المنشور

مديح الظل

لم يسبق لي أن قرأت مديحا للظل، كذلك الذي يقدمه الروائي الياباني: جونشيم تانيزاكي. اعتدنا أن نمدح النور والضياء، حتى حين نقول كلاماً طيباً عن الظل، فإننا نفعل ذلك مأخوذين بفكرة الضوء ذاتها، كأن جماليات الظل آتية من جماليات الضوء، كأن الظل ليس سوى انعكاس للضوء. لكن تانيزاكي يذهب مذهباً آخر حين ألف كتاباً أسماه: «مديح الظل» .. وهو بالفعل كتاب أريد به إبراز ما للظل من لذة ومتعة. والكتاب ليس عن الظل وحده، إنه عن اليابان، اليابان الأخرى التي لا نعرفها، غير يابان السيارات وأجهزة الفيديو والتلفزيون والكاميرات. لذا ليس عبثاً أن المؤلف يطرح السؤال التالي: «أي منحى سيسلكه الفكر الياباني لو كان مخترع قلم الحبر يابانياً أو صينياً؟، أي شكل سيتخذه المجتمع الياباني لو لم يتبن أدوات الغرب؟ ماذا يحدث لو نشأ الطب الحديث في اليابان؟ وهو لا يكتفي بالسؤال وحده، إنه يجيب أيضاً: « لو حدث ذلك لسارت اليابان في اتجاه مغاير نحو عالم مختلف يناسب طبع الياباني ويثري خصوصيته في كل مجالات الحياة». بيد أن الرجل لا يفعل ذلك من زاوية الرغبة في صنع واقع بديل أو اقتراح مستقبل آخر لليابان: «لقد حدث ما حدث. والعودة إلى الوراء لم تعد ممكنة». لكنه يضع على عاتقه مهمة أخرى هي إحياء عالم الظل، لأن اليابانيين القدامى هم من اكتشفوا أسرار الظل وقوانينه. على خلاف الغربيين فإن أهل اليابان برعوا في استخدام الظل، واستطاعوا أن يجعلوا منه عنصراً جمالياً أساسياً في تفاصيل حياتهم اليومية وفي تصميم بيوتهم ومطاعمهم، وحتى في مسارحهم. والأمر الذي نقوله هنا عن إحياء عالم الظل يجب أن يؤخذ على سبيل المجاز، إن المؤلف ينبئنا بأنه لا يريد أن يتحول في كتابه إلى شيخ تقدم به العمر فأصبح واعظاً يشتم ما جلبته الحضارة الحديثة من وسائل ومتغيرات في المفاهيم والسلوك. لكنه ينحو في كتابه منحى فلسفياً يذكرنا بذلك المنحى الذي عالج فيه «باشلار» الأمور في جماليات «المكان» أو «شعلة قنديل»، إنه يمتعنا بحديثه حين يأخذ بأيدينا على مهل نحو تلك التفاصيل الحميمة النابعة من تأملاته وحدوسه ومن تجربته الشخصية أيضاً، أي إنه لا يقدم لنا دراسة أكاديمية جافة، وإنما نصاً أدبياً ممتعاً فيه سيرة للذات وسيرة للمكان وسيرة لعادات أليفة مهددة بالزوال. إن قصده من «مديح الظل» هو طرح سؤال لمعرفة ما إذا بقيت في هذا الاتجاه أو ذاك، في الآداب أو الفنون مثلاً، وسيلة لتعويض الضرر. وفيما يتعلق به هو شخصياً، فإنه يحاول إحياء عالم الظل الذي نبدده حالياً، إحياء تلك الأشياء الأليفة التي تُبدد، والإحياء هنا لا يعني إعادتها نمطاً لحياة شقت لنفسها مجرى آخر، وإنما إقامة تلك «الجزر» الصغيرة من الأشياء الآفلة، ذكرى لعالم يذهب في الماضي، حيث ليس بوسعه أن يعود.
 
صحيفة الايام
27 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الأزمــــة الإيرانيــــة

تحليلات سياسية كثيرة تناولت الاحداث التي شهدتها ايران بعد الانتخابات الرئاسية بعض هذه التحليلات كان منطلقاتها قومية بحتة، لا ترى في ايران الا دولة فارسية معادية للعرب والبعض الآخر كانت الطائفية منظاره الوحيد، في حين اعتقد بعض المثقفين العرب وخاصة الثوريين منهم ان ما حدث في ايران مؤامرة امريكية – اسرائيلية لزعزعة اركان النظام الايراني الصامد في وجه سياسة الاستسلام والتهاون مناصرة لفلسطين والفلسطينيين والقضايا العربية العادلة وبالتالي احمدي نجاد هو الرئيس الفعلي والشرعي المنتخب، اي المبرر لهذه الرؤية هو ان السياسة الخارجية الايرانية تنسجم مع القضايا العربية حتى لو كانت السياسة الداخلية كما يشاهد العلن وبمنأى عن هذه الآراء والتحليلات يمكننا القول: ان الازمة الايرانية ليست ازمة انتخابات جرى تجييرها لصالح احمدي نجاد فحسب، بل هي ازمة نظام سياسي مضاد للحرية والديمقراطية والتعددية.. ازمة حقوق مدنية ودستورية.. ازمة سلطة سياسية ألغت كل السلطات واختزلتها في سلطة واحدة وبعبارة اخرى ان الايرانيين الذين خرجوا الى الشوارع في مظاهرات ومسيرات عمت اغلب المدن الايرانية لم تكن مطالبها فقط إلغاء نتائج الانتخابات دعماً لموسوي والتيار الاصلاحي عامة، وانما ايضاً تعبير عن رفضها لمعاناة اغلبية الشعب الايراني في احدى الدول النفطية الغنية من شدة الازمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية التي باتت اكثر تردياً منذ قيام الثورة الاسلامية الايرانية عام (1979) وبالتالي فان الحقيقة التي يجب ان يقبلها النظام الايراني على نطاق واسع هي ان الاحتجاجات الشعبية وباختصار اهم دوافعها الحريات والفقر والبطالة والامية والبطش. هل ما حدث في ايران بداية للتغيير؟ سؤال في غاية الاهمية.. سؤال يراود كل القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية في داخل ايران او خارجها، يرى كثيرون ان الرهان على الاحداث الايرانية رهان خاسر وهذا الاعتقاد يبقى صحيحاً ومع ذلك لا تنفي حقيقة الصراع الحاد بين القوى الديمقراطية والتقدم الاجتماعي وبين المحافظين، ومع تفاقم التناقضات يمكن القول: ان الازمة الايرانية مستمرة بغض النظر عن انواع العلاجات والمسكنات، وقد يتخذ هذا الصراع صوراً عنيفة وهادئة وفقاً للظروف الذاتية والموضوعية، ولكن ما يهمنا هنا ان هذه الاحداث جاءت كنتيجة لتراكمات ربما هي بداية لمتغييرات ايجابية عميقة قادمة لان طريق الديمقراطية والعدالة هو حتماً طريق صراع في نهاية المطاف يغير ميزان القوى الاجتماعية والسياسية. وعلى هذا الاساس نعتقد ان رياح التغيير قادمة. مرة اخرى يخطئ من يعتقد او يظن ان خروج ايران من ازمتها الحقيقية يتمثل في إلغاء الانتخابات، لان ازمتها كما اوضحنا سلفاً هي ازمة خبز واوضاع معيشية واسكان وتعليم وعمل ومساواة وكذلك ديمقراطية لايزال النظام هناك يعتقد انها بضاعة غربية غير صالحة لا لايران ولا للدول الاسلامية. ومن هنا كل الاساليب في مواجهة المتظاهرين بحسب وجهة نظر النظام انهم عصاة متآمرون خارجون على القانون يهددون الاستقرار مناهضون للحكم ويحضون على كراهيته وازدرائه ويحرضون على مقاومة السلطة. اذن جوهر الازمة الايرانية اوضاع معيشية واجتماعية وحقوق وديمقراطية.
 
