الخليج 27 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

مستقبل السياسة الإيرانية المذهبية (2)


إن رفض التطور القومي المستقل للشعوب الإسلامية من قبل الحكومة الإيرانية يتشكلُ لوجود هذا الالتحام بين المذهب في إيران والدولة، وتعبرُ عن ذلك بعضُ موادِ الدستور خاصة المادة الـ (12). فكما يتمُ تعميم وتجريد تاريخِ الإسلام يتمُ تعميم وتجريد تاريخ الاثني عشرية، وجعلها مُلحقةً بوعي الدولةِ الراهن، فالاثنا عشرية المقوننة هنا تعتبرُ الطبعةَ الأولى والأخيرة من المذهب كما يتجسدُ ذلك في وثائق الحكومة المحورية كالدستور، ولا يتمُ رؤيتَها كطبعاتٍ متعددة تعكس تطور وجهات النظر والخبرة والتنوع الأممي للشعوب والطبقات الإسلامية لتغتني باستمرار، بل هي طبعةٌ أولى ومتوقفة عند وعي رجال الدين الكبار الراهن، وهذا الدمجُ بين رؤيةِ الدولة ورؤيةِ المذهب نابعٌ من ذلك التاريخ المحافظ وللسيطرة الطبقية لقوى الاستغلال الكبرى العتيقة على أجهزة الحكم والجماعات التي قلنا إنها سيطرتْ على فائضٍ مالي كبير خلال تشكل الدولة الإيرانية خلال قرون ولم تعرف التحديث في أساليبها.


وانتقل هذا الإرث للإدارة في العهد الجمهوري، لهذا فهي غير قادرة حالياً على التحديث الديقراطي، ومصالح فئاتها الواسعة القابضة على مقاليد الجيش والوزارات والحرس، لا تستطيع أن تجمعَ بين التغيير الداخلي التحديثي وفهم المذهب الاثني عشري باعتباره مذهباً غنياً لا تـُستنفدُ طاقاته، وتجسيد ذلك بخط التفتح الديمقراطي، لكن مسار تطور الدولة وتشابكها بالصناعة والتجارة العصرية وغيرها يفرض تبدل وجهات النظر الدينية التقليدية ببطءٍ شديد. وهذا يعني أن المذهبَ قادرٌ على ذلك في إيران أو في مواقع أخرى من العالم الإسلامي، ولكن هي السيطرة السياسية الآنية وأفقها المحدود في موقع إيران الراهن. وسببيةُ ذلك تكمنُ في نظام رأسمالية الدولة الشرقي عموماً الذي يتمظهرُ في إيران، بصيغةِ سيطرة الملكية العامة على أهم نوابض الإنتاج، فتقول المادة (الرابعة والأربعون) من الدستور: ” فالقطاع الحكومي يشمل الصناعات الكبرى كافة، والصناعات الأم، والتجارة الخارجية، والمناجم الكبيرة، والعمل المصرفي، والتأمين، وقطاع الطاقة، والسدود، وشبكات الري الكبيرة والإذاعة والتلفزيون والبريد والبرق والهاتف، والنقل الجوي والبحري والطرق والسكك الحديدية وما شابهها فإنها تعدُ من الملكية العامة، وحق التصرف فيها للدولة. والقطاع التعاوني يشمل الشركات والمؤسسات التعاونية للإنتاج والتوزيع والتي تـُؤسسُ في المدن والقرى وفق القواعد الإسلامية.والقطاع الخاص يشمل جانباً من الزراعة وتربية المواشي والدواجن والتجارة والخدمات، مما يعد متمماً للنشاط الحكومي والتعاوني “. تتضحُ هنا ضخامة ملكيات الدولة الشاسعة، لكن هذه الملكيات العامة لا تمتد إلى ملكية الأرض، فهي تقومُ بتقزيم (البرجوازية) الصناعية وتحجيم (البرجوازية) التجارية، لكنها لا تمتدُ قلامةَ ظفرٍ إلى أملاك الإقطاع الزراعي، حيث تـُمنع هنا الملكية العامة ويُرفضُ الإصلاح الزراعي أي توزيع الأرض على المعدمين. وهو أمرٌ ليس غريباً. ويعبرُ ذلك عن جذور الإقطاعِ السياسي الحاكم، الذي تشكل في الزراعة لقرون وامتد إلى العقار والتجارة والصرافة، ومع ظهور واتساع الملكية العامة في العهد الملكي السابق تضخمتْ الملكيةُ هذه في العهد الجمهوري،(وكانت «الثورةُ البيضاء” علامةً فارقةً على تباين الإقطاع السياسي الامبراطوري عن الإقطاع المذهبي) فتنامت أجهزةُ الحكم المذهبي السياسية والعسكرية، فحصلت الفئاتُ الوسطى على مكانةٍ كبيرة في هذه الأجهزة وغدت بيروقراطيةً كبرى متنفذةً ومُلحقةً بحكم رجال الدين الكبار، وهي أمورٌ تضعُ الميزانيات في خدمة جناحيها البارزين هذين، وليتسرب منها شيءٌ بسيط للشعب، كما هي العادة في ظل ملكيات الدولة الرأسمالية الشرقية.



ولهذا تجمدُ هذه القوى الاجتماعيةُ من كبارِ رجالِ الدين إلى هذه الفئات الوسطى المتنفذة في الأجهزة الرسمية خيارَ إيران الاجتماعي، وتفرملهُ عند فهمها المذهبي الخاص الراهن. أي تؤدلجُ تاريخَ الاثني عشرية عند فهمهما ومصلحتها الحالية، وحين يتبدل هذا الأساس سوف تتغير النظرات. وهذا يوجه التطور الاقتصادي من هيكلية الميزانية وبنودها المحورية حسب برامج هذه القوى التي تتضمن العسكرة وتشديد القبضة البيروقراطية الأمنية وحلب الموارد لمصلحتها وترك الأغلبية الشعبية في معيشةٍ متدنية، فيما يعبرُ برنامجُها السياسي عن تصعيد التوجه القومي المتواري تحت طبقة المذهبية، ويستثمرُ الشبكةَ الاجتماعية السكانيةَ ما فوق القومية، أي تلك الشعوب الواقعة خارج الدولة الإيرانية، فيعكسُ الدستورُ الإيراني بموادهِ هذه الرؤية ويقننها. وبالتالي فهناك التوجهات المذهبية الإثنا عشرية الوطنية التي تتشكلُ ببطء في الدول الأخرى التي تراعي خصائص بلدانها وظروفها وتنسحبُ من المشروع المركزي الإيراني.


