المنشور

ماذا بعد رفض القرار 1860؟

في ردود فعل سريعة على قرار مجلس الأمن رقم 1860 الصادر يوم الخميس 8 يناير/ كانون الثاني والداعي إلى وقف إطلاق النار الذي يؤدي إلى انسحاب إسرائيلي أعلنت كل من حماس وإسرائيل رفضهما القرار، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن إيهود أولمرت قوله إنه ‘ليس هناك من يستطيع التأثير على إسرائيل في الدفاع عن مواطنيها، وأن الجيش سيواصل تنفيذ المهام التي كلف بها’. وهدف هذه المهمات كان قد أعلن على أنه وقف الصواريخ التي يطلقها مقاومو حماس. أما حماس التي سبق وأعلنت رفضها القرار أعلنت صباح السبت أن الصواريخ التي أطلقتها يوم الجمعة أصابت قاعدة القوات الجوية الإسرائيلية ‘تل نوف’ الواقعة على بعد 27 كلم عن تل أبيب. وتعتبر تلك أقصى نقطة أصابتها صواريخ حماس حتى ذلك اليوم. ورغم أن إسرائيل لم تنف أو تؤكد الخبر، إلا أن منطق الأمور يقول، كما يردد الإسرائيليون، أن أهداف الحرب على غزة لم تتحقق بعد. الولايات المتحدة امتنعت عن التصويت على القرار بعد إقناع بريطاني بعدم استخدام الفيتو. وبما أنها لا عب رئيسي فيما يجري فإن موقفها وتصرفها الفعلي حيال هذه الحرب يقول أيضا بأن الحرب لم تحقق أهدافها بعد. وكالة رويترز كشفت يوم الجمعة عن صفقة كانت قيادة النقل البحري العسكري للقوات الأميركية قد أبرمتها في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2008 مع شركة شحن لنقل 325 حاوية من قياس 20 قدما معياريا على ظهر سفينة تجارية، على أن تصل الشحنات على دفعتين الأولى في موعد أقصاه 25 يناير/ كانون الثاني 2009 والثانية قبل نهاية الشهر نفسه. وقد عرفت الشحنة في العقد على أنها ذخيرة حربية دون توصيف سوى أنها مواد قابلة للانفجار. وبالرغم من أن لدى القيادة الأميركية أسطولها الخاص للشحن إلا أنها أصبحت في الفترة الأخيرة تلجأ إلى إبرام عقود مع شركات الشحن التجارية لنقل المزيد من الشحنات إلى إسرائيل. وفي ديسمبر/كانون الأول أبرمت مع شركة ألمانية عقدا لنقل شحنات أكبر بلغت 989 حاوية من نفس القياس. لكن أية تفاصيل لم تتسرب عن محتويات الشحنة التي انطلقت من ميناء ساني بوينت في ولاية كارولينا الشمالية إلى ميناء أشدود الإسرائيلي. وقد علمت رويترز من بعض العارفين بأن هذه الشحنات مرتبطة بالعمليات العسكرية الخاصة التي بدأت إسرائيل تنفيذها في غزة منذ 27 ديسمبر/كانون الأول 2008 [1].
والوضع كذلك فما هو الهدف الحقيقي من وراء شن الحرب على غزة ورفض القرار 1860؟ صحيفة ‘جيروزاليم بوست – The Jerusalem Post’ الإسرائيلية نشرت الجمعة مقالا لدانييل بايبس، مدير مركز منتدى الشرق الأوسط والباحث في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد ربما سلط فيه الأضواء على مرمى هذه الحرب. أكد أن أيا من الحلول الثلاثة المطروحة سابقا لم ينجح في حل مسألة التعامل مع أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. لا سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية بعد عدوان ,1967 ولا قيام الدولة الفلسطينية على أساس اتفاقات أوسلو عام 1993 ولا الدولة الموحدة التي أسماها القذافي ‘إسراستين’. ولذلك فقد رأى الحل البديل في العودة إلى ما كانت عليه الأمور في الفترة ما بين 1948 و,1967 أي ‘إعادة’ الضفة الغربية للسيطرة الأردنية وقطاع غزة للسيطرة المصرية. لكنه بما أن مصر لم تكن لا في السابق ولا الآن تنوي فرض سيطرتها على غزة فهل تبدو هذه الدعوة خيالا غير قابل للتحقيق؟ بابيس لا يرى الأمر كذلك. يورد مقال الصحيفة أن انهيار الإدارة الوطنية الفلسطينية بقيادة عرفات ثم محمود عباس، ومعها العملية السلمية عموما أدت إلى إعادة تقييم الأمور في كل من الأردن وإسرائيل. ويستند إلى الصحافية الين بروشر من صحيفة ‘كريستيان ساينس مونيتور – Christian Science Monitor’ التي وصلت العام 2007 إلى استنتاج بأن فكرة قيام كونفدرالية تضم الأردن والضفة الغربية أصبحت، كما يبدو، تجد التأييد من على ضفتي نهر الأردن. وأشارت إلى أن بعض المسؤولين الفلسطينيين أسرّوا باعتبارهم هذا الحل ‘واقعيا’. وتذكر استنادا إلى صحافيين معروفين بأن الأمر قد تعدى مجرد الأحاديث، وأن مباحثات غير رسمية بهذا الصدد قد تمت خلال عامي 2003-2004 بين السلطة الفلسطينية والأردن حول مسألة نشر قرابة ثلاثين ألف جندي من لواء بدر الأردني الذي يتكون من فلسطينيين في الضفة الغربية.
الرئيس مبارك سبق وأن ردد مرارا بأن غزة لم ولن تكون جزءا من مصر. لكن ما يكتب الآن يهدف إلى التشكيك في أن الرئيس مبارك سيظل هو صاحب الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع. ويعززون ذلك بالإشارة إلى أن غالبية المصريين تدعو إلى صلات وثيقة مع غزة، وأن حماس ميالة إلى هذا المشروع، أما إسرائيل فهي مهيأة لذلك تماما. وهكذا سنرى في الأيام القادمة كثيرا من الإيحاءات على أن الظروف أصبحت مساعدة لتغيير النهج المصري وللإجابة على التساؤل الوارد في ذيل مقال الصحيفة الإسرائيلية، بأنه:’ربما حان الوقت لاعتبار سكان غزة مصريين[2]؟’.
إذا كان هذا هو الهدف الحقيقي، وإذا كان قطاع غزة الذي تقارب مساحته نصف مساحة البحرين ذات الكثافة السكانية العالية، بينما عدد سكانه يزيد على سكان البحرين بحوالي الضعف تقريبا، وإذا كان 70% من الإسرائيليين يؤيدون استمرار العمليات العسكرية، فذلك يعني أن ضحايا هذه الحرب القذرة سيبلغون أضعاف الذين سقطوا من أطفال ونساء وشيوخ لحد الآن.
بقياسات المنطق فإن تحالفا هشا من القيادات الإسرائيلية التي تتنازعها المصالح الانتخابية الآنية لن يكون قادرا في الظرف الحالي على المضي بمهمة كهذه حتى نهايتها. وفي المقابل فإن الإسراع في إعادة بناء وحدة فلسطينية تحاكي ما يجري على أرض المعارك حقيقة، حيث الذين يقاتلون ويقتلون من عناصر المقاومة وبقية الشعب ليسوا من حماس وحدها، وأن ضغطا شعبيا في مختلف البلدان العربية لتوضح موقفها الرسمي من هذا المخطط سيعزز كثيرا من إمكانية إحباطه وبالتالي التسريع في فك طوق الموت من حول أهلنا في غزة. ناهيك عن أن احتمالات توسع النزاع في المنطقة يجعل كثيرا من الإسرائيليين يعيدون حساباتهم. وهذا ما حدث فعلا بعد القصف الصاروخي من جهة لبنان والذي خفض نسبة الإسرائيليين المؤيدين للحرب إلى أدنى من الـ 70% بكثير حسبما أشارت إليه بعض الصحف[3].
هناك إمكانات لدحر العدوان ومنع هذا المخطط أو غيره من أن يمر. لكن هناك حاجة لشحذ هذه الإمكانات وتعبئتها في هذا الاتجاه.
[1] لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة هذه الوصلة:
http://www.lenta.ru/news/2009/01/10/ship/
[2] دانييل بيبس، صحيفة ‘جيروزاليم بوست’ الاسرائيلية، 9 يناير/ كانون الثاني .2009
[3] راجع: Frankfurter Rundschau 9 يناير/ كانون الثاني 9002. 
 
صحيفة الوقت
12 يناير 2009

اقرأ المزيد

أين صواريخ “حزب الله” على إسرائيل؟!

توقعنا يا سيدي حسن نصر الله أن تكون صواريخك على إسرائيل سحابة هائلة تمطرُ الدولة العدوانية بالنار والدمار. هذه هي ساعتك، وهذه هي لحظتك التاريخية، وطالما كنتَ تقول إن الدولة العبرية جبانة ولا تتحمل ضربات هائلة تأتيها من الشمال اللبناني والجنوب الفلسطيني، وحمست الفلسطينيين ودعوتهم لجهاد لا يقبل المساومة والتراجع والخيانة. كنتَ تؤكد – وقد أحببناك لهذا – بأن القضية هي قضية مصيرية عربية إسلامية، ووقوف مشترك، لا يقبل التراجع لضرب الدولة العبرية العابرة إن شاء الله من الأرض العربية، وقد أبليتَ في هذا بلاءً حسناً عظيماً. ثم جاءت المناسبة الكبيرة ليتحقق هذا الحلم. غزة محاصرة تـُضربُ من كل الجهات، أمطارٌ من القنابل تنزل عليها وقد صارت هي مطر الشتاء القارس، طائرات تضربُ بدقةٍ متناهية بيوت المناضلين والمجاهدين، ولا شيء يمتنع عن القصف؛ مساجد وكنائس ومنازل، أماكن للمقاومة وأماكن للعيش، وطرق ومؤسسات، والعالم كله يتفرج! الدولة العبرية الفاشية استباحت الوجود العالمي ومنظمة الأمم المتفرقة، وجامعة الدول العربية للدروس الخصوصية، التي تواصل طلب معونة الشتاء الدولية. كنت يا سيدي سيد المرحلة ودعوت في كل حين بضرب إسرائيل، ورفضت أي تقييد، وصرخت بأعلى صوتك بأن يتجمع الرصاص والصواريخ وسوف يهرب الإسرائيليون. ولكن ذلك لم يحدث! وربما طلبتَ سراً من الاخوة الحكام السوريين أن يفتحوا جبهة الجولان الباردة خلال ثلاثين سنة، لم تـُطلق منها رصاصة واحدة. وربما استعجلت صواريخ نجاد ولكنه مشغول بزراعة الطماطم الثورية. تحملتَ كثيراً من غدر الدول ومؤامراتها وخبثها، ثم لم تجد سوى أن تطالب بفتح الممرات بين مصر وغزة. صرخت ولكنك ابتعدت عن نقد القوى التي هيجت وحمست وأرادت من كل الأطراف أن تجاهد وتتفجر قنابل ومتفجرات وضحايا إلا هي اختارت السلامة وبر الأمان وجمع الدولار والتومان. كان ضرب أخوتنا الفلسطينيين وذكرى سيد الشهداء الحسين عليه السلام تجري، فأي أمة هذه تحتفل بسيد الشهداء وتنسى الشهادة؟ وفي ذكرى إمام المسلمين المجاهد ضد التسلط كنا بحاجة لتجميع كل القوى حتى لا نكون فرقة ضعيفة صغيرة معزولة وراءها عدو وأمامها عدو ولا سبيل لها لماء الخلاص! كنا لابد خلال هذه السنوات كلها من تجميع الصفوف الوطنية وعدم الوقوع في شبكات الدول المحتالة، وشعارات الطوائف، حتى لا نقع في مثل موقفنا الراهن أسرى لشبكاتها واحتيالاتها، نطلق الصواريخ بحساب أجندتها. وثم ندفع أثماناً باهظة عجزاً عن إسلامية التوحيد من أجل طوائفية الدول وايديولوجيات التفريق وحسابات الدول الخاصة. ولكننا بالعكس نقدر موقفك يا سيدي في عدم اقتحام الموقف العسكري الخطر، فقد أبليت ولا تريد توريط بلدك في حرب غير مستعدة لها ولا هي قادرة على الدخول فيها وحيدة. ووجودك قوة سياسية معاضدة ومنتقدة ومناضلة داخل أجهزة بلدك ومن أجل شعبك أفضل من دخول معركة، يغدو لبنان الخاسر فيها، لأنك إذا حولت بلدك ساحة وطنية إسلامية مسيحية متعاضدة تقدم مثالاً جهادياً أكبر من إطلاق صواريخ. صارت الصواريخ باردة لأن دول الطوائف وحساباتها صارت سائدة. ومثلما تركوك وحيداً تركوا غزة وحيدة. لكن هذه هي الدروس التي نستخلصها من أنظمة بيروقراطية بوليسية تردد كلمات الجهاد والقضاء على إسرائيل حتى إذا جاءت لحظة الحساب بحثت عن مصالحها وتفاوضت من أجل استمرار الجبهات الباردة. وقد دفع لبنان أثماناً غالية في سبيل القضية القومية التي لم يدفع الآخرون أي ثمن لها باستثناء مصر. ويغدو الصراخ على الحكومة المصرية هو أحد أشكال النضال المحدودة في هذا الزمن الصعب، لكن مصر وحيدة لا تستطيع أن تفعل شيئاً كبيراً. لتبقى صواريخ حزب الله باردة وتنتظر فرصة أخرى حين تقدر الحكومات العربية والإسلامية على التقارب، بدلاً من التكالب لمصالحها. ولتتجمع الشعوب العربية والإسلامية وتدفع ضرائب من الدم، وتنسى طوائفها ومصالحها الضيقة، وتنسى اسطوانة سنة وشيعة. فليس لبنان دائماً هو الضحية ودافع الضرائب القومية. لكن يبقى يا سيدي حسن نصرالله أن تقول الحقيقة اليوم أو غداً، حتى تتعلم الأجيال ماذا يجري ولا تنخدع، وتتوحد، وتدع التفرق الديني والطائفي، لتجابه دراكوالات الحكومات المهيمنة على كل شيء. ولا يكون تحرير الأراضي العربية المحتلة بغير ذلك. ألم يترك حزب الله وحيداً؟ ألم تترك غزة وحيدة؟ هذه هي نتائج السياسات الطائفية والأحزاب الطائفية. التوحد وليس مغامرات الجماعات الصغيرة هو السبيل، إن التوحيد لكل الطوائف والقوميات والأديان في هذه المنطقة للقضاء على الاحتلال والاستغلال.
 
صحيفة اخبار الخليج
12 يناير 2009

اقرأ المزيد

محمود أمين العالم

التقيت محمود أمين العالم، الذي رحل عن عالمنا منذ يومين، مرات قليلة خارج البحرين، لكن أكثر منها رسوخاً في الذاكرة هي تلك المرة التي جاء فيها إلى البحرين بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم الخليفة للثقافة والتراث، حيث تشرفتُ بتقديمه في الندوة التي أقامها في مقر المركز في المحرق. وما زلت أذكر تلك الروح المتفائلة التي تطغى على حديثه وأطروحاته، رغم الظروف المعقدة التي يمر بها العالم العربي، هذا فضلاً عن إقباله على الحياة، ومقدرته المدهشة على الاستمتاع بمكامن الجمال فيها، فبدا لي، وكان قد تجاوز حينها الثمانين من عمره، أكثر شباباً من الشباب أنفسهم. في أرشيف المنبر التقدمي تسجيل بالفيديو لمحاضرة ألقاها في المنبر منذ نحو أربعة أعوام في زيارته تلك للبحرين. في تلك الندوة قال كلاماً كثيراً في الفكر، وفي الثقافة وفي السياسة، هو الرجل الذي يمسك بنصية أكثر من حقل، وينطلق من تأسيسي معرفي- فلسفي راسخ، غذاهُ بالعمل الفكري الدؤوب، باشتغاله على جبهة الفكر منافحاً بشجاعة عن أفكار التقدم والديمقراطية والحرية والحداثة. وعلى الدوام ربط عمله الفكري بالممارسة النضالية التي لم يتخل عنها حتى الرمق الخير من حياته. ومما قاله يومها أنه لابد من البدء من البنية التحتية لإحداث أي تغيير، وحتى تصبح المواجهة حقيقية، لا بد أن نبدأ من أسفل «ليس بشكل مطلق طبعاً» وسنحتاج إلى عمل طويل من هذه القاعدة. وقد أوضح فكرته تلك بالدعوة إلى الانتقال من الشعبوية التي سادت لفترة طويلة إلى أن نحقق ما دعاه بـ «عضونة» أفراد المجتمع. والمقصود بهذا التعبير أن يصبح الناس أعضاء في جمعيات و تنظيمات وهيئات أهلية مختلفة، لأنه يرى في ذلك ضرورة لأن يتحول العمل النضالي للناس إلى عمل مؤسساتي، يحرز مواقع نفوذ جديدة في المجتمع، بالمعنى الذي تحدث عنه المفكر الايطالي غرامشي. في العمل النضالي اليومي، كما في العمل على الجبهة الفكرية، لا يوجد حسبما يرى الراحل الكبير ما يشبه «افتح يا سمسم»، فتتفتح الأبواب وتنجز المهام بشكل سحري، فالنجاحات لن تتحقق إلا عبر عمل طويل ومثابر، لا تثنيه الصعوبات والإخفاقات التي لا مناص منها حين يدور الحديث عن العمل في سبيل التغيير وانجاز البديل التاريخي. وهذا البديل التاريخي، في ذهن محمود أمين العالم واضح ومحدد، فهو يراه: تقدمياً، ديمقراطياً، عصرياً، منفتحاً على العلم وعلى العصر والمستقبل، لأن بعض البدائل المطروحة في ساحتنا العربية، ونحن هنا لسنا استثناء منها، ستقودنا إلى المزيد من الخراب والتأزم وانسداد الأفق. وبمفردات العالم نفسه، فإن المعركة تاريخية ولا توجد وصفات جاهزة أو حلول فورية، بل عمل إنساني عضوي تاريخي يحتاج إلى الثقافة والمثقفين وسيادة الفكر العقلاني النقدي. ما من مفكرٍ يساري عربي مثله أبرز الجانب الإنساني العميق في اليسار. وفي عمله الفكري وممارسته الكفاحية أظهر الآفاق الرحبة للفكر التقدمي العلمي، رافضاً «قولبة» هذا الفكر في أطر جامدة مغلقة، بانفتاحه على المنجز الإنساني التقدمي وعلى ما في التراث العربي- الإسلامي من عناصر وجوانب مضيئة. كما عُرف بمجادلته لخصومه بالتي هي أحسن، فأصبح موضع احترام وتقدير لا من قبل المريدين وحدهم، وإنما حتى من قبل الخصوم.
 
صحيفة الايام
12 يناير 2009

اقرأ المزيد

رحيل المفكر اليساري الكبير محمود أمين العالم


 شيع مثقفون من مختلف الاتجاهات ظهر السبت المفكر والناقد المصري محمود أمين العالم الذي فارق الحياة إثر أزمة قلبية داهمته فجرا عن عمر ناهز ال 87عاما.
ومحمود أمين العالم من مواليد العاصمة المصرية عام 1922ودرس الفلسفة في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة اليوم) وعمل في مجالات شتى حيث كان أمينا لمكتبة إحدى الكليات في الجامعة وبعد حصوله على الماجستير والدكتوراه أصبح من طاقم التدريس في الجامعة.
 

وتخليدا لذكراه ينشر موقع التقدمي مقابلة صحفية مع جريدة الشرق الاوسط نشرت قبل ما يقارب السنتين


محمود أمين العالم لـ “الشرق الأوسط”: عملت بوظائف متواضعة من بينها مخزنجي كتب


شيخ المثقفين المصريين في عباءة الخامسة والثمانين


القاهرة: محمد حلمي عبد الوهاب
28 مارس 2007


بنينا مسجدا للشيوعيين في سجن الواحات رفض الإخوان المسلمون الصلاة فيه


في فبراير الماضي دخل محمود أمين العالم، شيخ المثقفين والشيوعيين المصريين عباءة الخامسة والثمانين. وبرغم ثقل السنين وضراوة تجارب النضال السياسي والفكري والسجن والاعتقال التي نسجت خيوط هذه العباءة إلا أنه لا يزال يطل عليك بوجه المرح البشوش، ويفاجئك بذاكرة خصبة، تستعيد الماضي البعيد بكل تفاصيله ووقائعه، وكأنه حدث بالأمس القريب… تعويذة مرهفة من روح العلم والفن والأدب والفلسفة، وقبل كل شيء من روح الواقع والحياة حفرها العالم في خريطة الواقع الثقافي المصري والعربي منحازا لأشواق الإنسان في العدل والحرية، ونضاله ضد قوى القمع والتهميش والإقصاء. في بيته البسيط بالقاهرة، حيث تلقاك مشربية مطعمة بالأرابيسك، ولوحة تصور مقاهي القاهرة مؤرخة بالعام 1963، وأخرى تجسد السيرة الهلالية. حاورته «الشرق الأوسط» حول حصاد كل هذه السنين… وهنا نص الحوار:


> دعنا نبدأ بتجربتك السياسية ونضالك الوطني ومرحلة الاعتقال كيف تراها الآن؟!


– كانت تجربة مريرة دون أدنى شك، فقد انتسبت مبكرا للحزب الشيوعي المصري، وكنت منذ البداية مهموما بمصر حضارة وواقعا، أنظر إليها عبر التاريخ وأعجب لحضورها القوي وشخصيتها الفذة، يتعاقب عليها المحتلون واحدا تلو الآخر فلا تهادن ولا تلين من اليونانيين للرومان للفرس للأتراك والفرنسيين والانجليز، وحاليا الأمريكان!! ثم يحكمها أبناؤها فيكرسون الظلم والاستبداد. وكانت بداية دخولي السجن تتمثل في أنني عُينت بالجامعة المصرية كمدرس مساعد وتم فصلي أنا ولويس عوض وآخرين بعد شهرين تقريبا بقرار من مجلس قيادة الثورة، ضمن حملة للقضاء على الشيوعيين من قبل النظام الناصري. وخرجت إلى الشارع وعملت بوظائف متواضعة للغاية، من ضمنها مخزنجي بأحد مخازن الكتب.


> هل شحذت هذه المحطة الأولى أو الصدمة وعيك الثوري ونظرتك للسلطة؟


– بالفعل، ثم عملت بروز اليوسف وحدثت إثر ذلك حرب بورسعيد، ونزلنا إلى الشارع المصري بكل ثقلنا السياسي مما مهد لحدوث اتصالات مع مكتب عبد الناصر. ولاحقا تم اعتقالي، أنا وآخرين، وتنقلت ما بين سجون القلعة والإسكندرية والواحات، وعذبنا كثيرا وضربنا ضرب الإبل!! واستشهد بعض زملائنا إبان التعذيب الذي كانت تمليه بواعث سياسية لا تعرف الرحمة ويقوم به جلادون مصريون للأسف!! عديمو الاحساس. عندما خرجت طلب مني السادات، ولم يكن رئيسا بعد، حل الحزب الشيوعي فرفضت رفضا قاطعا، فعدل مطلبه بعرض دخولنا ضمن الاتحاد الاشتراكي فاعترضت على ذلك أيضا. واقترحت، بدلا من ذلك، أن يدخل الحزب ضمن الاتحاد لكن دون حله وباسمه لتشكيل تحالف مع الأحزاب والقوى الأخرى ذات القواسم المشتركة فكريا وسياسيا، مع احتفاظ كل منها بشخصيتها المستقلة. ثم أعرب السادات عن رغبة النظام في أن أترك الحزب نهائيا وأعمل لدى السلطة، وهنالك انسحبت على الفور من الاجتماع معتبرا عرضه هذا إهانة شخصية وقفلت إلى بيتي مشيا على الأقدام.


> ومع ذلك ما زلت تحب عبد الناصر وتحترمه؟!


-بالفعل، ما زلت على اعتقاد راسخ، بأن عبد الناصر من أفضل الحكام المصريين، وأنا لست ضد القدر، ولكن يخيل لي أنه لو قدر لعبد الناصر أن يعيش أطول لتغير حال البلاد إلى الأفضل.
فقد تغير جذريا في المرحلة الأخيرة من حكمه وأدرك أن حاشيته التي صنعها بيديه توشك على الصعيد الشخصي أن تودي به، بعد أن ضيعت الأمة وخذلتها على الصعيد الحربي. كانت مشكلة عبد الناصر برأيي أنه تطلع إلى قيام وحدة عربية ومشروع توسعي لم يكن يدرك مخاطره وأن تحالفا من هذا القبيل لا يمكن للنظام العالمي والقوى المهيمنة فيه أن ترضى عنه حفاظا على مصالحها الخاصة.
وكان يضخم من أناه الشخصية على حساب مصالح الأمة فانعزل عن القاعدة الشعبية التي تؤسس لبقائه في سبيل عالم هلامي ومشروع توحدي لم يحن وقته بعد. لكن، وفي المقابل، ساهم في نهضة تنموية وأنشأ مشروعات عملاقة
مثل السد العالي وانحاز إلى الطبقات المهمشة، وقضى على الإقطاع، كما أوجد القطاع العام والجمعيات الاستهلاكية التي تعد بحق صمام أمان للمجتمع. ويكفي أن نذكر له مجانية التعليم، وهي أشياء نفتقدها الآن كلية في ظل نظام نخبوي يبيع ولا يملك، يهدم دون أن يبني.


> لكن ألا يعد موقفك هذا بمثابة تماهٍ مع المتسلط؟ فما فائدة بناء السدود في ظل نظام سلب من المواطن أغلى ما يملك وهو حريته، وألقى بالمناوئين، على اختلاف مشاربهم، في غياهب المعتقلات والسجون؟!


– هذا تبسيط للقضية، فلكل نظام حسناته وسيئاته، ودولة عبد الناصر كانت دولة ذات مشاريع حقيقية،على عكس الدولة المصرية الآن التي تهيمن وتستبد ولا تعمل لأجل الصالح العالم. هذا على صعيد التنظير العام، وعلى المستوى الشخصي فيكفي أن أعقد مقارنة لموقف كل من عبد الناصر والسادات من معارضتي. فكلاهما ألقى بي في السجون، لكن فيما امتنع عبد الناصر عن ملاحقتي أو المساس بأسرتي، طرد السادات زوجتي من عملها بالتلفزيون لمجرد معارضتي لمعاهدة السلام التي عقدها مع اسرائيل واعتبارها خيانة بكل ما تعني الكلمة من معنى، بالرغم من أنني كنت خارج البلاد آنذاك، وكانت تنظر بأسى إلى جهاز التلفزيون بعد طردها، فيما سافرت زوجتي لبعثات متعددة إبان عهد عبد الناصر وترقت في عملها وأنا في المعتقل! وكما كان عبد الناصر مخطئا كنا نحن أيضاً على خطأ في تقييمه. وعندما قامت الوحدة بين مصر وسورية، كنا مع الوحدة، ولكن اختلفنا معه في شكل وأسلوب قيامها، مؤكدين على خصوصية مصر وسورية، وأنه لا بد من احترام هذه الخصوصية. فبينما تعتمد مصر على النيل في الزراعة، تعتمد سورية في زراعتها على الأمطار، كما كانت الصناعة المصرية يومئذ متقدمة عن نظيرتها السورية، والتي كانت تعتمد على صناعة ما يسمى بـ “الشركات الخماسيَّة”، وقلنا لا بد مراعاة هذه الاختلافات عند إقامة وحدة بينهما، طبعاً هذا بخلاف الثقافة والعادات والتقاليد. أي أننا كنا معه في مسألة الوحدة؛ لكن اختلفنا حول الآلية التي ينبغي أن تطبق بها هذه الوحدة، فاعتبرنا عبد الناصر أعداءً للوحدة، ودخلنا السجن عام1959. وعندما فشلت الوحدة بين مصر وسورية، خرجت من السجن عام 1964.



> من هذا المنظور كيف تنظر إلى تحولات المثقف في الوطن العربي؟


– هذا سؤال مهم وأشكرك عليه، فالواقع أنني مهموم دائما بمصر التي أنظر لها تاريخيا، وآسف لما آلت إليه الأمور فيها حاليا، وبالنسبة لموضوع المثقف والسلطة فعلينا أن نتذكر بداية أن دلالات التثقيف في لغتنا العربية تحيل إلى النشاط والإيجابية والفاعلية. فثقف الرمح أي حوله من مادة صلبة إلى آلية مقاومة وقيمة وقانون. وتحول المثقف يرتهن إلى تحول الواقع ذاته، فالسلطة تنتج عملية البغي باستمرار في تعاملاتها اليومية، والمثقف العربي، غالبا تحت وطأة الجوع ولقمة العيش والاضطهاد، يلجأ للتعامل أو التماهي مع السلطة القائمة. ومن المثقفين من يتحول إلى بوق للسلطة يمجدها ويعلي من قيمتها، وإن كانت في الأصل غير ذات قيمة، وهو على يقين بينه وبين نفسه أنه على باطل. لذا أرى في احتكام المثقف، كل مثقف، إلى ضميره آلية حماية ضد الغبن والقهر والاستبداد العربي، وسيحفظ التاريخ مواقف هؤلاء وهؤلاء. وللأسف فثمة العديد من المثقفين سينتهي بهم المطاف في “مزبلة التاريخ”. ويكفي أن ننظر إلى الجرائد الحكومية وقد تحولت إلى منشور حكومي والمقالات التي يدبج به رئيس التحرير أخبار وأحداث الساعة لصالح السلطة الحاكمة.


> هل يعني ذلك أن المثقف الثوري الذي بشر به غرامشي لم يعد موجودا بعد، وليس ثمة أمل في أن يوجد؟


– ليس بالضبط، بل إننا يمكن أن نضيف إلى تصنيفات غرامشي وغيره، المثقف الساخط والمتمرد والمهادن. وهو أمر لا يقتصر على المثقفين دون سواهم، بل نصادف في حياتنا الشخصية البقال الساخط وبائع الجرائد المتمرد، ما يعبر عن حالة من الاحتقان الشعبي. وحاليا يتم إعادة هيكلة مجموعات تفرقت من جديد. فاليسار يحاول تجميع نفسه، والتكتلات توشك أن تتشكل، لكن يبقى ذلك كله مرتهنا بالسخط الشعبي ضد النظام. فوعي الجماهير لا بد أن يتحول إلى سلطة عملية، سلطة احتجاج ورفض ورغبة في التغيير وعلينا أن ندفع الثمن كما دفعه المناضلون من قبل. فالرأي العظيم بمفرده لا ينتج ثورة ما لم يرتبط برغبة الجماهير، وهنالك يتحول إلى فعل اجتماعي. ومن ثم، فلو قدر لحالة السخط العام أن يتم تأطيرها في برنامج عمل، فسيكون هنالك نوع من الأمل في التغيير وإجهاض ملفات التوريث وتحويل مصر إلى مؤسسة عائلية.


> من الفيزياء إلى الفلسفة كيف تقرأ تحولاتك الشخصية كمثقف؟


– أقرأ تحولاتي الشخصية في ضوء تجاربي التاريخية. فقد كان أبي يسعى لإلحاقي بقسم اللغة العربية، لكني درست الفيزياء في الماجستير، وفي الدكتوراه درست “الضرورة في العلوم الإنسانية”، ومن ثم اهتممت بالفكر الإنساني عامة وبالصوفية والوجودية. فخلال هذه الفترة ارتبطت برؤية صوفية عميقة، ومعادية فى نفس الوقت للرؤية العلمية الموضوعية، ولهذا التحقت بقسم الفلسفة. وفى قسم الفلسفة تأثرت بعبد الرحمن بدوي، الذي ألف كتابا عن نيتشه. كان بدوي حادا وشرسا، وكنت أعشقه عشقا لا حد له، وكانت أسرتي عاجزة عن دفع المصروفات- مثل أي أسرة بسيطة محدودة الدخل الآن وما أكثرهم- وكنت أعمق في نفسي الاتجاه النيتشاوي المثالي المعادى للعلم. واخترت موضوع الماجستير عن “فلسفة المصادفة في الفيزياء الحديثة” لأدحض بالمصادفة القوانين العلمية، وأؤكد مثالية الوجود. ثم وجدت كتابا للروسي لينين عن المادية، والذي فجر بداخلي كل الرؤى المعادية للعلم. وهنا خرجت عن نيتشه وآمنت بفكرة العلم، ومن ثم آمنت بالمادية التاريخية، والموضوعية التاريخية، ثم ارتبطت بالحركة اليسارية في أحد تكويناتها، وكانت نواة للحزب الشيوعي والتي كان لها هدفان، الأول هو استبعاد اليهود من الحركة الشيوعية، والثاني تجميع الحركة كلها في تنظيم واحد. فانضممت إليها، وحين خرجت من المعتقل جاءتني دعوة للعمل بجامعة اكسفورد بانجلترا، ثم وجهت لي دعوة أخرى بعد عامين من بقائي في انجلترا للتدريس بفرنسا، وهو ما يمثل منعطفا في توجهاتي العلمية. فحين ذهبت إلى هناك كنت معتقدا أنني سأدرس مبادئ الفيزياء الحديثة ونظرية النسبية، غير أني فوجئت بهم يطلبون مني تدريس الفقه الإسلامي!! ومن هنا ابتدأت علاقتي المباشرة والعميقة بالتراث الإسلامي، إذ استحضرت في ذهني ما كنت أقرأه لأخي الشيخ أحمد في الصغر وبدأت رحلة البحث والمعرفة.


> لكن مع اعتناقك للشيوعية هل كنت تستمد من التراث الإسلامي مبادئك الحزبية؟


– نعم، فالفكر الإسلامي يضم في جوانبه المتعددة أصول المادية التاريخية، فالمادية تعني كل ما هو متحقق. فالقصيدة والفكر على سبيل المثال يعدان Materialism، والمادية في التجربة الأوروبية تكمن في التحقق الموضوعي، والاشتراكية، في الأساس، موضوعية جدلية. ومن ثم فالتحليل الشعري ليس تشريحا لمادة الشعر بقدر ما أنه تشريح وتحليل لموضوع الشعر ذاته. وفي أدبنا مادية جدلية وفي تراثنا أيضا موضوعية جدلية. باختصار المادية الجدلية ليست ابنة عصر وإنما ابنة تطور. ولا يكف العلماء عن التساؤل حول: كيفية السيطرة على موضوعية الضرورة، وجدليتها، فكل شيء متحقق ولكن مع وبفضل متحققات أخرى، والجدلية تعني التفاعل الكائن بين الأشياء/الضرورات.
إن اكتشاف معنى الضرورة وتوجيهها لمصلحة الإنسان يمثل في الأساس الركيزة الرئيسة لتاريخ الحضارات منذ إنسان الغاب وحتى تشييد ناطحات السحاب، من خلال الاستفادة من العلاقات وتفجير علاقة جديدة وتحويل المعرفة من توظيفها لمصلحة طبقة إلى مصلحة الإنسانية، مع الأخذ بالاعتبار أن الاختلافات الواقعة بين البشر يجب أن تكون بحسب الكفاءة والفاعلية وليس بحسب الطبقية.


> مشاغبة أخيرة: هل أنت مشاغب بطبعك؟ وماذا تكتب الآن ؟


– أنا مشاغب بالفعل، ولعل هذا السبب الرئيس في تأخير فوزي بجائزة الدولة التقديرية، وعلى كل أشكرهم وإن كنت اعتبر أن الجائزة الحقيقية تكمن في الحب والقدرة على العطاء حتى النهاية. لكني، وبعد وفاة زوجتي، توقفت عن القراءة قليلا، وبضغط من ابنتي الدكتورة شهرت العالم، عدت لها من جديد، بيد أن افتقادي لوالدتها جعلني أفكر في وسيلة ما أرد من خلالها بعضا من الجميل الذي أحمله لها. وكنت في مطلع الخمسينات أتممت أنا وزوجتي ترجمة كتاب لبرتراند رسل اسمه “ألف باء النسبية” فكنت أترجم فصلا وتترجم هي فصلا آخر، لكن ظروف الاعتقال والترحال حالت دون نشره، وأنا الآن مهتم بإعداده للنشر وإهدائه إلى روح رفيقتي الحبيبة، عساها أن تنظر إلي بعين الرضا قبل أن ألقاها في دار الخلد بإذن الله.
 

اقرأ المزيد

مذابح غزة.. ومنظمات حقوق الإنسان

قبل انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة لم تكن منظمات حقوق الانسان العربية بهذا العدد الذي بلغته الآن منذ انتهاء تلك الحرب، كما لم يكن دورها بتلك الفعالية التي هي عليها الآن حتى رغم كل اشكال التضييق والقيود المفروضة عليها بدرجات متفاوتة في كل الاقطار العربية، أما منظمات حقوق الانسان الدولية، وعلى الاخص العريقة منها والتي تتمتع بقدر معقول من المصداقية العالمية، كمنظمتي “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” فقد كان جل تركيزها خلال سني الحرب الباردة على انتهاكات حقوق الانسان في دول المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي.
الآن وقد بات واضحا ان المنظمات الحقوقية العربية، ورغم ما تواجهه من قيود ومضايقات رسمية داخل بلدانها فإنها تتمتع بمصداقية ومكانة دولية في المحافل العالمية ولدى الامم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان العالمية، ولأن هذه المنظمات الأخيرة هي الأخرى باتت تولي اهتماما أكبر لأوضاع حقوق الانسان في بلدان العالم الثالث ومنها بلداننا العربية، فانه يفترض من هذه المنظمات الا تكون انشطتها وفعالياتها وسائر اشكال ووسائل ضغوطها من أجل الدفاع عن حقوق الانسان في زمن السلم مثلها في زمن الحروب الذي ترتكب خلاله ابشع الجرائم اليومية التي يندى لها جبين البشرية كما يجري تماما الآن بحق الشعب الفلسطيني الاعزل في غزة الذي يتعرض على أيدي قوات الاحتلال لمجازر جماعية بشعة تطاول أطفاله ونساءه ورجاله الابرياء بواسطة مفرمة أحدث اسلحة الفتك والدمار الامريكية التي تقطع لحومهم.
اليوم فان قضية حقوق الانسان العربية الاولى التي ينبغي ان تتداعى لها المنظمات الحقوقية القطرية والقومية العربية والتي ينبغي الا يعلو صوت عليها في اللحظات الراهنة هي قضية وقف جرائم الابادة التي ترتكبها سلطات الاحتلال بحق العزل المدنيين الابرياء في غزة أمام مرأى ومسمع العالم المتمدن بأسره، ناهيك عن كل اشكال المآسي والمحن الاخرى المترتبة على هذه الحرب العنصرية الهمجية الحاقدة التي تشنها النازية الصهيونية بتلذذ سادي لرؤية الدماء المتفجرة من اشلاء الاطفال والابرياء المدنيين، من حصار تجويعي وتعطيشي ودوائي ونسف منازل ومساكن على ساكنيها وتشريد، وتجويع وغيرها من المآسي الاخرى المتولدة من هذا العدوان الهمجي المتواصل.
وإذا كان لا أحد ينكر ما تلعبه منظمات حقوق الانسان العربية والدولية من دور في زمن السلم للتنديد بانتهاكات حقوق الانسان، سواء داخل الاقطار العربية ام داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة بما في ذلك الضفة وغزة، وذلك من خلال التشهير بتلك الممارسات وفضحها أمام الرأي العام العالمي، واتخاذ كل اشكال الضغوط الممكنة على السلطات العربية والاسرائيلية للإقلاع عنها أو وضع حد لها، بما في ذلك دفع المؤسسات الدولية المعنية كالامم المتحدة لاتخاذ القرارات اللازمة المناسبة لتشكيل مثل تلك الضغوط الممكنة، والتشهير بتلك الانتهاكات في المحافل الدولية ووسائل الاعلام الدولية.. فان من غير المفهوم ان يكون الدور الذي اعتادت ان تلعبه المنظمات الحقوقية العربية بشكل خاص والمنظمات الحقوقية العالمية بوجه عام في زمن السلم هو نفسه بنفس الآليات البطيئة والرتابة في زمن الحرب او على الأصح في زمن ارتكاب اسرائيل جرائمها الوحشية العسكرية بحق المدنيين الابرياء.
وإذا كان لا أحد ينكر ما تجترحه أكثر المنظمات الحقوقية العربية مصداقية من معارك ضارية صعبة في ظروف سياسية بالغة التعقيد من اجل الدفاع عن حقوق الانسان العربية في الظروف العادية زمن السلم، فمن باب أولى ان تضاعف هذه المنظمات اقصى جهودها الممكنة وتبتكر شتى الاشكال المكثفة من الضغوط المتنوعة لوقف المجازر الدموية الجماعية المتواصلة التي يرتكبها الفاشيون الاسرائيليون في غزة، ومن ثم حشد اقصى الطاقات والمساعي لاشراك اكبر عدد ممكن من منظمات حقوق الانسان العالمية لتشكيل جبهة عالمية واحدة موحدة من هذه المنظمات لوقف هذه الجرائم الصهيونية في غزة والتي لا تضاهيها جرائم أخرى خلال هذه اللحظات العصيبة الفاصلة من تاريخ الانسانية في الحجم والخطورة حيث باتت تهدد حياة مليون ونصف مليون انسان في قطاع غزة: هذا إلى جانب ممارسة اقصى اشكال الضغوط الممكنة انطلاقا من الاصعدة القطرية والاقليمية لتقديم مرتكبي جرائم الحرب هذه الى محاكمات دولية عادلة لينالوا عقابهم الرادع جراء ما اقترفته ايديهم من جرائم جماعية بحق الانسانية في غزة، وصولا إلى تمكين ومساعدة الشعب الفلسطيني على الخلاص من الاحتلال الاسرائيلي الذي ابتلي به وجثم على ارضه وعليه منذ أكثر من 60 عاما وبناء دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف.
فهل نأمل في ان تبادر منظمات حقوق الانسان العربية سريعا للاضطلاع بمسؤولياتها الانسانية والوطنية والقومية العليا في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ القضية الفلسطينية، حيث تواصل جحافل النازيين الاسرائيليين غرس انياب صواريخ حقدها العنصري الاعمى في اجساد الاطفال الطرية، بحيث تكون هذه المنظمات في صدارة الشعوب والحركات العربية الضاغطة على حكوماتها من اجل نصرة شعبنا في غزة؟!

صحيفة اخبار الخليج
11 يناير 2009

اقرأ المزيد

وحدة الأمم الإسلامية

يعتقد الكثيرون أن وحدة الأمم على أساس ديني قد انتهى زمانـُها، وقد عمل التحديثيون على فصل الأمة العربية عن جيرانها وشركائها لما ظهروا عليه من طريقة إنتاج إستيرادية للجاهز من منتوجات الأمم المتقدمة، مثلما عمل التقليديون الدينيون على العيش على الجاهز من ميراث المسلمين التقليدي.
ولكن في حين أظهر التعامل مع الأمم التحديثية المُقلــدة في الشرق والغرب بعض فوائده، إلا أن هذا الزرع المستنبت لم يصمد لغوائل الزمن، أو قوى الفعل الداخلية في هذه الأمم المُراد نقلها من التخلف للحداثة.
إن هذا الاستزراع الحضاري التحديثي كان في قسم كبير منه لا يؤمن بتراث هذه الأمم الإسلامية وتاريخها، وتجاربها، وقد آمن بالجاهز مثلما نقل المكيفات والسيارات دون أن يقدر على صناعة مكيف أو سيارة.
لقد فكرت بعضُ الأمم الأكثر تنمية من بين الأمم الإسلامية على التحليق وحيدة في الفضاء العالمي والوصول للتقدم والنهضة بدون الحاجة إلى أخواتها من الأمم الإسلامية الأخرى، كما فعلت الأمة التركية وطارت لوحدها مخترقة الحواجز القارية والدينية، نحو أوربا الحداثة، ولم تهتم بأخواتها من الأمم الإسلامية، بل حتى بالشعوب الصغيرة الإسلامية التي حكمتها وكانت ضمن حدودها!
وهذا ما حاولت الأمة الفارسية ذلك في عهد الأمبراطورية معتمدة على بعض المظاهر الحضارية والعسكرية المستجلبة من أقوى دول الغرب.
وهذا ما حاولتهُ بعضُ الشعوب العربية ثم وجدتْ نفسَها في محيطها، وقامت شعوبٌ من الأمم الإسلامية بجرها للوراء أو بتوريطها في معارك دولية هائلة.
وجدت الأممُ الإسلامية كلـُها بأنها في مواقع متدنية، وتفجرت خلافاتٌ بينها، وراحت المناطق الأقل تطوراً في فرض وصايتها على المناطق الأكثر تطوراً!
راحت إفغانستان على سبيل المثال تفرضُ حضورَها، وكانت مثل كرة قدم تتبادل رميها الأمم الهندية والباكستانية والروسية والأمريكية والعربية، مع تحقيق هزائم مستمرة للجميع.
قامت أفغانستان بجر الأمم الإسلامية خاصة نحو قاع عميق لا قرار له من الخسائر والكوارث.
لقد تصورت بعض الأمم مثل الأمة الروسية بأنها قادرة على جعل هذه الأمة الأمية المتخلفة أن تصل إلى ذرى النجوم من التقدم، لكن حدث العكس.
وتصورت قوى حزبية عربية مثل القاعدة بأنها سوف تجعل إفغانستان قاعدة لعودة الإسلام النقي، فاتخذتها قاعدة للتخريب، فجلبت على إفغانستان الكثير من الدمار والتخلف.
لكن ألم يكن ذلك نتاج رؤى سياسية متخلفة؟!
كان المبشرون الإسلاميون يذهبون للدول الإسلامية لكي يعلموها بأصول دينها وهي التي تعرفها، وفي أغلب الأحيان كانوا يفرضون عليها قوالب سياسية لسيطرتهم المذهبية الخاصة.
لكن هل قام أحد من العرب أو الفرس أو الترك بمعرفة حاجات إفغانستان من التنمية الزراعية ومن إفتتاح المصانع والمتاجر والمراكز الثقافية؟
بل هل فكر أحد بنقل أدب إفغانستان للعربية أو الفارسية؟
هذه تبدو مثل رواية (الأخوة كرامازوف)، حيث يقوم الأخوة بالعراك من أجل مصالحهم وإنانياتهم ثم بجعل الأخ المتخلف يقتل أب الجميع.
هذا ما يحدث لأمم إسلامية تعيش في مستويات معيشية مختلفة، كالأمازيغ (البربر) والمغول والأكراد والتركمان والأندوينيسيين، ويحكم بعضها بقسوة وتلغى تقاليده ولغاته.
لقد قامت القاعدة بذكاء بإستغلال فوارق التطور والمعرفة وقاربت بين بدو الجزيرة العربية وبدو إفغانستان وباكستان والهند، مثلما فعل العباسيون بإستغلال إقليم خراسان من أجل (الثورة).
وفي الجهة المقابلة، جهة المسلمين الأكثر تطوراً، لم يستفيدوا من ثرواتهم لأجل تطوير هذه المناطق، بل نقلوا جل ذهبهم وحصالاتهم نحو الغرب والشرق غير الإسلامي.
ويؤدي ذلك إلى جعل المناطق الإسلامية المتخلفة المرتبطة بالبلدان الإسلامية تزيد من غضبها، وتتحول إلى بؤر إشتعال، فتجر سلسلة هذه البلدان نحو منطقها وعنفها.
ثم لا تستطيع الأمم الإسلامية أن تقضي على هذا الغلو فتجيء الأمم المسيحية لمعالجة مشكلات البلدان الإسلامية! ومستخدمة الجيوش الجرارة لحل مشكلات هي في أصلها مشكلات تنموية وعدم معرفة دينية عميقة بالإسلام.
ولكنها بطبيعة الحال لا تستطيع فهم ذلك، لأنها تعتبر المسألة مجرد قضية إرهاب وسلاح لا غير!
وهكذا فإن قضايا مثل قضية شعب إفغانستان تتفاقم وتجر إليها الشعوب القريبة كالشعب الباكستاني وخاصة في الأقسام القبائلية البدوية فيه، مما يؤدي إلى تدهوره وصراعاته.
وهذه تجرُ شعوباً أخرى كالشعب الهندي وتغدو قضية عالمية كبرى.
إن الأمم الإسلامية أمم ذات وحدة تاريخ وتراث، فهي لها خصائص مستقلة نسبياً عن تواريخ الأمم الأخرى، ويقود تطور أو تدهور تراثها ومعالجته إلى تطور أو تدهور أوضاعها جميعاً.
فمدرسة سياسة فكرية تنشأ في الرباط بالمغرب يكون لها صداها في أندونيسيا، وهي حين تطرح معالجات اجتماعية خاصة بعالم المسلمين، يتأثر بها الجميع.
لكن أية وجهات نظر تطرحها وهل هي تؤدي إلى تقدمهم أم تزيد مشاكلهم؟
وفي العديد من الأحيان فإن القوى الدينية التقليدية تنشر وجهات نظر عبر التبشير والتدخل والتأثير، وهي قائمة على الحماس الإيديولوجي السياسي الراهن وعلى التعصب في غالب الأحيان، وعلى نقل مناطق من هذه البلدان لوجهات نظر سياسية فوق مستواها أو تؤدي بها إلى صراعات مذهبية وسياسية طاحنة.
فقد كانت التأثيرات المذهبية السياسية المتحمسة قد غيرت إفغانستان من شعب موحد لا يهتم باختلافاته المذهبية إلى أن جعلته يتصارع بعنف ويمزق خريطته الوطنية.

صحيفة اخبار الخليج
11 يناير 2009

اقرأ المزيد

«دون كيخوت» لم يمت!

لم يكن الكاتب الاسباني سرفانتس في روايته التي دخلت في عداد كنوز الأدب الروائي الكلاسيكي: «دون كيخوت» يرمي إلى تمجيد بطله. كان هدف سرفانتس الذي عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر هو هجاء مفهوم الفروسية الذي بدأ يتهاوى مع تزعزع مكانة الإقطاع وبواكير صعود البرجوازية الأوروبية. لكن ما من أحد قرأ الرواية أو شاهدها على المسرح أو في السينما إلا وتتعاطف مع البطل. بل أن الكاتب نفسه لم يخفِ هذا التعاطف في الطريقة التي تناول بها «بطولات» ذلك الرجل الذي راح ينازل طواحين الهواء ظانا انه يُنازل جيوشا مجيشة. إن دون كيخوت أضحى بطلاً أثيراً من أولئك الذين نحبهم في الأدب، شأنه في ذلك شأن «هاملت» شكسبير و«فاوست» غوته وسواهما. كان دون كيخوت مُدمنا على قراءة الكتب ومولعا بالأحلام وعدم التلاؤم مع واقع متحول كان يرفضه، لأنه غير قادر على التالف معه. لذا فانه جرى وراء هذا الحلم، الذي هو إلى السراب أقرب منه إلى الحقيقة، فارتدى لباس الفرسان واصطحب معه مرافقه إلى حيث المجهول والمغامرة راغبا في استعادة حياة الفروسية التي طالما قرأ عنها في بطون الكتب التي استهوته. كان يبحث عن البطولة، عن المجد، عن دورٍ يتخطى إمكانياته وإمكانيات الواقع، ولأن الأمر كذلك فانه لم يكن أمامه من مخرج سوى الإغراق في الوهم وتصديقه. لم ينسَ سرفانتس أن يرسم ملامح بطله الإنسانية: حالم وخجول ومولع بالفروسية، روحهُ تنم عن الرحمة والإخاء، وتشيع فيها روح دينية متحفظة، ولم يكن يدرك وهو يغرق في الحلم انه كان يخدع نفسه. كان ذلك شعوراً خفياً ولكنه كلما اصطدم بالوقائع في مغامراته كلما أدرك ذلك بالتدريج. ولم يكن أمراً غير ذي مغزى أن سرفانتس اخترع شخصية مرافقه «شانسو» الفلاح الذي عركته الحياة. كان مخزوناً من الحكم والأمثال الشعبية والمعرفة الفطرية الذكية بتعقيدات الحياة، وكان يُزجي النصح لفارسه طوال تلك الرحلة الشاقة، لكن نصائحه كانت تُقابل بالصمت، لا بل بالازدراء من قبل الفارس الذي أراد أن يصمم العالم على هواه، لذلك فانه كان يتصور السهل الغارق في الصمت سلسلة أخاديد تنبثق منها أرتال الفرسان الذي لا وجود لهم إلا في رأسه! كم من دون كيخوت حولنا؟ّ كم من دون كيخوت في هذا العالم الذي يتحول إلى صورة أخرى غير الصورة التي نشأوا عليها أو تلك التي شكلوها من الذي قرؤوه، كم من دون كيخوت يغرق في الحلم، ويذهب مع هذا الحلم الى ما يشبه الجنون الذي يجعله يتصور الجيوش طواحين هواء في قراءة معكوسة لدور بطل سرفانتس. و«الدون كيخوتية« المعاصرة مُستقاةٌ من واقع مليء بالعسف والمظالم والخلو من الرحمة، لذا فإنها قادرة على استثارة العواطف إزاء دعوتها لفروسية جديدة بوجه ترسانة حرب لا قبل للفروسية على مواجهتها، لكن الدون كيخوتية بكل ما عرف عنها من اعتداد لا تسلم بان وسائلها أعجزمن أن تحقق أمانيها. لكن يظل أن لكل زمن «دون كيخوته» الخاص به. دون كيخوت لم يمت. دون كيخوت لا يموت!
 
صحيفة الايام
11 يناير 2009

اقرأ المزيد

الفضاء المكشوف والمنافذ المغلقة

تابعت مثل غيري من المئات العرب كل ما يحدث في غزة, بل وتابعت كل ما يدور حولها من تصريحات وتشنجات وانفعالات, فلم أجد من بينها حلا واحدا مقنعا يقنعني بكل تخبطنا شمالا وجنوبا, بل وضربنا رؤوسنا بالحائط بقوة دون أن نعثر على مخرج واحد للمعضلة, إذ لسنا هنا بصدد الحديث عن أهمية الاحتجاجات والتضامن والشتائم في الفضائيات والصحافة وكل وسائل الإعلام, لمسألة بديهية لا خلاف حولها عن أن العدوان الإسرائيلي برهن عن انه عدوان جبان يسعى لتدمير وإبادة كاملة ليس لحماس وحدها وإنما لشعب كامل في القطاع مثلما فعل قبل ستة عقود حينما انتهك وسلب ارضا لشعب وطرده من وطنه تحت ذرائع عديدة, واليوم يمارس ألاعيب أخرى مستحدثة. لسنا على خلاف على إدانة العدوان والجهة التي تمارسه, ولسنا على خلاف بضرورة دعم الشعب الفلسطيني في محنته وبضرورة كسر الحصار على غزة مهما كان الثمن. ولكن الخلاف يولد في الشارع العربي وانظمته عند الجلوس والحوار حول تفاصيل الآلية والكيفية التي ينبغي فيها مواجهة العدو الغاشم, والذي سببناه وشتمناه بما يكفي, ولكننا عجزنا حتى عن رجمه بحجارة الشيطان, ذلك الشيطان المعاصر الذي وضع قطاع غزة وشعبها في حالة حصار بحري وبري وتملك فضاءه واحتكره بالكامل, بحيث لا تستطيع أية قوة عربية أو دولية كسره بالقوة,
وهذا ما تدركه إسرائيل جيدا, فهي تعلم أن الموضوع يمر بإجراءات طويلة معقدة أطول من عدد الأيام التي تحتاجها في تسوية أمورها في قطاع صغير ومحدود من حيث رقعته وقدرته على المقاومة, مهما حاول شعبها من الاستبسال والصمود والمقاومة, لعلها بعد ذلك الانتصار العسكري تنجز انتصارا سياسيا آخر وتفتح الأبواب لحوار عربي إسرائيلي واسع, ومن جهة أخرى تفتح أبواب صناديق الاقتراع لكل من يرغب دعم حزبي العمل وكاديما اللذان يحاولان المزايدة على مسألة الدفاع القومي كمسألة استراتيجية عن امن إسرائيل, والذي من جانب آخر يزايد عليه نتنياهو كحزب لليمين المنافس في الانتخابات القادمة.
بين ذلك القش العربي الهائل هذه الأيام وجدت شتما واسعا للأنظمة العربية والصمت العربي, ولكن الذين قدموا شتائمهم على شاشات التلفاز لم يكونوا إلا صغارا مثل أصواتهم البائسة, إذ كانوا على علم بأنهم اضعف من تغيير جلدة الدجاجة وليس جلد الأنظمة, بل ولم يسألوا أنفسهم سؤالا هاما وبسيطا كإبرة صدئة, بأن تلك التظاهرات الصاخبة ضد السفارات المصرية والأجنبية في البلدان كانت عاجزة عن اختراق ليس جدار رجال الأمن وحسب بل وحتى الأسلاك الشائكة المتواضعة, فهل بإمكان لتلك القوى المنفعلة قادرة على انجاز مشاريع تاريخية كبرى كإزالة إسرائيل الغاشمة التي تعبث في غزة كيفما تشاء ومتى ما تشاء ؟ المسألة أعمق من حملة الانفعالات والأوهام والشتائم والتنديدات ورجم الأنظمة العربية بأكثر مما تحتمل, بل وبدعوتها للحرب الإقليمية في زمن يسعى العالم للتنمية والسلم والديمقراطية, ولا يمكن نقل الصراعات الثنائية المتمحورة بين جانبين نحو دائرة من النار الواسعة, وحدهم من يرفعون شعارات الأمة يعودون لنقضها بسرعة في قوالب الشتائم, ويدخلون في تناقضات شتم الأنظمة ودعوتها للتدخل, مثلما نسعى بسرعة لدعوة مجلس الأمن بالتدخل في وقت ندرك ان مجلس الأمن الدائم تحكمه دول عظمى تناقش ما تريده في الدهاليز بهدوء تحكمه المصالح, فالعواطف لا تعالج السياسات والصراعات كما يتوهم صرعى الفضائيات في زمن المحنة!. حاولت أن افهم المداخل والمخارج العملية للسياسات الفلسطينية الممزقة, والتي تجيد خطاب الندم في لحظة الأزمة, فتكتشف سهولة المعادلة السياسية, بأن الفرقة لا تنفع الشعب الفلسطيني,, وعلينا أن نتوحد وننسى خلافاتنا,, فابتسم وأقول في نفسي يا للاكتشاف الصعب لشعب تملك خبرات واسعة من السياسة, ويدرك أن تلك المقولات من الصعب الاختلاف على مبدئها ولكن الصعوبة في تحقيقها عندما يتم الحديث عن توزيع حصص المقاعد والثروة !! إذ يولد نزاع الموت والتدمير بين هابيل وقابيل ويبدأ الدم ينزف دون توقف. وحينما يبدأ الغريب يدخل المرعى يناشد الإخوة, إخوة الدم بعضهم للمناصرة,
ولكن الفجيعة, هو عند فوات الأوان, فلسنا في زمن القبيلة ولا سيوفها, وإنما نحن في زمن التدمير من الفضاء, وعلى القوى الصامدة في غزة أن تسأل نفسها أسئلة عملية خبرتها كل من دخل الحروب القصيرة والطويلة لحروب العصابات والحروب الشعبية, هل تؤهلها الظروف اللوجستية والطوبوغرافية في مواجهة العدو؟ هل لديها قدرة على إدارة مجتمع مدني من نواحي تموينية وغيرها في ظروف حرب شعبية طويلة؟ ما هي القوى التي تسند المقاومة من الخلف, كالأرض والجغرافيا والتصنيع والمواد الأولية؟ هل تملك المقاومة جسمين, سري وعلني محكم قادر على اختراق العدو وليس العكس؟ ما نراه يعكس حقيقة الصراع وقدرة إسرائيل حاليا على ضرب الطوق وخنق غزة بالحصار القاتل التدريجي وإنهاكه على المدى الطويل, فصار تدميره من الفضاء أسهل واختراقه وتدميره على الأرض ممكنا في محيط جغرافي محدود. ما اكتبه ليس حلا ولا معالجة وإنما تصورا للواقع الحالي بعيدا عن صوت الإدانة والصراخ فذلك لن يمنح سكان غزة لا خبزا ولا دواء ولا حتى صلاة الموتى من بعيد. من يمتلكون الحل هم شعب فلسطين وحدهم, وبحوارهم العقلاني يستطيعون مسك الإبرة في القش بدلا من مناطحة السحاب. في النهاية ليس رغبة الموت بطولة, فذلك أمر مارسه ويمارسه الانتحاريون دائما, وهم يدركون أنهم فشلوا في نهاية المطاف في تغيير الأنظمة, ومثلما البطولة الفلسطينية لا تصنع معجزات, فإنها في النهاية لن تصنع حلا.

صحيفة الايام
11 يناير 2009

اقرأ المزيد

الموازنة العامة للدولة.. رؤية نقدية (2-4)

تأسيساً على ما سبق ذكره في الحلقة الأولى من هذه الدراسة من حقائق حول وضعية اللجنة المالية ومسؤولياتها الجسام حيال دراسة مشروع الموازنة العامة وما يعتريها من ضغوط وانعكاسات وتداخل في الرؤى, وما رسخه مجلس النواب في الفصل التشريعي الأول من تجارب يمكن البناء عليها للمستقبل, وحيث إن دراسة الموازنة العامة للدولة هي بمثابة الغوص في كافة تفاصيل إدارة الشؤون المالية والاقتصادية ودراسة مشاريع وتوجهات الدولة التنموية المختلفة على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والرياضية وغيرها, وبالتالي فهي عمليا إسهام حقيقي في رسم سياسة وتوجهات الدولة على مدى عامين هما مدة الفترة الزمنية للموازنة العامة المراد إقرارها, ومن خلال ما يفترض أن تقدمه الحكومة من برامج ومشاريع وتوجهات تنموية مرفقة مع مشروع الموازنة العامة ذاته.
 فقد ساعدنا ذلك الفهم المبكر نسبيا لأهمية ما أصبح حينها بين أيدينا من برامج ومشاريع وأرقام على مقارعة الحجة بالحجة والأرقام بالأرقام ومواجهة الأداء الحكومي في تنفيذ المشاريع باقتراحات جديدة على مستوى الإدارة العامة للدولة مثل سياسات التوظيف ومشاريع الخصخصة والأجور ومشاريع الكهرباء والماء والسياسات التعليمية والصحية والإسكانية والتوظيف وغيرها, وبالنسبة لغالبية أعضاء لجنة الشؤون المالية والاقتصادية في الفصل التشريعي الأول, ربما كان آخر شيء يهمنا هو إقرار الموازنة في الفترة المحددة التي تريدها الحكومة, نظرا لما لدينا من مبررات موضوعية للرد على من سيحاولون الضغط باتجاه إقرارها بأي ثمن, وهي في حدود ثمانية أسابيع منذ تسلمها رسميا من قبل الحكومة, حيث كنا باستمرار نمتلك المبرر الموضوعي على نقص ما قدم لنا من معلومات وخلوها من التفاصيل المطلوبة, بل أننا أعلنَا ذلك للمجلس من خلال الجلسات العامة, والأهم منه أننا أحطنا الرأي العام علما منذ اليوم الأول بأن الموازنة لن تقر ولن تمرر طالما لم تقدم الحكومة المعلومات والأرقام التفصيلية المطلوبة, وهكذا كان, فبدلاً من الفترة المحددة لمناقشة وإقرار الموازنة فإننا استغرقنا قرابة ستة أشهر لإقرارها, وكانت الحكومة حينها تحاول الضغط بالشارع على أعضاء اللجنة من أجل إقرار الموازنة بالسرعة التي تريدها من دون السماح لمزيد من التفاصيل للوصول للنواب,
وكان من بين أوراق الضغط التي لعبت بها الحكومة هو أن أعضاء اللجنة يسهمون بتأخيرهم إقرار الموازنة في تأخير زيادة وعلاوات الموظفين في القطاع العام واضطرار الحكومة كما كانت تعلن دوما لصرف رواتب موظفيها مستخدمة آلية واحد على اثنتي عشر, كما أصطلح على تسميتها, أو أنهم السبب في تخلف الدولة عن البدء في مشاريع حيوية للناس من جسور ومحطات كهرباء وبيوت إسكان واستملاك أراضٍ لاستصلاحها, أو بناء مدارس وعيادات صحية وتوسعة مطارات وموانئ وغيرها, وكان ذلك مفهوما وواضحا لنا في لجنة الشؤون المالية, وفي الحقيقة لم نكن نجد ضغوطا تذكر من بقية الكتل, نظرا لما فرضته اللجنة من أمر واقع كان من الصعب تجاوزه حتى من قبل رئاسة المجلس عوضاً عن الكتل.
وعلى الرغم من محاولات الحكومة المستمرة في عمل اختراقات من خلال بعض الكتل والأعضاء, إلا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئا تحت إصرار المخلصين من أعضاء اللجنة على استكمال مهمتهم بمسؤولية وضمير وطني, وقد كان سندنا الحقيقي في أداء مهمتنا تلك بصورة مسؤولة, هو تفهم الشارع بشكل عام لدورنا وأهميته والذي لعب فيه تواصلنا اليومي مع الناس والجمعيات السياسية وبقية مؤسسات المجتمع المدني والمجالس الأهلية ووسائل الإعلام المختلفة دورا مهما,
بدلا من الإنزواء في نقاشاتنا اليومية مع الدولة داخل الغرف المغلقة, وكانت تلك أسباباً جوهرية لفشل كل محاولات الإختراق تلك, حيث إننا كسبنا الرأي العام الى جانب دورنا في مناقشة هذا الملف الرئيسي وتسهل مقارنة ذلك الوضع بما يجري الآن من مناقشات حول الموازنة العامة للدولة.
وخلال مناقشة موازنتي 2005-2006 وكذلك 2007-2008 قدمت معلومات ناقصة ومجتزأة مستغلة عدم وجود طواقم إسناد من استشاريين وغيرهم لعمل اللجنة, لكنني اقول لكم إن ذلك كان عامل تحد آخر, جعلنا نلغي ذواتنا ونعمل حتى ساعات متأخرة من الليل والنهار في سبيل إخراج الموازنة العامة بالصورة الملائمة وبحسب مجهوداتنا وقدراتنا الفردية وبما يرضي ضميرنا الوطني قبل كل شيء آخر. وكانت نقاط الخلاف مع الحكومة تتمحور في عدم اقتناع اللجنة بعدة أمور لعل على رأسها موازنة الإيرادات ومنها الإيرادات النفطية وغير النفطية وحجم مساهمة الاستثمارات الحكومية في تلك الميزانية بشكل أكثر تحديدا, والتي أعتقد أنها بالفعل لا زالت في حاجة ماسة وسريعة لإعادة النظر فيها, فهي بهكذا وضعية ستبقى محل انتقاد مستمر من قبل المعنيين والمهتمين من أهل الاختصاص, والذين لا يمكن لهم أن يؤسسوا لقناعاتهم جراء ما يعتري باب الإيرادات من نكوص وعدم اتساق وسوء إدارة في مداخيل الدولة وقنوات إيراداتها المتعددة, بما يمكن أن يشكل بالفعل قناعة وطنية حقيقية بذلك.

صحيفة الايام
11 يناير 2009

اقرأ المزيد

ما هذا‮ ‬يا عرب‮.. ‬حتى الدول‮ »‬الطرّارة‮« ‬لم توفركم‮!‬

أولاً‮ ‬هل هناك دول‮ ‘‬طرّارة‮’ (‬تعبير خليجي‮ ‬دارج‮ ‬يعني‮ ‬الدول المتسولة)؟ نعم لقد اقترنت ظاهرة التسول والمتسولين‮ (‬الطّراروة‮) ‬بالأفراد كما هو معروف وشائع‮. ‬إنما أن‮ ‬يصل الأمر بالدول وحكوماتها لتمارس عادة تسول أحد أشكال الدعم والمساعدة فهذا ما لا‮ ‬يستقيم والبنية السيادية،‮ ‬القانونية والأخلاقية،‮ ‬للدول والبروتوكولات والأعراف الدولية،‮ ‬ولكن شتان بين هذه الأنساق والقواعد وبين الواقع الدولي‮ ‬المعاش،‮ ‬ففي‮ ‬هذا الواقع هنالك العديد من الدول التي‮ ‬تجد نفسها أكثر في‮ ‬توسم عشم الدول الغنية من ابتداع برامج خلاقة لحشد وتسخير كافة الطاقات المحلية المتاحة والبناء عليها‮.‬ والطرارة أو التسول على صعيد الدول،‮ ‬أنواع وأشكال‮. ‬فهنالك سلوك الطرق التقليدية المتبعة في‮ ‬استجداء العون والمساعدات الدولية من الأطراف والأقنية المتيسرة والمعروفة،‮ ‬وهناك التطوع لقبول النهوض بمهام لوجستية لصالح أطراف ثالثة لقاء الحصول على مساعدات ثابتة أو مقطوعة أو الحصول على تسهيلات وميزات محددة‮.‬ جمهورية تشيكيا هي‮ ‬أحد النماذج المضلّلة‮ ‬للدول المتسولة‮ (‬الطرّارة‮)‬،‮ ‬فهي‮ ‬إذ تخدعك ويخدعك شعبها بأنفتهما وغرورهما،‮ ‬إلا أنها في‮ ‬حقيقة الأمر لازالت تعيش في‮ ‬جلباب عقدتها من عقود الخضوع للتبعية الألمانية في‮ ‬القرنين الرابع عشر والخامس عشر ثم ولمدة‮ ‬300‮ ‬سنة لهيمنة الإمبراطورية البروسية الهنغارية التي‮ ‬استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في‮ ‬عام‮ ‬‭.‬1919‮ ‬ولم تهنأ القومية التشيكية التي‮ ‬استدرجت القومية السلوفاكية في‮ ‬إعادة تأسيس دولتها في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1918‮ ‬إذ سرعان ما عاد النازيون في‮ ‬بداية الحرب العالمية الثانية في‮ ‬عام‮ ‬1939‮ ‬وضموا مقاطعتي‮ ‬بوهيميا ومورافيا إلى الدولة الألمانية قبل أن تعود دولة تشيكوسلوفاكيا مرة ثالثة للمسرح الدولي‮ ‬بعد تحريرها على‮ ‬يد القوات السوفييتية في‮ ‬ابريل‮ ‬‭,‬1945‮ ‬العام الذي‮ ‬وضعت فيه الحرب العالمية الثانية أوزارها‮.‬ وعندما أصبحت تشيكوسلوفاكيا جزءاً‮ ‬من الكتلة الإشتراكية العالمية التي‮ ‬قادها الإتحاد السوفييتي‮ ‬منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عشية سقوطه في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1995‮ ‬كان التشيكيون‮ (‬وليس السلوفاكيين‮) ‬لا‮ ‬يخفون نبرة‮ ‬غرورهم ونكرانهم للجميل والهزأ والسخرية من أبناء القومية السلوفاكية الذين كانوا‮ ‬ينظرون إليهم نظرة دونية كفلاحين متخلفين‮. ‬فما ان تفكك الإتحاد السوفييتي‮ ‬ومعه كتلته الشرقية حتى قاموا بتفكيك الفدرالية التشيكوسلوفاكية في‮ ‬عام‮ ‬1993وتحولوا لتملق الغرب واستجداء عضوية حلف شمال الأطلسي‮ ‘‬الناتو‮’ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1999‮ ‬توطئة للإلتحاق بمنظومة الدول الأوروبية الغربية المتقدمة المؤتلفة في‮ ‬إطار الإتحاد الأوروبي‮ ‬لجني‮ ‬ثمرات هذه العضوية وإشباع‮ ‬غرورهم بالتفوق والتميز‮ ‬،‮ ‬حيث نجحوا فعلاً‮ ‬في‮ ‬الحصول على عضوية الإتحاد في‮ ‬عام‮ ‬‭.‬2004 وعندما أعلنت الولايات المتحدة عن عزمها نشر ما أسمته بالدرع الصاروخية في‮ ‬أوروبا سارع التشيكيون للتطوع بدعوة واشنطن لنشرها على أراضيهم،‮ ‬في‮ ‬استفزاز وقح للجار الروسي‮ ‬لا‮ ‬يليق إلا بالدول الخائبة المتعايشة على استجداء الدعم والمؤازرة لقاء‮ ‘‬توفير الخدمة‮’.‬ فلا‮ ‬غرو،‮ ‬والحال هكذا،‮ ‬أن‮ ‬يعلن وزير خارجية تشيكيا كارل شفارتسينبيرغ‮ ‬فور تسلم بلاده الرئاسة الدورية للإتحاد الأوروبي‮ (‬مدتها ستة أشهر‮)‬،‮ ‬أن العدوان الإسرائيلي‮ ‬على قطاع‮ ‬غزة‮ ‬يندرج في‮ ‬إطار الدفاع عن النفس‮(!). ‬وليته اكتفى بنسب هذا الموقف الصفيق ببلاده،‮ ‬ولكنه أصر على الإدلاء به باسم الإتحاد الأوروبي،‮ ‬وهو الذي‮ ‬لم‮ ‬يكن ليتخيل‮ ‬يوماً‮ ‬أن تترأس بلاده،‮ ‬ولو إلى حين،‮ ‬دول أوروبية كبرى رئيسية في‮ ‬الاتحاد الأوروبي‮ ‬مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا‮.‬ فكان أن تسبب هذا الموقف التشيكي‮ ‬الأخرق في‮ ‬إحراج الاتحاد الأوروبي‮ ‬كمفوضية في‮ ‬بروكسل وكدول أعضاء،‮ ‬ما حدا بكل من لندن وباريس للمسارعة للتبرؤ من هذا التصريح والإعلان عن عدم تعبيره عن الاتحاد الأوروبي،‮ ‬مما اضطر الدولة الطارئة إلى سحب تصريح وزير خارجيتها ولكن من دون الاعتذار عنه‮.‬ وهل‮ ‬يعتذر المغرور عن سوءاته؟ كلا بطبيعة الحال،‮ ‬لأنه لا‮ ‬يملك الارتداع عن‮ ‬غيه،‮ ‬خصوصاً‮ ‬إذا كان مخزون هذا الغي‮ ‬وفيراً‮ ‬يحتاج إلى تصريف منتظم،‮ ‬كما هو حال تشيكيا التي‮ ‬كانت قد أعلنت أصلاً،‮ ‬ومن قبل تسلمها الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي،‮ ‬إنها تعتزم عقد قمة بين الاتحاد الأوروبي‮ ‬وإسرائيل‮.‬ أولم‮ ‬يسمها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي‮ ‬السابق بـ‮ ‘‬أوروبا الجديدة‮’ (‬أي‮ ‬أوروبا المطواعة والتابعة لبلاده‮) ‬نكاية بألمانيا وفرنسا وبقية الدول التي‮ ‬رفضت‮ (‬باستثناء أسبانيا التي‮ ‬كان‮ ‬يحكمها اليمين وقتذاك‮) ‬تأييد الحرب الأمريكية ضد العراق عام‮ ‬‭,‬2003‮ ‬والتي‮ ‬أسماها أوروبا القديمة؟ ولكن‮.. ‬ما الذي‮ ‬شجع حتى‮ ‘‬الصغار‮’ ‬للتطاول علينا والنيل من كرامتنا ومصالحنا بعد أن اعتدنا تلقف الحيف والضيم من‮ ‘‬الكبار‮’‬؟ إنه تخاذلنا وتهاوننا،‮ ‬فلو لم نكن ندير خدنا الأيسر عندما‮ ‬يصفعنا أحد الكبار على خدنا الأيمن لما تجرأ الصغار على النيل منا ولكانوا فكروا ملياً‮ ‬في‮ ‬عاقبة إثمهم‮.‬ في‮ ‬الأثناء،‮ ‬وفي‮ ‬ذات السياق،‮ ‬ما الذي‮ ‬نفعله؟ ما نفعله‮ ‬غير معقول‮: ‘‬نقطّع في‮ ‬بعض ونخبط رأسنا في‮ ‬بعض‮’ ‬ونهيل التراب على أنفسنا‮! ‬أي‮ ‬إننا انصرفنا لتصفية حساباتنا مع بعضنا البعض واتخاذ المواقف الكيدية إزاء بعضنا البعض،‮ ‬بل وحتى الشماتة المضمرة مما‮ ‬يتعرض له بعضنا على‮ ‬يد الغريب،‮ ‬وذلك في‮ ‬تغييب صريح ولافت لأحد أنساق مكونات ارثنا الثقافي‮ ‬الذي‮ ‬عادة ما‮ ‬يستحضر في‮ ‬مثل هذه الملمات،‮ ‬ونعني‮ ‬بذلك‮ ‘‬أنا وأخي‮ ‬وابن عمي‮ ‬على الغريب‮’!‬ إلى ذلك أيضا نجد أن البعض قد شطح وذهب بعيداً‮ ‬في‮ ‬تخبطه،‮ ‬بإشهاره،‮ ‬باستخفاف مريب سيف التشهير والتسقيط في‮ ‬وجه مصر واعتبارها الملامة الوحيدة فيما جرى والمسئولة عن تداعياته‮. ‬وهذا موقف‮ ‬يحمل الكثير من التجني‮ ‬غير المنصف والخالط قصداً‮ ‬للأوراق‮.‬ فحذار من الإنجرار وراء حملة التحريض والتشهير الرخيصة ضد مصر على خلفية الخلاف المصري‮ ‬مع حماس بشأن حوار القاهرة بين فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية الذي‮ ‬رعته القاهرة ولم‮ ‬يكتب له النجاح وترتب عليه الخلاف المعروف بشأن اتفاق التهدئة مع إسرائيل‮.‬ على أية حال،‮ ‬وبالعودة إلى موضوعنا نقول إن أخشى ما نخشاه هو أن‮ ‬يتم نسيان موقف تشيكيا العدائي‮ ‬سالف الذكر والتغاضي‮ ‬عنه ونسيانه واستقبال وزير خارجيتها في‮ ‬العواصم العربية بصفته رئيس الدورة الحالية للإتحاد الأوروبي‮ ‬بل وربما بصفته وزيراً‮ ‬لخارجية تشيكيا والإستجابة لتملقات ودعوات بلاده للإستثمار فيها لإنتشالها من أزمتها الإقتصادية‮.‬ الراجح أن هذا ما سيحصل للأسف الشديد،‮ ‬فلا‮ ‬يمكن لحليمة إلا أن تعود إلى عادتها القديمة‮!‬
 
صحيفة الوطن
10 يناير 2009

اقرأ المزيد