المنشور

العلمانية التركية والسنة والحداثة

ليست العلمانية الإسلامية التركية الوطنية سوى محاولة أولى للمسلمين للخروج من استغلال الإسلام لمصالح القوى المحافظة. فالذكور لا يريدون أن تتحرر المرأة وتتسع حقوقها مثلما فعل أجدادهم المحافظون في كبت وحرمان النساء. والطبقات الغنية تجد في الدين غموضا سياسيا اجتماعيا تستطيع أن تتلاعب من خلاله بمصالح الشعوب والعاملين. والحداثيون درجوا من جهة معاكسة على ذم الإسلام واحتقار تاريخ المسلمين، وتعميم صفات الطبقات الغنية التي تحكمت في إنتاج نسخ الدين المشوهة واعتبارها هي الإسلام.
لكن تاريخنا التحديثي العروبي الإسلامي الإنساني يجب أن يخرج من هذه القيود، ويحتاج إلى جهود فكرية وسياسية مبدعة، لن تأتي بسهولة نظراً لتباين المواقع وتعدد مستويات الفهم وتناقض المصالح المؤقتة غالباً. وقد مثلت التجربة التركية قفزة نحو ذلك، لأسباب تاريخية جعلت من تركيا مثل هذه البؤرة التجريبية لعالم المسلمين.
كان المذهب الحنفي من أكثر مذاهب أهل السنة تحرراً وعقلانية، ولكن القبائل البدوية التركية التي اعتنقت هذا المذهب في غابر الأيام لم تفهمه بشكل دقيق، ولا يعود الأمر سوى لتحكم الأمراء وفرضهم تبني المذهب، من دون ثقافة كبيرة في ذلك الزمن.
ولعل من أهم الأسباب في ذلك أن أصول الإمام أبي حنيفة النعمان كانت تركية.
لكن هذا التبني كانت له نتائجه المفيدة على الشعب التركي في العصر الحديث، فهذا الشعب البدوي المترحل استقر في أرض كبيرة، وكون امبراطورية كبيرة، واستفاد من غنائم الأمم في تشكيل مدنه، واقترب من أوروبا التي كانت متخلفة وراحت تتطور وتؤثر في الشعب التركي وتحدثه، مرة بانتزاع مستعمراته، ومرة بفرض الحداثة عليه.
لقد استفاد الاتراكُ من تبني المذهب الحنفي الذي يُقام على الاجتهاد من دون الخروج عن الأصول، وبإعطاء العقل مكانته الكبيرة في فهم الإسلام ومقاربته للعصور وللتقدم.
لقد كان الفقهاء الحنفيون مثالاً لتكوين الفرضيات وقراءة المستقبل ومحاولة تطوير النصوص الدينية لحاجات مسلمي اليوم، فكان تقدم المسلمين يقع في بؤرة اهتمامهم، فقد فهموا أن النص في خدمة البشر وليس أن البشر في خدمة النص.
وهذه بداية فهم كبيرة لكون الإسلام ثورة «نهضوية« لكنها جرت بين سكان متخلفين، فكان عليه أن يراعي ظروفهم، ولا يتجاوز قدراتهم، ولكن هؤلاء الناس راحوا يتطورون وعجز فقهاء كثيرون عن اللحاق بهذا التطور، في حين إن الفقه الحنفي أحس بهذا المضمون المتواري من دون أن يصل إليه، بسبب ان منهجية الفقهاء حينذاك تركز في الفقه الجزئي وليس الفقه الكلي، فقه التغيير الشامل، ومع هذا فقد كان هذا الفقه الجزئي المرن في تلك العصور مهما.
وقد أحس الاتراكُ وهم يرتفعون في تاريخهم إلى ذروةِ الصراعات التاريخية العالمية الكبرى في العصر الحديث بأهمية تطور المذهبية نحو أفق العصر، ولم تأتِ إليهم هذه المعرفة العفوية إلا من تجارب مريرة مثل هدم الامبراطورية العثمانية، واستعمار الشعوب الإسلامية، وإلغاء الخلافة، واحتلال بلادهم، وتحولها من امبراطورية إلى بلد تابع.
وقد فهم مؤسسو تركيا الحديثة الإسلام بالفهم الشكلاني للعصور الماضية نفسه، مثلما فهموا الحداثة الغربية بذات الطريقة الشكلانية، ولاتزال الغالبية الكبرى تفهم الدين والحداثة على أنهما أشكال من الأزياء والشعارات.
فيكفي بعض الشعارات والأزياء لإنشاء الحداثة وللابتعاد عن الماضي المتخلف؛ البس قبعة، أزل الحجاب، عش مثل الغرب، وسوف تتحقق الحداثة. أو على العكس سوف يتحقق الدين من الأشياء المعاكسة: البس، وضع الديكور ويتحقق دينك.
حتى هذه الشعارات كان لها بعض القيمة، فحتى الملابس تحولت في تاريخنا إلى شكل من الاستبداد والسيطرة على عقول النساء، بدوافع الخوف من الاثم والأخلاق الفاسدة، وهي دوافع نبيلة غير أنها شكلانية، لأن الأخلاق العالية لا تتحقق من لباس.
لكن العلمانيين العسكريين الأتراك جاوزوا ذلك لبعض مضامين التحديث الغربي، لكن المطابقة مع التحديث الغربي تتطلب ثورة صناعية، أي تحتاج إلى فوائض مالية ضخمة من عمل الناس، لم تتوافر في بلد فقير، وطبقته الحاكمة توجه الأموال للخارج والبذخ.
وهذا الفشل العلماني العسكري التركي يعود لنهج الطبقة الحاكمة ولا يعود للعلمانية التحديثية، فقد نجحت هذه العملية المتجاوزة للتخلف في روسيا والصين واليابان والهند، بسسب الحريات المتعددة المعطاة للناس، وللتركيز في التصنيع والتعليم وليس في قهر عادات الناس، وهي مرحلة حدثت في بلدان أخرى، ولكنها ما لبثت أن تخلت عنها مركزة في التطور الجوهري.
وقد عاد الاتراك للصراع على الحجاب والمشروبات وقضايا الأكل، كشكل من أشكال عدم المقاربة مع الثورة الإسلامية، وعبر التركيز في الفقه الجزئي، الذي لن يغير حياة المسلمين، بل تغيرها سياسة ثورية إصلاحية توزع الأرض على المعدمين، وتوسع التصنيع والثورة التقنية، ولا تجعل الأتراك بلداً يوزع عماله على الخارج، وبلداً يحرر القومية الكردية من الاضطهاد ولا يبعثر ميزانيته المحدودة في الحرب ضدها.
من المؤكد انه إذا لم يستطع الجيل الراهن المقاربة مع التراث الإسلامي وآفاق التحديث الديمقراطي، فإن جيلاً آخر سيقوم بالمهمة، وقد أعطته تجربة الشعب التركي الغنية إمكانية لفهم جدلية التضفير بين الماضي والحاضر، بين تراث المسلمين الديمقراطي، وخاصة الفقه الحنفي، وبين الحداثة العالمية المعاصرة التي قام كل شعب بالمساهمة فيها بقسطه الخاص.
وتعني العلمانية هنا عدم التجارة في التراث وتعني الأسلمة عدم تدمير وإلغاء الماضي العريق للشعوب، وأن على الطبقات الحاكمة والمؤثرة أن تخلق تركيباً بين الثورة الصناعية و«العدالة« الاجتماعية وحقوق القوميات والأقليات وحرياتها الخاصة في عباداتها ولغاتها.
مقاربة السنة للعلمانية ستكون أكبر من بقية المذاهب الإسلامية بسبب عملية الانفتاح والمرونة في الأحكام الفقهية وخاصة في المذاهب الثلاثة الكبرى المعتدلة، التي عاشت في المدن وركزت في الاجتهاد ومصالح الناس وتقدم الأمة والابتعاد عن الحكم والذوبان داخله.

صحيفة اخبار الخليج
29 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

على هذا الكوكب شعوب أخرى‮!‬

حتى الآن ما زال جُهدُ‮ ‬الترجمة العربية موجهاً‮ ‬للنقل من اللغات الأوروبية‮. ‬ليس تحت أيدينا بيان أو إحصاء بهذا الخصوص،‮ ‬ولكن نظرةً‮ ‬عامةً‮ ‬على الكتب المترجمة تجعلنا على‮ ‬يقين من أن هذه الكتب نُقلت إما عن الفرنسية أو الانجليزية أو الروسية،‮ ‬وفي‮ ‬العقدين الأخيرين عن الاسبانية‮.‬
وبالتالي‮ ‬فان‮ »‬الآخر‮« ‬بالنسبة إلينا كقارئين للترجمات،‮ ‬هو الآخر الغربي‮ ‬الذي‮ ‬كُدنا نختصر فيه العالم،‮ ‬ناسين أن في‮ ‬هذا العالم لغات أخرى عريقة ثرية شكلت وعاء خصبا لثقافات عظيمة خاصة في‮ ‬آسيا،‮ ‬وليس من سبب‮ ‬يدعونا لعدم الاهتمام بالثقافات الصغيرة أو بالأحرى ثقافات الشعوب الصغيرة،‮ ‬فمثل هذه الثقافات قادرة هي‮ ‬الأخرى على أن تقدم أسماء لامعة في‮ ‬مجال الإبداع والفكر‮. ‬
‮»‬كافكا‮ «‬مثلاً،‮ ‬ينتسب إلى شعب أوروبي‮ ‬صغير هو الشعب التشيكي‮. »‬لوكاش‮«‬،‮ ‬الذي‮ ‬كان لفترةٍ‮ ‬طويلةٍ‮ ‬علامةً‮ ‬مُهمةً‮ ‬في‮ ‬الفلسفة والنقد،‮ ‬ينتسب هو الآخر إلى بلد صغير هو المجر‮. ‬وقد لا تُضاهي‮ ‬ايطاليا صيت فرنسا وبريطانيا،‮ ‬ولكنها أعطت أسماء مُهمةً‮ ‬في‮ ‬الحقل الثقافي‮ ‬تخطى صيتها وأثرها نطاق أوروبا‮. ‬من‮ ‬يستطيع،‮ ‬مثلاً،‮ ‬أن‮ ‬يبحث في‮ ‬مفهوم المثقف أو مفهوم المجتمع المدني‮ ‬من دون أن‮ ‬يكون قد قرأ شيئاً‮ ‬لغرامشي‮.. ‬وهكذا دواليك‮.‬
‮ ‬لكننا ما زلنا في‮ ‬دائرة الآخر الغربي،‮ ‬الأوروبي،‮ ‬وننسى أننا،‮ ‬كعرب،‮ ‬موزعين على قارتين عظيمتين هما آسيا وإفريقيا‮. ‬هنا كان مهد الحضارة العالمية،‮ ‬ولكن جهلنا بثقافة وأدب شعوب هاتين القارتين‮ ‬يكاد‮ ‬يكون مُخزياً‮. ‬
ماذا نعرف عن ثقافة الهند مثلا؟ حتى طاغور وصَلنا كصدى لاهتمام الغرب به،‮ ‬لسنا من اكتشفهُ‮ ‬أو سعى لمعرفته‮. ‬وماذا عن الصين،‮ ‬ثقافةً‮ ‬وتاريخاً‮ ‬وأدباً،‮ ‬إذا ما استثنينا تلك الشذرات التي‮ ‬قدمها بعض المأخوذين بعمق هذا البلد وغرابته وعراقته مثل الراحل هادي‮ ‬العلوي؟‮ ‬
ومن نعرف من الباكستان سوى محمد إقبال،‮ ‬وماذا نعرف عن إيران القريبة جدا التي‮ ‬تشاطرنا التاريخ والجغرافية‮. ‬إن‮ »‬الآخر‮« ‬القريب منا،‮ ‬الآخر الشرقي،‮ ‬والآخر المسلم،‮ ‬الآخر الآسيوي‮ ‬والآخر الإفريقي،‮ ‬مجهول تماما أو‮ ‬يكاد‮ ‬يكون مجهولاً‮ ‬من قبلنا‮. ‬
الترجمة إلى العربية،‮ ‬إذاً،‮ ‬ليست عشوائية فقط وخاضعة لمبادرات المترجمين أنفسهم،‮ ‬وإنما هي‮ ‬أيضا انتقائية في‮ ‬اختيار اللغات التي‮ ‬تجري‮ ‬الترجمة منها،‮ ‬وليس خافياً‮ ‬علينا أن المركز الحضاري‮ ‬العالمي‮ ‬هو اليوم في‮ ‬الغرب،‮ ‬سواء كان ذلك‮ ‬يروق لنا أو لا‮ ‬يروق،‮ ‬لكن هذا المركز كان دائم التنقل من قارةٍ‮ ‬إلى قارة على مدار التاريخ الإنساني،‮ ‬وليس من المؤكد انه سيبقى في‮ ‬المكان الذي‮ ‬هو فيه الآن‮.‬
ولكن من شأن المركز أن‮ ‬يكون بؤرةَ‮ ‬الجديد في‮ ‬كل شيء،‮ ‬بيد أن العالم هو دائماً‮ ‬في‮ ‬حالة سيرورة وتحول،‮ ‬وبوسع شعوب وبلدان مغمورة حالياً،‮ ‬أو قابعة في‮ ‬الجانب المعتم من دائرة الضوء أن تكون لها مساهماتها الثرية في‮ ‬الفن والإبداع والفكر والفلسفة‮. ‬
لقد طالَ‮ ‬أمدُ‮ ‬التفاتنا إلى الغرب،‮ ‬حتى كادت رقابنا تنحني‮ ‬لشدة وطول انحنائها إلى هناك‮. ‬ألم‮ ‬يحن بعد وقت تدريب هذه الرقاب على الالتفات شرقا؟‮!‬

صحيفة الايام
29 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

صراع الطوائف والطبقات في لبنان (4 – 4)

ليست المصالحات اللبنانية تقوم على ارض صلبة، بل هي مصالحات تكتيكية، نتيجة لتغير ظروف خارجية، خاصة لتوجه سوريا للمفاوضات مع اسرائيل بشكل سري، مما جعل القوى المتصلبة تدرك أن لا شيء ثابت وقوي في الدول العربية الشمولية. تغدو المصالحات توافقات تكتيكية ولا تدخل الى عظم الهيكل النخر للنظام الطائفي، فلم تصل حتى وثيقة الطائف إلا إلى محاصصات طائفية، وواصلت القوى السياسية العيش والعمل في نظام القرن التاسع عشر من دون تغيير جوهري. فالقوى التقليدية تظل هي السقف المسيطر ولا احد قادر على تشكيل ثوابت الحداثة في النظام، لتستمر صراعات القوى المذهبية التقليدية، بشكل ثم تتصارع بشكل آخر، من دون احداث تراكم ديمقراطي وطني. بعض قوى اليسار اتخذت مطالب العمال والكادحين لتأييد جهة طائفية ضد اخرى، وليس لتغيير حياة هؤلاء باتجاه وطني شامل.
ان المحاصصة الطائفية وتوزيع الكراسي والوزارات ثم توزيعها بشكل آخر ثم اجراء مواجهات دامية وغير هذا من العاب السياسة، تجعل فريقي السلطة والمعارضة، او فريقي السلطة الآن، يواصلان تمزيق لبنان، واعداده لمذبحة اخرى. هل يمكن لبعض الفرقاء اللبنانيين كتحالف تيارات المستقبل والكتائب واليسار الديمقراطي والحزب الاشتراكي التقدمي ان يؤسسوا تياراً ديمقراطياً لبنانياً توحيدياً؟ ليس ذلك ممكناً وهم قد اعتمدوا على نفس الاسس الطائفية في بناء تنظيماتهم السياسية، باستثناء اليسار الديمقراطي، ولم يفصلوا بين السياسة والدين، ولم يشكلوا فريقاً فكرياً واحداً يعتمد عناصر الوطنية والعلمانية والخطوات الوطنية المتفق عليها لتغيير حياة اغلبية الشعب، فذلك لو حدث يتطلب اعادة قراءة تاريخ لبنان، وطرح فهم مغاير للأديان عن الرؤية التقليدية الاقطاعية السائدة، وتشكيل علاقة تعاون معينة واستراتيجية بين الفئات المتوسطة والعمال. وليس ذلك بسبب ان ايران دولة دينية شمولية تريد فرض نموذج الدولة الدينية هذه فقط، بل لأن كل دول المنطقة غير قادرة على تصعيد مثل هذه الدولة الوطنية العلمانية، فتغدو الصراعات ثم الحروب هي المعجلة لمثل هذا الحل، وهي كوارث بامتياز. وتغدو هذه اشد واقسى في لبنان بسبب التاريخ والتكوينات الطائفية الكثيرة التي تم استعراضها سابقاً، وبسبب كون الفلاحين والعمال لا يحصلون على حياة تليق بهم. واذا رأينا الكتل السكانية المذهبية فسنجد ان كتل الفقراء الواسعة الكثيفة هي التي تدعم السياسات المذهبية المعارضة، وسنجد ان الطوائف التي تحوزُ نسبة كبيرة من الثروة الوطنية هي التي تدعم الطائفية المحافظة، والتبعية. ولكن مختلف الطبقات والقوى السياسية لا تعترف بأن الصراع على الثروة والحكم هو سبب المشكلات لا الاديان والمذاهب. وبسبب هذا الصراع على الثروة المتشابك مع الحكم تـُقام علاقات غير وطنية وتحالفات فوق رؤوس المواطنين وتعدهم لمشروعات رهيبة. ويخف الصراع ويشتد بسبب هذا التداخل، وفي بلد بمثل هذه الفسيفساء يغدو عسكرياً عنيفاً في قممه الحمقاء. اخذت قوى عديدة تريد فض الاشتباك بين المذاهب والسلطة، بين الثروة والحكم. يقول احد الكتاب (ثمة خياران: إما ان تغرق المنطقة في سلسلة حروب طائفية تفضي في النهاية لاستهلاك طاقة الطائفة ذاتها، وهذا ما تفعله الصراعات العنيفة دائماً اقصد استهلاك الطاقة الكامنة في عواملها، وإما ينتصر الوعي والعقلانية، وتنتفض شعوب المنطقة لتمسك يدها بمصيرها، وتختصر مساراً طويلاً من الالم والدم والخراب)، (معقل زهور عدي، الصراع الاجتماعي والانقسام الطائفي). نرجو ألا تنتفض الشعوب بل ان تراكم الثقافة الديمقراطية الحديثة وتتشبع بها احزابها المناضلة، وتغير من القوانين العتيقة والتشكيلات السياسية المذهبية واحتكار السلطة والثروة، لان الانتفاضات عادة دامية حادة، ولا تتصف بعقلانية سياسية ولكنها غير مستبعدة. وقد توصلت اغلبية المجتمعين في ندوة توحيد اليسار اللبناني الى افكار مهمة مثل هذه: (وجدوا ان اليسار يفتقد تنظيما قادرا على بلورة شكل الصراع، من خلال تكوين الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة، وان جزءًا من اليسار اتخذ قراره بدعم دولة المؤسسات بحجة ان النظام اللبناني ليس رأسمالياً، وان اليسار لم يعرف كيفية التعاطي مع تشوه الصراع واصلاح هذا التشوه، ورأوا ان دور اليسار يكمن في تسليط الضوء على الصراع الطبقي بمواجهة الاقطاب التي تعطي هذا الصراع طابعاً طائفياً، وفي رفض الصراعات الفئوية والطائفية، بالاضافة الى اعادة صياغة شكل الوعي والعمل على تحقيق مكاسب اكبر للطبقة العاملة)، (ملتقى اليسار اللبناني، 2007). ان تكوين مصالح وثقافة لليسار الموحد لا ينفصل كذلك عن توسيع بذور العناصر الديمقراطية والعلمانية والوطنية في كل الاتجاهات الاخرى، ففي النهاية سوف تظل القوى الوسطى هي المسيطرة على السلطة، لكن باتجاه تلك الثوابت التحديثية. والنظام اللبناني ليس رأسمالياً حديثاً على المقاس الغربي، ككل الانظمة العربية، فهو نظامٌ انتقالي بين الاقطاع والرأسمالية، ودرجات الانتقال تحددها تطوراتُ القوى المنتجة والوعي والتشكيلات السياسية، ونمو السياسة التحديثية يتشكل باستبصار هذه العوامل الموضوعية والذاتية المتداخلة وتوظيفها لمصلحة الاغلبية من السكان بغض النظر عن مذاهبهم واديانهم.

صحيفة اخبار الخليج
28 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

زمن الروّاد

دور الروّاد‮ ‬يجب ألا‮ ‬يُؤخذ مفصولاً‮ ‬عن المرحلة التي‮ ‬ظهروا فيها‮. ‬فتلك كانت مرحلةً‮ ‬رياديةً‮ ‬في‮ ‬أمورٍ‮ ‬كثيرة‮: ‬في‮ ‬السياسةِ‮ ‬وفي‮ ‬الفكرِ‮ ‬وفي‮ ‬الأدبِ‮ ‬وفي‮ ‬الفن،‮ ‬وكانت إرهاصاتُ‮ ‬العديد من المبدعين قد تفتّحت على شكل مشاريع نهضوية،‮ ‬استقلالية،‮ ‬تحررية،‮ ‬وعلى شكل أعمال إبداعية رديفة أو موازية‮. ‬ كانت تلك مرحلة قطعٍ‮ ‬مع ماضٍ‮ ‬تآكلت شرعيته التاريخية لصالح مستقبلٍ‮ ‬واعد،‮ ‬يضج بالأحلام والآمال الكبيرة،‮ ‬ولهذا المقطع الزمني‮ ‬الحاسم كان رجاله ونساؤه من المبدعين والمبدعات الذين اصطلحنا على تسميتهم بالرواد‮.‬ والريادة كما هو واضح من الكلمة تعني‮ ‬البداية،‮ ‬بداية ارتياد طريق جديد أو فكرة جديدة،‮ ‬ولتحقيق ذلك تتضافر عوامل مختلفة،‮ ‬بعضها موضوعية وبعضها ذاتية،‮ ‬موضوعية بمعنى أن الظروف السياسية والاجتماعية قد تهيأت لتحقيق النقلة إلى الجديد،‮ ‬والذاتية بمعنى أن الرائد نفسه‮ ‬يجب أن‮ ‬يكون على قدر من الموهبة والنضج الفكري‮ ‬والقدرة على تحسس الحاجة إلى التجديد والجرأة التي‮ ‬تتجسد في‮ ‬المغامرة بطرق دروب جديدة‮ ‬غير مألوفة،‮ ‬مع ما قد‮ ‬يجره ذلك من أتعاب ومتاعب،‮ ‬وهذه صفات توفرت بقدرٍ‮ ‬يزيدُ‮ ‬أو‮ ‬ينقص عند الرواد العرب‮.‬ لكن ليس ضرورياً‮ ‬أن‮ ‬يكون الرواد أكثر موهبةً‮ ‬واطلاعا من مبدعين لاحقين لهم،‮ ‬انطلقوا مما أنجزه هؤلاء الروّاد وتجاوزه بكثير،‮ ‬ولم تتهيأ لهم أسباب الشهرة والانتشار التي‮ ‬تحققت للرواد،‮ ‬وليس جائزاً‮ ‬ما‮ ‬يردد أحياناً‮ ‬من أن الإبداع توقف بانتهاء عصر الرواد أو‮ ‬غيابهم،‮ ‬فبعدهم جاءت تجارب إبداعية أهم وأنضج،‮ ‬بعضها نال حظهُ‮ ‬من الانتشار والبعض ظل مغموراً‮.‬ وأعتقد أن الزمن سينصف هذه التجارب في‮ ‬وقت لاحق‮. ‬وعلينا ألا ننسى أن الظروف قد تغيرت كلية،‮ ‬فنحن الآن في‮ ‬فترة نكوص وتراجع وخيبة آمال،‮ ‬وفي‮ ‬حياتنا الفكرية والثقافية تتدهور قيم العقلانية والتنوير والتسامح والاجتهاد الحر الجريء،‮ ‬لصالح المزيد من الانكفاء على الذات والتحجّر والجمود،‮ ‬وأظن أن مناخاً‮ ‬كهذا‮ ‬يحجب الإبداع الحقيقي‮ ‬ويطمسهُ،‮ ‬خاصةً‮ ‬في‮ ‬غياب المرجعيات الفكرية والمشاريع المستقبلية. ‬ ولكن علينا ألا نغفل أهمية آمال إبداعية كبرى في‮ ‬حياتنا،‮ ‬فالحديث عن نضوب الإبداع‮ ‬غير دقيق،‮ ‬لأننا نتعاطى مع تجربة الرواد كتجربة منجزة،‮ ‬أدت دورها،‮ ‬أصبح بإمكاننا أن نقيمها ونحن على بعدٍ‮ ‬زمني‮ ‬كافٍ‮ ‬منها،‮ ‬أما إبداع اليوم فهو تجربة تُعاش،‮ ‬تتبلور،‮ ‬تتحول‮. ‬إنها في‮ ‬حالة صيرورة وتَشكلْ‮.‬ ولا بد من انتظارِ‮ ‬بعض الوقت حتى‮ ‬يمكن أن تُقَيّم هذه التجربة،‮ ‬ونحن على بعدٍ‮ ‬كافٍ‮ ‬عنها،‮ ‬هي‮ ‬الأخرى كذلك.
 
صحيفة الايام
28 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

الوطن والمواطن والتنمية في‮ ‬الخطاب الملكي‮ ‬

في‮ ‬افتتاح الدور الثالث للفصل التشريعي‮ ‬الثاني‮ ‬لعام ‮٨٠٠٢ ‬أشار جلالة الملك في‮ ‬خطابه السامي‮ ‬إلى مجمل الأمور المستقبلية القريبة منها والبعيدة،‮ ‬وقد تعرض لقضايا حيوية كثيرة تهم وطننا وحياتنا المعيشية والتنموية كمواطنين‮ ‬ينظرون للمشروع الإصلاحي‮ ‬منذ ولادته بروح التفاؤل التاريخي،‮ ‬بكونه المخرج الذي‮ ‬ولد لحظة الاحتقانات الطويلة،‮ ‬فكان المشروع بمثابة ولادة جديدة ة ما زلنا في‮ ‬ديمومة مخاضها ونتائجها التي‮ ‬تتبلور‮ ‬يوما بعد‮ ‬يوم رغم التحديات والصعوبات والتعرجات المتعددة من كافة الأطراف،‮ ‬فهناك سيل من المعوقات التي‮ ‬ستظل لوقت من الزمن وبحاجة إلى حكمة الصبر والمرونة والعمل،‮ ‬واستيعاب المتغيرات والعوامل الداخلية والخارجية،‮ ‬فبدون فهم تلك المعادلة تصبح رؤية الشعب لقراءة المشروع الإصلاحي‮ ‬ناقصة وضيقة‮. ‬ما طرحه الخطاب هذه المرة من رؤية اقتصادية،‮ ‬ليس إلا حلقة مكملة للرؤية السياسية التي‮ ‬جاء بها المشروع الإصلاحي،‮ ‬وإذا ما تأخرت تلك الرؤية لسنوات سبع نتيجة انشغالات سياسية في‮ ‬ملفات كثيرة مبعثرة ومشتتة تارة ومتوترة ومترهلة تارة أخرى،‮ ‬فان الانعطافات والمرتكزات الجديدة في‮ ‬هذا الخطاب تمحورت في‮ ‬المشروع الاقتصادي،‮ ‬فكان محوره‮ ‬يتركز في‮ ‬أهمية وقيمة المواطن والوطن والتنمية،‮ ‬والتي‮ ‬لم تكن‮ ‬غائبة عن البال طوال تولي‮ ‬الملك سدة الحكم،‮ ‬فقد ظلت هاجسه في‮ ‬تلك السنوات،‮ ‬إذ لم‮ ‬يخلُ‮ ‬خطاب أو لقاء أو مواد ونصوص في‮ ‬الميثاق والدستور إلا وتضمنت تلك الاهتمامات الجوهرية للإنسان البحريني،‮ ‬الذي‮ ‬هو أثمن قوة رأسمال للوطن،‮ ‬فالبحرين ستظل دائما لا تعتبر النفط هو المرجع الدائم لحيويتها بعد أن تنضب تلك الثروة،‮ ‬وإنما عقل وإنتاج إنسانها هو ضمانة وجودها ورخائها‮. ‬لهذا منح الخطاب الملكي‮ ‬المواطن البحريني‮ ‬الخيار الأوحد والمستفيد الأول من ازدهار خيرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في‮ ‬مملكة البحرين‮. ‬ولكي‮ ‬تترجم كل تلك النصوص والخطب واللقاءات الملكية،‮ ‬فعلينا أن نبني‮ ‬جسورا من الثقة المتبادلة بين السلطات الثلاث في‮ ‬مناخ الحريات المتواصلة والمعمقة القائمة أساسا على احترام حقوق الإنسان البحريني‮ ‬وسيادة الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية والدستورية والمدنية،‮ ‬بل وعلى ذلك المواطن أن‮ ‬يستوعب الفكرة الجوهرية من معنى أن‮ ‬يكون هو المحور الذي‮ ‬تدور حوله كل تلك الحركة التنموية،‮ ‬ومطلوب منه كمواطن أن‮ ‬يستوعب دوره المستقبلي‮ ‬في‮ ‬موازنته بين الحقوق والواجبات وبفهم متطلبات المرحلة الحساسة في‮ ‬عالم متقلب بالأزمات وبعواصف كاسحة لا تحتملها اقتصاديات دول صغيرة تعتمد على النفط وحده،‮ ‬كمورد من مواردها ومصدر من مصادر رفاهيتها وازدهارها‮. ‬لهذا‮ ‬يصبح الإنسان البحريني‮ ‬مستقبلا طاقة إنتاجية حيوية تعتمد على اقتصاد المعرفة والاستثمار المتاح في‮ ‬مجال التعليم والتقنيات المتقدمة،‮ ‬ومن‮ ‬يفكر خلاف ذلك فإن التاريخ لن‮ ‬يرحمه‮. ‬من عاش معنا السنوات السبع بكل تقلباتها وهمومها،‮ ‬لا‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يعيش في‮ ‬حلقة التشاؤم والعجالة والقفز الأهوج،‮ ‬وفي‮ ‬ذات الوقت لا‮ ‬يجوز لنا أن نسترخي‮ ‬لكل تلك التراجعات والبطء في‮ ‬أحلام تحويل البحرين كدولة حديثة ومتطورة تناسب الألفية الثالثة،‮ ‬وتعيش روح العصر بعقل مفتوح على كل ما‮ ‬يدور خارج حدودنا ومملكتنا،‮ ‬فما عدنا في‮ ‬عالم العزلة والانغلاق والتزمت والخوف‮. ‬ما كرسته السنوات السبع من ثقافة جديدة لدى شعبنا،‮ ‬خاصة الجيل الشاب،‮ ‬انه صار‮ ‬يتفاعل مع كل حدث هام كالخطب الملكية الهامة،‮ ‬فهي‮ ‬بمثابة الشأن الأساسي‮ ‬الذي‮ ‬يهم حياته ومستقبله ومستقبل أبنائه،‮ ‬فصار المناخ العام للحريات المتاحة والإعلام المتدفق في‮ ‬مجالاته المتعددة ودور الجمعيات السياسية والمهنية واهتمامها،‮ ‬بكل ما‮ ‬يدور في‮ ‬قلب المجتمع من‮ ‬غليان،‮ ‬مما جعلنا اليوم إزاء ثقافة مختلفة عن كل المرحلة السابقة التي‮ ‬عرفناها‮. ‬دون شك أن الخطاب الملكي‮ ‬كان‮ ‬يتضمن جوانب عدة وحسب التوصيفات المتنوعة له كخارطة الطريق،‮ ‬والتي‮ ‬نود أن تكون خارطة أفضل من تلك الخرائط العربية المتعثرة،‮ ‬فخارطتنا البحرينية لها سماتها وخصوصيتها في‮ ‬مسك الخيوط التي‮ ‬نتوسم فيها طريقنا الحقيقي‮ ‬في‮ ‬ظلمة الأحداث العالمية المتأزمة‮. ‬ولكي‮ ‬تصبح التنمية مثمرة ومؤثراتها مجدية فان الاستقرار السياسي‮ ‬مهم،‮ ‬ليتيح للاستثمار العالمي‮ ‬والخليجي‮ ‬والعربي‮ ‬مجالا لاختيار الأمكنة الهادئة ولأبواب مفتوحة وحاضنة،‮ ‬فبدون ازدهار اقتصادي‮ ‬للوطن فان مستوى دخل الفرد لن‮ ‬يتقدم ولن تنتقل حياته الى الأفضل،‮ ‬مثلما لن‮ ‬يكون الوطن زاهرا بمواطن لا‮ ‬يستوعب دوره وحقوقه‮. ‬وقد كان محقا بروتوغوراس عندما قال إن الإنسان معيار الأشياء جميعا،‮ ‬وسيكون هذا الإنسان هو المواطن البحريني‮ ‬الذي‮ ‬ينتظر الوطن منه الشيء الكثير،‮ ‬مثلما‮ ‬ينتظر ذلك المواطن من وطنه أن‮ ‬يحتضنه تحت سقف حياتي‮ ‬آمن ومعيشة هانئة بكرامة ورخاء،‮ ‬وحقوقا تحفظ له كرامته وتصونها‮. ‬مجتمع‮ ‬يدرك معنى أن تتعايش فيه المرئيات المختلفة أيا كان نوعها،‮ ‬وتتحاور فيه الأفكار والثقافات والإيديولوجيات المتناقضة بروح من النقد الأخوي‮ ‬المسؤول،‮ ‬فخارطة الطريق البحرينية المنشودة تعلمنا أن العنف والفوضى لن‮ ‬يكون إلا عدوا لدودا لتنميتنا الاقتصادية المنتظرة،‮ ‬والذي‮ ‬لن‮ ‬يكون طلسما سحريا علينا انتظاره في‮ ‬بيت من زجاج نقذفه بأحجار من نار‮.‬

صحيفة الايام
28 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

الرؤية الاقتصادية 2030 هل تبعث هلبرايت حياً؟

في 15 من الشهر الجاري استذكر كثير من الاقتصاديين والسياسيين الاقتصادي الأميركي الكبير جون غينيث هلبرايت في ذكرى ميلاده المئة. درس هلبرايت الاقتصاد في جامعات هارفارد، كاليفورنيا وبرينستون. لم يكن نظرياً فحسب، بل وعمل تطبيقياً مع إدارات أربع رؤساء أميركيين: روزفلت، ترومان، كيندي وجونسون. رأس الجمعية الاقتصادية الأميركية ونال كثيراً من الجوائز والأوسمة ومراتب الشرف. اعتبره كثيرون ممثلاً لاتجاه المؤسسية الذي اختلف مع الليبرالية الجديدة. انطلق هلبرايت من المقدمة الآتية: «يجب أن يواصل المجتمع الرأسمالي تحمل المسؤولية الكاملة إزاء مواطنيه الأقل حظاً، فيقدم لهم المساعدات غير المشروطة التي يجب أن ترفع من مستوى حياتهم ثم يؤمن لهم تشغيلاً أكبر». نُعتت وجهة نظره بالمعنوية الأخلاقية – وهي الركيزة التي بني عليها نظرياته.
كان هلبرايت يحذر من أن أميركا تخطئ دائماً عندما تأخذ في اعتبارها اعتماد التقدم بشكل مباشر على نمو الناتج المحلي الإجمالي. حسب هلبرايت، يجب أن يقاس التقدم بأعداد الناس الذين تم تأمين المكان الكفء لهم في المجتمع، وليس شيئاً آخر. وهكذا، فإن الهدف الأساسي للدولة الرأسمالية، من وجهة نظره، هو إجراء الإصلاحات الرامية إلى تحسين حياة الطبقة الدنيا. والأداة الرئيسة هنا هي ضمان العمل اللائق. وكل الأهداف الأخرى – اشتقاقية ليس إلا[1].
كان يسعى إلى إبراز ميزات دور الدولة في الاقتصاد وكذلك آليات السوق التي حذر من اقتفائها بشكل أعمى. وليته لم يرحل بعد ليشهد الانهيار الأعظم من «انهيار 1929 العظيم». وكان هذا هو عنوان كتابه «The Great Crash 1929» الذي اعتز به أكثر من أي من كتبه الكثيرة[2].
ركز هلبرايت اهتمامه على دراسة آليات ظهور وسريان حياة المجتمع العالي التطور الذي أطلق عليه اسم «المجتمع الصناعي الجديد»، ويمكن إطلاق هذه التسمية على المجتمع «المعلوماتي» العالي التطور، أو المجتمع الذي تهيمن فيه التقنيات العليا. مبادئ نشأة هذا المجتمع، أو فلسفته إذا شئتم، هي المادة الأساسية التي يبحثها هلبرايت.
باعث الحديث عن هذا الاقتصادي الكبير ليس فقط ذكرى ميلاده المئوية، وإنما أيضاً تصادفها وإعلان عاهل البلاد يوم الخميس الماضي الرؤية الاقتصادية للمملكة حتى العام .2030 وفي ظروف الأزمة المالية التي تعصف بالعالم من أقصاه إلى أقصاه يشكل طرح رؤى تنموية خاصة ببلد ما، وبأفق استراتيجي يمتد لأكثر من عقدين من السنوات خطوة جريئة، لكنها مطلوبة بإلحاح. فلا آفاق لتطوير لا يستند إلى رؤى برنامجية واضحة المعالم ومبنية على أسس علمية. والرؤية الاقتصادية 2030 جديدة شكلاً ومضموناً. المضمون الجديد، وللمرة الأولى، يقدمه النص بتحديد كمي وزمني: «يتمثل الهدف الرئيس للرؤية في زيادة دخل الأسرة الحقيقي إلى أكثر من الضعف بحلول العام 2030[3]». وهذا يذكرنا إلى حد بعيد بالهدف الإنساني الذي صاغه هلبرايت للنموذج الاقتصادي للمجتمع الصناعي، المعلوماتي أو القائم على التقنيات العليا.
وبالجرأة نفسها، وللمرة الأولى أيضاً، يجري الحديث عن «أداة» تحقيق الهدف عبر: «تغيير نموذج النمو الاقتصادي الحالي[4]». حقاً، من دون تغيير النموذج الحالي لن يحدث تقدم حقيقي. لكن الرؤية تطرح ذلك بمعنى «تصحيح» العلاقة بين قطاع الدولة والقطاع الخاص لصالح الأخير: «اقتصاد يحفزه القطاع الخاص المبادر، وتوجد فيه المؤسسات والمشروعات التي تعتمد على معدلات إنتاجية عالية..»، «.. ما يوفر فرص عمل مجزية للمواطنين البحرينيين[5]». لنبق في إطار تصحيح العلاقة بهذا المضمون. هنا لابد من تساؤل: عندما تكون الدولة مهيمنة على قطاع النفط – القاعدي لأي نموذج للتنمية المستدامة، فهل يمكن الحديث عن دور ريادي للقطاع الخاص فيها، وما نوعه؟ كأن ممثلي القطاع الخاص وفي يوم إعلان الرؤية نفسه، حيث افتتح معرض البحرين للعقارات، أوحوا بجواب محدد: «أصبح القطاع العقاري المحرك الرئيس وراء انطلاق مسيرة التنمية. وتمتلك البحرين اليوم مشروعات تقدر قيمتها بنحو 15 مليار دولار[6]».
وتشير تصريحات أخرى إلى أنه حيث حقق ارتفاع أسعار النفط فوائض للعام الثالث على التوالي، فإن «المستفيد الرئيس من هذا الوضع هو قطاع التطوير العقاري وتطوير البنية التحتية[7]». أما بالنسبة إلى المستقبل فيرى ممثلو هذا القطاع أنه «لاتزال البحرين في طليعة منحنى النمو لكونها أول بلد في المنطقة يمنح مشتري العقارات حق التملك الحر[8]». وهكذا، فإن مفهوم التنمية لديهم يختزل في مفهوم «التنمية العقارية» الذي درج في الأدب الاقتصادي منذ فترة، وفي بلد يشكل فيه شح الأرض مشكلة اجتماعية واقتصادية كبيرة. القطاعات الأخرى التي ينشط فيها القطاع الخاص، محلي وأجنبي، هي المال والاتصالات لما تحققه من ربحية عالية في فترات، لكنها تقود إلى أزمات في فترات لاحقة.
لكي تنجح الرؤية في بلوغ غاياتها الاجتماعية فإن هناك حاجة بالفعل إلى تصحيح علاقة قطاع الدولة بالقطاع الخاص. قبل كل شيء عبر الأدوات الضريبية الفعالة والعادلة التي تمتص فائض الدخول لصالح الفئات الاجتماعية الأقل حظاً والتي تجعل من القطاع الخاص شريكاً حقيقياً، بقوة القانون وليس بالإحسان فقط، في عملية التنمية المستدامة بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. كما أن النظام الضريبي هو ما سيجبر المؤسسات الاقتصادية على العمل بمبادئ الشفافية والإفصاح ويطهرها من الفساد الإداري والمالي، إذ لابد من كشف كل الدفاتر والملفات أمام الدولة. النظام الضريبي يمكن أيضاً أن يستخدم كأداة فعالة لحفز إدخال التكنولوجيات والتقنيات الحديثة في الإنتاج ولتشجيع قطاعات اقتصادية معينة عن طريق المفاضلة الضريبية التي تخدم إعادة البناء الاقتصادي. وبغير ذلك ما كان لأشد الاتجاهات يمينية في أميركا إبان «الريغانية» في الثمانينات تخفيف العبء الضريبي إلا بشرط حفزه إعادة البناء التكنولوجي.
هذه الأخيرة، أي إعادة البناء الاقتصادي بتغيير نوعية الاستثمار وإحداث توازن وترابط القطاعات الاقتصادية وإدخال وتوطين التكنولوجيات والتقنيات المتقدمة ووضع القطاع الخاص في هذا المجرى والمصب، هي أساس التغيير الحقيقي لنموذج التنمية الحالي إلى النموذج المنتج والعالي الإنتاجية والتنافسية، والموفر لفرص العمل اللائق والمجزي، بما يحقق للرؤية 2030 هدفها الإنساني المعلن والنبيل حقاً. فهل من خلال هذه الرؤية سيطل علينا جون كينيث هلبرايت من خلال مستشارين ببصيرته؟
[1] انظر ذلك في www.inosmi.ru، 15 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
[2] انظر: صحيفة «ذي غارديان» (The Guardian) 15 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
[3]، [4]، [5]: الرؤية الاقتصادية لمملكة البحرين .2030
[6]، [7]، [8]، «عالم العقار»، ملحق صحيفة «الوسط» البحرينية، 23 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
 
صحيفة الوقت
27 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

العدد الجديد من (الدراسات الاستراتيجية)

حفل العدد الجديد من مجلة الدراسات الاستراتيجية، التي يصدرها مركز البحرين للدراسات والبحوث ويرأس تحريرها الدكتور محمد بن جاسم الغتم، بالعديد من الدراسات والموضوعات التحليلية القيمة الهامة، فضلاً عن عروض الكتب ومراجعاتها وملخصات القسم الإنجليزي، والوثائق والمستندات الصادرة خلال الفترة ما بين صدور العدد السابق والعدد الجديد الاخير.
وجاءت محتويات العدد في قسم الدراسات والبحوث تحت العناوين التالية: «المخاطر الدولية الجديدة« لإدريس لكريني، «كيفية تعظيم الاستفادة من اتفاقية التجارة بين امريكا والبحرين«، لهشام حنضل عبدالباقي، «موقع قزوين والخليج في امدادات الطاقة« لأروى ياسين.
أما أبرز عناوين قسم التحليلات السياسية فقد جاء على النحو التالي: «بحر قزوين في السياسة الدولية« لفصيح بدرخان، «الحوار الثقافي العربي الاوروبي بالاسكندرية« لعبدالنبي العكري، «المجمع الصناعي العسكري والسياسة الخارجية الامريكية« لرضي السماك.
وفي قسم مراجعات الكتب: «عميد النهضة خليفة بن سلمان« مراجعة نعمان جلال، «تقاطعات العنف والارهاب« مراجعة أحمد القرعى، «الديمقراطية وحوار الثقافات« لميساء الذوادي.
كما جاءت ملخصات القسم الانجليزي غنية بعناوينها المهمة التي تتناول قضايا سياسية معاصرة: «ملامح سوق تقنيات الطاقة الشمسية الحرارية« لابراهيم عبدالجليل، «الدور الاوروبي في الخليج« لروبرتو البوني، «حول مستقبل البشرية«، «نظرة جديدة علي غاندي« لنعمان جلال.
وفي قسم الوثائق: البيان الختامي للقمة العربية، قرار مجلس الأمن حول الملف النووي الايراني، حوافز الدول الكبرى لإيران، انشاء جائزة الملك عبدالله للحوار الحضاري.
ولعل من اهم الدراسات الواردة في قسم الدراسات دراسة هشام عبدالباقي عن كيفية تعظيم الاستفادة من اتفاقية التجارة الحرة بين مملكة البحرين والولايات المتحدة ويتناول فيها الباحث الآفاق المتاحة لجعل البحرين جاذبة للاستثمارات الاجنبية المباشرة أو الاستثمارات المشتركة في مجال انتاج السلع والخدمات المتبادلة بين البلدين في ضوء نصوص بنود الاتفاقية وآليات تطبيقها.
وإذ يتناول البحث مفهوم الطاقة الاستيعابية للاستثمار وأهميتها للاقتصاد البحريني ومحددات التوسع فيها، ويخلص للتوصيات اللازمة التي تساعد صناع القرار على التوسع في الطاقة الاستيعابية في ضوء الاتفاقية، فإننا بحاجة الى دراسات استشرافية لأثر ازمة الاسواق المالية العالمية الآخذة في الاحتدام، وفي مقدمتها الامريكية، على آفاق الاستفادة من الاتفاقية ذاتها ذلك بأن الدراسة من الواضح انها أعدت قبيل التفاقم الاخير لهذه الازمة الامريكية والمطرد يوماً بعد يوم.
اما في قسم عروض الكتب فقد جاء عرض ومراجعة محمد نعمان جلال لكتاب ابراهيم المبيضين «عميد النهضة خليفة بن سلمان« مركزاً ووافياً في الايجاز والتحليل حيث حدد عاملين رئيسيين لأهمية الكتاب: الأول: بساطة وتواضع وسماحة صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء، والثاني: دوره البارز والمحوري في تحقيق التقدم والنهضة التي تعيشها البحرين على امتداد أربعة عقود منذ توليه رئاسة الحكومة منذ ما قبل استقلال البحرين، وتمكنه بهدوء من قيادة الانجازات التي حققتها البحرين، رغم كل التحديات التي واجهها، وهي تحديات محلية واقليمية ودولية متشعبة.
ويستعرض جلال نعمان بالتحليل ما تضمنه كتاب المبيضين من ثلاث رسائل مهمة موجهة الى سمو رئيس الوزراء، الأولى مرسلة من جلالة الملك بمناسبة حصوله على جائزة الانجاز المتميز للمستوطنات البشرية. والثانية الرسالة الجوابية الموجهة من سموه الى عاهل البلاد، والثالثة موجهة من قبل سمو ولي العهد الى سمو رئيس الوزراء حول مناسبة ذات الموضوع المتقدم ذكره.
ويصف نعمان كتاب المبيضين بأنه أقرب الى الرصد الوثائقي مدرجاً أسباب نعته للكتاب بذلك، كما يصف فكر الشيخ خليفة بأنه يجمع بين علوم الاستراتيجية والادارة والسياسة، وانه فكر يجمع بين النظرية والتطبيق في آن واحد.
ومن أهم الملاحظات التي يوردها الدكتور نعمان في عرضه وتحليله للكتاب توصيته بأن يقوم سمو رئيس الوزراء بنفسه في ضوء تجربته الثرية المديدة في الحكم بكتابة مذكراته او الاشراف على كتابتها بنفسه، خاصة انه يستطيع ان يميط اللثام عن الكثير من الاسرار التي يجهلها الكثيرون، وستكون هذه المذكرات عندئذ مساهمة في تأريخ احداث البحرين ومساعدة المؤرخين على تدوينها.
اما في قسم التحليلات السياسية، فلعل من اهم ما ورد في هذا العدد عرض الباحث عبدالنبي العكري المفصل لأهم وقائع وموضوعات الدورة الثالثة لحوار الحضارات والثقافات في منطقتي اوروبا والمتوسط والخليج والتي انعقدت في مكتبة الاسكندرية خلال الفترة 9-21/1/2008م وشارك فيها، حيث تناول مجريات الحوار الذي دار فيها والورش الست التي تناولت المحاور الستة للحوار. وختم مقاله بعرض النص الكامل للبيان الختامي لدورة حوار الحضارات.
وفي هذا القسم ايضاً من نفس العدد الجديد دراسة تحليلية مهمة بعنوان «بحر قزوين في السياسة الدولية« للمستعرب الروسي فصيح بدرخان. واذ نعتذر عن تناول عرض وتحليل ابرز ما جاء فيها لضيق حيز هذه الزاوية، فإننا نعتذر ايضاً عن تناول ما جاء في دراسة كاتب هذه السطور «دور المجمع الصناعي العسكري في السياسة الخارجية الأمريكية« حيث أن تقييمي التحليلي لها سيكون بمثابة شهادة مطعون فيها، علما بأنني بذلت جهداً مضنيا طويلا في اعدادها وجمع مصادرها العديدة.

صحيفة اخبار الخليج
27 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

صراع الطوائف والطبقات في لبنان (3 – 4)

وعلى عكس ما يقوله مندوبُ الحزب الشيوعي اللبناني في الندوة السالفة الذكر بكون الطائفة المارونية هي حجرُ العثرة في تطور لبنان لأنها حازت كل الثروة، فقد كانت هي بعضُ الانقاذ المأمول، لو أن امثاله وتياره واليسار اللبناني عامة أمتلكَ شيئاً من بُعد النظر، فتيار تصعيد العداء لم يؤد إلا إلى انهيار بذور الحداثة.
تمظهر العداءُ الطبقي (الشيوعي)، (البروليتاري) للبرجوازية كما يتمظهر ذلك في جملة أيمن ضاهر بالعداء للموارنة، وهو أمرٌ كان يخفي عداوة الفقراء المحدودة للأغنياء، كما يتماشى ذلك مع توجهات الحركة الشيوعية وقتذاك بتصفية البرجوازية وإقامة النظام الاشتراكي.
لقد تملكت الحزبَ الشيوعي واليسارَ رغبةٌ تسريعيةٌ وهدفٌ مباشر هو القضاء على البرجوازية، فالبرجوازيات لا تستطيعُ أن تقيمَ دولةً ديمقراطية، كما أنها عميلةٌ خائنة، ومظاهرُ ذلك لدى هذا الوعي كثيرة، فهي تعادي المعسكرَ الاشتراكي وهي تقيمُ علاقات مع الغرب، وهي تشغلُ العمال بأجور متدنية، وهي ترفض التصنيع الواسع، وهي أساس النظام الطائفي، ثم هي تعادي الوجود الفلسطيني المسلح ذروة حركة التحرر العربية الخ…
إن الدخولَ في هذا السياق السياسي علامةٌ واضحة على المراهقة، لكن تنفيذه على صعيد الحياة كان انتحاراً. وإذا كان ذلك لا يستندُ إلى فهمٍ حقيقي عن الاشتراكية ومدى وجودها في المعسكر (الاشتراكي)، لكن هذا يشيرُ كذلك إلى وجود دكتاتورية قوية في اليسار اللبناني، وإلى اعتمادهِ على نقل النسخ المستوردة من الشرق، ولهذا كانت الأدبيات السياسية وقتذاك تصدح بمنجزات الشقيق الأكبر وعظمة البلدان الاشتراكية وتندفع الوفود السياسية والشبابية للاندماج في هذه التجربة العالمية ويجرى تحضير القوى السياسية لهذه المعركة الفاصلة مع البرجوازية المارونية.
وكان ذلك مفيداً ومهماً في العديد من الجوانب وبنشر ثقافة جديدة في المنطقة لعب فيها لبنان الجديد هذا دوراً كبيراً، لكن صيغة تلك الايديولوجيا لم تخضع لتحليل عميق وأدت إلى مشكلات كبيرة للحركة السياسية العربية التقدمية، وكان دورها في لبنان أخطر وأفدح.
لكن ذلك لا يعني أيضاً عدم رعونة حزب الكتائب والتيارات اليمينية المتطرفة الأخرى، فكان العداء للمسلمين وارداً على جدول الأعمال منذ نضال الاستقلال، وظهور التيارين الأساسيين: تيار الوحدة مع سوريا وتيار الوحدة مع فرنسا.
وبطبيعة الحال كان هذا ميراثاً لقمع المسيحيين في الامبراطوريات المذهبية السابقة، ولكن عوضاً عن إنتاج فكر وطني علماني تكرست التيارات المسيحية في الهياكل الطائفية، والأخطر ذهابها للفاشية، مما كان يقود إلى تطاحن هائل.
ولم يكن لعداء التيارات (الإسلامية) ضد المسيحيين جذور طبقية في فقراء غير مثقفين وفي مثقفين فقراء في الفكر فحسب، بل تربضُ تحته العداءاتُ الدينية بين المذاهب الإسلامية والمذاهب المسيحية. ويجرى تصويره كصراعٍ طبقي بين البروليتاريا الثورية والبرجوازية الطائفية المتعفنة.
كانت عمليةُ إنتاجِ فكرٍ ديمقراطي وطني علماني متعثرة في تاريخ لبنان كما في الدول العربية. كان الحزبُ الشيوعي اللبناني قد تأسس بفاعليةِ بعض المثقفين المسيحيين، ثم قام يسرعُ دورَهُ في مجتمع اكثر انفتاحاً من بقية الدول المجاورة، فتراجعت القياداتُ (المسيحية) داخل الحزب، وأخذت القياداتُ(الإسلامية) في الصعود وخاصة القيادات الشيعية، وبهذا توجه الحزب أكثر فأكثر نحو قوى الشرق التقليدية، فأخذ طابعهُ الديني الشرقي المتماثل مع ديانات الشرق المحافظة عموماً في البروز. فقد كانت تجاربُ الأحزاب الشيوعية العربية واعدةً في توجهاتها الوطنية الديمقراطية حتى إذا تجاوزت هذا الدور أخفقت، لأنها تكون حينئذٍ ناسخة لدور عالمي لا يجد إمكانية حقيقية في واقعها وفي أعضائها.
وكان الانتحار هو في الدخول إلى سياق الحرب الأهلية، الذي ترتب على تشكيل مواجهة داخلية يسارية – يمينية، رفدها الحضور المسلح الفلسطيني والتآمر الإسرائيلي الغربي.
لقد لعبت تلك الجذور الفكرية السياسية دورها في دفع اليسار اللبناني للمواجهة، ولم يشتغل على المهمات الديمقراطية والتحديثية بشكل استراتيجي مطول، فأدى هذا إلى نضوب طاقاته حتى الجسدية منها، وتراجعه عن بؤرة الحياة السياسية، وصارت أجنحة منه تعود للوراء، إلى المعسكرات المذهبية السياسية، بشكل اصطفافات بدلاً من نقد ذلك الماضي وتجاوزه.
ويمكن أن نرى في اصطفاف الحزب الشيوعي اللبناني مع المحور السوري – الإيراني تتويجاً لهذا المسار المتعثر، فتظهر جملٌ مماثلة للزمن القديم تحت مضمون مغاير، فهذه الجمل تؤكد أهمية التصدي للإمبريالية ولدعم القوى التي تواجهها في المنطقة، لكنها لا تنتقد غياب الديمقراطية في هذه الدول، وهو الغياب الذي أدى إلى الانهيار في مواجهة الاستعمار.
بل ان هذا الغياب شديد الخطورة على دول المنطقة، وفي تصعيد التسلح والحروب، وهي الأمور التي تقود إلى أوضاع مضادة لتلك النيات.
وكما رأينا في تراجع الحزب الشيوعي العراقي نحو مواقع مذهبية معينة يحدث هذا أيضاً في الحزب اللبناني، فقد صارت القوى المذهبية ذات طابع مؤثر بدلاً من أن يقود التقدميون هذه القوى إلى آفاق النضال الحقيقية.
إن غياب النضال الوطني العلماني قاد هذه الأحزاب تدريجيا إلى التماهي مع المحور الإيراني – السوري، يقول بيان من الحزب الشيوعي اللنباني:
«إننا نستطيع أن نؤكد ان نضالنا وتضحياتنا وفق النهج الذي سرنا عليه بتوجيهات مؤتمري الحزب الثاني والثالث قد أعطت حزبنا رصيدا نضاليا، استمر خلال السنوات اللاحقة للحرب الأهلية، ومن شأنه أن يزيد من دورنا اللاحق في معركة البديل الجذري لنهج التراجع والاستسلام في قيادة حركة التحرر الوطني لشعبنا ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي عامة. إننا نؤكد من رحم هذا الوعي الثوري، أن الشيوعيين ربطوا مصيرهم بمصير حركة التاريخ، بمصير انتصار إرادة الشعوب العربية، وربطت القوى المنحرفة قوميا مصيرها بمصير المد الإمبريالي في منطقتنا الذي هو اليوم في أوجه. بمصير الصهيونية والرجعية العربية).
هل تصنع العبارات الحماسية شيئا إيجابيا؟ لقد تدهور اليسار بعمليات المغامرة، ومن دون أن يعني ذلك عدم تجميع القوى الممكنة والعمل على حشد الفرقاء كافة لتغيير ديمقراطي علماني ووطني.

صحيفة اخبار الخليج
27 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

دلالات تقرير الرقابة المالية

تتراوح ردود الفعل السنوية على التقرير السنوي للرقابة المالية، إعلامياً ونيابياً وقوى سياسية، بين التأييد بلا حدود الى التأييد المتحفظ الى المعارضة المعتدلة المتوازنة ببيان ما له وما عليه الى المعارضة المتشددة التي لا تذكر للتقرير أي حسنات اللهم في أحسن الأحوال سوى فتات لا تغني ولا تسمن من جوع.
وبهذا فإن النقد الموضوعي المتوازن الهادئ ببيان ما للتقرير وما عليه هو أفضل أشكال المنهجية في دراسة التقرير وتحليله تحليلا موضوعيا، بعيدا عن الصورة الوردية المثالية وبعيدا عن النقد السياسي العاطفي المتأجج الذي لا يرى ما يصدر عن الحكومة والجهات الرسمية سوى صورة سوداوية أو مجرد تقارير إنشائية ومبالغات دعائية بعيدة عن الحقيقة وما يموج به الواقع من مظاهر منافية عكسية لا تمت لتقارير الحكومة بصلة.
وعلى الرغم مما قيل وسيقال عن تقرير الرقابة المالية لهذا العام من انتقاد ومآخذ يمكن أن تؤخذ عليه، فإنه يبقى مع ذلك، حتى في حدود الهامش الذي يتحرك فيه، من أفضل التقارير الرسمية الحكومية مقاربة للشفافية والموضوعية النسبية وهو من الجوانب الإيجابية التي مازالت تُحسب لمشروع جلالة الملك باستمراره ــ التقرير ــ بنفس المنهجية للعام الخامس على التوالي وبنشره في وسائل الإعلام بما فيه من إيجابيات وسلبيات مهما كانت خطورتها من دون حذف أو مصادرة وذلك مقارنة بالتقارير الموغلة في الوردية، كتقارير حقوق الإنسان على سبيل المثال لا الحصر، وإذا كان من الصعب ان نتناول في هذا الحيز الضيق كل ما حفل به التقرير من نقاط مهمة تشكل تحديات في مسيرة العمل الإصلاحي فإننا نستطيع ان ندرج بإيجاز شديد عددا من أبرز هذه النقاط:
1 ــ مصروفات تقدر بـ 2،11 مليون دينار غير مسجلة في مصروفات الدولة، وتجاوز عدة جهات حكومية الموازنة المعتمدة للمصروفات المتكررة، كوزارة الدفاع (13 مليون دينار)، وكوزارة الداخلية (4 ملايين دينار)، ووزارة الخارجية (مليون دينار).
2ــ عدد من الجمعيات السياسية.. توقع شيكات على بياض، من دون ذكر أية مبالغ في حالة سفر أحد مخولي التوقيع للخارج.
3ــ التأمينات الاجتماعية تواجه صعوبات في تحصيل اشتراكات التأمين ضد التعطل.
4ــ وزارة العدل تدفع من موازنتها راتب رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وهو لا يتبعها ولا يدخل في اختصاصاتها.
5ــ وزارة الداخلية تفتقر الى سياسة معتمدة لصرف علاوة بدل سكن للعسكريين غير البحرينيين.
6ــ عدم وجود سياسات واضحة موثقة لتحديد أسعار الخام والخصومات الممنوحة عليه.
7ــ مخالفات في استضافة البحرين لفريق «الانتر ميلان« من قبل مؤسسة الشباب ومجلس التنمية وبلغت تكلفة المباراة 344،634 ديناراً من دون موافقة مجلس المناقصات.
8 ــ عدم وجود دراسات ميدانية لتحديد عدد الأسر الفقيرة في وزارة التنمية الاجتماعية.
9ــ ضعف الرقابة المالية في «طيران الخليج« وافتقارها إلى نظام مؤسسي على الرغم من إنفاقها 74،7 ملايين دينار كأتعاب استشارات.
10ــ امتناع هيئة الإذاعة والتليفزيون عن تشكيل مجلس إدارة جديد منذ انتهاء ولاية آخر مجلس عام 2000م.
11ــ وزارة المالية لم تجر عملية تقييم لجدوى خصخصة محطة الحد للكهرباء والماء.
12ــ وزارة الصحة تعفي فئات أو عددا من المرضى غير البحرينيين من رسوم الخدمات الصحية.
ويكتسب تقرير هذا العام أهمية خاصة كونه يصدر متزامناً تماماً مع ما يخيم على المنطقة من شبح الأزمات الاقتصادية والمعيشية المطردة الاحتدام، بما في ذلك استمرار تدفق موجات الغلاء الفاحش، فضلاً عن شبح عدوى أزمات الأسواق المالية العالمية وفي مقدمتها السوق الأمريكية.
كما يكتسب التقرير أهميته، وبما تضمنه من شفافية ومصارحة في عدد من جوانبه، كونه يأتي متزامناً تماماً مع تدشنين جلالة الملك مشروع «رؤية البحرين الاقتصادية حتى عام 2030«.
وإذا كان كل ذلك يُحسب لتقرير الرقابة المالية فيما يتعلق بجوانبه الموضوعية في المصارحة والشفافية في كشف أوجه السلبيات والأخطاء في المؤسسات الرسمية، فإن التقرير، وبعد مرور خمس سنوات على انتظام صدوره، بحاجة إلى قيام القائمين عليه بعملية رصد سنوي تتضمن نتائجها التقرير ذاته، بحيث يُحدد فيه بوضوح وشفافية ومصارحة كاملة الجهات التي قامت فعلا بالتعاون مع معدي التقرير بتصحيح أوضاعها وأخطائها، ولاسيما الخطيرة منها، والجهات التي لم تتعاون مع معدي التقرير، وبخاصة تلك التي تكرر ذات الأخطاء والانحرافات.
ولا شك ان السلطتين التشريعية والقضائية، فضلا عن الصحافة، لكل منها دور في تحليل ومتابعة التقرير والدفع باتجاه تطويره، والقيام بأعمال الرقابة التشريعية والمحاسبة القضائية للمتسببين في أوجه السلبيات والأخطاء المتكررة دونما تصحيح أو التزام جاد بتوصيات وقرارات التقرير نفسه، فضلا عن توصيات وقرارات البرلمان بغرفتيه.
وما لم يتم تحقيق كل ذلك فإنه لا معنى أبدا للصرف على إعداد تقرير سنوي مصيره خزائن وأدراج أرشيفات المؤسسات الحكومية. وهذا ما نخشاه حقا في ضوء تجربة صدور 4 تقارير سابقة.

صحيفة اخبار الخليج
26 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد

صراعُ الطوائفِ والطبقاتِ في لبنان (2-4)

يصور مندوبُ الحزبِ الشيوعي اللبناني تاريخَ الصراع الاجتماعي بصورةٍ مختزلةٍ في ندوةِ توحيد اليسار اللبناني السيد أيمن ضاهر، فيقول: (ساهم الاحتلالُ الفرنسي باختلال بنية المجتمع اللبناني وهو الذي ساهم بتكوين البرجوازية المارونية، حيث تكدست الأموال في هذه الطائفة دون سواها مما ساهم في تشويه الصراع، مروراً بالحرب اللبنانية التي بدأت بصراع طبقي ما لبث أن تحول إلى صراع طائفي، وصولاً إلى وقتنا الحالي، حيث تقوم القيادات السياسية بتشويه الصراع وأخذ شكله الطبقي بهدف تحويله إلى صراع طائفي من خلال التهويل بقدوم حرب طائفية جديدة)، (المؤتمر المذكور وقد عُقد في 19 يونيو 2007).
تعطينا هذه الفقرة اختزالا زائفا أيديولوجيا لتاريخ الصراع الاجتماعي في لبنان، حيث يجرى تصوير طائفة واحدة هي الطائفة المسيحية بأنها هي الطائفة الغنية الوحيدة، وأنها شكل البرجوازية، وهو تصورٌ عامٌ مجرد يلغي التاريخَ الاجتماعي الملموس ويدخل تصوراته السياسية المسبقة في أحشاء السرد التاريخي.
وإذا كانت الطوائفُ الدينية والمذهبية الإسلامية قد تكونتْ في بعض مناطق سوريا وجبل لبنان كتكويناتٍ مقموعةٍ هاربة أو محتمية بالتضاريس من عسفِ الدول التي سُميت إسلامية، وهي دولُ طوائف يهيمنُ عليها الإقطاع، فإن التكوينات الحديثة لها تراوحت بين البقاء في النظام التقليدي والنزوح نحو الحداثة، والتجارة، والغرب.
وقد لعبت الطائفةُ المارونية دور القيادة لعملية التحديث هذه، وخاصة الفئات الوسطى منها، وفي ظل التبعية لفرنسا، وقد ساعدها على ذلك بداية أفولُ دور الدولة العثمانية التقليدية الشائخة، وصعودُ العلاقات التجارية والفكرية الحديثة التي روج لها الغرب، لتفكيك الدولة العثمانية وإيجاد وكلاء تجاريين وثقافيين له.
ومن هنا وجدنا ان بدايةَ النهضةِ العربية تتشكلُ في سوريا ولبنان عبر هذه الفئات، ومعروف جيداً دور بعض العائلات المثقفة في تأسيس مختلف صنوف الأدب والفن العربيين الحديثين، ثم قامت بنقل ثمار هذه الثروة المعرفية لمصر، نظراً لاستمرار القمع في الشام، وبدء الانفتاح المصري القيادي لعملية تغيير المنطقة.
ولكن ظهور الفئات الوسطى لم يقتصر على الطائفة المارونية بل سارعت طوائف أخرى إلى احتضان بذور هذه الحداثة، كالطوائف الدرزية والسنية والشيعية، وافرزتْ قوىً برجوازية لم تخرج من كيانات الطوائف، ويمكن اعتبار الحركة الوطنية اللبنانية هي نتاجُ التفاعل بين هذه القوى الوسطى – التقليدية، وقضايا لبنان المحورية.
إنها برجوازياتٌ طالعةٌ من كياناتٍ مذهبية محافظة، وتحملُ دمغات نشأتِها في إبقائها على تكويناتها السياسية الطائفية، مثلما هي تقومُ على ملكية الأرض الزراعية والحرف والتجارة والمعامل الصغيرة.
وتتشكلُ تناقضاتٌ حادةٌ في هذا التكوين اللبناني، فكلُ طائفةٍ تغدو دولة، وكلُ دولةٍ تحتاجُ إلى جهازٍ سياسي مسيطر بشكل أبدي، ولا يظهر التغيير من تراكم العناصر التجارية والديمقراطية داخل كيان الطائفة، بل من خلال انشقاقها، عبر ظهور دولة طائفية مختلفة أو مضادة، يؤسسها زعيمٌ تحديثي – تقليدي آخر.
إن التطورات تجرى في لبنان بشكلٍ تفتتي وانقسامي، مما يضعفُ ويخربُ هذه التطورات ويعيدُها لسابق عهدها.
إن الفئات الوسطى الصغيرة الذابلة في كل طائفة لا تقيمُ تحالفاً، بسبب أنها لا تصل في عملها السياسي إلى سمات الحداثة وهي العلمانية والوطنية والديمقراطية، مثلما أنها تعجزُ عن الانتقال إلى الصناعة الكبيرة وانتشار العمل بالأجرة وحرية النساء الواسعة.
وإذا كانت تستطيع بـ «شطارتها« أن تقفز على بعض الحواجز الاقتصادية، وتتفن في طرق التجارة، وتهاجر إلى اقصى بلدان الأرض، لكنها لا تستطيع أن تقفز على حدود الطوائف القريبة.
وإذا كان بعض الدول العربية قد تجاوز هذه الفسيفساء الطائفية نظراً لوجود دولة مركزية موحدة، أتاحت تشكل سوق وطنية واحدة، إلا أنها تظل طائفيةً لغياب السمات السابقة الذكر نفسها، وهي لحظةٌ تاريخيةٌ تعبرُ عن عجز قوى إنتاج الصناعة الصغيرة أو الاستخراجية والتحويلية في عموم البلدان العربية عن نقل البلدان إلى بنى جديدة.
لكن في لبنان تتضاعفُ الخسائرُ المفردةُ المحسوبة في كل دولة عربية، ففي لبنان عدةُ دولٍ مضمرةٍ فيه، يقومُ شيوخُها وإقطاعيوها وباشاواتها، كلٌ في مركزه الصغير بتمثيل دور صاحب العظمة والفخامة.
والزعيمُ من جهةٍ يحافظُ على ألقاب الباشا الموروثة طائفيا، وهي ألقابٌ تتحولُ مع تبدل دور الطائفة وتحالفاتها، الوطنية والمناطقية والعالمية، كما لا ينسى دورَ التاجر البارع في التقاط أي ثمرة مالية تتيحها التجارةُ والسياسة والدين.
ولكن ليس دائماً تؤدي «الشطارة« إلى أرباح، فكثيراً ما كانت التحالفات مدمرة وضارة، فتحالفات الباشاوات اللبنانيين تـُؤسسُ سياسيا وليس على التراكم العقلاني العلماني الوطني، يقومُ بها الباشاواتُ في حكمِهم المطلق على الملأ، فيختار الساسةُ الموارنة التحالفَ مع الغرب الاستعماري ضد تيار القومية العربية الكاسح حينئذٍ، وإذا كان ذلك فيه «شطارة« التاجر اللبناني المرهف الحس للرأسمالية الغربية ودورها التاريخي وأرباحها الجزيلة، إلا أنه وقوف ضد سوقه القومية وما يُنتظر لهذه السوق من تطورات عظيمة.
وإذا كان ذلك قد حدث حين أثبتت الصحراءُ العربية النفطية كرمَها الباذخ، وأخذ بعضُ هؤلاء الساسة يتنسمون نسائم نجد العليلة، فيغيرون من ولاءاتهم بلمح البصر، إلا أن ذلك يظل في عقل الباشا، وليس في عقل البرجوازي الحديث.
 
صحيفة اخبار الخليج
26 اكتوبر 2008

اقرأ المزيد