ولهذا فإن تخفيضَ العسكرة في إيران لو حدث يؤدي على العكس إلى تطور القطاعات الاقتصادية، خاصةً إذا ترافق ذلك مع تقليص حضور الدولة في كل كيان اقتصادي حتى لو كان صغيراً، ولكن ذلك يتطلب تصعيد البرجوازيات في الصناعة والتجارة وتوسيع الحريات الخ، وهذا لا يستقيمُ مع نظامٍ شمولي. لكن الانتقالَ من نظام آيات الله الشمولي إلى نظامٍ ديمقراطي ممكنٌ عبر وجود قادة دينيين ديمقراطيين ينتمون للجمهور الشعبي المتنوع الطبقات ويستعيدون إرثَ الأئمةِ الكبار المناضلين من أجل الفقراء، وهذه طبعةٌ أخرى قادمة من الاثني عشرية لابد أن تنضجَ تحت نيران الصراع الاجتماعي والعودة لجذورِ الاثني عشرية وقراءتها بشكلٍ حقيقي.
أما ما يُقال عن عودة الإيرانيين للمجوسية فهي مساراتٌ واهمة، وتعبيرٌ عن يأس واختناق. إن استمراريةَ ذات الخط الديني المتشدد يتطابقُ مع وجودِ الصراعات العسكرية مع الدول الغربية، التي يحتاج بعضها إلى هذا التشدد ليبرر حضوره العسكري في الخليج، مثلما أن القيادةَ الإيرانية تحتاج إليه لتظهر بمظهر الُمحاصَر، وبالتالي الذي لا يستطيع أن يلبي حاجات العامةِ والديمقراطية ويمضي (مضطراً) للنفقات العسكرية الباهظة، مما يقودُ إلى خيار الصدام الحتمي الذي قد يؤدي إلى فوضوية سياسية وتقود إيران إلى صراعات شبيهةٍ بالعراق والسودان والصومال. إن الصراع المحوري بين رجال الدين الكبار والقوى العسكرية والسياسية البيروقراطية من جهةٍ وقوى الليبرالية والجمهور الفقير من جهةٍ أخرى، لا تتسارعُ وتتجذرُ بسببِ ضخامةِ سيطرة الدولة على الحياة الاقتصادية وعلى إنتاج الدين والثقافة، ولكن الخصخصة لن تغير من هذا وسنرى محدوديتها لاحقاً، وتؤدي إلى اضطرابات متعددة كذلك، فيغدو الخيارُ الليبرالي الديمقراطي في عيون الجمهور الفقير الواسع مكروهاً، بسبب تحميل الجمهور فاتورات الإصلاحِ الاقتصادي الزائفِ وهو الفقيرُ المعدم، فيؤيدُ الخيارَ الأبوي الحكومي الاستبدادي، لما وراءهُ من مؤسساتٍ جماهيرية تعضدُ معيشتَهُ الرثة المؤمنة على الأقل، (هناك مؤسساتٌ كثيرة في هذا السياق مرتبطة بالتجييش المذهبي السياسي).


 إن ظهور شخصيات إصلاحية على غرار خاتمي لم يتعمق، فأفكارها لا تتعمق في التاريخ المذهبي ولا في رؤية العصر، فهي لا تتجرأ على رفض الدكتاتورية الدينية الشمولية، وعلى طرح الخيار الديمقراطي الإسلامي الليبرالي، في حين ان منتظري المعتقل هو الأقرب إلى ذلك. لكن الاعتقال المطول وعدم تكون كادر واسع له يرثُ الحكمَ يضعُ البلادَ كذلك في قبضة التشدد أو الاحتمالات المفتوحة للفوضى الليبرالية والحروب الأهلية. وقد يكون منتظري أو تلاميذه خيار إيران الجديد.


