المنشور

مقبرة اللجان..


ليس من الصعب على العين أن ترصد ما لعبته لجان التحقيق في المشهد العام اليوم.. فكلما أثيرت زوبعة حول قضية.. وحُشر المسؤولون في زاوية.. سارعوا لتشكيل لجنة تحقيق للتملص من الموقف؛ وإطلاق رصاصة تخدير على عضد الرأي العام الذي ثار!!

فلشعب البحرين ذاكرة الكهول وحماسة الشباب وصبر الأطفال؛ لذا فإنه ينسى سريعاً.. ويثور سريعاً.. ولا يملك جلداً ولا ثباتاً على مطالباته فُتطوى سريعاً.. و’مهندسو’ اللجان يعون هذا الأمر ملياً؛ ولسان حالهم اليوم: إن أردت أن تردي قضية في البحرين.. فحوّلها للجنة تحقيق!!

بالطبع ليس التخدير غرض اللجان الوحيد فبعضها ينُصب للنكاية؛ وبعضها الآخر للترهيب أو التسويف.. أمثلة منتقاةٌ نسردها هنا للبيان..

– ثار الناس بشأن واقعة تسرب الغاز في المعامير.. وحرّكت الصحافة والبيئيون قضية ردم خليج توبلي ونفوق الأسماك في سترة.. لافتين لخطورة ما يدور وما يكتنف تلك القضايا من تجاوزات.. فشُكلت لجنتا تحقيق برلمانيتان في كلا الواقعتين.. تجاوزتا فترة عملهما القانونية بكثير حتى هدأت حمى الأصوات وخبت.. فلما خرجت التقارير مرت مرور الكرام ولازالت في أدراج المعنيين حتى اليوم.. ولم تتخذ بشأنها قرارا ذا شأن بعد!!!

– أثير حول تبدّد أملاك الدولة لغط شديد، فشُكلت لجنة تحقيق برلمانية منحت الحق في التقصي من كفة؛ وُعرقل عملها بالكفة الأخرى على يد وزارتي المالية والعدل والتسجيل العقاري.. ورغم إخفاق اللجنة في اقتحام الطابق 11 بوزارة المالية للاطلاع على وثائق وأملاك الدولة إلا أنها خرجت بنتيجة مفادها ضياع وثائق 26 كيلومترا مربعا من أراضي الدولة ‘وهو ما يكفي لبناء مدن ومئات الوحدات السكنية’، كما وكشفت اللجنة عن ضبابية مصير 2500 وثيقة.. وكلُّ تلك معلومات خطيرة كفيلة بزلزلة الأرض من تحت الأقدام في أقطار أخرى، ولكننا لم نشهد عليها -لليوم- تحركاً يذكر!!

– تناولنا في ‘على الوتر’ قضية تحرش مسؤول رفيع المستوى بوزارة خدمية بإحدى موظفاته.. وسرعان ما طفت شكاوى أخريات تشجعن للشكوى على المدير ذاته بعد أن كسرت زميلتهن حاجز الصمت.. شكلت الوزارة المعنية حينها لجنة تحقيق لذر الرماد في أعيننا ومُنح المدير إجازة إجبارية مدتها 3 أشهر عاد بعدها وكأن شيئا لم يكن..!!
فلا نحن عرفنا إن كانت لجنة التحقيق قد برأته أم أدانته.. وعلى أي أساس برئ رغم وجود تسجيلات خطية وصوتية تُدينه.. أو كيف أدين ولم يُتخذ ضده أي إجراء صريح بعد!!

– في 31 مايو/أيار 2007 أثيرت ضجة بين النائب محمد المزعل ووزيرة الصحة آنذاك د.ندى حفاظ على خلفية تجاوزات موظف مخمور في مستشفى السلمانية الطبي.. وهدّد المزعل باستجواب الوزيرة إن لم تثبت الوزارة جديتها في التعاطي مع القضية.. استقالت الوزيرة وبقي الموظف ومازالت نتائج لجنة التحقيق بشأنه مجهولة!!

– في ابريل/ نيسان 2007 فقدت البحرين الشاب عباس الشاخوري الذي أصيب بطلق ناري أرداه قتيلاً أثناء عمله.. ثارت ضجة الرأي العام وشغلت التكهنات والتحليلات الناس طويلاً حول القاتل ومصدر السلاح ووعدت الداخلية بلجنة تحقيق ‘ستكشف عن الجاني في غضون أسبوعين’ ومرت زهاء السنتين دونما خبر ولا علم من اللجنة!!

– حصد السكلر أرواح 23 شاباً وشابة منذ مطلع ,2008 وكانت ملابسات القضايا – كلها- تشير إلى وجود تقصير طبي في إدارة الحالات.. ولامتصاص ثورة الأهالي شُكلت العام الماضي خمس لجان تحقيق.. لا زالت تنتظر الوحي لتخرج لنا بنتائجها!!

وقائمة الأمثلة تطول.. بالطبع بعض تلك اللجان تخرج بنتائج ولكنها تحجبها عن الرأي العام.. بعضها الآخر يخرج بتوصيات لا تنفذ؛ وبعضها الآخر يوفر على نفسه شقاء بسط التوصيات من أساسه!!

لذلك فإن لم تجدونا نهلل – كما كنا من قبل- عندما نسمع بنبأ تشكيل لجنة تحقيق فاعذرونا.. فلدينا تاريخ مظلم مع اللجان التي تحولت -وبكل جدارة- لمقبرة للقضايا والمطالبات..!!
 
الوقت 20 يناير 2009

اقرأ المزيد

من تاريخ صراع القمم العربية (3)

خلصنا في الحلقتين الماضيتين ان تجربة مسيرة العمل العربي المشترك في اطار الجامعة العربية بمقاطعة مصر على امتداد ما يقرب عقداً من الزمان اثبتت فشلها الذريع، بصرف النظر عن وجاهة دوافع اتخاذ قرار المقاطعة، والاشكالية المعقدة التي سبّبها ومازال يسببها وجود دولة فيما بينهم دخلت في معاهدة صلح وسلام مع عدوهم الاسرائيلي واصطدام التزام القاهرة بهذه المعاهدة بالمبادئ والاسس والمرتكزات للكثير من اطر العمل العربي المشترك، وعلى الأخص المتعلق منها بالدفاع المشترك، فضلاً عن اشكال المقاطعة العربية لاسرائيل، وعلى وجه الخصوص المقاطعتان السياسية والاقتصادية.
ذلك بأن الاشكالية الموضوعية المعقدة كما اثبتتها سنوات مقاطعة مصر تجلت في ان تسيير العمل العربي المشترك في ظل تغييب مصر لا يؤتي بالنفع المرجو على العرب في ضوء صعوبة التعويض عن دورها ووزنها اللذين تركا فراغاً واضحاً بيناً، وان استمرار وجود مصر في اطر مسيرة العمل العربي المشترك للجامعة العربية، حتى مع التزامها بكامب دافيد، وحتى رغم كل الاشكاليات المعقدة التي سببها ويسببها هذا الالتزام على اطر سقف العمل المشترك ضد اسرائيل هو افضل من تغييبها كلياً من هذه الاطر وحتى كل قوى المعارضات الفلسطينية والعربية سلمت بعدئذ بالتعامل الرسمي مع الحكومة المصرية وهذا ما اثبتته تجربة هذا العمل العربي المشترك ذاته منذ اعادة مصر الى الجامعة العربية في اواخر ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن بالرغم من انخفاض سقف مواقف وقرارات العمل العربي الرسمي في معالجة القضية الفلسطينية وفي مواجهة عدوهم الاسرائيلي المشترك بفعل الاشكالية الموضوعية المعقدة التي فرضها التزام القاهرة بكامب دافيد.
ولكن للأسف مازالت تغيب هذه الحقائق عن اذهان بعض القيادات والزعامات العربية خلال تفجر الخلافات الحادة بينها وبين القاهرة، فيعتقدون بإمكانية خلق محاور جديدة تقوم على عزل مصر عن مسيرة العمل العربي المشترك، بغض النظر عن مدى صحة ووجاهة دوافع هذه الرغبة، جزئياً ام كلياً، في الخلافات والمواقف الطارئة سواء المتصل منها بالقضايا المتصلة بالقضية الفلسطينية او غيرها من القضايا الاخرى.
ولئن كان يصح بالدرجة الأولى استحالة تسيير العمل العربي المشترك بتغييب دور مصر وثقلها مهما كانت محدودية ذلك الدور والوزن في ظل التزامها باتفاقية كامب دافيد، فإن ذلك يصح ايضاً بدرجة اخرى باستحالة عزل اي دولة من الدول العربية الاساسية ذات الوزن المشهود المؤثر في مسيرة العمل العربي المشترك، وعلى وجه الخصوص والتحديد سوريا والسعودية. فبدون اشراك هاتين الدولتين في اطر العمل العربي المشترك، وعلى رأسها مؤتمرات القمة العربية يستحيل تحقيق أي نجاح حتى لو شاركت مصر في مثل هذه المؤتمرات.
واذا كنا سبق ان أوضحنا غداة القمة العربية بدمشق الاخيرة في خريف العام الماضي بأنه ما كان ينبغي على أي دولة ان تقاطع أي قمة رسمية اعتيادية مقررة ومتوافق عليها سلفاً، سواء أجاء شكل هذه المقاطعة بالغياب، أو عبر تخفيض مستوى التمثيل الى أدنى مستوى غير معهود، وهو ما اخذته سوريا التي احتضنت القمة وعدد من الدول العربية على القاهرة والرياض، ولاسيما في ظل الوزن والثقل الكبير اللتين تمثلهما هاتان العاصمتان في العمل العربي المشترك. واكدنا ايضاً ان مؤسسة القمة العربية ينبغي ان تعمل دائماً بانتظام وفق آليات محددة ومحترمة من قبل جميع أعضائها (الاقطاب العرب) وعدم تعطيلها او التأثير على أي مؤتمر من مؤتمراتها، سواء من خلال الغياب الكلي او الضغط بتأجيل موعدها او تخفيض مستوى التمثيل فيها.
وربما القليلون هم الذين تذكروا بأن واحداً من اهم عوامل الاصرار على عقد القمة الطارئة حول غزة من قبل بعض المتحمسين لها رغم اتضاح تضاؤل كل فرص نجاح التئامها، بصرف النظر عن دوافع الرافضين لانعقادها، هو الانتقام الدفين من التمثيل المتدني جداً لبعض الدول العربية الاساسية في قمة دمشق والذي رأته الاخيرة بأنه يهدف الى افشال القمة بما انه يشكل في ذات الوقت فشلاً للدولة التي احتضنتها.
وقد تلاقت ارادة هذا “الانتقام” مع ارادات عديدة لعدة دول عربية تحت دوافع مختلفة ومتعددة في ظروف الانقسام العربي الذي ازداد تعقيداً خلال مذابح غزة.
وكان على رأس هذه الارادات رغبة احدى العواصم العربية الخليجية لعب دور قيادي ليس فقط خلال الازمات التي تعترض مسيرة العلاقات الثنائية بين طرف عربي وآخر، او خلال الازمات الداخلية المزمنة التي تمر بها بعض الدول العربية فحسب، بل امتدت هذه الرغبة والطموحات بعدئذ للعب دور قيادي أو “وسائطي” ان صح التعبير، ليشمل حتى الازمات التي تعترض مسيرة العمل العربي المشترك، وما كان ذلك الا احد الاسباب الرئيسية في فشل القمة الطارئة التي احتضنتها مؤخراً حيث رأت فيها بعض العواصم العربية الكبرى الاساسية بأنه دور اكبر من حجم هذه العاصمة الخليجية وانه يشكل تحدياً لها واحراجاً بالاصرار على فرض القمة الطارئة!

صحيفة اخبار الخليج
20 يناير 2009

اقرأ المزيد

عقابٌ فاشي لأهل غزة

لم تكن ضربات صواريخ حماس البسيطة الصغيرة تستدعي كل هذا الهجوم الواسع الوحشي.
لكن كانت هناك عملية تصفية حسابات سياسية غائرة في الأعماق السياسية.
ينطلق زعماء إسرائيل كما قلنا سابقاً من المدرسة الهتلرية، فهي مترسبة في أعماقهم، ولم تـُتح للمنظمات الصهيونية ولا للجماعات السياسية المذهبية الشمولية الإسلامية من جانب آخر تشكيل وعي ومجتمع ديمقراطيين.
كانت كل هذه الصواريخ الحماسية الهزيلة بحاجة إلى بضع طائرات مروحية.
لكن المسألة هنا ليست مسألة صواريخ، بل عقاب أهالي غزة على انتخاب حماس.
تقول لهم هذه الضربات الدموية: أنتم انتخبتم “حماس” فذوقوا ثمار انتخابكم.
وعليكم في المرة الأخرى أن تنتخبوا قادة فتح والرئيس أبا مازن.
وبطبيعة الحال لا يستطيع الرئيس أبومازن وقيادة فتح أن يواجها بهذه المغامرة الكارثية نفسها لقادة حماس. فلا توازن القوى يسمح بذلك، ولا أوضاع المنطقة والعالم.
لكن قادة حماس يريدون أن يتبأوا مركز القيادة السياسية في حياة الشعب الفلسطيني ولو على بحر من الجثث.
تريد القيادة الإسرائيلية الهتلرية أن تحددَ نمطَ الديمقراطية الفلسطينية القادمة، بأن تكون مجرد مُلحق بجسم الدولة الإسرائيلية الدكتاتورية.
لكن الرئيس أبامازن هو بين فاشية إسرائيل وسياسة حماس، وأن يشكل وطنية فلسطينية تحررية وديمقراطية، عبر النضال السلمي وعدم وجود جيش ذي قيمة عسكرية، في حين تحاول حماس أن تقفز على هذا الاختلال العسكري الهائل بين إسرائيل والفلسطينيين بكمٍ ساذج من الصواريخ، وهي فرصة للقادة الفاشيين في تل أبيب لاستعراض عضلاتهم العسكرية.
إن الصواريخ حين تنطلق من حماس على العسكريين والمدنيين في إسرائيل إنما تؤججُ الجميع ضدها، كما أن ذلك يماثل أسلوب العقاب الجماعي الإسرئيلي.
فإسرائيل هنا تتذرع بصواريخ حماس لتؤكد فاشيتها الوطنية الدفاعية.
ولا تنفع في أساليب النضال هنا الجعجعة من صغار العرب وجماعات الحماقة الذين هم أصدقاء للفاشية الإسرائيلية والذين يعطونها الفرص للعربدة العسكرية المتفوقة.
لكننا حين نرى العقاب الجماعي وقتل المدنيين بمثل هذه الوحشية، وكراهية البشر العنيفة من العسكرية الإسرائيلية الهمجية والاعتداءات حتى على المدارس والمخازن والملاجئ نقول: إن تلاميذ هتلر في تل أبيب تلاميذ نجباء وإن لم يكونوا بمثل شجاعة فيالقه، بل هم جبناء بكل خسة وحقارة، تفوقوا لأن جماعاتنا العربية والإسلامية يقدمون لهم أفضل الخدمات بمغامراتهم وعدم توحدهم.
لقد وضعت هجمات إسرائيل قادة فتح كذلك في موقف عصيب، فهي التي تريد من ضرب حماس تكريسهم في الساحة الفلسطينية، قد أحرجتهم حرجاً كبيراً.
وهذا الانتصار العاطفي لحماس عليهم هو نتيجة لدكتاتوريتهم، وعدم اشتغالهم على تنمية عناصر الوطنية الفلسطينية العلمانية الديمقراطية داخل منظمة التحرير، فيجب عدم التسليم بشروط إسرائيل، وهيمنتها، وعدم اعتبار التفاوض الوسيلة الوحيدة للنضال وإنشاء الدولة الفلسطينية، بل لابد من القوة كذلك، وهذه القوة تتمثل في أشكال شتى، من السلاح حتى المظاهرات والاحتجاجات والتشهير بإسرائيل في العالم كله.
والمفاوضات والحوارات تتطلب الحوار والتعاون مع اليسار في إسرائيل والقوى الديمقراطية فيها، لجعل الفاشية محاصرة ومهزومة في خاتمة المطاف.
أما أن نتفاوض مع الطرف الحكومي العدو ونسلم كل الأوراق في يده فهو أمرٌ يرفع أمثال حماس الذين يتصيدون مثل ذلك من أجل القفز للقيادة ولا شيء غيرها.
المتاجرون في الأوطان لأجل منافعهم والمتاجرون في الأديان لأجل سيطرتهم يتلاقون في خراب كبير.
وإذا لم نشكل علاقات تعاون بين كل المتضررين من هذه الأساليب فهي تبتلعنا جميعاً.
والضعف العسكري للقوى العربية جميعاً هو بسبب الانقسام وبسبب صراع المحورين العربيين الإسلاميين، مما يجعل الحراب الإسرائيلية تدخل في اللحم الفلسطيني بسهولة، فهذا يغامر وذاك يعجز عن القيادة الديمقراطية، والنتيجة هي سيطرة الحراب على المتطرفين والمعتدلين معاً.
وقد طُرحت مسألة إعادة اللحمة للمنظمات الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية، ولكن هذه اللحمة لا تستوي من دون وجود لحمة عربية إسلامية، ودول “الممانعة” أو جماعات الجملة الثورية الصاخبة الفارغة لا تريد هذا التوحد وهي تصخب من أجل التحرير.
ولكن ليس لديها فعل نضال توحدي حقيقي بعد أن زايدت كثيراً وخونت الجميع.
فهذه الساحة مفتوحة لمبادراتهم الساحقة لإسرائيل ولكن لم ينجزوا شيئاً.
فهل يمنع عربي أحداً من هزيمة إسرائيل؟ ولماذا هذا الدفع بالعرب إلى أن يظهروا خونة وحماة إسرائيل وهؤلاء المتهِمون لم يقتلوا ذبابة؟
ليس ثمة سوى الطريق النضالي الصبور وتجميع كل الطاقات وعزل القوى المتطرفة العدوانية في إسرائيل ومغامراتها العسكرية وتكوين تعاون ديمقراطي إنساني لشل يدها.
فأي حديث عن سحق إسرائيل وتدميرها وحرق أعلامها وشعبها ليس هو سوى هدايا مجانية لهؤلاء العسكريين الهتلريين في تل أبيب وجعل الناس تلتف حولهم.

صحيفة اخبار الخليج
20 يناير 2009

اقرأ المزيد

غداً .. سيفوت الأوان

الأمر الأساسي المسكوت عنه في العمل الخليجي المشترك، وفي نشاط مجلس التعاون نفسه هو الشق السياسي الداخلي، ونعني به ذلك الشق المتصل بإضفاء طابع شعبي على التعاون الخليجي. إن التداخل بين أبناء المنطقة سابق لقيام المجلس، وهو من القوة والرسوخ بحيث أن المجلس استند إليه عند قيامه، ولكنه لم يسع لإكسابه طابعاً حديثاً لتجديده وعصرنته وجعله مواكباً للمتغيرات. وإذا كان التنسيق والتعاون، وحتى الوحدة، بين دول الخليج هدفاً يجب على الحكومات السعي إليه، فإن الأمر من بابٍ أولى عائد لشعوب المنطقة نفسها، وحتى الآن فإن العمل الخليجي المشترك هو عمل فوقي، على مستوى الحكومات والأجهزة الرسمية فقط، وهو لم يجد بعد إطاراً شعبياً على شكل تنسيق بين الجمعيات والهيئات الأهلية والاتحادات المهنية الممثلة للرأي العام الخليجي والتي تعكس ما يمكن وصفه بتعبيرات المجتمع المدني في كل دولة من دول المنطقة على حدة وفي الإطار الخليجي المشترك. إن تعبيرات المجتمع المدني هي، في أحد أوجهها، ثمرةٌ من ثمرات التحولات الاجتماعية التي شهدتها بلدان المنطقة بفعل الإنفاق الحكومي على الخدمات، خاصةً خدمات التعليم والتأهيل، حيث أنفقت الحكومات ملايين وربما مليارات الدولارات على إعداد الشرائح الجديدة من المتعلمين والفنيين والتكنوقراط المنخرطين في العمل الذهني على أنوعه. وبهذا المعنى فإن هذه الشرائح هي قوى أصيلة في مجتمعات الخليج اليوم لا يمكن إقصاؤها وتجاهل دورها إلى ما لا نهاية والاستخفاف بمطالبها وتطلعاتها في تحديث مجتمعاتها وتطوير الأداء الحكومي والتغلب على استشراء الفساد والبيروقراطية وترهل الأداء الحكومي، هذا فضلاً عن تطلها للمشاركة السياسية عبر القنوات الشرعية التي يجب أن تتوافق مع العصر وتغادر المنطق السائد. الأجدى بالنسبة لنا كدول خليجية أن نبادر بأنفسنا وبالسرعة الضرورية لتطوير البنى السياسية الداخلية في بلداننا بإرادتنا وبالتفاهم بين شعوب المنطقة وحكوماتها، بدل اللجوء إلى الصيغ التوفيقية والأشكال الموازية لتفادي الحرج أمام الخارج، لأن الحاجة إلى هذا التطوير، خليجيا، هي في الأساس حاجة وطنية وضرورة من ضرورات تأمين الاستقرار والأمن الداخلي في هذا العصر الذي أصبحت التعددية السياسية والشفافية وتدفق المعلومات مقومات أساسية له، ولا سبيل لنا لأن نكون خارج هذا العصر لأننا في قلب اهتمامه. إن ما يقلق هو أن حجم الاستجابة للتحديات في هذا المجال ما زال محدوداً وغير كافٍ، رغم أن التطورات المحيطة تفرض هذا الأمر فرضاً، فما زالت دول المنطقة تراوح بين حالين، إما حال تجاهل الاستحقاقات السياسية أو تأجيلها ما أمكن أو السير بخجل نحو بعض التدابير المحدودة على طريقة «خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء». فلا نكاد والحال كذلك نقدر على مغادرة المربع الأول فيما المطلوب إزاء ما هو ماثل أمامنا من مهام أن نحث الخطى جرياً للحاق بما فاتنا، وأن نبارح مشي السلحفاة إزاء تحديات كبرى تواجه بلدان المنطقة، التي قد تجد نفسها بعد حين لن يطول في أتون أزمات غير مسبوقة بحجمها ووقائعها وبالنتائج التي قد تترتب عليها. وهي نتائج قد تكون من الخطورة والجذرية بحيث تعيد تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة، ومن شأن كل تردد أو تلكوء في الاستجابة لشروط التطوير السياسي والمشاركة الشعبية أن يعقد الأمور ويضاعف من الكلفة مرات.

صحيفة الايام 
20 يناير 2009

اقرأ المزيد

التضخـيــــم والمبـالغــــة ومعــــارك الديـكـــــة

أخيرا اختزل النائب عادل المعاودة «نائب كتلة الأصالة الحالة النيابية السائدة» خاصة بعد أن شهد المتفرج البحريني على أضواء مشهد مسرحي قام به النائب مزعل «وهي لقطات جديرة بالميلودراما الإغريقية العريقة» وان كان حجم سعة المسرح ضيقة لحركة النائب وهو يمضي متحركاً متكلماً ومشيراً بكلتا يديه «اشنقوني.. اذبحوني» الخ من تلك الجمل المنتقاة والمنفلتة عن روح النص التي اقتضتها اللعبة البرلمانية لكتلة كان عليها أن تروض كل العنفوان العاطفي والانفعالي لدى نائب منها «عليه أن ينسى تماما» وبعد أن انتخبه الشعب ودائرته «انه بات بعد القسم الذي أداه انه يقف تحت قبة البرلمان وفي عيون ومرمى عدسات المصورين وأجهزة الإعلام» بحيث كان عليه أن ينسى حالة التمثيل الشخصي للدائرة ونفسه بكل ما يعتليها من غرائز وذاتيات ورغبات البروز «إلى كونه شخصا يمثل كتلة نيابية» تحمل في أجندتها مشروعا سياسيا وفكريا تود إبلاغ رسالته لجمهور عريض ينتظر منها منجزات تشريعية مهمة «لهذا لن يكون المدافع عن الشعب الاستعراضي والمسرحي سيحظى بتصفيق من يكتمون غيظهم ويحركون عقولهم ويتداولون بروح الحكمة وعقلها» كل شؤون الساعة في سياساتنا الحالية والمنتظرة قريبا ومستقبلا. ما قاله الكثيرون في الشارع البحريني السياسي والناضج منه أنها لا تتعدى تلك الصرخات سقف المجلس فبعدها ستخبو النار بالسرعة نفسها.. الجيل الجديد برمته بدأ يستوعب ويعي أن تلك الظاهرة المسرحية لا يجوز أن تحدث بكل بساطة في جلسات المجلس المسؤول في وقته ونقاشه عن انجاز المهمات المتعلقة بحياة الناس والوطن. ربما الجميع يعرف أن الانفلات «انفلات الأعصاب والتشابك بالأيدي والتلاسن بجمل غير لائقة» تحدث في برلمانات كثيرة «ولكنها أيضا تكون نادرة النشوب» ويقابلها الشارع السياسي بنقد حاد ويوجه سهامه إليها إعلاميا بصورة لا ترحم. فإذا ما كان شعبنا طيبا ومتسامحا إلى حدود ما فانه من جانب آخر يدخرها لك مع الأيام وتلصق في ملفك الحياتي حتى بعد خروجك ومغادرتك المقعد النيابي. تظل مسألة مهمة جدا «إن نائبنا مزعل لم يزعل بتلك السرعة والحدة إن لم تكن هناك جمل متناثرة من كتل أخرى تلعب بنيران مفرداتها ومهيجاتها العصبية» بل وتدرك أين نقطة الضعف المثيرة في نائب الوفاق «الذي اهتم كثيرا بالأضواء» تفوق كل جماعته مما يطرح سؤالا هاما للغاية. هل كان مزعل هو الصوت المعبر للوفاق بقصد عن تلك المسرحية المفتعلة؟ أم انه خرق لوائح الكتلة وتجاوز حدوده المرسومة؟ في حالة التفسير الأول «فان ذلك يعني إن الوفاق حاولت توزيع الأدوار على الأعضاء بطريقة لم تحسنها» أو أن التجاوزات الانفعالية هيمنت على شخصية النائب أنسته وظيفته ودوره وعادة كثير من الممثلين فوق خشبة المسرح عندما يهيمون حبا في تصفيق الجمهور تنزلق أقدامهم خارج النص المكتوب «فيحلق شرقا وغربا» منشّدا للتصفيق والإضاءة والعدسات «فتبدو له لحظة الزهو قمة التألق» ومن هنا يدخل ممثل المسرح بالتدرج إلى عالم الغرور الفني «لكونه يعتقد انه فوق المسرح كله وانه هو المسرح بكل وظائفه وطاقمه» وان ذلك العالم الدرامي المتكامل ليس إلا هو ومتى ما غادره كممثل كبير ينهار فجأة. مثل هذه النزعة تسيطر على العديد من الساسة وتتملكهم إلى حد تضخم الذات والمبالغة في قيمة دورهم المعزول عن دور الاوركسترا الفنية أو السياسية في حياتنا.
وفي كلا الحالتين «حالة توزيع الأدوار بين أعضاء الوفاق وتجاوز العضو خطوطه أو تحليق العضو بجناحيه خارج السرب والدخول في غناء منفرد كيفما يرغب» كما رأينا الطريقة التي قام بها النائب مزعل فكانت حركة جديرة باقتناصها مسرحيا وتكديس تلك المفردات لتخرج علينا خشبة مسارحنا مستقبلا بموضوعات فنية جميلة بحيث نسمع شهقات شكسبيرية عن الغدر والذبح والاغتيال واستخدام السم في زمن العروش المهتزة في بريطانيا. سنشاهد تضخيما ومبالغة من كل الأنواع وليس هذا النوع، بل «ولوعة جبد» يسل فيها النائب خنجره البلاستيكي في حركة تمويهية يقتل نفسه مرددا «إن لم تذبحوني ذبحت نفسي.. بيدي لا بيد عمرو !!» ولكننا لن نكتشف في نهاية المشهد الخيمة والقبيلة ولا مركز الشرطة وإنما صوت سيارة الإسعاف ومجموعة من الصغار تركض وراء النائب تولول صارخة كما صرخوا في قيس كيفما يريدون.
ودون أن ننسى ما فعلته كتلتا الأصالة والمنبر الإسلامي من وخز بالإبر الخفية «فإنهما لا يخفيان ضغينة الاستئثار» مثلما لا يخفي نائب هنا ونائب هناك عناصر صوتهما «المشمئز» حول قضايا جادة تهم مجموعة سياسية ومجتمعا برمته في حالة ارتباك سياسي وإعلامي عن قضية مثيرة ونزاعات برلمانية حول «هل هو مخطط إرهابي أم أن هناك اتهامات بالتخطيط» وحسب موضوعه ومنطق مزعل الذي قال كيف نقول إن هناك مخططا إرهابيا؟ هناك اتهامات بالتخطيط «ولم يكمل جملته وما هو نوع هذا التخطيط هل هو تخطيط لعمل إرهابي أو من جديد لأعمال عنف وتخريب!! ونحن بتنا ندرك أن التخريب ليس إلا حرق إطارات وتكسير مصابيح كهرباء» ولكن إذا ما صدقت الأنباء حول وجود المسامير والرصاص والتدريب وخطط اختيار الأماكن والتوقيت «فان إرعاب الناس وإدخالهم في لعبة خطيرة ونتائج فادحة» فالمسألة بحاجة إلى توقف هادئ يخرج من نطاق كل تلك الألعاب البهلوانية «سواء على مستوى الإعلام أو مستوى نقاش النواب» فلا داعي للركض وإصدار البيانات وتحويل قبة البرلمان إلى مسرح للمشاحنات «فالوطن والأمن يهم الجميع ودون استثناء» المهم منا أن نرتفع عن روح التشكيك والمبالغة والتضخيم ومعارك الديكة.

صحيفة الايام
20 يناير 2009

اقرأ المزيد

عنفوان أفكار خطرة

هكذا هي الحياة، بنيت بطريقة شيطانية محكمة، بحيث إننا لا يمكن أن نحب من دون أن نكره، كما شخّص ذلك الكاتب الإنساني الكبير مكسيم غوركي. غير أن هذه البنية تحوي ما هو أعقد من ذلك بكثير. وأمر الكراهية طالما حيّر فلاسفة ومفكرين وكتّاباً. وقد حذر الكاتب الإنجليزي إيفلين فو (1903 – 1966) من أنهم «عندما يكرهون بشدة، فذلك يعني أنهم يكرهون أمرا ما في دواخل أنفسهم».
لكن، هل للكراهية مقاييس، بحيث تصبح صغيرة أم كبيرة؟ فكتور هيغو يرى أنها دائماً كبيرة ووحشية حتى عند أصغر المخلوقات شأناً. فالكراهية قوية بما هي كراهية، ولا تجد إشباعها إلا في ذاتها، لدرجة أنه حتى عندما تكره النملة فيلاً، فذلك يعني أن الفيل يواجه خطراً.
وعندما تتناسخ الكراهية مرات: كره متبادل بين طرفين، وكره كل طرف لما بداخله، فإنها تصبح مرعبة للغاية. تبدأ كأفكار، ثم أفكار عفنة تصاغ على ورق. لكن ما إن تجد هذه الأفكار مزيداً من معتنقيها، وما إن تنبسط الأرض أمامها حتى تتحول إلى قوة مادية تدميرية هائلة.
وفي ذات يوم مشؤوم قد تحرق الأخضر واليابس.«.. إننا لو خضناها فسنحرق الأخضر واليابس».. هذا بالفعل ما جاء، إضافة إلى عبارات تشم منها رائحة التكفير والجز والهتك والنعوت غير الأخلاقية، في إحدى الوريقات التي وزعت خفية في إحدى مدن البحرين الأسبوع الماضي دفاعاً عن «السياسي المستقل» ورجل الدين النائب جاسم السعيدي. الأخير كان قد أطلق من على المنبر الديني نعوتاً وتهديدات، على سوئها، تهون كثيراً أمام ما جاء في الوريقة. وبقدر ما كانت أفكار الخطبة والخطاب غاية في التدني، بحيث لا تحتاج إلى كبير جهد لردها، فإنها غاية في الخطورة أيضاً. وبعد أن أثارت الخطبة المستعدية استياء واسعاً في البحرين وخارجها اضطرت السلطات المعنية إلى إيقافه عن الخطابة الدينية، كما سبق أن منعت الأستاذ حسن مشيمع من مواصلة إلقاء خطب هي الأخرى ذات نَفَس طائفي. إلا أنها سمحت للنائب السعيدي بالعودة للخطابة مجدداً بعد أسبوع واحد لا غير.
وقبل ذلك كان «الحقوقي/ السياسي» عبدالهادي الخواجة قد استغل مناسبة عاشوراء لخطبة تحريضية أمام الجموع، أثارت جدلاً واسعاً ونقداً حاداً. ولمعرفتي التي لا بأس بها بالخواجة من خلال العمل المشترك السابق أدرك أنه، كسياسي ذي خبرة، يعي استحالة تحقيق ما يدعو إليه لأسباب عقدية/ دستورية وغيرها، إلا أنه يطرح ما يطرح على سبيل «المساومة الخشنة». وبرأيي، أنه بذلك أوقع نفسه في مجموعة أخطاء دفعة واحدة، منها:
أولاً: الجموع المحتشدة لا تقرأ ما يعيه هو من استحالة تحقق ما يدعو إليه. وكثيرون سيفهمون ذلك على أنه دعوة للشروع في «مشروع»/ مغامرة.
ثانيا: بينما سيكون الخواجة محمياً «بعض الشيء» بسمعته الحقوقية الذائعة عالمياً، إلا أن كثيرين سيصبحون ضحايا العنف والعنف المضاد غير المحسوبة نتائجه. وذلك ما كان يفترض من الأستاذ الخواجة أن يتعامل مع الجماهير بمسؤولية وطنية أكبر.
ثالثة: الأثافي هي نسف ألف باء مهنية الحقوقي المدافع عن حقوق الإنسان. لا يمكن أن يقود المرء منظمة مدافعة عن حقوق الإنسان ويقود نشاطاً سياسياً في الوقت نفسه، فلكل أهله. وهذا، للأسف، ما وقع ويقع فيه الكثيرون. وليس لذلك سوى معنى واحد، وهو توظيف العمل في مجال حقوق الإنسان لأغراض سياسية، وهذا ما ينتج حقوقياً/ سياسياً مجروح المهنية على الجهتين.
وفيما نواجهه في البحرين أن مشكلة بعض الزعامات، وخصوصاً الطارئة، هي في اعتقادهم بأنهم يجب أن يحافظوا على إثارة ستار الدخان الذي يريدون من ورائه أن يظهروا أنفسهم أمام الجموع عميقي الرؤى. أما مشكلة الجموع، بحسب فريدريك نيتشه، هي أنها كثيراً ما تعتبر عميقاً كل شيء لا تستطيع رؤية قاع له. وهكذا، ففي كل عهد يمكن البحث بين القادة الشعبيين عن أكثر بني البشر شروراً، كما يرى توماس ماكولاي. بعض هؤلاء الزعماء، وإن حفظوا نصوصاً عن ظهر قلب، أميون، بالمعنى الدلالي للكلمة، والأميون يملون بدلاً من أن يبدعوا شيئاً مفيداً.
تُرى، هل يحدث ذلك من فراغ؟ ليس من فراغ بالطبع، لكن لكي تملأ القوى المناهضة للإصلاح، بوعي أو بغير وعي، ذلك الفراغ الذي مازالت تتركه القوى السياسية المعارضة والقوى السياسية المسيطرة معاً على طريق الإصلاح المتعثر، الذي يحتاج إلى مراجعة جدية مهما كيل له من عبارات المديح. ويجري الذي جرى فقط؛ لأنه، كما في المسرح، عندما يختفي الأبطال الحقيقيون أو يذهبون في استراحة يخرج المهرجون على الخشبة. لن يلعب قادة المعارضة الحريصون على مضي الإصلاح قدماً، ومثلهم في الحكم من له مصلحة في ذلك، دورهم إلا عندما يكونوا قادة يمتلكون صفات وقدرات القادة المحترفين. لكن القدرة الأهم، برأيي، هي القدرة على معرفة روابط السبب/ النتيجة في قراءة وتفسير مختلف الظواهر الاجتماعية، القدرة على الفصل ما بين البذرة وقشرتها فوراً، معرفة أن الفئات الاجتماعية المختلفة قابلة للغليان عند درجات حرارة مختلفة، وأن هناك درجة ما يتحقق معها الغليان الشامل.. وأن الأخطار المحدقة من آثار ما يكوي العالم من نار الأزمات الشاملة يجب أن يقابلها ليس مسؤولية أكبر من قبل طرفي الحكم والمعارضة، بل ودرجة أكبر من تقاسم المسؤولية بينهما، وبالبحث عن الحلول عبر مساومات ليست «بالخشنة» بالضرورة. في مقدمة تلك الحلول، معيشياً، حل مشكلة الفقر بعد الاعتراف بها وليس الإدعاء بالقضاء عليها؛ لأنه، ودائماً، في الصراع ما بين العقل والقلب تنتصر المعدة. وعلى مستوى الحريات إطلاقها لتطلق بدورها طاقات الجماهير الخلاقة في بناء الدولة والمجتمع. إذا امتلك القائد، هنا وهناك، هذه الموهبة فسيتمكن من استبعاد الخطأ الأساسي الذي يتراءى في البداية طفيفاً.
وسواء في فترات قوته أو ضعفه أثبتت التجارب دائماً أن التيار الوطني الديمقراطي وحده القادر على طرح فكرة المشروع الوطني الحضاري الذي يمكن أن يصبح في النهاية برنامج قوى المعارضة من أجل التغيير نحو الأفضل، ويصبح الأساس الواقعي لحوار بين هذه القوى والقوى السياسية المسيطرة.
 
صحيفة الوقت
19 يناير 2009

اقرأ المزيد

من تاريخ صراع القمم العربية (2)

شاءت المفارقات التاريخية الساخرة ان أكثر الانظمة حماسا لمقاطعة مصر لتوقيعها “كامب دافيد”، النظام العراقي السابق بزعامة صدام حسين، وعرابا لاحتضان قمة بغداد التي صدرت عنها قرارات المقاطعة، اضحى بعدئذ ليس واحدا فقط من ابرز الانظمة العربية التي اخترقت الالتزام بقرارات المقاطعة، وبخاصة أثناء حربه على ايران (1980-1988م)، بل المتسبب الرئيسي في تفجير النظام الاقليمي العربي، بعد اقل من عامين من إعادة مصر إلى الجامعة العربية وتثبيت عاصمتها مقرا لها، وكان ذلك على اثر الغزو العراقي للكويت صيف 1990م، أي مرور بعد عامين فقط من انتهاء الحرب العراقية – الايرانية.
ومثلما تمزق النظام العربي الاقليمي في ظل مقاطعة مصر إلى محورين: محور جبهة الصمود والتصدي، ومحور “المعتدلين” بقيادة السعودية، ها هو ذا النظام العربي يتصدع مجددا بعد اقل من عامين من قرار اعادة مصر، وقد جاء هذا التصدع ليعبر عن نفسه في قمة القاهرة العاصفة الطارئة لمناقشة الغزو العراقي، والذي لم يفشل في اقناع النظام العراقي بالانسحاب من الكويت فحسب، بل الاخطر من ذلك أدى إلى انقسام الدول العربية الى محورين جديدين: محور معاد للنظام العراقي ومساند بقوة للكويت والسعودية، ومحور آخر مساند أو مهادن للنظام العراقي.
ومع انه يمكن القول إن غالبية الدول العربية كانت ضمن محور الاعتدال (الأول)، إلا أن النظام العربي الجديد في ظل غياب المحور الثاني تعرض لانتكاسة خطيرة جديدة حتى بالرغم من وجود مصر فيه. وظل الحال على ذلك حتى في اعقاب تحرير الكويت وفرض الحصار على العراق طوال عقد ونيف (1990-2003م)، وتوقف انعقاد القمة معظم سني التسعينيات، وظلت مؤسسة القمة عاجزة مشلولة عن فعل أي شيء لردع العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 1996م وهو العدوان الذي ارتكبت إسرائيل خلاله جريمة مذبحة “قانا الأولى” بحق اللاجئين اللبنانيين الفارين من الغارات الاسرائيلية.
أما القمم العربية التي قدر لها أن تعقد منذ أواخر التسعينيات حتى الآن مرورا بالغزو الامريكي للعراق لإسقاط نظامه، فقد كانت في مهازلها وما شهدته من صراعات عنيفة من الملاسنات والشتائم المتبادلة بين اقطابها تكاد تكون صورة طبق الاصل لمهازل قمة القاهرة الطارئة العاصفة صيف 1990م لاتخاذ موقف موحد من الغزو العراقي للكويت حينذاك.
وهكذا أخذت مظلة الامن القومي العربي المشترك في المزيد من الانكشاف والهشاشة مع تفاقم الخلافات العربية ليس فيما بين دول المحاور المتضادة بل داخل المحور الواحد، أو حتى ضمن المجموعة الاقليمية الواحدة: (الصراع اللبناني – السوري، الصراع الاردني – السوري، نزاعات وخلافات واضحة بين دول مجلس التعاون، نزاعات وخلافات حادة بين الدول المغاربية، الصراع المصري – السوداني، الصراع بين مصر والسعودية من جهة وسوريا من جهة أخرى.. إلى آخره من صراعات أخرى).
وزاد من تفاقم هذه الاوضاع حدة ما مر به عدد من الدول العربية من صراعات وحروب أهلية داخلية، فبالإضافة إلى الذيول والتداعيات المتجددة بين الفينة والأخرى للحرب الاهلية اللبنانية التي لم تتبدد، شهدت اليمن عام 1994م حربا بين شطريها الشمالي والجنوبي، واشتعلت حرب أهلية في الصومال وأخرى في السودان، وثالثة في الجزائر.
أما الجبهات الداخلية العربية الاخرى فكلها ظلت ومازالت تمر بمشاحنات، أو صراعات سياسية محلية اجتماعية محتدمة، تأخذ لبوسات طائفية أو مذهبية في كثير من الاحيان، وهذا يعني ان الامن القومي الداخلي بدوره لكل الدول العربية هش، وبخاصة في ضوء تفاقم أزمات انظمة هذه الدول وتعرضها للعزلة من شعوبها، ولم تفلح المشاريع “الاصلاحية” الشكلية التي نجحت في ان تضلل بها شعوبها لبرهة من الوقت في فك عزلتها وتخفيف تدني شعبياتها.
وحتى القمة العربية التي عقدت في لبنان والتي خرجت بالمبادرة العربية لم تستطع ان تعكس حالة ممانعة صحية عربية في مواجهة اسرائيل، إذ اضحت الدول العربية في ظل انقساماتها وهشاشة نظامها الرسمي الاقليمي، وتصدع جبهاتها الداخلية، لا تملك أي اوراق ضغط فاعلة سوى المراهنة فقط على أوراق استجداء “السلام” من أمريكا والمجتمع الدولي وتقديم التنازلات تلو التنازلات لاسرائيل وللولايات المتحدة، ولاسيما بعدما حذت دولتان عربيتان (موريتانيا والأردن) حذو مصر في توقيع معاهدة صلح وتطبيع مع إسرائيل، فيما طبعت معظم الدول العربية الاخرى علاقاتها مع إسرائيل إما تطبيعا جزئيا علنيا ورسميا، وإما تطبيعا سريا تارة، أو تحت مظلة مؤتمرات أو محافل وفعاليات اقليمية تارة أخرى.
وكان أخطر الحروب الاهلية ما شهده ويشهده العراق تحت حكم الاحتلال الامريكي من مذابح وأعمال عنف طائفية ومذهبية. وإذا كانت “كامب دافيد” قد أخرجت مصر عمليا من ساحة الصراع العربي – الاسرائيلي فان الغزو العراقي للكويت اخرج عمليا العراق من النظام الاقليمي الممزق الهش اصلا بعد إعادة مصر إلى الجامعة العربية، ثم قضى الاحتلال الامريكي على أي بارقة أمل ولو شكلية لتفعيل الدور العراقي في ظل انقاض النظام العربي الجديد الحالي الاكثر تضعضعا بعد الاحتلال الامريكي للعراق.
وبعد، ففي ظل أوضاع كارثية عربية تلك هي تراكماتها التاريخية السياسية على المستويين القومي والقطري، فهل ثمة عجب إذا ما عجزت القمة العربية الآن عن الانعقاد وظل اقطابها لا يتفرجون جميعا على المجازر الوحشية التي ترتكبها اسرائيل بحق اخوتهم في غزة فحسب، بل يدخلون في مارثون مضحك جديد من المزايدات الكلامية لإثبات من هو المتخاذل والخائن فيهم، ومن هو الناصر والمعين فعلا منهم لأهل غزة، فيما كلهم على حد سواء، اللهم بتفاوت نسبي جدا، شركاء في هذا التضامن التخاذلي المشترك، لكي لا نقول التواطؤ المشترك؟
 
صحيفة اخبار الخليج
19 يناير 2009

اقرأ المزيد

الفصاميون السياسيون

نموذجان يبدوان شديدي التناقض لكنهما متماثلان، وهما حالتان تعبران عن هشاشة جذورنا الحضارية في المنطقة وفوقية التحديث، وسرعة التحولات ومخاطرها.
النموذجان الفرديان متضخمان، يريدان هيمنة لا يحصلان عليها بسبب عدم التمرس في شتى جوانب المعرفة والسياسة، لكنهما يحاولان فرض هذه الهيمنة بكل شكل بما فيه القوة.
الداخل النفسي الذي سبّب ذلك يعود للجذور، لسلق المعرفة، ولعدم التجذر فيها، ولحفظ بعض الجمل والشعارات وأرباع الحقائق، أي أن التسطيح الفكري يسيطر، ولا يقبل المنفصم أن يتعب ويطور أدواته الفكرية والعملية، يمتنع عن القراءات المكثفة، يتسرب إلى عادات سيئة تضعف من خلايا تطوره، ومن مهاراته المعرفية والاجتماعية، ومع ذلك فهو مصمم على فرض سطوته بأي شكل يـُتاح له وعدم القبول بالتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين لأنه يرفض أن يكون في منزلة المتعلم.
الحالتان تتحولان إلى انفصام حين ينمو العمر بلا ذلك التطور المفترض بل يجد كل نموذج انه يتقهقر وتظهر نماذج في الحياة أكثر صحية وتطوراً وثقافة، لكن كل نموذج مرضي لا يعترف بذلك، فهو فقط من يعرف ويتطور وكل هزاله الفكري وإنتاجه المحدود وشحوب ثماره السياسية يعتبرها تحفاً.
ولأن التوجه للدين والتراث هو مظهر من المظاهر السائدة، مثله مثل مظهر التوجه للغرب هو الآخر يغدو سائداً، فإن النموذجين يتوجهان بشكل مرضي إلى هاتين الناحيتين، ويطبعان عليهما شخصيتيهما.
يغدو المظهر الديني مرضياً، ويتحول إلى حقد وكراهية للحداثة وللمادية وللجدل، ويتشكلن هذا المرض في علامات الوجه ومظاهر البيت، ويصبح النموذج الذي كان أمس حداثياً شكلانياً كذلك يصيرُ متديناً متعصباً.
والآخر كذلك تغدو له الحداثة شكليات، وتصبح تهجماته على الدين هي الطريق للتطور.
إذا قال الأول يجب إزالة أمريكا، يقول الآخر أمريكا هي النموذج الفذ الوحيد للحياة.
تتحول الحداثة أو الدين إلى أصنام يجب ضربها أو عبادتها بشكل كلي.
وإذا كانت الفكرتان منتشرتين بشكل واسع، لكن لدى العصابي تتحول إلى إسطوانة يومية، وسبباً في الخصومات والعراك.
لكن أن تغدو الحياة كلها هي هذه الأسطوانة التي تسمع في الليل والنهار، وأي من ينتقص منها، أو يغمز إليها يصبح عدواً كافراً، تلقى عليه الكؤوس والجمل النابية والأحذية، وتسيل الدماء من أجلها، في كل حفلة، وفي كل سهرة وندوة، تغدو مثل هذه الحياة جحيماً لكن ليس للعصابي، الذي يراها دوره التاريخي العظيم الذي يؤديه.
قد يشعر ببعض الأسى أو التأنيب لكن ذلك يغدو عابراً، فقد قام بواجبه للدفاع عن فكرته العظيمة الدفاع عن الدين أو الحداثة أو القومية المنتهكة أو العروبة المداس عليها، وما شئت من قضايا.
لا يحدث أي تغيير بعد تلك المعارك البهلوانية على شاطئ الوعي هذا، لأن الذات لا تشعر بالذوات الأخرى، لأنها فقط الوجود الوحيد، أما الغير فهم نكرات، فهي الذات العظيمة التي تؤدي دورها بين الخونة والمتخلفين، هي حاملة الرسالة القومية أو العلمانية!
لا تقود المعارك إلى شيء، لأن معاركَ هذه الذات المتضخمة كلها صراخ، وحدة وغضب، واستهانة بمشاعر الآخرين، وحضورهم وآرائهم، ويجد المتضخم ان في كل كلمة غمزة إليه، وفي كل نقد ضرب لشخصيته، وتحد لأهميته!
تستمر مثل هذه الممارسة لسنوات طويلة، نزيف يومي دائم، من دون أن يقدر على وقف النزيف، ويتمترس بقدسية ما أو برمزية شعبية سياسية محبوبة فيزايد عليها زيادة مخيفة، ويظهر بمظهر المنافح الأوحد دونها، ولكن هذه المدافعة لا تظهر بصورة عقلانية، تقود إلى تطورها ومنع أخطارها ومشكلاتها، ولحمايتها المستقبلية.
والانهاك العصبي يقود إلى مزيد من التدهور والانقطاع عن التطور الفكري الخلاق، وإلى الكثير من العادات التغييبية للوعي وللنقد، وإلى تصاعد الحدة.
فحين لا تقود إهانات الناس على مدى هذه السنين إلى الاعتذار والتراجع عن هذه الصدامية العنيفة، بل إلى مزيد من الانتفاخ والغطرسة، يصبح النموذج في كلا الحانبين، في حالة انحدار إلى خاتمة المأساة، فقدان العقلانية بشكل كامل.
إن المشكلات مثل عدم الصبر على القراءة والإنتاج، والرغبة الحارقة في الشهرة والعظمة، التي تصبح عملية تسلق، وإلى تعدد الشخصيات، فهنا بطل عظيم، وهناك زاحف للمال وتقبيل الإيدي، هنا نظيف وشريف وسام، وهناك ملطخ وتافه، هنا رفيع في القمة وهناك متسلق، كل هذا يقود لشروخ الذات، ولعدم مراكمة الإيجابيات بصبر طويل ونحت في الصخر.
المزايدات تصبح لقضايا خارجية، لا تكلف الذات شيئاً، ويمكن ممارسة البطولات فيها، أما أن يتشكل موقف نضالي واقعي وطني متواصل فهو غير ممكن.
يحدث جنون العظمة حين يطمح لأهداف ضخمة عالية ونقل الذات للنجوم على ريش الدجاج، في حين يكون العمل هزيلاً، والأفكار الناتجة ضحلة، والتكرار وتشغيل إسطوانات الشعارات والعنتريات الثورية، هو شكل إخفاء ضحالة الذات.
كثيرٌ من الناس يدركون قدراتهم ومستوياتهم فيضعون أهدافاً بحجمها، يعيشون ببعض التضاد والصعوبات، لكنهم يعيشون أسوياء، ولا يفرضون على الآخرين أمراضهم، وعجزهم عن الخلق والتطور. لا يحولون مشاكلهم وعصابهم إلى معارك خارجية، كأن الذات المعذبة تريد الافتراس وسحق الآخر.

صحيفة اخبار الخليج
19 يناير 2009

اقرأ المزيد

تسييس أحكام الأسرة

لا نعرف بالضبط ما الذي يدور خلف الكواليس تجاه قانون أحكام الأسرة الذي سبق للحكومة أن أحالته لمجلس النواب. ولكن ما رشح من أنباء يشير إلى أن هذا القانون يخضع مرة أخرى إلى مناورات، ذات طابع سياسي، أفضتْ حتى الآن إلى تأجيل النظر في هذا القانون من قبل المجلس، مما يعني ترحيله إلى أمدٍ غير معروف، وسط سيناريوهات مختلفة، لا تبعث جميعها على التفاؤل. ومن هذه السيناريوهات ما يُشاع عن توجهٍ لسحب مشروع القانون من قبل الحكومة، على أن تعيد تقديم القسم السني منه، ويترك القسم الجعفري موضوعاً للتداول والسجال، وأملنا ألا تقع الحكومة في هذا المطب المليء بالمحاذير غير الخافية على كل ذي بصيرة. جميعنا يعلم مقدار ما تتعرض له الوحدة الوطنية للمجتمع من مخاطر في ظل التجاذبات المذهبية المتزايدة، ولم يسبق – في العقود الأخيرة – أن جرى مثل هذا التعبير السافر عن الفروقات المذهبية، لا في اتجاه حصرها في نطاقها المشروع، وإنما – للأسف الشديد – في اتجاه تعميقها وتأصيلها، وتحويلها إلى ثقافة شائعة لا تثير اعتراضاً أو امتعاضاً من أحد. في حينهِ قُلنا إن على الحكومة أن تُظهر جديتها في أن يرى القانون النور، مستندة في ذلك إلى رغبة قوى واسعة في المجتمع تطالب بمثل هذا القانون منذ عقود، والى دعم قطاع مهم من النواب، فضلاً عن ضمان الدولة لموقف الغرفة المُعينة من المجلس الوطني، وهي كُلها عوامل تدفع في اتجاه اعتماد القانون. أما التذرع بتحقيق الإجماع، فهي حجة مردود عليها، فما أكثر التشريعات والقوانين والتدابير التي مررتها الدولة، وفي أحيان أخرى أصدرتها بإرادة منفردة، رغم وجود ممانعات داخل المجتمع ولدى القوى السياسية والاجتماعية المعنية تجاهها، فما الذي يجعل الدولة في ملف أحكام الأسرة، بالذات، تبدو معنيةً بتحقيق الإجماع حوله، وهو إجماع متعذر على ما هو واضح. ولأن الجدل يدور بصورةٍ أساسية حول الشق الجعفري من مشروع القانون، قبل أن تبرز تحفظات جزء من السلفيين السنة، فان الأمر يجب أن يخضع هو الآخر للنقاش، فإذا كنا نطالب بتعزيز السلطات التشريعية لمجلس النواب، لا بل والى تفويض السلطة التشريعية كاملة إليه، فكيف يصح بالمقابل أن نمنح جهة غير تشريعية سلطة الحسم في قانون هو في جوهره من اختصاص السلطة التشريعية ذاتها، حين نطالب بضمانات دستورية تُحيل مسألة الحل والربط في المشروع إلى جهة دينية غير منتخبة؟ في نهاية المطاف فإن البحرين دولة إسلامية، وتشكل الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع كما ينص على ذلك دستور البلاد، وهناك قواعد راسخة في البلد تجعل من المستحيل إقرار أو تمرير قانون أو تدبير منافٍ لهذه الشريعة، وهذا ينطبق – أكثر ما ينطبق – على قانون أحكام الأسرة بشقيه، والذي وضع في الأصل من قبل رجال دين من المذهبين السني والجعفري على حدٍ سواء. مرة أخرى نقول: حرروا هذا القانون من التسييس!
 
صحيفة الايام
19 يناير 2009

اقرأ المزيد

الحمائية تزيد الطين بلة

في‮ ‬مقال سابق نشر في‮ (‬11‮/‬ديسمبر‮/‬2008‮) ‬أوضحنا بأن،‮ ‬تأكيدات قمة العشرين لبلدان الاقتصادات المتقدمة والصاعدة التي‮ ‬عقدت في‮ ‬نيويورك في‮ ‬الخامس عشر من نوفمبر الماضي‮ ‬وقمة تجمع آسيا والمحيط الهادئ‮ (‬ايبك‮ ‬‭- ‬APEC‮) ‬التي‮ ‬عقدت في‮ ‬الأسبوع الأول من ديسمبر الماضي،‮ ‬على عدم اللجوء إلى أية إجراءات حمائية خلال سنة من اندلاع الأزمة‮ (‬في‮ ‬سبتمبر‮ ‬2008‮ ‬بانهيار مصرف ليمان براذرز الأمريكي‮) ‬كي‮ ‬لا تتسبب تلك الإجراءات،‮ ‬ويقصد بها الحمائية‮ ‬‭(‬Protectionism‭)‬،‮ ‬في‮ ‬تعميق الأزمة المالية والاقتصادية العالمية‮ ‬‭-‬‮ ‬أوضحنا بأن ذلك الالتزام الأدبي‮ ‬لا‮ ‬يعد ملزماً‮ ‬للأطراف التي‮ ‬شاركت في‮ ‬صياغته‮.‬
فالخلاص الفردي‮ ‬للدول أسبق وأكثر توفراً‮ ‬وإغراءً‮ ‬من تحقيق أهداف التثبيت الاقتصادي‮ ‬عبر الأعمال المنسقة المتعددة الأطراف‮.‬
بالأمس بادرت عدة دول لاتخاذ إجراءات حمائية انفرادية لمواجهة تفاقم الأزمة داخل حدودها الجغرافية الوطنية‮. ‬روسيا رفعت الرسوم الجمركية على السيارات الأجنبية لتشجيع الطلب على السيارات الوطنية،‮ ‬كما لجأت كل من الهند وفيتنام إلى رفع الرسوم الجمركية على الواردات هذا العام،‮ ‬وهو ما أدى إلى تنشيط آلية الإجراءات المضادة للإغراق‮ ‬‭(‬Anti-Dumping Measures‭)‬،‮ ‬ما أفضى بدوره إلى ارتفاع دعاوى التقاضي‮ ‬التجاري‮ ‬على الصعيد الدولي،‮ ‬فسجلت نسبة ارتفاع قدرها‮ ‬40٪‮ ‬في‮ ‬النصف الأول فقط من عام‮ ‬‭.‬2008
وسمحت التخفيضات الضريبية الطوعية الانفرادية التي‮ ‬قام بها عدد من الدول الأعضاء في‮ ‬منظمة التجارة العالمية إلى المستويات الأدنى من التزاماتها المقررة بموجب اتفاقية التجارة في‮ ‬السلع،‮ ‬إلى عودة هذه الدول عن تلك التخفيضات برفع سقف الرسوم إلى مستوى الالتزام الذي‮ ‬لا تترتب عليه أية خروقات للاتفاقية‮.‬
وبحسب المعهد الدولي‮ ‬لأبحاث السياسات الغذائية في‮ ‬واشنطن فإنه إذا ما قررت جميع الدول الأعضاء في‮ ‬منظمة التجارة العالمية العودة إلى سقوفها الضريبية الأصلية المقررة لها بموجب اتفاقية التجارة في‮ ‬السلع فإن من شأن ذلك أن‮ ‬يضاعف معدلات الضريبة الجمركية ويؤدي‮ ‬إلى خفض التجارة العالمية بنسبة‮ ‬7‭,‬7٪‮.‬
وكان لابد أن‮ ‬يؤدي‮ ‬النزوع للحمائية تحت ضغط الأزمة العالمية إلى تراجع صادرات معظم بلدان العالم،‮ ‬وهو ما كشفت عنه البيانات الأولية التي‮ ‬أرسلتها الدول الأعضاء في‮ ‬البنك الدولي‮ ‬إلى إدارة البنك وأشارت إلى تراجع صادراتها في‮ ‬عام‮ ‬2008‮ ‬حتى شهر نوفمبر برقمين صحيحين‮ (‬أي‮ ‬من‮ ‬10٪‮ ‬وما فوق‮)‬،‮ ‬ومنها على سبيل المثال تشيلي‮ ‬وكوريا الجنوبية وتايوان التي‮ ‬بلغت نسبة تراجع صادراتها‮ ‬20٪‮.‬
وهذا على أية حال ديدن الساسة الذين‮ ‬يقودون حكوماتهم،‮ ‬إذ ما أن‮ ‬يشعروا بوطء نزف الوظائف‮ (‬ارتفاع عدد العاطلين‮) ‬والأجور‮ (‬تراجعها أو تجمدها‮)‬،‮ ‬فإنهم سرعان ما‮ ‬يلجأون إلى الإجراءات الحمائية‮.‬
ولسوف تتجاوز هذه الإجراءات القيود الكمية‮ ‬‭(‬Quantitive Restrictions‭)‬‮ ‬التي‮ ‬أتينا على ذكرها والمتمثلة في‮ ‬ترفيع سقوف الضرائب الجمركية على الواردات السلعية،‮ ‬لتطال سلة القيود‮ ‬غير الكمية‮ ‬‭(‬Non-Quantitive Restrictions‭).‬‮ ‬وهذه القيود،‮ ‬كما هو معروف،‮ ‬أكثر تأثيراً‮ ‬على التجارة الدولية وأصعب على الإزالة من القيود الكمية،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬يحد تفسيره في‮ ‬حرص الشركاء التجاريين في‮ ‬مفاوضات تحرير التجارة العالمية،‮ ‬المتعددة الأطراف والثنائية،‮ ‬على تحويل القيود‮ ‬غير الكمية إلى قيود كمية كي‮ ‬تسهل عملية تخفيضها ومن ثم إزالتها‮. ‬حدث هذا إبان مرحلة التفاوض في‮ ‬إطار‮ ‘‬الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية‮ ‬‭(‬GATT‭)‬‮ ‬ولاحقاً‮ ‬في‮ ‬إطار منظمة التجارة العالمية‮’.‬
ولذلك فانه من المرجح أن تلجأ عديد الدول،‮ ‬تحت تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاساتها السلبية على الموازين التجارية وموازين المدفوعات،‮ ‬إلى استخدام القيود‮ ‬غير الكمية التالية من أجل حماية منتجات صناعاتها المحلية وتقليص وارداتها إزاء تقلص صادراتها وهي‮:‬
الاشتراطات الصحية‮.‬
اشتراطات الصحة والسلامة‮.‬
الاشتراطات البيئية‮.‬
القيود الفنية المتصلة بالتجارة‮ ‬‭(‬Technical Barriers to Trade‭)‬‮ ‬مثل متطلبات واشتراطات الترخيص والتوثيق‮ ‬‭(‬Licensing and Certification‭).‬
إضافة إلى ذلك من المتوقع أن‮ ‬يتم اللجوء إلى الدعم‮ ‬‭(‬Sybsidy‭)‬‮ ‬واللعب بورقة سعر الصرف‮ (‬خفضه‮) ‬كأدوات حمائية تكميلية‮. ‬فالولايات المتحدة مثلاً‮ ‬عندما تقرر حكومتها وأجهزتها التشريعية تقديم حزمة مالية ضخمة لدعم شركات السيارات الأمريكية الرئيسية الثلاث‮ (‬جنرال موتورز،‮ ‬فورد وكرايزلر‮) ‬العاملة في‮ ‬مدينة ديترويت،‮ ‬فإنها إنما توفر ميزة تنافسية لهذه الشركات قبالة الشركات الأجنبية المنافسة لها‮.‬
وفعلت الصين الشيء نفسه،‮ ‬إذ قررت حزمة واسعة من الدعم لشركائها،‮ ‬لاسيما ذات الوجهة التصديرية التي‮ ‬حظيت بتسهيلات وحسومات ضريبية على صادراتها شملت‮ ‬3700‮ ‬سلعة من أجل تحفيز مبيعاتها السلعية في‮ ‬الخارج‮.‬
وهذا تحدي‮ ‬آخر جديد‮ ‬يواجه جولة الدوحة‮ (‬الجولة التاسعة‮) ‬من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في‮ ‬إطار منظمة التجارة العالمية التي‮ ‬يلاحقها الفشل تلو الفشل منذ إطلاقها في‮ ‬الدوحة نهاية عام‮ ‬‭.‬2001
فبعد عقدين تمتعت فيهما التجارة الدولية بالانفتاح وتذليل العوائق التجارية،‮ ‬الكمية وغير الكمية،‮ ‬حيث انخفضت سقوف الضرائب الجمركية عالمياً‮ ‬من‮ ‬26٪‮ ‬في‮ ‬المتوسط في‮ ‬عام‮ ‬1986‮ ‬إلى‮ ‬8‭,‬8٪‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬2007‮ ‬وتضاعف خلالهما حجم التجارة العالمية في‮ ‬المتوسط على‮ ‬غرار إجمالي‮ ‬الناتج العالمي،‮ ‬بما‮ ‬يشمل ذلك تضاعف حصة الدول النامية من الصادرات العالمية منذ عام‮ ‬2000‮ ‬إلى‮ ‬37٪‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬2007‮ ‬‭-‬‮ ‬بعد هذين العقدين من الازدهار فإن شبح الحمائية‮ ‬يعود ليطل من جديد مهدداً‮ ‬هذه المكاسب.
 
صحيفة الوطن
18 يناير 2009

اقرأ المزيد