صحيفة الايام
27 يونيو 2009

اقرأ المزيد

مصائر الثورة الإيرانية ( 2- 2)

كانت فكرة الامام الخميني التي انتجها في النجف بعد إبعاده عن موطنه عن ولاية الفقيه، هي بخلاف تطور المذاهب الإسلامية، التي كانت كلها حذرة جدا في التعامل مع السلطات، فكيف أن تكون هي السلطات؟
كانت الفكرة من الناحية الجوهرية هي استمرار لحكم الأقليات الغنية السائد في الحياة السياسية والاجتماعية الشرقية، لكنها تضع مقاليد السلطة في يد شيوخ الدين بصفة خاصة.
وكما رأينا فإن الأغلبية الساحقة من شيوخ الدين كانت قد التصقتْ بالحكوماتِ الاستغلالية، وشكلنتْ الشريعة، خاصة من الناحية السياسية، وجمدتْ الأحكام، وركزت فيما هو تحريمي وقمعي، وفيما هو سحري وخرافي، وفي تجميد تطور البناء الاجتماعي خاصة في مسألة عدم تحرير الفلاحين، وبقاء السيطرة الذكورية على النساء، وسيطرة الحكام على المحكومين، وسيطرة الدين كما يفهمه المحافظون على الوعي، وسيطرة القلة على مال الأغلبية.
فجاء حكمُ ولاية الفقيه ليرث كل هذا التراث المحافظ بسبب الأدوات السياسية التي وضعها وليس من حيث النية والهدف، فأعطى الولي الفقيهَ سيطرة مطلقة على السلطة، مثلما أعطى النصوصَ الدينية المأخوذة بتعسف تفسيري عتيق، لمصلحة القوى الاستغلالية المسيطرة على المال العام وقد ظنها بأنها الحارسة الأمينة عليه.
ان النصوصَ الدينية تمتْ أدلجتها خلال قرون طويلة لمصلحة تلك الأقليات الغنية، وبسسبب خضوعها للطرائق الشمولية التحكمية بالمسلمين، فتغدو ولاية الفقيه هنا دكتاتورية على مستوياتٍ متعددة: مستوى سياسي، ومستوى اقتصادي، ومستوى فقهي.
المستويان السياسي والاقتصادي مفهومان حيث تقوم الدولة باحتكار السلطة ولكن في المستوى الاقتصادي لا تستطيع ذلك كليا، فهناك قطاع خاص قديم، لكن دولة ولاية الفقيه تضعُ يدَها على أغلبية الثروة الوطنية، خاصة مؤسسات النفط والغاز والصناعات المختلفة. وهذا مشابه لدكتاتورية القطاعات العامة المسماة “اشتراكية”. وثمة هدف غائر هنا في ولاية الفقيه يتمثلُ في ضرورةِ إحداث ثورة صناعية كبيرة، ويترابط ذلك بعسكرة الحياة، وتصاعد بناء الجيش وهيمنة الشرطة على حياة المواطنين. ويُضاف إلى ذلك هنا مستوى القراءة المحافظة للإسلام عند هذه المؤسسات الذكورية الاستغلالية المتعالية.
أما على مستوى الفقه فإن الدولة الشمولية هنا لا تستطيع أن تسيطر، ففي عقر دارها توجد الأصالة الإسلامية المعارضة، حيث قامت المذاهبُ الإسلامية على التعددية، وتباين الاجتهادات والتفاسير وكثرة المدارس والمجتهدين حتى في القراءات المحافظة المسيطرة.
لقد قامت الأنظمة الماضية الدينية الإسلامية باختلافها على فصل الحكم السياسي عن الشرع، كما وضح سابقاً من نأي مؤسسي المذاهب الإسلامية عن الحكومات، ولكن ولاية الفقيه كما نـُظّر لها من قبل الإمام الخميني، تقوي في رأيه من جهاتٍ سياسية واجتماعية عدة قواعدَ العدالة، فالولي الفقيه مُنتخبٌ عموماً، كما أن الملكية الاقتصادية الانتاجية الكبرى هي بيد الشعب، كذلك توجد مؤسسات اجتماعية عديدة لخدمة الفقراء.
لكن يخرق النقاط السابق ذكرها الواقعُ الحقيقي، فالولي الفقيه يتجه إلى احتكار السلطة وتهميش رئيس الجمهورية ذي الصلاحيات المحدودة، وكذلك يقوم بتهميش البرلمان، الذي هو برلمان مراقبة بدرجة أساسية لا برلمان سلطة تنبثقُ منه المؤسسات، فهذا ليس برلماناً ولكنه لجنة مراقبة عمومية كما يحدث في بقية الدول الإسلامية خاصة.
ومع التطور السياسي يغدو الولي الفقيه متفردا، وإذا أضفنا إلى ذلك المستوى الفكري للمرشد، وكونه غير ذي دراية واسعة بالشرع والمجتمع، وتربطه علاقات خاصة معينة غير عادلة تنعكس على أحكامه، فإن المنصب يغدو ملتبساً وغير مختلف عن الرئيس الأوحد القاهر.
كذلك فإن الملكيات العامة تتم السيطرة عليها من قبل الإدارات البيروقراطية الفاسدة وبهذا فإن “حلقات” الشمولية تتحكم في كل شيء.
عموماً هذه هي مسيرة الرأسماليات الحكومية الشرقية وقد لبستْ هنا لباسَ المذهبية اليمينية المحافظة، ذات الجذور الريفية، فغدت مُلجمة لتطور المدن، وللثقافة الحديثة، وللحريات، ومهددة لتطور المذهب وانفتاحه وتقدم أحكامه في هذا العصر حيث الحضور الشديد للتغريب.
ويعطينا نموذج الانتفاضة الإيرانية الآن محاولة أخرى لتكسير القيود وللخلق الشعبي الحر، وللفيض الروحي الاستشهادي، والسير خطوة أخرى نحو الديمقراطية الحقيقية.
واعتماد ولاية الفقيه على الرجل الفاضل هو اعتماد واهٍ، فحتى حكومات الخلفاء الراشدين لم تخلُ من انحياز أحياناً إلى العائلات وإلى مصالحها، رغم الإيثار الكبير في أغلب فتراتها، مما تسبب في مشكلات خطرة استمرت أجيالا، رغم عدم وجود جيوش جرارة لدى الخليفة ولا لأجهزة التسلط والتنصت وكونه مواطناً بين المواطنين.
فكيف يستطيع الولي الفقيه وهو محاط بكل هذه الأجهزة وبالفردية في الحكم وضعف الأجهزة المنتخبة أن يكون عادلاً؟
في النهاية ستتحول ولاية الفقيه إلى حكم وراثي كما جرى الأمر في الجمهوريات العربية الإسلامية.
إذا رأينا تاريخ إيران الطويل حيث استمر بعض الحقب النضالية سواء كانت مغامرة أم فوضوية أم صوفية مئات السنين، فيجب ألا ننظر إلى زمن ولاية الفقيه بأنه طويل، فهو قصير في عمر الزمن، وصارت فيه منجزات كبيرة وأخطاء جسيمة كذلك، والطريق هو توسيع المؤسسات المنتخبة وصلاحياتها، وتوجيه الموارد نحو الصالح العام والمشروعات التنموية السلمية كما تطرح قوى المعارضة، ولا بد لإيران من مغادرة طرائق الدكتاتوريات العسكرية فهي تعود بأوخم العواقب على شعبها وعلى تطورها.

صحيفة اخبار الخليج
25 يونيو 2009

اقرأ المزيد

ضد التوقيف الإداري للصحف

كان طبيعياً أن يتداعى الجسم الصحافي والحقوقي في البلاد للاحتجاج على قرار توقيف صحيفة “أخبار الخليج” توقيفاً إداريا بدون العودة للقضاء، ودون الإعلان عن الأسباب التي تقف وراء مثل هذه الخطوة.
وبات متداولاً أن سبب الإيقاف يعود إلى مقال نشر في الصحيفة المذكورة يتصل بتطورات الوضع في إيران، وليس ضرورياً أن نتفق مع كل ما ورد في هذا المقال، لكي نعلن تضامننا مع الصحيفة المعنية في وجه قرار إيقافها، انتصاراً منا لحرية التعبير عن الرأي، وبصورة خاصة تمسكاً بحرية الصحافة وأجهزة الإعلام في البلد.
هذا القرار خطير، لأنه يطال هذه الحرية، ويطلق يد السلطة التنفيذية في المساس بحق التعبير، والأخطر من ذلك فان هذا القرار غير المسبوق منذ زمن طويل يشكل سابقة يمكن أن تتكرر في المستقبل، وتطال صحفاً أخرى، وربما لأسباب أخرى وأكثر أهمية، إذا ما ضاقت السلطة التنفيذية أو أي جهاز من أجهزتها ذرعاً بما قد تنشره من آراء أو أخبار.
ليست الصحافة فوق المساءلة القانونية، ولكن مثل هذه المساءلة يجب أن تكون عبر القضاء الذي عليه أن ينظر في أي قضية تتصل بما تنشره هذه الصحافة، وبوسع السلطة التنفيذية أن تلجأ للقضاء إذا ما قدرت أن هناك تجاوزاً أو مخالفة للقانون، لكن أن تلجأ السلطة التنفيذية ذاتها لإيقاع العقوبة على أية وسيلة إعلامية دون مقاضاتها، فذلك تجاوز خطير، ولا يعبر عن الرغبة في تكريس مفهوم دولة القانون والمؤسسات الذي تلهج به الألسن صباحاً ومساءً.
إن الإقدام على توقيف صحيفة يومية، أو أية مطبوعة أخرى، بقرار إداري يكشف أن الدولة لا تريد أن تعتاد على التصرف بروحية هذا المفهوم، وأن تعتاد العمل في المناخ الجديد المتاح في البلاد بأساليب تناسب هذا المناخ، ولا تنتسب إلى الماضي، الذي كانت الدوريات تعطل فيه لممدد طويلة، دون حكم من القضاء، وقبل أن يحال الأمر إليه.
ودعوتنا إلى الاحتكام للقانون في هذا السياق لا تعني القول أن التشريع الذي ينظم شؤون الصحافة والمطبوعات مُرضٍ، فلدى العاملين في الصحافة والحقوقيين والناشطين في المجتمع المدني العديد من الملاحظات الجوهرية عليه، وما زالت الأعين تتجه نحو قانون تقدمي في هذا المجال، يليق بالدينامية السياسية في البلاد، ويكون حراً من القيود والكوابح الكثيرة الموجودة في القانون المعمول به على حرية الصحافة والتعبير.
ويبدو بديهياً أن المجتمع الذي يطرح على نفسه هذه المهمة لا يمكن أن يستسيغ تدابير إدارية قسرية تطال الصحافة، وتنال من حقها في التعبير، ولا يتصل الأمر هنا بمحتوى هذا التعبير الذي قد يكون محل اتفاق أو اختلاف من قبلنا أو من قبل غيرنا، فليس هذا هو الموضوع.
الموضوع يكمن تحدياً في أن نضمن للصحافة ولوسائل الإعلام حقها في التعبير، أما الخروج عن ضوابط هذه الحرية، فان تقديره عائد للقضاء وحده، خاصة إذا ما احتكم هذا القضاء لقانون تقدمي وديمقراطي للصحافة كالذي نطالب به.
 
صحيفة الايام
25 يونيو 2009

اقرأ المزيد

مصائر الثورة الإيرانية (1 – 2)

لم يجدْ الزمانُ بمثلهِ، وقد كـُثرتْ الشعوبُ الخرافُ، وليس لهذا أسبابٌ غيبية مفارقة للعيش ولكن لأن الغيبَ هنا اتحد بالثورات، وجالَ في الأزقةِ بين الفقراء، ولبسَ الأسمالَ والجوع والفقرَ فصار ناراً مرة، وصوفيين شجعاناً مرة، وتجاراً وعمالاً حداثيين في بداية الزمان الحديث، موعد المساواة والمواطنة والحرية.
وهو موعد الحزبِ، حزب المهدي قائد الجمهور، العمالي، صانع الاشتراكية في آخر الزمان.
ولأن العربَ قدموا له العدالة والقرآن مرة حين كانوا ثوريين، ثم فرضوا عليه بعد ذلك الاستبدادَ والجزية، بعد أن ملكَ الاستغلاليون الرقابَ، فلم يُفرقْ الفرسُ بين فاتح صديق، ومستبد عريق، فالظلمُ طال، والجهل عم.
فكان عليه خلال قرون طويلة أن يتخلصَ من النير العربي الملوكي الجائر، وقدم له قادة من العرب أنفسهم المذاهب الإمامية المقاتلة، فخليفة بغداد ليس هو الإمام، والإمامُ العادل مطاردٌ في الجبال، وفي الأغلال، له في جبال رضوى بشارة وإشارة، ومهما قتل مراراً فهو هناك في الجبال يشرب ويأكل.
ظهرتْ المذاهبُ الإمامية خلال قرون كثيرة، طويلة، وفي كل سنة أحداث وآلام، وقد نهض أبومسلم الخراساني من جوف الدعوة العباسية ليرفع الأعلامَ السوداء ويثأر من عرب الاستغلال، لكن ثورته كانت فردية، وصار سفاحاً في خدمة آل عباس، حتى نهض الزيديون بالثورة وتابعوا طريق الدماء خدمة للمستضعفين والفقراء.
لكنها كانت ثورات بأسلوب واحد دموي، فكانت مناجل الحصاد تزيلُ الرؤوسَ التي تضجُ بالأفكارِ والأحلام، وتبقى الأرضُ عطشى، والشعبُ لا قواد له.
الثورات الدموية استنزافٌ للقدرات، والزهرات التي تنمو خلال سنين طويلة تـُقطع خلال أيام، بعدها يحلُ زمنُ الصمت والهوان، وتغدو الحياة عزيزة حتى للعبيد والخدم.
ولكنه الشعب الذي يصعد سلماً صعباً، كلما كثرت تضحياته سما، وتطلع للحرية ولا يتوقف عن تقديم التضحيات!
جاء الإسماعيليون بعد قرون مثل سابقيهم الزيديين أصحاب ثورة لا تعرف القعود، ولا الركود، يضجون بالحيوية، ويحملون الخناجرَ لبقر بطون المستبدين، ويشعلون النيران في رؤوس الجبال، ويهجمون على المدن، ويذبحون، ويختفون!
أقام بعضُهم جناناً، يعقبها جنون، ويملأون رؤوس الحالمين بالدخان المُغيّبِ للعقول، ثم يسلمونهم خناجر ليقتلوا الحكام، ولكن القتل والجرائم لا تصنع التاريخ، ولا يصنعه الوعي المُخدّر.
حدث فراغ كبيرٌ في إيران راح الإثناعشريون يملأونهُ بهدوءٍ تاركين المغامرات العسكرية، والمذابح، والثورات الخائبة.
كان نضالهم يجمعُ بين السرية والعلنية، بين النقد والصمت، بين البحث والتحليق في الفضاء الغيبي، لقد تعلموا من بحر المذابح السابق.
في زمن الإثناعشرية الصوفية تألقتْ إيران كما لم تتألق من قبل، كثـُر الشعراء الكبار ونـُظمتْ الملاحمُ وازدهرتْ اللغة الفارسية لكنها لم تنفصل عن شقيقتها العربية وإن كرهتها، وغدا العشق هو سيد الثقافة، وتم استبدال الخناجر بالدفاتر، وبالعلوم، وفي هذه الفترة صارت إيران مستقلة.
كان المغول قد احتلوها واضطهدوها، فقام الصوفيون الدراويش بالثورة، فهؤلاء الذين ما فتئوا يهذون بالعشق الإلهي تحولوا إلى فرسان مقاتلين وسحقوا عصابات المغول وأزالوها من الشرق!
استولى الدراويش السلاطين على الحكم والمذهب، وجيروا رجالَ الدين من أجلِ حكمهم، وهي فترة خطيرة تعبت العقول فيها من البحث، واجترت أقوال السلف، وانتشرت الخرافات، وصارت الصوفية دروشة، وصار السلاطين يخوفون الشعب من زحف (الكفار) الصليبيين وخاصة أن هؤلاء ظهروا بشكل البرتغاليين حارقي المدن ومدمري الحضارة.
ثم بشكل الخبثاء الانجليز الذين يتغلغلون مثل النمل، بنعومة وهدوء ثم يستولون على البلدان والثروات.
كان نمو الإثناعشرية خلال هذه القرون التي استقلت فيها إيران (يتطور) مثلما تطورت المذاهب الإسلامية الأخرى، مُفارِقاً لوصايا القرآن بأن تكون الأغلبية الشعبية العاملة هي الحاكمة، فقد سقطتْ هذه السلطة بعد حكم الخلفاء الراشدين، ولم تـُعدْ مرة أخرى، وهكذا تمتْ أدلجة الإسلام حسب ما تراه القوى الاستغلالية العليا، من حكوماتٍ وإقطاعيين وملاك كبار، وغدا رجال الدين جزءاً من هذه القوى، يوجهون الأمور نحو العبادات، كل بمذهبه، وأما النظام السياسي فهو النظام الاستبدادي الذي ورثوه عن الرومان والأكاسرة بعد أن ورثوا ثرواتهم وأضافوا إليها استغلال العامة المسلمين.
وتوسعت السلطة الفارسية وهي تواجه الزحف الغربي محولة القوميات الأخرى التابعة لها إلى فرس بالقوة، وكان هذا بداية لمشروع قومي كامن هيمنت فيه التقاليد المحافظة.
ومع العصر الحديث ومقاومة الاستعمار والتدخلات الأجنبية في شؤون فارس التي تحولت إلى دولة إيران كمصطلح جديد يشير إلى دولة متعددة القوميات، توجهت النخب العسكرية والسياسية إلى التأثر بالتجربة الغربية في الحكم، لكن كان ذلك غير ممكن من دولة إقطاعية محافظة تريد أن تحتذي نظاماً سياسياً ديمقراطياً يعبر عن رأسمالية حداثية.
كان التجار ورجال الدين الذين قاموا بالثورة المشروطية سنة 1902 يسعون لنظام حديث علماني، لكن العسكر المعبرين عن القوى المحافظة كانوا أكثر قوة، فظهرت عائلة بهلوي ورسخت النظام الأتوقراطي، أي نظام القلة الغنية المسيطرة.
وكان هذا مسار الأغلبية الكاسحة من أنظمة الشرق. ولهذا فإن (الجمهوريات) و(الملكيات) هي طبعاتٌ مختلفة من النظام نفسه، وسواء كان اشتراكياً أم رأسمالياً، لأنه في الحراك الاجتماعي الطويل تتكشف المضامين المتوارية فيه.
ولهذا فإن الديمقراطية تعني في هذه الدول هوامش صغيرة تـُعطى للشعوب في حين تكون الخيرات والحكومات لتلك النخب الصغيرة.
ولم يشذ تفكير الإمام الخميني عن هذه الرؤى الاجتماعية السائدة، وكانت فكرة ولاية الفقيه فكرة جديدة غير موجودة لا في المذاهب الإثناعشرية ولا في المذاهب السنية.
أي أن الفقه الإسلامي عامة رفض أن يقوم الفقهاء ورجال الدين بمهام الحكم المباشر، نظراً للتاريخ الذي جرى بعد إسقاط الحكومة الأخيرة للخلفاء الراشدين، وسيطرة الملوك – الخلفاء على السلطات، فنأى الفقهاءُ عن الحكم والحكومات، واعتبروا التعامل معها أشبه بالنقيصة لرجل الدين، حتى أحكامه تصبح محل نظر وشك، ولكن هؤلاء الفقهاء الزهاد لم يصيروا هم الأغلبية لأن آخرين كثيرين بعدهم سارعوا للارتباط بالدول وحوروا وغيروا من أجل أن يعيشوا برفاهية.

صحيفة اخبار الخليج
24 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الأشياء الفائضة

يقول هيغل في مكان ما: “عادة ما ينتج عن أفعال الناس شيء آخر غير ما يتوقعون أو ينجزون، شيء آخر غير ما يعرفون ويريدون مباشرة، إنهم يحققون مصالحهم، لكن يحدث بجانب ذلك شيء آخر مضمر في الداخل، شيء لا ينتبه إليه وعيهم، ولم يكن في حسبانهم “. تقدم هذه العبارة مفاتيح منهجية مهمة لمعرفة وتحليل الكثير من الظواهر، سواء تلك التي تحصل في النطاق الفردي المحدود أو ما يحيط به من دائرة أو دوائر صغيرة، أو في الفضاء العام، بما في ذلك فضاء العلاقات السياسية على مستوى الدول منفردة أو على المستوى الكوني العام. إنها تعيننا على رصد تلك الأشياء غير المتوقعة التي نجمت عن أفعال واعية أو مدروسة قام بها أفراد أو زعماء دول أو قادة أحزاب أو جيوش، كانوا يرتؤون شيئا ويريدونه، ولربما تحقق لهم ما يريدون، ولكن مع ذلك نشأت أمور أخرى لم يكونوا يتوقعونها، حين ظهر شيء مضمر في الداخل كما يقول هيغل. يمكن سوق أسئلة عدة، على سبيل التدليل، تفضي إلى التأكيد على هذه النظرة الفاحصة. ويخطر في الذهن مثلا التأمل في نشوء المسألة التي يمكن أن نطلق عليها اليوم المسألة الأفغانية، فهذه المسالة لم تنشأ مع الغزو الأمريكي لأفغانستان، ولا حتى مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر “أيلول” عام2001، التي وجد فيها المحافظون الجدد ضالتهم لشن الحرب التي كانوا في حاجة إليها. إن جذور هذه المسألة المعقدة تعود إلى بدايات دخول الوحدات العسكرية السوفيتية إلى كابول، حماية للنظام اليساري الذي وصل السلطة عن طريق انقلاب عسكري سهل في بلد كان حتى ذلك الحين منسيا، رغم أهميته الاستراتيجية على الطرق الدولية. لقد نظمت الإدارة الأمريكية وأجهزتها الاستخباراتية وبمعونة حلفائها في المنطقة حرب استنزاف ضروس ضد القوات السوفيتية هناك، أسفرت، في ما أسفرت، عن بروز ظاهرة التطرف الإسلامي المسلح ممثلة اليوم في تنظيم “القاعدة” وتفرعاتها. لقد حققت الإدارة الأمريكية مصالحها من وراء ذلك، فقد أدرك ميخائيل غورباتشيوف بعد أن استوى على قمة المكتب السياسي والدولة في موسكو ضرورة سحب قوات بلاده من أفغانستان أمام حجم الخسائر التي واجهتها، أكثر من ذلك ساهمت هذه الحرب في إضعاف الموقع الذي أخذ في التضعضع للنظام السوفيتي. لكن شيئا آخر “مضمرا في الداخل” ، لم ينتبه إليه الأمريكان في حينه ولم يكن في حسبانهم، هم أنهم أسسوا لقوة منظمة، مؤدلجة سترتد عليهم بذات السلاح الذي مدوها به، ودربوها على استخدامه. بقية الحكاية معروفة: كانت القاعدة، وكان الحادي عشر من سبتمبر “أيلول” وكانت التفجيرات هنا وهناك، وكان ما عرف بظاهرة الإرهاب. يمكن لنا أن نستطرد كثيرا في مثل هذا النوع من الشرح، لنرى كيف أن الأشياء الفائضة، بمعنى الزائدة عن الفعل الأصلي، تستوي هي ذاتها فعلا أصليا تنتج عنه مفاعيل ربما تعدت في خطورتها وأبعادها حجم الفعل الأول وأهدافه.
 
صحيفة الايام
24 يونيو 2009

اقرأ المزيد

بعد خطاب خامنئي

التكهن بمستقبل التطورات الإيرانية ليس سهلاً، رغم الانطباع الذي خلفه، في البداية، خطاب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي بأنه وضع الخاسرين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمام خيارين لا يقل احدهما مرارة عن الآخر. حاول المرشد الأعلى احتواء الأمر، من واقع نفوذه القوي، كونه السلطة الأعلى في إيران، فقال، موجهاً خطابه للفريق الخاسر: إن الجميع، فائزين وخاسرين، هم أبناء الثورة، ثم سعى لاستمالة وتحييد بعض رموز هذا الفريق، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية الأسبق هاشمي رفنسجاني، من خلال الدفاع عما اعتبره نزاهة شخصية فيه، وتاريخاً نضالياً له. فيما وضع مير حسين موسوي الغريم الأول لنجاد أمام التحدي الكبير: إن كررتَ الدعوة للمسيرات والاحتجاجات فستكون مسؤولاً عن إراقة الدماء، وستقدم خدمة لأعداء الثورة في الخارج والداخل، دون أن ينسى التأكيد على أن نجاد هو الأقرب إلى خطه السياسي والفكري، في رسالة واضحة وقاطعة فحواها: نجاد يحظى بدعمي. لكن كلمات المرشد الأعلى رغم براعتها ورغم فعل السحر الذي تركته في نفوس المحتشدين أمامه في خطبة صلاة الجمعة الفائت، لم تفلح في مداواة المجتمع من الانقسام العميق الذي بلغه، خاصة وأن نواة هذا الانقسام موجودة في قاعدة ومريدي الجمهورية الإسلامية بالذات، وان كانت صفوف المحتجين قد استوعبت كل الناقمين على النظام وخصومه. وعلى خلاف ما توقعه المرشد الأعلى فان مير حسين موسوي لم يرضخ لتهديده، وإنما اختار التحدي، دافعاً بالأمور مستوى جديداً، حين قال انه مستعد للشهادة في سبيل ما يطالب به، ليعطي بذلك دفعة حماس قوية لمريديه ولدعاة التغيير عامة. والحق انه ليس أمام قادة الاحتجاج على نتائج الانتخابات وفي مقدمتهم موسوي سوى خيارين: إما الانصياع لرغبة المرشد الأعلى التي اتخذت طابع التهديد، فيكفوا عن الدعوة للمسيرات والتجمهر والتحريض عليها برغبة الحفاظ على السلم الأهلي، ويفقدوا بالتالي صدقيتهم أمام جمهورهم الغاضب، أو الاستجابة لعاطفة وحماس هذا الجمهور، ليجدوا أنفسهم في مواجهة دامية مع القوى الأمنية للنظام المتأهبة لسحقهم، واختار موسوي الخيار الثاني ليبدو بذلك متسقاً مع إرادة الذين انتخبوه، والذين يصرون على أن إرادتهم قد زيفت، لما يعتقدونه من حصول تزوير في الانتخابات. لكن الأمر تخطى الآن مسألة الانتخابات، ليصبح متصلاً بمستقبل البلاد السياسي وآفاق التطورات فيها، فإيران دخلت فصلاً جديداً حاسماً من تاريخ تطورها السياسي والاجتماعي منذ أن سقط النظام الإمبراطوري، وقامت الجمهورية الإسلامية فيها. ومع التسليم بأن لدى النظام من وسائل القوة والتأثير ما يجعله قادراً على مواجهة غضب الشارع إما بالقوة، أو بالرهان على التآكل التدريجي لهذا الغضب تحت تأثير الزمن، والوهن الذي سيدب في صفوف قادته. ولكن هذا يظل مجرد احتمال، مهما كان جدياً وقوياً. فهناك احتمال آخر لا يقل قوة وجدية، هو أن تستمر فورة الغضب الراهنة تحت ضغط الشعور بأن النظام بعد ثلاثين سنة من عمره قد شاخ، وهي فورة ستحظى بعطف وتأييد واسعين في الخارج، بالنظر لحساسية وضع إيران في المعادلة الدولية والإقليمية، وهنا بوسعنا القول إن باب المجهول قد فتح.
 
صحيفة الايام
23 يونيو 2009

اقرأ المزيد

المصرفيون وما تعلموه من الخليج الدولي!

تتعلم الطبقة العاملة والموظفون وكل الشرائح الاجتماعية والمهنية من تجاربها الذاتية واليومية، وتتعلم عن مدى حاجتها الفعلية للتضامن العمالي والمهني لكي تقطع الطريق على أولئك الذين يتخذون قرارات تعسفية تحرم الناس لقمة عيشهم وتهد جدران بيوتهم وتدخلهم في أزمات حياتية كثيرة كالديون والنفقات. مثل تلك القرارات التعسفية لا يمارسها إلا رأسمال أجنبي تعلم منه أحيانا الرأسمال المحلي النظر فقط لمصالحه البحتة متناسيا ومتغافلا عن تلك المصالح الوطنية العامة للاقتصاد والدخل الوطني والشخصي للناس. ما تعلمه الشارع البحريني خلال فترة مشروع الإصلاح من أمور كثيرة بعد أن شهد وتعلم ما معنى الحرية، حرية التعبير والدفاع عن حقوقه المدنية والتي أخذت طريقها بشكل واضح وعلني يوم أن ولدت الطبقة العاملة البحرينية حقائق جديدة على ارض الواقع بتعلمها ماذا يعني إجازة يوم العمال والاحتفاء بذلك اليوم؟ وماذا تعلم عمالنا من تجربتهم التاريخية والعالمية من تضحيات والآم. اليوم لا نحتاج للعودة لتلك الآلام حيث بدت القوانين والتشريعات واضحة تدافع عن حق المواطنين في وطنهم وبضرورة عيشهم بكرامة، وهذا ما نادى به جلالة الملك في الكثير من خطبه ومراسيمه ورسخها الميثاق والدستور، فيما راح التلاعب الإداري لبعض البنوك والشركات يسوغ ويصوغ أفكارا ملتوية وحججا حمقاء لا يهمها إلا الأرباح أولا وأخيرا، وحالما تلوح في الأفق أزمة مالية عالمية هنا أو هناك تكون القائمة المعدة سلفاً جاهزة لكي تخرج من أدراجها في توقيت ملائم يتسق مع رياح ومناخ الأزمات، ولكنها في رداء مضخم أكثر مما ينبغي ويحتمل، وكأنما البحرين صارت حقلا من حقول الاستنزاف الرأسمالي القديم ولما قبل حقبة الاستعمار والفترات الصعبة. فهل يستيقظ عمال المصارف من سباتهم لكي يدركوا أنهم قوة ضاربة متى ما نظموا صفوفهم في وحدة وتضامن؟ فهناك عدة عوامل عليهم إعادة النظر فيها لحماية مستقبلهم ومستقبل أولادهم في وطن من حقهم الدفاع عنه وعن مصالحه شريطة أن يكون الوطن ملكهم وملك كرامة قدمها لهم الميثاق والدستور. ما يحتاجه عمال المصارف والذين يعدون بالعشرات والمصابين «بداء الاسترخاء والفردية والخوف والانكفاء» أن يعيدوا النظر في فهمهم لمعنى العمل النقابي والذي ليس معنيا بكل فهم ضيق للايدولوجيا، فكل فرد حر في أفكاره ولكنه حينما يصبح منصهرا في وحدة العمل النقابي المصرفي، فانه يدافع عن مصالح مهنته ويتحول الجميع إلى إخوة يشدهم مصالح محددة. ما كشفه التسريح الأخير للخليج الدولي هو ذلك الاستحكام الشرس للأجانب والضارب في عمقه بحلقات ضيقة من المتنفذين والأشخاص العنصريين، الذين يعللون أفكارهم بعدم أهلية البحريني في العمل المصرفي وفي مواقع دنيا وعليا، لكي تخلو لهم ولأصدقائهم وشللهم الساحة. لمواجهة هذا الاستحكام الأجنبي لا بد من سرعة تنظيم صفوف المصرفيين سواء كانوا خارج النقابة أو داخلها، ولكي تتحول إلى قوة فاعلة ومنظمة فان الالتحاق بالنقابة لا تعتبر تهمة سياسية كما هي ظلال الماضي المخيف والمهيمن على روح الجميع. أهمية وحدة العمل النقابي في مثل هذه الظروف من الأزمات فهي التجربة الحية التي يستقي منها العمال والمصرفيون دروسهم. ضرورة التعلم من معنى التضامن العمالي كمفهوم أساسي للعمل النقابي، إذ لا يجوز للأجزاء المتناثرة من الجسد العمالي التفرج والتصفيق فقط، وإنما الاستعداد والتلويح بالدخول للمعركة في الوقت المناسب، بل وإعداد وتحضير مؤسساتهم للانخراط مع إخوتهم في معركة الدفاع عن حقوقهم المشروعة. والأكثر من ذلك لا بد وان تتسع دائرة التضامن السياسي والنقابي للعمال المفصولين وفي أي مهنة إن لم تكن على أسس شرعية يقبلها الطرف العمالي وعن رضا كامل بين الطرفين، فان أهمية ومبادرة المؤسسات السياسية كالجمعيات والبرلمان والشورى تصبح أكثر من ضرورية لإبراز الوجه الوطني لمؤسساتنا، إذ من العيب والخزي أن يصمت نوابنا عن تضامنهم مع مصرفيي الخليج الدولي فيما عدا النائب ابوالفتح (ونحن نحييه ونشد على يديه بقوة) فيما هم منشغلون في تحسين اوضاعم ورواتبهم وتقاعدهم وكأنهم نواب الثروة المستعجلة في ذلك المصرف إن الآخرين عليهم تحضير أنفسهم لذلك التسريح حتى وان كان بحجج اقل. لهذا لن يجدي الجميع الانكفاء الفردي والخوف تحت ذرائع عدة، بقدر ما عليهم الالتحاق بعمل النقابة فإنها بيتهم الحقيقي الذي تحت سقفه سيجدون الحماية والدفاع عن مصالحهم وقوت أولادهم مهما كانت الظروف، فان لم يحمينا سقف الوطن ويمنحنا كرامة وعدالة فمن الذي سيحمينا؟
 
صحيفة الايام
23 يونيو 2009

اقرأ المزيد

عمق الحدث الإيراني

مقالة الأسبوع الماضي أحدثت ردود فعل مختلفة عكستها تعليقات منشورة ورسائل حملها بريدي الألكتروني ومكالمات تلفونية. وعلى اختلافها فجميعها يدل على أهمية ما يجري في إيران عالميا، شرق أوسطيا، عربيا وخليجيا، وخصوصا بحرينيا. فهي “شغل” ليس فقط السياسيين، بل وعلى مستوى المواطن العادي. إنك تستطيع أن تقرر من هم أصدقائك من عدمهم، أما الجار فهو معطى جغرافي ليس لك إلا أن تعرفه وتفهمه جيدا، فخيره من خيرك، والعكس.
في فبراير الماضي، كتبت مقالتين بمناسبة الذكرى الثلاثين للثورة الإيرانية وقرب الانتخابات الرئاسية الإيرانية. وفيها تحدثنا عن التطور الحلزوني للثورة خلال مسيرتها. متابعة هذا التطور تسمح بفهم طبيعة الحدود التاريخية التي وصل إليها النظام في هذا البلد. حتى الانتخابات قبل الأخيرة استطاع مرشد الثورة أن يتحكم ويتقن توجيه تطور النظام في حدود توسيع أو تضييق الأطر المرسومة من قبله. إذا ضاق المجتمع ذرعا بحكم “المحافظين” أعطى المرشد الضوء الأخضر “للإصلاحيين” كي يحدثوا متنفسا، وهكذا دواليك. غير أن فترة الرئاسة السابقة تميزت باتجاهين متضادين بشكل صارخ ضمن حلقات التطور الحلزوني للثورة : تم استثمار كل أفضليات تحكم الدولة بالاقتصاد لصب قدراتها من أجل تحقيق مستويات عالية من التقدم العلمي والتكنولوجي والقدرات العسكرية (التي وضع قاعدتها خاتمي). ومن الجهة الأخرى تراجع تطور الاتجاه القيمي في النواحي الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية والثقافية عما تحقق في عهد رئاسة خاتمي. وقد ارتقى هذا التضاد بحيث غدا تعبيرا مباشرا عن التناقض الداخلي لتطور الثورة وعن أزمة لم يعد من الممكن حلها في إطار تبادلية توسيع وتضييق الأطر.
ظهر المرشد في البدء وكأنه يريد مواصلة لعبة التبادلية وإطلاق دورة جديدة من التطور الحلزوني للثورة الإسلامية. وفهمها خاتمي على أنها ضوء أخضر لخوض انتخابات الرئاسة. وما كان للرئيس أحمدي نجاد أن يقف ندا لخاتمي الذي أصبح شخصية سياسية وثقافية وإنسانية عالمية ودخل في ضمير المجتمع الإيراني إذ أن الأخير استطاع أن يفتح إيران على العالم الخارجي بكل تلاوينه. غير أن الأمور سرعان ما تبدلت. أعاد المحافظون حساباتهم ليجدوا أن الاستقطابات التي تغيرت بشكل حاد ونوعي قد وضعت غالبية “خط الإمام” أيام الثورة أمثال رفسنجاني، يزدي كروبي، خاتمي موسوي في جبهة، ومن تبقى بقيادة خامنئي في جبهة أخرى. على أن الاصطفافات في داخل السلطة السياسية قد تعدت مجرد الرموز وعلاقاتها بالجماهير الدينية إلى مستوى المؤسسات. فالسيد رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، كما أن رئيس البرلمان علي لاريجاني انتقد بشدة استخدام القوة المفرط وقتل المتظاهرين. وفي إطار هذه الانقسامات كانت جبهة “الإصلاحيين” تتمتع بكونها أقدر على تقديم حلول أكثر عصرية ومقنعة للمجتمع، والثانية لكونها أصبحت أكثر سيطرة على الدولة والمجتمع. وحرمان المحافظين من هذه الامتيازات قد يعني انتهاء دورات التبادلية ولغير صالحهم هذه المرة. ولهذا سرعان ما اضطر خاتمي لسحب ترشيحه. وسرعان ما مر موسوي عبر مصفاة النظام ليصبح المرشح “الإصلاحي” البديل لخاتمي. ربما حدث ذلك باعتبار أن التعبئة ضد  موسوي وهزيمته أكثر سهولة من خاتمي.
غير أن الاصطفافات والتوازنات ليست فقط في هذا الإطار، كما حاولت أن تصورها خطبة المرشد. فأي مراقب لتطور الأوضاع في إيران يعرف أن الشعب الإيراني ليس حبيس الصراع المعلن بين طرفي السلطة الدينية الحالية. في تاريخه النضالي العريق عرف الشعب الإيراني أشكالا مختلفة وراقية من التأطير الحزبي والجماهيري. وهي وإن تم قمعها وتهجير خيرة كوادرها إلى الخارج، إلا أنها عادت واختمرت تحت السطح من جديد. وبتكتيكاتها المختلفة فهي تطفو وتغوص لتحدث تأثيرها في تحويل ميزان القوى لصالح الأفضل المتاح بين طرفي الصراع الديني. وسواء رجال الدين أو القوى الشعبية الأخرى يعرفون جيدا أن ما يجري حاليا هو إيذان بتطور الحركة الاحتجاجية الشعبية للخروج من شرنقة الأطر الرسمية الحالية. إنه انقسام في المجتمع حول النظام، أوسع منه انقسام في إطار النظام ذاته. لكنه يضيّق دائرة الحصار على القوى الأكثر محافظة ورجعية. ولذلك فهي الأكثر حساسية تجاه احتمالات تحالفات قد تنشأ بين “إصلاحيي” النظام وقوى المجتمع من خارج النظام (داخل إيران). وفي هذا كله سر الشعبية العارمة وسر ملايين الناخبين الذين زحفوا إلى صناديق الانتخابات من أجل التغيير بعد أن ظلوا عازفين. ولهذا فإن التعامل مع المعارضة بدا أقسى من السابق، وربما سيكون أشد قسوة في المستقبل. ومع التسليم بأن هناك بالفعل قوى خارجية تتربص بإيران انطلاقا من رغبتها في عودة سيطرتها على هذا البلد الغني والاستراتيجي الموقع، فإن هذا لا يعطي لأحد الحق بأن يربط عضويا بين حركة الاحتجاج الجماهيرية الأصيلة وتحريك لهذه الجماهير من الخارج. 
بدافع هذا القلق تخلى المرشد عن حياديته هذه المرة فصرح بلا مواربة بأنه لا يعتبر الرئيس أحمدي نجاد هو الفائز بلا جدال، بل وأنه الأقرب إليه فكرا ونهجا. وحذر من استمرار احتجاجات الشارع. وفي داخل وخارج إيران ترقب الكثيرون على اختلاف مذاهبهم الدينية والفكرية والسياسية خطبة مرشد الثورة الإسلامية قبل صلاة الجمعة الماضية باهتمام بالغ. لم يكن ذلك بحكم شغفهم أو اعتيادهم سماعه، بل لاستشفاف مستقبل الأحداث.
الخميس شهد تظاهرة جماهيرية صاخبة توشحت بالأسود حدادا على الذين سقطوا ضحايا القمع. مير موسوي ومهدي كروبي لم يحضرا صلاة الجمعة ودعا موسوي أنصاره إلى عدم الحضور لتفادي الصدامات. ولحد الآن (صباح السبت) لم تعلن المعارضة عن استسلامها. وفيما عدا رضائي الذي حضر الصلاة والخطبة وسلم للمرشد بالحكم النهائي المطلق، فإن مهدي كروبي واصل بعد الخطبة دعوته لإلغاء نتائج الانتخابات. أنصار موسوي لم يلغوا لحد صباح يوم السبت (حيث تجري كتابة المقال) المسيرة التي ينوون القيام بها مساء نفس اليوم.
ومرة أخرى، فكيفما تطور الموقف بعد خطبة الجمعة فإن إيران قد دخلت مرحلة جديدة بعد الانتخابات الأخيرة.
 
صحيفة الوقت
22 يونيو 2009

اقرأ المزيد

لا نتحمل مسؤولين في الوزارات «خلقهم ضيق»

اكثر ما يجعل الفرد يكره ان يراجع بعض الدوائر الحكومية هي البيروقراطية الموجودة فيها، ولكن تعوّد البعض عليها، ولكن لن يقبل الناس ان تزيد من الثقل عليهم، فقد يتجاوزن عن هذه البيروقراطية ويتحملوها قليلاً، لأنهم ينظروا الى بصيص أمل ينتشل بعض الجهات الحكومية من هذا الوحل، ولكن الادهى من البيروقراطية والذي لن يتحمله الناس، هو ان بعض المسؤولين او المديرون في الوزارات لا يمكن التفاهم معهم ولا التعاطي معهم «خلقهم ضيق، مزاج حاد، لباقة في الكلام معدومة…»، هذا الامر أشد وطئة من البيروقراطية. وترد عبر السلطة الرابعة «الصحافة» الكثير من القضايا، وربما قد لا يتم التعاطي معها بشكل جدي، ولكن احببت ان أسلط الضوء على هذا الملف، حتى نستطيع ان نصل برسالتنا الى هذه الفئة من المسؤولين، فإذا كانوا يحتاجون الى دروس في التعامل مع المراجعين، فإننا بدورنا سوف نسعى جاهدين لتقديم اقتراحاتنا الى وزاراتهم لتخصيص ساعتين من الدوام الرسمي وتخصيصها لدروس فن الذوق والتعامل مع المراجعين. فمدير في وزارة البلديات عندما يخاطب مستثمراً ما بينه وبين الوزارة عقد مبرم، فإن ما يعنيه هو ما في العقد نفسه، بدلا من ان يطلق توصيفاته «الظريفة» على الاستثمار أو ما هو موجود عند المستثمر، وإذا أراد ان يقابل أحد من المراجعين فإن عليه ان يقابله ويستمع الى شكواه منفردا دون وجود مراجعين آخرين او موظفين من مختلف المشارب «يتمجلسون عنده لشرب الشاي». هناك الكثير من المواقف التي نحتاج الى مقالات طويلة بل صفحات لسردها، ولكن إذا استمرت المواقف فإن الصحافة كفيلة ان توصل برسائلها الى من يعنيه الامر، من اجل وضع يد الوزارات والمسؤولين الذين يتوقون الى المصلحة العامة على الجرح ومكامن الخلل.
 
صحيفة الايام
22 يونيو 2009

اقرأ المزيد