أخبار الخليج 26 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

يا نار شبي‮ ‬من ضلوعي‮ ‬حطبك‮!!‬


بهدوء شديد ودونما أي إزعاج أو ضجيج، تعلن بعض الحكومات المجاورة زياداتها ومكافآتها المالية لمواطنيها، إدراكًا منها بأحقيتهم في الظروف التي يشتعل فيها زيت الغلاء إلى حد لا يطاق الاقتراب من لهيبه، وتتراكم المسؤوليات المالية إلى حد يرهق خلايا الرأس خاصة في المناسبات التي تتطلب موازنة مالية خاصة واستثنائية؛ كشهر رمضان وبداية السنة الدراسية الجديدة والعيدين المباركين، بجانب إحساس هذه الحكومات بمسؤولياتها تجاه مواطنيها وأحقيتهم كلما (تنعم) بيت المال بفائض النفط والأرباح التي يدرها وتدرها المؤسسات ذات النفع العام والخاص.
بهدوء شديد يعلن مذيع الأخبار أو تعلن الجريدة هذه الزيادة أو المكافأة، وبفرح كبير يتلقون هؤلاء المواطنين هذا الخبر ليتوجهوا بعده بخالص وفائض الشكر إلى أهل البشارة ووجوههم تبدو عليها علامات الراحة والنعمة، مؤمنين تمام الإيمان بأن ما تحصلوه هو من حقهم وأن حكوماتهم تدرك حقوقهم دون مناوشة منهم وتعي مسؤولياتها تجاههم دونما تذكير بها، وبالتالي تتعزز وتقوى جسور الثقة بينهم وبين حكوماتهم، لذا وإن حدث أي تقصير من هذه الحكومة في أمر يتعلق بحقوقهم فعلى وجه السرعة تباشر في رأبه قبل أن تتصاعد الاحتجاجات والاعتراضات عليها فتخسر الثقة التي منحها هؤلاء المواطنين.
أما نحن فلا حق يأتي بسهولة، ولا مجال لهدوء نفسي يتأسس على ضوئه جسر ثقة متبادلة بين المواطنين وبين المسؤولين عن حقوقهم، كل شيء يأتي بالضجيج والفوضى وبحزمة المطالب التي لا تتوقف عند حد من (الهدنة) المؤقتة حتى تبدأ من جديد، ولعلها بسيطة ويسير أمر حلها، ولكن يبدو أن (شعللة) هذه القضايا أصبحت عادة مزمنة في مجتمعنا.
وما لم تتناولها الصحافة ويحتدم الصراع بين أطراف المجتمع الكثيفة، وما لم تتناولها بعض مؤسسات المجتمع المدني في ندواتها وتقاريرها، وما لم يتصعد الأمر إلى حد لا يرجوه أحد أو يستريح له، وما لم تتدخل جهات ومساع حميدة من هذا الطرف وذاك لحل هذه القضايا والمطالب، وما لم يلعن كل مواطن عانى الأمرين من وضعه، يلعن نفسه وأسلاف (سلسفيله) في بيته وفي المجالس، وما لم يتفاقم الأمر ليصبح بعض منه أشبه بالإشاعة الكارثية، وما لم وما لم فإن الجهات المعنية سوف لن تحرك ساكنًا يطمئن المواطنين على بعض حقوقهم.
والمصيبة (تتشعلل) أكثر حين تجد من هم معنيون بتخفيفها وإطفاء نارها في المجلس النيابي، هم من يزيدها حطبًا وذلك بصراعاتهم وشجاراتهم وخلافاتهم حول تحقيق النزر اليسير منها، وبالتالي هم من يساهم أيضًا في تأجيجها وتأخير إمكانية تنفيذها، ولا نعرف بعدها ممن يشكو المواطن ولا إلى من يشكو همه .. ‘ويا نار شبي من ضلوعي حطبك’، فلا شيء يأتي ويتحقق بهدوء، ولا تنتظروا وجهًا تبدو عليه الراحة والطمأنينة ما لم ينل حقه بهدوء ودونما ضجيج!!
 

اقرأ المزيد

أولويات النواب‮ ..!‬



 

زُ ف إلينا في الأسبوع قبل الماضي خبر عن تشكيل لجنة تنسيقية بين الكتل النيابية بعد أن أصبحنا على باب الانعقاد الجديد لمجلس النواب.
الخبر يحمل في ثناياه ما يفيد أن الكتل النيابية استعدت لدور الانعقاد المقبل وقررت التنسيق فيما بينها من خلال لجنة تعني بالتنسيق تجتمع كل شهر على الأقل لمناقشة القضايا المتفق عليها بين الكتل النيابية، والتشاور في القضايا المختلف عليها للخروج برؤية واحدة مع مناقشة أية قضية يدعو إليها أي من رؤساء هذه الكتل.
في قلب الخبر أسماء لجنة التنسيق وموعد بدأ الاجتماع الأول، والاهم من ذلك تلك الإشارتان التي فهمنا من أولاهما بأن اتفاقا تمّ بين الكتل النيابية على تجنب القضايا التي تثير الطائفية أو الشحن الطائفي، والعمل من اجل الوحدة الوطنية. أما الإشارة الثانية فهي تلك التي بشرتنا باتفاق بين الكتل على “القضايا والأولويات المشتركة التي تصبّ في مصلحة المواطن البحريني، وفي مقدمتها تحسين المستوى المعيشي، الإسكان، الميزانية العامة للدولة، قضايا الفساد المالي والإداري”.
جيد، لا بل ممتاز هذا التوجه من قبل الكتل النيابية، بعد مرحلة من التأزيم والتصعيد والمناكفات والسجالات والاحتقانات والصفقات والتنازلات الظرفية التي أساءت إلى الممارسة البرلمانية وأضعفت من حضورها التشريعي والرقابي المطلوبين ولسنا الآن في حاجة لأن نستعرض تلك المعارك و”البازارات” في التصريحات والمواقف التي يعلم الله كم كانت شرسة أحياناً.
كما انه أمر جيد بل وممتاز أن تتجه الكتل النيابية إلى وضع قائمة بالأولويات الواجب على الجميع التركيز عليها، والتي يفترض أن تكون أولا حصيلة قراءة نيابية دقيقة لواقع واحتياجات المواطن، وثانياً حصيلة مراجعة تصحيحية ذاتية من قبل النواب لمستوى أدائهم السياسي في الفترة الماضية التي سيطرت عليها ذهنية لا يخفى على الجميع كيف حكمت مسار العلاقة بين الكتل النيابية وخلقت أجواء أقل ما يمكن أن يقال عنها بأنها غير صحية على الإطلاق، أجواء غيبت فعل التركيز على الأولويات وغلبت لغة الإنشاء والتمنيات والشعارات ومعاملات الناخبين..!!
لذلك عندما يتحدث النواب هذه المرة عن الأولويات التي سيركزون عليها معاً، فهو أمر نحتفي به ونقدره وندعمه، حتى وان بدت المناخات التوافقية الأخيرة بين النواب موضع شك في جديتها على خلفية واقع عايشناه من الاحتكاكات والتجاذبات، لا بل نوع من الريبة الخفية التي تجرأت عن كشف هويتها أكثر من مرة وحملت بلادنا اكبر بكثير مما يمكن أن نتحمله وتتحمله وذلك أمر عبّر عن هوّة لا يستهان بها بين تطلعات وتوجهات الكتل النيابية يصعب تجاهلها.
ويبدو أن هناك من بعض النواب قبل غيرهم من استكثر علينا أن نعيش أي مناخات ايجابية يغلب عليها الممارسة النيابية الحقيقة، هؤلاء على ما يبدو تعودوا العمل في “جو فوضوي”يغلب عليه التقلبات و المناورات والزلات والتشكيك في النوايا لذا كان غريباً ومفاجئاً بعد أيام فقط من ذلك الخبر أن يظهر لنا من أراد أن يوجه لنا رسالة من النواب مفادها: لا تفرطوا في التفاؤل ولا تنساقوا وراء لغة الإنشاء و التمنيات وشعارات التعاون، وانّ إرادات التعاون لازالت منكفئة لصالح إرادات أو اعتبارات، أو مصالح، أو حسابات لا يعلمها إلا الله. وإلا ما معنى أن يخرج لنا احد أعضاء كتلة نيابية ليعلن على الملأ بأن “اللجنة التنسيقية بين الكتل النيابية هي مجرد لجنة شكليه ولن يكون هناك حيالها التزام كلي من الجميع”، فيما ظهر نائب آخر من كتلة أخرى متشككاً في صدقية النوايا وجدية التوافق ..!! مما ينبئ بأن اللجنة التنسيقية بين الكتل النيابية قد وئدت قبل أن تولد.
وما دمنا على أبواب انعقاد جديد لمجلس النواب، فإن هذا يعني امتحانا جديدا للحياة البرلمانية، أن تكرم فيه أو تكون النتيجة مخيبة للآمال، فالأمر يتعلق بمستوى أداء النواب، ومدى قدرتهم على ترجمة استعدادهم المعلن على عدم الانسياق وراء ما تريده القبيلة والطائفة والمذهب والمنطقة أو هذا التيار السياسي أو ذاك على حساب الرؤية الوطنية الشاملة الجامعة. وهذا هو الذي يجب أن يكون أولى أولويات مجلس النواب، لأنه حينئذ سيكون قادراً على تبني الأولويات التي لا يختلف عليها أحد.
 ونعلم جيداً كم هي كثيرة المشكلات والقضايا التي لا يجب أن يكون اهتمام النواب بشأنها معطلاً، كما هي كثيرة الأولويات التي مهما يكن لا بد أن توضع على رأس أولويات النواب وبرامج عملهم والتي تقضي التحرك من اجلها إلى أقصى حدود طاقاتهم، وفي الصدارة أولويات تتصل بالمحافظة على قدسية المال العام ومحاربة الفساد وتفعيل الشفافية والمساءلة وبشكل عام ترسيخ مبادئ الحكم الصالح.
                                                                                                         

اقرأ المزيد

أين نحن من يوم السلام العالمي؟‮! ‬

وكما لو أننا في‮ ‬خصومة دائمة مع السلام،‮ ‬ففي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يحتفل فيه العالم باليوم العالمي‮ ‬للسلام والذي‮ ‬يصادف الحادي‮ ‬والعشرين من سبتمبر‮ (‬أيلول‮) ‬كل عام،‮ ‬وترفع المنظمات الدولية الشعارات التي‮ ‬تدعو إلى المحبة والسلام والأمن الاجتماعي‮ ‬وتخرج في‮ ‬مسيرات كرنفالية بهيجة من أجل السلام‮.. ‬وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تنظم فيه المؤسسات التربوية احتفالاً‮ ‬حاشداً‮ ‬بهذا اليوم وتكرس بنود هذا اليوم السلمي‮ ‬في‮ ‬مناهجها ومقرراتها وضمن فعالياتها الأنشطية‮..‬
وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يصدح فيه الفنانون بأغاني‮ ‬الحب والسلام وسط جموع الناس وتعزف أروع المؤلفات الموسيقية التي‮ ‬كتبت للسلام‮..‬
وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تدعو فيه الأحزاب والرابطات والاتحادات في‮ ‬دول النزاع بآسيا وأفريقيا إلى ضرورة نبذ العنف والإرهاب والحروب والوقوف ضد التمييز والعنصرية‮.‬
وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تنظم فيه بعض المؤسسات الفنية مهرجانات تختص بأفلام السلام ومخرجي‮ ‬أفلام السلام‮.‬
وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يصبح فيه اليوم العالمي‮ ‬للسلام في‮ ‬كثير من الدول تظاهرة كبيرة لتكريس وتعميق وتعزيز قيم السلام والمحبة والإخاء والود بين كافة شعوب الأرض باختلاف معتقداتهم ومذاهبهم وتوجهاتهم الأيديولوجية‮. ‬
في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تدرك فيه هذه الدول والمنظمات والشعوب أهمية الاحتفال بهذا اليوم،‮ ‬نكون نحن في‮ ‬غفلة عن هذا اليوم،‮ ‬مقصودة ومتعمدة أو مؤسسة على جهالة وتخلف،‮ ‬وكما لو أننا لا علاقة لنا على الإطلاق بيوم‮ ‬يدعى‮ ‬يوم السلام،‮ ‬ولا علاقة لنا بمن أطلق هذا الاحتفال بهذا اليوم ولا علاقة لنا بأسباب الاحتفال بهذا اليوم،‮ ‬كل ما نعرفه وننام ونصحو عليه هو أننا مجتمع موبوء بالطائفية وتعدديتها في‮ ‬الطائفة الواحدة وفق النهج‮ (‬الديمقراطي‮) ‬الذي‮ ‬يقتضي‮ ‬التعددية،‮ ‬وأننا مجتمع اعتاد الخصومة والنزاع والشجار حول أتفه الأمور،‮ ‬لا وقت لديه للسلام أو‮ (‬مشتقاته‮)‬،‮ ‬ولا‮ ‬يعنيه كثيراً‮ ‬إن كان العالم‮ ‬يحتفل بهذا اليوم أم لا،‮ ‬ولا‮ ‬يهمه إن كان هذا السلام خلاص للأمة من وباء القتل والفتك والإرهاب أم وبال عليها‮.‬
كنا ننتظر دوراً‮ ‬واضحًا وملموسًا من مؤسسات المجتمع المدني‮ ‬ومن المؤسسات الثقافية ومن المؤسسات التربوية والتعليمية،‮ ‬إذ لا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يمر هذا اليوم‮ (‬مر الكرام‮)‬،‮ ‬كنا ننتظر منها موقفًا حاسمًا ضد الطائفية والشغب والفوضى والترهيب والتكفير ودس السم في‮ ‬العسل،‮ ‬كنا نرتجي‮ ‬منها مسيرة توحد صفوف الشعب تحت لواء السلام والمحبة وإعلان ميثاق شرف بينها‮ ‬يحمي‮ ‬الديمقراطية من زلات التلاعب الأرعن الذي‮ ‬يسعى إلى تقويض أركانها،‮ ‬وإشاعة الفوضى والشغب من أجل إزالتها تمامًا وترجيح كفة المعادين لها،‮ ‬ميثاق شرف‮ ‬يدرك أن المجتمعات دون سلام هي‮ ‬مجتمعات دون حضارة،‮ ‬مجتمعات تقتات من المتبقي‮ ‬في‮ ‬دياجير العصور المظلمة‮. ‬
يوم السلام العالمي‮.. ‬إذا كنا لا نراه أو نتعمد عدم رؤيته متجسداً‮ ‬على أرض الواقع،‮ ‬فلنلتفت قليلاً‮ ‬إلى بعض الفضائيات التي‮ ‬لا نرى منها سوى ما نود أن نعلن استياءنا منه‮.‬
لنلتفت إلى إعلان منظمة الأمم المتحدة الذي‮ ‬وضعته أمام مبناها ودعت من خلاله الفنانة كارول سماحة المشاهد إلى فسحة حلم‮ ‬يتم من خلالها رؤية العالم دون حرب‮.‬
لنلتفت إلى أطفال جاما العاصمة الكشميرية وهم‮ ‬يبعثون رسائل السلام إلى كل أطفال الهند من أجل السلام ونبذ العنف وتوحيد شعب الهند‮. ‬
لنلتفت إلى مهرجان دبي‮ ‬السينمائي‮ ‬الدولي‮ ‬وهو‮ ‬يختار الفيلم الوثائقي‮ ‬الطويل‮ (‬يوم ما بعد السلام‮) ‬في‮ ‬مبادرة منه تهدف إلى دعم السلام العالمي‮.‬
لنلتفت إلى المؤسسات الثقافية والإنسانية في‮ ‬أوربا وهي‮ ‬تنظم بمناسبة اليوم العالمي‮ ‬للسلام ملتقى للثقافات والإبداع تتحاور من خلاله حول القضايا المتعلقة بالسلام كضرورة ملحة لا‮ ‬غنى للشعوب والحكومات عنها‮. ‬
لنتأمل دعوة رئيس مفوضية السلام بجنوب السودان لويس لوبونق الحكومة والمؤسسات الدينية والزعماء التقليديين وجميع المواطنين في‮ ‬جنوب السودان إلى التسامح خلال الاحتفال بيوم السلام العالمي‮ ‬ووضع حد للعنف‮. ‬
لنلتفت إلى معهد دراسات السلام التابع لحركة سوزان مبارك الدولية للسلام وهو‮ ‬ينظم احتفالية بمناسبة‮ ‬يوم السلام تشارك فيها الفنانة‮ ‬يسرا،‮ ‬سفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة،‮ ‬وهي‮ ‬دعوة لكل محبي‮ ‬السلام للمشاركة ومساندة السلام‮. ‬وسيرتدي‮ ‬المشاركون في‮ ‬الاحتفالية الملابس البيضاء‮.‬
ولنا أن نلتفت أيضًا إلى وزارة الإعلام وهي‮ ‬تنظم حفل استقبال بهذه المناسبة،‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تساندها في‮ ‬مثل هذا اليوم مؤسسات المجتمع المدني‮. ‬
فأين نحن من السلام ومن‮ ‬يومه الذي‮ ‬عبر بالأمس دونما احتفال أو تذكير به عدا احتفالية وزارة الإعلام التي‮ ‬نظمتها بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة؟
 
صحيفة الوطن
25 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد