المنشور

وسنقول هنا قولاً ثقيلاً..


من جملة ما نعاني في البحرين، وما نعانيه كثير ، هو وجود هيكل إداري مكتظ فوقيا، ما يسمى بالإنجليزية الـ ‘ over management’.. أعداد كبيرة من الوزراء؛ وأعداد كبيرة من وزراء الدولة، مؤسسات وهيئات بهيكلة وزارات تقودها شخصيات برتبة وزير، محافظين برتبة وكلاء.. مستشارين يصل عددهم في الوزارة الواحدة أحياناً لـ 6 مستشارين!! ووكلاء لا يقل عددهم عن الثلاثة ويصل للضعف أحياناً..ووكلاء مساعدين ومدراء عموميين ‘بالكوم’.. وحال الموظفين العموميين ما هو إلا مصداق لصورة أكبر لمؤسسات وهيئات الدولة الكثيرة كماً والتي تلعب أدواراً متداخلة ومتشابهة- حد التطابق أحياناً – فهناك الوزارات، والهيئات والبلديات والمحافظات والمجلس الوطني بغرفتيه ‘البرلمان ومجلس الشورى’، ومجلس الوزراء ومجلس التنمية الاقتصادية ، والمجلس الأعلى للمرأة والهيئات الاستشارية والبيئية ومراكز البحوث.. وكثير من تلك الجهات تلعب أدواراً مستنسخة وتتقاسم الدور ذاته مع سواها من الجهات؛ ولو لم نكن نخشى ضيق الصدور لدللنا على ما نسوق بأمثلة أوضح!!

ما علينا..

هذا الرص الإداري الفوقي، في جزيرة بالكاد يعدو عدد سكانها المليون جلهم يتكتل في الجزء الشمالي من البلاد في مساحة لا تعدو الـ 30* كم مربع ليس بالأمر الإيجابي على الإطلاق.. ولنضع جانباً حقيقة ما في الأمر من استنزاف لموارد الدولة ‘مع علمنا أن بند الرواتب هو ما يحرق ثلثي الميزانية..!!’ ولنضع- كذلك- جانباً حقيقة أن جُل تلك المواقع خُلقت من الهدم إما بغرض توزيع الألقاب والمواقع على ” النبلاء” والـ” مقربين”؛ أو تمكيناً لبعض الشخصيات التي يُراد لها أن ‘تُرز’ في المشهد العام قسراً- وإن لم يكن لها دور أو يُرتجى منها فائدة أو نفع..!!

لنضع كل ذلك جانباً وننظر لما يفعله هذا الرص الإداري بالمصلحة العامة وانسيابية العمل في البلاد..
تداخل الصلاحيات الإدارية – بالمجمل – من شأنه أن يقود لنتاجين: إما أن يخلق تنافساً غير معلن وتناحراً على الصلاحيات والمكتسبات – أو- يؤدي للنقيض تماماً : خالقاً حالة من الاتكالية وتقاذف المسؤولية بين الجهات المختلفة.. لذا فدعاوى التقصير والإهمال تبددها الرياح لأنها تتوزع على جهات عدة تتصرف كل جهة منها على أنها من الأوزار.. براء!! أضف لذاك أن الحماس لتحقيق المنجزات يخبو لأن غنائمه وأفضاله تتوزع على الكل.. وبما أن من يعزي؛ وحتى ذاك الذي لا يعزي؛ يأكل من عيش الحسين – كما يقال – نجد أن الغالبية تأبى أن تضرب الصدر فيما الآخرون في سبات! سيما أن التجارب أثبتت أن من يعمل كثيراً ما يُحارب بضراوة غالباً بحجة ‘ التعدي على دوره وصلاحياته’!!

كما ويخلق هذا الوضع تباطؤاً قاتلاً في القرار.. بل إن أجل القرار كثيراً ما يضيع جراء المماطلة والتسويف.. ناهيك عن أن المطالبات بالتطوير والرقابة والمحاسبة تغدو – في ظل هذا الوضع – ترفاً.. ويفسر كل ذلك بوضوح تواضع فعالية القطاع العام رغم كثرة عامليه؛ وجودة بعض طواقمه؛ ولكن الرص الفوقي خلق وضعاً غير مريح؛ عائق للعمل وخانق للإبداع..

وصدق المثل الانجليزي الذي يقول ‘إذا كثر الطباخون تفسد الشوربة’!!

رحيق الكلام:
هذه هي السطور.. وعليكم بما بين السطور..
 
الوقت 30 يونيو 2009
 

اقرأ المزيد

أســــئلة !


  
  
  



  
  
   1-  لماذا تستمر الحكومة في اقتطاع مخصصات البطالة مع أن صرفها للعاطلين قد توقف؟!
 
 
   2-  أيها البرلمانيون “النجباء”: لماذا توجهتم إلى مرجعياتكم الدينية والسياسية لأخذ رأيها في مسألة أخلاقية
         وأحقية حصولكم على المكافآت والرواتب التقاعدية، ولم  تتوجهوا إلى ضمائركم لسؤالها عن مدى
         استحقاقكم لهذه الامتيازات المسيلة للّعاب من عدمها؟!
  
 
   3-  هل من برلماني صاحب ضمير يقف وقفة تأملية صادقة فيما يفعله “مروجو” البحرين المزعومون في
         مجلس التنمية الاقتصادية الذين يشكلون الوفود المبالغ في  أعدادها للقيام بجولات “ترويجية” غير
         منتجة  لليابان وألمانيا ووو….العديد من البلدان الجذابة؟ “فهذه الزيارات التي تستنسخ تجربة الجولات
         (المكوكية السياحية)  الفاشلة لمجلس البحرين للتسويق والترويج والتي تم خلالها إهدار ملايين الدنانير
         البحرينية من ميزانية الدولة، والتي تتميز بالإنفاق البذخي، تشكل أحد مصادر النزف  في موازنة
         الدولة”؟         

اقرأ المزيد

هل تتحول كندا عن السوق الأمريكية الحمائية

السوق أنشأ المدن باستقطابه جموع الباحثين عن ما أسماه عباقرة اقتصاد نهاية القرن التاسع عشر بالمنفعة الحدية‮ (‬أي‮ ‬نقطة التعادل التي‮ ‬يتوافق عليها البائع والمشتري‮) ‬لعوامل الإنتاج الثلاثة الرئيسية‮ (‬العمل والأرض ورأس المال‮).‬ والسوق بهذا المعنى هو نقطة ارتكاز ونشوء علاقات الإنتاج والعلاقات المجتمعية بشكل عام‮. ‬ينطبق ذلك على الصعيد الوطني‮ ‬وعلى الصعيد فوق الوطني‮ ‬على حد سواء‮. ‬حيث تبدأ السوق حركة التوسع خارج نطاق حدودها الجغرافية الداخلية لتطاول الحدود والعمق الجغرافيين المجاورين،‮ ‬فكان نشوء الأسواق الإقليمية والدولية البالغة الاتساع والمزدحمة بالمنخرطين في‮ ‬شراكاتها ومعاملاتها‮.‬ السوق بهذا المعنى‮ ‬يتمـدد جغرافياً‮ ‬وفقـاً‮ ‬لإيقـاع‮ ‘‬التطـور المتدرج‮’ ‬‭(‬Gradual evolution‭)‬‮ ‬وليس بإيقاع القفزات،‮ ‬كما هو متاح بالنسبة لمعدلات النمو الاقتصادي‮ ‬الانفجاري‮ ‬مثلاً‮. ‬من هنا‮ ‬يأتي‮ ‬تفسير قوة العلاقات بين رواد الأسواق المتجاورة جغرافياً‮ ‬وتناميها عبر الزمن وصولاً‮ ‬إلى حالة من التكامل الاقتصادي‮ ‬الطبيعي‮ ‬حتى وإن لم‮ ‬يجر تتويجه وتقنينه في‮ ‬صورة تجمع اقتصادي‮ ‬إقليمي‮. ‬فمن الطبيعي‮ ‬مثلاً‮ ‬أن‮ ‬يكون تواصل وتداخل السوق اللبنانية مع السوق السورية،‮ ‬وهذه الأخيرة مع السوق العراقية أكثر من تواصلها مع الأسواق العربية الأبعد جغرافيا نسبياً،‮ ‬وكذا الحال بالنسبة للسوقين البحريني‮ ‬والسعودي‮.. ‬وهكذا‮…‬ ولعل الشيء نفسه‮ ‬ينطبق على بقية بلدان الأقاليم العالمية المختلفة،‮ ‬ومنها العلاقة بين السوقين الأمريكي‮ ‬والكندي‮. ‬حيث استوردت الولايات المتحدة في‮ ‬العام الماضي‮ ‬5‭,‬75٪‮ ‬من الصادرات الكندية،‮ ‬فيما شكلت صادراتها إلى كندا نسبة‮ ‬4‭,‬63٪‮ ‬من إجمالي‮ ‬صادراتها‮.‬ بيد أنه في‮ ‬زمن الاتصال العميق والمتعاظم للأسواق العالمية بفضل وسائل المواصلات والاتصالات الحديثة،‮ ‬فإن الدول بدأت تفكر في‮ ‬إعادة النظر في‮ ‬هذا الواقع الجيواقتصادي‮ ‬الذي‮ ‬أملته في‮ ‬العقود الماضية ظروف التقسيم الدولي‮ ‬للعمل في‮ ‬صورته التجارية الكلاسيكية،‮ ‬وذلك من أجل تنويع تجارتها جغرافياً‮ ‬وتقليل ارتهانها إلى سوق بعينها بكل ما تشكله من تقلبات وتذبذبات‮.‬ وعلى ذلك فإن كندا هي‮ ‬اليوم بصدد إعادة النظر في‮ ‬جغرافية تجارتها الخارجية بما‮ ‬يشمل ذلك مغادرة مواقع ارتهان صادراتها ووارداتها‮ (‬بنسبة الثلثين تقريباً‮) ‬إلى سوق واحدة بعينها هي‮ ‬السوق الأمريكية،‮ ‬بالعمل على إنشاء شراكات إستراتيجية مع مراكز اقتصادية عالمية قيادية من وزن الاتحاد الأوروبي‮ ‬مثلاً‮.‬ وبالفعل فقد أطلقت كندا في‮ ‬السادس من مايو الماضي‮ ‬جولة مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬للتوصل إلى اتفاق تجاري‮ ‬ثنائي‮ ‬‭(‬Bilateral Trade Agreement‭)‬‮ ‬ربما تكون على شكل اتفاقية تجارة حرة‮ ‬‭(‬FTA‭)‬‮ ‬يتم فيها تصفير الضرائب الجمركية على سلة من سلع التجارة البينية في‮ ‬مرحلة أولى وتخفيض مستوى سلة أخرى في‮ ‬مرحلة ثانية توطئة لتصفيرها في‮ ‬مرحلة تالية،‮ ‬وتحرير عدد من أنشطة قطاع التجارة في‮ ‬الخدمات‮ .. ‬وهكذا‮.. ‬بما‮ ‬يفتح الطريق لتعظيم التجارة البينية بين الطرفين وتحويل كل منهما إلى شريك تجاري‮ ‬رئيسي‮ ‬بالنسبة للآخر‮.‬ جدير بالذكر أن التجارة البينية للطرفين تبلغ‮ ‬حالياً‮ ‬103‮ ‬مليار دولار وذلك مقارنة بتجارة الاتحاد الأوروبي‮ ‬مع الصين التي‮ ‬تبلغ‮ ‬أكثر من‮ ‬5‮ ‬أضعاف ما هو مع كندا وعشرة أضعاف ما هو مع أمريكا‮.‬ ولذا‮ ‬يُتوقع أن‮ ‬يساهم الاتفاق التجاري‮ ‬الثنائي‮ ‬إذا ما أُبرم بين الطرفين في‮ ‬زيادة حجم تبادلهما التجاري‮ ‬بواقع‮ ‬25‮ ‬مليار دولار سنوياً‮.‬ ولكن وكما‮ ‬يقال فإن بدء المفاوضات التجارية أسهل كثيراً‮ ‬من إنهائها،‮ ‬إذ‮ ‬يُتوقع أن تستمر مفاوضات الطرفين لإبرام الاتفاق‮ ‬7‮ ‬سنوات،‮ ‬وهو السقف الزمني‮ ‬الذي‮ ‬وضعاه لنفسيهما،‮ ‬رغم أن معظم سلع التجارة البينية للطرفين معفية من الضرائب الجمركية،‮ ‬إلا أن بعض السلع لاسيما السلع الزراعية سوف تشكل المعوق الأساس أمام تقدم المفاوضات بين الطرفين‮.‬ كندا بفتحها خط مفاوضات لإبرام اتفاق تجاري‮ ‬ثنائي‮ ‬مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬تريد تجاوز المشاكل التي‮ ‬تسببها النزعة الحمائية التي‮ ‬انطلقت في‮ ‬الولايات المتحدة على خلفية الأزمة المالية/الاقتصادية والتي‮ ‬اتخذت لها شعار‮ ‘‬اشتر المنتجات الأمريكية‮’.‬ والولايات المتحدة بدورها شعرت بوطء هذا التحرك فطالب الاتحاد الوطني‮ ‬للمصنعين‮ ‬‭(‬The National Association Manufacturers‭)‬‮ ‬الرئيس أوباما بالإسراع في‮ ‬فتح جولة مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬لإبرام اتفاقية تجارة حرة معه وإلا المجازفة ببقاء الولايات المتحدة وحيدة في‮ ‬تجمع منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية الذي‮ ‬يضم أيضاً‮ ‬كندا والمكسيك،‮ ‬لا تتمتع بمثل هذا الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي،‮ ‬حيث كانت المكسيك قد وقعت اتفاق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬‭         2000.

اقرأ المزيد

بدء انتصارات الرأسمالية الخاصة في الشرق

الصراعات المحتدمة في العالم الثالث تعبر عن أزمة عامة كبيرة في هذه الدول، فقد عجزت هذه الدول عن خلق تنمية مطردة، وإحداث تطور متناسق بين المدن والأرياف، واحتكرتْ الدولُ ثمارَ التنمية ووجهتها بحسب مشروعاتها السياسية وبحسب القوى المتنفذة، وهمشت القطاعات الخاصة.
ثم جاءت الانقلاباتُ والثوراتُ بشكلٍ دراماتيكي عنيف، وأوجدت أحوالاً سياسية غرائبية، فتحدثُ الثوراتُ على القطاع العام بشكلٍ انقلابي ويظهر مؤسسو القطاع الخاص من بين خرائب المصانع والأزمات الاقتصادية كما حدث في مصر والاتحاد السوفيتي.
وكلما كانت المبالغة في نشر القطاعات (العامة) وسحق القطاعات الخاصة في العقود الماضية كلما كان التفجر أكثر خطورة على المؤسسات السياسية وحياة السكان.
وكلما كان التطور السابق فيه مرونة وتعاون بين القطاعات العامة والخاصة كان التحول الجديد أكثر سلاسة.
وإذا كانت القطاعات (العامة) قد توجهت أكثر إلى جوانب اقتصادية في غير منفعة الناس، كالبرامج العسكرية ومساعدات الأنظمة الدكتاتورية المماثلة والبذخ على المسئولين كلما كان الانفجار الاجتماعي أكثر حدة وخطورة، وهو يأخذ الأشكال والتقاليد ومستوى الوعي في كل بلد.
كذلك فإذا كان التمركز في المدن الكبيرة ويتم استبعاد الأرياف والبراري، ويتم التركيز على منافع المذهب أو الوعي السياسي المسيطر أو الطائفة تأخذ الأشكال المناهضة الاحتجاجية أو الإرهابية أو العنيفة بعداً جنونياً.
ولهذا لا غرابة أن يكون شمال طهران هو قائد الانتفاضة في إيران، لأن القوى الحديثة والفئات الوسطى هي الأكثر تضرراً بهيمنة القطاع العام الحكومي والعسكري خاصة، والذي يلقي الفوائض الاقتصادية على الجيش والقوى المؤيدة له والمنفذة لخططه في الخارج، والذي يؤدي إلى إفقار السوق الوطنية.
كما أنه يحتفظ بقوة عامية عسكرية محدودة الوعي ومتعصبة ويغذيها بالحقد على الحداثة والغرب في عمليات تمويه.
وضخامة القوى العامية المؤيدة للسلطة الإيرانية هو بسبب ضخامة أجهزة الدولة والملكيات العامة وما توفره من معاش للملايين من الإيرانيين، في حين أن الفئات الوسطى المدنية لا تقدم الشيء الكثير لهذه الجماهير، فليس لديها مصانع كبرى أو وزارات أو جيوش.
يجب عدم الحكم النظري أو الأخلاقي المجردين، فليس التاريخ يجري بأحلام المثقفين فقط، والفرق كبير بين أيام الشاه وأيام النظام الديني الراهن، فقد ضخم هذا النظام من المؤسسات العامة، ولها جانبٌ مفيد ولاشك رغم الفساد، ولكن الملكيات الخاصة قد نمت كثيراً كذلك، وهي ذات تراث كبير، وتمازجت مع أفكار الحرية الغربية.
أما أن يكون انتصارها ممكناً في هذه المعركة فهو أمرٌ مستبعد، بسبب ضخامة الأجهزة العامة وما تجذبهُ من جماهير.
كذلك فإن نظاماً رأسمالياً خاصاً ذا سوق فوضوية تصعد الأغنياء الكبار وتعسر حياة الفقراء، أمرٌ يخيفُ الناس، كذلك فإنهم مستلبو الوعي في مثل هذه الصراعات الغامضة عليهم. ولم يهتم الحداثيون بالثقافة الدينية لهذه الجماهير، واكتفوا بثقافة النخب في بعض المدن الكبيرة، وهي ثقافة لا تصل إلى كل الشعب.
ولكن إذا وجدوا من الليبرالية سنداً في المعاش، وقوة اقتصادية يمكن أن تـُحدث استقراراً لحياتهم، فمن الممكن أن تنزل الجماهير الكبيرة، لكن الليبرالية سواء كانت من الخلايا الجنينية في داخل النظام، أو كانت قوى مستقلة، فإنها عاجزة عن فهم العملية الصراعية، وعن تقديم وظائف وأجور أفضل للملايين.
لهذا فإن الليبراليين من الضروري أن يهتموا بالتصنيع وبإصلاح الأرياف وبتقدمها الاقتصادي وبتوزيع الأراضي والأدوات الحرفية على الجمهور الريفي خاصة.
وعموماً فإن النظام الديني – المالي – العسكري سوف يصلُ إلى مآزق أكبر مع استمراره في النفقات العسكرية الهائلة والتي تشكل عادة رشاوى كبيرة وحياة باذخة للضباط والمسئولين الكبار.
عموماً فإن الجماهير لا تريد وعياً وشعارات نخبوية فقط وهي قد أبلت بلاءً حسناً في نضالها ضد التكلس السياسي في المؤسسات من أجل تقدم أوسع لإيران.
إذن يجب عدم النظر للصراعات السياسية في الشرق بمعزل عن الصراع الرئيسي بين الملكيات العامة البيروقراطية والملكليات الخاصة لوسائل الإنتاج، وكونها صراعاً رئيسياً تعبر عن هذه اللحظة المفصلية لعجز القطاعات الحكومية عن تقديم الحريات الاقتصادية والسياسية، واستمرار فسادها ولعدم تغيير الخطط الاقتصادية، بما يضمن نمواً أكبر للقطاعات المدنية.
إن القطاع الخاص لا يحصل على مداخيل كبيرة لنموه، وتوجه الفئات الوسطى المدنية لتحييد الثقافة الدينية المحافظة القشورية السائدة، هو جزءٌ من سلبيتها الصناعية ومن قصور علمانيتها وديمقراطيتها ولشكلية قراءتها للإرث الإسلامي.
إن تعملق القطاعات العامة البيروقراطية قد وصل في الشرق إلى نهايته، لم يعد أي تطور فيه مقبولاً، وخاصة إنفاقه العسكري، وهو بيت قصيد الخراب، وأي تراجع كبير في الإنفاق العسكري سيكون له مردود إيجابي في جوانب الحياة الأخرى.
ولهذا فإن توجهات الغرب السلمية وتفكيك القواعد العسكرية له، وإزالة الرعونة الإسرائيلية من المنطقة، وقيام علاقات طبيعية بين الدول كافة، سوف يقوي التوجهات الديمقراطية في الدول الإسلامية، ويجعل القطاعات الخاصة قادرة على الامتداد في مجالات الإنتاج، وإلى تحول القطاعات الحكومية نحو خدمة اقتصاد الإنتاج كذلك ومعاش الناس.

صحيفة اخبار الخليج
28 يونيو 2009

اقرأ المزيد

حتى تصمد دعوات مكافحة الفساد؟!

من البديهي أن نقف مع أي خطوة جادة من شأنها تعزيز إجراءات حماية المال العام ومكافحة الفساد، والدعوة لمحاسبة كل من تسول له نفسه أو يغريه موقعه أو نفوذه بالتعدي على المال العام، ولابد لنا من وقفة جادة وأمينة في وجه كافة أشكال الفساد وعلى رأسها الفسادين المالي والإداري، حيث أن الفساد الذي أصبح بالفعل طاعون العصر، ونعلم أن الدعوات وحدها لن تكفي على اعتبار أن الفساد وممارسات التعدي على المال العام تعد من أكبر التحديات والمعوقات لعملية التنمية المستدامة وبشكل حدة لدى الدول النامية، حيث تغيب وسائل المسائلة والمحاسبة، وتنحاز دوائر الرقابة والمؤسسات التشريعية للدفاع عن المفسدين وحمايتهم وتبرير كافة وجوه الفساد وممارساته بكل أسف، على حساب المصالح العليا للناس ومختلف الشرائح المجتمعية. لذا نجد في الاتفاق الأخير الذي تم الإعلان عنه مؤخرا بشأن توصل مجلس إدارة شركة (ألبا) مع شركة جلينكور العالمية السويسرية خطوة في الاتجاه الصحيح على طريق استرداد مبالغ نقدية لصالح شركة (البا) مقابل تسوية القضية مع الشركة المذكورة، والتي كانت قد دخلت كما هو معروف وسيطا غير نزيه مع بعض القيادات العليا السابقة في “البا” لتمرير صفقات بمليارات الدولارات عبر الاحتيال على القوانين والاتفاقيات المبرمة بهذا الخصوص. نعم، نجد في تلك الخطوة عملا إيجابيا وإن كان سيظل ناقصا بكل تأكيد إذا لم تستكمل الخطوة لمعالجة الصفقات المشبوهة والعقود المجحفة تجلت في أسعار بيع ظالمة للشركة وللعاملين فيها وللاقتصاد الوطني، من غير العابئين بمستقبل الشركة والعاملين فيها وما تعنيه لاقتصادنا الوطني، وخيرات هذا الوطن التي حق لشعبه أن يستمتع بعائداتها وتنشأ له المساكن وتبنى له المدارس والمستشفيات ومحطات الكهرباء في خضم ما نواجهه من مصاعب حقيقية في هذا الشأن تضطرنا للاستدانة. نقول رغم أهمية تلك الخطوة الايجابية التي أعلنتها الشركة، تبقى على الطريق خطوات كم نتمنى أن يبرهن الجانب الرسمي من خلالها على جديته في مكافحة الفساد، خاصة بعد أن صادقت الحكومة مؤخرا وبعد طول انتظار على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وبعد أن أعلن سمو ولي العهد بوضوح عن التوجهات الجديدة لمكافحة الفساد ولحماية المال العام. نعرف أن تلك الخطوات بقدر ما تحتاج منا إلى صبر ودعم ومؤازرة، فإنها بكل تأكيد تحتاج لتفعيل على الأرض، لتتبعها خطوات أخرى أكثر أهمية تعيد لنا الثقة والأمل مجددا في مستقبل التنمية في بلادنا، وتتلازم معها خطوات لاستكمال منظومة التشريعات المرتبطة بها ومن بينها قانون الإفصاح عن الذمة المالية لذوي المناصب العليا وقانون الكسب غير المشروع، وقانون محاربة الرشى، وقانون حق الوصول إلى المعلومات وتشديد الأحكام المتعلقة بمكافحة الفساد والرشوة والمحسوبية، وأمام الحكومة الكثير من القضايا المعلقة بل والمجمدة في المحاكم، بل أن بعضها لم يصل للمحاكم إلى الآن إن تم، فانه حتمًا سيسعف توجهات الخطاب الرسمي المعلنة بمكافحة الفساد، وسوف يعطي دفعًا مأمولاً لعملية التمنية التي تعتمد كما نعلم على عوامل تحقيق المصداقية والثقة لدى الأطراف المعنية بها؟! نعلم أننا بهذا لا نطلب المستحيل، وبات من مسؤوليتنا تشجيع تلك الخطوات التي نرجو أن تكون جادة وتجد طريقها نحو التفعيل، لأننا وبكل إخلاص نطمح في التأسيس لبناء دولة القانون التي تزهو فيها العدالة ويصان فيها المال العام وتلغى فيها التمايزات الطبقية القائمة، فنحن نتطلع إلى عملية التنمية في عهد عنوانه الإصلاح وبناء الدولة الحديثة المنشودة.
 
صحيفة الايام
28 يوليو 2009

اقرأ المزيد

خيبــــة أمـــل كبــــرى !

منحت الأجهزة الإعلامية الخارجية مساحة كبيرة للانتخابات الإيرانية إلى جانب المساحة التي وجد فيها المتنافسون أنفسهم يتحركون وبشكل مبكر لحملتهم قاربت الشهور الثلاثة ’ بينما زاد إيقاعها الأسرع في العشرين يوما قبل موعد لحظة الاقتراع. من تابع تلك الأخبار وجد صورة مغلوطة تخفي حقيقة واحدة وهي أن الناخبين وحدهم هم من يعيشون في طهران فيما مرت العدسة على المناطق الأخرى بشكل عاجل كمدينة قم وتبريز وشيراز ’ فيما اختفى من المشهد ناخبو الأحياء الفقيرة والريف الإيراني الواسع ’ الذي يعكس ملايين الناخبين وهم في غالبيتهم فقراء إيران ’ والذين اقرب لتبعيتهم وقرارهم للمرجعية العليا وقرارها ’ وكان من البداية تلويح المرجع الأعلى يميل في التصويت إلى إعادة الرئيس نجاد إلى سدة الحكم. ومن كانوا اقرب إلى مراكز وصناع القرار حسموا موقفهم أيضا من قبل أن تبدأ المسألة الانتخابية لكونهم لا يميلون إلى مير حسين موسوي ولا غيره بمثل ما هم على قناعة تامة إن الرئيس نجاد هو وحده من يترجم السياسات العليا وتوجهاتها الرسالية للثورة ولا يمكنه أن يحيد عنها فقد عبر عنها بكل وضوح قبل أن يكون في دفة السلطة حتى وصوله إليها . فلماذا كان الغرب يأمل بحماس على كتلة صامتة ربما تخرج هذه المرة لحسم الخيار الإيراني الجديد للإصلاح؟ لماذا راهن الغرب وغيره من العالم على حصان طهران ونخبة المثقفة وطلاب الجامعات فيها والقادمون غالبيتهم من طبقة وسطى وبقايا أثرياء الحقبة الماضية في شمال طهران ’ متناسين إن 40 مليونا من الناخبين هم وحدهم من يحسمون صناديق الاقتراع وليس الخمسة عشر مليونا في طهران ’ وهم الموزعين بين أجزاء إدارية وجغرافية أربعة في طهران ومتباينة اجتماعيا وطبقيا في طبيعتها الانتخابية. كان واضحا الاندفاع الإعلامي الغربي في التعبير عن ميوله الخفية تارة والعلنية تارة أخرى في الرغبة بنجاح الإصلاحيين ’ وان كانوا على خطوة متباعدة للخلف باحتمال عودة المحافظين ’ إذ ربما في الجولة الثانية من رئاسة نجاد هناك انعطافة في السياسات الدولية المقبلة ’وقد كان صعود اوباما ورسائله المبكرة قبل الانتخابات واضحة برغبته إعادة العلاقات مع إيران وطي صفحة التوتر القديمة والجلوس مجددا على طاولة الحوار ’ فخطاب اوباما مكررا في جامعة القاهرة كان في جزء كبير منه موجها إلى مركز إسلامي هام وليس الحلفاء وحدهم ’ فمن الضروري أن تصل الرسالة واضحة إلى عالم إسلامي واسع تشكل إيران احد أركانه الهامة. من راهنوا على شباب الجامعات وصبية المدارس الثانوية وأبناء النعمة نسوا قراءتهم لخارطة سياسية أوسع للناخبين ’ فعاشوا بنوع من الأمل الكاذب والتقارير التي روجت لأحلام مرحلة ’’ رغبها العالم وليس الحقيقة التي عليه أن يعرفها ’’ عن الواقع الإيراني الجديد ’ عن رعيل رابع ترعرع مع ثقافة الثورة وتشبع بروحها في مؤسسات عدة ابتداء من الحضانات الأولى حتى الجامعات الكبرى ’ فخلقت لديه نمط من روح الكبرياء والاعتزاز القومي . لا يمكن لأي مراقب أن يراهن على وجود ظواهر اجتماعية كالفقر والفساد والجريمة لبلد شاسع وكبير ومتناقض محاط بسلسلة من الخصوم وحلقات الأعداء ’ أن يتوهم إن تلك المؤشرات وحدها كفيلة بإسقاط نظام ’ فأدوات إسقاط النظام في إيران ما زالت غائبة ومؤشرات تآكل وتفكك بنية النظام لم تتعمق لا في البنية الفوقية ولا في القاعدة. فلماذا نفرح فقط لكوننا لسنا مع النظام لكي نحدد معالم نجاح فئة أو تيار نوده بدلا من تيار نعاديه . من يحدد الخيارات التاريخية في الثورات والانقلابات والتغيرات الكبرى طبقات وفئات تمتلك أدوات ذلك التغيير خاصة في دول العالم النامية ’ حيث المؤسسات والقوة القابضة كالجيش والأمن والقضاء والإعلام والعمال والفلاحين ونساء الريف والموظفين الصغار يشكلون قوة مهمة في الثقل الاجتماعي ’ وهؤلاء جميعهم ما زالوا في صف المرجعية ومراكز صنع القرار والرئيس ’ والذي عزز من مكانته في السنوات الأربع الماضية في مجتمع يهمه مثالية الرئيس الأخلاقية ونمط عيشه وتوجهات المجتمع والحكومة في معالجة الوضع الاقتصادي والمعيشي باستمرار. ما تنفخ فيه سموم إسرائيل وسياسة بوش الراحلة حول رعب التجارب النووية ’ علينا بعدم السقوط في وهمها بتلك السذاجة السياسية ’ دون أن نقع في الجانب الأخر بذلك التبسيط السياسي بتوازن القوى الإقليمي والدولي للدور الإيراني في منطقتنا ’ وبضرورة بحثنا كدول مجلس تعاون خليجي عن سياسة سلام دائم وحسن جوار وتحسين علاقات مستمرة وزاخرة بالتبادل الاقتصادي والمعرفي ’ إذ من ينفخون في نفير الحرب المدمرة من بعيد لن يصيبهم لهيبها ’ ووحدهم من سيحترقون هم بلدان وشعوب المنطقة ’ وعلينا أن نتعظ من حروب أحرقت المنطقة وبلعت من مخزونها المالي ودمرت وضعها البيئي لعقود قادمة . أصدقاءنا في الغرب يحاورون إيران من وراء ظهورنا ويدفعوننا إلى مقدمة المدفع فهل نحن وحدنا من أصيب بخيبة الأمل الكبرى أم هم أكثر منا ؟
 
صحيفة الايام
28 يونيو 2009

اقرأ المزيد

عندما لا‮ ‬يستطيع الجديد العيش على النمط القديم

سألني‮ ‬أحد الذين أبهرتهم وأغوتهم عملية إدارة الدولة في‮ ‬إيران بطريقة تداول السلطة ومظاهر تجليها الديمقراطية التي‮ ‬يحرص النظام السياسي‮ ‬ومؤسساته الحاكمة على إظهارها بصورة احتفالية صاخبة كل أربع سنوات إبان حملات انتخاب أو إعادة انتخاب الرئيس‮.. ‬سألني‮: ‬هل من مقارنة بين هذا التمثل التداولي‮ ‬المعقول‮ (‬بمقاييس‮ ‘‬العالم الثالث‮’) ‬للسلطة وبين الانتخابات الشكلية لرأس السلطة في‮ ‬عالمنا العربي‮.‬
وخلته لن‮ ‬يسعد أو لن‮ ‬يشفى برأيي‮ ‬جواباً‮ ‬على سؤاله الذي‮ ‬بدا لي‮ ‬معقولاً‮ ‬ومشروعاً‮. ‬إلا أنه خيب ظني‮ ‬باقتناعه الواضح بما دفعت به من رأي‮. ‬فقد قلت له أن لا فرق بين الحالتين سوى في‮ ‬الشكل وتماثلهما في‮ ‬الجوهر‮. ‬فإذا كان‮ ‘‬المونولوج‮’ ‬الانتخابي‮ ‬في‮ ‬الحالة العربية فردياً‮ ‬‭(‬Singular‭)‬‮ ‬فإنه في‮ ‬الحالة الإيرانية جمعياً‮ ‬‭(‬Plural‭)‬‮ ‬عصبوياً‮ ‬ينافس في‮ ‬إطاره رجال النظام،‮ ‬أو بالأحرى كبار علية القوم من رجال النظام،‮ ‬بعضهم بعضاً،‮ ‬ولا‮ ‬يسمح لأي‮ ‬مخلوق كان من خارج هذه العصبة،‮ ‬بالتجرؤ على تدوين اسمه في‮ ‬سجل المرشحين لانتخاب الرئيس،‮ ‬حيث سيكون في‮ ‬انتظاره‮ ‘‬الفلتر‮’ ‬المركزي‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يمكن اختراقه،‮ ‬وهو مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي‮ ‬لا‮ ‬يجيز ولا‮ ‬يمرر سوى رجال النظام عداً‮ ‬وحصراً‮.‬
هذا هو الواقع،‮ ‬فالمرشحون المنافسون للرئيس أحمدي‮ ‬نجاد على منصب الرئاسة هم رجال النظام نفسه بامتياز،‮ ‬يجمعهم بالرئيس نجاد وبالأب الروحي‮ ‬للنظام وسياساتهما،‮ ‬أكثر بكثير مما‮ ‬يفرقهم،‮ ‬ذلك لأنهم جميعاً‮ ‬ينهلون من منبع أيديولوجي‮ ‬واحد،‮ ‬برسم المناظرات التلفزيونية التي‮ ‬أجريت للمرشحين والتي‮ ‬كشفت أنهم إنما‮ ‬يختلفون سياسياً‮ ‬وحسب،‮ ‬أي‮ ‬في‮ ‬كيفية استخدام وتوظيف السياسة كأداة في‮ ‬العلاقات الدولية لإيران وفي‮ ‬علاقات القوى الداخلية،‮ ‬بما‮ ‬يؤمن أفضل الأوضاع لبقاء واستدامة النظام الإيراني‮ ‬الحاكم‮.‬
ثم إن رجال الثورة وقد تحولوا إلى رجال دولة،‮ ‬لابد وأن‮ ‬يكونوا قد أضحوا،‮ ‬في‮ ‬ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي‮ ‬شهدتها إيران منذ قيام الثورة قبل حوالي‮ ‬ثلاثين عاماً،‮ ‬هم أنفسهم مراكز قوى سياسية واقتصادية بحكم طبيعة العلاقة بين السلطة المطلقة‮ (‬لرجال الدين ومؤسساتهم الاحتكارية الحصينة‮) ‬وبين المصالح الاقتصادية المتخلقة في‮ ‬دورة إعادة الإنتاج اليومية‮.‬
وفي‮ ‬ضوء الواقع المستجد والمتحول،‮ ‬كماً‮ ‬ونوعاً،‮ ‬تغدو السياسة وتغاير الرؤى والتطبيقات المتصلة بها،‮ ‬غطاءً‮ ‬تغلف بها حقيقة افتراق مصالح أقطاب النظام ولوبياته المتوزعة على امتداد رقعة مؤسساته الحاكمة والمتنازعة على امتيازاتها‮.‬
ونحسب أن التحولات الاقتصادية،‮ ‬والتحولات الاجتماعية التي‮ ‬استتبعتها ترتيباً،‮ ‬والتي‮ ‬لم تحل دونها نزعة الانعزال والانكفاء على الذات الخصوصية منعاً‮ ‬لتسربات‮ ‘‬الغزو‮’ ‬الثقافي‮ ‬الأجنبي‮ (‬الغربي‮ ‬تخصيصاً‮)‬،‮ ‬ولا السياسات الغربية المبرمجة والمكرسة لإحكام العزلة الدولية على طهران للضغط عليها ودفعها نحو تخفيف قبضتها الأيديولوجية وهيمنتها على المجتمع الإيراني،‮ ‬لم تحل دون اتصال وتواصل المجتمع الإيراني‮ ‬لاسيما المجتمع المدني‮ ‬مع النظام الحداثي‮ ‬الدولي‮ ‬وأدواته المتدفقة بغزارة عبر الحدود الجغرافية العالمية قاطبة،‮ ‬وهي‮ ‬لم تحل بالتالي‮ ‬دون وصول الهاتف النقال والإنترنت والصحون اللاقطة لقنوات البث التلفزيوني‮ ‬الفضائي،‮ ‬وهي‮ ‬أبرز وأخطر ما أفرزته الثورة العلمية والتكنولوجية في‮ ‬العقدين الأخيرين،‮ ‬إلى الجمهور الإيراني‮ ‬لاسيما الشباب الإيراني‮ ‬المتعطش للنهل من معين هذه المكتسبات البشرية العظيمة‮. ‬خصوصاً‮ ‬وأن الشعب الإيراني‮ ‬عُرف عبر التاريخ بحيويته وانفتاحه على تيارات الفكر والثقافة العالمية المعاصرة‮.‬
وإسقاطاً‮ ‬لشمولية النظام الإيراني‮ ‬المغلفة بتعددية مؤسسات النظام المشار إليها آنفاً‮ ‬على مجريات الأحداث الجارية الآن في‮ ‬إيران على خلفية الأزمة السياسية التي‮ ‬فجرها إعلان نتائج انتخابات الرئاسة الإيرانية التي‮ ‬جرت‮ ‬يوم الجمعة الثاني‮ ‬عشر من‮ ‬يونيه الجاري‮ ‬بفوز الرئيس الحالي‮ ‬أحمدي‮ ‬نجاد بثلثي‮ ‬أصوات المقترعين‮ (‬حوالي‮ ‬63٪‮)‬،‮ ‬وهو ما احتج عليه المرشح حسين موسوي‮ ‬الذي‮ ‬قال بأنه تلقى مكالمة من وزارة الداخلية تفيد بفوزه بثلثي‮ ‬أصوات المقترعين‮ ‬يمكننا إيراد الملاحظات التالية‮:‬
‮(‬1‮) ‬إن الحيز الضيق جداً‮ ‬الذي‮ ‬أنشئ كساحة تتحرك داخل إطارها تلك التعددية النخبوية المحسوبة بدقة،‮ ‬لم‮ ‬يعد‮ ‬يتسع لدفق حركتها الداخلية الناتج عن تمايز مصالح لوبيات ومراكز قوى أقطاب النظام،‮ ‬فكان لابد وأن‮ ‬يخرج المتبارون في‮ ‬إطار‮ ‘‬اللعبة التعددية‮’ ‬على أصول اللعبة بمحاولة تجاوز وكسر محابسها‮.‬
‮(‬2‮) ‬لقد بدأ الزخم الأيديولوجي‮ ‬الذي‮ ‬يمثل،‮ ‬مجازاً،‮ ‬إكسير الحياة للنظام،‮ ‬يتراجع ويتبدد رويداً‮ ‬رويداً‮ ‬نتيجة لطغيان اتجاهات التمدين الناتجة عن التعرض لموجات تأثيرات العولمة التي‮ ‬لا راد لها،‮ ‬على حساب اتجاهات الترييف التي‮ ‬اكتسحت المدن الإيرانية إبان اندلاع الثورة،‮ ‬فكان أن طبع ترييف المدن نمط الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الإيرانية على مدى سني‮ ‬الثورة،‮ ‬قبل أن‮ ‬يسقط النظام في‮ ‬السنوات القليلة الماضية‮ ‘‬في‮ ‬حبائل‮’ ‬تيارات التحديث والتمدين الموضوعية،‮ ‬أخذاً‮ ‬بعين الاعتبار هاهنا المتغير‮ ‬‭(‬Variable‭)‬‮ ‬الهام في‮ ‬معادلة التحديث وهو الشباب الذي‮ ‬يشكل زهاء‮ ‬60٪‮ ‬من الشعب الإيراني‮ ‬والذي‮ ‬ولد في‮ ‬أعقاب الثورة‮.‬
‮(‬3‮) ‬بهذا المعنى فإن التغيير قد حدث في‮ ‬البناء التحتي‮ ‬على نحو كاف لحد انتظاره تغييراً‮ ‬موازياً‮ ‬في‮ ‬البناء الفوقي،‮ ‬وهذا استحقاق حتمي‮ ‬الوقوع،‮ ‬خصوصاً‮ ‬عندما لا‮ ‬يستطيع‮ ‘‬الجديد‮’ ‬العيش على النمط القديم‮. ‬والوقت هو الفاصل هنا،‮ ‬فقد‮ ‬يتأخر الاستحقاق قليلاً‮ ‬بسبب ممانعة القديم السماح له بالمرور،‮ ‬ولكنه آت لا ريب فيه‮.‬
 
صحيفة الوطن
27 يونيو 2009

اقرأ المزيد

عميد الأدب الروسي بوشكين وتراثنا العربي (2-2)

خلصنا في الحلقة الماضية، انه بالرغم من تأثر عميد الأدب الروسي الكبير الكسندر بوشكين بتراثنا العربي – الاسلامي، وهو التأثر الذي انعكس على مختلف جوانب عديدة من انتاجاته الابداعية، بما في ذلك تأثره بقيم الاسلام الانسانية والاشادة بها، فإن هذه القامة الادبية السامقة تكاد تكون مجهولة تماما في ثقافتنا ومغيبة من مناهجنا التعليمية ومكتباتنا.
لقد كان عصر ازدهار الحضارة العربية – الاسلامية يأسر لباب هذا الشاعر والأديب الروسي العظيم وعلى الأخص فيما يتعلق بازدهار ورقي المجالات الادبية والثقافية والفنية، ويمكننا ان نشير على سبيل المثال إلى تأثره بالاثر الادبي – الفني العربي الكبير الخالد “ألف ليلة وليلة”، الذي جاء مرآة لازدهار الحياة والحضارة العربيتين على مدى ستة قرون، ولعل قصة بوشكين الشعرية “رسلان ولودميلا” تجسد في بعض جوانبها الابداعية تأثره بكتاب “ألف ليلة وليلة”.
كما لم يكن التراث الشعري العربي بمنأى عن تأثر بوشكين به في سياق استلهامه وشغفه بشتى اجناس التراث الثقافي والادبي والفكري العربي، وكانت قصائد بوشكين العاطفية وشبه الغزلية تعكس تأثره بالبديع الشرقي، وعلى الأخص في التراثين العربي والفارسي. كما تأثر بوشكين بشخصية وسيرة الخليفة العباسي هارون الرشيد لما تركه من أثر في تراث الحضارة العربية – الاسلامية حتى انه حرص على حضور مسرحية اقيمت في بطرسبورج تتناول شخصية ذلك الخليفة.
وتميزت ابداعات بوشكين الادبية بالمزج ما بين المدرستين الغربية والشرقية، ويحسب لبوشكين انه افضل من تمكن من الادباء واللغويين الروس من امتلاك ناصية اللغة الروسية وجعلها مطواعة بين يديه لاستيعاب الثقافة الانسانية العالمية من دون ان تفقد هذه اللغة هويتها الوطنية المميزة.
وفي الوقت الذي كان فيه الكثير من المستشرقين الغربيين قد أخذ عليهم انهم اساءوا، بقصد او من دون قصد، لتراث الاسلام فإن اخلاص واعتزاز بوشكين بتراثه المسيحي الروسي لم يحل دون ابداء اعجابه بالاسلام وتراثه من منطلق انفتاحه الرحب المستنير على مختلف الثقافات الانسانية من دون تعصب أو أحكام مسبقة.
ولقد كان القرآن الكريم مصدر الهام للبطولة والشجاعة للمثقفين التقدميين الروس عشية انتفاضة الديسمبريين. وكذلك الحال فيما يتعلق بالسيرة النبوية التي تأثر بها رواد تلك الانتفاضة. وكان بوشكين في طليعة شعراء روسيا الذين تأثروا بالقرآن كما تجلى ذلك في قصائده “قبسات من القرآن”، وقد جذبته شخصية الرسول (ص) لتفانيه البطولي وصموده الاسطوري في الدعوة للديانة الجديدة الاسلام التي سرعان ما انتشرت عالميا بعد وفاته وتمكنه من توحيد القبائل العربية.
واعتبر المؤرخون والنقاد ان ديوانه “قبسات من القرآن” 1824م هو الشاهد الأكبر على تأثره الكبير بالتراث الروحي العربي- الاسلامي، وعلى وجه الخصوص بما تملكه آيات القرآن الكريم من قوة اشعاعية روحية جذابة للتغلغل في نفوس الناس في كل زمان ومكان وتجبر حتى من لا يدينون بالاسلام على احترامه إذا ما تجردوا من أي تعصب مغلق على ثقافتهم وشرائعهم الدينية.
لقد كان بوشكين على حد تعبير أحد النقاد الروس “يعرف الشرق الاسلامي افضل من كل شيء وأكثر من أي شيء”.
وما كان بوشكين ليقدر التراث العربي – الاسلامي حق قدره ويتأثر به اعجابا وانبهارا ايما تأثر من دون انكبابه الشغوف على مأثورات ذلك التراث الثقافية والدينية. وفي الوقت الذي لعب فيه هذا الشاعر المبدع الروسي الكبير دورا في جذب الروس وتنويرهم من خلال ابداعاته بالتراث العربي – الاسلامي من موقعه كمسيحي وكمثقف تقدمي مستنير في عصره فاننا نرى وبالرغم من تقدير الثقافة والادب الرسميين خلال الحكم السوفيتي لهذا الشاعر فان هذا الحكم لم يبرز ذلك الدور بما فيه الكفاية الذي لعبه بوشكين ولتوظيفه في تعميق صلاته بشعوب الجمهوريات الاسلامية السوفيتية من جهة وبشعوب الشرق العربي والاسلامي من جهة أخرى وهو ما أفضى إلى جانب عوامل اخرى إلى تجهيل تلك الشعوب بما يحظى به بوشكين من مكانة مفترضة في استلهام التراث العربي – الاسلامي.
فهل تبادر الجهات الروسية الرسمية والشعبية المعنية بالتراث والثقافة الروسيين إلى القيام بفعاليات ومبادرات لإحياء تراث بوشكين وسائر رموز الابداع والادب ممن كانوا يقدرون التراث العربي حق قدره لتوعية الاجيال الحالية الروسية والمخضرمة بدورهم في الاعتراف بينابيع الثقافة والحضارة العربيتين والاسلاميتين وبما يسهم في احياء وتعزيز جسور العلاقة التي تربط روسيا بالعالم العربي؟ وهل تبادر الأوساط والجهات العربية بدورها وبخاصة المطلعة منها على الدور الذي لعبه الروّاد المثقفون والمبدعون الروس الأوائل في انصاف التراث العربي الاسلامي والتأثر به واعلاء شأنه الانساني والحضاري بكل تجرد وانصاف لرد الاعتبار إليهم تعليميا وثقافيا في دولنا العربية؟

صحيفة اخبار الخليج
27 يونيو 2009

اقرأ المزيد

عميد الأدب الروسي بوشكين.. وتراثنا العربي (1-2)

في المقال المنشور في هذا المكان تحت عنوان “المبدعان الروسيان.. جوجول وبوشكين” الذي تناولنا فيه المكانة التي يتبوأ بها كل من هذين الاديبين الروسيين في الانتاج الابداعي الادبي الروسي منذ بواكير النهضة الثقافية الابداعية الروسية في العصر الحديث قبل قرنين ونيف، خلصنا إلى أن ما يطبع جانبا كبيرا من ابداعات ونتاجات الشاعر الروسي بوشكين هو تأثره بالتراث الادبي العربي – الاسلامي إلا أن الدارس المتفحص لانتاجات بوشكين الابداعية يلحظ جيدا مزاوجة الشاعر في تأثره بالتراث الأدبي الانساني العالمي بين التأثر بالتراث الاوروبي الغربي والتراث الشرقي وعلى الاخص العربي – الاسلامي.
وهذه الميزة هي التي تطبع بالضبط تقاليد روسيا وثقافتها الشعبية التي تعكس موقعها الجغرافي الواقع في منطقة وسطى بين الشرق والغرب، أو بين الشمال الاوروبي من جهة والشرق العربي والاسلامي الآسيوي الجنوبي من جهة اخرى، وهذا ما ينعكس أيضا على الطابع القومي الوسطي لهذا الشعب المحافظ باعتدال من دون تزمت وتحجر والمنفتح على تطورات المدنية المعاصرة ومباهج الحياة باعتدال ايضا من دون تطرف او الوقوع في براثن الانحرافات الاخلاقية الطاغية بفجاجة مشوهة لروح وسمو القيم الانسانية المشتركة بين كل الثقافات والديانات.
ان بوشكين في انتاجاته الادبية الابداعية يمثل موضوعيا بالضبط هذه النزعة الوسطية التي طبعت تقاليد وسلوك الشعب الروسي حقبا طويلة متعاقبة. على أن بوشكين يستمد مكانته في الثقافة الروسية من الدور الفائق الاهمية في إثراء هذه الثقافة وفي تطوير الادب الروسي في بواكيرهما المعاصرة منذ نحو قرنين، ولقد نظر كبار النقاد إلى بوشكين بأنه مؤسس الادب الروسي الحديث او ما يمكننا ان نطلق عليه “عميد الادب الروسي” مقارنة بما كان العرب والمصريون، على وجه الخصوص، يلقبون طه حسين بـ “عميد الادب العربي” لدوره ولما قدمه من اسهامات بحثية ودراسات مهمة حول هذا الادب وتاريخه ونقده.
واذا كنا في واقع الحال لا نجد سوى شذرات قليلة من دراسات تركها لنا طه حسين فيما يتعلق بحال اللغة العربية وسبل وآفاق تطويرها لتواكب تغيرات العصر وانتشالها من حال الجمود التي هي عليها منذ قرون فإن مأثرة عميد الادب الروسي في اللغة والادب الروسيين الكسندر بوشكين تتجلى في ارتقائه بهما من الجمود إلى الحيوية الجمالية المتدفقة المتوائمة مع العصر والثقافات الانسانية المعاصرة من دون ان يخل بخصوصية وهوية الادب الروسي. وعلى خلاف المشكلة التي ما انفكت الثقافة العربية تعانيها فيما يتعلق بالانفصام بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية، أو بين اللغة العامية واللغة الفصحى، فان بوشكين يرجع إليه الفضل الأول في تضييق الفجوة بين لغة النخبة الادبية ولغة الشعب الدارجة، ومن ثم فان بوشكين يعد بحق من رواد تحديث اللغة الادبية الروسية، وبخاصة إذا ما علمنا بأن المؤلفات الادبية كانت تكتب باللغة السلافية الكنائسية القديمة وهي لغة نخبوية دينية منفصلة عن اللغة الروسية الشعبية الحية، ولم يتم التقريب بين اللغتين إلا خلال القرن الثامن عشر في عهد لومونسوف.
واذا كانت تلك هي اسهامات بوشكين العظيمة في تطوير اللغة والادب الروسيين خلال عمره القصير فلنا ان نتخيل كم هي اسهاماته لو لم تنته حياته بتلك النهاية التراجيدية الفاجعة حينما سقط صريعا في تلك المبارزة التي دفع إليها بتدبير من القيصر وحاشيته الذي كان يرى أفكاره وكتاباته المفعمة بحب العدل والمساواة وتعرية الظلم تشهيرا بحياة القيصر ونهجه الاستبدادي في الحكم.
ومع ان الروائي الروسي الكبير جوركي جاء بعد عصر بوشكين بنحو قرن إلا ان تراث هذا الأخير الادبي الذي ظل نابضا بالحياة رغم رحيل صاحبه دفع جوركي الذي تأثر به لوصف بوشكين بأنه “أكبر فخر لروسيا” فيما وصف الاديب الروسي ف. ابراموف عبقرية تراثه بأنها مازالت “مستمرة في النمو والتعمق واكتناز القوة”. اما المبدع الروسي الكبير دستوفيسكي فلم يتردد في الجزم بأن “كل الكوكبة الحالية من الادباء تعمل على هدى بوشكين، ولم تصنع الجديد من بعده، فكل البدايات كانت منه”.
لقد كان بوشكين بحق فنانا موسوعيا مبدعا في مختلف الاجناس الادبية، فإلى جانب ابداعه المتميز في نظم القصيدة العاطفية والحماسية فقد كتب أيضا القصة الشعرية الرومانتيكية، والمسرحية القصيرة، والقصة والرواية الشعرية.. وعكس انتاجه التطور الذي قطعه التيار الادبي في روسيا خلال ثلاثينيات القرن الـ 18م.
ومع ان مكانة بوشكين في الخلق الادبي الابداعي ما كانت تنبغي ان تقتصر على بلاده، وذلك بالنظر إلى ما اتسمت به جوانب من تراثه الابداعي من تأثر واضح بالتراث العربي – الاسلامي يعكس في ذات الوقت احترامه واجلاله الكبير للاسلام ونبي الاسلام محمد (ص)، إلا ان تراث هذا الاديب الروسي العالمي يكاد يكون للأسف مجهولا في مناهجنا الدراسية العربية ناهيك عن مكتباتنا.

صحيفة اخبار الخليج
27 يونيو 2009

اقرأ المزيد

شمشون أهو مقاوم أم منتحر؟

كان شمشون الجبار كما تذكر التوراة رجلا قويا شجاعا لكن قوته تتركز في شعره.
وقد احتالت عليه ديمدونة وقطعت شعره ففقد ما يمتلك من قوى جبارة فحطم المعبدَ على رأسهِ وعلى الأعداء.
هي حكاية رمزية كالكثير من حكايات الكتب المقدسة، المليئة بالثراء الدلالي، وقد تصور الناسُ انها حقيقية كاملة، وهي فنية وليست فيلما تسجيليا، وإذا تدبرنا معانيها وجدنا الكثير مما ينطبقُ على أحوالنا، كأن تلك الكتب تسخرُ منا، بعد كل هذه القرون حيث ظللنا مغفلين!
وقد ظهرت مثل هذه القصص الحكيمة في منطقتنا واهترأت عظامها وذابت ثيابها من دون أن نتعلم.
فنجد شخصية شمشون مستمرة وهي تمسكُ مقاليدَ الحكم، وتسيطرُ على الثروات والأراضي الشاسعة، وتملك قطعاناً من البشر لم تختلف كثيراً عن الدواب الجاهزة في المقاصب للذبح.
وكنا نتمنى أن يكون شمشون غير جبار، رفيقاً بشعبه، أو جماعته، أو حتى بدائرته الانتخابية، لكن ذلك لم يحصل، ولم نحز شمشون حكيما رئيفا بالناس، بل وجدنا شمشون المجنون وهو نفسه الذي كان في الماضي يهدُ المدنَ على رأس الشعب الذي يحكمه، حالما يمتلكُ قوة من دبابات وصواريخ عابرة وكاسحة للرؤوس، فيركض فوق الشعوب ويغامر بمصائرها وهو يدقُ على صدرهِ مثل غوريلا متعطشة للدماء.
وغالباً ما يختبئ بعد كل انتصاراته المزعومة مؤكداً انه أطاح بالأعداء وهو تحت الأرض مليء باللحم والشحم.
قد يكون شمشون هذا عاملا بسيطا أو بدويا أو تاجرا قادما من وراء البحار أو فلاحا اُضطهدَ كثيراً وتعقد طويلاً، قوته في شعره وليس في عقله، فهو فارغ من البصيرة، حالما يمتلك القوة يُصاب بهياجٍ عنفي سياسي كاسح.
يعتقد شمشون الحمار هذا انه قادر على مواجهة الغرب ورميه بصواريخه، وهو بسبب انه قروي متخلف، يذهلُ من أجهزة الكمبيوتر التي يملكها، ومن المدافع التي تمشي في الاستعراضات بمناسبة سحله الخصوم، وسيطرته على الشعب المسكين الذي حطم عنفوانه بقوى البطش القادمة من غيره، فيتوهم أنه قادر على تحطيم الغرب وأساطيله وطائراته وأقماره الصناعية.
ولكن شمشون غير الجبار هذا يستند إلى جحافل كثيرة من الحمير، أدى اضطهادها الطويل وعيشها في الزرائب الاجتماعية، إلى أن تفقدَ عقولـَها مثلما هو حافظ على شعره السحري القادر على اختراق السماوات السبع، وتعطيل الشمس من دورانها، وتوقيف الأسعار عن ارتفاعها، وجعل الأجنة تتكلم في بطون أمهاتها، وجعل اليمين الاستغلالي مثل اليسار الحماري، وجعل العلوم خرافات.
وقد جرب في لحوم الشعوب كثيراً، ولم يكتف بهدم معبد واحد، أو هدم دولة وحيدة، بل عاثَ في الشرق فساداً، ونشر الخرائب وغالباً فوق رؤوس المساكين، بينما هرب هو وجماعته وحافظ على أملاكه وأسرته، ليعاود الكرات والمغامرات من دون أن يوقفه أحد.
وكلما هدمَ مدناً خرجَ الحميرُ في مظاهرات لتأييده.
وكلما هـُزم شر هزيمة في المعارك التي يخوضها وخسر الجيش وخسر الاقتصاد وترك المدن مفتوحة للغزاة، خرج البغالُ يطالبون باستمراره على العرش.
وكلما حرق قرى وقتل الناس وحاصرته الأمم المتحدة وطالبت باعتقاله خرج المواطنون المخلصون والمثقفون الكبار يطالبون بجعله زعيما كونيا وفرشوا السجاجيد والجلود الحمراء له.
اكتفى شمشون الجبار بهدم معبد واحد وموت حبيبته دليلة لكن شمشون عصرنا مصر على هدم كياننا كله، وكلما رأى قطعة لم تصل إليها يد الخراب بعد استنكر ذلك وأعد الخطط لقبرنا وحرق بلداننا.
القائد يجب ألا يربط نفسه بقوى المصالح الخاصة وأن ينأى بنفسه عنها، وألا يقرر الانتحار وألا يدمر بلده فقط لأن القوى السياسية والشعبية لا تعجبه برامجها ونضالاتها.
حين نقارن بين القيادتين الصينية والروسية في عقود السنوات السابقة الماضية، كان الكثيرون يثنون على نهج القيادة السوفيتية – الروسية الأممي والنضالي العالمي، وفي ذات الوقت يغضون النظر عما يجري في الداخل.
في حين كانت الانتقادات توجه للقيادة الصينية التي ابتعدت عن نهج التدخل في شؤون البلدان الأخرى وتصدير الثورات.
وفيما تصاعد حضور الصين وتطور اقتصادها بشكل هائل لشعب يبلغ أكثر من مليار وثلاثمائة مليون إنسان، تدهور الاقتصاد السوفيتي وتدهورت بشكل كبير الحياة المعيشية للمواطنين السوفييت وفيما بعد الروس.
لماذا؟ لأن الصين وجهت طاقاتها نحو تغيير وتطوير معيشة شعبها وتركت البلدان الأخرى وقضاياها وأزماتها لشعوبها تتصرف كيفما تريد.
لقد أُبعدَ شمشونها الصيني الخاص وهو ماو وتراثه الاستبدادي الذي كان يريد تحويله إلى سيناريو عالمي.
مثل هذه النسخ العالمية وتجاوز الحدود الوطنية للبلدان وتصدير الثورات تعني العجز عن تطوير الاقتصادات الوطنية وجعل الشعوب تعيش بمستويات لائقة.
والأخطر هو سلوك القائد الانتحاري الذي لايزال يعيش في أوهام العظمة الكونية، وأنه يريد أن يصير مثل الاسكندر الأكبر ونابليون وهتلر، وقد تزايدت وسائل الحرب المدمرة ولم تعد الخيول والسيوف هي سيدة المعارك، وظهرت الصواريخ العابرة القارات والقنابل وأسراب الطائرات والغواصات، وفي أي شعرة من تفكير مجنون من شمشون العصر كافية لسحق قارة كاملة بشعوبها.
يكفي أن يوجد شمشون جبار واحد لا يزال واضحا جليا على المسرح هو مجنون كوريا الشمالية، ومن الرعب أن يوجد في كل منطقة شمشونها الخاص الذي يجرب أسلحته في بحارها وأجوائها، ويعد بشرها بالهلاك، متصوراً انه ملك الخطط والجنان وأن على يديه السعادة الغامرة.

صحييفة اخبار الخليج
27 يونيو 2009

اقرأ المزيد