المنشور

التأريخ يبدأ بالمرأة

 

 

 


ذات أنثى
وذات نساء
هكذا سيؤرخ تأريخنا لامتداد السماء
وتكبر ارضٌ
وتمتدُّ
تؤمن بالفضل
تحلف أن وجود المفاخر ذا ليس طينا وماء
انه عسل وندى
إنَّه النَّد سوف يضوع
وعطر بقاء
إنّ كل بقاء الرجال
صعود الرجال نماء لرجال
كله … للنساء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
 
خلف الكواليس
تصنع ثوب بقاء جديد
تحوك عقولا
وتلبس هذا من الصيف تلبس ذاك الربيع
ترسم لون خريف جديد وتمنحه للعراء
وتدخر الدمع وصوتا من الصبر
تصنع منه الشتاء
وتختمه بالبقاء
 
***
خلف كلِّ شرارة حب نساء
خلفَ كل عظيمٍ من الأمر
تبحث تلقى النساء
خلف أي تجمِّع بغضٍ يقود الرجال
ستلقى النساء
***
إنكن خيوط الحرير
تحكن
وتلبسن هذا وذاك
وتكتبن مجدا وعزا وفخرا
وتمنحنه للمسلات
يعني
أنا
سأؤرخ
للأنبياء
وأجذب آدم
أعطيه حوّاء
أعطي
النبي محمد
أعطيه
صبر خديجة
قلبا
ومالا
ودفءَ
وحضنا
انها المنجنيق
لتطلقه أول الواصلين هناك
فيكتب
 ينطق بالوحي
يغزو السماوات يغزو البلاد
ويمتد أكثر
وقتا وأرضا
ويثمر أكثر  
يغزو السماء
____________
تذكرت كل النساء
الأمهات اللواتي يبسن لنعشب
متن لنكبر
أعطيننا عمرهن، أنوثتهن، ملامحهن، تراتيلهن وجناتهن
ويبقين دوما بنيرانهنّ
تذكرت أمي
تنوح لفقدي وتكبر أكثر
اصغر أكثر
يحملني صوتها للسماوات يعبر بي العرش اصبح من قلبها قاب حبين او وجعين او سمها جنتين
وأذكر وجه الحبيبة
يعبر بي نحو ضفة حزني
ويزرعني في شراع الأنين
ـــــــــــــــــــــــــــ
فمن أنا من غير أصواتكن
ومن أنا من غير إبداعكن
وكيف سأنفذ للشمس
هل قلت اصعد
من دونكن
_______
يبس الوقت خانني المضمون
فانا دونكن من سأكون
مالذي يجبر الكتابة ان تنمو
وهل دونكن تنمو غصون
انا ان قلت .. في النساء قليل
كيف تحصى  نفائس وعيون
انكن الوقود توقضن شمسا
كيف لايحرق  المدى تنين 
وإذا قلت رقَّة فهي تحلو
في فؤادي ويكبر الزيتون
نعمت ِ الكائنات انتن  اني
في فؤداي لكن دَينُ ودين 


 

 
شعر حيدر النجم
ألقيت هذه القصيدة في احتفالات عيد المرأة الذي أقامته جمعية المرأة البحرينية في قاعة المهندسين
8 مارس 2008

اقرأ المزيد

الانهيار المالي الكبير في الولايات المتحدة أزمة نظام وليس أزمة أسواق


العالم بأسره يراقب التداعيات الخطيرة للانهيار المالي الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تردد صداه سريعا في انهيار الأسواق في الولايات المتحدة أولاً ثم في غالبية دول العالم ثانياً، وانتشار حالة من الهلع في مختلف بورصات العالم مع الشعور بقلق عميق على مصير الاقتصاد العالمي بعد توالي الإعلان عن إفلاس العديد من المصارف الكبرى خاصة في الولايات المتحدة.


في البداية تم الإعلان عن إفلاس اثني عشر بنكاً أمريكيا خلال فترة قصيرة، ثم تلا ذلك الإعلان عن إفلاس رابع اكبر بنك في الولايات المتحدة “ليمان بروذرز”، ووقفت مؤسسة التأمين الأمريكية “أيه. أي. ج” على حافة الإفلاس، حيث تم انتشالها نتيجة تدخل حكومي سريع. وجرى بعد ذلك إدماج ميريل لينش مع بانك اوف اميركا، هذا بعدما أممت الحكومة الأمريكية أهم شركتين للرهن العقاري وهما ” فاني ماي وفريدي ماك”.
يقول المسؤولون الامريكيون، وفي مقدمتهم بوش رئيس الجمهورية ورئيس البنك الفدرالي ووزير المالية، انهم اضطروا للتدخل المباشر والسريع لمواجهة الزلزال المالي الذي اخذ يهز الاقتصاد الامريكي ويهدده بخطر غير مسبوق. وطرح هذا التدخل الحكومي السريع في مواجهة الانهيار المالي عدة قضايا، أصبحت موضوعاً للبحث والنقاش في الولايات المتحدة وعلى الصعيد العالمي.


بهذا التدخل تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن مبدأ الاقتصاد الحر،الذي بذلت جهوداً متعددة، وصلت حد التهديد أحياناً لفرضه على جميع دول العالم. فقد كافحت واشنطن، خاصة في ظل هيمنة المحافظين الجدد لفرض اقتصاد السوق وإنهاء أو تخفيض دور الدولة في الاقتصاد إلى الحدود الدنيا، والاستسلام إلى آليات السوق باعتبارها قادرة وحدها على إعادة التوازن للأسواق وتعديل المسارات.


المتابعون والمسؤولون في مختلف دول العالم، وخاصة في الدول النامية يقدرون حجم وأثر الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية وقوى العولمة الرأسمالية الشرسة في فرض اقتصاد السوق من خلال إلغاء دور الدولة ودور القطاع العام في الاقتصاد، وخصخصة مختلف الأصول بما فيها مصادر الثروات الطبيعية، وفسح المجال للقطاع الخاص المحلي والدولي على السواء، لامتلاك هذه الأصول، بحجة انه الأقدر على تطوير الاقتصاد. والجميع يدرك الخراب الذي ألحقته عمليات الخصخصة في عدد غير قليل من دول العالم، حيث مورس في تنفيذها أبشع أشكال الفساد والنهب في تاريخ البشرية، وقادت في العديد من الدول وخاصة النامية إلى زيادة معدلات الفقر والبطالة، في حين تضاعفت ثروات بعض الأغنياء وبشكل أسطوري، وأصبح هؤلاء “الأثرياء الجدد” يشكلون فئة متميزة ذات ملامح خاصة في طبقة أغنياء مختلف مجتمعات العالم.


وتحت شعارات اقتصاد السوق، قويت مراكز ونفوذ الليبرالية الجديدة، والتي ساهمت بقوة وفعالية في تعزيز دور آليات السوق وتدويل نشاطها من خلال توسيع حرية انتقال رؤوس الأموال بشكل خاص دون رقابة وطنية وتوفير الآليات التي تسمح بذلك.



المضاربة وعولمة رأس المال


قادت عولمة رأس المال، إلى زيادة فرص المضاربة وتعميق دورها على النطاق العالمي، مستفيدة أولاً من الحريات الواسعة وغير المحدودة لانتقال رؤوس الأموال ومستفيدة ثانياً من التطور السريع والمتتالي للآليات والوسائل لتسريع عمليات الانتقال، الأمر الذي عزز مكانة الأموال الساخنة في النشاط المالي العالمي، وزاد من تأثير المضاربة وانتقالات الأموال السريعة ازدياد حجم المدخرات العالمية غير المستخدمة في مجالات الإنتاج. إذ يقدر أن المدخرات العالمية كانت تنمو سنوياً بمئات مليارات الدولارات، ولكن نسبة المستخدم من هذه المدخرات في الإنتاج المادي والخدمات كانت تتناقص بحيث انها تقل حالياً عن 10% من هذه المدخرات. ويلاحظ أنه في حين تعاني غالبية دول العالم من العجز في ميزانياتها العامة ومن بعض أشكال المديونية العامة التي تصل الى معدلات خطيرة في بعض الحالات، فإن فائض الادخار العالمي يتركز في صناديق وأيدي البنوك الكبرى والشركات المالية عابرة الحدود وعابرة القارات. ويقدر المختصون أن الانتقالات المالية اليومية لمختلف الاستخدامات كالمتاجرة بالأسهم والعملات والسندات تزيد عن تريليون دولار، بينما توجد مئات التريليونات من الدولارات الأخرى التي لا يوجد لها استخدامات ذات مردود عالٍ “حسب مالكيها” إلا في توسيع المضاربة وتعميمها على قطاعات جديدة في الاقتصاد الوطني. ولذلك لا يتوقف نشاط المضاربة الآن على الأسهم والسندات بل أخذ يزحف بقوة على أسعار السلع والمواد الأولية كالنفط والمعادن والقطاعات الأخرى، وأخيراً وصل سوق المواد الغذائية، حيث أدت المضاربة في هذه القطاعات إلى ارتفاعات حادة في أسعار مختلف السلع كالنفط والمواد الغذائية وإلى زيادة معدلات التضخم في وقت سيتباطأ الإنتاج المادي، مما يفرض حالة جديدة من الكساد التضخمي على اقتصاديات العالم بأسره.


وقادت حرية انتقال الأموال وتجولها غير المراقب وتطور وسائل وأساليب المتاجرة الآجلة وإلغاء أية قيود وطنية أو تقليصها إلى أدنى الحدود في مختلف البلدان على حرية انتقال رؤوس الأموال، إلى مضاعفة الهزات المالية المتوالية التي أصابت بشكل متلاحق العديد من المناطق والدول في العالم. فقد انفجرت أزمة مالية حادة في المكسيك عام 1995 ثم جاءت الأزمة الآسيوية “أزمة النمور الآسيوية” عام 1997 فالروسية عام 1998 والأرجنتينية عام 2001 وأزمة التكنولوجيا والاقتصاد الجديد عام 2000، وانفجرت أخيراً أزمة الرهن العقاري التي ما زالت تتفاعل حتى أدخلت الاقتصاد الأمريكي في المأزق الراهن الخطير، وهي تهدد الاقتصاد العالمي برمته.


وإبان كل هذه الأزمات مُنعت الدول المعنية من التدخل لمواجهة الاختلالات، وحذر صندوق النقد الدولي بوجه خاص من خطورة التدخلات الحكومية لمعالجة الموضوع وفرض إملاءاته الخاصة، الأمر الذي عمق الانعكاسات الخطيرة في هذه الدول. والدولة الوحيدة التي تمردت على املاءات صندوق النقد الدولي والضغوط الأمريكية كانت ماليزيا بقيادة مهاتير محمد، الذي اتخذ اجراءات فعالة ضد حرية دخول وخروج الأموال من جهة واتخذ اجراءات محددة في مجالات الاقراض والتسهيلات المالية وغير ذلك مما ساهم في سرعة الخروج من الأزمة وتحقيق نمو اقتصادي سريع. وكانت ماليزيا الدولة الأولى التي تعافت سريعاً من الأزمة الخانقة في جنوب شرقي آسيا، بينما لا زال بعض الدول الأخرى يعاني من نتائج الأزمة حتى الآن وخاصة اندونيسيا.


ولعبت المضاربات دوراً حاسماً في انفجار الأزمة المالية في الولايات المتحدة. ولكنها لم تكن السبب الوحيد، بل كانت من جملة الأسباب الهامة التي أدت إلى ذلك. وانفجرت أولاً أزمة الرهن العقاري في مطلع عام 2007 عندما لم يتمكن المدينون من تسديد أقساط القروض المستحقة عليهم، جراء انتشار حالات الإفلاس مما فجر أزمة البورصات في آب من عام 2007 التي أخذت تعاني من اتساع المخاطر، مما فرض على العديد من المصارف في أكتوبر من نفس العام أن تعلن انخفاضاً كبيراً في أسعار أسهمها، وهو ما فرض على بنك الاحتياطي الفدرالي السير في طريق تخفيض معدل الفائدة للحفاظ على تدفق السيولة للأسواق. فأجرى تخفيضاً بمعدل ثلاثة أرباع النقطة في كانون ثاني 2008 وأجرى تخفيضاً آخراً خلال الربع الأول من عام 2008. ولم تتمكن تخفيضات الفائدة من إيقاف التدهور الذي استمر وأدى إلى إعلان إفلاس اثني عشر مصرفاً في الولايات المتحدة، ثم توالت عمليات الإفلاس، وأصابت بنك ليمان بروذرز وميريل لنش. واستمرت عمليات الإفلاس وأصابت بنوكاً غير أمريكية. فاشترى بنك لويد البريطاني منافسه ” اتش بي أواس” المهدد بالإفلاس. ثم أعلن انهيار أسهم شركة التأمين البلجيكية – الهولندية “فوربس” وجرى تعويمها لاحقاً من قبل سلطات بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ، وتم تأميم بنك برادفور وبينغلي في بريطانيا. وقام بنك ” جي بي مورغان” الأمريكي بشراء منافسه بنك “واشنطن ميونشوال” بمساعدة السلطات الفدرالية، والذي يعتبر من البنوك الأمريكية الكبيرة.


ومع توالي إفلاس البنوك ، وخاصة الكبيرة وشركات التأمين، توالى تدهور الأسعار في مختلف البورصات التي شهدت تراجعاً حاداً جداً في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا وغيرها من الأسواق. وشمل التراجع جميع الأسواق العربية بلا استثناء.



لماذا حصل الانهيار؟


تتفاوت تحليلات الاقتصاديين الرأسماليين لأسباب الانهيار، ويحاول بعضهم إيجاد تبريرات لها بعيداً عن طبيعة النظام الرأسمالي حتى لا تؤدي التحليلات المختلفة إلى الجزم بأن ما حصل هو أزمة حقيقية للنظام الرأسمالي، وليست ظاهره عارضه . ولذلك لم يتوصل حتى الآن الاقتصاديون الرأسماليون إلى موقف موحد حول أسباب ما حصل. فبعضهم يحمل المديرين التنفيذيين الجشعين للمصارف والمؤسسات المالية الكبيرة مسؤولية ما حدث لأنهم خاضوا مغامرات استثمارية متهورة وأقرضوا الكثير من المال لأفراد لم يتمكنوا من تسديد الديون، وقسم آخر يرى أن الخطأ ارتكبه بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي ومصارف مركزية أخرى، لأنها تركت مستويات الفائدة متدنية، ما شجع الناس على الاستدانة بشكل واسع، كما شجع المصارف على الإقراض. وهناك رأي يقول إن المصارف المركزية فشلت في تنظيم البنوك وبيوت الاستثمار من أجل التأكد من أنها تملك الأموال الكافية للعمل.


يؤكد العديد من الاقتصاديين والباحثين أن الأزمة الحالية هي الأسوأ منذ أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وإن أسبابها تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي، وليست عارضة، وهي أزمة عميقة للرأسمالية كنظام، تعني فشل ونهاية عصر “الرأسمالية المالية” بكل أرباحها الخيالية المصطنعة التي تتحقق في الأساس من المضاربات. فالرأسمالية المالية كانت تدير أموال وأنشطة العالم الاقتصادية بموجب عقلية المقامرين في كازينوهات القمار، وإن أسواق المال تحكمها نفس قواعد المقامرة التي تديرها المافيات. وهو ما ينطبق تماماً على قواعد اقتصاد السوق والاقتصاد الحر!!!



ولكشف هذه الحقيقة علينا تتبع كيف نشأت أزمة الرهن العقاري


في البداية كانت المصارف ومؤسسات البناء تجذب الإيداعات من المدخرين، ثم تقدمها على شكل قروض للذين يريدون شراء المنازل. وكانت المعادلة هذه سهلة جداً، من المدخر إلى المقترض عبر المصرف أو المؤسسة. ثم اتسعت العملية، إذ من أجل زيادة الأرباح زاد التوجه إلى الاستدانة من المصارف الأخرى لتقديم القروض العقارية. وتحولت هذه المصارف الوسيطة إلى مؤسسات للتمويل الشمولي لقطاع العقارات، وأصبح لها حملة أسهم وإدارات نشطة تسعى لجني الأرباح. وتفتق ذهن العاملين في هذا القطاع لزيادة الأرباح عن أسلوب يقضي بتجميع القروض السكنية وبيعها كسندات أمان لمصارف أخرى أو لمستثمرين ماليين، وأدت مختلف الإيداعات الجديدة إلى زيادة وتنويع مصادر المخاطر. وإضافة لذلك نشأت شركات وبنوك أخذت القيام بكل هذه الحلقات وأخذ المخاطر على عاتقها، مما أتاح للمصارف الاستدانة أكثر وفسح المجال للتوسع الكبير في إعطاء القروض السكنية. في البداية لم تكن هناك مشكلة، كانت السوق العقارية تزدهر والمصارف تستعيد الأموال المقترضة من خلال ارتفاع أسعار العقارات، وأصحاب المنازل كانوا يتحملون تسديد ديونهم وحتى أخذ قروض جديدة. ثم أخذت المصارف تقرض دائنين لا مداخيل لديهم، وتعتمد على احتمال ارتفاع أسعار العقارات. ولكن عندما وصلت هذه العمليات الذروة في الأرباح والاستدانة، أخذت أسعار العقارات تتراجع وتتباطأ منذ عام 2006، مما أصبح يؤثر تدريجياً على قدرة المستدينين في تسديد ديونهم. هكذا هبط سوق القروض العقارية، وكشفت خسائر دائني القروض، واتضح أن أسعار العقارات جراء هذه المضاربات المتلاحقة والمتعددة قد جرى تضخيمها. ومن الواضح أنه لم يكن من المتوقع أن تستمر حركة الرهن العقاري والربح العقاري على خطها المستقيم صعوداً كما حصل لمدة 18 عاماً، لأن طبيعة الدورة الاقتصادية، كما يعرفها ماركس، تلعب دورها في الاقتصاد الرأسمالي الذي يحرك الاستثمار فيه عامل الربح فقط. فالدورات الرأسمالية استندت إلى عامل الربح إلى أن بلغت الأرباح الذروة، ثم أخذت تتراجع وتتحول إلى خسائر كما هي طبيعة الدورة، حيث يواجه كل حالة صعود حالة هبوط.


وفي ظل هيمنة الرأسمالية المالية على الاقتصاد الأمريكي والأوروبي والعالمي، فإن صناعة المال الأمريكية مارست نموذجاً احتكارياً فريداً، أدى للوقوع فريسة لعقلية المقامرين في كازينوهات القمار بالاندفاع الطائش لتحقيق الربح بعيداً عن الالتزام بالقواعد والأصول. وتشير مجلة الايكونومست البريطانية إلى أن صناعة المال الأمريكية حصلت على 10% من إجمالي أرباح الشركات عام 1980 مقابل قروضها وخدماتها المختلفة لهذه الشركات، في حين أن حصة صناعة المال الأمريكية تضاعفت أربعة أمثال مع العام الأخير 2007، حيث تبلغ تقديرات أرباح المال المباشرة في العقد الأخير 1.2 تريليون دولار. ومع هذه الأرباح الخيالية فإن صناعة المال تحولت إلى الصناعة الرأسمالية الأولى وتراجعت أهمية القطاعات الإنتاجية والخدمية الحيوية وأصبح تدوير الأموال في الأسهم والسندات والمشتقات المالية المبتكرة والمضاربات في المعادن والنفط يأتي في مقدمة الأنشطة الرأسمالية ويتفوق على ما عداه من حيث الأرباح والأهمية.


وبجانب الأرباح الخيالية الطائلة لصناعة المال الأمريكية فإن تكلفة كوارثها وخسائرها باهظة جداً كذلك. إذ تشير تقديرات خدمة بلومبيرج الاقتصادية الأمريكية المتخصصة إلى أن الأزمة المالية لأسواق المال المرتبطة بالإعلان عن إفلاس بنك “ليمان براذرز” رابع أكبر البنوك الاستثمارية الأمريكية في منتصف شهر أيلول / سبتمبر الماضي أدت إلى خسائر لحملة الأسهم في بورصات العالم المختلفة قدرت قيمتها ب 4 تريليونات دولار في أربعة أيام، كما تشير إلى أن أصحاب الأسهم في بورصات العالم المختلفة خسروا خلال عشرة أشهر من الأزمة نوفمبر / تشرين ثاني 2007 – أغسطس / آب 2008 نحو 19 تريليون دولار من قيمة الأسهم. وفي ظل هذه الهزات المالية العنيفة فإن المؤسسات المالية الأمريكية فقدت نحو 1.2 تريليون دولار من القيمة الاسمية لأسهمها منذ أغسطس / آب 2007. ولا يقل عن ذلك خسائر سوق العمل، حيث فقد مائة ألف وظائفهم في القطاع المالي منذ بداية العام الحالي وهناك 50 ألف وظيفة أخرى في الطريق إلى الضياع. ومع إفلاس بنك ليمان براذرز فقد 26 ألفاً وظائفهم في القطاع المالي الأمريكي.


وهكذا يمكن التأكيد أن الانهيار المريع حصل جراء تضخيم دور السوق غير المقيدة وغير المراقبة، أي السوق الحرة البعيدة عن المراقبة الوطنية، في ظل حالة الانفتاح التي فرضها مبدأ التدويل واقتصاد السوق. ويرتبط هذا بالهدف الكبير لليبرالية الجديدة المتمثل في إنهاء دور الدولة في الاقتصاد والاستناد إلى آلية السوق. لذلك فإن الذي ينهار اليوم هو النظام الذي لا تجري مراقبته بطريقة منظمة، أي سيطرة اقتصاد رأس المال المالي ونظام المضاربة. ويتحمل المسؤولية الكلية عن ذلك قادة الولايات المتحدة بالمكان الأول الذين عملوا على فرض “اقتصاد السوق” منذ ولاية الثنائي “ريجان – تاتشر” في كل من أمريكا وبريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي.


وينهي الانهيار المالي الكبير القطبية الأحادية الاقتصادية والسياسية، والتي بالاستناد إليها حاولت واشنطن في ظل هيمنة المحافظين الجدد تركيع العالم بأسره لنزواتها المالية والتوسعية “الجيوسياسية” وتثبيت القطبية الأحادية كأمر واقع.


ومع الانهيار الكبير تفشل نظرية إنهاء أو تقليص دور الدولة في الاقتصاد وتمنى الليبرالية الجديدة بهزيمة نكراء، وتستعيد الدولة مكانتها ودورها في الاقتصاد الرأسمالي، وتطوى صفحة نهاية التاريخ، حيث تؤكد التجربة القاسية والمريرة أن الليبرالية الجديدة قادت الرأسمالية نحو أكثر الأشكال قسوة ووحشية، ووضعت البشرية أمام منعطف جديد. فإذا كانت الليبرالية الجديدة تريد إلغاء الصراع الطبقي، والعلاقات الطبقية في المجتمعات الرأسمالية، من خلال الركون إلى آلية السوق فقط، آلية السوق غير المراقبة والتي لا تخضع إلى أية قيود أو ضوابط وطنية، فإن الانهيار الكبير جاء لينسف هذا التوجه والفكر الذي يقف خلفه، ويعيد الشيء الكثير للنظرية الكنزية، والشيء الأهم ليؤكد الفهم الماركسي لطبيعة الدورات الاقتصادية في الرأسمالية.


وكما أثبتت أزمة ثلاثينيات القرن الماضي ضرورة دور الدولة في الحياة الاقتصادية، فإن الأزمة الحالية لا تؤكد ذلك فقط، بل تتجاوزه إلى ضرورة حضور الدولة المخطط، والذي حاولت الليبرالية الجديدة إلغاءه تماماً.



بعض ردود الفعل على الانهيار الكبير


لا شك أن هذا الانهيار غير المسبوق والمدوي ، قد أحدث ردود فعل واسعة في جميع أرجاء المعمورة، وفسح المجال لتحليلات وسجالات فكرية متنوعة. ولكن النتائج الملموسة المترتبة على الانهيار الكبير بالنسبة لمصالح مختلف الطبقات والفئات في مختلف المجتمعات تعتبر الوسيلة الأدق لقراءة ردود الفعل. ويهمنا هنا بالدرجة الأولى إيراد بعض ردود الفعل من الدول والدوائر الرأسمالية العالمية خاصة التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يؤكد أهمية ردود الفعل هذه ويشير إلى الانقسام العميق في العالم الرأسمالي حول الموقف مما جرى.
ندد الرئيس الفرنسي ساركوزي بالنظام الذي سمح بحدوث هذا الانهيار وقال “لا يمكن الاستسلام إلى نظام مالي مجنون وغير مراقب” وطالب الولايات المتحدة، بعد أن حملها مسؤولية الانهيار، اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجنيب الاقتصاد العالمي التداعيات المؤلمة والخطيرة لهذا الحدث.
وألقى خطبة في مدينة تولوز في نهاية شهر أيلول الماضي قال فيها “اقتصاد السوق وهم، ومبدأ دعه يعمل دعه يمر انتهى، والسوق كلية الجبروت، التي كانت دائماً على حق، انتهت أيضاً، ومن الضروري إعادة بناء كامل النظام التمويلي والمالي من الأسفل إلى الأعلى، على غرار ما جرى في بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية!!!


أما المستشارة الألمانية انجيلا ميركل فقد وجهت انتقادات حادة إلى النظام المالي في الولايات المتحدة لسماحه بمعاملات تحمل قدراً كبيراً من المخاطرة ، الأمر الذي يلحق الضرر بجميع الأسواق المالية في العالم . وقالت ميركل أمام تجمع من السياسيين اليمينيين ” ان سماح الولايات المتحدة للبنوك والمؤسسات المالية العمل بإشراف حكومي ضعيف للغاية يمثل سياسة غير مسؤولة” . وقالت “ان المجتمع الدولي بحاجة الآن إلى قواعد جديدة للأسواق المالية ، وأضافت نحن بحاجة إلى تقوية منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ، وقواعد جديدة للأسواق المالية”.


أما وزير المالية الألماني بيير شتاينبرويك فقد وصف الأزمة الأمريكية بأنها زلزال سيكلف الولايات المتحدة دورها كقوة عظمى في النظام المالي العالمي. وقال أمام البرلمان الألماني ” لن يعود وول ستريت والعالم إلى الوضع الذي كانا عليه قبل الأزمة المالية” وقال ” سيصبح النظام المالي العالمي متعدد الأقطاب”.


أما دومينيك شتراوس – كان رئيس صندوق النقد الدولي – فيتوقع ان الكلفة الإجمالية لازمة الائتمان العالمية التي أطلقها انفجار الفقاعة العقارية ستبلغ 1.3 تريليون دولار وليس تريليون واحد كما كان يعتقد سابقاً.


وصرحت المفوضية الأوروبية انه ينبغي على الولايات المتحدة ان تضطلع بمسؤوليتها الخاصة لحل الأزمة المالية العالمية،ودعت الى الإسراع في إقرار خطة إنقاذ القطاع المالي،وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية في مؤتمر صحفي “ينبغي ان تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية عن هذا الوضع”. ووجه رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون انتقادات حادة لأداء الأسواق المالية وندد بحي المال في لندن، واتهمه بانتهاج سلوك غير مسؤول. ومن الملفت للنظر ان المفوضية الأوروبية وأمام الضغوط المتزايدة على المؤسسات النقدية الأوروبية قبلت ان تقوم حكومات ألمانيا وهولندا وبلجيكا وايرلندا والدول المنتمية لمنطقة اليورو بعمليات تأميم مقنعة لعدد من المصارف وضخ الأموال من اجل ذلك من الخزينة العامة. وهذا الأمر فيه تأكيد واضح على ضرورة تدخل الدولة في الاقتصاد ونسف لشروط اقتصاد السوق.


وعلق الرئيس الروسي ميدفيديف خلال لقائه مع المستشارة الالمانية في بطرسبورغ على ألأزمة المالية العالمية قائلاً “ان عهد الهيمنة الاقتصادية الأمريكية قد ولى” وإن العالم بحاجة إلى نظام مالي جديد أكثر عدلاً، وعلينا العمل معاً لإقامة هذا النظام بحيث يقوم على مبادئ تعدد الأقطاب وسيادة القانون والأخذ بالمصالح المتبادلة”. ومثل هذه الآراء عبر عنها غالبية المسؤولين في آسيا كالصين والهند واليابان والعديد من دول جنوب شرق آسيا والبرازيل. ويتضح ان الدول الرأسمالية الرئيسية تتنكر علناً لأسلوب الرأسمالية المالية الأمريكية، الذي قاد العالم إلى الوضع الراهن الخطير، ويبدو جلياً أن صوتاً واحداً وموحداً يطالب بإعادة النظر في النظام المالي الدولي وعلى غير قاعدة اقتصاد السوق!!!


وهكذا يشهد العالم تحولاً جديداً يوجه صفعة مؤلمة لأساطين اقتصاد السوق والعولمة الرأسمالية المتوحشة ولسلطة رأس المال المالي.
ومن ناحية أخرى، فإن بعض ردود الفعل على الأزمة، اتخذت طابعاً فكرياً، فكثيرون هم الذين يرون أن الأزمة ذات طابعً ايديولوجي- سياسي بامتياز، لأن الليبرالية الجديدة التي شنت حملات متعددة الأوجه منذ سبعينات القرن الماضي لفرض اقتصاد السوق وتحرير الأسواق والأسعار، وإنهاء دور الدولة في الحياة الاقتصادية وتسليم الاقتصاد إلى القطاع الخاص، فشلت تماماً، وأخذ العديد من الدول يعود الآن الى التأميم لإنقاذ اقتصاده، ومن هذه الزاوية يمكننا ان نرى العديد من ردود الفعل والانتقادات والتي تمثل موقف قوى اجتماعية وسياسية واسعة في جميع البلدان.ولأول مرة تظهر الليبرالية الجديدة محاصرة ومدحورة بهذا الشكل.


ولذلك، فإن العديد من الاقتصاديين إن لم يكن غالبيتهم يؤكدون أن مجلس النواب الأمريكي سيوافق على خطة الإنقاذ المقترحة من الإدارة بشكلها المقدم أو معدلة، وذلك بعد أن رفضها، تجنباً لمواجهة خطر انكماش عميق وطويل الأمد. وبالفعل وافق المجلس على الخطة بعد موافقة مجلس الشيوخ عليها.



“خطه الإنقاذ” للخروج من الأزمة


أقدمت الإدارة الأمريكية وبنك الاحتياطي الفدرالي على اتخاذ عدة خطوات في محاولة لمواجهة الاختلالات التي أخذت تتضح بعد انفجار فقاعة الرهن العقاري. وكان من بين تلك الإجراءات تخفيض سعر الفائدة وتقديم تسهيلات مالية تسمح بالمحافظة على معدل السيولة، كما قامت بخطوات مماثلة بعض البنوك المركزية في بعض الدول الأخرى. وثبت أن هذه الإجراءات لم تنجح في مواجهة الانهيار المالي الذي اخذ يتعمق ويشيع اضطراباً غير مسبوق في جميع البورصات والأسواق المالية، جنباً إلى جنب مع توالي حركة الإفلاسات التي أصابت اكبر البنوك في الولايات المتحدة وفي بعض الدول الأخرى.


وفي خضم هذه التداعيات الخطيرة، وأمام الضغوط المتنامية والمستمرة على البنوك والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة، وفي العديد من الدول الأخرى، وأمام ضغوط على واشنطن لتحمل مسؤوليتها في مواجهة زلزال الانهيار المالي، أعلن الرئيس الأمريكي عن خطة لمواجهة الأزمة. وتتكون الخطة من رصد 700 مليار دولار لشراء الرهون الهالكة ومساعدة المؤسسات المالية وحماية الاقتصاد الأمريكي من الانهيار. وقال الرئيس الأمريكي لدى إعلان الخطة “إنها حزمة مالية كبيرة، لأن المشكلة كبيرة” وذلك من أجل معالجة الأزمة المالية العميقة، ووقف التدهور واستعادة الثقة في وول ستريت وفي سائر البورصات العالمية.


تعتمد هذه الخطة على الأموال العامة، أي أموال الخزينة الأمريكية، وهي بالتالي تحدث حالة من الضغط على المالية العامة. فمن المعروف أن الإدارة الأمريكية كلفت الخزينة العامة ما يقرب من 700 مليار دولار لحروبها في العراق وأفغانستان الأمر الذي زاد من عجز الموازنة الأمريكية، وزاد من المديونية العامة، وهو ما يؤثر على طبيعة واتجاهات الإنفاق العام من جهة، وعلى مستوى معيشة والضمانات الخاصة بدافعي الضرائب، من الفئات والشرائح المتوسطة في المجتمع من جهة ثانية.


وبموجب الخطة، التي جرى حوار واسع حولها بين مسؤولي الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونجرس، وفي مراكز البحث والدراسات المتخصصة، فإن الدين العام الأمريكي سيرتفع من 10.6 تريليون دولار إلى 11.3 تريليون، وهو ما يعادل حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية ويثقل كاهل دافعي الضرائب وينعكس سلباً على جوانب الإنفاق الاجتماعي ومختلف الخدمات الضرورية.
واجهت الخطة صعوبات كبيرة في الكونجرس وقوبلت بمعارضة واسعة من ممثلي كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري على السواء. وتركز الخلاف والصراع أولاً على حجم المبالغ المرصودة في الخطة وثانياً على كيفية إنفاق هذه الأموال وإدارتها. ففي حين يؤكد الديمقراطيون على الحد من إنفاق الأموال على المديرين التنفيذيين ومن في حكمهم، بل تخصيصها لمعالجة القضايا المادية الملموسة، يرفض الجمهوريون ذلك. ولذلك تتسع المطالبة في المجتمع الأمريكي، خاصة في أوساط الإعلام بعدم تحويل المخصصات الكبيرة الواردة في الخطة إلى مكافأة المديرين والمغامرين الذين أوصلوا الأزمة الى هذه الحدود الخطيرة. ولذلك تؤكد أوساط واسعة في المجتمع الأمريكي، بأن مساعدة دافعي الضرائب من الطبقات المتوسطة يجب أن يعتنى بحمايتهم، وتقديم الدعم لهم. فالأرصدة الضخمة الواردة في خطة الإنقاذ تفرض على كل أمريكي، وليس دافعي الضرائب فقط ما متوسطه 2000 دولار.


ولذلك أعلن الرئيس الأمريكي صراحة، أن خطة الإنقاذ وإن كانت ستحدث آلاماً لدافعي الضرائب، إلا أنها تهدف إلى تجنب الآلام على المدى البعيد. ومن الملاحظ أن الخطة تزيد عجز الموازنة، الذي يزيد حالياً عن 500 مليار دولار. ومن الجدير بالذكر، أن الرئيس جورج بوش عندما جاء للإدارة كان هناك فائض في الموازنة، ولكنها أخذت تعاني من العجز المتراكم طوال سنوات بقائه في البيت الأبيض.


وإذا كانت الخلافات بين الديمقراطيين وبعض القوى الاجتماعية من جهة وبين الجمهوريين ومؤيديهم، تتركز حول كيفية إدارة أموال الخطة وتخصيص أوجه الإنفاق وتحديد صلاحيات المشرفين على ذلك، فإن أصواتاً برزت في داخل الحزب الجمهوري وبعض الأوساط المحافظة وخاصة من أنصار ومؤيدي المحافظين الجدد، تتركز على أن خطة الإنقاذ تعتبر خرقاً فاضحاً لمبادئ الاقتصاد الحر. حتى أن بعض منتقدي خطة التدخل هذه ذهبوا إلى القول إنها تعتبر”خطوة اشتراكية” وتشكل ضربة قاصمة لفلسفة اقتصاد السوق والاقتصاد الحر.
من المعروف أن مجلس النواب رفض الخطة عندما عرضت عليه في المرة الأولى، مما دفع إلى إعادة النظر فيها وتعديلها وإدخال بعض القيود على شكل وأساليب الإنفاق. ولذلك قدمت مرة أخرى لمجلسي الشيوخ والنواب وتمت الموافقة عليها.


الملاحظات الأولية حول موقف الرأي العام الأمريكي من الخطة، يؤكد حالة من القلق التي تسود بشكل عام، والخوف من أن تتحول الخطة إلى وسيلة لمكافأة المسيئين والمقامرين على حساب عامة الناس ودافعي الضرائب، وإسناد الشركات الكبرى على حساب المستوى المعيشي لغالبية الموطنين.

12 أكتوبر 2008

اقرأ المزيد

لا فقراء في البحرين، بل “منكودين”

 


كشفت الإحصائيات التي نشرتها صحيفة الوقت في عددها 964 الصادر في 11 أكتوبر / تشرين الأول، من وزارة العمل، ديوان الخدمة المدنية، وهيئتي التأمينات الاجتماعية مع هيئة تنظيم سوق العمل، بان أكثر من نصف المواطنين البحرينيين يعيشون تحت خط الفقر والذي حدده مركز البحرين للدراسات والبحوث بواقع 300 دينار للفرد شهرياً.


وهو الأمر الذي قض مضجع هيئة تنظيم سوق العمل، التي أصدرت معلوماتها بأن الإحصائيات التي استغلتها “الوقت” في الوصول إلى استنتاجاتها هي تعنى بالمواطنين الذين يعملون في القطاع الخاص فقط دون القطاع العام.


وبينت إحصائيات هيئة التأمينات والتقاعد أن العاملين البحرينيين الذين يتقاضون أجوراً أقل من 300 دينار، يبلغ عددهم 40 ألفاً و 534 عاملاً، وبلغت نسبة المواطنين الذين تتراوح أجورهم ما بين 300 دينار، و699 ديناراً 19 ألفاً و642 مواطناً ، بينما بلغ عدد الأجور للفئة الممتدة من 700 إلى 1500 دينار فما فوق 16 ألفاً و224 مواطناً.وهذا ما يعزز ما ذهبت إليه “الوقت” في استنتاجاتها بأن نصف البحرينيين فقراء.


فلنترك حديث الحاسبات والأرقام ولنقسها على أرض الواقع بكل شفافية فعلى مستوى الشباب.. الكثير يستخدمون سيارات للتنقل تعدت عمرها الافتراضي بعقد من الزمان، وبطبيعة الحال تأتي هذه السيارة في الغالبية دون الاحتياجات الإنسانية كالمكيف، فهل ينطبق وصف “فقر” على هذا المواطن الشاب، بالنسبة إلى الرأي الحكومي فإنه لا ينطبق لأنه يملك سيارة بغض النظر عن نوعها وتاريخ إنتاجها، أما بالنسبة لي شخصياً فهو “منكود”.


شاب آخر يسعى لتوفير رسوم دراسته الجامعية البسيطة نسباً للبعض، عبر عمله كحارس أمن في إحدى شركات الحراسة الخاصة ، ونظام النوبات الذي يعمل به يتعبه ويرهقه ولا يسمح له بقليل من الوقت حتى يراجع ما درسه في اليوم السابق أو ذات اليوم، ولكنه مضطر للعمل حتى يستطيع تأمين الرسوم ومواصلة الدراسة، فهل ينطبق على هذا الشاب وصف فقر؟ ستقول الحكومة بالطبع لا، فهو شاب يعمل، ولا ضير في العمل لأنه يسعى مع الدولة في بناء مجتمع اقتصادي مزدهر، طبعاً لا يعرف هذا الشاب الوضع الاقتصادي المزدهر وقدمه “تفتقت” جراء وقوفه 8 ساعات متواصلة حتى “انقضت” جواربه، فهو “منكود” بلا شك.


وماذا ستقول الحكومة عن امرأة عجزت من طرق أبواب وزارة التنمية حتى تستحق بعض الدنانير لتسد بها جوعها وتكفي حاجتها وتطعم أبنائها، وبعد أن “حفيت” أرجلها عصرت بعض المال عصراً وأنشأت لها مشروعها الخاص واتخذت من منزلها “الآيل” كمشغل لتحضير البهارات والمخللات. طبعاً رد الحكومة سيكون بأن هذه الأسرة متعففة وهي تستحق كل التقدير على مشروعها المثابر، وبتلميع الصورة أكثر عن واقعها، ومن وجهة نظري أنها “عائلة منكودة”.


بل ما الذي ستقوله الحكومة في عجوز تتمشى خلسة بعيداً عن أنظار الناس وتقترب شيئاً فشيئاً من الأرض وإذا بها تلتقط علبة مياه غازية خالية، أتوقع من الحكومة أن تقول بأن هذه السيدة هاوية لجمع العلب الفارغة من باب الهواية، إنها “منكودة” وكفى.


المنكودين في كل مكان في البحرين ويملئون محافظاتها الخمس وليسو متخفين أو غير ظاهرين ونسبتهم كبيرة جداً، ومن المشين أن تخرج وزارة التنمية أرقام إحصائيات لتكذيب ذلك، وتصرح بأنه ليس في البحرين من هو دون خط الفقر، في وقت وصل فيه سعر برميل النفط إلى نحو 140 دولار هل نحتاج فعلاً لإخفاء الواقع المرير بالأرقام المظللة والتصريحات الملمعة؟
 
خاص بالتقدمي

اقرأ المزيد

صـراع الطـوائف والطبقـات فـي العـراق (4 – 4)

صار العراق بدلاً من دولةٍ وطنية حديثة موحدةٍ كياناتٍ تتوجهُ لتكون دولاً مستقلة متصارعة، وكما عبرت عن ذلك ظاهراتٌ تم رصدها سابقاً، فإن الصراعَ الأكبر جرى حول موارد البلد وكيفية رؤية تطوره الاقتصادي. لقد كانت لسلطة الاحتلال خطة خاصة في هذا الشأن، فالاقتصاد في خاتمة المطاف هو بيت القصيد.
في يناير 2007 صدر إعلان النيات بين الرئيس جورج بوش والسيد نوري المالكي وتضمن الالتزام بمبادئ الليبرالية الجديدة، وهي النمط الاقتصادي الذي قلنا إنه يمثل سياسة المحافظين الجدد الأمريكيين وصارت له نتائج كارثية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي في الفترة الأخيرة كما ظهر ذلك في الأزمة المالية، وقد تضمن إعلان الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء العراق، قيام سياسة اقتصادية حرة وتقليص القطاع العام والتركيز في بيع النفط الخام، يقول الباحث الاقتصادي العراقي كاظم حبيب إن ذلك يعني(التخلي عن دور الدولة الكامل في النشاط الاقتصادي وترك المجال كاملاً للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، ونظراً لضعف القطاع الخاص المحلي سيكون الباب مفتوحاً للقطاع الخاص الأجنبي)، وكذلك (التخلي عن التصنيع التحويلي للزراعة)، و(الاعتماد الكامل على الاستيراد وسياسة الباب المفتوح). ومن شأن هذا كله تحويل السوق إلى مؤسسات تمتص النقدَ السائل وتحوله إلى الخارج، ارباحاً وشراءً للبضائع والأجهزة والسلع كافة، وعلى حد تعبير الباحث الاقتصادي السابق الذكر، (إن هذا يعني أن الاقتصاد العراقي يبقى تابعا ومرتبطا عضويا بالنفط الخام والاستيراد الذي يستنزف كامل الدخل القومي). وقد تم التخطيط لهذا كله في ضوء قوة العراق البترولية. 
 قال محسن خان مدير قسم الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولي إنه ( يتوقع أن ينمو الناتج العراقي خلال سنة 2008 بنسبة 7% وأن يستمر النمو بنسبة 7 % أو 8% في عام 2009). وحسب تقديرات صندوق النقد الدولى فإن متوسط إنتاج النفط العراقي الذي يمثل 70% من الدخل الوطني، أو 80% في تقديرات أخرى، بلغ مليوني برميل يوميا خلال الفترة من عامي 2006 و 2007 .  فبلغت إيرادات العراق سنة 2007 نحو 27 مليار دولار في مقابل 20 مليار دولار سنة  2006 . وقال مهدي الحافظ وهو وزير سابق وباحث إن الاقتصاد العراقي مشوه وتعتمد موازنته العامة على فوائض النفط فتبلغ 85% من مجموع مصادر التمويل، ولكن هذه الموازنة تتعرض لجهاز دولة بيروقراطي يعاني قلة الموارد الضريبية، كما تم (رصد موارد غير قليلة لأغراض معينة كفقرة المنافع الاجتماعية لتخصيصات مفتوحة لرئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب وجهات رسمية أخرى التي تفتقر إلى تعريف وضوابط واضحة مما يثقل لوحة الأنفاق العام)، (مهدي الحافظ، دراسة في مجلة الغد الأردنية).
إن المحاصصة السياسية المذهبية على مستوى الدولة تتحول إلى محاصصات مالية وتشكيل قوى بيروقراطية استغلالية تدعم تلك الدويلات الجنينية، مما يحول الصراع السياسي هنا إلى صراع على المصالح الاقتصادية وعلى الميزانية العامة فكل اقليم يطالب بحصة أعلى، وقد حدثت الصراعات على هذه الحصص، فيظهر اقليمٌ مميز وآخر غير مميز. ويعرض برنامج الحزب الشيوعي العراقي ذلك من دون أن يتطرق إلى الأسماء والجهات وحالات الصراع المريرة فيدعو إلى تنفيذ الأهداف التالية: (تصفية مظاهر التمييز والنزعات الشوفينية والتعصب القومي والديني والمذهبي، التي أفرزتها الدكتاتورية المقبورة وحروبها، وفاقمتها سياسةُ الاحتلال وقوى الإرهاب والسياسات الخاطئة في إعادة بناء مؤسسات الدولة)، (نبذ نهج المحاصصات، وانهاء مظاهر الاستقطاب الطائفي، وتكريس نهج الوحدة الوطنية)، (4و5 من فقرة بناء الدولة، برنامج الحزب الشيوعي العراقي).
وهذه تبقى أمنيات في وقت تتوجه سياسة رئيس الحكومة إلى تقزيم القطاع العام الصناعي وعدم تحويل كمية كبيرة من الفوائض للصناعات المعدنية والبتروكيمائية، وعدم انقاذ الزراعة العراقية المنهارة التي راحت تستورد حتى الخضراوات، وكل هذا يتساوق مع السوق المفتوحة الحرة وتغلغل الشركات الأجنبية ومنافع البيروقراطيات السياسية الجديدة التي تموه تبعيتها واستغلالها بالمذاهب الإسلامية والأفكار القومية. وعبر هذه التوجهات ستبقى سياسة الحكومة العراقية سياسة توزيع مالي وليست دولة مالكة لقطاعات عامة تصنيعية، تقود بها اقتصادا وطنيا مستقلا قويا، وتتحول القوى البيروقراطية الحاكمة إلى قوى متنفذة في السوق، وتنشئ علاقات سياسية فوق مؤسسات الدولة العراقية، فكل اقليم يقيم تحالفاته مع الدول الغربية المسيطرة أو مع الدول المجاورة التي تسعى لتفكيك العراق والسيطرة على أقاليمه. ومن هنا أهمية نشوء تحالفات ديمقراطية تحديثية تقدمية تشمل العراق كله، وتنشر ثقافة موحدة وتصنع إرادة موحدة جديدة لعراق ديمقراطي علماني بدلاً من الانزلاق في التخلف والتقسيم.

أخبار الخليج

 13 أكتوبر 2008

اقرأ المزيد

النفط والدولار من أدوات لعب الانتخابات والأزمة

 


لم يعد الحديث عن قرب أفول الحقبة الأميركية على العالم يحرج أحداً الآن. بل أصبح الحرج يواجه السلطات المالية الأميركية المتخبطة في أزمة لن تجد الحل إلا في الخروج من النظام المالي العالمي المبني على النموذج الأميركي.


صحيفة «Les Echos» الفرنسية[1] تقول إنه «ذهب ذلك الوقت الذي اعتبرت فيه نيويورك العاصمة المالية للعالم». صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية تؤكد: «لقد أصبح لأسوأ أزمة مالية بعد الكساد العظيم ضحية جديدة أخرى – هي النمط الأميركي للرأسمالية»، الذي تميز، عن النمط الألماني مثلاً، بأنه يحتقر التوجيه ويعشق المغامرة. ذلك أصبح يفقد واشنطن حقها المعنوي في ترويج مبدأ «laissez-faire» (دعه يعمل) بالنسبة إلى الرأسمالية[2].



أما صحيفة «Der Standard» النمساوية، فتقول إن “أياً من الإجراءات لم تساعد في تخفيف حدة الأزمة، وإنه لا أحد يعرف الإجراءات المطلوبة[3]”. لكن الصحيفة تشير في مكان ما إلى أنه ” لابد من الارتجال، وببساطة مواصلة تجريب كل الأدوات الممكن استخدامها للخروج من الأزمة”.




لقد بينت الأزمة الحالية أن النظم الاقتصادية الأقل تكاملاً مع السوق والنظام المالي العالميين هي الأقل عرضة لضربات هذه الأزمة. وهذا ما أصبح يشجع قادة بلدان كثيرة على الدعوة الصريحة مجدداً إلى بناء نظام مالي واقتصادي عالمي جديد وعادل.




أما البلدان الأكثر ارتباطاً بالاقتصاد الأميركي فلم تتلق آثار ضربات الأزمة القادمة من هناك فقط، بل إنها أصبحت ضحية خطط الإدارة الأميركية في محاولاتها «تجريب» الحلول المختلفة، بما في ذلك على حساب هذه البلدان، ومنها بلداننا خصوصاً. وقد لا يعجب ذلك الكثيرين حتى من الأصدقاء الذين سيدرجون هذا «الإدعاء» ضمن التفكير وفق المبالغات ونظرية المؤامرة. حسناً، لنبدأ بالمؤامرة، ومن أسعار النفط التي نشهد انخفاضها وأسعار صرف الدولار التي نشهد ارتفاعها هذه الأيام.




في مايو/ أيار الماضي بشر بولسون وبرنانكي الأميركيين «بانتهاء» الأزمة استناداً إلى أن الناتج الإجمالي المحلي الأميركي لم يشهد تراجعاً في الربع الأول من العام الجاري  2008 . الحقيقة كانت هي أن النمو سجل فقط بسبب احتساب السلع المنتجة على أساس الطلب القديم، لكن البيع تم في ظروف تراجع هذا الطلب. معطيات الربع الثاني من العام أظهرت أن الإنتاج في أميركا بدأ يتكيف مع الطلب الآخذ في الهبوط، وأن الاحتياطات تقلصت، كما أن الاستيراد انخفض في شهر مارس/ آذار وحده بنسبة 9,2%[4]. ولأن السلطات المالية لم تكن تريد وقف إصدار مزيد الدولارات كما تحدثنا مراراً، ومن أجل تشجيع الطلب الاستهلاكي فقد تم توزيع شيكات على المواطنين في إطار برنامج إعادة الضرائب (يعني برنامج الدعاية الانتخابية). 80% من المواطنين قالوا إنهم لن ينفقوا هذه الأموال على الاستهلاك، بل على سداد الديون وللادخار. وهكذا أسقط في يد السلطات.




ومنذ فشل تلك المحاولة حذر الاقتصادي الروسي المعروف ميخائيل خازن في مقال له نشر في مجلة «بروفايل» في 19 مايو/ أيار الماضي من لجوء السلطات المالية الأميركية إلى إجراء آخر. فبما أن التضخم في الولايات المتحدة يضرب بشدة في أسعار البنزين والمحروقات، فمن الممكن محاولة خفض أسعار النفط العالمية بشكل حاد ولو مؤقتا لمئة دولار للبرميــــل، والأفضـــل إلى 70 ـ 80 د/ب. وكما رأينا فقد تحققت نبوءة خازن وها نحن نشهد منذ الأسابيع الأخيرة تدهوراً سريعاً في أسعار النفط. وقد أوضح خازن في حينه أنه إذا هبطت أسعار النفط قبيل بداية الصيف فإن مفعولها سيبدأ مع بداية الخريف، أي قبيل الانتخابات. ولأن هذا الإجراء وقتي بالتأكيد، لأن الطلب العالمي على النفط في ارتفاع. فقد حذر خازن من أنه إذا عاودت الأسعار الارتفاع فسيضاف ذلك التضخم «الإصداري» الذي قد يقفز مع بداية العام المقبل إلى 25%. غير أن هذا لا يهم الإدارة الحالية لأن المشكلة ستكون خارج «جغرافيتها». أما السؤال الكبير الذي طرحه خازن، فهو: متى ستنتهي «إعادة الإصدار» وتنفجر الأزمة من جديد، قبل الانتخابات في نوفمبر/ تشرين الثاني، أم بعدها مباشرة؟ ولقد جاء الجواب العملي على تساؤله قبل أسابيع، أي قبل الانتخابات وليس بعدها. وهنا أيضاً أسقط في يد الإدارة الأميركية. لكن البلدان المنتجة للنفط دفعت الثمن. من هذا الثمن تراجع دخل البلدان المصدرة للنفط بشكل كبير وإرباك مشروعات التنمية. فإقرار مشروع الموازنة البحرينية المقبلة، مثلاً، سيواجه إرباكاً إذا كان قد اعتمد متوسط سعر برميل النفط بتسعين دولاراً.




اللعبة – المؤامرة الثانية هي لجوء السلطات الأميركية إلى رفع سعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى، ما أثار دهشة الكثيرين كونه يتعاكس تماماً والسياسة النقدية الأميركية طوال السنوات الماضية. وفي حين لا يبدو أن مثل هذا الإجراء يخدم الاقتصاد الأميركي على المدى القريب حيث تفوق صادرات أميركا وارداتها بفجوة كبيرة، إلا أن اللعبة السحرية هنا هي أن ارتفاع سعر صرف الدولار يخفض أسعار السلع المستوردة، أي أنه يستعرض أمام الناخبين حرص السلطات الحالية على مصالحهم. خفض سعر النفط كان أيضاً أداة فعالة لرفع سعر صرف الدولار. وقد جاءت جولات المسؤولين الأميركيين حول العالم منذ الصيف الماضي بهدف إقناع المصارف المركزية «للبلدان الصديقة» بما سمي “شراء الدولار” وسندات الخزانة الأميركية وضخ الأموال عن طريق مختلف القنوات والصفقات التجارية والعسكرية إلى الولايات المتحدة بشكل مستعجل. وقد جرى ذلك في ظل أن أسعار كل الأصول المقومة بالدولار، الأسهم، بـيوع النفط المستقبلية، وغيرها من الأوراق المالية كانت في هبوط طيلة الأسابيع الماضية.




وكما نرى فإلى جانب الآثار التلقائية لانهيار الهرم المالي الأميركي والعالمي، فإن البلدان المرتبط اقتصادها بالاقتصاد الأميركي كانت عرضة لاستخدام أدوات غير اقتصادية، سياسية، للضغط عليها للتضحية من أجل تحقيق «حلول» وهمية لا تخدم الخروج من الأزمة الحالية فعلاً، بقدر ما تخدم أغراضاً سياسية انتخابية للإدارة الأميركية الحالية.


[1] راجع صحيفة «Les Echos» الفرنسية، 10 أكتوبر/ تشرين الأول .2008



[2] انظر صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية،10 أكتوبر/ تشرين الأول .2008



[3] راجع: صحيفة «Der Standard» النمساوية، 10 أكتوبر/ تشرين الأول .2008



[4] لمزيد من الاطلاع، راجع الوصلة:

http://worldcrisis.ru/crisis/428350






 الوقت 13 أكتوبر 2008

اقرأ المزيد

أصوليـــــــة الســـــوق

 


كان على المجتمعات، حكومات وشعوباً، أن تدفع ثمناً باهظاً لكي تختبر الليبرالية الجديدة حظوظها في التطبيق، منذ أن وضع الثنائي الشهير ريغان – تاتشر قواعدها في الممارسة.


المحللون يصفون هذه السياسة بأصولية السوق، التي وجدت تعبيرات لها في مفردات من نوع: الخصخصة، والتحرير، والبنوك المركزية المستقلة التي تركز على التضخم. وأكبر المتضررين من ذلك كانت الفئات الأقل دخلاً والأكثر بذلاً للجهد، وحين أضرب عمال المناجم في بريطانيا، لا عن العمل وحده، وإنما عن الطعام أيضاً احتجاجاً على سياسة تاتشر قالت قولتها الشهيرة: ” دعهم يموتون “، بدل أن تخوض الحكومة مفاوضات معهم حول مطالبهم، كما جرت العادة في التعامل مع حق الإضراب لبلوغ تسويات بين النقابات وأرباب العمل في اتجاه تحسين ظروف العمل وزيادة الرواتب وحماية الضمانات الاجتماعية وتطويرها. لكن هذا الحق أوشك على المصادرة بالطريقة التي تعاطت بها تاتشر يومها مع المضربين، وأسس ذلك لعهدٍ جديد أصبحت فيه الحريات العامة المكتسبة كلها في خطر، حيث فُرضت تشريعات وتدابير مست من الحريات العامة، وجرى فيها انتهاك الحياة الشخصية وكرامة المواطنين.


أنها أزمات بنيوية، وليست مظاهر عابرة يمكن تسويتها، كما يحاول البعض إيهامنا، وأن العالم كله يتضرر من آثارها، كما تضرر من سياسة الهيمنة والعدوان واحتلال أراضي البلدان الأخرى، ودعم أنظمة الاستبداد، ومجمل النهج القائم على الغطرسة والاستخفاف بالتضاريس الثقافية والفروقات الحضارية في العالم، وإخضاعه بالقوة لنهج لا يحظى بالقبول لدى قطاعات تعد بالمليارات من البشر.


في عام 1987 طرح بل كيندي أطروحة فحواها ” أن التوسع الإمبريالي المفرط ” يمكن أن يكون عبئاً على الولايات المتحدة، كما حدث قبل ذلك لبريطانيا. وبناء على هذه الأطروحة بالذات قام بعض المحللين بالمقارنة بين ” واشنطن دي سي ” وبين روما الإمبراطورية ولندن القرن التاسع عشر، ليثبتوا أن تلك العاصمة المتغطرسة، المتعجرفة لإمبراطورية منهارة تحكمها نخبة فاسدة محصنة. ” إن كثيرا مما حدث حينذاك يحدث الآن ” هكذا كتب أحدهم، مُلاحظاً شدة الاستقطاب الاقتصادي واضمحلال الطبقة الوسطى وانتشار الترف، مستنتجاً أن ” أعراض الاضمحلال تقف دليلاً على الاضمحلال ذاته”.


وتبدو الإجراءات السياسية للتعامل مع هذا الوضع أكثر سلطوية، مع تنامٍ في القوة البوليسية وانتشار العداوات العرقية وأعمال التمرد وقمع الحريات الشخصية.  هذا النفس التشاؤمي لا يأتي من هواجس مَرضية أو من مواقف عدائية، لأن الحديث عائد لمؤلفين أمريكان يُحبون وطنهم ويخشون عليه، ومن طبيعة الباحث ذي الحاسة النقدية أن يدفع باستنتاجاته حد التشاؤم لأنه يرى أبعد مما تراه النظرة العجلى التي تبشر ولا تحذر. منذ أكثر من عقدين كان كاتب أمريكي قد لاحظ أن أي ناشر ذكي يعنون الكتب التي تصدرها داره بما يشي بوجود أزمة في أمريكا، لكن آرثر هيرمان مؤلف كتاب ” فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي ” يرى أن هذه الرؤية التشاؤمية تشبه كل الرؤى الخاصة بمستقبل أمريكا.


هناك الكثير الذي يدعو إلى مثل هذا التشاؤم، خاصة مع الأزمة المالية المدمرة التي تعصف بها، وبالنتيجة بالعالم كله، وتدفع إلى حالٍ من التشوش العميق وعدم الثقة في المستقبل.

اقرأ المزيد

ملاحظات حول وحدة عمل قوى اليسار في العراق


يكشف الجدل والنقاش حول وحدة اليسار في العراق الحاجة إلى أن يكون هناك أولاً وضوح بشأن مفهوم اليسار، أي البعد ألمفاهيمي للمسألة، وكيف يتجلى في الواقع العراقي.


يتعين النظر إلى اليسار باعتباره يمثل حركة وقوى اليسار السياسي والاجتماعي، بمعنى أنها لا تقتصر على، ولا ينبغي أن تختزل إلى، مجرد أحزاب وتنظيمات سياسية يسارية. بل إنها تشمل، في جزء أساسي وبالغ الأهمية منها، الحركات الاجتماعية التي تناضل من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، دفاعاً عن الحقوق والحريات الديمقراطية والحقوق النقابية، وعن المكتسبات التقدمية للشغيلة وعموم الشعب، ومن اجل التقدم الاجتماعي والتحولات الراديكالية على صعيد الاقتصاد والمجتمع.


وتدخل ضمن هذا المفهوم لليسار الاجتماعي: النقابات، عمالية ومهنية، ومنظمات النساء والشباب والطلبة، وتنظيمات المثقفين، والحركات المدافعة عن حقوق الإنسان، وجماعات حماية البيئة، إضافة إلى الحركات المطلبية التي تنطلق لتحقيق أهداف محددة (على سبيل المثال: الحملة من اجل وقف العنف ضد المرأة ..).


أنها حركة تتسع صفوفها وتغتني مضامينها وتتنوع أشكالها وأساليب عملها على الدوام وباستمرار.



كيف يتجلى اليسار في الواقع العراقي؟


تتطلب الإجابة على هذا السؤال تفحص الواقع العراقي كما هو، مع التعرف على الإمكانات الكامنة والآفاق الواعدة للتيار الديمقراطي عموماً ولليسار بشكل خاص. نحتاج إلى التعرف على نقاط القوة والضعف في القوى التي تشكّل اليسار، ببعديه السياسي والاجتماعي، والى البحث المتواصل في سبل استنهاضها، وتطوير رؤاها، وقاعدتها الفكرية، وأطرها التنظيمية وأساليب نشاطها.
 
وحدة اليسار .. ماذا تعني؟


هناك تصورات وآراء خاطئة تختزل هذه الوحدة إلى عملية دمج واندماج، وتوحيد تنظيمات، وأشكال فوقية للوحدة، تؤدي بالنتيجة، وفي التطبيق العملي، إلى خلق عراقيل تعيق نهوض اليسار. بدلاً من ذلك، يجب تركيز الاهتمام على وحدة عمل قوى اليسار.


إذا تحدثنا عن “وحدة عمل اليسار”، ستنفتح عندئذ آفاق أرحب وإمكانات أكبر بكثير مما هو عليه الحال في الوقت الحاضر. وستبرز أمامنا عند ذاك أشكال وصيغ متعددة، متنوعة، لوحدة العمل: تنسيقية مثلاً، مؤقتة أو على مدى أبعد.


وستتطور هذه الأشكال وتبرز في مجرى النضال لتحقيق مشروع اليسار ألتغييري، وفي خضم النضالات الوطنية والديمقراطية والمطلبية (التي تجمع على نحوٍ وثيق بين الوطني والديمقراطي والاجتماعي). أي أن هناك ترابطاًً وثيقاً بين خوض هذه النضالات وتطور واغتناء أشكال وحدة عمل قوى اليسار.
عند ذاك، عندما ترتقي حركة اليسار إلى مستويات أعلى، ستفرض مهمات جديدة، أرقى، نفسها، على جدول عمل هذه الحركة.


وستكون هذه الأشكال (لوحدة عمل قوى اليسار) أكثر غنى وتنوعاً مما يمكن التفكير به على الصعيد النظري في الوقت الحاضر، أو يمكن التنبؤ به مسبقاً. ولكن على الشيوعيين، قبل غيرهم في حركة اليسار، أن يلتقطوا الجديد في خضم هذه التحولات، وحتى في أوضاع تتسم بالهيجان والاضطراب، ويُدخلوا إليها (إلى هذه الحركة) عنصر الوعي والتنظيم. وان لا يترددوا في قيادتها إلى جانب أفضل ممثلي هذه القوى الاجتماعية ومنظماتها (النقابية، الديمقراطية، الاجتماعية..)، الأكثر صدقاً وإخلاصاً والتصاقا بقضية الشعب، قضية الديمقراطية الحقة، وتمسكاً بحقوق المواطنة ومبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية، التي تجسّدها الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.


إن الأزمة المستفحلة ومأزق النخب الحاكمة، على كل المستويات، وتعثر مشاريعها، وتوق غالبية الشعب إلى التغيير، يوفر ظروفاً مؤاتية لبناء حركة يسار قوية عميقة الجذور.. تتصدر النضال من اجل القضية الوطنية الكبرى (إنهاء الاحتلال وجلاء قواته والتصدي لمشاريع الهيمنة الأمريكية)، وقضايا الحقوق الديمقراطية والاجتماعية، وخوض الصراع وحسمه لصالح التطور الديمقراطي ودحر مشاريع الدولة الطائفية والاستبدادية، ومهمات إعادة بناء الاقتصاد الوطني والتصدي لمشاريع الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق الحر المنفلت.


وستتحول أفكار ورؤى اليسار الديمقراطي عندئذ إلى قوة تغيير مادية هائلة، بعد أن تستحوذ على عقول وأفئدة الملايين من العراقيين الطامحين إلى التغيير، والى حياة أفضل.. لينخرطوا في حركة تعبّر حقاً عن إرادة غالبية الشعب، وتمكّنهم من إدراك قدرتهم على تحقيق التغيير المنشود بإرادتهم الحرة.


أي أنها، أولاً وقبل كل شيء، معركة أفكار كبرى.. معركة رؤى ومشاريع وبدائل.. وصراع على المستقبل. ويتعيّن على قوى اليسار أن تدرك إن البلاد والمجتمع أمام مفترق طرق، وأن مصيرهما لعقود مقبلة يتوقف على حصيلة الصراع الجاري، على إعادة بناء الدولة، محتواها وشكلها، وما يتمخض عنه. وهذا يتطلب من الشيوعيين المزيد من وضوح الرؤية، والوضوح في الهدف، والسبيل إلى تحقيقه.


وهنا، لا بديل عن التوجه إلى الشعب، ومنظماته وأطرها.. إلى القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الرئيسية في تحقيق أهداف مشروع اليسار، الذي ينسجم في المرحلة الراهنة مع “المشروع الوطني الديمقراطي” الذي أطلقه الحزب الشيوعي العراقي في آب 2007، ولكنه أبعد مدى وأكثر جذرية، خصوصاً على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
 
فهذا هو السبيل إلى تغيير تناسب القوى السياسي والمجتمعي لصالح البديل الديمقراطي .. لابد من العمل بدأب ومثابرة – وهذه هي مهمة اليسار، وفي القلب منه الحزب الشيوعي – على تجميع هذه القوى الحية في تيار شعبي واسع لدعم “المشروع الوطني الديمقراطي”، لينتزع بجدارة، من دون فرض أو افتراض مسبق، قيادة هذا التحالف السياسي – الاجتماعي.. والمضي بثبات على طريق تحقيق البديل الديمقراطي، البديل الوحيد المعوّل عليه بالضد من مشاريع الطائفية السياسية والاستبداد أياً كانت أشكاله.. لإنهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية والاستقلال وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.


__________
قدّمت هذه الملاحظات في الملتقى الفكري الثالث لمنظمات الخارج للحزب الشيوعي العراقي، “ملتقى الشهيد كامل شياع”، المنعقد في لاهاي/هولندا في الفترة 26-28 أيلول 2008، الذي كان مكرّساً للبحث في مستلزمات بناء الدولة المدنية الديمقراطية. 
  
  
  
   
  
 
المصدر:  صحيفة طريق الشعب العراقية

اقرأ المزيد

صراع الطوائف والطبقات في العراق (3)

 


كان انهيار العراق السياسي التحديثي نتيجة الصراع بين حزب البعث العربي الاشتراكي وبين الحزب الشيوعي العراقي، فهاتان القوتان التحديثيتان واجهتا بعضهما بعضا كما قلنا في صراعات دامية، ثم توصلتا إلى ما يُعرف بالجبهة الوطنية القومية التقدمية، وكان مشروعا وطنيا مهما، لولا توجه صدام حسين للقضاء عليه والقضاء على التوجهات الوطنية الديمقراطية داخل حزب البعث نفسه.


كانت القوى الاستعمارية والمحافظة في المنطقة تسعى لهدم الجبهة، التي كانت لو استمرتْ لكانت أساساً للاستقرار في العراق والمنطقة، فهي على الأقل سوف تخففُ من وطأةِ القيادة الفردية المطلقة ومغامراتها. ولكن صدام اتخذ الجبهةَ فخا لاصطياد كوادر الحزب الشيوعي والانقضاض عليه كعادة تكتيكاته.


هذا الأساسُ المضطربُ تشكل على صراعاتٍ ضارية ومنافسات منذ انقلاب يوليو (تموز) سنة 1958، وقبل هذا كان العراق مسرحاً لأعمال عنف لم تتوقف. كذلك كان التحالف التحديثي يحتاج إلى قوى اجتماعية من الطبقات الحديثة وإلى ازدهار صناعي وكان هذا كله مفتقداً. وكان يحتاج إلى قواعد حزبية عميقة الثقافة سواء بفهم الماركسية أو القومية، يقول أحد الباحثين العراقيين المعروفين: (وبطبيعة الحال يتحملُ الشيوعي حصة غير قليلة من وزر الأحداث المؤلمة التي انزلق فيها بغرور الكثرة الهابطة النوع بعد عام 1958. فلو سألنا أعضاء بارزين في الحزب، من الذين قضوا صامدين خلال التعذيب، كم منهم أدركَ نظريةَ رأس المال؟)، (وأتذكر إني اطلعتُ في أرشيف( جريدة اتحاد الشعب)، (25 آذار 1959)، على برقية أبرقتها منظمة الحزب في منطقة من مناطق الأهوار إلى الزعيم عبدالكريم قاسم تطالبه ببناء مستوصف، وإقامة طريق بري، وتطهير الجهاز الإداري من الفاسدين والخونة وخاصة البلدية والخروج من حلف بغداد)، (مقالة لرشيد خيون في الشرق الأوسط، 16 مايو 2007).


 كان غمرُ الأحزابِ بجموعٍ شعبيةٍ محدودة المعرفة والزج بها في الصراعات السياسية من أكثر المخاطر التي خربت الحزبين البعثي والشيوعي، وحين يتم تسليح هذه الجموع فإن الكوارث تتعاظم بشكل مأساوي، (وهو شكلٌ من الممارسة السياسية تستعيدها الآن التنظيماتُ السياسية المذهبية).


وبطبيعة قسوة وقوة النظام السابق الأمنية لم يستطع الحزب الشيوعي أن يفعل شيئاً ورغم التحالفات المتعددة، فانها لم تغير شيئاً، ودفعت المجازر والهجرة أعضاء المعارضة إلى التعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا لإزالة النظام، وهم في حالةِ تعبٍ سياسي وإنهاك وعوز مادي. (ولم تنجح القوى السياسية العراقية في إقامة التحالف المنشود القادر على إسقاط النظام.. دفعها الإحباط والشعور بالعجز إلى إقامة التحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا لإسقاط النظام. واتخذ الحزب الشيوعي موقفاً واضحاً وصحيحاً من الحرب إذ رفضها، رغم انه كان يريد الإطاحة بالنظام بقوى الشعب الخاصة، ((كاظم حبيب باحث اقتصادي عراقي، الحزب الشيوعي العراقي والأحداث الجارية في العراق، من موقع الناس الإلكتروني).


كان العملُ مع القوى المذهبية السياسية والقومية المحافظة في أثناء تأسيس النظام الجديد قد جعلَ الحزبَ الشيوعي غير قادرٍ على الدفاع عن نظام علماني ديمقراطي وعن عراق موحد، وهي الأهداف التي لم يسعَ لها بقوة حتى في العهود السابقة، فالعلمانية والفصل بين الدين والسياسة لم يكونا من أولوياته، لعمله بين الجمهور المسيس الديني، الإمامي غالباً، وبهذا انساق مع المناخ السياسي الجديد يحاول أن يوجهه صوب الحداثة والديمقراطية، فصعدت القوى الدينيةُ المذهبيةُ وراحت تفرضُ مشروعَ التقسيم ومناطقها التابعة للقوى الإقطاعية المذهبية والعشائرية. يضيف الدكتور كاظم حبيب في نقده لسياسة الحزب: (وخلال فترة التحالف مع القوى السياسية العراقية كان الحزب الشيوعي يكف في الغالب الأعم عن تقديم النقد العلني والمجاهرة بملاحظاته إزاء القوى المتحالفة معه، خاصةً إذا كانت تلك القوى في السلطة، وكان يعمد إلى ممارسة النقد الذاتي وعبر مذكرات خاصة). لكن القوى الدينية المحافظة تزداد شهيتها كلما وجدت هذا التراخي من قبل القوى التقدمية، فتوسعُ مشروعَ الارتداد إلى الماضي، وكان نموذجاً لهذا ما فعله أحدُ المسؤولين الكبار في الحكم تجاه القوانين المتعلقة بالأسرة والمرأة. (قرر مجلس الحكم بجلسته المنعقدة بتاريخ 29/12/2003 ما يلي:
1 – تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يخص الزواج والخطبة وعقد الزواج والأهلية واثبات الزواج والمحرمات وزواج الكتابيات والحقوق والرضاعة ونفقة الفروع والأصول والأقارب والوصية والإيصاء والوقف والميراث وكافة المحاكم الشرعية (الأحوال الشخصية) وطبقاً لفرائض مذهبه).
2 – إلغاء كل القوانين والقرارات والتعليمات والبيانات وأحكام المواد التي تخالف الفقرة (1) من هذا القرار. 3 – يعمل به من تاريخ صدوره، رئيس مجلس الحكم عبدالعزيز الحكيم.
ويقول كاظم حبيب إن هذا القرار لم يُعرف به ولم يشكلْ الحزبُ الشيوعي حملةً ضده، أو حتى يذكره، رغم معارضة نائبه في مجلس الحكم هذا القرار، ولم يتم إلغاؤه إلا من قبل الحاكم الأمريكي وقتذاك وهو بريمر.


لم يحتج سوى 80 منظمة نسائية وهي المتضررات من قرارات رجال الدين المحافظين الذين راحوا يوسعون سطوتهم الفئوية على الأقاليم والعامة.

 
هذا الانزلاق اليساري باتجاه السيطرة المحافظة اليمينية يقود إلى تجذر القوى المذهبية المحافظة، التي تتوجه إلى استثمار العبادات الإسلامية وتحريكها بشكل جماهيري واسع، مما يرفد هذه الأحزاب بقوى الناس العادية الجاهلة التي لعبت الأدوار السلبية نفسها في صراع الحزبين البعثي والشيوعي سابقاً، وعبر هذا تقوم بعرقلة نشوء عراق تحديثي ديمقراطي. واستغلال الشعائر والمقولات الإسلامية هو عمليات تمويه موسعة لهذه القوى الجديدة في حراكها من أجل المال والنفوذ، ولو كان ذلك صحيحاً لالتزموا بدعوة الإسلام الكبرى من أجل الوحدة وترك المذهبيات السياسية الممزقة للشعوب. في حين كان انزلاقُ البعث بعد خروجه من السلطة إلى العشائر العربية السنية وإلى التعاون مع القاعدة يعبر عن خراب آخر. وهكذا وجد حزبا التحديث أنفسهما بصراعهما الطويل الضاري أنهما يمشيان وراء القوى الطائفية والعشائرية المتخلفة الممزقة لخريطة العراق الوطنية. وحين تم التخفيف من الهجوم على المؤسسات الوطنية خاصة الجيش وإعادة بعض الضباط والجنود وغير هذا من إجراءات بدأ بعض أنسجة الوحدة الوطنية تتراءى وحدثت تطورات على صعيدي التطور الاقتصادي والأمن، ولكن كل هذا لا يكفي من دون الانعطاف عن سياسة المحاصصة الطائفية والعودة إلى النهج الوطني العراقي العلماني.


 


أخبار الخليج 12 أكتوبر 2008
 

اقرأ المزيد

صـراع الطـوائف والطبقـات في العـراق (2)

 


لقد بدأ النظامُ العراقي الجديد طائفيا مهمشا كقدرةٍ عسكرية وطنية عبر حل الجيش العراقي وتسريح ضباطه وجنوده وعدم إعطائهم حقوقهم المعاشية وضرب الإدارة الوطنية، فكان ذلك سبباً في انضمامِ عددٍ كبير منهم للجماعات الخارجة على القانون، وبتغييب قوة سياسية إدارية مركزية وجعلهما بيد الأمريكيين.


وكانت محاكماتُ النظام شكلاً آخر لطبيعة النظام الطائفية فتوجهتْ المحاكماتُ رأساً إلى قضية الدجيل بدلاً من المسار الطبيعي لقضايا النظام الإجرامية وأولاها إعدام مجموعة من الكوادر البعثيين الكبار ثم إبعاد الرئيس البكر ثم تأتي القضايا الأخرى. بطبيعة الحال إن مثل هذه المحاكمات لو جرت سوف تظهر أن في البعث قوى مختلفة، ولكن الحاكمين ليسوا في حالةٍ عقلية وطنية تسمحُ لهم بمثل هذه القراءة الرحبة الحكيمة. كان الثأر من حزب البعث والجيش يحملُ رغبةً إجرامية في تصفية الحداثة العراقية الوطنية، أكثر من كونه يمثل عقابا سياسيا مشروعا، وهذه العملية بالتالي ابتعدت عن المحاكمة العقلانية لنتاج النظام السابق، فخلطت بين جرائم مجموعات عسكرية وأمنية وسياسية بعثية وبين مشروع حداثة وطنية فيه أخطاء كبيرة، لكنه صاحب إنجازات وأفضل من الارتداد للوراء، والعودة للطائفية والتبعية، وبهذا قام أصحابُها بمحاكمةِ فرد وجماعةٍ أكثر مما حللوا تجربة سياسية كبيرة.


كان جسمُ البعث والليبراليين والجيش والتجار فيه أكبر قوى الفئات الوسطى، وهو الذي راكم منجزات الحداثة على مدى عقود، ولكن المشروع الأمريكي لتغيير العراق لم يبدأ من إصلاح الجيش والبعث والإدارة، بل توحد مع القوى المذهبية السياسية المحافظة، فيغدو نظام الدويلات الثلاث تتويجاً لذلك بحيث تتحول إلى دول صغيرة تسيطر عليها قوى المحافظين الاجتماعيين من إقطاع ورؤساء عشائر وتجار كبار متحالفين معهم يغدون وكلاء الشركات المتعددة القومية. إن عدم تطبيق قوانين الدولة الحديثة؛ قوانين العلمانية والديمقراطية والوطنية، أي رفض تشكيل أحزاب دينية ومناطقية، يعني التقسيم الواسع المتدرج والانهيار لحلم (الفيدرالية)، فهما يؤديان إلى الانفصال.


إن هذا كان يتطابق مع رؤى المحافظين الجدد في البيت الأبيض الذين راحوا يدخلون المسائل الدينية في السياسة، ويؤكدون سوقا مفتوحة مطلقة تقع في قبضة شركاتهم، وتلغي القطاعات العامة في الدول، وهي ركائز الدول الوطنية المستقلة حديثاً في العالم الثالث، وتعيدها لتكويناتها التقليدية، وهو المشروع الذي سنرى تجسيداته المختلفة في العراق. لقد صارت القوى المذهبية السياسية والليبرالية والشيوعية الرسمية الموجهة من قبل الإدارة الأمريكية هي القوى المؤثرة على الساحة العراقية، ولم يكن بإمكان الإدارة الأمريكية تنفيذ البرنامج العلماني الديمقراطي، فهي ذاتها تراجعت عنه في بلدها، وكان تنفيذ ذلك يعني الصراع مع التوجهات المذهبية الكردية والشيعية الغالبة على ساحة قوى(التغيير)، ولكن التحالف مع هذه القوى يعني تشكيل نظام الدويلات الثلاث، وحل المؤسسات الوطنية خاصة الجيش. وتصعيد قواها السياسية وقدراتها العسكرية. (وهذا من جهةٍ أخرى في تلك اللحظة من السيناريو المتشكل يتوافق مع رغباتِ كل دول المنطقة في إضعاف العراق عسكريا. وفيما بعد ستعارض الدولُ المذهبيةُ السنية هذا السيناريو فيظهر الجيشُ العراقي الجديد المحدود وقوات الصحوة لأحداثِ شيءٍ من التوازن وتصعيد الدويلة السنية الطائفية).

 
ولهذا سنرى إن أقصى هذه التوجهات يتوجه نحو إعلان مشروعه الطائفي أو القومي اللاوطني، وعبر الاستعانة بالمنظمات المسلحة، في حين إن أقصى اليسار سيرفض هذه المساومات ويطالب بدولة عراقية من دون فيدرالية أو كونفيدرالية، أي من دون سيطرات الإقطاعيات المذهبية المحلية في الأقاليم الثلاثة.


تقول إحدى تنظيمات أقصى اليسار: (وبموجب تلك الأدلة التي وردت فيما تقدم فإن الفيدرالية هي أطروحةٌ رجعية وضد الحرية من منظار الحرية والمساواة ومن منظار الحزب الشيوعي العمالي وتتناقض مع المصالح الإنسانية لجماهير العراق بمجمله. نحن لا نرفضها فقط بل نشجبها وندينها أيضاً، ونصر ونؤكد مقابل الفيدرالية دولة واحدة. ومن الضروري في هذا السبيل توحيد الصف النضالي للجماهير التحررية والمضطهدة في كل مناطق العراق ومن ضمنها كردستان من أجل إقامة حكومة غير قومية وغير دينية علمانية تتضمن المساواة في الحقوق لكل المواطنين)، (الحزب الشيوعي العراقي العمالي).


إن القوى الاجتماعية العشائرية والمذهبية المحافظة تقوم بتنمية سيطرتها على اقليم جنوب العراق بشكل متدرج، فقد سيطرت هذه القوى على الشمال، اقليم كردستان، فيما لم يستطع السنة العشائريون فعل شيء من هذا القبيل بسبب تأخرهم في استثمار العملية السياسية، وبهذا فإن وضع اليد السياسية على هذه الأقاليم يتضمن السيطرة على الموارد المالية فيه أو على النصيب الكبير من الموارد الوطنية، ثم توسيع السيطرة السياسية وطرد المنافسين وتكوين الميليشيا وتكريس خطابها الطائفي في التعليم وأجهزة الثقافة المختلفة، وبالتالي تظهرُ ملامحُ الدولةِ الطائفية المكتملة، وإذا كانت كردستان قد اكتملتْ في هذه السيطرة وكرستْ دولتَها ولم يبق سوى أن تستولي على مدينة (كركوك) المتنازع عليها فجأة بين الأقاليم الثلاثة، لشهيتها الكبيرة في التهام النفط، فإن الإقليمين الآخرين هما في الطريق إلى ذلك، فلا توجد دولةٌ وطنيةٌ تتنازعُ على مدينة داخلها. لا يمنع كردستان من الانفصال سوى الدولة التركية في الشمال التي ترفض مشروعات الدول الطائفية. يحدد الحزب السابق الذكر الطبيعة الاجتماعية لهذا المشروع : ( من النتائج الأخرى للفيدرالية أنها تصبح سبباً في جر جماهير كل منطقة تحت جناح وقوة جماعة رجعية وستدار كل منطقة حسب قانون معين حسب ماهية القوة السائدة بحجة الثقافة والدين والمذهب)، (ستصبح سبباً لإضفاء الهوية القومية والطائفية والعشائرية على كل منطقة)، (الحزب الشيوعي العمالي).


 
أخبار الخليج 11 أكتوبر 2008
 

اقرأ المزيد

ماركس‮ ‬يعود‮ – ٢‬

بين ردود الفعل الكثيرة التي‮ ‬تلقيتها حول الحلقة الأولى من هذا المقال،‮ ‬أودُ‮ ‬الإشارةَ‮ ‬إلى ما كتبه لي‮ ‬الكاتب الشاب خالد المطوع من أن الموضوع ذكّرهُ‮ ‬بمسرحية المؤرخ الأمريكي‮ ‬هوارد زن‮: »‬ماركس في‮ ‬أمريكا‮«.‬ الكاتب اللبناني‮ ‬الراحل عصام محفوظ نقل هذا النص الجميل من ترجمته الفرنسية إلى اللغة العربية،‮ ‬ليصدر عن دار الفارابي‮ ‬في‮ ‬بيروت عام ‮٥٠٠٢‬،‮ ‬وهوارد زن،‮ ‬شأنه شأن الكثيرين ممن أشرت إلى بعضهم في‮ ‬الحلقة السابقة لم‮ ‬يكن ماركسياً،‮ ‬واللافت أيضاً‮ ‬أن عصام محفوظ‮ ‬يُشير في‮ ‬مقدمة الترجمة العربية إلى أن الناشر الفرنسي‮ ‬قال‮: ‬إن كون النص تُرجم ونُشر في‮ ‬فرنسا على‮ ‬يد‮ ‬غير الماركسيين‮ ‬يؤكد أن المسرحية تُخاطب وجدان‮ ‬غالبية المواطنين الذين هُم في‮ ‬طريق الاستعباد الكامل للتوحش الرأسمالي‮.‬ أما هوارد زن نفسه فيقول‮: ‬انه بهذا العمل المسرحي‮ ‬أراد أن‮ ‬يُنقذ ماركس من التشويه الذي‮ ‬لحق به من قبل المحللين والمنظرين الذين شاءوا توحيد الماركسية بالأنظمة القمعية،‮ ‬وأن‮ ‬يجعل ماركس‮ ‬يُبدي‮ ‬غضبه إزاء الذين استغلوا فكره لغير الغاية منه‮.‬ تتخيل المسرحية أن ماركس قد بُعث اليوم من قبره وذهب إلى أمريكا بالذات،‮ ‬موقع الرأسمالية المعاصرة الأول،‮ ‬ليجد أن الصحف الصادرة تؤكد أن أفكاره قد ماتت،‮ ‬مُلاحظاً‮ ‬أن هذا الأمر‮ ‬يتكرر منذ أكثر من مائة سنة،‮ ‬قائلا‮: »‬ألا تتساءلون معي‮ ‬لماذا‮ ‬يضطر هؤلاء المهرجون لتكرار إعلان موتي،‮ ‬طالما كُنت قد مت بالنسبة لهم؟‮!«.‬ في‮ ‬المسرحية‮ ‬يُخاطب ماركس الجمهور قائلاً‮: »‬صُحفكم تقول إن أفكاري‮ ‬قد ماتت،‮ ‬لكن اسمعوا معي‮ ‬هذا الخبر المنشور في‮ ‬صحيفة اليوم‮: ‬أقل من خمسمائة شخص‮ ‬يتداولون حوالي‮ ‬مليارين من الدولارات كأسهمٍ‮ ‬تجارية،‮ ‬هل هؤلاء أفضل من الآخرين أو أكثر نبلاً،‮ ‬أم لأنهم‮ ‬يكدون في‮ ‬العمل أكثر من‮ ‬غيرهم؟ هل هم أكثر نفعاً‮ ‬للمجتمع من أم لثلاثة أطفال لا تقوى على دفع فاتورة التدفئة في‮ ‬الشتاء؟ ألم أقل لكم قبل قرن ونصف القرن،‮ ‬أن الرأسمالية سوف تُضاعف الثروة العامة،‮ ‬لكنها ستحصر هذه الثروة أكثر فأكثر بأيدٍ‮ ‬أقل فأقل‮«.‬ خصم الماركسية اللدود جاك دريدا أيقن في‮ ‬نهاية حياته أن لا مناص من التصالح مع أفكار ماركس،‮ ‬ففاجأ الجميع بكتابه الشهير‮: »‬أطياف ماركس‮«‬،‮ ‬مؤكدا أن العودة لماركس ضرورية لمواجهة التوحش الرأسمالي‮.‬ المنصفون من المحللين‮ ‬يدركون أن ما قاله ماركس في‮ ‬القرن التاسع عشر،‮ ‬وهو‮ ‬يحلل الرأسمالية،‮ ‬تتبدى صحته بسطوع في‮ ‬الأزمة المالية العالمية الحالية التي‮ ‬تحولت إلى انهيار اقتصادي،‮ ‬مؤكدة فشل أيديولوجيا السوق الحرة العالمية‮ ‬غير المنضبطة،‮ ‬وتجبر حتى حكومة الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات عامة منسية منذ الثلاثينيات‮. ‬الضغوط السياسية تُضعف من الآن التزام حكومات الاقتصاد الليبرالي‮ ‬الجديد نحو عولمة‮ ‬غير مراقبة،‮ ‬غير محدودة وغير منظمة‮.‬ في‮ ‬وصف وقع الأفكار الاشتراكية تقول الجملة الأولى لـ‮ »‬المانفيستو‮« ‬الصادر في‮ ‬منتصف القرن التاسع عشر،‮ ‬وبالعبارات البليغة لماركس‮: »‬شبح‮ ‬يطوف في‮ ‬أوروبا اتحدت في‮ ‬وجهه قوى أوروبا القديمة كلها‮: ‬البابا والقيصر،‮ ‬المحافظون الفرنسيون والبوليس الألماني‮«. ‬وبعد مائة وستين عاماً‮ ‬بالتمام والكمال،‮ ‬فان شبح هذه الأفكار،‮ ‬وهي‮ ‬تخرج من تحت الرماد نافضةً‮ ‬عنها‮ ‬غبار الجمود،‮ ‬ما انفك‮ ‬يُقلق كل القوى التي‮ ‬تستحوذ على السلطات والثروات‮.‬ أكاديمي‮ ‬غربي‮ ‬بارز‮ ‬يقول‮: ‬بالنسبة إلى أي‮ ‬شخص مهتم في‮ ‬الأفكار،‮ ‬أكان طالباً‮ ‬جامعياً‮ ‬أم لا،‮ ‬من الواضح تماماً‮ ‬أن ماركس سيظل واحداً‮ ‬من أعظم العقول الفلسفية والمحللين الاقتصاديين في‮ ‬القرن التاسع عشر‮.‬ من المهم أيضاً‮ ‬قراءة ماركس لأنه لا‮ ‬يمكن فهم العالم الذي‮ ‬نعيش فيه اليوم من دون أثر كتاباته في‮ ‬عالم اليوم‮. ‬وأخيراً،‮ ‬يجب أن نقرأه لأنّ‮ ‬العالم،‮ ‬كما كتب بنفسه،‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتغير بشكل فعّال إلا إذا فُهم‮.‬ ما فعله الفلاسفة حتى الآن،‮ ‬يقول ماركس في‮ ‬إحدى أطروحاته عن فيورباخ،‮ ‬هو تفسير العالم،‮ ‬فيما المطلوب هو تغييره‮.‬
 
صحيفة الايام
12 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد