المنشور

تحية للمسعفين والمنقذين في‮ ‬غزة


إن الجهد الذي يضطلع به المنقذون والمسعفون في كارثة غزة الدموية جهد يضاهي المقاتلين الذين يواجهون الموت في أية لحظة، فهم يتعرضون لشتى المخاطر والكمائن التي ينصبها العدو الإسرائيلي لمن يواجههم مقاتلاً بالسلاح أو أعزلاً، ومع ذلك لا يتراجعون أو يترددون أو يشيحون بأجسادهم عن الأجساد التي أصيبت بمقتل أو تعرضت لإصابات بليغة أو خفيفة جراء الاعتداء، إنهم ينطلقون كالسهام في وجه الرصاص والقصف من أجل إنقاذ هذه الأجساد، ويستعينون بشتى السبل من أجل إسعافها واستعادة الحياة أو بعضها إلى أرواحهم، ولا يتوقفون عن مزاولة الإنقاذ والإسعاف مهما كان حجم الجثث أو المصابين، ولا تعرف عيونهم الغفوة أو النوم، إنهم يقظون وكأنهم كائنات ألفت عيونهم السهر مهما تعاقب عليها الإجهاد والتعب والإعياء.
إنهم يمضون إلى (الضحية) دون خوف من أن يكونوا هم في اللحظة ذاتها عرضة لأن يكونوا ضحايا، ينتشلون الأجساد ويدفعوا بها في سيارات الإسعاف ويتوجهوا بها إلى المشفى، ويعودون ثانية لانتشال أجساد أخرى في الوقت الذي توجه آخرون منهم بسيارات الإسعاف إلى المشفى الذي غص بالقتلى والمصابين وتعذر ربما إسعافهم عسى أن يكون الوقت كفيلاً بتهيئة مرافق ولو متواضعة لإنقاذ ما تبقى من رمق للحياة في أرواحهم.
لم يتوقف جهدهم عند هذا الحد، بل إنهم إزاء هذه الكارثة يدخلون في مفاوضات مع رجال الحدود في رفح ومع الجنود الإسرائيليين الذين يعترضون درب سيارات الإسعاف، وذلك من أجل تلبية نداء الواجب الوطني والإنساني، يحاولون فلعل في المحاولة ما يفسح بعض الهواء للدخول إلى رئة بعض من يغالبه الموت في الطريق.
يبكون ويغضبون ولا ترى من ذلك شيئاً بادياً على قسماتهم، كل الذي ينبغي أن يمنحوه لمن انتشلوهم ابتسامة أو أمل فلعلها تسعفهم على تحمل العلاج أو درب سيارات الإسعاف المتجهة إلى المشافي، ربما يكلون أو يرهقون ولكنهم يستميتون من أجل ألا يلحظ الآخر عليهم مثل هذا الإرهاق أو الكلل كي لا يعتقد أنهم ضجرون من مهامهم الإنقاذية والإسعافية  المناطة إليهم، يخيم الظلام ويسود دخان القصف ولكنهم مضطرون لأن يقاوموا هذا الظلام وهذا الدخان بعيونهم المدربة على السهد واليقظة حتى يبدو لمن لا يعرفهم بأنهم كائنات أسطورية خلقت ضد الموت من أجل منح الحياة للآخرين.
لم تكن أجسادهم مهيأة لحمل الجثث الثقيلة أو الخفيفة أو الممزقة أو المحترقة أو المشوهة تماماً فقط، إنما أجسادهم مهيأة لأحمال أخرى لا تقل ثقلاً عن هذه الأجساد وإن كانت وجدت من أجلها، إنهم لا يهرعون إلى موقع الكارثة دونما معدات الإسعاف أو ما يسعفهم في إزاحة ركام الأنقاض عن بعض الجثث والمصابين، هذا إلى جانب تحملهم مشاق لملمة أشلاء الجثث وفرزها بسرعة للتعرف على الضحية، أجسادهم تتجاوز معقول وفانتازيا الصورة اللهاثية البرقية التي نراها عبر الفضائيات، إنها لا تستريح ولا تهدأ وزمانها يتجاوز المرئي والمسموع في الفضائيات، زمن يمتد في الموت والحياة ولا يتوقف عندهما.
ربما يبدو الأمر عادياً للآخرين في لحظات وحالات الإنقاذ والإسعاف الطارئة والسريعة، ولكن حين يتعلق الأمر بالحروب والمجازر، فالأمر يبدو مروعاً وخرافياً، إذ إن كل نأمة في جسد المنقذين والمسعفين تتحرك وتستيقظ وتستنفر أقصى طاقتها التي يستهلكها الإنسان العادي ربما في سنوات، إننا نراهم في غير طبيعتهم، أحياناً ملطخين بدماء من يسعفونهم وكأنهم المصابين، وأحياناً نراهم يهرعون في ساحة الكارثة وكأنهم يبحثون عن من ينقذهم أو يسعفهم، حالاتهم معجونة بالدماء والكارثة والأمل في آن.
أتخيلهم سمعوا كل أنين وعويل وحشرجات واستغاثات القتلى والمصابين دون استثناء، وأحسبهم يعرفون كل ضحايا المجزرة واختزنوا آلامهم وفدحهم وآلام وفدح أهاليهم وأقربائهم أيضاً، إنهم وطن يقاتل بقلوب من حب ورحمة من أجل إنقاذ فلسطين كلها وليس ضحايا غزة فحسب، إنهم في قلب المجزرة حتى في غياب أهل المقاومة، بل لعلهم في كارثة مثل كارثة غزة هم المقاومون الحقيقيون والوحيدون للعدوان الإسرائيلي ولصواريخ قصفه، فتحية لهم من القلب هؤلاء المقاومون الأبطال في ساحات الكارثة الدموية المفجعة.
 
الوطن4 يناير 2009    
 

اقرأ المزيد

بابا الفاتيكان‮ ‬يتشدق بالسلام ولكنه صامتاً‮ ‬عن مجزرة‮ ‬غزة


أية قوة في العالم تستطيع ردع إسرائيل وإجبارها على التوقف عن ممارسة وظيفتها الاختصاصية في شن الحروب الواحدة تلو الأخرى كدولة حربية بامتياز تحاول محاكاة نموذجها ومثلها الأعلى الولايات المتحدة الأمريكية؟
 ببساطة لا أحد يستطيع فعل ذلك، إذ ثبت بالدليل القاطع، حتى الآن، ومنذ إنشائها قبل 60 عاماً، أنْ ليس هنالك قوة استطاعت كبح جماح الطبيعة العدوانية الإسرائيلية المتحفزة أبداً لشن الاعتداءات الهمجية على ضحايا مجردين من كافة أسباب القوة والدفاع عن النفس في حدهما الأدنى، حتى ولو كان ذلك العدوان أملته دواعي انتخابية في إطار صراع الأجنحة للطبقة الحاكمة في إسرائيل، كما هو حال الهجوم الوحشي الكاسر الحالي ضد قطاع غزة والذي تقف وراءه الانتخابات الإسرائيلية التي يخشى الائتلاف الحاكم الحالي (حزب كاديما وحزب العمل أساساً) من خسارتها لصالح ائتلاف الليكود بزعامة نتنياهو والأحزاب الدينية الفاشية.
نعم وحدها الولايات المتحدة تستطيع، بما تمثله لإسرائيل من قاعدة إسناد حربي واقتصادي وسياسي واستراتيجي عموماً، أن تؤثر على الدوائر الصهيونية الحاكمة بغض النظر عمن يدير دفة الحكم في إسرائيل. ولكن من قال أن الولايات المتحدة في وارد ممارسة ضغط، مهما كان نوعه، على إسرائيل؟ فواقع الحال أن العكس هو الصحيح، أي أن تمارس واشنطن نفوذها وضغوطها على إسرائيل من أجل القيام بعمل عسكري ما لخدمة أغراض وأهداف أمريكية، تكتيكية وإستراتيجية خالصة. فمن ذا الذي يستطيع إذا أن يزجر هؤلاء النازيين الجدد ويردعهم ويوقف غيهم؟ قلنا لا أحد، وذلك صحيح من الناحية العملية، ولكننا نضيف هنا أيضاً من الناحية العملية للسياسة الدولية ودهاليزها وموبقاتها وكل سجلها الإجرامي البشع.
فلتسقط السياسة التي تقف الآن كجلمود صخر أمام بشاعة الهمجية الإسرائيلية في غزة وهي تُستباح أمام أنظار العالم أجمع. لا أحد من الشرفاء والأحرار في هذا العالم يعول على السياسة القذرة التي يديرها الحكام وأرباب المال والسوابق والفساد. … أيضاً، ولكي نوفر عليكم وعلينا، فإننا سوف نستثني الأنظمة العربية الشائخة من حساباتنا ومن تقريعاتنا الممجوجة وعتاباتنا غير المسموعة. فدعونا من تقليب المواجع في هذا الظرف الاستثنائي العصيب ولتذهب السياسة وموبقاتها إلى الجحيم. فنحن الآن بصدد وضع إنساني كارثي بكل معنى الكلمة، يجب أن يستفز ويستنفر كافة الضمائر الإنسانية في هذا العالم المختطف من قبل حفنة من المقامرين، وأن يستنطقها لقول كلمة حق في شلالات الدم التي فجرها قادة إسرائيل في غزة. وهنا نتساءل أين هو دور وأين هي مكانة القوة والسلطة الروحية لبابا الفاتيكان التي يحلو له استعراضها كلما حل ببلد لاتيني فقير ومعدم، حيث يهرع البؤساء للتبرك به وسماع عظته حول السلام والحب والفضيلة؟ نتذكر أن غبطة البابا قد وجه عشية أعياد الميلاد المجيدة إلى زوار وحجاج بيت لحم الذين تدفقوا بكثافة هذا العام وتحديداً يوم الخامس والعشرين من ديسمبر  2008 ، وجه كلمة تمنى فيها أن يعم السلام في المنطقة وأن ينعم به سكان المنطقة فإذا بإسرائيل تعاجله بردها المزلزل والمسفه لكلماته في تعبير صريح عن مفهومها للسلام المتوافق مع طبيعتها. فأين هو البابا من هذه الصفعة المدوية التي تلقتها كلماته الحالمة في إحدى أكثر اللحظات الزمنية قدسية لدى العالم المسيحي والعالم أجمع وهي مولد سيدنا عيسى عليه السلام؟ وما هي فائدة قوته وسطوته الروحية العالمية الظاهرة إذا لم يتحرك لتوظيفها في وقف المجزرة التي يتعرض لها 5,1 مليون فلسطيني محشورين في حيز ضيق من الأرض هو الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم؟.. فالذين يُقتلون في غزة هم في نهاية المطاف بشر من لحم ودم وليسوا أكباشاً هائمة في العراء. وهكذا نعود لنقول إن إسرائيل لن تردعها لا مناشدات مجلس الأمن اللطيفة الناعمة المرسلة لرفع العتب ليس إلا، ولا مناشدات أوروبا المنافقة، ولا استنكارات وتنديدات وتوسلات المؤسسة العربية الرسمية بطبيعة الحال، ولا حتى المناشدة البابوية، هذا إن صدرت مثل هذه المناشدة أصلاً قبل تسوية غزة بالأرض.
الذي يمكن أن يردع إسرائيل فقط هو انفجار الغضب الشعبي العالمي على هذه الأعمال الفاشية الاستفزازية للمشاعر والضمائر في شكل مظاهرات عارمة متصلة تضغط على عواصم القرار الغربية فتضطر هذه الأخيرة حينها لممارسة نفوذها على حكام إسرائيل.
أما دون ذلك فلا أمل يرجى من الجميع.
 
الوطن 3 يناير 2009

اقرأ المزيد

كتاب – الثورات – للراحل ” سلامة موسى”


التاريخ ليس كالروايات التي يسجلها الذهن ويقتنع بها بالتسجيل، ولكنه مركب كيماوي يتسلل للخلايا بالمخ فيبعث بداخلنا الأحلام والأماني محركاً الذكريات مهيجاً للجراح،تلك الرؤية للتاريخ هي النواة التي أقام من أجلها “سلامة موسى” كتابه محور عرض اليوم “الثورات” وهو من خلاله لا يروي قصص تاريخية فقط ولكن يحاول أن يقدم من خلال تلك القصص إلهام للقراء للإقتداء بالأبطال وإثارة الغضب على المستبدين.
التاريخ علم لأنه يروي الحوادث ويعلل تتابعها وهو أيضاً فن لأن من خلال نستنبط العبرة والقوة عندما نستمدها من الماضي نغتصب من خلالها قوة أخرى من المستقبل.
الثورات التي قادها أحرار قامت من أجل تحقيق مبادئ الحرية والعدالة، لهزيمة الطغاة والظالمين الذين يتحكمون في بداية طغيانهم محاربين بذلك الطغيان الحب والحرية والشرف ليعلنوا بوضوح ما في قلوبهم ونفوسهم من خسة ونذالة باصقين بأفعالهم تلك على الإنسانية.
الحرية والشرف والعدالة ليست من المبادئ الميتة ولكنها مبادئ مكافحة متجددة لذا هي تحتاج للرعاية الدائمة والبعث الدائم حتى تعم كل البشري وتربي الإنسان على أن يكون إنساناً.
زيادة الحرية عن طريق إلغاء القيود السابقة والاعتراف بالحقوق الجديدة هو السمة العامة للثورات الأوربية التي انتهت إلى إيجاد المجتمع الأوربي بشكله المتحضر، جميع الثورات في أوربا وغيرها من القارات كانت تسير على أسلوب واحد يسير من نقطة لأخرى تتمثل في اضطهاد يتعنت ولا يقبل مفاوضات التغيير ثم انفجار ثم تغيير تكون نتيجته محو هذا الاضطهاد، من النظر لتلك الثورات نجد أن الشعب كله يقوم بها على الرغم من أن طبقة واحدة هي التي تشعر الضغط والاضطهاد أكثر من غيرها، وذلك لأن شعور تلك الطبقة بهذا الضغط يدفعها لأن تبدأ بالدعوة إلى فلسفة جديدة ونشرها بمحركات عديدة فينضم إليها الشعب كله بعد أن يدرك عدالتها وشرفها، وإذا لم ينضم لقوى الثورة تلك الشعب لا تحقق أي نجاح.
هناك ثلاث طرز للثورات اختلفت الطبقات التي قامت بها، في عام 1215 ثارت طبقة النبلاء في إنجلترا على الملك جون لأن الضرائب كانت باهظة في عهده، وبعد ثورتهم تلك أجبر الملك على ألا يفرض ضريبة إلا بعد استشاره هؤلاء النبلاء في مجلسهم الذي أصبح بعد ذلك بذرة البرلمان وبذلك استفاد من ثورتهم تلك الشعب كله، في سنة 1848 ثارت الطبقة العاملة في أوربا كلها وحصلت على حقوق جديدة لم يكن يعرفها العمال فيما قبل.
في سنة 1789 ثارت الطبقة المتوسطة بفرنسا على الملك والنبلاء وبالفعل حصلت على عدد من الحقوق لها وللشعب كله، وتتمثل تلك الحقوق في إلغاء الإقطاع، وعلى الرغم من تعدد الثورات في أوربا إلا أن الثورة الفرنسية تعد هي الطراز الأعلى الذي يستحق أن تدرس سماته وأفكاره، وبالفعل انتقلت لغة وأفكار ونظريات تلك الثورة إلى الأمم الأخرى، فجميعنا يعرف الحرية والإخاء والمساواة والفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، ومفاهيم حرية الفكر والعقيدة وجميع تلك الكلمات والمفاهيم هي أفكار فرنسية ترجمت للغات الأخرى، وعلى الرغم من أن نابليون فسق بمبادئ الثورة الفرنسية إلا أن لم يستطع أن يلغي معانيها وأفكارها حتى أستطاع الشعب الفرنسي أن يستعيد تلك المبادئ من أي فسق وجه لها ليسترشد بها طوال مستقبله، ووفق هذا يمكننا القول أن ما يسمى “ديموقراطية” إنما هو من التراث الذي خلفته لنا الثورة الفرنسية، وقد ساهم مفهوم “الديموقراطية” هذا في تجديد وارتفاع الأمم إلى مستويات لم يكن يقصد إليها واضعو هذا المفهوم في أيام الثورة، فواضعو ذلك المفهوم عرفوا منه الدستور والبرلمان فقط ولكن مع تطور العصر أصبح هذا المفهوم يشمل طرز بعينها من التعليم وحركات المساواة بين الجنسين في المجتمع ونظام معين في العائلة وما إلى ذلك أساليب جديدة لتطوير المجتمعات والأفراد بما يتوافق مع إنسانيتهم.
تنجب الثورات كتاب وزعماء يؤمنون جميعهم بمذاهب حرية الإنسان والإخاء فيما بين البشر، ولأن كلماتهم تعبر عن الشرف والصداقة والعدالة والحب نشعر حين نقرأها بأننا نتلو كلمات من خطاب صديق محب، الشاعر “ملتون” هو كاتب الثورة الإنجليزية أيام “كرومويل” وقد كتب عن حرية التأليف يقول:
** الكتاب الحسن هو دم الحياة الغالي لروح الحكمة، قد حنط وأودع كي يحيا حياة تجاوز الحياة.
** الحرية هي خير المدارس للفضيلة.
**قاتل الإنسان إنما يقتل مخلوقاً عاقلاً، أما قاتل الكتاب الحسن فأنه يقتل العقل نفسه.
للثورة الأمريكية كاتب جاء بعد القيام بها بنحو سبعين عام هو الرئيس “لنكولن” الذي نص -وهو رئيس للدولة- على أنه من حق الشعب أن يغير حكومته بالطرق الدستورية فإن لم يستطع فله الحق في أن يغيرها بالقوة، إضافة لهذا فأن لنكولن وقف حياته لتحرير الزنوج ونقلهم لمرتبة البشر بعد أن كانوا في مرتبة الرق.
كتاب الثورات الحرة هؤلاء هم أصدقاء للإنسان وقفوا من خلال كلماتهم في صفوف الشعب للمناداة بالحرية والإخاء، وحتى الآن كلماتهم يتداولها الأفراد على ألسنتهم فيزداد شعورهم بالإنسانية، تلك الكلمات التي عاقبت الطغاة ونشرت الكرامة بين الناس فلا رق ولا حُكم بغير دستور ولا رقابة على الفكر والقلم.
على الدوام في تاريخ الثورات نجد أن هناك طبقة تسيطر على المجتمع وتتسلط على مقاليد الحكم لكنها في ذات الوقت غير منتجة ولأنها غير منتجة لا تحس بالمسئوليات الاجتماعية فتتجه أخلاقها نحو الانحلال مما يزعزع تماسكها وقد تظل على ذلك الحال لسنين، والشعب الذي يحتقر طبيعة سلوك وحياة تلك الطبقة تثور عليها وتنجح في ثورتها.
في العصور القديمة كان الدين هو المستوعب الرئيسي لكل ألوان النشاط البشري لذلك كانت الثورات دينية، وذلك لأن الطبقة الحاكمة إنما هي دينية محتلة لكل وسائل الإنتاج متنعمة بالثراء الذي تحققه لها تلك الوسائل، وهذا يكشف لنا أن عقلية الثورة في تلك العصور كانت دينية لذلك كثرت الشيع والملل والنحل سواء عند العرب أو الأوربيين، فكل فرقة دينية جديدة تعني ثورة.
جان بول سارتر قال: “أينما حل الظلم،فنحن الكتاب مسئولون عنه، وعلى الكاتب أن يسمي الشيء أولاً، لأن اللغة توحي لنا الفكرة، وتسمية الشيء توجد هذا الشيء وتجعله حقيقة، فمثلاً اضطهاد السود في أمريكا ليس شيئاً مادام ليس هناك كتاب يقولون أنهم مضطهدون، وقبل أن يكتب أحد عن اضطهاد العبيد، ما كان أحد ليفكر في أنهم مضطهدون، بل العبيد أنفسهم لم يكونوا يفكرون في ذلك، ولما كانت اللغة تستخدم في إيجاد الأشياء فعلى الكاتب أن يستخدم بلاغته في المطالبة بحرية الإنسان، وليس هناك سوى بلاغة حسنة واحدة، هي البلاغة التي تدافع عن الحرية “سارتر” على الرغم من فلسفته الوجودية إلا سار على نهج الكتاب الفرنسيين المنادين بالحرية كـ فولتير وروسو وديدرو والكاتبة الفرنسية جورج صاند التي كانت تقول أن الحرية صناعتها.
الشعوب التي تتوق للتمدين هي بحاجة لكتاب أمناء لهم قلب حي وضمير يقظ وليس كتاب مساومين على الضمائر فاسقين بالعقول، فالكاتب له ميزة أنه يحس أكثر ويكون وجدانه أكبر من قراءه لذلك هو مساير للنهضات البشرية والقومية والذهنية بل ويخترع لها الكلمات التي تصيغ الأفكار وتساعد الشعب على الفهم ليتمسك بالمبادئ وينحو باتجاه المناهج الجديدة.
قيمة الأدب في الثورة تعلو على كل قيمة أخرى وذلك لأن الأديب يسبق الثورة ويهييء لها بالأفكار والكلمات التي تنشر معاني الحرية وسيادة الشعب، أو حتى قد يأتي الأديب بعد الثورة فيستنبط منها معاني الحرية ويرتفع بها للإنسانية العامة التي ترتفع عن القوميات الخاصة، والدليل أننا نذكر أدباء الثورات الفرنسية والإنجليزية والأمريكية كـ “روسو وملتون وفولتير” أكثر مما نذكر الرجال الذين قادوا تلك الثورات بأنفسهم، فالأدب ليس حلوى يتلذذ بها العاطلون الناعسون وإنما هو كفاح وتحديداً كفاح الشعوب في مواجهة العروش والقرون المظلمة والاستبداد والإستحجار الفكري.
 
باسنت موسى
الحوار المتمدن – العدد: 2515 – 2009 / 1 / 3

اقرأ المزيد

قانونُ الأسرة البحريني ثمرة الإصلاح الخصبة


يُعتبر مشروع قانون الأسرة في البحرين، المزمع أن يثير زوابع من الانفعالات والانفلاتات في مجلس النواب، خطوة عصرية نحو تأصيل علاقة الأحوال الشخصية والأسرية وتنظيم المسؤولية المشتركة بين ربّيّ الأسرة، الرجل والمرأة.. بل إنها خطوة جدّ شجاعة ومدروسة بعناية من قبل أصحاب القرار، سواءً جاءت بقناعةٍ وتفهمٍ منهم لنداء العصر أو تحت ضغوط الاتفاقيات الدولية!
تأتي هذه الخطوة كمحاولة ثالثة (تبدو الثالثة ثابتة) من أجل تمرير هذا القانون بعد تعديلات وتصويبات أُجريت على المشروع الأوّلي، أُخذت في الحسبان التركيبة الفسيفسائية للمجتمع البحريني، الديموغرافي والإثني والثقافي والديني/المذهبي، كحلِّ وسطٍ، معتدلٍ ومتواضعٍ جداً بُغية إرضاء غرور الثقافة الذكورية السائدة على حساب المرأة البحرينية، الزوجة والأم والأخت والبنت كتحصيل حاصل لا يمكن الإتيان بأفضل منه حالياً، أي الوصول إلى المساواة التامة بين قطبيّ الإنسان، الرجل/المرأة، الغاية الفعلية والمعيار الأساس الذي يقاس به تقدم الأمم الحديثة والمعاصرة!
وصلتْ درجة عدم الحصافة بأحد النواب إلى حدٍ أنه أطلق الوعيد والتهديد من أنهم سيقبرون القانون (حسب ما جاء في الصحف المحلية).. والضمير هنا عائد بالطبع لقوى’الإسلام السياسي’ بشقيها، الشيعي والسني السلفي المتخندقة في متراس ‘مقدس’ موحد، بُغية الحفاظ على صحيح الدين(حسب ادعائها). والحقيقة أن السبب المكنون مصلحي/ذكوري/فئوي لا علاقة له بجوهر الحق الديني والإنساني في كل زمان ومكان. لكن الأغرب أن القوى السياسية العصرية (المعتدلة والراديكالية)الصامتة صمت القبور، لم ينم عنها جميعها حتى الآن، بيان يتيم تأييداً أو حتى تنويهاً رسمياً منها لهذا الأمر الحضاري الأهم، عدا تصريحات شخصية لعناصر من نُخَبِها السياسية لا تشفع بالطبع للموقف الرسمي لتلك القوى المتشدقة جهاراً لأمورٍ أقل أهمية من مشروع قانون الأسرة، الذي إن مرَ فإنه سيشكل بمثابة عتبة التغيير المنشود في بلدنا التوّاق للحرية وسيشرع لتدشين دخول مملكة البحرين إلى مرحلة نوعية تقربها من عصر الحداثة والتنوير!
إن ارتهان جُلّ القوى السياسية الديمقراطية – إن لم يكن كلها- لقوى الإسلام السياسي السائدة (الأقوى كمّاً بما لا يقاس) في بلدنا يشكل العقبة الكأداء للعمل الجاد والمثمر لتأسيس ‘خط ثالث’ أو تيار ديمقراطي/عصري/علماني لا تعادي بالضرورة الحكم والقوى التقليدية (الإسلام السياسي) في كل صغيرة وكبيرة! بل قد توجد ملفات مشتركة تكون في مصلحة الأغلبية- اللاعبين السياسيين الكبار والصغار- من التعاون المشترك حولها. إلا أن هذا لا يعنى بتاتا خلط الأولويات في العمل السياسي كحالنا في الظرف الآنيّ. والدليل على ما نقوله واضح، لا يحتاج إلى إثبات، فيما يتعلق بالمواقف المتضاربة/المتناقضة في الشؤون الثقافية/الاجتماعية/الحقوقية الأهم المتصلة بملف الأحوال الشخصية الضروري لتنظيم المشاكل الأسرية، حيث لا توجد وشائج تربط القوى العصرية، التي من المفترض أن تقف بوضوح مع حق المرأة ومساواتها مع الرجل، مع القوى التقليدية الدينية/المذهبية التي تعادي – على المكشوف- أي حدٍّ وتقليصٍ من الهيمنة الذكورية في المجتمع انطلاقاً من المصالح الأنانية /الذاتية للرجل الشرقي المحصّن بقوة ‘الشريعة’،المحصورة بتفسير وتأويل’الكهنوت’ الديني، الغريب عن الإسلام الحقّ!
بل إن بعض’الفقهاء’ المبجّلين والمتبحّرين في الشأن الديني/المذهبي في بلدنا يدّعون امتلاك حقٍ ليس لهم، بقولهم إنهم لوحدهم تعود سلطة البتّ في شؤون البلاد والعباد الشخصية والأسرية، وهم بالتالي-حسب ما يطمحون- أصحاب التفسير الشرعي الوحيد،الذين يجب أن يكون اجتهادهم الفقهي/المذهبي فوق القانون أي خارج إطار سلطة الدولة والسيادة المطلقة لسلطة القانون والدستور البحريني وبنودها الواضحة، المتضمنة الشؤون الشرعية والمنطلقة أساسا من الشريعة الإسلامية لديننا الحنيف بشقيه المذهبي. والسؤال هنا: هل توجد سلطتان في المجتمع، سلطة روحية مستقلة لا توازي سلطة الدولة فحسب بل تتجاوزها؟ .. في تلك الحال لا توجد أصلا الحاجة لأي دستور لتنظيم شؤون المجتمع، حيث يكفي الركون إلى أحبولة الطائفية والمذهبية البغيضتين،التي تأخذنا-لا محالة- إلى أمارات طوائف ‘القروسطية’، تنتفي فيها المواطنة الحقّ.. وعلى بلدنا السلام!
في اعتقادي المتواضع أن جوهر الصراع والخلاف سياسي بامتياز يجري تلبيسه قدسية الشرع بهدف استمرارية سيادة وهيمنة الثقافة الذكورية، المنبثقة عن الفكر ‘الماضوي’ والوعي الرجعي، ركيزتي التخلف والاستبداد والإرهاب أيضا.. ومن هنا يجب على نساء ورجال مملكة البحرين العصرية المبادرة لخوض نضال لا هوادة فيه في سبيل نيل العضد المجتمعي لقانون الأسرة هذا. والأهم من المبادرات الفردية المأمولة هي المسؤولية التي يضعها التاريخ على عاتق القوى الديمقراطية/العصرية في هذا الوقت بالذات لتنفيذ مهمة المهمات المتجسدة في توحيد جهودها ورصّ صفوفها من أجل الوقوف بحزم ضد من يعمل لإسقاط مشرع قانون الأسرة. وحشد جموع الناس بُغية الحصول على التأييد الشعبي للقانون المذكور وتمريره من خلال المجلس الوطني في مملكة البحرين.
 
الوقت 3 يناير 2009

اقرأ المزيد

الرأسمالية في المرحلة المالية الكبرى

حين تريد أن توصفَ الرأسمالية باحثاً عن قوانين سببية لهذا النمو العاصف المعقد، الذي يلفُ الكرة الأرضية كلها، يتصور البعضُ أن هذا تأييدٌ للرأسمالية، متصورين انه يمكن إلغاؤها، مثلما تلغى وجبة من مطعم وتطلب أخرى.
وهذه “الإرادوية” الذاتية، التي تتصور التشكيلات الاجتماعية، وهي الأنظمة الكبيرة التي تعيشها البشرية، شيئا سياسيا، يمكن أن يتفق على إلغائه السياسيون أو زعماء النقابات.
وهذه الفكرة المهيمنة على الشرقيين دولاً وسياسيين وأحزاباً تجدها في الأعمال الفكرية للينين، ولدى أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الصين ولدى الدينيين وغيرهم.
 
ويطرح بعضُ أعضاء اللجنة المركزية تلك آراءً من قبيل (إننا نبني تجربة اشتراكية ولكن بخصائص صينية)، وكما يحدث غموض لمصطلح الرأسمالية يحدث غموضٌ في مصطلح الاشتراكية.
يقولون ذلك في الوقت الذي تصدعت فيه ملكية الدولة الشاملة، وكلما يحدث تصدعٌ في هذه الملكية العامة تحدث تحولاتٌ في المفاهيم وتـُطرح أسماءٌ جديدة تعبرُ عن إخفاق السيطرة الكاملة للدولة، في هذا الزمن، كما تتشكل حركات سياسية مرافقة لتآكل دور الدول الشمولية، وكثيراً ما تكون المفردات الايديولوجية المطروحة مثل مفردة بعض أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، من هذا القبيل، مثلما بدأت التجربة الروسية بمصطلح (الشيوعية) و(شيوعية الحرب)، ثم صُححت بمصطلح (اقتصاد النيب أو السوق).
وحتى المصطلحات الدينية الشرقية هي من هذا القبيل، فمصطلح (ولاية الفقيه)، يعبر عن التوجه لنموذج رأسمالية شمولية، تهيمن فيه الأجهزة الحكومية على الدخول الوطنية، وطرق توجيهها. وهذا أمرٌ يترافق مع طبيعة الدستور الإيراني الذي ينحت دولة شمولية في الوقت الراهن.
هذا هو المسار الشرقي لتشكيل رأسماليات تطلع من ظروف تخلف وبيئة اجتماعية فقيرة غير قادرة على إيجاد تراكم رأسمالي كبير، فيقوم العمال والفقراء المأخذون والمهيمن عليهم من خلال هذه الايديولوجيات بالتضحية وإيجاد تراكمات للرأسماليات المتخلفة.
وجود تراكم أولي تاريخي هو القادر على وضع أسس للرأسمالية، ظهر ذلك في الغرب عبر الغزوات التجارية ونهب ذهب أمريكا وزراعة الهند، ثم باستنزاف الفلاحين والحرفيين الأوروبيين وطردهم من أراضيهم، ولهذا فإن التراكم التاريخي للرأسمالية في الشرق يحدث تحت تلك اللافتات المتضادة؛ (الشيوعية)، و(الاشتراكية بخصائص صينية)، و(دولة ولاية الفقيه)، (ودولة العلم والإيمان)، و(دولة الأسرة الواحدة) و(الجماهيرية الشعبية)، و(دولة الإسلام) الخ…
مع موروثات الشرق الاستبدادية التي تـُضفر في الاقتصاد الحديث، فإن كل اقتصاد شرقي غائص في التخلف وسيطرة الموظفين الكبار والعائلات الكبرى المتنفذة، والعسكريين الكبار، يستنبط تسميات خاصة به، ليجعل هذه الفئات الإدارية تثرى وتجمع الملايين وتحولها إلى مشروعات خاصة، ناجحة أو فاشلة، عبر تلك التسميات المتجاهلة لسببية تشكل الرأسمالية الحديثة وقوانينها. وقد قامت سياسة الغرب المسيطرة في السنوات الأخيرة على هدم القطاعات العامة المشكلة لرأسمالية “منتجة” في الشرق، وكان أكبر تجمع كوني للصناعات المنتجة هو الاتحاد السوفيتي، وقد انهار سياسيا بسبب عدم قدرته خلال عقود على تطوير الملكية العامة، وجعلها ضمن حساب القيمة الحقيقي.
في حين حافظت الصين على ذلك على أسس اقتصادية نفعية دقيقة، فلا مساعدات سياسية هائلة ولا نفقات عسكرية تفوق القدرة الحقيقية ولا تدخل في الحروب بل تطوير قوى العمل إلى اقصى طاقاتها وخلق تنافسية اقتصادية بين القطاعين العام والخاص، وهو ليس توجها للاشتراكية كما يقول أعضاءُ اللجنة المركزية السابقو الذكر، وليس هو اقتصاد مختلط لم يحسم خياره بين التشكيلتين الرأسمالية والاشتراكية، بل هو رأسمالية متنامية بقوة تهيمن عليها قوى البيروقراطية السياسية الحاكمة، وهو كذلك استنزاف لقوى العمال الجبارة بأجور زهيدة.
ويمثل ذلك الشعار إذًا تسمية إيديولوجية من لدن تلك الطبقة نفسها، لكي تحافظ على تلك الأجور المحدودة في ظل تنافسية الرأسماليات العالمية الغربية خاصة التي لا تصل إلى أجور بمثل هذا البخس.
ولهذا يجرى في تلك الرأسماليات الغربية استيراد العمال الآسيويين وغيرهم من أجل تقليل تكاليف السلع المصنوعة، كما يجرى نقل الشركات الكبرى إلى دول العالم الثالث ذات الأيدي العاملة الكثيفة الرخيصة المدربة والتقنية.
يمكن أن توصف مرحلتنا من التطور الرأسمالي التاريخي الذي ينقل الأرض في عولمة وترابطية بنيوية شديدة وعاصفة، بأنها هيمنة للرأسمال المالي، بشكل أكبر من بقية فروع رأس المال، حيث عمل الغرب على جلب الرساميل النقدية إلى منطقته، خاصة من دول الخليج حيث هنا (تكدست الأموال التي ناهزت 4،7 تريليونات دولار إضافة إلى الإيرادات التي ينتظر أن تجنيها هذه الدول من صادراتها النفطية التي ستصل إلى 8،8 تريليونات دولار بحلول سنة 2020) كما يقول الكاتب ماكس رودنياك في الإيكونوميست.
فعملت سياسة الغرب على تحويل النفط الخليجي إلى رأسمال نقدي، ولعدم تحول المنطقة إلى منطقة صناعة متقدمة، لكن الكثير من هذه المبالغ تحولت إلى بذخ ومضاربات في أمريكا.
ومن هنا كثرت البنوك والشركات المالية التي تقوم باستنزاف النقد وتحويله إلى الخارج، فجاءت الأزمة لتضرب عمليتي نقل النفط ونقل النقود.
هنا لا نجد مصطلحا سياسيا سائدا فلا الاشتراكية ولا الرأسمالية ولا شيء آخر، نظراً لغياب أي نوع من التخطيط والنظرة المستقبلية، ولطابع العفوية الشديد وغياب الشعوب عن التأثير في توزيع النقد، وجلب العمالة الأجنبية الكثيفة الفقيرة الرثة، القابلة بأي أجور.
لقد ضُربت الرأسمالية المالية في أضعف حلقاتها؛ في بؤرتها التي تكاثرت فيها الحروب النازفة للاقتصادات، وفي نفطها الغالي، وفي إسراف كبارها وطبقاتها الثرية وحدوث تباين هائل بين الثروة وظروف الأغلبية من الناس.
ولهذا فإن الأزمة المالية مرتبطة بالقطاعات والدول التي تسود فيها البورصات والبنوك ويقل فيها الإنتاج ويتم فيها التلاعب بالمواد الأولية الثمينة.

أخبار الخليج 3 يناير 2009

اقرأ المزيد

نسمةٌ‮ ‬من الحزن الهادئ

مرةً قال كاتب عربي إنه تهب عليه نسمة من الحزن في نهاية كل عام. نسمة من الحزن الهادئ، لكنه ليس حزنا تعساً ولا أسود.  شدني ما قاله الرجل. أظن انه لامسَ في نُفوسنا منطقة مشتركة، حين اقترب من ذلك الحزن الذي يغمرنا إزاء وداع سنة قديمة واستقبال سنة جديدة.  شبّه ذلك الكاتب حزنه بالبحر من حيث العمق والاتساع، بهشاشة الأشياء أو عظمتها، لا فرق. وهذه الحيرة ناجمة عن تضارب أو تناقض المشاعر التي تنتابنا: هل مصدرها أننا نخسر زمناً، نخسر سنة من العمر أم انه ناجم من إننا ننفض عن كاهلنا حملاً ثقيلاً، فنحسُ ما يحسُ به المثقل بالأشياء التي انزاحت عنه، فانتابه شعورٌ بالخفة والرغبة في الطيران؟  أم أن الأمر لا يعدو كونه وهما، فلعل أجواء الاحتفالات بانقضاء سنة ومجيء سنة أخرى هي ما يخلق لدينا هذا الشعور بالبهجة الطاغية التي لا تفلح في إزاحة ذلك الشعور بالحزن الهادئ في نفوسنا؟! ليكن الأمر وهماً. بوسعنا أن نخلق من الوهم فرحاً، لأننا نريد ذلك ونشتهيه، لأننا نريد أن نجعل من العام الجديد عاماً للفرح، ونهفو إلى ذلك ونسعى صادقين وراءه، كأننا مأخوذون بالرغبة في أن ننجز في العام التالي ما لم نستطع انجازه في العام الذي انقضى أو في الأعوام التي انقضت.  
لذا يبدو الحزن الهادئ الذي عناه الكاتب شيئاً من تطهر النفس من أعبائها ومتاعبها، فالفاصل الزمني اليسير بين عامين، وهو فاصل من الزمن لا يكاد يُدرك أو يُحس لفرط قصره، يكثف في نفوسنا المشاعر الحائرة المشتبكة بين الحزن والفرح، بين السعادة والأسى، بين القنوط والأمل.  لكننا حتى في أقسى لحظات القنوط التي يمكن أن تنتابنا لهذا السبب أو ذاك، نكون قد عقدنا العزم، في أعماق ذواتنا، ألا نرضخ لهذا القنوط، إننا نضمر النية حتى لو لم نُعلنها على أن نبقي أشرعة الأمل منشورةً، وشبابيك الرجاء مفتوحة على أفقٍ أخضر ندي . من النادر أن تُسعفنا الحياة بلحظات للتأمل والتبصر في أنفسنا، في ما نريد وما لا نريد، في الذي أنجز من طموحاتنا وفي الذي لم ينجز، بل ربما تعين علينا أحيانا أن نصدم أنفسنا بالسؤال القاسي والصعب: من نحنُ وماذا نريد؟!   ويبدو أن لحظة توديع عام واستقبال عام جديد هي من تلك اللحظات النادرة التي بوسعنا أن نفاجئ أنفسنا بأسئلة مثل هذه، أن نشعر بالحزن الهادئ الذي عناه الكاتب، فذلك أمر عظيم، انه دليل يقظة الروح وعدم موات الأحاسيس في نفوسنا.  ربما لأن هذا الحزن الهادئ هو بحد ذاته إمارة من أمارات الفرح والبهجة الخفية أو الرغبة فيهما، إمارة من أمارات إننا نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا، وان جذوة الكفاح في دواخلنا ما زالت حيةً، قويةً، تمنحنا الحماية من اليأس ومن الاستسلام لواقعٍ لا نرضاه، ولا يُحقق لنا ما هيأته فطرتنا الأولى لأن نكونهُ، ولأن نأخذه.

الأيام 3 يناير 2009

اقرأ المزيد

الـ “كلاشنيكوف” والثورة الفلسطينية


قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، ربما القلة داخل هذه الدولة العظمى الجبارة، بل في العالم بأسره هم الذين يعرفون إن اسم واحد من أشهر وأهم الأسلحة التي اخترعت في القرن العشرين، ألا هو الـ “كلاشنيكوف” يرتبط باسم مخترعه الروسي فيكتور كلاشنيكوف. أما حياة هذا الإنسان والظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية التي اخترع خلالها هذا السلاح، فلا يكاد أحد في بلده، دع عنك العالم، يلم بها شيئا يذكر، اللهم النزر اليسير من قبل النخبة السياسية والمثقفة في وطنه، وربما على هامش ورود اسمه عابرا في المناسبات العامة التي يظهر فيها تكريمه الرمزي رسميا. 
 
فجأة وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي اكتشفت روسيا واكتشف العالم معها قصة اختراع هذا السلاح، وقصة الرجل الذي ارتبط اسمه به، فأميط اللثام عن واحدة من أشهر البنادق في العالم لطالما ارتبط اسمها أيضا بحركات التحرر الوطني المسلحة او الكفاح المسلح في أيدي المناضلين والمقاتلين من أجل تحرير واستقلال أوطانهم من ربقة الاستعمار والاحتلالات الأجنبية، أو من اجل الحرية والتغيير والتقدم الاجتماعي في آسيا وأفريقيا وبلدان أمريكا اللاتينية.
وكانت فلسطين من أشهر (بلدان) حركات التحرر التي ارتبط الرشاش “كلاشنيكوف” كسلاح في أيدي مقاتليها لمنازلة أعدائهم، وعلى الأخص في أيدي مقاتلي المقاومة الفلسطينية خارج الأرض المحتلة في الأردن ثم في لبنان، وذلك قبل انكفاء هذه المرحلة الذهبية من “الكفاح المسلح” بعد طرد فصائل المقاومة من الأردن عام 1970 ثم من لبنان عام 1982، وكانت أعظم وأشهر العمليات الفدائية البطولية ضد قوات الاحتلال الصهيونية قد ارتبطت بهذا السلاح تحديدا، حتى تم الاحتفاء به وذاع صيته فنيا في إحدى الأغاني الوطنية الفلسطينية الثورية التي خلدت اسمه “كلاشنيكوف” في مطلع الأغنية لترددها حناجر الفرق الغنائية الثورية الفلسطينية دونما ان يعلموا شيئا في الغالب عن قصة اختراع هذا السلاح وقصة مخترعه الروسي ومن دون ان يعلم عن ذلك أيضا كل أبناء شعبهم والشعوب العربية التي كانت تردد معهم تلك الأغنية وتعشقها مبثوثة بين الإذاعات الفلسطينية في المنافي العربية خلال ذلك الزمن الجميل من العزة والكرامة الفلسطينية والعربية قبل أفول المقاومة من الخارج.
فمن هو ميخائيل كلاشنيكوف؟ وما هي قصة اختراعه هذا السلاح الأسطوري؟
ميخائيل كلاشنيكوف ولد في وسط أسرة فلاحية كبيرة وفقيرة لأب وأم من الفلاحين بلغ عدد أبنائهما 18 ابنا، وكان ترتيبه الخامس عشر بينهم، لكن لم يظل منهم على قيد الحياة سواه بسبب ظروف الفقر وضنك المعيشة التي كان يرزح في ظلها السواد الأعظم من الروس حتى عشية إسقاط الإمبراطورية القيصرية وإقامة النظام الاشتراكي السوفييتي الجديد على أنقاضها في عام  1917 .
بدأ حياته العسكرية في الجيش الأحمر السوفييتي رقيبا عام 1939، ووحده القدر الذي أنقذه بأعجوبة من الهلاك في الحرب العالمية الثانية، بالرغم من إصاباته البليغة التي وصلت إلى أكثر من 20 رصاصة في ظهره وكتفه الأيمن، فنقل إلى المستشفى ليصنع من أعجوبة قصة نجاته وبقائه على قيد الحياة أسطورة أخرى لقصة اختراعه بندقية الـ “كلاشنيكوف”.
فقد حوّل غرفته بالمستشفى التي كان يقيم معه فيها 7 جنود مصابين آخرين إلى ورشة عمل من التصميمات الاختراعية للوصول إلى أفضل سلاح رشاش آلي جديد يقهر العدو، وقد استوحاه من بعض البنادق الآلية السريعة المتطورة التي كانت في أيدي الجنود الألمان الغزاة، وهو ما استفزه ودفعه للتفكير في هذا الاختراع لتعزيز مقدرة جيشه وشعبه على الصمود والمقاومة ضد الغزاة وتطهير أراضي وطنه منهم.
ونجح في هذا الاختراع الجبار، وقد اعترفت قيادة الجيش السوفييتي عام 1947 ببراءة اختراعه لسبعة نماذج من التصميمات التي توصل إليها، وادخل سلاحه رسميا في الجيش كأول سلاح هجومي رشاش.
لكن بدلا من ان يكون هذا السلاح الفعال في أيدي أبناء جيش بلاده وشعبه للدفاع عن ترابه، فقد شاءت المقادير التاريخية السعيدة ان تقطف ثمار اختراعه حركات التحرر الوطني المسلحة في بلدان العالم الثالث، ومن ضمنها على وجه الخصوص الثورة الفلسطينية خلال سني صعودها بين أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي. ذلك أن بلاده كما نعلم تحررت من الغزو الألماني وأصبحت قوة عظمى جبارة بعد خروجها من تلك الحرب منتصرة.
وقد حصل كلاشنيكوف على الدكتوراه في العلوم الهندسية بعد أن اخترع أكثر من 120 طرازا من الأسلحة الآلية، توجد منها أكثر من 150 مليون قطعة اليوم في العالم. ويقدر العلماء والقادة العسكريون انه بالرغم من مرور أكثر من ستة عقود على اختراع بندقيته، فإنه يصعب إيجاد بديل عنها حتى عام 2025 على الأقل، وذلك باعتبارها السلاح الدفاعي الأول لمعظم جيوش العالم، وبالنظر لمواصفاتها من حيث الأمان وسهولة الاستخدام وطول عمرها الافتراضي.
المخترع السوفييتي لهذا السلاح العسكري المدهش والبسيط مثلما طواه النسيان لعقود طويلة من الحقبة السوفييتية ها هو يكاد يمضي بقية حياته نسيا منسيا، وقد بلغ من العمر عتيا (نحو 90 عاما)، لا يظهر إلا في بعض المناسبات ليندب خلالها لوسائل الإعلام حظه العاثر طوال أكثر من 6 عقود منذ ذلك الاختراع، إذ لا يملك اليوم سوى شقة صغيرة يعيش فيها وحده في مدينة “ايشفيسك” وسيارة قديمة لتنقلاته هي ملك الدولة ومرتب شهري لا يزيد على ثلاثمائة دولار (اي نحو مائة دينار ونيف فقط) في بلد من أغلى بلدان العالم. فلا غرابة إذا ما ألم به قدر من الاكتئاب النفسي ليس لتجاهل الدولة والمجتمع والعالم لمكانته المفترضة كأحد أشهر مخترعي الأسلحة العصرية دفاعا عن الشعوب وأوطانها فحسب، بل لما آل إليه سلاحه من وقوعه في أيدي كثرة من عصابات الإرهاب العالمية واستخدامه كوسيلة لإبادة الأبرياء والمناضلين والمثقفين الذين اخترع سلاحه من اجل حمايتهم، وحماية أوطانهم، هذا في الوقت الذي يجد فيه إن نظراءه من المخترعين الغربيين والأمريكيين هم الآن من كبار المليونيرية، بل بعضهم من المليارديرية، كمخترع البندقية الامريكية (ام – 16) الأمريكية.
ورغم هذا الاكتئاب الذي يمر به “كلاشنيكوف” بسبب ذلك التجاهل والجحود والحياة المتواضعة التي يعيشها الآن في أرذل عمره فانه مازال شديد الاعتزاز والتمسك بالمثل والمبادئ الوطنية والإنسانية التي اخترع من اجلها بندقيته العتيدة الخالدة والتي ارتبط باسمها وباسمه أشهر سلاح في أيدي ثوار وأحرار العالم على مدى نصف قرن.
واذ يبدي اعتزازه بأن العرب عرفوا سلاحه واستخدموه دفاعا عن قضاياهم التحررية والوطنية يقول: “أريد ان أوجه أجمل تحياتي النضالية إلى شعبي فلسطين ولبنان، لقد صنعت هذا السلاح أساسا لحماية وطني الذي تحرر، لكن سعادتي الآن أن أرى الشعوب التي تستخدمه للدفاع عن أوطانها كما في فلسطين ولبنان”.
ولعل المآل التراجيدي الذي آل اليه مخترع هذه البندقية من التجاهل يتقاسمه معه فيه اليوم حاملو ليس هذا السلاح فحسب، بل كل أشكال الأسلحة النضالية الأخرى التي هجرها ديناصورات قيادة الثورة الفلسطينية ممن هم في السلطة الآن، فيما لسان حال الجنود الفلسطينيين الأبطال المجهولين المتبقين على قيد الحياة يقول وهم يشاهدون بألم العدوان الغاشم على شعبهم في غزة: “والله زمان يا سلاحي.. اشتقت لك في كفاحي”.


أخبار الخليج 3 يناير 2009

اقرأ المزيد

فقــــــط أمنــــــيات‮.. !‬


إذا كان العام المنقضي الموصوف في الإعلام الغربي بأنه الأسوأ منذ نحـو 80 عاماً على الأقل اقتصادياً على مستوى العالم قد مّر علينا بأوجهه المشرقة وهي قليلة، والمكفهرة وهي كثيرة، على صعيد أكثر من عنوان أو ملف محلي، فإن عجلة العام الجديد التي بدأت أمس الخميس في الدوران، هي مناسبة لأن نسترسل ونتمادى في طرح أمنيات القادم من الأيام قبل أن نضيع في متاهات هذا العام أو نستكين أمام مفاجأته وحبائله، من دون أن نخفي بأن ثمة شعوراً سيظل يلازمنا بأننا محاصرون بالكثير من الهموم وعوامل القلق والوجع، وبذلك لا نستطيع أن نحمل حتى الآن على الأقل قناعات عميقة بأن علينا أن نتفاءل بالعام الجديد، أو نعتقد أنه سيكون عاماً مفروشاً بالإرادات الطيبة والنيات الحسنة حيال كثير من مجريات شؤوننا وأمور واقعنا، حقاً لا نستطيع أن نتفاءل رغم نتائج ذلك المسح الموسوم بأنه مسح عالمي والذي وضع البحرينيين بشكل قاطع لا لبس فيه ولا غموض في المرتبة التاسعة على مستوى العالم في قائمة المتفائلين بالعام الجديد.. !!
لا نريد أن نغرق في التفاؤل أو أن نفرط في التشاؤم، ولكن بوسعنا في الحالتين أن نتمنى وأن نعمل على إلا يكون هذا العام مجرد عام أو رقم يضاف إلى خانة الأعوام أو الأرقام دون أن نحقق شيئاً له قيمة، لذا دعونا نجتهد ونطرح تمنيات نقتصرها على الشأن المحلي، قد تكون في النهاية وجهة نظر في بعض أمور واقعنا:

ـ نتمنى في العام الجديد أن نشهد ولادة تفكير جديد، ونظرة جديدة، بل وعقلية جديدة، وروحية جديدة تغادر البدايات والنهايات الراحلة بكل احباطاتها وتقلباتها وأخطائها وخطاياها والتي جعلت الباب مفتوحاً لاستقبال المزيد من خيبات الأمل، وأن نراوح في غير مكان.

ـ في العام الجديد نتمنى ألا نقف عاجزين عن مواجهة الرياح الخبيثة التي تهب علينا بين الفنية والأخرى لتنفث سموم الفرقة والفتنة الطائفية والمذهبية، وأن نعي جميعاً بأن هذه الرياح الخبيثة باتت تهدد حاضر ومستقبل البلاد وهي أخطر الأمراض التي تواجه البحرين الوطن والشعب ومفهوم الدولة، كما علينا في هذا العام أن نركز على تجاوز الحالة الطائفية لا تكريسها، والعمل على وقف تغلغلها لا انتشارها، وأن نرفض عطاء ومشيئة ومعارك الطائفيين وحتى بعض النواب الذين يغذون الطائفية ويتغذون منها.

ـ  في العام الجديد نتمنى أن تنال قيمة “المساءلة” حظها من الحضور الكافي واللازم في ميادين العمل العام، وإلا يصير كل مال عام مالاً سائباً يستطيع كل من واتته الفرصة أن يمارس بشأنه ما يشاء من تصرفات وتعديات وأخطاء وتجاوزات دون حسيب أو رقيب، ونتمنى أن يكون هذا العام عام فتح ملف الانحرافات والفساد وكشف الأخطاء والانحرافات التي لم تمتد إليها يد بالتطهير والعلاج بحسم وحزم، ناهيك عن الردع، ليحاسب كل من قصر وفسد وأفسد واستغل منصبه للكسب غير المشروع، وأن نعيد للبلاد أفضل ما نُهب منها من قيم الأمانة والنزاهة وقدسية المال العام.

ـ نتمنى في العام الجديد أن نخلق مناخاً مواتياً يرفع من كفاءة العمل السياسي ويدفع به إلى الأمام، وليس إلى الوراء، ويستوعب مختلف التيارات والأفكار والأطياف ويوظفها في خدمة المقاصد العليا للوطن، وليس لخدمة مصالح أياً كان نوعها، شخصية، أو فئوية أو طائفية، أو مذهبية، وأن يستوعب الجميع بأن الذين يخالفوننا في الرأي أنما يستعملون حقاً من حقوقهم، وأن من واجبنا أن نحميهم ونحافظ عليهم ونشجعهم على إبداء رأيهم بلا خوف أو تردد أو تشكيك أو تخوين، وعلينا أن نصل إلى المستوى الذي نحمي فيه حق المعارضين بنفس القدر الذي نحمي فيه حق المؤيدين.

ـ أيضاً في العام الجديد نتمنى ألا تحل المشاكل الديمقراطية بعقليات دكتاتورية، عقليات الذين يؤمنون بالنوافذ المغلقة، ويقدسون السلاسل المقيدة للحريات، ويوهموننا أنهم يخوضون الديمقراطية في الوقت الذي يزهقون روحها إن وجدت.

ـ نتمنى في العام الجديد أن يرتفع شعار الجدارة والكفاءة، وأن يتم اختيار كل من يتولى منصباً قيادياً بعيداً عن الترضيات والاعتبارات أو الضغوطات المعروفة، وأن تكون كل الممارسات والنظم والسياسات واللوائح مبرهنة على أننا بدأنا نلتزم بهذا النهج عن قناعة وليس من باب الشعارات التي تدحضها الممارسات الفعلية، ونتمنى أن نصل إلى اليوم الذي نجد فيه رجالا يملؤون المناصب لا إلى رجال يملؤون الكراسي.. !

ـ وعلى صعيد العمل النيابي نتمنى أن يتوقف النواب في هذا العام الجديد عن تلك الصور من الممارسات التي تمتلئ بميول استعراضية مقرونة بصخب شديد مصطنع ومبالغات وتهويلات بغير حدود مضيعين الأولويات والأوقات والفرص، وأن يهجر نوابنا ثقافة الاتهام والتشكيك والتخوين والانتقاص من حق بعضهم البعض، والوقوف عن طأفنة الوطنية، وإلا يدعي كل طرف بأنه يحتكر الوطنية، ونتمنى أن يكون تصدي بعض النواب لبعض الممارسات الحكومية التي يختلفون معها أو يعارضونها أو ينتقدونها أو الانحرافات والتجاوزات التي يتصورونها أو يرصدونها مرتبطة بطهارة كاملة من جانبهم لأنه لا يمكن أن يتصدى للفساد من تطولهم شبهته، ونتمنى في هذا العام أن تختفي ظاهرة النواب الذين حينما يتحدثون وكأنهم يتحدثون باسم الحكومة، أو كأنهم موظفون رسميون لهذا الوزير أو ذاك أو كأنهم ناطقون باسم أجهزة رسمية، في أسوأ الأحوال موظفون في إدارات علاقات عامة لبعض الوزارات.

ـ نتمنى أن تكون مؤسسات مجتمعنا المدني مؤسسات مبادئ،لا مؤسسات أشخاص، مؤسسات تدفعنا إلى الأمام، وتمارس دورها بإيجابية، ولا تلقي بنا إلى الخلف، وأن تطوي الشعارات من أمامها وخلفها، مؤسسات لا تتفرج على الأخطاء دون أن تجرؤ على الاعتراض، ولا تضغط علينا بالمخاوف وكل ما يبعث على صناعة القلق والشحن الطائفي والانقسام المذهبي.

ـ نتمنى في العام الجديد أن تنتهي صلاحية أولئك الذين يحاولون أن يضفوا على أنفسهم في المشهد المحلي مظهراً أكبر من حجمهم، وينظرون إلى الساحة وكأنهم فرسانها، والذين يتهيئون في كل مناسبة للوثوب على الصفوف الأمامية سعياً إلى تلميع أو ثروة أو موقع أو مكانة أو هدف هو بالنهاية لا يصب إلا في المصلحة الخاصة.

ـ نتمنى أن نلج باب العصر عبر مفاهيم التخطيط والتنظيم والتنمية والإدارة، وألا نستمر في ممارسة القصور الواضح لهذا الفهم لتكون هذه المفاهيم أولاً وقبل كل شيء ثقافة وسلوكاً وممارسة، وليس مجرد شعارات تفتقر إلى النضج والإدراك في استيعاب معطيات العصر ومستجداته ومتطلباته.

ـ نتمنى أن يشهد العام الجديد توقفاً كلياً عن كل ما يدخل في سياق الاختلال والعجز والتناقض لمفهوم بناء دولة القانون والمؤسسات، وأن يوضع حد لقدرة البعض الخارقة على تشويه تطبيقات القوانين والإفلات من أحكامها، ونتمنى أن يكون العام الجديد عاماً جديداً للإصلاح، وانطلاقة لمرحلة جديدة من العمل البناء، وأن يشعر كل مواطن بالأمان في بيته وفي عمله وحياته، وألا يضع يده على قلبه كلما اختلف بحرينيان، أو كلما حدثت مشكلة بين أبناء حي وحي، ونتمنى ألا ينقسم البلد إلى مراكز نفوذ ورعايا، وأسياد وعبيد، وحكام ومحكومين، ومخلصين وخونه، وأبناء الشعب وأعداء الشعب.

ـ نتمنى أن يكون العام الجديد عاماً يقف فيه كل وزير ليشرح لنا برنامج وزارته ومشروعاته والتزامه بجدولة زمنية للتنفيذ، ويعرض بالرسوم والأرقام والتكاليف، وأن نتخلص في هذا العام من سياسة نفي المشكلات عبر تعمية هذه المشكلات أو عدم الاعتراف بوجودها أصلاً، أو التقليل من شأنها.

ـ نتمنى في العام الجديد أن نتخلص من شخصنة العمل العام في كل موقع، وألا تصبح الاعتبارات والمعالم الذاتية هي الطاغية تتحكم بنا وتقودنا وتلطخ علاقاتنا، وأن نرسي دولة المؤسسات والقانون التي يعلو دورها فوق دور الأفراد الذين يرون بأن المؤسسات مالها ومن فيها تابعة لهم ولا يدركون بأنهم قادمون وذاهبون، تأتي بهم قرارات وتذهب بهم قرارات.

ـ نتمنى ألا يكون عام ٩٠٠٢ بداية لسنوات عجاف على خلفية الأزمة المالية العالمية وتداعياتها، وألا يرسم هذا العام واقعاً جديداً مليئاً بالمزيد من المحبطات والمتناقضات فيما نحن مقبلون عليه داخلياً، وخارجياً، كما نتمنى ألا تحصد عجلة هذه الأزمة المواطن الذي لم يستشعر بثمار عوائد الطفرة النفطية السابقة ويخشى أن يتحمل تبعات انخفاضها الآن. ونتمنى أن تطبق محاور الرؤية الاقتصادية للبحرين وان تأخذ مساراتها الفعلية المعلنة لتخلق واقعاً أفضل للوطن والمواطن.

ـ نتمنى في العام الجديد ألا نشهد استمرار حالة الضنك التي يعاني منها كثير من المواطنين، وأن نأخذ بمضامين وجوهر التنمية لا بمظاهرها أو زينتها وزخرفها لتضيف إلى القائمة خللاً بل خطأ فادحاً.

ـ نتمنى أن تحمى حرية الصحافة من السهام التي توجه إليها وتتحطم القيود التي حولها، ويطلق لسانها ولا توضع كمامات على فمها وأن يطاح بأي محاولة تستهدف الحد من حريتها وإخراس صوتها.

ـ نتمنى في العام الجديد إلا نرى باطلاً يعطل الحق بقوته، ولا نرى حقاً لا يجد من يحميه، وأن يكون الجميع أبناء وطن واحد ليس فيه مواطنون ورعايا، وأن نجعل المواطنة الحقيقية هي المعيار الذي نحتكم إليه، والمصدر الذي نمضي وراءه من أجل مساواة للجميع في الفرص والطموحات والأحلام والتمنيات، والفعل الذي يبني الوطن.

– الأمنيات كثيرة، نتمنى ألا توصد الأبواب أمامها، وأن تحظى أمنياتنا وأمنياتكم بجرعات تزيد التفاؤل، وأن نصل إلى فعل ننهض به معاً، وحلم مشترك نطلع إليه ونجتمع عليه في العام الجديد، وكل عام وأمانيكم بمشيئة الله قابلة للتحقق.
 
 
الأيام 2 يناير 2009
 

اقرأ المزيد

حملة التبرع بالدم

تحيي جماهير غفيرة، ذكرى استشهاد الحسين بن علي، بطقوس عديدة، وابتكارات كثيرة، وعلى الرغم من وجود ما نختلف بشأنه من طقوس أو ممارسات، تتجلى لنا دعوة صندوق النعيم الخيري، للسنة العاشرة على التوالي للتبرع بالدم، لتزويد بنك الدم المركزي بدماء من يريدون إحياء هذه الذكرى.
إن حملة التبرع بالدم دليل واضح على أن تلك الثورة التي حدثت قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، تجسد معنى الإنسانية والسلام، فهي لم تكن بكل صورها تدعو للتطرف والهوان.
تمر علينا ذكرى عاشوراء، ونحن نأمل أن نبتعد عن كل الخلافات، ونبعد كل الخرافات، ونستبعد كل ما من شأنه فرقة وتنافر.
إن عاشوراء يجب أن يكون منطلقاً للوحدة بين جميع مكونات أطياف هذا المجتمع، ولا بد من التفكير فيما يجمع الناس، وفيما يعزز إنسانية الإنسان، لذلك انطلقت حملة التبرع بالدم التي تحظى باهتمام أهلي وشعبي، فضلاً عن الاهتمام الرسمي بهذا المشروع الإنساني.
إن الدم الذي يتبرع به مئات الناس، يذهب لإنقاذ حياة مريض، دون معرفة من هو هذا المريض، وما هو مذهبه، ولا جنسه ولا عرقه.
ربما البعض يريدون شناراً بين الناس، لا يعرفون انه ربما شريانا في جسمهم يحمل دم أخوة لهم يريدون الفتك بهم، وربما لا يعرف هذا الذي ذهب لملء الكيس بدمه أن هذا الدم سيذهب إلى من لا صلة قربى مذهبية بينهما.
أن حملة التبرع بالدم تسعى لتأصيل الوحدة الوطنية، أتمنى أن أرى في العام القادم كل ما يعزز الوحدة بين مكونات الشعب في رحاب عاشوراء.
 نشد على أيدي القائمين على هذه الحملة ونتمنى لهم التوفيق والنجاح لخدمة كل ما هو إنساني في هذا الوطن.
 
الأيام 2 يناير 2009

اقرأ المزيد

القضاء أولاً


منهجنا في العمل السياسي قائم على نبذ العنف بكافة أشكاله، ورفض أي صورة من صور المساس بالممتلكات العامة والخاصة، والإقدام على أية ممارسات من شأنها ترويع المواطنين ودفع الأمور في البلاد نحو التوتر وعدم الاستقرار.
وخلال السنوات الماضية أكدنا في عديد البيانات والتصريحات والمواقف على هذا الموقف، وكثيرةٌ هي المرات التي أدنا فيها مثل هذه الممارسات، وأكدنا أنها تلحق الضرر بقضية النضال الديمقراطي، وتسيء إلى صُدقيته، وتُوفر الذرائع لتصويره على أنه مجموعة أعمال تخريبية تمس بسلامة رجال الأمن وتلحق الضرر بالاقتصاد.
 وعلى الدوام دعونَا لتفعيل أدوات العمل السياسي والمطالبات المعيشية والقانونية، بالاستناد على ما توفره التشريعات النافدة من إمكانيات، على أن يوازي هذا عمل دؤوب من أجل تطوير هذه التشريعات وتحريرها من القيود التي تُقيد الحقوق التي تنص عليها.
ورأيُنا أن الحركة الوطنية والديمقراطية في البلد محتاجة إلى مواصلة العمل على بناء مجتمع مدني حديث متطور مُدرب على خوض المعارك النقابية والديمقراطية والمعيشية ومن اجل الحقوق الدستورية والسياسية عبر الوسائل السلمية، وعبر آليات الاحتجاج التي ضمنها الدستور والقانون، ضمن الديناميكية التي توفرت في البلد بعد المشروع الإصلاحي، وفي نتيجة نضال طويل خاضهُ شعبنا بكل فئاته على مدار عقود، قدم خلالها تضحيات جليلة.
هذا القول نُعيده اليوم في ظل الجدل الناشئ في المجتمع بعد إعلان وزارة الداخلية عن اكتشاف “مخطط إرهابي”، ولكننا ندعو وزارة الداخلية والحكومة عامة، طالما كنا نتحدث عن بناء دولة القانون والمؤسسات، إلى أن تكون سباقةً في تكريس المبادئ القانونية والدستورية في التعاطي مع المتهمين الذين تُنسب إليهم تهمة الضلوع فيه.
الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته  في محاكمة عادلة تتوفر فيها الضمانات القانونية الضرورية، وستجد الحكومة الجمعيات السياسية في مقدمةِ من يُدين كل من يثبت، قضائياً، ضُلوعه في أي عمل يمس أمن البحرين وسلامتها واستقرارها، ففي النهاية هذا وطننا ونحن حريصون عليه وعلى استقراره ونمائه، ولا نقبل بأي مساس به.
في قضيةٍ مثل هذه التي ينشغل بها المجتمع حالياً يجب أن تكون الكلمة للقضاء، الذي عليه أن ينظر القضية ويصدر حكمه فيها، فذلك يضع الأمور في نصابها، ويضع القضية في حجمها الحقيقي، الذي تقرره وقائعها نفسها، وليس طريقة تعاطينا الإعلامي معها.
وبطبيعة الحال فانهُ يشكل مصدر قلق لنا أن تؤدي هذه الأمور إلى المساس بمقادير الحريات المتاحة في البلد، حين يدور الحديث عن توجهات لتغليظ أحكام بعض  القوانين المتصلة بالحريات والتجمعات وغيرها، أو التوجه نحو سن تشريعات جديدة تضيق على هذه الحريات.
إن الرأي العام السائد في العمل السياسي في البلد هو الرأي الرشيد الذي يُقدر الأمور بصورة عقلانية، ويدرك أهمية الايجابيات المتحققة في البلد، ويحرص على ألا تعود البلاد إلى مربع الخيارات الأمنية البغيضة التي دفعت بلادنا ثمنها الباهظ فيما ما مضى.
وممثلو هذا الرأي حريصون على صون الحريات المتحققة ولا يرضون أن تتعرض لأي مساس بها، بالمقدار الذي لا يرضون فيه أي مساس بأمن الوطن وسلامته.

اقرأ المزيد