المنشور

قبل أن نصبح تحت ركام الهرم المالي العالمي

حجم الاقتصاد العالمي الفعلي اليوم مقدراً بالدولارات الأميركية يساوي 48 تريليوناً تقريباً، وحجم سوق المال العالمي مقدراً بالدولارات إياها يساوي 144 تريليوناً تقريباً. أي أن الاقتصاد العالمي معبراً عنه في سوق الأسهم والأوراق المالية يساوي ثلاثة أضعاف قيمته الحقيقية. بعبارة أخرى، إن قيمة الاقتصاد العالمي منفوخ فيها لدرجة أن ثلثيها ليست سوى وهم، أو كذبة كبرى اسمها الدبلوماسي فقاعة. وفي مقال الأسبوع الماضي عرفنا أن مجموع الدَّين الأميركي (حكومي + شركات وأفراد) يفوق حجم الاقتصاد الأميركي بأكثر من خمس مرات. أي أن الاقتصاد الأميركي يعيش هذه الفقاعة أكثر من غيره. وأكثر من ذلك، أنه يستهلك بنهم على حساب بقية العالم.
ليست ظاهرة الفقاعة حديثة في النظام الرأسمالي العالمي. أتذكرون أزمة انهيار شركات «الدوت كوم» والحاضنات في تسعينات القرن الماضي؟ قيمة أسهم بعض هذه الشركات هبطت من فوق مئة دولار لتقترب من قيمتها الحقيقية – ثلاثة دولارات. على أن ذلك لم يكن بداية تعرف العالم على ظواهر فقاعات الاقتصاد الرأسمالي. وتعالوا معي إلى أجواء الثقافة والأدب قليلاً، قبل أن نعود ثانية إلى أكبر فقاعة ستنفجر في وجوهنا.
ديفيد ليس David Liss، عالم متخصص في التاريخ الإنجليزي، لكنه فجأة تحول نحو فن الأدب. نتيجة هذا التحول أذهلت الجميع. أول نتاج أدبي له «مؤامرة الورق» (A Conspiracy of Paper) صدر العام 1966 في الولايات المتحدة الأميركية وجد له صدى واسعاً وحاز على جائزة إدغار الثقافية كأفضل باكورة للعمل الوثائقي. وقد تمت ترجمته إلى أكثر من 15 لغة، وتحول العمل إلى نتاج سينمائي. قيل عن ديفيد ليس أنه اخترع طرازاً جديداً في الأدب: الإنتاج الوثائقي التاريخي – المالي. لقد نجح ليس بحيل ذكية في خلق نمطه الأدبي عندما استطاع أن يشخص بصدق حياة لندن في الربع الأول من القرن الثامن عشر، وخصوصاً في تقديم لوحة فنية رائعة تصف ولادة بورصة المال عندما جاءت الأوراق المالية والأسهم لتحل محل الذهب واضعة البداية للعهد المالي جديد.
ومن حوار دار في هذا المؤلف نقتطف الآتي مترجماً بتصرف:
«لماذا عليّ أن أصدقك؟ ألم يحدث أن كنت تحدق في عيني مباشرة عندما كنت تقول أموراً ثبت فيما بعد أنها كذب منمق؟
ربما حدث ذلك. عندها كان الكذب ضرورياً. أما الآن فليس ثمة ضرورة لذلك.
لقد أثبت أن كلماتك لا تساوي شيئاً. فعلى أي أساس أصدقك؟
عليك أن ترغب في التصديق (قال مبتسماً)، وهذا هو الأساس.
كما هو الحال مع المال الجديد (قلت ملاحظاً)، فهو يعمل فقط ما دمنا نصدق أنه يعمل.
نعم، لقد تغير العالم. فإما أن تتغير معه لتزدهر، وإما أن تظل تهدد السماء بقبضتيك. إنني أفضل الخيار الأول. فما أنت فاعل؟
أجل، سوق المال بالتحديد ليس موضوع معرفة، بل موضوع ثقة. فقيمة أي سهم ليست أكثر من مؤشر على الثقة في الشركة المصدرة له، أي على الأقل الثقة في السوق الذي تحتل فيه الشركة مكاناً ليس أخيراً.
ارتفاع سعر السهم يعكس ارتفاع الثقة، وبالعكس، يأتي انخفاضه نتيجة انعدامها. وللمفارقة، فقد يشكل الانخفاض ذاته منقذاً، حيث تستطيع اليوم أن تبيع ما لن تحصل مقابله على قرش واحد غداً. هذا كل ما في الأمر. وإذا كان الاقتصاد الزراعي (الطبيعي) يعبر عنه مباشرة بقيمة محاصيل ملموسة والاقتصاد التجاري (المركنتلزم) بقيمة سلع منتجة وملموسة، فإن الاقتصاد المالي السائد والسيد في الاقتصاد العالمي اليوم يعبر عنه بقيمة تستند إلى أساس معنوي أكثر مما هو مادي.
لقد شكل انهيار «ليهمان براذرز» (Lehman Brothers) رابع أكبر مصرف في أميركا يتحكم في أصول تزيد قيمتها على 600 مليار دولار، والذي أدى إلى انهيار بورصات المال العالمية، مؤشراً أساسياً على ضعف الاقتصاد الأميركي. هذا ما ردده كثير من علماء الاقتصاد الأميركيين وغيرهم الأسبوع الماضي. ولم تجد نفعاً محاولات ضخ المصارف المركزية الغربية مليارات الدولارات في الأسواق. كما أن كل المحاولات التي أبدتها وزارة المالية ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركيين من أجل إنقاذ «Lehman Bros» باءت بالفشل.
وكل الذين كانوا ينوون شراء هذا المصرف، كمصرفي التنمية الكوري الجنوبي وباركليز البريطاني، أحجموا عن صفقة كهذه بعد أن درسوا تفاصيل وضعه. اعتبروها صفقة مغامرة، وأن ضمانات الحكومة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركيين غير كافية. هذه المرة بدا عالمنا الخليجي يتهيأ بجدية أكبر «لتأثير دومينو الأزمة المصرفية الأميركية عليه». مع كل أزمة في السابق كنا نسمع أن اقتصادنا مستقر وبعيد عن تأثيرات الأزمة الأميركية أو العالمية إلى أن تدهمنا الأزمة. ورغم أن مثل هذا السلوك لايزال منسحباً حتى الأزمة الحالية، إلا أننا أصبحنا أكثر تواضعاً وواقعية هذه المرة.
في الأسبوع الماضي تم الاعتراف صراحة بأن تراجع الأسواق السعودية بنسبة 5,6% جاء على إثر إعلان إفلاس مصرف «ليمان براذرز» والكشف عن اتجاه مصرف أميركا لشراء مصرف «ميريل لينش» المتعثر بخمسين مليار دولار، وذلك ما يعادل ثلاثة أرباع قيمته العام 2007 أو نصفها العام .2006 ثم تلت ذلك اعترافات أخرى في بقية بلدان الخليج.
وفي البحرين أقدم ولي عهد مملكة البحرين في اجتماع مجلس التنمية الاقتصادية الأخير على خطوة مطلوبة بالفعل حين أمر بتشكيل لجنة مصغرة لدراسة أثر أزمة الاقتصاد العالمي.
خطوة تستحق عالي التقدير، لكنها تحفز للمضي بالتفكير إلى أعمق من ذلك. أولاً، إن لجنة مصغرة على النحو الذي جاء في الخبر، سواء من حيث العدد أو التخصص، هي أصغر بكثير من حجم المهمة الكبيرة التي أسندت إليها. ثانياً، إن حصر المهمة بالتأثيرات الخارجية كالأزمة المصرفية الأميركية العالمية وانخفاض أسعار النفط وحمى المضاربات هو الآخر أصغر من حجم الأزمة المحدقة نذرها بأسواق المال والاقتصادات الخليجية.
إن أسباباً بنيوية داخلية قد تجعل أثر الأزمة العالمية أكبر بكثير من أثرها في بلاد المنشأ. وبرأينا فإنها تستحق الاهتمام الأكبر في التشخيص على طريق محاولة جدية للحد من أثر الدومينو.
ولنضرب مثلاً بتساؤل يطرحه الاقتصاديون الروس على أنفسهم هذه الأيام: إذا كان الغرب يعمل ضدنا، بينما تدعمنا قدراتنا العظيمة فلماذا تنهار أسواقنا بنسبة 50%، بينما في الغرب بنسبة 30%؟ بعبارة أخرى: كيف نخرج باقتصادنا من حالة الوهم وندخله حالة الاقتصاد الفعلي التي تكسبه ديناميته الذاتية؟ وقديماً قالوا إن صياغة السؤال بنحو صحيح يعطينا نصف الإجابة.

