المنشور

التوأمان العالم وأنيس.. والجيل الرسالي (2 – 3)

ثمة العديد من المثقفين العرب، وفي العالم ايضا، يمتلكون استعدادا فطريا وإرادة قوية للنبوغ في أكثر من حقل من حقول الثقافة والعلم والابداع وليس حقلا واحدا فقط، لكن ما من مثقف موسوعي حتى لو امتلك الموهبة والإرادة والمثابرة يستطيع في مطلق الأوقات والأحوال ان يبقى مستمرا في مرتبة التميز في مجمل تلك الحقول بازا أو مضاهيا نظراءه فيها المتخصصين أو المتفرغين لحقل دون سواه.
يستطيع المرء لو أراد وأسعفته الموهبة وملكة النبوغ والذكاء أن يكون مثقفا موسوعيا في كل مجالات وحقول الثقافة والابداع لكن ذلك يحدث بمعنى أن يلم أو يبدع في كل حقل إلماما عاما لا إلماما تفصيليا على نحو ما يتفرغ مثقفو ومبدعو كل حقل لمجالهم الذي انقطعوا إليه. ذلك انه من الاستحالة بمكان أن يجمع المرء عشر رمانات في يد واحدة ويكرس طوال حياته الفكرية والثقافية للإبداع والتميز في كل تلك الحقول. اما في أحسن الأحوال افتراضا فتلك التي يعبر فيها المرء عن نبوغه ومثابرته الابداعية أو العلمية بالنبوغ في مجالين أو ثلاثة على الأكثر.
هكذا كانت سيرة الحياة الثقافية والفكرية للراحلين التوأمين المصريين محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، والحافلة بالابداع والنبوغ العلمي والفكري في مجالات عديدة، وان حاولا أن يكرسا نتاجاتهما الثقافية والفكرية والعلمية لحقل أو حقلين دون سواهما، وان طغى ايضا احدهما على الآخر في ظل انشغالهما به، ألا هو حقل العمل السياسي الفكري والحركي معا.
وكل مثقف حتى لو كان ذا نزعة موسوعية في نهله من نهر الثقافة والابداع العظيم بكل روافده، لا يستطيع في النهاية سوى التفرغ للعطاء من رافد أو رافدين من ذلك النهر.
كان الفقيد العالم قد دخل حقل الأدب والثقافة من باب الفلسفة العريض، ومن هذا الباب العريض ولج الى حقل السياسة والفكر الأعرض، وانتمى كلاهما الى الفكر الاشتراكي العلمي القائم على منهجية المادية التاريخية. أما الفقيد عبدالعظيم فقد دخل حقل السياسة من باب مختلف تماما ألا هو التخصص في علم الرياضيات وتحديدا الرياضة البحتة حيث كان استاذا لهذه المادة في جامعات القاهرة، وعين شمس، والاسكندرية وكان قبل ذلك قام بتدريسها في جامعة لندن خلال اواسط الخمسينيات، وكان عبدالعظيم يعشق هذا الحقل العلمي الذي نبغ وتميز فيه باعتراف قرائنه من علماء الرياضيات كعشقه للعمل السياسي فكريا وحركيا وان طغى هذا العمل في النهاية، كحال كل السياسيين المهمومين الموجوعين بأوجاع وهموم شعوبهم على اهتمامه بالعمل الاكاديمي الرياضي العلمي وان ظل يمتهنه حتى احالته على “المعاش”.
وهكذا كان الأمر فيما يتعلق برفيقه وتوأمه محمود العالم، ولئن كان العالم قد زاوج بين اهتمامه العلمي الفلسفي باهتماماته الفكرية والسياسية عبر ترابط فكري واحد منسجم لا تفصم عراه، فقد تعذر عليه أن يكرس حياته على الدوام لحقل النقد الادبي كما كرسها للعمل الفكري والسياسي الذي نبغ فيه ايما نبوغ وخلّف وراءه كنزا ثمينا للأجيال القادمة المتعاقبة، هذا مع انه، على حد تعبير الاستاذ الجامعي والناقد الادبي الكبير الدكتور صلاح فضل يعد “مؤسس المدرسة السياسية في نقد الأدب وتوجيهه، وصانع منظومتها المحكمة على عينه في مختلف مراحل حياته، مع خاصية جوهرية هي انه ظل يقوم بذلك بصدق واخلاص الرهبان المتوحدين الكبار”. وان كنا نميل الى القول انه احد رواد هذه المدرسة الأساسيين وليس مؤسسها الوحيد، اذا ما تذكرنا الجهود المبكرة لمن سبقوه من مثقفي ومفكري اليسار خلال النصف الاول من القرن العشرين في النقد الادبي ودراسة التراث الادبي والفكري العربي وفق منهج المادية التاريخية، هذا الى جانب جهود واعمال رفيقه الشهيد اللبناني الراحل المفكر حسين مروة. لكن ذلك لا ينفي ان دور العالم في بلورة هذه المدرسة كان الاكثر وضوحا ورصانة، بصرف النظر عما شاب بواكير الممارسة النقدية الادبية في الخمسينيات من مراهقة يسارية ان جاز القول، اعترف هو وتوأمه أنيس بذلك لاحقا في مقدمة الطبعة الثانية عام 1989 من كتابهما الذي زلزل الحياة الثقافية والادبية في بلادهما خلال اواسط الخمسينيات “في الثقافة المصرية” حيث لفتا اليه انتباه رموز ادبية ثقافية شامخة مثل الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد اللذين هاجما قبلا وبعدا مقالاتهما بضراوة بالغة رغم ان العالم وأنيس كانا شابين في مطلع ثلاثينيات عمريهما حينذاك.
ولم ينقطع العالم عن محراب عمله الفكري رغم متاعب وامراض الشيخوخة (87 عاما) حتى اللحظات الاخيرة من حياته وكان اهم عمل فكري اعلامي بحثي رائد يحسب له بعد عودته الى مصر في اواسط الثمانينيات من المنفى تأسيسه دورية “قضايا فكرية” الرصينة الزاخرة ببحوثها ودراساتها العلمية والفكرية السياسية، والتي سيخلف غيابه عنها فراغا يصعب تعويضه هذا اذا ما قيض لها اصلا ان يحمل لواء متابعة اصدارها فارس آخر، اما في منفاه بباريس طوال النصف الثاني من السبعينيات واوائل الثمانينيات ابان حكم الرئيس السادات فكان له ولرفيقه الراحل ميشيل كامل الفضل في اصدار مجلة “اليسار العربي” والتي كانت تصلني بريديا في تلك الفترة بصورة متقطعة، ثم توقفت عن الصدور نهائيا بعد عودته الى وطنه، ليدشن مشروعه الاعلامي، دورية “قضايا فكرية” والتي ظل يساعده في اعدادها واصدارها على مدى نحو ربع قرن رفاقه كل من جمال الشرقاوي، وماجدة رفاعة ومحمود الهندي، ولم اكن اعرف إلا منه تحديدا أن ماجدة رفاعة هي حفيدة المصلح والمفكر التنويري المصري العربي رفاعة الطهطاوي، وأتذكر جيدا انه حينما عرّف شخصيتها لي كان يشير الى نسبها ذلك بنبرة ونظرة لا تخلوان من الاعتزاز.

صحيفة اخبار الخليج
25 مارس 2009

اقرأ المزيد

عولمة الرأسمالية

تطور الشرق وتطور الغرب في مسارين مختلفين خلال العصور السابقة، ولم يستطع الشرق أن يؤسس الرأسمالية وأن يطورها بسبب ضخامة قاراته وسيطرات الدول المطلقة فيه.
رغم أن عناصر الرأسمالية مثل البضاعة، والنقد، والتسليف نشأت وتطورت فيه.
واستطاعت الرأسمالية في الغرب أن تتطور بشكل متسع وبطيء، مستعيرة عوامل رأسمالية من الشرق، وذلك بسبب صغر القارة الأوروبية، التي تشمل بصفة خاصة غربها، وعدم وجود دول كبيرة مطلقة الحكم ذات رسوخ فيها.
وبهذا لأول مرة في التاريخ حصلت الرأسمالية على حقل ممهد وقابل للتطور الكوني.
فعلى خلاف أساليب الإنتاج السابقة الراكدة، المناطقية، القارية، كانت الرأسمالية كونية. فهي تقوم على الصناعة أساساً، والصناعة بحاجة إلى مواد طبيعية، وبحاجة إلى عمل مأجور محرر من العبودية بالمعنى الضيق للكلمة، وبحاجة إلى تطور العلوم، وفي هذا الزمن كانت مواد علمية كثيرة قد راكمتها الحضاراتُ الإنسانية السابقة.
فترافقت الاكتشافاتُ الجغرافية مع توحيد أولي تجاري للكرة الأرضية، ومع تدفق المواد الخام على الصناعة، وتداخل العلوم بالصناعة وبالحياة الاجتماعية.
عبر تطورات الرأسمالية الأوروبية الغربية – الأمريكية تم إدخال منظومة البلدان الآسيوية والافريقية والأمريكية اللاتينية في هذا النمو التاريخي التوحيدي المتناقض.
لقد قامت الحضارات القديمة في آسيا وأفريقيا بالتصدي لنمو الرأسمالية التي اتخذ طابع الغزو، وكان يعني كذلك تطور الصناعات الغربية ومدها بالمواد الخام، ونقلها إلى مراحل جديدة من الأتمتة والثورة الصناعية.
وفيما كانت الأمم الشرقية تتصدى للغزو الغربي السياسي كانت تهضم منتجات الغرب التحديثية، وتترسمل، وتبحث عن طرق جديدة تسريعية لتشكيل الرأسمالية، فوجدتها في طرق تطورها الخاصة، أي في أجهزة الدول العملاقة، التي صارت هي مالكة الرأسمال الأكبر، فسرعت من التطور الصناعي، فنقلت النتاج الغربي وأضفت تحسينات عليه، ودعمته بقوة القوى العاملة الهائلة لديها وبرخصها، وبقدرتها على التخصص والتعمق، وحدث تضافر بين الرافدين الرأسماليين الكبيرين الغربي المتجذر، والشرقي الطارئ النامي، في ظرف قرن واحد.
وإذا كانت الرأسمالية الغربية قد اعتمدت بشكل كبير على العمل الشخصي، وعمقت الرأسمالية الفردية نشاطاتها، بمحدودية أفقها وبغياب التخطيط على المستويين الوطني والعالمي منها، فإن الرأسمالية الشرقية قد اعتمدت أساساً على الرأسمالية الحكومية العامة، التي كانت لديها ميزات التخطيط والبرمجة الطويلة الأمد، والاستخدام الكثيف لقوى العمل الرخيصة.
وقد بدا هذا واضحاً في الدول ذات الكثافة السكانية والاتساع الجغرافي.
لكن الرافدين الكبيرين للرأسمالية العالمية أخذا في العقود الأخيرة منحىً مشتركاً، فبدأت تتشكل رأسماليات عالمية مناطقية كبرى، فراحت الرأسماليات الغربية تتوحد في كيانات جغرافية كبيرة، كالسوق الأوروبية المشتركة، ووحدة الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، ووحدة دول وشرق وجنوب آسيا.
وهذه الوحدات الكبرى لا تنفي التداخل العالمي الكبير بين رافدي الرأسمالية الغربية والشرقية، فدور الدول أخذ يتقلص في الشرق، وصعدت الرأسماليات الخاصة، مثلما تقلص الدور الشخصي المطلق في الغرب وأخذت الدول تتدخل في العمليات الاقتصادية، وتخفف من أثر الدورات العمياء للأسواق، وتنقذ شركات من الأفلاس، وتعيد النظر في نمو الأسواق بطريقة فوضوية.
لكن دور الدول لم ينته من الشرق فمازالت دول كثيرة قابضة على مجرى العمليات الاقتصادية، بشكل مضر في كثير من الأحيان، بسبب أن هذه الدول تعبر عن سيطرات قوى سياسية متنفذة، ولا تعبر عن التوازن الخلاق بين القطاعات العامة والقطاعات الخاصة.
وهو أمرٌ سوف يؤدي إلى تدخل قوى العمل السياسي والحركات العمالية الجماهيرية للحد من سيطرات القوى البيروقراطية على الثروة العامة، وعلى تجميد التطور التقني في الشرق، وعلى هدر الثروة.
مثلما أن تصاعد دور الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والحركات العمالية في الغرب يقوي دور الدول، ويحد من سيطرات الشركات الكبرى على الاقتصاد وعلى الحياة السياسية.
وهكذا فإن الغرب والشرق يلتقيان مع استمرار الصراعات وتنامي الوحدة البشرية، ويتبادلان المنتجات والخبرة، وتتشكل هيئات مشتركة للسيطرة على مشكلات البشرية المتفاقمة.
تزداد مع الزمن أدوار الجمهور وعمليات التأثير في الأجهزة الاقتصادية والسياسية، وتتحول الحكومات للتعبير عن هذه الجماهير العاملة، من دون زوال الرأسمالية، وهو ما يبدو في المنظور لهذه الصراعات ولهذه الرأسمالية التي غدت كونية، ولاتزال لها آفاق غير منظورة كلياً.
وتعتمد أمور التطور على تبدلات أساليب الإنتاج واكتشافات المواد التي تقوم بإحداث انقلابات اقتصادية في وضع القوى، مثل نضوب النفط، وإكتشاف طاقات جديدة، لكن الرأسماليات متجهة أكثر فأكثر نحو رأسماليات عالمية تقرر تطوراتها الشعوب والديمقراطية في كل بلد.

صحيفة اخبار الخليج
25 مارس 2009

اقرأ المزيد

أين الاستراتيجيات؟

هناك إستراتيجية وطنية للشباب, وُضعت بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة, عمل عليها وخلال شهور طويلة فريق من أبناء وبنات هذا الوطن, كان لي الشرف أن أكون أحدهم, في الشق المتصل بالشأن الثقافي. لكننا لا نعرف شيئاً عن مآل هذه الإستراتيجية, ومَن هي الجهة أو الجهات التي عهد إليها بتفعيلها, وما الخطوات التي نفذت من هذه الإستراتيجية, وتلك التي لم تنفذ. هناك مشروع آخر مهم هو برلمان الشباب, كان بوسعه أن يكون أحد وسائل تطبيق الإستراتيجية, وضربت مواعيد لانتخابات هذا البرلمان, تم تأجيلها مراراً, قبل أن يجري السكوت نهائياً عن المشروع. هذان مثلان ساطعان على ما تؤول إليه كثير من الأمور في بلادنا, خاصةً منها تلك القضايا التي يمكن أن نصفها بأنها إستراتيجية, لها من المفاعيل المنتظرة ما يعول عليه. في حوار مع صحافية شابة في إحدى جرائدنا المحلية, قلت لها، في معرض حديث عن ظاهرة العنف في الشارع, أن على الدولة أن تنهض بمسؤوليتها في احتواء البيئة الاجتماعية المُولدة لهذا العنف, لأن التدابير الأمنية والقضائية وحدها لن تعطي النتائج المرجوة. وفي مزيد من الشرح قلت أن الأمر يتطلب إستراتيجية شاملة بأبعاد اجتماعية وثقافية وتنموية للنهوض بأوضاع المناطق الفقيرة والبائسة, وتوجيه طاقات الشباب في مجرى آمن ومتحضر, يُنمي ما لديهم من مواهب وقدرات ويكسبهم مهارات جديدة. والتجربة في العالم كله, لا في البحرين وحدها, تؤكد أنه كلما ازداد التهميش الاجتماعي وكبر عدد المُهمشين كلما ازدادت تربة توليد العنف خصوبة. كثيرة هي المرات التي كتبنا فيها أنا وسواي عن ضرورة تشييد مراكز ثقافية في القرى والأحياء تكون تحت مظلة وزارة الثقافة أو وزارة التربية أو أي جهاز حكومي آخر, ترصد لها الميزانية الكافية لتوفير الأجهزة والكتب والآلات والمرافق, والعدد الكافي من المُدربين والمنشطين الثقافيين, يكون هدفها التأهيل الثقافي والتربوي للفتيان والفتيات, وتنمية المواهب الموسيقية والتشكيلية والمسرحية وسواها لديهم. مثل هذه الدعوات لا تجد لها الآذان الصاغية للأسف من أحد, ولا يجري الاستفادة من تجارب بلدان متقدمة في هذا المجال, لا بل من تجارب بلدان عربية شقيقة بينها تجربة تونس على سبيل المثال, التي عممت مثل هذه المراكز في مختلف مناطق البلاد, بل أن هناك معهدا عاليا يمنح شهادة البكالوريوس لإعداد المنشطين الثقافيين الذين يتولون إدارة مثل هذه المراكز. واذكر أن إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة تعاقدت مع بعض هؤلاء المنشطين التونسيين الذين أثروا تجارب المركز الثقافية للناشئة, وأعرف أن بعض الفتيان الموهوبين الذين تلقوا تدريباً في هذه المراكز غدوا اليوم مواهب في عدة مجالات في الحياة. ما يقال عن المراكز الثقافية ليس سوى مثال بسيط عن الحاجة لاستراتيجيات بعيدة المدى ومستدامة لاحتضان طاقات الجيل الجديد إذا أردنا لهذا الوطن مستقبلاً أفضل, وتجنبيه المخاطر والهزات والاحتقانات على أنواعها.
 
صحيفة الايام
25 مارس 2009

اقرأ المزيد

” المولوتوف ” الذي أحرق وجهه.. ووجهنا!


أخال أن خبر وفاة شيخ محمد رياض الذي توفي أمس الأول متأثراً بحروق عميقة كان صفعة لنا جميعاً.. فأن يقصد إنسانٌ (قرصهُ العوز) أرضنا طلباً للعمل الشريف فنعيده إلى أهله جثة مسجاة أتت الحروق على وجهها وأجزاء كبيرة من جسدها، فأمرٌ جلل يستوجب الخجل.. ويستوجب وقفة صادقة لإعادة تقييم الأوضاع التي لا يبدو أنها تتجه إلا إلى الأسوأ!

في زيارتي الأخيرة لتركيا رمقت صورة شابة تتصدر الصفحات الأولى للمجلات والصحف مع بنط عريض يصرخ بوجه القارئ.. وبعد السؤال علمت أن الصورة هي لشابة بوليفية خسرت مالها في إسبانيا وقررت العودة إلى بلدها بالتنقل من مركبة إلى أخرى سائلةً الناس توصيلها.. وقد عبرت أوروبا بهذه الطريقة ووصلت إلى مشارف تركيا بسلام، ولكنها اغتصبت وقتلت في تركيا!

وقد أثار قتلها نقمة وسخطاً بين الجماهير وتساؤلات عن التدني الأخلاقي في البلاد.. وعُلّقت في الطرقات ملصقات حملت صورة الفتاة مذيلة بعبارة تقول: لقد عبرت أوروبا كلها بسلام.. وعار علينا أن تقتل عندنا!

هناك.. أنّبت الجماهير التركية نفسها على الجريمة، وأعتقد أن علينا أن نفعل المثل في قضية شيخ محمد.. فقد ساهمنا – كلٌ بطريقته أو بصمته ربما – في حفر قبر هذا الرجل الذي لن يكون الضحية الأخيرة إذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال.. فالجنوح للعنف بات يتزايد عند المتظاهرين ورجال الأمن على حد سواء.. مساء أمس طاردتني صورة أب الأيتام الخمسة، وصور عدة لإصابات خلفتها الحوادث؛ فشرعت أسأل:
من يبدأ بالعنف؟ ووجدته سؤالاً عابثاً كسؤال البيضة والدجاجة.. فقوات الأمن لن تقف مكتوفة أمام قطع الطرقات وحرق الممتلكات وزعزعة الاستقرار.. كما لن تقبل على نفسها إظهار الضعف وقلة الحيلة أمام المتظاهرين.

على الطرف المقابل، هناك متظاهرون (لم يستخدموا العنف شخصياً) ولكنهم يواجهون بعنف الأمن فيردون عليه بالمثل.. لا تكافؤ في هذه المواجهات – قد يقول البعض – ولكن العالمِين ببواطن الأمور يعون أن صورة شاب ينزف من جراء ضربه بهراوة أو رصاصة مطاطية هي ضربة ولا أقوى للسلطة ورجال الأمن.. وإن كانت جروح الشاب ستندمل بعد أسابيع، فإن ما ستخلقه هذه الصور من ضرر قد يكون دائماً!

هوجة العنف هذه لن تقودنا إلى شيء (هذه هي الحقيقة الوحيدة الثابتة).. يكفيكم أن منسوب الاحتقان قد تعالى.. مناطقنا صارت مدن أشباح.. ومن يشق شوارع القرى يظن أن آلة الزمن قد عادت به إلى التسعينات.. شوارع متعرجة عملت الإطارات المحترقة فيها عملها.. طرقات مظلمة.. قوات موزعة بكثافة بين الشبر والآخر ببزاتهم العسكرية وأسلحتهم ونظراتهم الشاخصة المترقبة!

تذكرت وأنا أمر بجدحفص ما روته لي إحداهن أمس الأول عن عاصمة خليجية وصفتها بمدينة الأضواء، والتي غدا السائر في مناطقها الشعبية يظن أنه في حضرة كرنفال لشدة زهو المكان بالإنارة.. في المقابل يرى الخارج من منطقة السيف (المنطقة الوحيدة التي تصلح مقصداً للسياح) المناطق التي تطوقها وقد اتشحت بالسواد وتفوح منها روائح القلق والضيق المختلطة برائحة مسيلات الدموع والإطارات المحترقة!
حقاً.. ماذا نفعل بأنفسنا؟!

لا مكان في النفس لقول المزيد.. إنما نأمل (كوننا شعباً تسيّره الفتاوى) من المرجعيات بفتوى جريئة تحرّم المواجهة الجسدية والاحتجاج العنيف بأي شكل وصيغة.. ولنا مع هذا الحديث عودة.



الوقت 23 مارس 2009

اقرأ المزيد

فكأنما قتل الناس جميعا


النفس البشرية محترمة ومكرمة عند خالقها، ولا يجوز لأي مخلوق أن يعتدي على مخلوق آخر من أجل قتله أو تعذيبه أو إهانته، ولا يوجد أي تبرير سياسي أو غير سياسي مقبول لأي عمل ينتج عنه ما يخل بهذا المبدأ القرآني العظيم «… أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً…» (المائدة: 32).

ويوم أمس التحق إنسان إلى الرفيق الأعلى، أخ باكستاني اسمه شيخ محمد رياض (58 عاماً)، جاء إلى دول الخليج قبل 12 عاماً من أجل إعالة أولاده الثلاثة وابنتيه عبر العمل المضني لجني لقمة العيش الحلال… وكان قدره أن حولته شركته التي يعمل فيها من السعودية إلى البحرين في مايو/ أيار 2008، ولكن لم يمضِ حتى عاماً واحداً في البحرين إلا وقد فارق الحياة.

لقد فارق «شيخ محمد رياض» الحياة بعد تعرضه لحروق نتيجة رشقه بزجاجة حارقة (مولوتوف) بالقرب من قرية المعامير في 7 مارس/ آذار الجاري، وظل تحت العناية الطبية لمدة أسبوعين ولكنه لم يتشافَ بسبب ما تعرض له من اعتداء غاشم على حياته.

إن الانسان المخلص لمبادئه ولبلده ولأهله لا يمكنه أن يبرر أي عمل عنف من هذا النوع أو ما دون هذا المستوى، فالذين يستخدمون العنف، سواء كانوا في معارضة أم في سلطة، لا ينجون بفعلتهم، لأن ذلك مخالف للناموس الإلهي والإنساني.

إنه لمن المؤسف أن هناك فئات من جهات عدة لجأت إلى بث ثقافة العنف والكراهية واستخدام القوة ، ونتائج ذلك انحراف مسار العمل الوطني عن مجراه الطبيعي إلى المناوشات والاعتقالات والإصابات والأخطر من كل ذلك «القتل»، أو الموت أثناء هذه الأحداث المؤلمة التي لا يمكنها أن توصلنا إلى هدف مشروع، فالخطأ لا يبرر الخطأ، وتحقيق الأهداف السامية يتطلب ممارسات سلمية لا تفسح المجال لمن لا يؤمنون بحق الإنسان أن يعيشوا بكرامة في الإمساك بزمام الأمور في أي جانب من جوانب المعادلة السياسية.

إننا نقف ضد الانفلات في الخطاب، وضد الانفلات في الأوضاع، وضد كل الممارسات التي تصدر من أي جهة، سواء كانت محسوبة على المعارضة أو على السلطة والتي تكون نتيجتها انتقاص حق الإنسان في العيش بكرامة وهناء وحقوق وأمن واستقرار.

إنه ليس من شيم أهل البحرين التعرض لبعضهم البعض أو للآخرين بما يودي بحياة إنسان، كما أنه ليس من شيم البحرينيين أن نستخدم خطابات وكلمات تحشيدية تبرر الاتجاه نحو أعمال العنف… وأنه لمن المؤسف أن نضطر إلى تكرار مثل هذا الكلام في الوقت الذي يموت أو يتعذب أو يصاب أشخاص بين ظهرانينا، وفي الوقت الذي نشاهد استمرار مناوشات في عدد غير قليل من الأحياء السكنية بشكل متزايد، وفي الوقت الذي أصبح الظلام يخيم على شوارع رئيسية وعند مداخل القرى بسبب تخريب توصيلات الإنارة. إننا قادرون على تغيير ظروفنا إلى الأحسن من خلال التعاضد من أجل الخير العام.

 
الوسط 22  مارس 2009

اقرأ المزيد

صحافي يساري يحكم السلفادور!


في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض، التحقت دولةٌ أميركيةٌ لاتينيةٌ أخرى إلى حضن اليسار، بعد أن نجح مرشّح حزب «فارابوندو مارتي» موريسيو فونيس بالفوز في الانتخابات الساخنة منتصف الأسبوع.

التغيير الجديد في الخارطة السياسية سينقل السلفادور إلى صف دول «الرفاق» اللاتينيات، بعد أن حكمها حزب «أرينا» اليميني لعشرين عاماً متواصلة… هذا رغم أن الفارق في الأصوات بين فونيس ومنافسه اليميني رودريغو أفيلا لم يزد على 70 ألفاً. ومن حسن حظ السلفادوريين أن الانتخابات جرت في أجواء هادئة، دون منغصات ولا مراكز عامة ولا تدخل قوات الأمن لمنع الناخبين من التصويت كما يجري في بعض بلدان الشرق الأوسط!

فونيس الذي لم يُعتقل عندما تجرّأ على ترشيح نفسه ولم تُلفّق له تهمة، أعلن في أول تصريح له بأن يحكم وفق الدستور، وأن الحزب الآخر سينتقل إلى المعارضة، وسيكون صوته مسموعاً ومحترماً. أما منافسه الخاسر فقال إن المعارضة ستكون يقظة وبنّاءة للدفاع عن حرية البلد.

الحدث دفعني للبحث عن معلومات عن هذا البلد الصغير الواقع في قلب أميركا الوسطى، فمساحته حوالي 21 ألف كيلومتر مربع، أي ضعف مساحة لبنان الشقيق تقريباً. ويبلغ تعداده خمسة ملايين و750 ألفاً، ثلاثة أرباعهم من الكاثوليك، و20 في المئة بروتستانت، والباقي أديان أخرى. وهذه النسبة مقارِبةٌ للتركيبة العرقية، فثلاثة أرباعهم خليط من الهنود الأميركيين والإسبان يسمون بالـ «موستيزو». أما الرئيس المنتخب البالغ من العمر خمسين عاماً، فقد اتضح أنه أشهر صحافي سلفادوري، عمل في الإذاعة والتلفزيون لأكثر من عشرين عاماً، ونال عدّة جوائز مهنية محلية ودولية. وأوضحت إحدى وكالات الأنباء أنه تميّز ببرامجه الحوارية المشوّقة والنقدية التي يتناول فيها قضايا الفساد في أجهزة الحكومة، التي ضغطت مراراً لصرفه من عمله ومحاربته في رزقه.

فونيس اليساري عمل أيضاً مراسلاً لشبكة «سي إن إن» بالإسبانية، وفي العام 2007 اعتزل مهنته لينخرط في العمل السياسي، إذ رشحه الحزب رسمياً. وفي أول رسائله الخارجية، أعلن التزامه باتفاقية التجارة الحرة مع الجارة الرأسمالية الكبرى (الولايات المتحدة)، ولكنه طالب بتحسينها بدل إلغائها، وذلك حفاظاً على مصالح بلاده ووضع المهاجرين السلفادوريين واستقرارهم هناك. كما أعلن عن تأليف حكومة وحدة وطنية لعدم تمتّع اليسار بالأكثرية في البرلمان (39 نائباً من أصل 84).

هذا البلد الصغير، انتزع استقلاله من إسبانيا في 1856، وفي الأزمة الاقتصادية الكبرى التي ضربت العالم عام 1929 انهار اقتصاده لاعتماده على تصدير البن، وتسلّم جنرال يُدعى هرنانديز الحكم بعد عامين، وقام بقتل ثلاثين ألفاً في انتفاضة الفلاحين التي قادها الشيوعي فاربوندو مارتي (الذي يحمل الحزب اسمه).

أكثر الرياضيين عندنا يعرفون السلفادور بسبب «حرب كرة القدم» التي اندلعت مع جارتها الصغيرة هندوراس عام 1969، بعدما طردت مئات الآلاف من العمال السلفادوريين. وفي العام 1979 انتصر الثوار الساندينيست في جارتها نيكاراغوا، وفي العام التالي تسبب اغتيال مطران العاصمة اليساري، في اندلاع الحرب الأهلية التي أودت بحياة 75 ألف قتيل، أكثرهم على يد الجيش و»فرق الموت» اليمينية المتطرفة، وانتهت باتفاق السلام في 1992.

فوربيس الصحافي اليساري اختار شعار «التغيير الآمن»، بينما اختار منافسه رئيس الشرطة شعار «بلد أكثر عدالة»، واختار السلفادوريون أن ينتقلوا إلى محور الدول اللاتينية الحمراء.
 
الوسط الخميس 19 مارس 2009
 

اقرأ المزيد

أين أهل التنوير من ربيع الثقافة؟‮! ‬

تعتبر قضية الثقافة التنويرية مسألة حاسمة لدى أهل الفكر التنويري‮ ‬في‮ ‬العالم،‮ ‬والدفاع عنها بشتى السبل والإمكانات هو من صميم مهمتهم،‮ ‬كما إن إبراز دورها التنويري‮ ‬في‮ ‬المجتمع المحلي‮ ‬وتوسيع رقعته على الصعيد الكوني‮ ‬يعد إسهاماً‮ ‬في‮ ‬إرساء دعائم التنوير باعتبارها ضرورة لخلق مجتمع متمدن متحضر مهيأ لمواجهة التخلف بشتى صنوفه راهناً‮ ‬ومستقبلاً‮. ‬ من هذا المنطلق لا تنفصل قضية الثقافة التنويرية لدى أهل الفكر التنويري‮ ‬عن رؤيتهم للسياقات والأنساق السياسية والاقتصادية والتربوية في‮ ‬المجتمع والعكس،‮ ‬ذلك أن هذه الرؤية هي‮ ‬الركيزة الأساسية والاختبار الحقيقي‮ ‬الذي‮ ‬يعرف من خلاله أفق التنويري‮ ‬وبوصلته من‮ ‬غيابهما أو عدمهما‮. ‬ وها نحن في‮ ‬مملكة البحرين نعيش هذه الأيام حدثاً‮ ‬ثقافياً‮ ‬تنويرياً‮ ‬كبيراً‮ ‬ومهماً‮ ‬يتجسد في‮ ‬مهرجان ربيع الثقافة الرابع الذي‮ ‬تلتقي‮ ‬فيه الرؤى الثقافية وتتحاور من كل بقعة مضيئة في‮ ‬العالم،‮ ‬فأين أهل الفكر التنويري‮ ‬وحاملو راياته ومشاعله في‮ ‬صحافتنا المحلية عن هذا الحدث الثقافي؟ هل الفكر التنويري‮ ‬لدينا هو كل ما اتصل بالشأن السياسي‮ ‬والعقائدي‮ ‬فقط؟ هل التنوير‮ ‬يحمل في‮ ‬رأي‮ ‬هؤلاء بعداً‮ ‬اختصاصياً‮ ‬أم هو في‮ ‬جوهره رؤية فكرية للحياة والعالم؟ لماذا‮ ‬يعتقد بعض أهل التنوير أن الحدث الثقافي‮ ‬هو شأن‮ ‬يختص به أهل الثقافة فحسب ولا علاقة له بأهل الفكر التنويري؟‮ ‬ أليس التنوير رؤية مؤسسة على وعي‮ ‬فكري‮ ‬ثقافي‮ ‬مستنير؟ أليس من شأن هذا الحدث الثقافي‮ (‬ربيع الثقافة‮) ‬أن‮ ‬يقترح رؤية أشمل وأعمق للفكر والحياة من السياسة والأدلجة التي‮ ‬تقوم وتتمأسس على المصلحة والصراعات فيها ومن أجلها؟‮ ‬ التنويريون في‮ ‬المجتمعات الأوربية قادوا دفة المجتمع من بؤرة الثقافة،‮ ‬ورؤاهم الفلسفية المستنيرة لفتت انتباه الساسة والاجتماعيين وتمكنت من خلق سجال ساخن فيما بينهم انتهى في‮ ‬نهاية الأمر إلى الانتصار للثقافة التنويرية،‮ ‬وصار كل حدث ثقافي‮ ‬يتخلق في‮ ‬مجتمعاتهم‮ ‬يسهم بشكل أو بآخر في‮ ‬زيادة منسوب التنوير الثقافي‮ ‬فيها،‮ ‬لذا لا‮ ‬غرابة إن كانت بعض الروايات مشاعل أساسية للتغيير الاجتماعي‮ ‬في‮ ‬بعض المجتمعات،‮ ‬ولا‮ ‬غرابة إن كانت بعض الرؤى الفلسفية التي‮ ‬انبثقت في‮ ‬رحم هذه المجتمعات أشبه بالمنيفستو الذي‮ ‬انطلقت منه رؤى التنوير وامتدت بفعل تأثيراتها إلى ضفاف مجتمعية أخرى كان لبعض المجتمعات العربية منها نصيب‮.‬ مثل هذه التأثيرات هي‮ ‬الآن في‮ ‬متسع حدث الربيع الثقافي،‮ ‬الذي‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تتعاطاه أقلام التنوير في‮ ‬صحافتنا ومؤسساتنا التنويرية وتفسح له من مساحاتها الفكرية ما تفسحه للصراعات العقائدية اللامنتهية وأن تقف عند هذا الحدث بوصفه فعلاً‮ ‬تنويرياً‮ ‬لا‮ ‬يقل أهمية إن لم‮ ‬يزد عن هذه الصراعات ولعل ما‮ ‬يأتي‮ ‬في‮ ‬هذا الحدث الثقافي‮ ‬الكبير‮ ‬يحسم أموراً‮ ‬فكرية لم تحسمها هذه الأقلام والمؤسسات ولم تقترب منها في‮ ‬تعاطيها لها بعد‮. ‬ ولكن‮ ‬يبدو أن مسألة التنوير الثقافي‮ ‬خضعت لدى بعض الأقلام والمؤسسات‮ (‬المدنية‮) ‬في‮ ‬مجتمعنا المحلي‮ ‬لبعض الأمزجة الإدارية التي‮ (‬شخصنت‮) ‬التنوير ولبعض الرؤى‮ (‬المغلوطة‮) ‬لفعل التنوير ومنطلقاته وتأثيراته فباتت تشتغل ضد التنوير باجتزائها دور الحدث الثقافي‮ ‬في‮ (‬تجذية‮) ‬التنوير المجتمعي‮ ‬و(توهيج‮) ‬آفاقه‮!!.
 
صحيفة الوطن
24 مارس 2009

اقرأ المزيد

التوأمان العالم وأنيس.. والجيل الرسالي (1-3)

حينما غيّب الموت المفكرين المصريين العربيين الكبيرين محمود أمين العالم وعبدالعظيم انيس خلال اقل من اسبوع واحد في النصف الأول من شهر يناير الماضي كانت المذابح الوحشية التي تنفذها آلة الحرب العدوانية الصهيونية بحق سكان غزة المدنيين على اشدها، لا تكاد تسمح للمرء العربي في زمن الضياع والمهانة ان يلتقط أنفاسه، وهو مكلوم يتابع السهرات التلفزيونية اليومية لمسلسل أهوال وفظائع تلك المذابح، لكتابة مرثية بصفاء ذهني يليق بجلال مكانة هذين العملاقين المفكرين الرفيقين التوأمين للتعبير عن مدى حجم الخسارة الفادحة التي منيت بها الساحتان الفكرية والسياسية مصريا وعربيا برحيلهما الفاجع. فلربما لم يسبق في تاريخ الحركة السياسية والفكرية بكل الاقطار العربية ان ارتبط مثقفان سياسيان كبيران بتوأمة روحية وفكرية وانسانية وعمرية على مدى ستة عقود متواصلة تقريبا، كما ارتبط العالم وانيس، واللذان دشنا علاقتهما الثقافية المشتركة بالمساهمة في ارساء وتأصيل التنظير للمدرسة الواقعية النقدية الاشتراكية وتطبيقها على الأدب العربي، قديمه وجديده، في مؤلفهما المشترك الشهير “في الثقافة المصرية” الذي صدر عام 1955م. ثم شاءت المقادير ان يغادرا دنيانا بفاصل زمني لا يتجاوز بضعة أيام. هما اللذان أبصرا على الدنيا في وقت متزامن تقريبا أيضا لا يفصل بينهما سوى عام واحد أو أقل، فالأول ولد في عام 1922م فيما ولد الثاني عام 1923م.
حينما ذهبت إلى القاهرة للدراسة الجامعية في اوائل سبعينيات القرن الماضي في اوج عنفوان وحماس سن المراهقة، حيث لم يكد عمري يتجاوز حينئذ السابعة عشرة، اتذكر جيدا حينها بقدر ما كنت سعيدا جدا بأن حصلت على بعثة دراسية إلى هذه العاصمة العربية الساحرة التي لطالما داعبت مخيلتي منذ الطفولة المتأخرة ان اراها على الطبيعة وبدت امكانية زيارتي لها حلما اشبه بالمستحيل، بمعنى ان أرى القاهرة على الواقع كما هي، وليس في الافلام أو في صور المجلات والصحافة المصرية والتي كنت مدمنا منذ الطفولة على قراءتها بانتظام، بقدر ما كنت أشعر بالغصة الكبيرة لأني وصلت للإقامة فيها غداة رحيل الرئيس المصري والزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر من دون أن اراه. أما عشية انتهاء دراستي في القاهرة فكنت اتمنى، ضمن ما كنت ما اتمناه، أن اتعرف في القاهرة يوما على المفكر المصري العربي الراحل محمود العالم، لكن كم هي المصادفات والمقادير غريبة! فالمفكر الذي كنت اتمنى ان اتعرف عليه في بلاده في القاهرة او في منفاه الطويل تشاء المصادفات ان اتعرف عليه هنا في بلادي البحرين، وذلك بمناسبة زيارته لها في أواخر التسعينيات لإلقاء محاضرة سياسية حول النهضة العربية بدعوة من نادي الخريجين. وفي نفس يوم التقائي به في بهو الاستقبال بفندق “الشيراتون” بعد وصوله مباشرة من المطار، ما ان رآني مقدما نحو مكان جلوسه مع بعض البحرينيين وقبل ان يعرفه احد منهم عليّ، بدا من محياه الوديع والأليف وبابتسامته الفطرية العريضة والرزينة في آن واحد وكأنه يعرفني من قبل، فنهض في الحال من كرسيه وهكذا تعانقنا تلقائيا على الفور، ثم عرّفه احد مرافقيه الجالسين معه بي.
وطوال أيام اقامته بالبحرين جرت بيني وبينه عدة لقاءات تجاذبت معه فيها مختلف الاحاديث والحوارات حول كل شيء، بدءا مما هو معروف وغير معروف من سيرة حياته الشخصية، ومرورا بما هو معلوم وغير معلوم من سيرة حياته السياسية والحزبية في الماضي والحاضر، وليس انتهاء بمنظوره الى مستقبل الحركة الاشتراكية واليسارية الغائم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي المدوي وأزمة اليسار العربي بوجه عام واليسار المصري بوجه خاص، ونقاط الالتقاء والاختلاف بينه وبين حزب التجمع التقدمي الوحدوي. بعض هذه الحوارات سجلتها على اشرطة كاسيت ونشرت لي “أخبار الخليج” جزءا منها، وبعضها الآخر دوّنته في مفكرتي الخاصة في حين لم يكن من الملائم تدوين أو تسجيل كل جلسات دردشاتنا الاخرى لكي لا تتحول كل لقاءاتنا الانسانية الودية، سواء خلال زيارته الأولى للبحرين بدعوة من نادي الخريجين ام خلال زيارته الثانية والاخيرة بدعوة، ان لم تخني الذاكرة، من “المنبر التقدمي”، إلى حوارات وجلسات عمل صحفية وبالتالي فقد اودعت ما استفدت منه في تلك “الدردشات” مخزون الذاكرة.
بعد ذلك استمرت علاقتنا من خلال اتصالاتي به الهاتفية ولم تنقطع لظروف معاكسة خاصة به او خاصة بي إلا منذ نحو عامين تقريبا.
والحال ان كل من يتعرف على هذا المفكر الانسان الفذ المتواضع تواضعا فطريا غير مصطنع يشعر على الفور بالألفة معه وبما يمتلكه من خبرات هائلة في الفكر والثقافة والسياسة. وبهذا فلن يقدر حجم الفداحة التي يشكلها رحيله الا من تعرف عليه من قرب او على جانب من أعماله القيمة التي خلفها لشعبه وامته وهي اكبر ميراث لا يقدر بثمن يتركه أي مفكر او مبدع كبير وراءه عند رحيله.
يتفق المرء أو يختلف بهذا القدر او ذاك مع المفكر العالم سواء من موقع الانتماء الفكري الواحد المشترك الذي ينتمي اليه العالم أو من موقع تيار فكري آخر لكن لا يملك الا ان يجل ويقدر عاليا هذه القامة الفكرية السامقة التي كان يمثلها العالم بما قدمه من عطاءات ثقافية وفكرية وتضحيات سياسية قل مثيلها.
ومع ان الفقيد الراحل العالم لم يكن بوسعه ازاء الموجة التجديدية التي هبت على العالم على اثر انهيار الاتحاد السوفييتي وتأثر بها حتى شباب ومخضرمو الحركات اليسارية الا ان يكون امينا ومتكيفا مع ارثوذكسيته اليسارية التي جبل عليها والتي كان تجديديا في العصر الذي برز فيه قياسا بالارثوذكسية الستالينية فانه كان ، مع ذلك، من القلة في جيله من مفكري وقادة اليسار الذين تفهموا هذه الموجة التجديدية والنقدية التي تأثر بها قطاع من شباب ومخضرمي الحركات اليسارية والشيوعية في زمن أفول هذه الحركات، ولم يبدوا أي انزعاج أو تبرم منها، لا بل شاركهم رغم شيخوخته وبلوغه من العمر عتيا، جانبا من انتقاداتهم القاسية للأخطاء القاتلة التي وقع فيها كل من الاتحاد السوفييتي والحركات اليسارية والشيوعية العربية.

صحيفة اخبار الخليج
24 مارس 2009

اقرأ المزيد

نتائج انتخابات معروفة سلفا

ربما كانت الانتخابات التي تجري في البلاد العربية هذه السنوات أفضل من انتخابات نهاية القرن الماضي، لكنها لم تتغير جذرياً.
الأموال تنبع من الملكيات (العامة) وتضخ المنافع في جيوب البيروقراطيات وعملائها السياسيين والاقتصاديين، وهذه الأمور تحدد السياسات ومن ضمنها الانتخابات.
فلا يجري حراك سياسي تحولي حقيقي إلا في بعض الجوانب الجزئية، ولهذا فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تخلو من المفاجآت.
لم تستطع الدول العربية أن تصل حتى إلى مستوى باكستان، الدولة التي كانت الشرطي في خدمة الغرب.
وإذا كنا قد عرفنا طويلاً هذه البيروقراطيات وحرانها في هذه المواقع المتحجرة، فعلينا كذلك أن نرى عجز المعارضات وأسبابه.
إن المعارضات العربية لا تطرح بديلاً متقدماً ممكناً.
فلا يمكن للدول أن تقبل عودة لدول الطوائف ولمرجعيات دينية خارج البلد والعصر.
وأغلب المعارضات ذات الشعبية اليوم هي من هذا النمط. أي لا يمكن القبول بالسير للوراء.
لا يمكن للرأسمالية الحكومية المهيمنة أن تواجه وتعارض إلا من خلال رأسماليات ديمقراطية خاصة، فهو الخيار الممكن الذي يؤدي إلى نقلة إلى الأمام ريثما تعيد القوى الشعبية تشكيل أنفسها بشكل ديمقراطي، وتغادر مواقعها النخبوية الصغيرة في العواصم وتتغلغل في الحارات الشعبية والأرياف، وتشكل جدلاً عميقاً مع الناس، بدلاً من التحدث باسمهم من خلال المنابر الصغيرة.
لا تستطيع الانتخابات في هذا العصر الرأسمالي إلا أن تكون ذات نتائج رأسمالية.
الطبقات الرأسمالية السائدة في الغرب تشكل لها الانتخابات فرصة لإعادة تجديد قياداتها، لإبراز طرق جديدة للتطور، ولمزيد من نمو الاستثمارات.
وأزمات الطرق القديمة في القيادات الرأسمالية تؤدي إلى ليس فقط إلى نتائج كارثية على الطبقة الحاكمة بل كذلك على الطبقات العاملة، وقد أدت قيادة الجمهوريين الأمريكيين ليس فقط إلى إفلاسات هائلة للبنوك والشركات الكبيرة بل إلى توسع للبطالة وإلى إلقاء العاملين في الشوارع.
وهذا ما يحدث لدينا، لكن المحافظين البيروقراطيين لا يعترفون بفشل سياساتهم الاقتصادية، لأن أحداً لا يصل إلى القرارات ليعيد النظر فيها، رغم الخسار الهائلة في الصناديق الاجتماعية وفي الأموال العامة التي يتاجرون بها بأشكال سرية.
ومن هنا فإن القوى الشمولية الجديدة التي تتشكل من الدينيين وحلفائهم من بقايا القوى القومية واليسارية العربية القديمة تريد إعادة الطرق القديمة نفسها، وإيجاد دول تهيمن على الموارد العامة.
ويتكلمون عن المد اليساري في أمريكا اللاتينية، وهو مد يقوم أساساً على قوى الفئات المتوسطة التي اُحتجزت في الأنظمة البيروقراطية العامة الاستبدادية السابقة، وهي تفتح الطرق لتطورات رأسمالية خاصة كبيرة، تعود بالفوائد على الطبقات الشعبية كذلك.
إذا كانت التطورات السياسية والاقتصادية الرأسمالية تعود بفوائد معيشية على الطبقات العاملة المحلية فسوف تكتسب زخماً وتقوم بتحولات.
لكن قسماً كبيراً من أرباب العمل والشركات في منطقة الخليج يعتمد على العمالة الأجنبية التي لا تصوت، وليس لها تأثير في العملية الانتخابية، وهذا القسم غارق في العمليات الحسابية الاقتصادية الجزئية والمحدودة، وليس له طموح سياسي، ولا يعرف مضار هذا الجمود على مشروعاته، وعلى التطور السياسي عامة.
ودون خلق علاقات تعاون واستفادة كبيرة من هذه الشركات والبنوك لأجل تغيير حياة الأغلبية العاملة، فإن الفساد والفوضى السياسية هما المستقبل.
فلا البيروقراطيات الحكومية تتغير تغيراً كبيراً يعود بنتائج جيدة على الجمهور والتطور السياسي المستقبلي، ولا المذهبيون السياسيون بقادرين على تكوين بديل حضاري ديمقراطي.
في العراق أسفرت الانتخابات عن فوز تحالف رئيس الوزراء لما يشير إلى استعادة السلطة المركزية لسيطرتها وجعلها آلة الدولة في خدمة مصالحها في مناطق نفوذها الدينية، ولكن الآن ليس أمامنا الدولة العراقية الوطنية بل دويلات طائفية، لكل منها جهاز متحكم.
هذا هو المستقبل الآخر، الذي تعده لنا هذه القوى غير المدركة لطبيعة تنظيماتها وخطورتها.
وفي النهاية سوف تصبح قوى رأسمالية لكن تأخذ أغلب رساميلها من الحكم، وهو سبيل فاسد لتشكيل رأس المال.
حين تنمو هذه القوى على هذا الأساس فهو يعتمد على ثقافة غير مطورة للدين، وعلى بقاء القوى العاملة في مستوى عملي وثقافي متدن، وعلى استعمال روابط غير اقتصادية تحديثية لنشوء السلطة والتجارة، وهذا يضيف مشكلات أخرى إضافية للرأسمالية الحكومية المتجمدة.
وتقود الانتخابات بالإضافة إلى حفاظها على البنى القديمة إلى تشتت المناطق وتمزق الأقاليم.
استعادة الفئات المتوسطة الحديثة لغتها الجدلية النقدية مع الواقع، ودفاعها عن الجمهور وظروف معيشته، وتوحيد الطوائف والمناطق في ثقافة سياسية وطنية، وإيجاد بديل الرأسمالية الوطنية الديمقراطية عوضاً عن الرأسمالية البيروقراطية المتكلسة، كل هذه خطوط ضرورية للخروج من الانتخابات المفبركة وذات النتائج المعروفة سلفاً، التي أسوأ نتائجها هو تعميق الانقسام والتمرد في المناطق خارج العواصم.

صحيفة اخبار الخليج
24 مارس 2009

اقرأ المزيد

تكريم الأنصاري

حسناً فعلت اللجنة الأهلية لتكريم رواد الفكر والإبداع حين اختارت الدكتور محمد جابر الأنصاري لتكرمه هذا العام, فالرجل مُستحق لمثل هذا التكريم, ليس اليوم فقط, وإنما قبل ذلك بكثير, بالنظر لأهمية المشروع الفكري الذي أعطاه سنوات طويلة من عمره, فقدم مساهمة أساسية للفكر العربي المعاصر, في معالجته للقضايا المفصلية والإشكالية في تطور المجتمعات العربية. وفي تصديه لمشروعه الفكري امتلك الدكتور الأنصاري وعياً بالتاريخ, وظفه بصورة خلاقة في رصده لمظاهر الخلل في علاقة العرب بالسياسة, وتحليله لكوابح التطور الحضاري الناجز, وفي تفكيكه لبنى المجتمع والدولة على حد سواء, في الواقع العربي الراهن, ليكشف ببصيرة المفكر لماذا يتعثر العرب في النهضة. ولم يُقدم الأنصاري على مغامرة اقتحام هذه الحقول البحثية الشائكة, لولا امتلاكه لمنهج في التحليل منفتح على المدارس الفكرية والفلسفية المختلفة, فاستفاد مما وجده ضرورياً لاغناء عدته المنهجية. ومن هنا أهمية تلك الإشارة اللماحة التي وردت في الكلمة التي ألقاها في حفل تكريمه, حين أكد أن الأساس هو التمسك بمنهجية التوجه الفكري لا حرفية النتائج التي توصل إليها في حد ذاتها. لكن هذا القول لا يحجب أهمية النتائج التي وصل إليها, والتي تجد صُدقية لها في ما تذهب إليه التحولات الاجتماعية – السياسية في عالمنا العربي اليوم, فحين غامر الأنصاري في مطالع تسعينيات القرن الماضي في تحدي النشيد الرومانسي المهيمن على الخطابات القومية في نبذ الدولة الوطنية العربية, أو ما اصطلح على وصفها بالقطرية, ليدافع عن هذه الدولة باعتبارها منجزاً وحدوياً بامتياز في بيئة لم تعرف الدولة أصلاً, كان كمن يقرأ المستقبل ببصيرة وذكاء. فمن يتأمل مظاهر انحلال بعض نماذج الدولة القطرية العربية اليوم وتفككها مجددا إلى تكوينات تقليدية, على شكل عشائر وقبائل وطوائف وما إلى ذلك سابقة للدولة كمنجز حديث, يدرك أهمية ما ذهب إليه الأنصاري الذي رأى ألا تحمل روابط الدين واللغة والثقافة والحضارة أكثر مما تحتمل, فهذه الروابط المعنوية على أهميتها لا تكفي لإقامة البنيان السياسي المؤسساتي للكيان الواحد. وهكذا فنحن اليوم شهود لا على تبلور وتطور مشروع وحدوي قومي كذاك الذي ضجت به بعض أدبياتنا, في مرحلة من المراحل, وإنما على مخاطر تفكك الدول الوطنية, أو القطرية, ذاتها إلى التشكيلات السابقة لنشوئها, لأنه لم يجر الالتفات الجدي لبناء مقومات الدولة الحديثة, فالدولة القطرية الحالية ظلت في تقدير الباحث «مشروع دولة» ولم تصل بعد إلى مرحلة الدولة المكتملة التكوين والنضج والمؤسسات والتقاليد والنظم. إن التغيير في الدولة يتم بعد إن تنضج الدولة ذاتها, ولدى الأنصاري ما يحاجج به بإقناع: هل كان بإمكان الثورة الفرنسية أن تندلع لولا ما بلغته الدولة هناك من نضج وقوة في عهد لويس الرابع عشر, وهل كانت الثورة البلشفية ستقوم في روسيا لولا إصلاحات بطرس الأكبر في بناء مؤسسات الدولة الروسية ومقوماتها؟ سينسحب هذا الاستنتاج على المسألة الديمقراطية, فلا يمكن توقع بناء ديمقراطي بدون ديمقراطيين وقوى ديمقراطية, في مفاهيمها وتكوينها واستعدادها لقبول قواعد الديمقراطية من حيث هي نظام عصري مديني.
 
صحيفة الايام
24 مارس 2009

اقرأ المزيد