المنشور

من تاريخ صراع القمم العربية (1)

على اثر توقيع الرئيس المصري الراحل انور السادات اطاري اتفاقية كامب دافيد عام 1978م تداعت معظم الدول لعقد قمة طارئة في بغداد لمعارضة توقيع مصر تلك الاتفاقية، وخرجت القمة بقرارات تفصيلية بمقاطعة مصر في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاعلامية والثقافية والاجتماعية، كما تقرر نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس. لكن بعد عشر سنوات من تاريخ اصدار تلك القرارات تم العدول عنها واعادة المقر إلى القاهرة، وذلك لفشلها في تقديم البديل عن غياب الثقل والوزن المصري في ساحة الصراع العربي – الاسرائيلي.
ولم تستطع القمم العربية بالطبع التي عقدت طوال هذه الفترة أن تتخذ مواقف ممانعة جدية متماسكة تتصدى بفاعلية لاسرائيل وحلفائها الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. وكان الامتحان العسير الأبرز والفاضح بلا رتوش لهذا العجز جاء خلال اجتياح اسرائيل لجنوب لبنان عام 1982م ومحاصرتها لأول عاصمة عربية، غير القدس، في تاريخ الصراع العربي – الاسرائيلي منذ حرب 1948م في ظل صمت عربي مطبق.
والسبب الرئيسي لهذا العجز ليس لخروج القاهرة من الصراع العربي – الاسرائيلي بتوقيعها معاهدة صلح وسلام منفردة مع اسرائيل فقط، بل لأن لم تستطع ولا دولة واحدة من دول قمة بغداد ان تعوض أو تملأ الفراغ الذي خلفه انسحاب مصر من الصراع العربي – الاسرائيلي ذلك أن دور مصر المحوري في القضية الفلسطينية، كما في الصراع العربي – الاسرائيلي عامة محكوم، موضوعيا، بالجغرافية، موقعا في المفصل الفاصل بين المشرق العربي والمغرب العربي، وموقعا جغرافيا سياسيا استراتيجيا عالميا، وموقعا جواريا ملاصقا لفلسطين، ووزنا سكانيا وحضاريا، علاوة على التاريخ والتراث المشترك عربيا ودينيا.
فمصر باختصار ليست هي التي تختار او لا تختار الدخول في الصراع العربي – الاسرائيلي، بل عوامل الجغرافية والتاريخ والثقافة هي التي سياسيا تحدد وجهة مصر، شاء حكامها في أي عصر أم أبوا، وهذه هي العوامل التي تفرض نفسها ان تكون ضمن هذا الصراع، بل في قلبه إذا ما أرادت ان تحافظ على أمنها القومي، واذا ما اراد العرب برمتهم الحفاظ على أمنهم القومي المشترك. وهذا ما ادركه جيدا ووعاه بعمق الرئيس المصري والزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر.
والدول الفاعلة في النظام العربي الاقليمي، في ظل مقاطعة مصر، هي نفسها وإن كانت بدرجات متفاوتة لم تكن مستعدة استعدادا حقيقيا لأن تشكل جبهة ممانعة حقيقية في وجه اسرائيل وأمريكا ناهيك عن انشطارها بعدئذ إلى محورين متصادمين، الأول هو محور ما أطلق على نفسه “جبهة الصمود والتصدي” والتي تشكلت من سوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية ومع أن دول هذه الجبهة أفضل نسبيا في الممانعة من المحور الثاني، لكن بالمزايدة “الثورية” الكلامية. أما الثاني فهو محور “المعتدلين” وعلى رأسه السعودية ودول مجلس التعاون وبقية دول قمة بغداد الأخرى.
وشهدت الساحة العربية حينذاك حربا باردة جديدة مريرة في المزايدة على القضية الفلسطينية كالحرب الدائرة الآن في المتاجرة على دماء غزة وإن كانت الأولى أقل ضراوة من الثانية الحالية.
والأهم من ذلك فقد أدت مقاطعة مصر الى تقطيع أواصر العلاقات ما بينها وبين الاقطار العربية، ليس على الصعيد الرسمي فحسب، بل الأخطر من ذلك على مختلف الاصعدة الشعبية. ففي النظام الرسمي العربي المحكوم بالهيمنة الشمولية لكل أنظمته على شعوبها يستحيل تفادي تأثير وانعكاس قطع العلاقات الرسمية بين أي دولتين عربيتين على العلاقات الشعبية العربية. وفي الحالة المصرية – العربية، موضع حديثنا، فقد لحقت المقاطعة العربية أشد الضرر ليس بالشعب المصري فقط، ولا الحكومة المصرية، بل بالشعوب العربية جمعاء من جراء تمزيق أواصر العلاقات بينها وبين شقيقها الكبير الشعب المصري.
فلا مصر إذن تستطيع أن تتخلى عن الدول والشعوب العربية وتقاطعها، ولا هذه الاخيرة دولا وشعوبا، تستطيع ان تتخلى عن مصر وتقاطعها.
ولا يستطيع الشعب المصري، حتى بغالبيته الساحقة إذا ما وقفت ضد حكومتها، أن يؤثر بوزنه وبكل قواه السياسية المعارضة لكامب دافيد تأثيرا فاعلا وكافيا في ظل انسحاب قيادته أو الحكومة المصرية. نعم هنالك تأثيرات وممانعات متفاوتة الحجم من فترة إلى اخرى، وبخاصة بعد مجيء الرئيس الحالي حسني مبارك إلى السلطة قبل ما يقرب من 30 عاما لكن يكذب أو يوهم نفسه من يعتقد أن أقوى تلك التأثيرات الشعبية والممانعات بامكانها ان تعوض عن وزن مصر، حكومة وشعبا معا، بعد انسحاب الأولى (الدولة) من الصراع العربي – الاسرائيلي بتوقيعها كامب دافيد، وتلك هي الاشكالية التي لم يفهمها الكثيرون والتي مازال الشعب المصري، كما قواه الوطنية السياسية والشعوب العربية وقواها السياسية الوطنية تعاني منها منذ ذلك الانسحاب المؤسف.
كان الخطأ الاساسي في قمة بغداد هو في تسرعها الشديد باتخاذ تلك القرارات بعد بضعة اسابيع فقط من توقيع اتفاقيات كامب دافيد تحت تأثير العواطف الجامحة ورغبة بعض الدول وراثة الزعامة المصرية أو على الادق الوزن المصري المؤثر على الساحة العربية وفي أحسن الحالات سوءا كان لا مناص بالطبع من استمرار العمل العربي المشترك في اطر الجامعة القائمة أسسها على الصراع العربي – الاسرائيلي وعدم حضور القاهرة اجتماعات أطر التعاون المشترك التي تتناقض مع التزاماتها بكامب دافيد مثل معاهدة الدفاع المشترك واجتماعات مكاتب مقاطعة اسرائيل.
والذي حصل بعد عدول دول قمة بغداد عن مقاطعة مصر، وفي ظل تهاوي حتى ممانعات الدول “الثورية”، فإن كل الدول العربية ارتضت بالعمل المشترك تحت مظلة الجامعة بعد عودتها للقاهرة في اواخر الثمانينيات لكن بممانعة صامتة ضمنية لا تتجاوز سقف كامب دافيد عمليا أو تتصادم معها وليس عملا مشتركا، تبعا على الاقل للأطر المناسبة لتثبيت الصراع، وهذا ما أدى لاحقا الى المزيد من الخروقات في التطبيع القانوني الرسمي والتطبيع السري والعلني غير القانوني.
 
صحيفة اخبار الخليج
18 يناير 2009

اقرأ المزيد

مصادر العنف في الشرق الأوسط

توجه رئيس لجنة التحقيق في اغتيال الرئيس الأمريكي جون كيندي بأصابع الاتهام في قضية مقتل الرئيس الأمريكي إلى المتنفذين في وزارة الدفاع الأمريكية، وأن ما جرى من اغتيال هو انقلاب يقصد منه منع الرئيس جون كيندي من الانسحاب من حرب فيتنام الدائرة وقتذاك، التي تكلف الشعب الأمريكي أكثر من مائة مليون دولار في كل يوم، وجاء جونسون واستمرت آلة الحرب تذبح الأبرياء في فيتنام وتملأ جيوب المسئولين في وزارة الدفاع وشركات السلاح الكبرى.
ومنذ ذاك رفضت وزاراتُ الدفاع الأمريكية المتعاقبة توقيف الحروب في العديد من البقع، وإذا لم تكن الحروب موجودة يتم اختلاقها وتكوين منظمات وزعماء (رافضين للهيمنة الأمريكية!) يشعلونها.
بعد انتهاء حرب فيتنام والهزيمة الأمريكية فيها حدث خفوت وامض في السياسة الحربية الأمريكية، لتتصاعد المواجهة في الشرق الأوسط بين الإسرائيليين والعرب ولتحتل المنطقة البديل مكان ساحة فيتنام، فتم تدعيم نظام صدام حسين وجعله يشتري أكبر كمية من السلاح في ذلك الوقت، وتفجر أول بديل هائل عن فيتنام عبر الحروب التي خاضها النظام العراقي السابق أو خيضت ضده!
وتحولت منطقة الشرق الأوسط إلى البقعة الأكثر خصوبة في العالم للعنف، بسبب موارد النفط الكبيرة التي تتيح للأنظمة في هذه المنطقة شراء الأسلحة الأمريكية، والولايات المتحدة هي أكبر بلد مصدر وبائع للسلاح في العالم.
وصعدتْ دولُ الشرق الأوسط لتكون أكثر البلدان شراءً للسلاح، وأكثر البلدان الحافلة بأسباب التفجر في صراعها التقليدي وغير القادرة للانتقال إلى أنظمة ديمقراطية علمانية.
وكما تحولت هذه البلدان إلى البلدان الأكثر استيراداً السلاح في العالم، فقد غدت أكثر البلدان اغداقاً للأرباح على وزارات الدفاع الغربية وشركات السلاح عموماً.
واستفادت بلدان صناعية أخرى من تجارة السلاح كروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وإذا كان العديد من دول الشرق الأوسط تستورد السلاح بحجج دفاعية ضد خصوم وهميين أو مفترضين، وغدت هذه الاستيرادات هي أكبر خصوم التنمية والديمقراطية والسلام، فإن دولاً معينة توجهت لسياسة هجومية باستخدام السلاح أو بتوجيه منظمات معينة لإيجاد الاضطرابات والعنف، نظراً لأن المتحكمين في وزارات الدفاع فيها لا يريدون الإصلاحات الديمقراطية في بلدانهم ولا يريدون سياسة السلام.
غدت إسرائيل وإيران وسوريا من أكثر البلدان المزعزعة لاستقرار المنطقة، وتوفير سياسات المجابهة والحروب والقلاقل في الدول المجاورة لأسباب متباينة بين كل منها.
ولهذا نجد ان إسرائيل بلا حدود معينة، وتغدو فيها وزارة (الدفاع) أكثر الوزارات نشاطاً، ويظهر قادة إسرائيل من بينها، وتمتد خيوطها مع أكبر وزارة (دفاع) في العالم وهي وزارة الدفاع الأمريكية.
فيقوم نشاطهما على تغذية التوتر والحروب بين العرب والإسرائيليين، من أجل أن يستمر هذا المورد المالي الهائل.
وكانت وزارة الدفاع السورية هي أكثر الرابحين من حرب لبنان، وأكثر الخاسرين من الانسحاب منه، وكان الضباط المشرفون على القوات السورية هناك قد تحولوا إلى فئات ثرية عبر استغلال التجارة، وعبر نقل السلع بين بلد مفتوح هو لبنان وبلد مغلق ذي نظام اقتصادي بيروقراطي معقد. ولهذا فإن الثورة اللبنانية ضد الوجود السوري العسكري الاستغلالي قـُوبلت بحمامات دم ضد القيادات اللبنانية التي فككتْ هذه العلاقة والتي تريد توجيه لبنان بعيداً عن دائرة الصراع الملتهبة في الشرق الأوسط وحروبه المستمرة، ولم يرضِ ذلك وزاراتي الدفاع في كل من إسرائيل وسوريا، وغدا لبنان ضحية الجانبين، ضحية انسحابه من الهيمنة السورية، وضحية وجود الهيمنة السورية – الإيرانية فيه.
واستفادت وزارات الدفاع في البلدان الثلاثة من هذه الصراعات.
وكان المورد الكبير المشترك لوزارات الدفاع في الولايات المتحدة وسوريا وإيران هو العراق الذي تحول لساحة ثراء واسعة لهذه القوى.
كانت الخطوط معقدة ومتقاطعة بينها هنا، فغدا العراق هو أكبر مصدر للأرباح العسكرية الأمريكية، ولنشاطات وزارتي الدفاع في كل من إيران وسوريا، وحدث حرب غير معلنة بين الطرف الأمريكي والطرفين الشرق أوسطيين، تحت لافتات متعددة مثل زرع الديمقراطية والجهاد و(القاعدة).
توجهت وزارة الدفاع الإيرانية للتوسع الهائل مما جعل من الضباط الكبار حكومة إيران السرية، التي ترفض الشفافية والديمقراطية وتؤيد التوتر والمواجهة، ونشر القلاقل في منطقة الشرق الأوسط عبر استثمار الصراعات الاجتماعية والسياسية في البلدان المجاورة، فظهرت ثمار هذه السياسة في لبنان، وغزة، واليمن عبر الحوثيين، ولكن العراق بقي هو البلد الأكثر خصوبة لمثل هذه السياسة عبر التغلغل العسكري المباشر وتجنيد فصائل عسكرية متعددة، ومن الجانب السوري كان العراق هو كذلك البلد الذي نافس لبنان في قائمة التدخل العسكري السوري، وذلك عبر الجماعات السياسية العربية الفوضوية والارهابية.
وكانت هذه التحركات الإمريكية والإسرائيلية والسورية والإيرانية مدعاة للخوف من قبل الدول الأخرى وخاصة النفطية التي تمت عمليات كثيرة لابتزاز مواردها النفطية وكان من ضمنها شراء السلاح وتكديسه في مستودعاتها في أغلب الأحيان.
ولهذا فإن أي سياسة إصلاح أو بناء من قبل دول المنطقة تواجه بتدخلات غريبة.
أما سياسة السلام وإزالة الأسلحة النووية، وتقليص الجيوش، وإيجاد منطقة تعاون كبرى، فهي أكثر السياسات كرها من قبل وزارات الدفاع في تلك الدول، التي تغذت بإيجاد منطقة التوتر الهائلة الوفيرة المغانم هذه.
ولهذا نجد إن وزارة دفاع كوزارة الدفاع الروسية التي كانت ولاتزال الوزارة الحاكمة في روسيا جنباً إلى جنب مع المخابرات تواصل بيع السلاح لكل الأطراف خاصة لإيران مما يجعل من وزارات الدفاع هذه هي الأخطبوط الذي يغذي سياسات الحروب والمواجهة والعنف والكراهية في المنطقة؛ سوقها الأكبر.

صحيفة اخبار الخليج
18 يناير 2009

اقرأ المزيد

هدى عبدالله تُغني لغزة

بصوتها الشجي، العذب، الحالم، والمُقاوم أيضاً، وبأدائها المتقن تأخذنا الفنانة هدى عبدالله إلى أجواء غزة الصامدة. تماماً كما فعلت في عام 2006، يوم كانت الحمم تنهال على لبنان فتوقع مئات القتلى والاف الجرحى وتدمر البنية التحتية للبلد، حين صدح صوت هُدى عبدالله الجميل في وجه الغطرسة الصهيونية، وبكلمات الشاعر إبراهيم بوهندي: «لأن الحقد إذا يأتي لا يترك درباً للإنسان»، ومُحيية الصمود في وجه آلة الموت الجهنمية: «لكن الطفل إذا ما مات، فسيرفع في مارون الراس، ورْداً للدبكة في الأعراس». اليوم بكلمات الشاعر علي الشرقاوي وألحان وتوزيع الفنان خليفة زيمان تخاطب أطفال غزة، ونساءها اللواتي يمشين كالنسمات «في الريح وعلى درب الآلام». وإذ تدين الهمجية الصهيونية، تُحيي الشعب الفلسطيني الذي «رغم مذابحه، مازال يواصل في الأحلام»، مؤكدة على خيار مقاومة المعتدي الذي استباح كل المحرمات، واقترف أبشع الجرائم وسط صمت قوى العالم النافذة وتواطئها، التي تتجاهل الإرادة الحرة للقوى الحية في العالم التي تملأ الشوارع بمظاهراتها واحتجاجاتها. بكلمات الشرقاوي يملأ الفضاء صوت هدى باسم غزة الصامدة: «بالأحجار نُقاومهم، بالأشجار نُقاومهم، بالأنهار نُقاومهم، لو عشنا في الأرض جياعاً، تجمعنا الحسرة والأسلاك، أو صُرنا في البرد جلوداً، يحذفها اليأس لبرد هلاك، بأغانينا وأمانينا وأيادينا سنكون فداك». هدى عبدالله في هذا العمل تؤكد أن الفن أيضاً هو مُقاومة، وان الثقافة الديمقراطية في البحرين بفنانيها ومبدعيها حاضرة في القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، في انسجام مشرف مع التقاليد الراسخة للثقافة والفن في بلدنا، التي صهرتها حرارة التجربة الكفاحية الممتدة عقوداً، والانتماء العميق للقيم الإنسانية ولقضايا النضال في سبيل الحق والعدالة والسلام. وإذا كانت البحرين بمكوناتها السياسية والاجتماعية المختلفة قد هبت للتعبير عن دعم أشقائنا الفلسطينيين في غزة، ولنصرتهم في المحنة الناجمة عن المجازر الصهيونية التي دخلت أسبوعها الرابع على التوالي، حيث اتخذ هذا ويتخذ أشكالاً مختلفة، فان التضامن البحريني على جبهة الثقافة والفن لا يقل أهمية ودلالة، ومن ذلك مبادرة أسرة الأدباء والكتاب بتدشين عريضة تطالب بسحب جائزة نوبل من رئيس الدولة العبرية شمعون بيريز. ومن ذلك هذه المساهمة المعبرة للفنانة هدى عبدالله، وهي مساهمة يجب العمل على أن تنال ما هي أهل له من انتشار داخل البحرين لتصل إلى أوسع القطاعات من الناس، لا بل ولتتخطى حدود البحرين، وتصل إلى الخارج، ففي ذلك تبيان للحيوية التي يتسم بها مجتمعنا المدني في التفاعل مع القضايا الإنسانية الكبرى. هدى عبدالله ابنة فرقة «أجراس» التي شكلت علامة مضيئة في ذاكرتنا الفنية والنضالية، والتي قدمت في سنوات الجمر إبداعاتها، مكافحة على جبهة الفن، في سبيل فتح كوى الأمل والعزيمة والانتصار على القمع واليأس، وهدى عبدالله الصوت الطالع من صفوف التيار الديمقراطي الذي صنع وجه البحرين وإبداعها وتألقها، تعبر اليوم عن وفاء هذا التيار لخياراته ونهجه في مبدأ التضامن مع الشعب الفلسطيني ومع كل الشعوب المناضلة من أجل الحرية والتقدم والاستقلال الوطني، وفي الانحياز لخيارات التضحية من أجل الحياة.
 
صحيفة الايام
18 يناير 2009

اقرأ المزيد

الموازنة العامة للدولة .. رؤية نقدية (3-4)

هنا يمكننا أن نعطي أكثر من مثال على ذلك ، فقد قدرت الحكومة تكلفة إنتاج البرميل في الموازنتين الأخيرتين على أنها 3 دولارات (ثلاثة دولارات للبرميل) ولكن اللجنة وبعد صراع طويل ومرير مع طاقم التفاوض السابق بوزارة المالية، وبعد تواصل قمنا به مع بعض أعضاء مجلس الأمة الكويتي والاطلاع على بعض المعلومات ذات العلاقة بتكرير النفط ومبيعاته في كل من المملكة العربية السعودية والإمارات، استطعنا بعدها أن نفرض على الحكومة التكلفة الحقيقية وهي 1,97دولار فقط، والفرق هنا كبير كما تلاحظون ويقدر بمئات الملايين بحسب حجم المبيعات اليومي والسنوي أيضاً، وتلك قضية يمكن الرجوع اليها والتحقق منها من خلال أرشيف اللجنة ووسائل الإعلام التي تفاعلت معها بشكل كبير وأسهمت هي والرأي العام في تعضيد موقفنا المبدئي بشكل كبير، حيث كنا في حال تواصل وتواجد دائم معهم كما ذكرت سلفا، على اعتبار أن ملف الموازنة العامة هو ملف كل الناس وفيه كل آمالهم لعامين قادمين لا فرق في ذلك بين غنيهم أوفقيرهم. وبعد استكمال التغيير الوزاري وخلال الجلسة التالية مباشرة مع وزير المالية الجديد وهو الوزير الحالي، فان نفس الطاقم الذي كان يبرر الأرقام والمعلومات التي رفضتها اللجنة آنذاك، جاء مع الوزير الجديد ليوافق دون عناء هذه المرة على رأي لجنة الشؤون المالية والاقتصادية، بل ويبرر ما اتفق الوزير الجديد بشأنه مع أعضاء اللجنة، الذي هو بالمناسبة رأي الإدارة التنفيذية في بابكو فيما يتعلق بتقدير تكلفة وإنتاج برميل النفط وحجم المبيعات والإيرادات النفطية.
وما استعرضناه من أرقام وما أجريناه من محاورة صريحة لمشروع الموازنة العامة للدولة، والتي نرى ضرورة إجراء مزيد من الدراسات المستفيضة حولها، فقد كانت تلك رؤية أو مجموعة آراء سريعة تطمح لأن تكون متكاملة كان يجب علينا استعراضها والإفصاح عنها، نظرا لأنها تستند على تجربة معايشة عملية لملف الموازنة العامة، نستطيع أن نفهم من خلالها كيفية تعاطي الحكومة مع لجنة الشؤون المالية والاقتصادية في الفصل التشريعي الأول في ملف الموازنة العامة ، والذي أرى أنه مازال مستمرا بذات الكيفية والأساليب في الكثير من وجوهه حتى اليوم من خلال متابعاتنا لهذا الملف، وهو أهم ملف كما ذكرت يمكن أن يناقشه أي برلمان في العالم، ويمكننا من خلاله فهم أساليب العمل التي تتبعها الحكومة في التعاطي مع بقية الملفات الأساسية والتي لا تقل أهمية بأية حال عن الموازنة العامة للدولة.
نخلص من كل ذلك إلى أن دراسة الموازنة العامة للدولة لا يجب أن يجر فيها مجلس النواب ومن بعده المجتمع بأسره لنقاشات تحصر في مجرد إقرار أرقام صماء، كعدم إقرار علاوة الغلاء أو إقرار موازنة المدينة الشمالية على سبيل المثال من عدمه، أو زيادة ميزانية مشروع البيوت الآيلة للسقوط الذي استهلك كثيرا، أو زيادة إيرادات شركة ممتلكات او غيرها، كما يحصل الآن من حوارات مضيَعة للوقت في أغلبها، حتى لا نعفي الحكومة من مسؤولياتها في الرضوخ لمناقشة أكثر عمقا تصب في فهم وتحديد توجهات الدولة الحقيقية على مستوى التعليم والإسكان والصحة ومبررات النفقات الأمنية المتضخمة، وسياسات التوظيف، وعدالة توزيع الثروة، وملف الأراضي وأملاك الدولة ومعدلات التضخم، والتعامل مع عجز الموازنة المتوقع على مدى العامين القامين، كما فعلت المملكة العربية السعودية مؤخرا على لسان وزير ماليتها، ووضع سياسات فاعلة لتنويع مصادر الدخل التي نسمع حولها طحنا ولا نرى طحينا، كذلك يجب أن تنصب مناقشة ومواجهة و توجيه سياسات الدولة لما هو أشمل من ذلك بكثير ودون اجتزاء، حتى يكون إقرار الموازنة العامة هو عبارة عن إقرار لخطة الدولة التنموية الشاملة فيما يتعلق بقضايا أساسية واسترتيجية باتت تطرح نفسها بإلحاح، وتوجه الدولة بالاتفاق مع المجلس الوطني من خلال ذلك لتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطنين، ومعالجة بقية الأوضاع الرديفة للأوضاع الاقتصادية والمعيشية كانقطاعات الكهرباء المزمنة، وكذلك رؤية الدولة في قدرة الاقتصاد الوطني على توفير فرص عمل متزايدة للأعداد الضخمة المنتظرة من الخريجين القادمين لسوق العمل، والزيادة المطردة في السكان، وكذلك مراجعة وتمحيص توجهات الدولة الاقتصادية لتحفيز الاقتصاد، وهنا مثلا لا يكفي أن تقدم الدولة رؤيتها الاقتصادية الاستراتيجية حتى 2030 والتي طرحت منذ أقل من شهرين، ليتضح بعدها بأسابيع قليلة، وذلك من خلال تصريحات المسؤلين المتكررة حول ضرورة إعادة دراستها مجددا، وضرورة التأكد من أنها – أي الرؤية الاقتصادية – ستكون قادرة على التفعيل على الأرض.

صحيفة الايام
18 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

دخان الكلام ودخان القذائف

يتعاطف كل إنسان مع كارثة غزة ومحنتها الإنسانية، حتى أولئك الهامشيون والمنبوذون والمشردون وذوو السوابق ، مثلما يتعاطف كل شخص يعتبر نفسه واعيا ومثقفا ومطلعا سياسيا بكل مجريات الأحداث السياسية العالمية، وبكل ما يدور بها من معادلات ومصالح سياسية في صراع الأمم والشعوب . جميعنا نلتقي كبشر في نقطة إنسانية مشتركة، عندما نرى مشاهد المذابح والمصائب التي سقطت على رأس غزة وقلبها وناسها الأبرياء، فتم في تلك اللحظة اختلاط المشاعر بالمواقف، والوعي بالسذاجة والطيبة الإنسانية باللامبالاة اليومية، التي يعيشها الملايين من البشر، فتجرفهم همومهم اليومية نحو الكفاح من اجل لقمة العيش والمستلزمات الحياتية الضرورية، ولكن في لحظة كارثية إنسانية كبرى وتراجيدية هائلة كما هي الزلازل يستيقظ الناس على حالتهم الحقيقية، ويكتشفوا إن هناك خيوطا إنسانية كبرى بين البشر تدفعهم للتعاطف، فتتحرك مشاعرهم نحو تلك المصيبة وما يمكنهم فعله في تلك اللحظة ! نعم هذا ما نريد قوله ماذا بإمكان الملايين من الناس المتظاهرين والمحتجين والمتعاطفين مع شعب غزة فعله في تلك اللحظة السوداء، ابتداء من شيوعيي أوروبا وانتهاء باصوليي باكستان واندونيسيا وغيرها من بالبلدان العربية والإسلامية .
ذلك الخليط البشري من الثقافات والأجناس والشعوب تحركها في تلك اللحظة مسألة مؤثرة هو ذلك المشهد المأساوي للضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ وزخم عاطفية وشعبية وقومية ودينية، فيما تحرك قوى وحركات أخرى رؤية أعمق للمسألة، فخارج نطاق التعاطف الديني مع غزة، والمنّصب تحديدا على حماس والحركات الإسلامية المقاومة، هناك شعوب وحركات يدفعها وعيها بمعنى القوى المعادية للسلم والشعوب والديمقراطية في العالم وبمسألة حق الشعوب في الحياة ومناهضة الاستعمار في كل مكان.
بين رؤيتين مختلفتين في لحظة ما، نجدهما قد تداخلاتا بسبب تعقد الوضع السياسي والإنساني، ولكن الذين ينسون تلك الحقيقة إن المحنة محنة الشعب الفلسطيني في غزة وليس محنة حماس وحدها، فإنهم تعلموا أو ينبغي عليهم التعلم من حقيقة مشهد القذائف ودخانها التي تصب غضبها على شعب غزة وأطفاله، فيما راحت الأصوات الاحتجاجية الصوتية بدخانها ودموعها على شاشات التلفاز تجعلنا نعيد السؤال التاريخي المتعلق بمسألة الوعي بعمق الصراع، سواء العربي أو الإقليمي أو العالمي؟ ولماذا أصبح الوضع الحالي بتلك الدرجة من الوهن بحيث تعربد إسرائيل كيفما تشاء؟ هل نذهب مرة أخرى للحرب، أي نحن العرب شعوب وأنظمة أم نعيد النظر في الملف كاملا للمنطقة؟ لماذا بعد نكبة حزيران عدنا اليوم من جديد لنفس العبارات والتنديدات وقذف تهم التراجع والخيانة والصمت فبدأنا بجلد الأنظمة وجلد الذات؟ من يراهنون ويرون في زخم الشارع المتدفق والغاضب نهرا ينبغي الرهان عليه في الصراع الاستراتيجي لكل شيء، فانه لا يفهم فلسفة الوعي التاريخي للجماهير وتناقضات الصراع بين القوى الداخلية والخارجية وعناصرها الأخرى، لا يفهم جيدا إن تدفق العاطفة القصوى يعود منسوبه العالي دفعة واحدة إلى قاع الزجاجة بعد أيام من توقف الحرب وتوقف دخان القذائف من الفضاء والاستعداد مرة أخرى للجلوس إلى طاولة الحوار للتفاوض على ما يمكن أن يتم ترتيبه بين السلطة الفلسطينية ومراكز القوى في غزة والدولة العبرية.
وعلينا أن نفهم جيدا إن في الوقت الذي تتم فيه دك غزة المعزولة عن العالم والتي تقاتل بقواها الذاتية المتواضعة، هناك سلسلة من الاتصالات بين حماس وجهات معنية بالتهدئة «غير المشروطة!» لكي تجلس الأطراف المتنازعة لحل خيوط المشكلة.
وبما إن حماس جهة لا يمكن التفاوض معها دوليا وإقليميا لكونها موضوعة في خانة الإرهاب ، فذلك يحتاج أولا إلغاء تلك الحجة تماما، وهذا يتطلب بالفعل شهادة حسن سير وسلوك من حماس، ويكمن في اقتناعها بفلسفة بقاء إسرائيل والاعتراف بها كدولة لكي تتم عملية إتمام تبادل مماثل للجهة المتحكمة في غزة، إذ السلطة في رام الله أنهت تلك العقدة السياسية وباشرت الحوار الطويل والمتعرج ، فيما ظلت حماس وبعض التنظيمات مصّرة على نهج التدمير والعنف في مواجهة الاحتلال، وبحجج متبادلة بين الطرفين حول انتهاك هذا الطرف أو ذاك للتهدئة!! فيما الحقيقة إن الشعب الفلسطيني باتت له سلطتين تحكمان الشعب الفلسطيني داخليا فيما الاعتراف الدولي والعربي لا يتعامل رسميا إلا مع سلطة رام الله. ومن جديد ستنبثق المشكلة ذاتها وهي الصراع حول السلطة والثروة ومن يقود الشعب الفلسطيني.

صحيفة الايام
18 يناير 2009

اقرأ المزيد

هل تريدون حقاً إصلاح التعليم..؟


إذا كان علينا أن نستذكر بلا انقطاع المسوغات التي وضعت مشروع إصلاح وتطوير التعليم في البحرين كأحد أكبر المشروعات الإستراتيجية التي لا يمكن الجدال على أهميتها، يصبح من باب الجسارة الباهظة الثمن أن نجعل هذا المشروع أول ضحايا تقليص الموازنة العامة للدولة بذريعة إعادة الحسابات المالية في ضوء انخفاض الإيرادات النفطية، وكأن كل ما طرح في شأن ضرورات المشروع المذكور والالتزام به ووضعه في سلم الأولويات لا قيمة لها.
يعلم الجميع بأنه لأيام خلت اقتحم مسئولون ومعنيون ومختصون بشؤون التعليم والاقتصاد والتنمية والمجتمع غمار قضية التعليم في البحرين، ويبدو أنهم قد بددوا طاقتهم في إثبات البديهيات ذات الصلة بواقع التعليم ومستوى مخرجاته وسبل النهوض به، ونذكر بأنه قيل في هذا الخصوص الشيء الكثير، ويكاد معظم ما قيل ونشر يجمع على أن التعليم طيلة السنوات الطويلة الماضية لم يكن في مستوى الطموحات والتطلعات وواقعه أصبح مستعصياً ومشكلات التعليم صارت عبئاً ثقيلاً ثقيلاً .
حقاً لم يكن في الحسبان بعد كل الذي قيل بشأن وضع التعليم، وبشأن مشروع إصلاحه وتطويره ،أن تفضي بنا مجريات الأمور ذات الصلة بالأوضاع الاقتصادية الحالية وما فرضته من ترشيد وضبط في النفقات والموازنات والمشاريع والبرامج إلى هذه النقطة المرّة التي بات يعكسها شح الموارد المالية التي خصصت لوزارة التربية والتعليم، فالمنشور في هذا الصدد حتى الآن يبين أن الوزارة طلبت موازنة قدرها 67.6 مليون دينار لمشاريع وبرامج عام 2009 وخصص لها 7.3 مليون فقط ، وطلبت 81.3 مليون لعام 2010 ، واعتمد لها 6.3 مليون.!! وهذه أرقام إن صحت فإنها تؤكد بأننا لم نضع حتى الآن مشروع إصلاح وتطوير التعليم في سلم الأولويات الواجبة ، وأنه ليس هناك اهتمام بحجم الآمال التي كانت معقودة على هذا المشروع ، الذي أصبح واضحاً وضوحاً يعمي الأبصار بأنه لن يأخذ مداه المستهدف في إحداث تغييرات نوعية وجذرية في التعليم، وهذا يعني أننا سنبقى نمارس مجرد عمليات ترميم في مسيرة تطوير التعليم الذي هو العماد الأساس لكل عمليات واستراتيجيات التنمية ، وحتى تكتمل الصورة في أذهان من يعنيهم الأمر دعونا نتوقف عند جزء بسيط مما ذكر في مشروع إصلاح التعليم ، ويكفي أن نحصر ذلك في حدود ذلك الكلام الكبير الذي قيل في شأن الرؤية الاقتصادية للبحرين ، فما ذكر في هذا الإطار عن إصلاح التعليم يشكل وثيقة تستحق الانتباه والتأمل من سائر الوجوه.
أن مشروع إصلاح التعليم من منظور مجلس التنمية الاقتصادية الذي وضع الرؤية الاقتصادية حتى عام 2030 التي تبنتها الحكومة، هو مشروع وطني يرمي إلى تغيير واقع التعليم والتدريب ضمن تلك الرؤية، وأن قضية التعليم هو قضية مجتمع يجب أن يتحرك الجميع من أجلها وبسرعة في سبيل بناء أجيال قادرة على تحمل مسؤوليات المستقبل ، وهذه الرؤية ترى في التعليم ما يلي :
– أنه يتيح للمواطن القدرة على تحقيق أقصى إمكانياته في الاقتصاد والحكومة والمجتمع .
– أنه يشكل ويطور الأجيال القادمة من القادة الذين تحتاجهم المملكة .
– أنه يعطي البحرينيين المهارات والمعرفة والقيم التي يحتاجون إليها لكي يصبحوا الخيار الأمثل لشغل الوظائف ذات القيمة المضافة العالية .
– أنه يقضي على الخلل في سوق العمل ويعزز من قدرات البحرينيين على تلبية متطلبات السوق.
– أنه يخدم مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
وإلى جانب ذلك، فإن الرؤية الاقتصادية في سياق تأكيدها على أهمية التعليم في تحويل رؤية البحرين الاقتصادية إلى حقيقة واقعة، تدعو إلى وجوب الالتزام بمتطلبات واشتراطات الجودة كونها السبيل للحصول على منظومة تعليمية تفرز في مختلف المراحل خريجين مؤهلين لمواكبة متغيرات العلوم والتقنية المتلاحقة على المستوى العالمي، منظومة تدرك بأنه إذا لم يكن التعليم صنواً للجودة فخير له ألا يكون ، وإذا كان على المعلم والطالب أن يتقاسما الجهل فلا موجب لتشييد المدارس، منظومة تدرك بأنه وهم خطير اذا اعتبرنا بأن المباني والمرافق والتجهيزات هي فقط المعبرة عن تطور التعليم، وننسى بأن المعّول على ما يدرس في المدارس ، وعلى كفاءة ومستويات أداء مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وكفاءة المعلمين باعتبارهم يشكلون أهم الموارد التعليمية من خلال تطوير معايير اختيارهم وتدريبهم ورفع كفاءة أدائهم وعدم اعتبارهم موظفين بل أصحاب مهنة ورسالة يحظون بالمكانة اللائقة في المجتمع التي تجعل مهنة التدريس جاذبة .
ذلك بالنص ما ورد فيما يخص تحديداً مشروع إصلاح التعليم في ثنايا الرؤية الاقتصادية المستقبلية للبحرين، وفي هذا الصدد بشرنا بإطلاق أربع مبادرات أو مشاريع هامة كمرحلة أولى في هذا المشروع أعلن بأن من شأنها تغيير واقع التعليم في البحرين، ووعٌدنا بأن ترى هذه المبادرات النور في زمن قياسي بالاستعانة بأفضل بيوت الخبرة في العالم ليكون الاهتمام منصباً على التعليم أولاً ، والتعليم ثانياً ، والتعليم ثالثاً .. !!
وبالفعل شهد شهر نوفمبر الماضي الإعلان عن تنفيذ ثلاث من تلك المبادرات تمثلت في افتتاح كلية المعلمين بجامعة البحرين، وإطلاق برنامج تحسين المدارس، وافتتاح كلية بوليتكنيك، فيما شهد أواخر ديسمبر الماضي افتتاح هيئة ضمان الجودة التي اعتبرت مكوناً أساسياً في برنامج الإصلاح وتشكل ضمانة أكيدة لتقييم ومتابعة تطوير النظامين التعليمي والتدريبي في البلاد ، والمرجو الآن ألا تتعثر هذه المشاريع الوليدة التي اعتبرت ضمن محاور ومرتكزات المشروع الإصلاحي للتعليم.
نعود إلى ما قيل في المشروع ، ونحسب أنه بمقدورنا أن نرصد ما قيل فيه وما نشر عنه وهو كثير ، ولكن وبحكم المساحة ارتأينا أن نكتفي بربط سمو ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية تحقيق الرؤية الاقتصادية للبحرين بنظام تعليمي يسلح أجيال المستقبل بالمهارات المطلوبة وقد كان ربطاً له دلالة بأنه لن يكون بالمقدور تطبيق رؤية مملكة البحرين الاقتصادية إلى حقيقة ما لم نستطع بناء هذا النظام.
إذا كان مشروع إصلاح وتطوير التعليم بتلك الأهمية الإستراتيجية فهل ينبغـي أن يكــون آخـر مـــا نشملــه بعنايتنــــا ونجعلــه يدفع ثمن تقليص الميزانيــة !!؟.
 
الأيام 16 يناير 2009

اقرأ المزيد

من إبداعات الرأسمالية في‮ ‬مجال السياسة‮.. ‬الطوابير الموازية

موجبات التأصيل تقتضي‮ ‬منا قبل الشروع في‮ ‬سبر أغوار الموضوع الذي‮ ‬نحن بصدده،‮ ‬العودة قليلاً‮ ‬إلى الوراء للوقوف على خلفية تعبير‮ ‘‬الطابور‮’ ‬الذي‮ ‬دخل علم السياسة كمفردة اصطلاحية جديدة تضج بالمعاني‮ ‬والإسقاطات والإيحاءات ذات المدلولات العميقة المعبرة عن وقائع وظواهر شكلت منعطفات حادة ومهمة في‮ ‬صياغة وإعادة صياغة التاريخ ومساراته،‮ ‬إن على الصعيد الوطني‮ ‬الخالص أو إلى الصعيد الأممي‮ ‬الشامل‮.‬
اقترنت مفردة‮ ‘‬الطابور‮’ ‬أو الصف بكلمة الخامس لتدخل الكلمتان القاموس السياسي‮ ‬كتعبير متداول إبان الحرب الأهلية الإسبانية التي‮ ‬نشبت  عام 1936 واستمرت ثلاث سنوات بين قوات الجنرال فرانكو والقوات الثائرة ضد حكمه الدكتاتوري‮. ‬ويقال إن أول من أطلق هذا التعبير هو الجنرال كوبيو كيللانو أحد قادة القوات الثائرة الزاحفة على مدريد قاصداً‮ ‬به بعض مؤيدي‮ ‬الجنرال فرانكو المتواجدين في‮ ‬مدريد والذين كان‮ ‬يُتوقع منهم أن‮ ‬يخرجوا لنصرة فرق فرانكو العسكرية الأربع‮ (‬أو طوابيره الأربعة‮) ‬المتوجهة هي‮ ‬الأخرى لاحتلال العاصمة مدريد،‮ ‬حالما تصبح على مقربة دانية منها‮.‬
ومنذ ذلك الحين شاع استخدام هذا التعبير للدلالة على الخلايا السرية النائمة التي‮ ‬يزرعها العدو للقيام بأعمال التجسس والتخريب خلف خطوط العدو وإطلاق وترويج الإشاعات وفبركة وتنظيم الحروب النفسية‮.‬
واليوم فإن المرء عندما‮ ‬يتفحص ويتفكر في‮ ‬ذلكم الابتكار اللغوي‮ ‬المبدع ويضعه قبالة التَّمثُّل المعاصر لظاهرة الطوابير الخامسة،‮ ‬فإنه بلا أدنى ريب سوف‮ ‬يكتشف مدى تواضع ذلك الابتداع التأملي‮ ‬البارع أمام‮ ‘‬إبداعات‮’ ‬وفهلوة وخبث العقل‮ ‘‬الجهنمي‮’ ‬لإنسان النصف الثاني‮ ‬من القرن العشرين وما‮ ‬يتلوه‮.‬
لقد طور هذا الإنسان قدراته وأدواته الابستيمولوجية،‮ ‬أي‮ ‬طاقاته العقلية ومخيلته الفكرية وأنساقه المعرفية‮. ‬هذا مما لاشك فيه‮. ‬ومثلما جيَّر تحولاته وإنجازاته النوعية هذه لصالح خير الإنسان نفسه،‮ ‬على أصعدة الاكتشافات والتطبيقات العلمية والتقنية،‮ ‬فإنه بقدر أكبر،‮ ‬عمل بدأب على تسخير هذه المنجزات في‮ ‬الاتجاه الآخر المعاكس،‮ ‬أي‮ ‬في‮ ‬اتجاه نزعة الشر الدسائسية المحقونة بشحنات الجشع عالية التوتر‮.‬
وبذا لم‮ ‬يعد مفهوم‮ ‘‬الطابور الخامس‮’ ‬الذي‮ ‬أنشأته أحداث وموازين قوى اجتماعية وعقلية إنسان النصف الثاني‮ ‬من القرن العشرين،‮ ‬قصراً‮ ‬على تلك‮ ‘‬الفيالق‮’ ‬السرية والنائمة التي‮ ‬تُزرع خلف خطوط العدو وفي‮ ‬عمق مناطق بسط سيادته،‮ ‬وإنما تجاوزت تطبيقاته وتمظهراته كافة حدود ذلكم المفهوم‮ ‘‬الضيق‮’.‬
بهذا المعنى نستطيع الزعم أن خريطة الحالات التطبيقية لمفهوم الطابور الخامس أصبحت متشعبة المسالك والدروب،‮ ‬وقائمتها تطول عقداً‮ ‬بعد عقد‮. ‬وما سنتلوه من أمثلة ليس سوى عينة مصطفاة من تلك الخريطة التي‮ ‬تشبه الشجرة الممتدة والمتفرعة الجذور والعروق التي‮ ‬تداوم الرؤوس الحامية والكالحة السواد على سقايتها بكل ما تفيض به قريحتها من الدس والفبركة لتحقيق المآرب والغايات التي‮ ‬يصعب التعرف على مدبريها الأشباح المتوارين بعيداً‮ ‬خلف الستار‮:‬
‮ ‬شركات العلاقات العامة دولية النشاط المتخصصة في‮ ‬تقديم المشورة والدعم اللوجستي‮ ‬العقدي‮ ‬‭(‬Contractual‭)‬‮ ‬المباشر‮.‬
‮ ‬شركات ومكاتب تمثيلية تعمل في‮ ‬ما وراء البحار كواجهات مال وأعمال‮.‬
‬إصدارات صقيلة وأنيقة تستخدم كواجهات ثقافية وبحثية وفكرية وإعلامية وترفيهية‮.‬
‬صناعة‮ ‘‬ممثليات‮’ ‬محلية من بين الأوساط النخبوية‮ (‬تكنوقراطية في‮ ‬الغالب الأعم‮) ‬وتوظيفها،‮ ‬من خلال واجهات خيرية أو ثقافية أو إدارية معاصرة،‮ ‬في‮ ‬تحقيق‮ ‬غايات‮ (‬بعيدة المدى في‮ ‬الغالب‮).‬
وعلى الصعيد التطبيقي‮ ‬يمكن الاستدلال على هذه الظاهرة،‮ ‬ظاهرة‮ ‘‬التنويع‮’ ‬‭(‬Diversification‭)‬‮ ‬في‮ ‬تجسيد فكرة الطابور الخامس على أرض الواقع من الأمثلة التالية‮:‬
‬الشركات والمؤسسات الوسيطة التي‮ ‬لعبت دوراً‮ ‬محورياً‮ ‬في‮ ‬الانهيارات المالية التي‮ ‬تعرضت لها الأسواق العالمية مؤخراً‮ ‬من خلال دورها في‮ ‬تسويق الوهم والأوراق الصفراء ودفعها بالشائعات للأعلى والنفخ في‮ ‬فقاعتها‮.‬
‬شركات العلاقات العامة التي‮ ‬دعمت الرئيس الجورجي‮ ‬ساكشفيلي‮ ‬منذ نوفمبر عام‮ ‬2007‮ ‬حين تعاقدت معها جورجيا بمبالغ‮ ‬كبيرة،‮ ‬والتي‮ ‬اشتهرت بتلفيقها لكذبة سقوط مدينة‮ ‘‬جوري‮’ ‬بيد القوات الروسية للتحريض على موسكو مع أن القوات الروسية وقت إطلاق الكذبة،‮ ‬لم تبدأ بعد الرد على هجوم القوات الجورجية الوحشي‮ ‬على أوسيتينا الجنوبية فيما كان العالم مركّزاً‮ ‬أنظاره على افتتاح أولمبياد بكين‮.‬
‮ ‬الشركات التي‮ ‬عملت في‮ ‬العراق ولدى عدد من الأنظمة العربية ولدى حكومات بعض الدول الفاشلة‮ ‬‭(‬Failed States‭)‬‮ ‬في‮ ‬آسيا وأمريكا اللاتينية‮.‬
‬الدور الذي‮ ‬يقوم به لوبي‮ ‬الكوبيين المتمركزين في‮ ‬ولاية فلوريدا الأمريكية في‮ ‬التحريض والتشويش على النظام الكوبي‮ ‬منذ الإطاحة بنظام طبقة الفاسدين الأثرياء من ملاك الأراضي‮ ‬برئاسة الرقيب السابق في‮ ‬الجيش الكوبي‮ ‬فولجنسيو باتيستا الذي‮ ‬كان قد وصل إلى الحكم في‮ ‬انقلاب عسكري‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1933‮ ‬أطاح بالرئيس جرماردو ماتشادو،‮ ‬وذلك في‮ ‬الأول من‮ ‬يناير عام‮ ‬1959‮ ‬بعد ثورة مسلحة قادها فيدل كاسترو روز‮.‬
خلاصة القول إن العلاقات الدولية قد وصلت إلى ذرى عالية جداً‮ ‬من التطور،‮ ‬تطورت خلالها،‮ ‬بلا أدنى شك،‮ ‬أدوات ممارستها،‮ ‬في‮ ‬العلن كما في‮ ‬الخفاء‮.‬

صحيفة الوطن
17 يناير 2009

اقرأ المزيد

المثقفون.. وتغييب جوهر القضية والصراع

خلصنا في مقالنا تحت عنوان “غزة والأوراق المغيبة” الى أن غياب الدور الفاعل للمثقفين والساسة يشكل تغييبا لإحدى أوراق الضغط المهمة في المعركة السياسية التي يفترض ان يخوضها العرب حاليا ضد المذابح البشعة المهولة والمتواصلة على الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة، هذا في الوقت الذي توظف فيه شرائح عديدة من المثقفين السياسيين في العالم، على اختلاف مشاربهم ومنابتهم الفكرية والدينية، السلاح الفكري والسياسي ليس للجم العدوان الإسرائيلي والمطالبة بوقفه وانسحاب مصّاصي دماء الأطفال من غزة، بل بالربط التحليلي الخلاق من واقع هذا العدوان وتأصيل مسبباته الأصلية المتمثلة في طبيعة العقيدة الصهيونية ومن ثم البرهنة مجددا على تهافت هذه الأيديولوجية العنصرية كما نعتها بذلك عن حق ضمير المجتمع الدولي في الأمم المتحدة في قرارها التاريخي الصادر عام 1975، وذلك قبل ان يتضاءل دور ونفوذ الكتل الخمس (الكتلة العربية، والكتلة الإسلامية، والكتلة الإفريقية، وكتلة عدم الانحياز، والكتلة الاشتراكية) في الأمم المتحدة، وعلى الأخص بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، حيث نجحت الولايات المتحدة وإسرائيل بعدئذ ان تصولا وتجولا وحدهما في ساحة الأمم المتحدة ومعهما حلفاؤهما الغربيون لاحباك مؤامرة اسقاط القرار وهو ما تحقق لهما عام .1992
فكأنما الضمير العالمي يمكن تزويره بقرار دولي لشرعنة العار والقذارة الفكرية وما تنبته من موبقات لا تمت بصلة للحضارة والقيم السامية الإنسانية وآخرها مذابح غزة، وبالتالي فهؤلاء المثقفون والمفكرون العالميون لم تشغلهم التفاصيل والمسائل الجانبية مهما كانت المسئولية الملقاة على عاتق أي طرف عربي أو العرب أجمعين. والأهم من ذلك مهما كانت المسئولية الملقاة على أي طرف فلسطيني أو الفلسطينيين أجمعين، عن التذكير بالعامل الرئيسي والجوهري للصراع برمته والمتمثل بالأيديولوجية الصهيونية التي اغتصبت فلسطين بموجبها العربية عام 1948 وفي الاحتلال الإسرائيلي الذي استكمل احتلال بقية أراضيها: الضفة الغربية وقطاع غزة عام .1967
فلولا هذا الاغتصاب لما مر الشعب الفلسطيني بكل هذه الأهوال والمآسي على امتداد ستة عقود ونيف، ولولا احتلال ما تبقى من أراضيه عام 1967 لما كانت هذه المحن والمصائب المتوالية التي ما انفك يرزح في ظلها الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، ناهيك بالطبع عن عذابات ومحن الشعب الفلسطيني داخل “أراضي 48” وفي الشتات، دع عنك ما عانته دول المواجهة، مصر وسوريا والأردن ولبنان، من مآس ودفعته من ثمن في الحروب التي شنتها عليها اسرائيل، وحيث لاتزال دولتان أراضيهما محتلة ألا هما سوريا (الجولان) ولبنان (مزارع شبعا).
فأنت لو تتبعت ما نشر من نماذج لما نشر لكبار المفكرين والمثقفين العالميين المناصرين للقضية الفلسطينية حول مواقفهم من مذابح غزة الراهنة لوجدت في تحليلاتهم ربطا محكما منطقيا لأصل المشكلة والمأساة الراهنة باعتبارها متولدة من مشكلة أكبر هي العقيدة الصهيونية والدولة العبرية التي انشئت بالقوة على أسس أفكارها.
وعلى النقيض من ذلك، فأنت إذا ما قلبت صفحات صحفنا العربية الورقية أو في الانترنت، فضلا عما اذا استمعت الى ما يدلي به هؤلاء المثقفون و”المفكرون” العرب لوجدت أطروحات غالبيتهم حول الموقف مما يجري في غزة من مذابح وأهوال بحق أهلها تتوزع على واحد من هذه الاتجاهات الثلاثة:
الاتجاه الأول: يكرس قلمه بالكامل للهجوم العنيف على “حماس” وكأنها السبب الأساسي والوحيد في كل ما حدث ويحدث من مجازر وفظائع بحق أهل غزة بسبب رفضها تمديد التهدئة مع إسرائيل وإطلاق صواريخها على المستوطنات والبلدات “الإسرائيلية” في “أراضي 48” مع خلو هذه التحليلات من أي إدانة لإسرائيل لتلك المذابح.
الاتجاه الثاني: لا يكتفي بالدفاع عن “حماس” بالمطلق وبلا حدود، بل يسايرها في إعادة رفع شعاراتها غير الواقعية في الظروف التاريخية الراهنة وتخوين وأمركة وصهينة كل من يختلف بهذا القدر أو ذاك مع مواقفها وتكتيكاتها السياسية ولو بالحدود الدنيا.
الاتجاه الثالث: يركز على كيفية إدارة الصراع وانقاذ شعب غزة من المحرقة الحالية والتعويل على مختلف الحلول التهادنية الممكنة لإجبار إسرائيل على وقف اطلاق النار ولو بشروطها من دون ربط القضية بمسبباتها وجوهرها الأصلي المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي، وهذا الاتجاه هو الذي يطغى على المواقف الرسمية العربية.
وهكذا يجرى، بقصد أو من دون قصد، تغييب جوهر الصراع في هذه القضية الفرعية (مذابح غزة) والمتمثل أساسا في الاحتلال الإسرائيلي للقطاع كجزء من احتلال أراضي 1967، فلولا استمرار هذا الاحتلال لما انطلقت صواريخ القسام على المستوطنات والبلدات الإسرائيلية.
فهل يجوز ان تطغى صرخات إدانة حماس كمنظمة “إرهابية” أو “متطرفة” في ظل عمل ارهابي أكبر يتمثل في مذابح الاحتلال بغزة؟ بطبيعة الحال لا أحد ينكر ان ثمة أخطاء سياسية لحماس قبل العدوان وأثناء إدارة المعركة ضد العدوان لكن ليس هذا هو الوقت المناسب للعن وصب جام غضبنا على “حماس” بشكل متواصل والتنديد بها بأعلى من أصوات أنياب صواريخ الوحش الإسرائيلي المستمر في غرس أنيابه بتلذذ بلا هوادة وبلا انقطاع في لحوم أطفال غزة ونسائها ورجالها، وبخاصة حينما لا يقترن هذا اللعن والتنديد بأي فضح أو إدانة للأفعال الوحشية التي يرتكبها العدوان اللهم على نحو عابر.
ثم فلننظر الى هذه الكوكبة العريضة ليس من المفكرين والمثقفين العالميين العلمانيين فحسب، بل من الساسة والنقابيين ورموز المجتمع المدني واليسار العالمي، ومختلف رجال الدين غير المسلمين، وبضمنهم يهود، ومشاهير المحللين الصحفيين داخل إسرائيل نفسها.
فهل هؤلاء جميعا عندما يركزون في الوقت الراهن على جرائم العدوان ويطالبون بردع السفاك لا يفقهون شيئاً عن “حماس” كحركة أصولية “متطرفة” أم يعون في نفس الوقت بأنها ليست سوى ثمار وجود الاحتلال الإرهابي المديد قبل كل شيء؟ فلولاه أو لولا تطرفه لما وجدت “حماس” أصلا، أو لما كانت بهذا “التشدد”؟ أم يا ترى أن يسارنا العربي وفطاحل من يحلو أن يسموا أنفسهم بـ “الليبراليين” و”العلمانيين” هم الأكثر يسارية وعلمانية وتحضرا من كل من عداهم في العالم؟

صحيفة اخبار الخليج
17 يناير 2009

اقرأ المزيد

من أجل التحرير لا من أجل الطوائف

يسألني بعض الاخوة من لبنان عن ذلك المقال القاسي في اعتقادهم لحزب الله، ويقعون في أسئلة ساذجة، فيتساءلون هل حزب الله يمثل شريطا حدوديا جديدا لحماية إسرائيل؟
من طرح هذا؟
لكنني أناقش قضايا كبيرة تتجاوز هذه القضايا المحدودة.
حزب الله حزب مناضل ضمن ايديولوجيا معينة مذهبية لم تستطع في الداخل اللبناني أن توحده، رغم نضالها العظيم لتحرير الجنوب والدفاع عنه.
ونحن نتكلم ضمن لحظتنا الراهنة الساخنة المتفجرة، أي في النصف الأول من شهر يناير سنة 2009م، حيث تدك غزة وحيدة، وقامت حركة حماس بالمغامرة العسكرية فيها، وتـُركت وحيدةً تتعرضُ لأقسى السحق العسكري.
وكان لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي الدامي قد خاض تحولات سياسية كبيرة بدءاً من التطاحن الطويل على رئاسة الجمهورية حتى عودة مختلف الأطراف السياسية فيه إلى لم الشمل والمصالحة اللذين كانا عزيزين على قلب “كل” مواطن عربي.
ولهذا فإن حزب الله قد صار جزءًا مرة أخرى من الكل اللبناني الوطني السائر بحسب المنظور المشاهد للتعامل التوحيدي الداخلي، ولم يعد خارج هذه الحدود وشروطها الوطنية، التي تجعل قرار الحرب بأيدي الدولة اللبنانية وليس بأيدي أي حزب.
ولكن المرحلة السابقة، مرحلة الاجتياح والحرب، عرفت من حزب الله ومن بعض الأحزاب اللبنانية خطابات مختلفة، هي خطاباتٌ اعتبرت المشرقَ العربي الإسلامي منطقة واحدة، وأن الكل فيها يعمل من أجل هدف رئيسي هو القضاء على الاحتلال الإسرائيلي إن لم يتجاوزه إلى إزالة إسرائيل كاملة.
وقد سار لبنان في حركته السياسية الذاتية المستقلة عن العالم المشرقي العربي الإسلامي، بسبب طبيعة كل بناء عربي سياسي وطني له شروط تحركه الخاصة وظروفه النسبية غير المنعزلة عن الكل، ولهذا فإن سلاح حزب الله صار بؤرة التداول الوطني اللبناني، لأن صراع القوى السياسية اللبنانية غدا أهم من الصراع ضد السياسة الإسرائيلية الغاشمة، أو قلْ إن الضربات الإسرائيلية الهادمة لأغلبية لبنان وجهتْ الأمورَ نحو ذلك.
وهذا ما حدث سابقاً للأقطار العربية الأخرى، أولاً بإبعاد جمهورية مصر العربية عن معارك التحرير العربية، عبر اتفاقية السلام المنفردة لكن التي حصلت فيها مصر على مزايا كبيرة بهدف إبعادها عن النضال العربي المشترك لتحرير الاراضي العربية المحتلة.
ثم ركضت الحكومات الأردنية في اتجاه مماثل، وامتنعت الحكومات السورية عن الصلح المنفرد، حتى جاءت الحكومة الأخيرة وانضمت إلى بقية القافلة.
وأخيراً التحق لبنان بذلك عبر أسلوب مغاير متلون لكن لا يختلف جوهريا عما سبقه، بمعنى أنه لم يعد قادراً على المواجهة بعد التضحيات الجسام التي قدمها في معارك التحرير الرهيبة فيه.
ولكن “حماس” لم تكن تعترف بكل هذه المتغيرات، ووجدت نفسها في خضم الصراعات الداخلية الفلسطينية المتضادة، بين نهج تحولي مرن لا يعرض الشعب لضربات إسرائيل الغاشمة، ويواصل المطالبة بالتحرير الناجز للأراضي المحتلة بعد 67، وبين مغامرة حماس وطرحها أقصى المطالب من دون قوة كافية على الأرض لتنفيذها، واستخدمت في هذا ايديولوجية حزب الله وتكتيكاته بمهاجمة إسرائيل بالقوة الصاروخية، واستثمرت دعوته وقتذاك بشكل واسع لضرب إسرائيل بكل الأسلحة الممكنة حتى التحرير الناجز.
لكن إيقاع قوانين وسببيات كل دولة أمور مختلفة متباينة زمنيا وصراعيا، ففي حين تدخل سوريا في مفاوضات سرية لاسترجاع أرضها، يدخل حزب الله في الحكومة اللبنانية الملتزمة بالمعاهدات الدولية وقرارات الأمم المتحدة، في حين إن حركة حماس لها إيقاعها الخاص المنفلت، فهي ترفض قرارات الشرعية الفلسطينية، وترفض التوحد الفلسطيني، في حين ان حزب الله قبل الشرعية اللبنانية، فحماس ظلت مع إيقاع المحور الإيراني – السوري من دون إبداع خاص أو قراءة ذكية لظروفها فقاربت الانتحار السياسي، في حين إن مستوى حزب الله في توحده مع ذلك المحور كان مختلفاً بسبب ضغط الضربات الإسرائيلية أو بحساباته السياسية وبمراجعاته الداخلية ولكن لا أحد يعرف هذا إلا هو.
وفي هذه التقاطعات والتباينات بين قوى داخل هذا المحور الذي كان داعياً إلى المواجهة وتصفية إسرائيل وسحقها، جاءت حماس أخيراً وبدت ضحية بشكل كلي لتلك الشعارات المرفوعة، وهي تحملت وحدها وبشجاعة منقطعة النظير كلامها، من دون أن تطلب مساعدة عسكرية من أحد.
فحدث تباينٌ شاسع بين ما قيل عن تصفية إسرائيل وإلغائها من الوجود وبين عدم إطلاق رصاصة واحدة ضدها في هذه المعركة الرهيبة.
وإذا تجاوزنا هذه الاختلافات الظرفية في هذه المعارك المحدودة القطرية، فأسئلتنا تتوجه لماذا يحدث ذلك، وأين الخبرة الإسلامية والعربية الطويلة، وهل الجماعات المذهبية الشيعية والعلوية والسنية ترفض تلك الخبرة الطويلة ولماذا؟
فلابد من محاكمة عقلانية مسئولة لفكر هذه الفرق والجماعات ولماذا هي بهذه التشدقات من جهة وبهذه البسالة المغامرة من جهةٍ أخرى؟
لابد لنا من العودة لقراءة تاريخنا ولماذا انتصر من سبقونا في معارك التحرير وفشلنا؟
إن انتصارهم في معارك التحرير اعتمد على توحدهم، بظروف عصرهم المذهبية السياسية وبسبب سيادة المذاهب السنية وحشدها أغلبية جموع الأمم الإسلامية، من عرب وكرد وترك وفرس وبشكل منفتح أكثر من الراهن التعصبي.
إن دولاً وجماعات ديمقراطية علمانية توحيدية تحشد هذه الملايين من القوميات الإسلامية وبكل الجذور الإسلامية والمسيحية وإضافاتها المعاصرة الديمقراطية، قادرة على التحرير والتغيير، أما جماعات مذهبية منغلقة تقوم بتأجيج العداوات المذهبية فمصيرها الفشل على كل الأصعدة.

صحيفة اخبار الخليج
17 يناير 2009

اقرأ المزيد

الهرم الرابع

عندما ذهبتْ لتُحيي حفلتها في باريس سألها مدير مسرح الاوليمبيا الشهير الذي أقامت فيه الحفل، عن عدد الأغاني التي ستقدمها في المساء، فأجابت: أغنيتين أو ثلاث.. ولأنه فرنسي اعتاد أغنيات المطربين الفرنسيين الغربيين القصيرة، فكر مدير المسرح بينه وبين نفسه: إذا كانت مدة الأغنية ثلاث دقائق أو أربع، فان مجموع الأغنيات الثلاث التي وعدت بها أم كلثوم لن تتجاوز تسع أو عشر دقائق. فسألها بشيء من الحرج: أليس هذا قليلاً لحفلة بِيعت كل تذاكرها، فردت عليه: مبتسمةً: لا تقلق، سترى أن كل شيء سيكون على ما يرام. في المساء فقط، أدرك مدير المسرح ما الذي عنته أم كلثوم وهي تطمئنه صباحاً، فقد غنت أربع أغنيات، مدة كل واحدة منها تضاهي الساعة والنصف، وفي النهاية استغرق الحفل نحو ست ساعات، وسط تفاعل مذهل من الجمهور الذي أتاها ليس من باريس وحدها، ولا من بقية المدن الفرنسية وإنما من المدن الأوروبية ومن بلدان المغرب العربي. مثل هذا الكلام تسمعه في تقرير عن حفلة أم كلثوم في باريس يبث في المعرض المهيب الذي يقام في مجمع الشيراتون، باستضافة من مركز الشيخ إبراهيم الخليفة، بعنوان:»أم كلثوم.. الهرم الرابع». معرضٌ جدير بأن يُزار، وبأن يمنحه الزائر ما يستحقه من وقتٍ ليطلع على الأوجه التي يقدمها عن حياة الفنانة الكبيرة، التي ستظل تعد حالة فريدة من نوعها في التاريخ الغنائي والموسيقي العربي. تُذَكر بزمنٍ آخر كانت الأمور فيه تتم بأناةٍ وصبر ودقة وتوخٍ للجودة والأصالة، قبل أن يحل علينا زمن ساد فيه الغث. عبارة بليغة تستوقفك في أحد أركان المعرض جاءت على لسان أم كلثوم نفسها، تقول«أعتقد أن ما يجب أن يُكتب عني بعد موتي هو أنني أرهفتُ ذوق المستمع العربي بحمله على الاستمتاع بموسيقى راقية». هذا ما فعلته حقاً، لقد طورت ذائقة موسيقية لمستمعيها من مختلف الأجيال بموهبتها النادرة التي لا يجود بها الزمن إلا نادراً، وبما اتصفت به من دقة في اختيار النصوص التي تُغنيها، فضلاً عن ذكائها المشهود له في اختيار الملحنيين الموهوبين ليضعوا موسيقى الأغاني، وبذا تركت ثروة خلدها وسيخلدها الزمن، فأصبحت رمزاً لعصرٍ بكامله، شهد تحولات كثيرة، ولكن يمكن لهذا العصر أن يُوصف، في معنى من المعاني، بأنه عصر أم كلثوم. بوسعنا أن نُمسك بمعالم هذا العصر ونحن نتجول في ردهات معرض»الهرم الرابع»، الذي لا يكتفي بتقديم أم كلثوم، الفنانة والإنسانة فحسب، من خلال عرض مقتنيات عائدة لها، وإنما من خلال مجموعة من الصور والمخطوطات والأفلام الوثائقية، ومن تقصٍ لوجوه العصر الذي عاشتهُ، في الفن وفي الحياة، فنستعيد مناخات ذلك الزمن، الذي كان بالفعل زمناً جميلاً. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فان الإقبال الكبير على الأنشطة المصاحبة لهذا المعرض، يؤكد أن الناس ستظل تعود لأم كلثوم، بوصفها قيمةً فنيةً كبرى ستعيش في الزمن القادم، كما عاشت في زمنها وكما تعيش اليوم. شكرأ لمركز الشيخ إبراهيم للثقافة والتراث الذي منحنا هذه الفرصة الرائعة لأن نعطي أرواحنا ما هي في أمس الحاجة إليه من فسحة.
 
صحيفة الايام
17 يناير 2009

اقرأ المزيد