صحيفة الوقت
22 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

ما تقوله التقارير

من النادر أن تقدم وزارات الدولة وأجهزتها تقارير تتضمن بيانات تفصيلية عن أدائها وخططها المستقبلية وآفاق هذه الخطط والنتائج المتوخاة منها خلال أمدٍ‮ ‬من الزمن‮.‬ وأكثر ما‮ ‬ينطبق ذلك على الوزارات المعنية بالشأن الاقتصادي‮ ‬والاستثماري،‮ ‬وبانجاز البنى التحتية وتطويرها بما‮ ‬يتلاءم وآفاق هذه الخطط والحاجات المتزايدة للمواطنين في‮ ‬خدمات أفضل،‮ ‬في‮ ‬مجالات الصحة والتعليم والسكن،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن تطوير الشوارع وتوسيعها والنهوض بأوضاع المناطق السكنية،‮ ‬خاصة تلك التي‮ ‬تعاني‮ ‬أكثر من سواها من الفقر والحاجة‮.‬ ليس‮ ‬غريباً‮ ‬بعد ذلك أن‮ ‬يسود نمط من التقارير والدراسات التي‮ ‬تقدمها هيئات بحثية ومراكز أجنبية،‮ ‬تقع في‮ ‬الغالب في‮ ‬واحدٍ‮ ‬من تطرفين،‮ ‬إما تقديم صورة زاهية ودعائية تغفل،‮ ‬متعمدةً،‮ ‬عن المشكلات والمعوقات الحقيقية التي‮ ‬نعاني‮ ‬منها،‮ ‬وكثيراً‮ ‬ما تقوم جهات حكومية بتمويل هذا النوع من التقارير،‮ ‬بصورة من الصور،‮ ‬ظناً‮ ‬منها أن هذه إحدى وسائل ترويجها وتسويقها‮.‬ فيما‮ ‬ينحو نوع آخر من هذه التقارير،‮ ‬في‮ ‬ظل‮ ‬غياب المعلومات الموثقة التي‮ ‬تقدمها الدولة إلى رسم صورة لا تخلو من الإجحاف عن مؤشرات التطور في‮ ‬البلد،‮ ‬خاصة في‮ ‬ظل المنافسة الحامية في‮ ‬المحيط الإقليمي‮ ‬على استقطاب الاستثمارات والمؤسسات المالية والمصرفية‮. ‬ مؤخراً‮ ‬أصدر مركز البحرين للدراسات والبحوث تقريره الاقتصادي،‮ ‬الذي‮ ‬إذ توقف مطولاً‮ ‬عند الايجابيات،‮ ‬الا أنه سلط ضوءاً‮ ‬كافياً‮ ‬على ما تعاني‮ ‬منه البحرين من صعوبات على الصعيد الاقتصادي،‮ ‬منبهاً‮ ‬من مخاطرها وتداعياتها السلبية إن لم‮ ‬يُصر إلى حلها مُبكراً‮.‬ ولعل هذا التقرير‮ ‬يُعد من الحالات النادرة التي‮ ‬تجري‮ ‬فيها مقاربة قضايانا بعينٍ‮ ‬فاحصة،‮ ‬بدل الإغراق في‮ ‬تزيين الأمور،‮ ‬وإغفال المشاكل،‮ ‬فالتقرير‮ ‬يتوقف أمام زيادة عدد السكان الذي‮ ‬تجاوز المليون نسمة،‮ ‬مُحذراً‮ ‬من تبعات ذلك على مستقبل ومستوى برامج التنمية،‮ ‬وما‮ ‬يشكله من ضغطٍ‮ ‬على الخدمات،‮ ‬خاصة الحيوية منها كالصحة والتعليم،‮ ‬التي‮ ‬ستتطلب بالضرورة إنفاقا حكومياً‮ ‬أكبر،‮ ‬ولسنا نعلم مدى استيعاب الأجهزة المعنية في‮ ‬الدولة لمثل هذه الحقيقة،‮ ‬ومدى استعدادها لمواجهتها في‮ ‬غياب المعلومات الوافية كما أسلفنا‮. ‬ في‮ ‬ظل البيانات التي‮ ‬تسوقها الحكومة عن تناقص معدلات البطالة،‮ ‬يقدم تقرير المركز معطيات متشائمة حول الموضوع،‮ ‬حين‮ ‬يُحذر من أن هذه البطالة سوف تشهد ارتفاعاً‮ ‬من ‮٥١‬٪‮ ‬إلى ما‮ ‬يزيد عن ‮٣٣‬٪‮ ‬بين السكان المحليين،‮ ‬ما لم تحقق إصلاحات سوق العمل أهدافها،‮ ‬في‮ ‬حين لا تملك البحرين القدرة الكافية على استيعاب العاطلين في‮ ‬القطاع الحكومي،‮ ‬على نحو ما تفعل دول الخليج الأخرى‮.‬ يُحذر التقرير أيضاً‮ ‬من أن البحرين ستُواجه أزمةً‮ ‬حادةً‮ ‬على صعيد الإسكان في‮ ‬الأعوام القادمة‮ »٠١٠٢ – ٠٢٠٢«‬،‮ ‬إذا لم تُسرع في‮ ‬بناء الوحدات الإسكانية،‮ ‬لأن نصف عدد سكان البحرين حالياً‮ ‬تقل أعمارهم عن ‮٥١ ‬سنة‮. ‬ مؤشرات مثل هذه لا‮ ‬يجوز الوقوف إزاءها باستخفاف ولا مبالاة،‮ ‬بل‮ ‬يجب التبصر فيها بمسؤولية،‮ ‬خاصة وان التقرير‮ ‬يتحدث عن ايجابيات عديدة،‮ ‬بينها ما‮ ‬يصفه بالبنية التحتية والقانونية المتطورة تلبي‮ ‬حاجة المستثمر المحلي‮ ‬والدولي،‮ ‬تجعل من الممكن تفادي‮ ‬مخاطر ما‮ ‬يُحذر منه التقرير عبر تدابير مدروسة وفعالة‮.‬
 
صحيفة الايام
22 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

مسارات السياسات المذهبية (2)

مع تحول المركز المهيمن على الخريطة العربية بين شبه الجزيرة العربية وإيران عادت الأشكالُ المذهبية المحافظة إلى السيطرة على الأشكال السياسية التي انفلتت في فترة طويلة من هذه الهيمنة، وغذت تطورات تحديثية كبيرة. لقد كان مركز التطور العربي دائماً في المشرق، بين العراق وسوريا ومصر، وأدت السياساتُ النفطية إلى انضمام الجزيرة العربية وإيران إلى هذا المركز. إن تعقيدات الصراعات المذهبية والتيارات العصرية كبيرة والكثير منه متوار فليس هو سوى صراع مذهبي، وأن تلبسَ لباسَ تلك التيارات الحديثة التي لم يتمْ استيعابها حتى في بلدانها المصدرة كروسيا.
فبماذا نفسر الصراع في الحركات القومية التي نشأت بعد الانقلابات في مصر والعراق وسوريا؟ لقد قيل انها صراعات بين نظام جمال عبدالناصر وعبدالكريم قاسم ثم البعث بعد ذلك وأن خلافها كان قوميا؟ لكن الصراع بين نظام عبدالناصر وعبدالكريم قاسم اتخذ له طابع الصراع بين السنة والشيعة المتواري. لقد أكد نظامُ عبدالناصر ريادة المذاهب السنية التحديثية وانتشارها القومي التحرري العربي الواسع، وكانت هناك منطقتان إسلاميتان كبريان مختلفتان معه، هما المنطقة الشيعية والمنطقة الوهابية، وكلتاهما تقوم معارضتهما على دواعٍ مختلفة، فكانت منطقة عبدالكريم أقرب لليسار والعامة، والمنطقة الوهابية أقرب للارستقراطية، لكن منطقة قاسم تعبرُ عن رفدٍ شيعي واسع للحزب الشيوعي العراقي الذي كان يضم جمهوراً كبيراً منه والداعم لنظام قاسم، وهكذا أخفى الصراع الذي دار بين قيادتين شموليتين فرديتين، قيادة عبدالناصر وقاسم، صراعاً بين يمين الفئات الوسطى في مصر ويسارها في العراق، وفي الأعماق كان ثمة صراع بين التوجه السني الحاكم في مصر والتوجه الشيعي المتواري في العراق. مثلما كشف ذلك أيضاً عن الصراع بين أمريكا وروسيا أيضاً. إن الرافدين الشيعي والشيوعي عبرا عن هواجس مذهبية ضد تنامي حركة القومية العربية وقتذاك، ذات الأغلبية السنية الكاسحة، وبين هذا محدودية الأفكار السياسية والفقهية في كلا الجانبين، فهناك قصورٌ في فهم الفكرين التقدمي والإسلامي معاً. ودفع الطرفان ثمناً باهظاً في ذلك أثر في مسارهما التالي. إنها عدة مستويات من الصراع. وهي تعبرُ عن محدوديةِ وعي القوى السياسية العربية وقتذاك، وكون القيادات العسكرية الفردية التي صعدتْ بسرعة شديدة وتهاوت بسرعة كذلك، لم تقمْ على قواعد شعبية قوية، وتنظيمات جماهيرية ديمقراطية، أو على معرفة دقيقة بالعصر والإسلام. إن الضباط الأحرار والحركات الشيوعية ورجال الدين المسلمين الذين أيدوا الأنظمة العسكرية، في هذا الطرف أو ذاك، اعتمدوا على فتاتٍ فكري مستورد أو محافظ لم يُصنع في الأرض العربية العلمية. بعد سقوط نظام عبدالكريم قاسم وصعود البعث وبقاء النظام الناصري متجدداً باتجاه اليسار، أكدتْ الاتجاهاتُ السنيةُ سيطرتها على خريطة المشرق السياسية، وكانت اللحظة اقصى ما بلغته تلك الاتجاهات من تطور. فقد عبرتْ عن لحظةٍ تحديثية كبيرة للأمة، فالعلاقاتُ بين الرجال المسيطرين والنساء حدث فيها تقدم مهم، لكن ليس جذرياً، فقوانين الزواج والإرث وغيرها تلحلحتْ قليلاً، لكن لم تصل إلى درجة تجسيد المساواة القانونية. كذلك فإن العلاقات بين الحكومات والشعوب طرأ عليها تقدم، فالجمهور صار على المسرح مؤثراً، وراحت الحكوماتُ تدخلهُ في تنظيماتها السياسية، ولكن كان عليه أن يكون تابعاً لها، وظلت قوانين الطوارئ تحكم، وحريات النشر والتجمع بيد السلطات. ومن جانب المذاهب السنية الحاكمة فقد تمت تنحيتها، فلم تلعب دوراً مؤثراً في صياغة الحياة السياسية أو في المشاركة المؤثرة فيها، نظرا إلى كون الحركات التحديثية – التقليدية هذه جاءت عبر انقلابات فوقية كما قلنا فقدرتها على صياغة نظرية تحولية عربية – عالمية، محدودة جدا، وهي تعيش على الأوامر والسيطرة الفوقية، ولهذا كانت استعانتها بالمفكرين الإسلاميين استعانة وظيفية (برجماتية)، فنذكر هنا كيف جعل محمد عمارة الإسلامَ اشتراكياً، وكان ذلك توظيفاً سياسياً حكومياً أكثر منه قراءة عميقة للإسلام، أي أن هذا المفكر لم يطرح العلمانية والديمقراطية كمسار ضروري لتطور الثورة، وعدم طرحه ذلك ينقض دكتاتورية الحكم والحركات المذهبية معاً التي لا تقدر على فهم هذا المركب.
 
صحيفة اخبار الخليج
21 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

أوكرانيا على مفترق الطرق


تكملة لمشهد الصراع القوقازي المستفحل وتداعياته ضمن خريطة النفوذ والهيمنة من قِبَل الأقوياء في الشرق والغرب ، المتركز في هذه المنطقة الحيوية الإستراتيجية ، الواقعة على مفترق طرق مدّ المشاريع العملاقة لخطوط أنابيب النفط والغاز القادمة من حقول نفط بحر قزوين والمتجهة للدول الأوروبية لتصب في ماكينتها الإنتاجية والصناعية. وتأثير هذا الصراع الجاري وتداعياته المستقبلية على مجموعة من الدول الكبيرة والصغيرة في هذا المحيط الجغرافي الفاصل بين آسيا وأوروبا ، بجانب التأثيرات المباشرة على روسيا الاتحادية نفسها( بما فيها الجمهوريات والأقاليم العديدة وجمهوريات الحكم الذاتي القوقازية ) كون هذا النزاع يشكل جوهر هجوم منهجيّ غربي / أمريكي لتفتيت القوة القارية لروسيا (يوروآسيا) ، بُغية اختراقها من مجالها الحيوي والتمكن منها في مقتل . بجانب التأثير المباشر على مجموعة من دول حوض بحر الأسود المهمة كأوكرانيا وتركيا ودول القوقاز الثلاث ( جيورجيا / أرمينيا / آذربايجان )  بالإضافة إلى الدولتين الجديدتين المنبثقتين توا على خارطة العالم ؛ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ,, لكل هذه الأسباب  سيكون مفيدا – بالطبع- تسليط ضوء سريع على أهم تلك الدول التي ستعنيها قبل غيرها التطورات المرتقبة ونعني بها ؛ أوكرانيا .
 
شكلت أوكرانيا على الدوام العمود الفقري لقوة روسيا وسلة الغذاء في العهد السوفيتي . بل أن انبثاق الدولة الروسية تاريخيا سميت “روسيا كييف” ، نسبة إلى الحاضرة الأوكرانية “كييف” . ويعتقد بعض الخبراء أن روسيا نفسها تعتبر دولة عظمى مع أوكرانيا وبلد عادي بدونها. من هنا يجب أن ندرك أهمية أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة لروسيا ولأوروبا، عدا كونها دولة صناعية/زراعية/نووية، بالرغم من مشاكلها وصراعاتها المتسمة بالمفارقة .. تعاني أوكرانيا من مشكلة ديموغرافية في المقام الأول بجانب مشاكلها الاقتصادية والسياسية ، متجسدا في النقص في موارد الطاقة لديها ، حيث تعتمد على النفط والغاز الروسي في الوقت الذي يحاول فيه سياسيوها المتنفذون الحاليون معاندة روسيا والارتماء في الحضن الغربي/ الأمريكي ، محاولين الانضمام للاتحاد الأوروبي والناتو ! لذلك فان التأثير الكبير الذي نشاهد الآن مقدماته تتفاعل في الساحة السياسية الأوكرانية بعد الإحداث القوقازية الأخيرة سيكون مدويا،  بشكل يكون فيه من الصعوبة بمكان التنبؤ بما ستتمخض عنها التطورات اللاحقة في ميزان القوى العالمي وتأثيرها على الوضع الأوكراني الداخلي الهش.. حيث  يتمركز الأوكرانيون / القوميون المتشددون، المعادون للروس في غرب أوكرانيا (حاضرتهم  مدينة  لفوف)  أما الشرق الأوكراني المعروف بالأقاليم فان جُلّ سكانها يتكون من نتيجة التزاوج المختلط بين الروس والأوكرانيين على مدى التاريخ المديد والمشترك للشعبين . هذا إن لم نحسب وضع شبه جزيرة القرم الإشكاليّ، التي أصبحت جزءا من أوكرانيا في الأمس القريب أبان عهد خروتشوف ، حيث يعيش فيها أغلبية روسية ساحقة! ومن هنا من الممكن أن ندرك الخطورة المستقبلية على وحدة الأراضي الأوكرانية إن تمادت في سياستها غير المتوازنة بين الشرق الروسي والغرب الأمريكي !
 
 
لعل الخلاف الحالي الذي طفح على السطح في البرلمان الأوكراني ، على أثر حسم الصراع العسكري في حرب القوقاز الأخيرة .. المتمثل في انهيار تحالف القوى السياسية الاوكرانية المساندة للغرب وانفتاح الباب واسعا على احتمالات عديدة لا يمكن التنبؤ بها.
تتصارع الآن أربع قوى سياسية ممثلة في البرلمان وهي ؛  كتلة أحزاب الأقاليم الذي يرأسها ” يانو كوفتش” ، المؤيد للتعاون مع الروس ( له قوة أكثر قليلا من الثلث) . ثم  كتلة سيدة أوكرانيا الحديدية “توموشنكو” التي تستحوذ على اقل قليل من الثلث . ثم كتلة حزب رئيس الجمهورية “يوتشينكو” والمتحالفين معه (بلادنا أوكراني/الدفاع الذاتي) بقوة تقترب من 15%.    وأخيرا الحزب الشيوعي الأوكراني  6 %   ..  بجانب قوى سياسية اقل شأنا أهمها كتلة  ”ليتفين” ( رئيس البرلمان السابق/ في حدود 3%)  والحزب الاشتراكي (في حدود 2%)
 
على الرغم أن أوكرانيا عقدت جولتين من الانتخابات البرلمانية منذ “الثورة البرتقالية” في سنة 2004 ، إلا أنها لم تعرف الاستقرار بعد . في هذا السياق يرى بعض المحللين أنه ما لم يتم إدخال تعديلات على القوانين الانتخابية فان الخلافات السياسية المتأتية من الطموحات الشخصية لن تتغير بل سيستمر التوتر لفترات أطول. يتكون البرلمان الأوكراني من 450 نائبا، تكون الائتلاف الحاكم السابق المنهار من 227 نائبا ، قادما من تكتل يوتشينكو وحزب الدفاع الذاتي لشعبنا الاوكرانى مع كتلة تقوده السياسية الصاعدة والطموحة لرئاسة الجمهورية ” ايوليا  تيموشينكو” ، التي سبق أن تولت رئاسة الحكومة بين فبراير/شباط وسبتمبر/أيلول 2005 قبل أن يقيلها يوتشينكو، على خلفية خلافات شخصية وصراع على السلطة في صفوف الفريق المنبثق عن الثورة البرتقالية.
 
 
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في عام 2010  ، التي سيتنافس فيها الخصمان اللدودان والشريكان السابقان رئيس الجمهورية ورئيسة الوزراء، فان صراع السلطة وصل إلى نقطة الغليان. ولا يوجد مخرج  إلا  بثلاثة احتمالات ..  الأول هو إمكانية تخطي أعضاء الائتلاف الحاكم خلافاتهم عن طريق التشاور لإعادة تأسيس الائتلاف السابق. ولكن يعتقد محللون سياسيون إن تبادل الاتهامات الشرس الذي حدث مؤخرا اضعف الأمل في تحقيق هذا الحل. وهناك حل ثان ، هو تشكيل ائتلاف حاكم جديد  يلعب تكتل تيموشينكو وحزب المناطق/الأقاليم  دورا مهيمنا في الائتلاف الجديد.أما الحل الثالث فهو قيام يوتشينكو بحل البرلمان والدعوة لعقد انتخابات جديدة، كما هدد بالفعل. ومن الجدير بالذكر،  وفقا للقانون الأوكراني ، يجب على البرلمان تشكيل ائتلاف جديد خلال 30 يومأ من حل الائتلاف السابق وإلا فان الرئيس يمكنه حل البرلمان. 
  
 تبدو الحياة السياسة في أوكرانيا وكأنها تقف أمام خيارات صعبة ومعقدة، يصعب فيه قوى الائتلاف السابق  زيادة عدد مقاعده في ظل انشقاق داخلي ورغبة عدد من نوابه الانسحاب منه، كما أن إعلان الحزب الشيوعي رفضه المشاركة في أي ائتلاف مع حزب الأقاليم يعقّد أيضا بشكل كبير مساعي الأخير نحو تشكيل ائتلاف. أما فيما يتعلق بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة فإنه لن يحل المشكلة بل سيؤجلها، وخاصة أن الشعب قد سئم الانتخابات و غالبيته لا ترى فيها إلا عودة للوراء، وشككت بأن تسفر نتائجها عن تغيير حقيقي في خريطة البلاد السياسية، معتبرة أن هذه حقيقة يعلمها الجميع وتعلمها القوى والأحزاب جميعها، ما لم يتفق العقلاء على إستراتيجية جديدة تغير التوجهات الحالية لاوكرانيا.
 
 

اقرأ المزيد

جواد وهشام

عُدت مساء أمس الأول اثنين من عناصرنا الوطنية في‮ ‬مستشفى السلمانية،‮ ‬هما جواد العكري‮ ‬والمهندس هشام الشهابي‮. ‬كان الدكتور عباس هلال قد هاتفني‮ ‬قبل ليلة ليخبرني‮ ‬بأن الرجلين‮ ‬ينامان هناك‮.‬ وقادنا الحديث مع الدكتور عباس،‮ ‬للتأمل في‮ ‬سيرة هذين الرجلين اللذين‮ ‬يحملان على كتفيهما تاريخاً‮ ‬وطنياً‮ ‬مشرفاً‮ ‬من النضال والتضحية،‮ ‬رغم أنهما ليسا،‮ ‬في‮ ‬اللحظة الراهنة،‮ ‬من نشطاء جمعيات التيار الديمقراطي،‮ ‬لكنهما بقلبيهما وانحيازاتهما الوطنية والتقدمية العميقة معنا بكل جوارحهما،‮ ‬بل أنهما في‮ ‬قلب اهتمامات هذا التيار،‮ ‬ومن دُعاة وحدته‮.‬ جواد العكري‮ ‬هو واحد من ابرز النشطاء الطلابيين في‮ ‬مطالع السبعينات الماضية،‮ ‬واضطلع،‮ ‬فترة دراسته في‮ ‬سوريا،‮ ‬بدورٍ‮ ‬مُهمٍ‮ ‬في‮ ‬تأسيس الاتحاد الوطني‮ ‬لطلبة البحرين،‮ ‬مذ كان عضواً‮ ‬في‮ ‬اللجنة التحضيرية التي‮ ‬تشكلت لتأسيس الاتحاد،‮ ‬الذي‮ ‬أُنتخب عضواً‮ ‬في‮ ‬مؤتمره التأسيسي،‮ ‬ومن ثم أُختير عضواً‮ ‬في‮ ‬أول لجنة تنفيذية للاتحاد ومسؤولاً‮ ‬عن الثقافة والإعلام فيها‮.‬ كما أن جواد كان من بين ضحايا قانون أمن الدولة،‮ ‬ومن بين الذين قضوا أطول المدد في‮ ‬المعتقل بموجب أحكام هذا القانون الجائر،‮ ‬حيث مكث فيه أكثر من سبع سنوات متواصلة منذ اعتقاله،‮ ‬مع العشرات من مناضلي‮ ‬الحركة الوطنية والديمقراطية،‮ ‬في‮ ‬أغسطس ‮٥٧٩١.‬ أما هشام الشهابي،‮ ‬الذي‮ ‬عاد من بريطانيا في‮ ‬أواخر الستينات‮ ‬يحمل شهادة في‮ ‬الهندسة،‮ ‬فقد أصبح من مؤسسي‮ ‬وقادة اللجنة التأسيسية للاتحاد العام للعمال والموظفين وأصحاب المهن الحرة التي‮ ‬كانت ائتلافاً‮ ‬عمالياً‮ ‬ووطنياً‮ ‬ناجحاً،‮ ‬وبرز اسمه كدينامو في‮ ‬التحرك الذي‮ ‬سبق انتخابات المجلس التأسيسي‮ ‬عام ‮٢٧٩١‬،‮ ‬في‮ ‬إطار التجمع الذي‮ ‬عرف في‮ ‬حينه باسم الكتلة الشهابية نسبة إلى لقبه،التي‮ ‬كانت تتحاور في‮ ‬طريقة التعاطي‮ ‬مع خطوات الدولة‮ ‬يومها،‮ ‬قبل أن تقرر كل من جبهة التحرير الوطني‮ ‬البحرانية والجبهة الشعبية مقاطعة انتخابات المجلس التأسيسي،‮ ‬وهو قرار خضع للمراجعة النقدية فيما بعد‮. ‬ هؤلاء الرجلان،‮ ‬جواد وهشام،‮ ‬واللذان نتمنى لهما الشفاء العاجل،‮ ‬يُشكلان نموذجاً‮ ‬للعشرات،‮ ‬لا بل المئات،‮ ‬من مُناضلي‮ ‬حركتنا الوطنية والديمقراطية الذين قدموا أجلّ‮ ‬التضحيات من أجل رُفعة مكانة هذه الحركة،‮ ‬مُقدمين المثل الرائع في‮ ‬التواضع ونكران الذات،‮ ‬وهي‮ ‬السمات التي‮ ‬جُبل عليها مناضلونا في‮ ‬التيار الديمقراطي‮ ‬الذين جمعتهم السجون والمعتقلات والمنافي،‮ ‬وهما بهذا السلوك السوي‮ ‬المُشرف‮ ‬يقدمان الصورة المُشرقة لمناضلينا أمام حالات النرجسية المَرضية التي‮ ‬يزيدها الوقت تضخماً،‮ ‬والاستعراض الأجوف الذي‮ ‬أوصل هذا البعض إلى حالٍ‮ ‬لا‮ ‬يستدعي‮ ‬أكثر من الشفقة‮.
 
صحيفة الايام
21 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

الصراع ولعبة الكراسي‮ ‬الموسيقية

يتحرك الشارع الباكستاني‮ ‬بين حالتين وظاهرتين واضحتين،‮ ‬إما انه‮ ‬غاضب ومحتج وصدامي،‮ ‬أو انه‮ ‬يرقص فرحا بانتصار حققه في‮ ‬تلك الساعات القليلة،‮ ‬وكأنه اعتاد الفرح القصير للغاية بتوزيعه قطع الحلوى والتحاضن المتتالي‮ ‬بين الأصدقاء والأنصار المنتصرين،‮ ‬لتلك الشهور المفعمة بالدم والعنف والهتافات المنددة‮. ‬فها هي‮ ‬تواصل قوى المعارضة في‮ ‬اجتماعات ماراثونية ولساعات طويلة وأيام حول تقاسم السلطة وآلية إدارة البلاد مستقبلا ومحاسبة الرئيس حاليا‮. ‬وكيف ستتم الأمور الأخرى بين حلفاء الأمس،‮ ‬حزب الشعب والرابطة الإسلامية،‮ ‬فبعد مسألة‮ »‬الخلافة والاختلاف‮« ‬حول الكرسي‮ ‬الذهبي‮ ‬لبلد‮ ‬يختزن زلازل سياسية ومراكز التفجيرات العالية بمعدل ريختر سياسي‮ ‬عالي‮ ‬يتعدى الوضع الاستثنائي‮ ‬في‮ ‬أي‮ ‬بلد آسيوي،‮ ‬فباكستان إلى جانب كونها مصابة بعلة مزمنة بالأزمات،‮ ‬هناك بلد حدودي‮ ‬مجاور‮ ‬يتبادل معه هذه العدوى بشكل منتظم،‮ ‬وكأنما حدود أفغانستان وباكستان هو البارود المشتعل بضمانات‮ ‬غير واضحة من القبائل والتيارات الإسلامية المختلفة،‮ ‬من المعتدلين حتى أقصى التيارات الدينية تطرفا والمتآخية تنظيميا وسياسيا مع تنظيم القاعدة‮. ‬تلك البنود التي‮ ‬سيناقشها وناقشها الائتلاف المنتصر،‮ ‬إلى جانب مسائل عدة دستورية وسياسية،‮ ‬كمسألة محاكمة برويز مشرف أم إعطائه ضمانات بعدم المس‮ (‬الحصانة‮) ‬وتركه‮ ‬يرحل حيثما‮ ‬يريد ويعود متى ما‮ ‬يشاء،‮ ‬مثل تلك الحصانة قد لا تعجب كثيرا جماعة الرابطة المشحونة بماضي‮ ‬نفي‮ ‬الرئيس‮ »‬المتوقع‮« ‬نواز شريف،‮ ‬الذي‮ ‬صدمه انقلاب الجنرال ووضعه في‮ ‬السجن ثم نفاه إلى المملكة العربية السعودية‮ »‬الضامن الجديد‮« ‬لكل رؤساء باكستان المغضوب عليهم‮. ‬فيما‮ ‬يرى زرداري‮ ‬انه لا‮ ‬يميل حزبه وجماعته إلى مسألة الانتقام باعتبار أن الرئيس‮ / ‬الجنرال ليس وحده المسؤول عن المرحلة المتوترة،‮ ‬ومن الصعب وضع جميع المتورطين فيها خلف القضبان،‮ ‬خاصة المؤسسة الأمنية والعسكرية،‮ ‬فذيول تلك المرحلة وخيوطها العنكبوتية لا تنتهي‮ ‬بعصا وقبعة الرئيس العسكري،‮ ‬وإنما بمؤسسات باتت فاسدة ومتجذرة،‮ ‬تبتلع ثروة وخزانة البلاد تحت حجة حاجة تلك المؤسستين‮ (‬الجيش والأمن‮ ) ‬إلى المزيد من العتاد والرجال لمواجهة الإرهاب وبلد نووي‮ ‬كبير كالهند‮. ‬بالإضافة إلى ضغط أطراف خارجية صديقة تطالب بمنح مشرف حصانة سياسية،‮ ‬لكونه من أكثر رؤساء باكستان الذين وقفوا مع الولايات المتحدة في‮ ‬محاربة الإرهاب‮. ‬ولا‮ ‬يمكن لأي‮ ‬حكومة جديدة قادمة الاستغناء عن تلك الدول نفسها والتي‮ ‬ستقف معها في‮ ‬مواصلة حربها على الإرهاب‮. ‬ما‮ ‬يطلبه الحلفاء مسائل ضرورية،‮ ‬من أهمها احترام الشرعية الديمقراطية والدستورية كخيار اختاره الشعب الباكستاني،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت ذاته أن تضرب تلك الحكومة بقوة عنق الإرهاب المستشري‮ ‬داخل باكستان‮. ‬أما المسألة الأهم هو مكافحة الفساد لانسياب وضمان الاستثمارات والدعم الاقتصادي‮ ‬لبلد معرض للانهيار إذا ما تواصل على نفس النهج‮. ‬وبقدر ما تقلق باكستان الخلافات الحدودية تقلق المجتمع الدولي‮ ‬انفلات المسألة النووية عن السيطرة،‮ ‬بتعرضها للتسرب ليد الجماعات الإرهابية أو توظيفها في‮ ‬حرب إقليمية وان كان بشكل محدود‮. ‬وتبقى عملية اقتسام كعكة الحكم بين قوى الائتلاف قضية داخلية،‮ ‬بين قطبي‮ ‬قوتين ظلتا شرهتين للسلطة طوال عقود،‮ ‬ولدى كل طرف فيهما رؤية مختلفة في‮ ‬إدارة البلاد،‮ ‬بينما‮ ‬يلتقي‮ ‬الطرفان بل والنخب والشارع السياسي‮ ‬على ضرورة احترام كل المتحاورين حول إدارة البلاد دستوريا وتعهد الرئيس الجديد على احترام الديمقراطية الدستورية وهو مبدأ ثابت‮ ‬يهم الجميع‮. ‬وعلى ضوء تلك الركيزة السياسية لابد من خلق ضمانات لا تتكرر فيها الانقلابات وتدخل الجيش في‮ ‬الأزمات السياسية‮. ‬وعلى هذا الأساس صار من المهم تقليص صلاحيات الرئيس دستوريا،‮ ‬وستكون النقطة الأكثر خلافية إلى‮ – ‬جانب كيفية تقاسم السلطة‮ – ‬رؤية كل طرف مسألة كيفية معالجة مطاردة العناصر الإرهابية وطالبان الباكستانية في‮ ‬الحدود المتشعبة بين باكستان وأفغانستان،‮ ‬ومدى التفاهم الممكن مع قبائل متعددة لا تخلو مواقفها المتشددة في‮ ‬تأييد تنظيم القاعدة‮. ‬من تعانقوا اليوم برحيل مشرف هم أنفسهم من سيتصارعون‮ ‬غدا،‮ ‬حول ملفات كثيرة معقدة أشبه بالبراميل المتفجرة،‮ ‬إذ لا‮ ‬يمكن استئصال الإرهاب والتيارات الدينية المتشددة من باكستان بخاتم سحري،‮ ‬أو بتغيير عسكري‮ ‬عاجز برئيس مدني‮ ‬متحمس للديمقراطية الباكستانية،‮ ‬التي‮ ‬ستواجه عدوا شرسا اسمه الفقر والعصبيات المتنوعة والفساد والتخلف‮. ‬ترى هل ستغيب عن ذاكرة المنتصرين ملف بنازير بوتو الغامض أو تفضيل المحاسبة بالتكتم؟‮!‬
 
صحيفة الايام
21 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

جــــــــُـــرْحٌ يـُـــضــِــــــيء


  الشاعر عبدالصمد الليث يكتب قصيدة رثاء في الذكرى الثانية والعشرين لاستشهاد الرفيق المناضل  الشهيد هاشم العلوي  الذي عذب حتى الموت واستشهد  في 18 سبتمبر 1986في سجون البحرين إبان مرحلة قانون أمن الدولة المقبور.
 




  جــــــــُـــرْحٌ  يـُـــضــِــــــيء
 

يـَـبـْـنَ الحــقيقة ِو الــرِِِؤى
يـا أيـهـا الـجـرحُ المـعـتـّقُ
يالـذي…
مـن بـحـرِِك الظـمـآن ِو الـنـخـل ِالـمـعـطّـشِ…
                       صـاغ كـفّ الـقـحـط ِشِـربـكْ
يـا أنـت َِ…
         يـا زيـن َالـنـوارس ِ
          أيـهـا الـمـرصود بالسهـم / الظـلـيـمـة
لـم يـزل …
         – أبـداً سيـبـقى –
                           يسكـن الـتـغـريد ُسـربـكْ
قـتـلـوك في لـيـل الـفـجـيـعـة …
                         والــقـيـود…
                           فأوقـفـوا خـفـقـان قـلـبـكْ
حـيـن إنتميت إلى ( جـتـوب )…
                      فـصار عـشق ُالـفـجـر ِذنـبـكْ
ومضـيـت تـخـتـزن الأسى
وتـشــيـع باللـحـن الـمـنـى
وتـشـيـح عـن رَغََـد ِالأنـــا
                        فـفـديـت َبالأنـفـاس ِشـعـبـكْ
هـا قـد مـضـى …
عـامـان بـعـد قـتـامـة الـعـشريـن
والـنـجـم الـمـنـوّر فـي مـدار الـنـاس …
                  وجــه ٌيـُسـتـضـاءُ بــهِ
                  فـيـلـتـمس السراة ُالـبـيـضُ دربـكْ

يــا هـاشـم الـعـلـوي :
مـا زال الـمـعـذّبُ
– كالـذي قـد كـان –
يـنـحـت فـي جـدار الـمـال …
                             نـهـبــاً للـبـلايــا
مـا زال مـوكـبـُنـا …
                             تظللـه الـمـنـايــا
مـا زال بـيـع ُالـذات …
                            وهـبــاً للـعـطـايــا
مـا زال ظهـرُالـحـرف …
                         يــركـب كالـمـطـايــا
ويسيـر إصـرارُ الـنـخـيـل بـجـذره ِ
                             ويـديـم صـبـرُ الأرض حزبك˚

يــا هـاشـم الـعـلـوي :
هـا قـلـب ُالـوفـاء ِيـعـيـش حـبـّكْ
يــا هـاشـم الـعـلـوي
 
 
عبد الصمد الليث
18/9/2008
 

اقرأ المزيد

شيء عن اللجان


ربما يكون ضرورياً ومفيداً أن نتذكر أن هناك عشرات لجان التحقيق التي شكلت على مدى السنوات القليلة الماضية، برلمانية وغير برلمانية انبثقت عن بعضها لجان فرعية، ولجان فنية، ولجان قانونية، وربما لجان أخرى تحت مسميات عديدة، وبصرف النظر عن خلفية تشكيل كل لجنة من هذه اللجان إلا أن الهدف المعلن في كل الأحوال لم يخرج عن دائرة تبيان الحقائق والكشف عن مكامن الخلل والتجاوزات والانحرافات والانتهاكات من أي نوع سواء أكانت قانونية أو إدارية أو جنائية وفي مواقع مختلفة من مواقع العمل والمسؤولية العامة .

لماذا هو ضروري ومفيد أن نتذكر ذلك جيداً الآن؟، هل لأن خبر طعن الحكومة في قانونية لجان التحقيق التي شكلها مجلس النواب خلال العامين الماضيين تحت ذريعة خروج هذه اللجان عن مسار التحقيقات التي أنشئت من أجلها على ذمة الخبر المنشور في هذه الجريدة مؤخراً، قد فهم منه بأن الحكومة تريد انتزاع الإدارة الرقابية لمجلس النواب وهي وسيلة تفعّل مهامه الرقابية على أعمال السلطة التنفيذية رغم ما عليها أصلاً من ملاحظات ؟ أم بسبب اتهام رئيس لجنة التحقيق البرلمانية في أملاك الدولة العامة والخاصة الذي وجهه لوزارة شؤون مجلسي الشورى والنواب بعرقلة عمل اللجنة للحيلولة دون حصولها على الوثائق والبيانات المطلوبة في مخالفة لما نص عليه الدستور واللائحة الداخلية لمجلس النواب؟ أم لأن معظم لجان التحقيق جاءت على خلفية قضايا عرفت بأنها قضايا رأي عام استحوذت على اهتمام ومتابعة المجتمع البحريني بأطيافه المختلفة، وصاحبتها زفات إعلامية، وتصريحات رنانة لمسؤولين أكدوا على جاهزيتهم في التعامل بكل جدية مع القضايا المحالة إلى لجان التحقيق، وتعهدوا بطمأنة الرأي العام والتزامهم بالكشف عن نتائج ما تتوصل إليه هذه اللجان؟ أم لأن القراءة المتأنية لواقع مصير معظم لجان التحقيق أصبح في حكم المجهول، والأهم أن حصيلة أعمال هذه اللجان لا شيء في أغلب الأحوال، أو مخيب للآمال في أحسن الأحوال بعدما قيل ونشر الشيء الكثير في أمر هذه اللجان، خاصة ممن كان يعنيهم الأمر والذين تبارزوا في التغزل بالمصلحة العامة، واستظلوا بها وبشعارات مصلحة الوطن ودواعي الشفافية لتبرير تشكيل هذه اللجان، وبشرونا بأن هذه اللجان اجتمعت وبحثت ودرست ونقبت وتابعت وتقصت، ولكن لم يقولوا لنا بأن هذه اللجان فقدت بوصلتها أو أنها دخلت في سبات عميق، وأعوص احاجي هذه اللجان أنها ظهرت فجأة واختفت فجأة دون أن يسأل أحد أين ذهبت هذه اللجان والى ماذا توصلت إذا كانت قد تشكلت من الأساس؟ في مشهد يجنح إلى العبث حقا ! .


وإذا كنا نفهم بأن لجان التحقيق هي معنية بالتوصل إلى كشف الحقائق عبر جميع الإجراءات والوسائل المشروعة، فإنها على صعيد العمل النيابي أداة رقابية يمارسها مجلس النواب على أعمال السلطة التنفيذية للكشف عن كافة الملابسات أو أوجه القصور والخلل في مسألة أو قضية ذات مصلحة عامة، كما أن لجان التحقيق في العرف البرلماني قد تكون بداية لاستجواب نيابي، وبات معلوم أن حصيلة دور الانعقاد الأول لمجلس النواب – برلمان ٢٠٠٢ – كان أربع لجان تحقيق نيابية بدأت بلجنة التحقيق في الأوضاع المالية للهيئتين العامتين لصندوق التقاعد والتأمينات الاجتماعية “هيئة التأمين الاجتماعي حالياً”، ثم بلجنة التحقيق في ملف التجنيس، مروراً بلجنة التحقيق في أوضاع خليج توبلي، ثم لجنة التحقيق في أسباب إرساء مناقصة تطوير أنظمة المعلومات بالجمارك على شركة كورية، وأخيراً لجنة التحقيق في انبعاث غاز المعامير، أما الدورة الحالية للبرلمان فقد شهدت حتى الآن ولادة إحدى عشرة لجنة تحقيق، بدأت بمهرجان ربيع الثقافة مروراً بلجنة تحقيق في فشوت الدولة وملكيتها، ولجنة تحقيق في أوضاع وزارة الصحة، ولجنة للتحقق في مجريات مشروع المرسى الصناعي، ولجنة تحقيق في أملاك الدولة والدفان، وأخرى لبحث أوجه الخلل في أوضاع وشؤون الكهرباء، ولجنة تحقيق قناة مهزة البحرية، ولجنة تحقيق في أوضاع المتقاعدين، ولجنة تحقيق في ملابسات تأجير أرض الحد بالمنطقة الصناعية، ولجنة تحقيق لاتخاذ الإجراءات المناسبة للتصدي للإساءة للرسول الكريم “ص”، واللافت أن كل لجان التحقيق كانت قد اشتكت أما من إعاقات مفتعلة، أو من انعدام تعاون الجهات التنفيذية وعدم الحصول على المعلومات الكافية، رغم أن الدستور في مادته “29” ألزم الوزراء وجميع موظفي الدولة تقديم الشهادات والوثائق والبيانات التي تطلب منهم لجان التحقيق النيابية .. !


ذلك بالنسبة للجان التحقيق النيابية، أما لجان التحقيق الأخرى التي شكلها وزراء ومسؤولون كبار على خلفية قضايا كانت قد استحوذت في الغالب على اهتمام الرأي العام فإن القائمة طويلة، ونحسب أن من أهمها لجنة التحقيق في مخالفات بالبلديات، ولجنة التحقيق بملابسات سرقة القطعة الأثرية، وقبل ذلك لجنة التحقيق في بعض التجاوزات التي حدثت في إدارة المرور، ولجنة التحقيق فيما أثير بشأن تجاوزات في إدارة الأوقاف الجعفرية، ثم لجنة التحقيق فيما عرف بقضية فساد وزارة الإسكان، إلى جانب لجان تحقيق أخرى أعلنت عدة وزارات عن تشكيلها كردة فعل على كارثة غرق سفينة الدانة لمعرفة أوجه قصور أجهزتها حيال هذه الكارثة في أسوأ صورة لتقاذف المسؤوليات تجاه نموذج صارخ للإهمال، ثم لجنة التحقيق في حريق عمارة القضيبية التي راح ضحيته عدد من العمال الأجانب قبل نحو عام، ولجنة التحقيق لتقصي أسباب تراجع البحرين في مؤشر مدركات الفساد الذي أصدرته في العام الماضي منظمة الشفافية الدولية، كما أن ذاكرة المرء لا تستطيع أن تنسى لجنة التحقيق التي شكلت للنظر في التجاوزات والاختلاسات وصور التحايل المذهلة التي هزت أحد البنوك التجارية قبل سنوات طويلة، وهي القضية التي شغلت الرأي العام لفترة طويلة من الوقت، والتي لا يعرف أحد حتى الآن ليس فقط مصير لجنة التحقيق التي شكلت للنظر في وقائع هذه القضية، بل مسار القضية برمتها بعد أن زعم من زعم بأنها حولت إلى القضاء.


تلك اللجان وما أنزل الله بها من سلطان، النيابية، والتي شكلتها بعض الجهات الرسمية ولم تخرج بالحد الأدنى من الممكن والمقبول والمعقول من النتائج ولم تفتح الأبواب الموصدة أمام أي حقائق رغم ما حفلت به المباريات الخطابية التي واكبت إطلاق هذه اللجان، وبات من الواضح أن تشكيل هذه اللجان جاء بهدف احتواء ردود الفعل أو الضغوط التي فرضت نفسها بعد انكشاف بعض مكامن الخلل والقصور والانحراف والفساد .


بقي أن نقول إنه لمؤسف أشد الأسف أن هناك من لا يزال يتعامل بنوايا مبيتة ومبررات لا منطق فيها مع دوافع تشكيل لجان التحقيق، ومع مجريات عمل هذه اللجان لجعلها مسلوبة من أي دور أو صلاحية، مراهناً على أن الزمن كفيل بأن ينسينا أمر هذه اللجان وأسباب تشكيلها، وهذا اعتقاد خاطئ جملة وتفصيلاً يحّول خيبة الأمل إلى قلق.. !!


وإذا أردنا أن نتجاوز ما صار معلوما بشأن تلك اللجان، فعلينا أن ندرك أن هذا الموضوع ما هو إلا صورة لواقع ينبغي أن ينصلح، ولا يجوز انتزاع المساحة الرقابية من النواب رغم ما عليها من ملاحظات، لذلك علينا أن نقول الأهم، وهو أن لجان التحقيق الذي أهدرت على مذابح الأنانيات والمساومات والمصالح، في عملية لا يسع المواطن حيالها إلا أن يشعر بأن ثمة من يريد أن يزدري بذكائه ويستخف بعقله، هذه اللجان فتحت الباب على مصراعيه لتساؤلات مشروعة ليس من حقيقة أمر تشكيل هذه اللجان التي من حق الرأي العام البحريني أن يعرف مصيرها، وليس من مصداقية النوايا التي وقفت وراء تشكيلها، وليس حول أسباب وأد هذه اللجان قبل أن تولد أو جعلها لجاناً صورية أريد بها تمييع القضايا التي انيطت بها لتكون لجان فقاقيع لا تفرز سوى الخيبة ولا تفعل شيئاً على الإطلاق سوى مضيعة الوقت والجهد والمال، وإنما حول ما إذا يمكن والحال هذه تعليل النفس بتقويم وتصويب أوضاعنا الخاطئة إذا كانت قيمة المساءلة والمحاسبة لا قيمة لها ولم تنل حظها من الاهتمام والحضور في ساحة الأداء العام والمسؤولية العامة، متى نبقى نغض النظر أو نتساهل أو نتستر على أي انحراف أو خطأ، أو إهمال سواء بقصد أو غير قصد ؟ هذه هي القضية الحيوية والجوهرية التي ينبغي أن تحتل صدارة قائمة أولويات من يتحدثون عن الأولويات وعن المصلحة العامة حتى نمضي بشكل صحيح في الطريق الصحيح..

اقرأ المزيد

مسارات السياسات المذهبية ” 1 “

لن تستمر السياساتُ المذهبية مهيمنةً على الساحة المشرقية العربية خاصة، مع هذا الانفصال السياسي المتصاعد بين الأمتين العربية والفارسية، وتنامي الاتجاهات العلمانية الديمقرطية وفهم الشعوب للأديان.
 
 لقد حدث التداخلُ بين الأمتين العربية والفارسية في العصور الوسطى حين هيمن الوعي الديني الإسلامي، وصار التوحيدُ مظلةً لشعوب تمتدُ من الصين حتى أواسط افريقيا. فراحت الأمةُ الفارسية تبحثُ عن استقلالها، مثل بقية الشعوب والمناطق والبلدان، في داخل مظلة الوعي الديني الإسلامي. لكن كان الطريقُ طويلاً لتبلور هذا الوعي، الذي بدأ منذ الدعوة العباسية وقيادة خراسان إلى تكوين الإمبراطورية الجديدة، تحت راية أبي مسلم الخراساني والدعوة إلى الرضا من آل محمد، مروراً بالزيدية، فالإسماعيلية، ثم الإثني عشرية كتتويج لهذا المسار، حيث رفضت الأخيرةُ الأشكالَ المتطرفة من الصراع واتخذت الطابعَ السلمي التطوري المتدرج، مماثلة للمذاهب السنية المعتدلة لكن داخل إيران بصورة كبيرة وقوية.

ومَن يتخذ التدرجَ والعقلَ طريقين له في وعورة السياسة يبقى، وهكذا تلبستْ الدعوةُ القوميةُ الفارسية شكلَ المذهبِ الإثني عشري، وحينئذٍ لم يكن يظهر الفرقُ بين المذهبِ والقومية، مثلما أن المذاهبَ السنية توارتْ تحتها القوميةُ العربية والقومياتُ الأخرى في بلدان آسيا، وهو أمرٌ لن يتكشف مضمونه العميق إلا بتطورات اقتصادية واجتماعية كبيرة تضع هذه البلدان على سكة الثورة الصناعية. لكن القوميةَ العربية كانت أسرع في الخروج من أسر الإمبراطورية الدينية، التي كانت تركيةً محافظةً جامدة، في حين كانت فارس دولةً مستقلة ناهضة، لم تنكأ جروحَها سيطرةٌ دينية أجنبية وقتذاك، ومن هنا كان العربُ أقرب للعَلمانية من الفرس، ولعب تحالفُ العرب مع الغرب الاستعماري دوره في تصعيد هذا الانفكاك، الذي تجسدَ فيما بعد بحكوماتٍ نهضويةٍ عربيةٍ تابعة، خلقتْ بعضَ التطور المرحلي لكن لم تستطعْ خلقَ التحرر والديمقراطية، لتذبذبها في عمليات الإصلاح الجذرية وهي تحريرُ الفلاحين والنساء والعقل من السيطرات التقليدية. لكن الدعوات القومية العربية تأججتْ خاصة في المرحلة العسكرية، في حين ظلت إيران في حالةِ التباس بين الدين والقومية، وكانت قبضةُ رجالِ الدين على السلطة الاجتماعية قد تصاعدت خلال أربعة قرون من السيطرة شبه الكلية، ولم تكن السيطرة السياسية (الإمبراطورية الشاهنشاهية) سوى قشرة فوقية، انتهتْ مع قيام الدولة الدينية الكلية.

هيمنت حالةٌ إمبراطورية على الحياة السياسية الإيرانية الحاكمة خلال هذه العقود، وقد جعلتْ السياسةَ المذهبيةَ أداةً للحكم الشمولي الداخلي وللتغلغل الخارجي وهو أمر ترافق مع تفكك امبراطوريات أخرى (غربية وروسية).

 إن ظهورَ سياسةٍ قومية حديثة ديمقراطية في إيران بين الفرس خاصةً يعني حدوث قلاقل سياسية كبيرة داخلية، وتزعزع لسيطرة طهران على الإقاليم القومية المغايرة، ولم يفعل الوعي التحديثي الإيراني شيئاً كبيراً لردم الهوة بين الدين والحداثة، بين سيطرة المركز الفارسي وتمرد القوميات التي يتمظهرُ تمردُها عبر المذاهب السنية أو القومية العربية ( فيما يُسمى بإقليم عربستان )، فكانت الأقاليمُ الفقيرة مُلحقةً بالمركز المسيطر الذي لا يأبه بتطورها وحاجاتها، فتغدو المذاهبُ الإسلامية شكلاً لصراع اجتماعي متفاقم مع تنامي وعييها المذهبي والقومي.
 
 إن آمال القيادتين الدينية والسياسية بظهور إمبراطورية إيرانية يتجسد في تصاعد الأجهزة العسكرية وتضخم الأجهزة العليا وهي أمور تؤدي إلى تفاقم التناقضات الداخلية بين الفرس أنفسهم، وبينهم وبين الأقاليم، فلم توجد الصيغ الديمقراطية داخل المذهبية، ولم يعمل هذا الوعي التقليدي على مثل هذه العناصر، ومن هنا هذا الانفصال بين القمة الدينية والمذهبية والجمهور العريض الذي كان حدث الثورة ضد الشاه لحظة اتفاق من أجل تطوير معيشة الجماهير لا من أجل هيمنة عليا جديدة تواصل ذات السياسة الإمبراطورية. وإذا قلنا إن أساس هذا الجمهور الملتف على الحكم هو جمهورٌ ريفي متمسكٌ بقوة بعاداته فإن التغيير التحديثي يعني أزمة كبرى في تاريخ إيران الحالي.

وإذا كان الوعي المذهبي السني لم يشهد هو الآخر تطورات ديمقراطية كبيرة، واقتصرت على رواد هذه المذاهب في العصر الحديث، فإن القوى السياسية العربية الحديثة توجهت بعيداً في مضمار استيعاب الحداثة، وظهر ذلك على تطور الجماهير السنية وتقاربها مع الحداثة بصورة أكبر من بقية المذاهب، فلم تكن هناك هواجسُ التكتل الشديد ضد الحكومات، الذي يشبه (الغيتو)، ولكن كما رأينا فإن السياسات التحديثية العربية القومية وصلت إلى طريق مسدود، وكان اكتشاف النفط وتنامي الدخول في المناطق الصحراوية – والعراقية – الإيرانية، عاملاً في انقلاب المنطقة السياسي، حيث ابتعدت عن المركز المصري – السوري التحديثي، القومي، وهذا ما أدى إلى تفاقم الصراعات المذهبية وتحولها إلى هياج سياسي.

أخبار الخليج 20 سبتمبر 2008
 

اقرأ المزيد

تحذيرات التقرير الاقتصادي


التقرير الاقتصادي الذي أصدره مركز البحرين للدراسات والبحوث مؤخراً يعالج قضايا ملحة ينبغي التعامل مها برؤية مستقبلية، وخاصة أن هذا التقرير بالرغم من إشارته إلى المتغيرات الاقتصادية والمالية الايجابية التي حققتها البحرين في السنوات الأخيرة، فإنه في الوقت نفسه يحذرنا من خطورة الوضع الناتج عن زيادة عدد السكان الذي تجاوز المليون نسمة بمعنى أن هذه الزيادة المطردة حتماً ستشكل ضغطاً على برامج التنمية وان النفقات الحكومية لتأمين الخدمات سوف تزداد كل عام وعلى وجه الخصوص الخدمات الصحية والتعليمية..


ويعتقد التقرير أن من مخاطر هذه الزيادة تزايد حدة التضخم في أجهزة الدولة، ما يؤدي إلى العجز التجاري وذلك بحكم زيادة في الاستيراد ويؤدي أيضا إلى زيادة التحويلات المالية إلى الخارج.


ولم يكتف التقرير الذي تم عرضه في الصحافة المحلية بهذه التحذيرات، بل أشار إلى معدل البطالة التي تؤكد الاحتمالات إنها سوف تشهد ارتفاعاً من 15٪ إلى ما يزيد عن ٣٣٪ بين السكان المحليين، ما لم تحقق إصلاحات سوق العمل أهدافها، في حين لا تملك البحرين القدرة الكافية على استيعاب العاطلين في القطاع الحكومي كما هو متبع في دول الخليج، ومن جملة التحذيرات توصل التقرير إلى نتيجة تبدو في غاية الأهمية، وهي إن البحرين ستواجه أزمة حادة على صعيد الإسكان في الأعوام القادمة “2010 – 2020” ما لم تحرك وبسرعة في بناء الوحدات الإسكانية، لان نصف سكان البحرين حالياً تقل أعمارهم عن 15 سنة.


بالفعل التقرير حدد المؤشرات السلبية والمحاذير، ولكنه حدد أيضا الانجازات الايجابية التي حققتها البحرين، ولعل في مقدمة هذه الانجازات هو انخفاض نسبة الدين الحكومي من الناتج المحلي واستنادا لصندوق النقد الدولي يبدو أن هذا الدين قد انخفض إلى  23.5٪ عام  ”2007″ بعد أن كان  26.5٪  في عام “2006”.  وهذا يعني حسب التقديرات الاقتصادية والمالية أن البحرين تمتلك فائضاً مالياً يسمح لها بزيادة الودائع المالية وتخفيض الدين العام حتى لو تراجعت أسعار النفط أكثر مما هي عليه.


وأما المؤشر الايجابي الآخر فهو يتمثل في السياسة الاستثمارية الناجحة التي بلغ حجم استثماراتها الأجنبية في عام “2006” 2.915مليار دولار بعد إن كانت هذه الاستثمارات في عام “2005” 1.095 مليار دولار.


ومع كل هذه الانجازات الايجابية التي جعلت البحرين كما يقول التقرير تتمتع ببنية تحتية وقانونية متطورة تلبي حاجة المستثمر المحلي والدولي، فإن ما هو مطلوب حالياً أن نضع أيدينا بدقة على كل الإشكاليات الواردة في هذا التقرير.


ومن المشكلات أيضا إن الزيادة السكانية التي طرأت على المجتمع البحريني تفرض علينا إعادة التفكير في السياسة العمالية، وتحديداً فيما يتعلق باستقدام العمالة الوافدة التي وللأسف الشديد أصبحت هذه العمالة مصدر ثراء غير شرعي للبعض، وأصبحت أيضا مصدر بؤس وشقاء للعمالة الوافدة!!
وأخيرا، في هذا المناخ الإشكالي.. هل نحن بصدد خطة عمل لمواجهة هذه المشكلات والمخاوف والتحذيرات؟.


الأيام 20 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد