المنشور

المرئي في إيران.. وغير «المرئي»

قبل ثلاثة أشهر أو أكثر، قال المخرج والممثل، والمحلل السياسي الإيراني، الفقيد رضا فاضلي، من ضمن ما قاله في برنامجه الخاص’بشائر الحرية’ بالقناة الأولى للمعارضة الإيرانية: ‘إيران مثل برميل بارود ينتظر شرارة’، وقتها اعتقد بعضنا أنه ‘يهذي بالتمنيات، ولا يحلل سياسياً’، شأنه شأن المعارضين الآخرين، غير أن الذي يجري في إيران اليوم يُثبت صدقْ نبوءته وذلك بعد ‘زوبعة نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة’، وانفجارها ليل الجمعة السبت الماضي بشرارة، لتتفجر بعدها أسئلة كبيرة وكثيرة أيضاً، أبرزها على الإطلاق: ‘هل ما يجري تصحيح لمسار ثورة، أم ثورة على الثورة في إيران؟!’، ‘هل هو انقلاب على السلطة أم على النظام؟، أو هو ‘صراع على مستقبل النظام؟!.
من جهة، يبدو المشهد السياسي في إيران مرئياً: أي، كأنه صراع بين تيارين (إصلاحي ومحافظ) خرجا من رحم الثورة الإسلامية لـ’تصحيح مسار الثورة’، كل حسب رؤيته، ومن جهة أخرى، غير مرئي: ربما تعمل عليه قوى ‘خارجية’ وقوى أخرى داخلية، هُمشت طيلة ثلاثين عاماً، واضطرت للعمل تحت الأرض، ومن بينها أحزاب عريقة، مثل حزب ‘تودة’ (الشيوعي الإيراني) الذي ساهم كغيره من الحركات السياسية والاجتماعية الدينية بجلاء في إسقاط الشاه في فبراير ,1979 يوم كانت شعارات الثورة لا تحمل طابعاً إسلامياً أو مذهبياً، بل التفت الجماهير الإيرانية آنذاك حول ثلاثة أهداف رئيسية هي: ‘إسقاط النظام الشاهنشاهي، وبالتالي، إسقاط ارتباطاته بالإمبريالية الأميركية، ثم إقامة النظام الديمقراطي الحر في إيران’..
غير أنه بعد إسقاط الشاه، وإلى يومنا هذا، جرت مياه كثيرة، حتى بات الانقسام الحاد بين النخب السياسية الحاكمة واضحاً للمراقبين في الداخل الإيراني وخارجه، لكن ما يمور في المجتمع الإيراني الذي ينشد التغيير بشكل شامل، هو فعلاً ‘برميل بارود ينتظر شرارة’، وفق فاضلي، فهل نتائج الانتخابات ومزاعم ‘التزوير والمخالفات فيها’، هي الشرارة التي ستشعل إيران بعد أن تفلت الأمور؟.
في هذا الملف ‘نهاية الأسبوع’، نسلط الضوء على مسائل عدة تجري في الساحة السياسية الإيرانية التي تتجه نحوها أنظار العالم اليوم، رغم محاولات السلطات الإيرانية ‘إخفاءها’ عن أعين الناس عبر الحظر والتعتيم الإعلامي، وفق مبررات، ربما وجيهة من وجهة النظر الرسمية لـ’تخفيف الضغوط ومختلف أنواع الحرب النفسية ضد الزعامة في إيران’.
وكما قال الرئيس محمود أحمدي نجاد الثلثاء الماضي: ‘إن عدداً كثيراً من القنوات الفضائية عملت بأساليب معقدة ضد شعبنا وخططت لجر شعبنا لصراع قوي، لكن شعبنا اختار خياره الكبير في انتخابات كانت حرة ونزيهة’، لكن العالم الحر اليوم بخلاف ما يراه الرئيس الإيراني وغيره من قادة العالم، يُشير إلى غير ذلك، وفق معادلة أصبحت مبدئية مفادها: ‘مَنْ يخشى حرية التعبير … لا بد أن لديه شيئاً/أشياء يخفيها عن أعين الناس!!’، وبالمثل، فإن عالم التكنولوجيا حطم كل أسوار التعتيم الإعلامي، وكذا أسقط من دون رجعة سلطات ‘الرقيب’، حتى وإن كان يملك ‘عين ذيب’ لا تنام.
 
صحيفة الوقت
19 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الوزراء والنواب ومشروع التقاعد وزيادة المكافآت

انفض دور الانعقاد الثالث للفصل التشريعي الثاني لمجلسي الشورى والنواب اعتباراً من يوم 29 مايو .2009 بعد حصول النواب على حصة نصيب الأسد، وذلك بإقرار مشروع قانون تقاعد الوزراء والنواب والبلديين، الذي بموجبه وحيثياته سيتقاضى النواب والبلديون الذين أمضوا 4 سنوات معاشات تقاعدية بنسبة 50% من مكافآتهم.. بينما الذين أمضوا 8 سنوات فانهم سيتقاضون 80% من مكافآتهم.
إن حصول النواب والبلديين على الراتب التقاعدي جاء نتيجة لاستماتة مختلف الكتل الإسلامية منذ دور الانعقاد الأول للفصل التشريعي الثاني، ودعمها بكل قوة لـ “مشروع الراتب التقاعدي” الذي دخل في نهاية المطاف حيز التنفيذ وتحقق في دائرة الضوء خلال دور الانعقاد الثالث للفصل التشريعي الثاني.
وبحسب ما استمات نواب الكتل الإسلامية كافة منذ دور الانعقاد الأول للفصل التشريعي الثاني وفي مقدمتهم نواب كتلتي “الأصالة والمنبر الإسلامي” من أجل تحقيق مشروع الزيادة للوزراء والنواب والبلديين، إلا أن استماتتهم آنذاك أخذت في التلاشي والأضمحلال.. ومن ثم بلع أولئك النواب الإسلاميون ألسنتهم وآثروا الصمت، بعد أن واجهتهم عاصفة وغضبة الاحتجاجات الشعبية من جماهير شعب البحرين، بمزيد من الضغوط والانتقادات.. وبعد ان أعلن الناخبون شديد استيائهم وامتعاضهم إزاء تلك الأطماع الوصولية لنواب تيار الإسلام السياسي.. ولكن انتهازية هؤلاء النواب دفعت بهم إلى أن يضعوا القطن في آذانهم للحيلولة دون الإنصات، وحشوا أفواههم بالعجين من أجل عدم الحديث أو التعليق.. حتى وصلوا الى نقطة مآربهم، وتوصلوا الى مرتكز غاياتهم حين تبنيهم أساليب ديماغوجية، واتباعهم إجراءات تضليلية، واتخاذهم سياسات ملتوية، انطلاقا من إيمانهم بأن مشروع زيادة الرواتب وزيادة المكافآت المقررة للوزراء والنواب والشوريين قائم منذ دور الانعقاد الأول للفصل التشريعي الثاني.
ولعل تصريح النائب السلفي جاسم السعيدي للصحافة المحلية بتاريخ 25 مايو 2009م قائلا “ان مشروع زيادة مكافآت النواب ومشروع صندوق تقاعد الشورى والنواب هدر للمال العام” هو ضحك على العقول والذقون.. كما أن رفض لجنة الخدمات البرلمانية هذه الزيادة لأعضاء مجلسي النواب والشورى، هو محاولة لرفع الحرج والحفاظ على ماء الوجه في المظهر وعلنا.. ولكن ما حدث في الجوهر وفي السر وما بين الكواليس ما بين الحكومة والمجلس الوطني، وهو ما كشفته مصادر برلمانية للصحافة المحلية من أجل تحقيق هذه الزيادة في رواتب ومكافآت النواب والشوريين، يكمن في “صدور مرسوم يتعلق بمشروع قانون بتعديل بعض أحكام المرسوم بقانون رقم “15” لسنة 2002، بشأن مجلسي النواب والشورى”.
ولعل القول يبقى صحيحاً ان إقرار مشروع قانون تقاعد النواب والبلديين خلال 4 سنوات أو 8 سنوات أمضوها على الكرسي النيابي أو الكرسي البلدي، هو مخالف للدستور، ومتناقض مع قانون التقاعد، ومتعارض مع قوانين ديوان الخدمة المدنية، مثلما يمثل ازدراء للمتقاعدين، وخاصة المسحوقين من الطبقات الدنيا والذين امتدت خدماتهم الوظيفية ما بين (30 و40 عاما).. كما ان زيادة مكافآت أعضاء مجلس النواب ومجلس الشورى والمجالس البلدية، تمثل بجلاء تلاعباً بالمال العام وهدراً لمقدرات الشعب.
وبحسب ما يمثل مشروع التقاعد هذا ومشروع زيادة الرواتب والمكافآت للوزراء وأعضاء الشورى والنواب والمجالس البلدية ضربة قاصمة للمواطنين بمعاناتهم المعيشية البائسة والمؤلمة، وبتصريحاتهم الأكثر إيلاما التي أدلوا بها، ونشرت في جريدة “أخبار الخليج” بتاريخ 21 مايو 2009م قائلين “النواب تناسوا حقوق من أوصلوهم الى مقاعد المجلس غير اننا فوجئنا باستماتتهم على ضمان مستقبلهم متناسين حاضر ومستقبل الطيف الأكبر من المواطنين”.
ونحن بدورنا نستطيع القول ان نوابا كهؤلاء تمسكوا بمصالحهم وأطماعهم بانتهازية ميكيافيلية، وسعيهم إلى الاستئثار بالمناصب والمغانم، فإنهم يظلون خارجين عن ثقة الشعب واحترام الناخبين.. نوابا كهؤلاء يحاولون بتصريحاتهم العلنية استقطاب المواطنين والناخبين ومحاولة كسب رضاهم واحترامهم وثقتهم في الوقت الذي يسعون فيه في السر ومن وراء الكواليس الى المحافظة على ضمان حاضرهم ومستقبلهم حتى ان اتسما بأساليب ملتوية وغير مشروعة.. نوابا كهؤلاء اتخذوا البرلمان للانقسامات الطائفية والاصطفافات المذهبية والفئوية، فإنهم لا يستحقون قدسية هذا الموقع ونبل هذا المنصب، لكونهم يسيئون للحرية والديمقراطية والدستور والسلطة التشريعية.. نوابا كهؤلاء افتقدوا مواصفات “النائب الحقيقي الملتزم بمسئوليات شعبه ومهمات وقضايا ناخبيه).. فإنهم يظلون غير أكفاء كممثلين للشعب لأنهم ليسوا أهلا وغير أكفاء بحمل قضايا التشريع وسن القوانين ومساءلة السلطة التنفيذية تحت قبة البرلمان.

صحيفة اخبار الخليج
19 يونيو 2009

اقرأ المزيد

بنت المنبوذين.. رئيسة للبرلمان الهندي

مازالت الهند وعلى الرغم من مرور ستة عقود على نيل استقلالها الوطني (عام 1947م) صامدة سياسيا بنظامها الديمقراطي الدستوري العريق في بلد يُعد من أكثر بلدان العالم فقراً وثاني بلد في عدد السكان (مليار ونيف) بعد الصين، ومن أكثر بلدان العالم في تنوع فسيفساء تركيبته الاثنية والقومية والدينية والطائفية والثقافية. ولك أن تتأمل وتتخيل مصير ووضع هذه الدولة التي توصف بأنها ذات أكبر الديمقراطيات في العالم، نظراً لكثافتها السكانية المرتفعة، لولا لم ترس دعائم متينة لنظامها الديمقراطي منذ غداة استقلالها وهو النظام الذي أضحى مرجعية لكل المواطنين الهنود، بمختلف قواهم السياسية والدينية والقومية، يحتكمون إلى قواعده وقوانينه الدستورية المستقرة في إدارة خلافاتهم وصراعاتهم التي تصل في أحايين غير قليلة إلى الاقتتال، أوليس كان وضع هذه الدولة أكثر تمزقاً وأكثر معاناة من الحروب الأهلية المتنوعة؟ فعلى الرغم من كل هذه الحروب والصراعات التي مرت بها الهند منذ عشية استقلالها عام 1947م والتي وصل بعضها إلى الانفصال على أسس دينية عن الدولة الأم، كانفصال المنطقة التي تعرف الآن بدولة باكستان والتي انفصلت عنها بعدئذ عام 1971م، وما تعرف الآن بـ “جمهورية بنجلاديش”، فإن النظام السياسي الديمقراطي الهندي مازالت دعائمه وطيدة مستقرة وأكثر مناعة وقوة على عكس الوضع الدائم الاضطراب الذي ما انفك يواجهه النظامان السياسيان في البلدين الهنديين المنفصلين عن الوطن الأم (باكستان وبنجلاديش) مما أثر في تماسك كل منهما وتعرضه للزعزعة وعدم الاستقرار قياساً بصلابة دعائم النظام السياسي الديمقراطي الهندي الذي أضحى عريقا ومتماسكا، على الرغم مما تمر به البلاد من تحديات وصعوبات أمنية وسياسية واقتصادية.
ولئن كانت الهند قد عرفت بأنها صاحبة أكبر نظام ديمقراطي في العالم فإنها وبفضل هذا النظام مازالت قادرة على تقديم انجازات تقدمية وتطورات ملهمة في سياق تطور هذا النظام الديمقراطي على الصعيد العالمي بوجه عام وعلى صعيد العالم الثالث بوجه خاص، ولعل آخر هذه التطورات المهمة انتخاب ميرا كومار كأول امرأة رئيسة لأكبر سلطة تشريعية منتخبة في العالم. وقد جاءت مبادرة ترشيحها إلى هذا المنصب المهم من قبل رئيسة التحالف التقدمي المتحد سونيا غاندي، وعلى الرغم من الانقسامات التي تشهدها الحياة السياسية والاجتماعية الهندية التي تعكس نفسها على صراعات ممثلي القوى السياسية والدينية والقومية في البرلمان الهندي، فإن اللافت والجدير بالاعجاب هو أن ميرا كومار فازت باجماع كل النواب على اختلاف انتماءاتهم المذكورة.
وفي بادرة تعكس الروح الديمقراطية التي أصّلتها التقاليد الديمقراطية الهندية المديدة المجيدة توجّه كل من رئيس الوزراء مانموهان سينج وزعيم حزب بهاراتيا جاناتا إل كيه أدفاني إلى رئيسة السلطة التشريعية لتهنئتها بهذه الثقة الشعبية الغالية الفريدة من نوعها التي تمثل حدثا تاريخيا ديمقراطيا حضاريا غير مسبوق في تاريخ البلاد السياسي والديمقراطي الحديث منذ نيله استقلاله.
وإذا كان انتخاب امرأة رئيسة لأعلى المناصب الدستورية أي رئيسة للسلطة التشريعية المنتخبة انتخابا حرا كاملا، أي على رأس أكبر برلمان منتخب في العالم الثالث والعالم بأسره، يعد في حد ذاته حدثا تاريخيا غير مسبوق فإنه لا يمكن استكمال فهم دلالة هذا الحدث التاريخي ومغزاه الحضاري ما لم نعرف هوية وسيرة المرأة المنتخبة السيدة ميرا كومار حيث ان ارتقاءها إلى هذا المنصب يعد في حد ذاته ملحمة تاريخية اجتماعية جديرة بالتأمل والاتعاظ من قبل الحركات السياسية المستنيرة التي تناضل من أجل حقوق ومساواة المرأة بالرجل بوجه عام ومن قبل الحركات النسوية بوجه خاص، ناهيك عن دلالات ومغزى الحدث من حيث النضال من أجل تحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية.
ذلك أن ميرا كومار كانت تنتمي إلى طائفة تعرف في الهند بـ “طائفة المنبوذين” وهي طبقة فقيرة لطالما عانت تاريخيا التمييز والظلم الاجتماعي على امتداد قرون طويلة على أيدي أبناء الطبقة العليا للهندوس على الرغم من أنها تشكل اليوم 16% من سكان البلاد، أي ما يقرب من 160 مليونا، ومع أن الدستور الهندي أنصف حقوقيا طبقة المنبوذين عام 1950م وحظر كل أشكال التمييز ضدها، وأقر مساواتها سياسيا بسائر الطبقات إلا أن تقاليد وأعراف التمييز والنظرة الدونية لهذه الطبقة مازالت قائمة. ومن هنا يمكننا بالضبط فهم الملحمة السياسية والاجتماعية التي اجترحتها بكل جدارة كومار حتى ارتقاءها رئاسة البرلمان المنتخب الممثل لأكثر من مليار مواطن هم اجمالي سكان الهند إذ ان هذه المرأة العصامية شقت طريقها الوعر إلى هذا المنصب وسط ظروف وعرة وبالغة التعقيد، وكان عليها أن تتخطى بشجاعة ومثابرة حواجز اجتماعية وسياسية، فبالإضافة إلى حاجز “الجندر” كونها تعيش في مجتمع ذكوري الهيمنة والوعي والثقافة، كسائر مجتمعات العالم، فضلاً عن الحاجز الطبقي كونها تنتمي إلى طبقة المنبوذين، وتمكنت من نيل شهادة القانون والماجستير في اللغة الانجليزية، وكانت ناشطة في عدة منظمات ثقافية واجتماعية وكان والدها الراحل مناضلاً في صفوف حزب المؤتمر. وبعد أن عملت كومار في السلك الدبلوماسي عام 1973م متقلدة مناصب دبلوماسية عديدة في الخارج استقالت من وزارة الخارجية عام 1985م لتتفرغ للعمل السياسي والجماهيري. وسبق لها أن عينت وزيرة للشئون الاجتماعية وتبنت قضايا اجتماعية مثيرة للجدل والانقسام في المجتمع الهندي، ومن ذلك تخصيصها مكافأة 1200 دولار للزيجات المختلطة الطوائف والطبقات.
وبعد، أليست في سيرة هذه المناضلة السياسية النسوية وبعد انتخابها بجدارة لرئاسة البرلمان الهندي ما يدفع جمعياتنا السياسية والنسائية إلى استضافتها لإلقاء محاضرة تحكي خلالها تجربتها الفذة ولاسيما في ضوء ما يربطنا بالهند من علاقات حميمة؟
وأعتقد أن البعثة الدبلوماسية الهندية يمكنها أن تقدم، بكل ترحيب، كل التسهيلات الممكنة لمساعدة الجهة البحرينية التي تود استضافة تلك الشخصية القيادية النسائية الكبيرة.

صحيفة اخبار الخليج
19 يونيو 2009

اقرأ المزيد

لبنان مُركبٌ من رأسماليتين

لعبتْ الرأسمالية الخاصة في لبنان دوراً كبيراً بسببِ أنه لا توجدُ دولة مركزية ذات أملاك كبيرة، وكان جهازُ الدولةِ يتسمُ بالضعفِ واللامركزيةِ في عقودٍ سابقة طويلة.
هذا جعل القطاع الخاص ينمو بصورةٍ كبيرة ويتفوق على جهاز الدولة الاقتصادي خاصة، وهذا ما جعل من لبنان دولة تحديثية تتسم بالتطور والحيوية والانفتاح، لكن القطاع الخاص نشأ من “أثدي” الاقتصاد التقليدي ومن الأسر الإقطاعية ذات الإنتاج الزراعي عامة.
لم تستطع الرأسمالية الخاصة أن تغذي الحداثة بشكل سياسي واسع، فهي رأسمالية ذات حضور تجاري من دون قواعد صناعية صلبة، (وكان هذا كله متجذرا في تاريخه الحضاري).
وضع الرأسمالية الخاصة وهي الموجودة في المشرق حيث الحضور الكبير للرأسماليات لحكومية جعلها مُخترقة من قبل هذه الرأسماليات الحكومية الشرقية القوية سياسيا وماليا. مثلما كان لبنان الماضي مُخترقاً من قبل الإمبراطوريات المشرقية الاستبدادية.
وما هو تجاري معاصرٌ خاصٌ يسعى إلى استقطاب الرساميل والشراكة معها، ويغدو وكيلا تجاريا، ثم يصيرُ وكيلا حزبيا وسياسيا، فتقيدُ الفوائدُ حرياتهِ الفكرية.
حدثَ اعتمادٌ لبناني على الحركات القومية والاشتراكية في فترة سابقة، حين كانت الأنظمة الرأسمالية الحكومية الشمولية كالنظام الناصري والسوفيتي والسوري ذات حضور كبير في المنطقة ولها جمهورها الحاشد وقدراتها المالية المؤثرة، ومن هنا كان الوكلاء السياسيون والمجلات الفكرية والأدبية والصحف ذات ألوان عاكسة لذلك الطيف السياسي العالمي والمناطقي.
إن تأييدَ أطيافٍ من الرأسمالية الخاصة اللبنانية لهذه الشموليات جعلها براجماتية وعملية وشعارية سياسيا، وهذا ما جعل جبهة القوى الوطنية واليسارية اللبنانية، والفلسطينية التي كانت صدى آخر في ظروف مختلفة، تعكسُ الخارجَ المسيطر من دون أن يطرأ على الداخل الرأسمالي الخاص سوى النمو الكمي.
من جهةٍ أخرى نجد القوى الممثلة للرأسمالية الخاصة الصميمة، التي هي صدى وفاعليات للرأسمالية الغربية بمناخها المسيحي غالباً، كالكتائب، ترابضُ عند مقولاتِ السوق الحرة والليبرالية غير العميقة، بسبب كونها ترتكز على عالم الضيعة والإقطاع الديني المتشكلين في المناخ المسيحي – الغربي المتضافر في العصر الحديث.
فهي كلها إذ تلتقي على روح الدكان الحر كشكلٍ للتوزيع التجاري، مشدودة بألفِ حبلٍ للأنظمة ما قبل الرأسمالية ولتطوراتها في الشرق وللوعي الفاشي الغربي كذلك.
حين تراجعَ مدُ الرأسمالياتِ الحكومية الشرقية المقاربة لحد ما للعلمانية، فهي تـُحيدُ الأديانَ عن العملية السياسية المباشرة، أخذ التجارُ السياسيون والاقتصاديون اللبنانيون يتطلعون لمصادر ثروةٍ جديدة.
وأغلب مصادر الثروة كانت في النفط، وكانت دولُ السعودية والعراق وإيران هي الدول البارزة في مثل هذا الإنتاج، فتحولت التجارة اللبنانية بنسبة كبيرة لهذه الدول وأشباهها.
هنا برزت تكويناتٌ تنظيمية سياسية مغايرة، ويبدو في مثل هذه التنظيمات التي انتفختْ بسرعةِ بسببِ رياحٍ نفطيةٍ هوائية قوية، الطابع الديناميكي للتحولات في لبنان، وكذلك هشاشة الحدود السياسية والفكرية، وسرعان ما برز تنظيمان رئيسيان هما حزبُ المستقبل وحزب الله يعكسان واقع الدولتين الكبريين في تصدير النفط في المنطقة وهما السعودية وإيران.
بطبيعة الحال كان لهذا كله جذوره اللبنانية الخاصة، فليس للرأسماليةِ الخاصة قوة تشكيل دولة لا تـُخترق، بشكلٍ عام في المراحل كافة، ولكن الآن كان التأثرُ والانعكاسُ تصادميين بقوةٍ في النسيج الإسلامي أكثر منه صراعاً بين المسلمين والمسيحيين كما كان في السابق، أي أنه يجري حسب إيقاع الدولتين النفطيتين ومساراتهما السياسية واختلافهما المذهبي وصراعهما. إنه صراعٌ طائفي بين المسلمين بدرجةٍ أساسية. وصار المسيحيون تابعين للصراع الإسلامي، مثلما أن التجارَ صاروا تابعين للنفط.
كان لبنان يعيشُ سابقاً على إيقاعِ صراع المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، التحرري والتابع، كما كانت تذكرُ مصطلحاتُ ذلك الزمن، التي تعكس مرحلة نمو الرأسماليات الشرقية القومية ومحاولاتها بناء ذاتها في مواجهةِ التدخل الأجنبي.
الآن حدثت درجة من الانفكاك لدول كثيرة في الشرق عن الرأسمالية الحكومية المعادية للغرب بشكل حاد، فالعديد من الدول العربية انتقلت من هذه المركزية الصراعية والشمولية إلى درجات من الانفتاح، من التبعية الكبيرة للغرب إلى درجاتٍ من الاستقلال.
لقد اصطفت الشمولياتُ الشرقية عبر تاريخ لبنان السياسي في كياناتٍ صغيرة وجاءتْ الشمولياتُ الدينية الجديدة في تكوينين كبيرين.
الماركسيون والقوميون والناصريون والبعثيون يمثلون شموليات قديمة وجدتْ نفسَها في كتلٍ صغيرة مُفتتةٍ عسكتْ الزمنَ القديمَ وأشباحَهُ الكثيرة، فانسابتْ وراء القطب المذهبي الكبير المشرقي غير المؤيد لديمقراطية الغرب والحداثة. وهذا كله تعبيرٌ عن المسار البيروقراطي الجماعي لكل تلك الدول المشرقية الاستبدادية التي غربتْ والتي لم تغرُبْ بعد، في عدائِها الضيق للغرب ولتخلف استغلالها للجمهور العربي كذلك واعتمادها على أجهزة الدول القمعية.
التنظيمان الشموليان المذهبيان الجديدان اللذان عكسا دولتي النفط البارزتين في المنطقة استقطبا الكويكبات السياسية المنفلتة في الفضاء اللبناني بعد انفجارات الكواكب السوفيتية والبعثية والناصرية.
ولم يقدمْ حزبُ الشمولية الشرقية النفطية السنية شيئاً متجاوزاً للماضي، فهو يقدمُ أفكاراً شبحية ديمقراطية، ولايزالُ يعكسُ البرجوازية التجارية المشدودة للخارج، العاجزة عن إنتاجِ وتجميعِ الشظايا من الفئات الوسطى لتشكيل برجوازية صناعية – تقنية – علمية متجذرة في الأرض.
صحيح إنه أقرب لديمقراطية الغرب لكن عبر الشعارات، وتحتاج هذه الشعارات إلى تأصيل.
لكن هل يستطيع حزب تشكل بين ليلة وضحاها أن يعبر عن طبقة مفتتة وضعيفة؟
كذلك فإن تحالفاته لا تختلف عن تحالفات الزمن القديم والزمن الجديد فهي تكتيكية، وهي تحتاجُ إلى تعميق ذواتها وتوسيعها مع القوى الأخرى عبر القسمات الرئيسية للحداثة وهي العلمانية والديمقراطية والعقلانية، بحيث تنتج وعيا وطنيا مغايرا لماضي الضيعات المقسمة، فيظهر المواطن اللبناني الحر العلماني، وهي مسألة ثقافية طويلة، مثلما يتم تجاوز التجارة كمصدر رئيسي للاقتصاد.

صحيفة اخبار الخليج
19 يونيو 2009

اقرأ المزيد

اغـتيال الشفافية.. !


سمو ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية أكد على أهمية تكريس الشفافية والنزاهة للحفاظ على المال العام والحيلولة دون استغلال المنصب العام ومخالفة السياسات العامة المعتمدة. رئيس مجلس إدارة شركة المنيوم البحرين «ألبا» أشاد بالشفافية التي أظهرتها الإدارة العليا للشركة في قضية التسوية التي تمت مع شركة جلينكور السويسرية. وزير شؤون النفط والغاز أكد على أهمية الشفافية واعتبرها عنصراً رئيسياً من عناصر المساءلة والإدارة على صعيد المؤسسات العامة والخاصة وحتى مؤسسات المجتمع المدني. مؤتمر الشفافية في إدارة الأعمال ومسؤولية المؤسسات التجارية التي انعقد بالبحرين مؤخراً، أكد بأن الشفافية والحوكمة في الإدارة ميزة تنافسية وغيابها يسبب انتكاسات.

قبل ذلك أكدت الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030 على دور الشفافية في التنمية الاقتصادية، وفي أكثر من موقع شددت الرؤية على هذا الدور سواء على صعيد «إيجاد نظام رقابي حكومي واضح وشفاف»، أو في مجال «المراجعة الشاملة للعمليات والهيكليات التنظيمية لتحسينها وزيادة الشفافية» وأيضاً فيما يخص « تحفيز وتعزيز العدالة التي أكدت الرؤية على إمكانية تحقيقها عبر التزام القطاعين العام والخاص بالشفافية».

 الكل بات يتحدث عن الشفافية أو يطالب بها ووجدنا إلى أي مدى أصبح مصطلح «الشفافية» حاضراً أثناء تناول كل شأن من شؤون الوطن، وقضايا المواطن، وجدنا المطالبة بالشفافية وبقوة خلال إثارة قضايا مثل علاوة الغلاء، الإسكان، التجنيس، البعثات والمنح الدراسية، أعمال المصارف، والشركات والبورصة، وفيما يخص المناقصات، والتقارير المالية للمؤسسات العامة، وحتى فيما يخص الأزمة المالية العالمية كانت المطالبة بالشفافية في التعاطي مع تداعيات هذه الأزمة وفي إجراءات الدولة لاحتوائها، حتى في أعمال مؤسسات المجتمع المدني والتعاطي مع الشأن الوطني كان مطلب الشفافية مطروحاً في كل مرة، كما وجدنا من يدعي وصلاً بالشفافية والتزاماً بها وبمبادئها وبقواعدها ومتطلباتها، واذا كان هناك من يحاول فعل ذلك حقاً، فقد وجدنا بالمقابل من اغتال المعني عن سابق اصرار واكتفى بالاحتماء بالمصطلح.

ليكن معلوماً للجميع أن الشفافية أصبحت في أعمال أي دولة ركناً جوهرياً من أركان تطورها وتقدمها، وبات ينظر لها بأنها حق من حقوق المواطن على الدولة، وواجب من واجبات الدولة تجاه المواطن، ومن يؤمن بالشفافية فهو يؤمن بالرقابة على العمل والأداء العام، وبالمساءلة والمحاسبة الفعالة، كما يؤمن بتقويم الأداء وتصحيحه، وتجنب الوقوع في الأخطاء وتكرارها، كما يؤمن بالتواصل مع الناس، وبتعزيز ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها، وأخيراً فهو يؤمن بأن الشفافية هي عنصر مهم في ترسيخ الديمقراطية.

الشفافية ليست ترفاً بل ضرورة لمن يريد أن يحوز على ثقة المواطن، وثقة المستثمر، وثقة المجتمع الدولي ، وعلى من يرفض الشفافية وفي حق المواطن في أن يعرف عليه أن يتحمل شكوك الناس وحتى إساءة الظن فيه ، فالشفافية تقوم على مبدأ يرتكز بأنه ليس هناك في الشأن العام ما يخفى على المواطن، وهذا يعني أن الشفافية تعني الوضوح، وضوح الوظيفة، وضوح الواجبات، وضوح سير المعاملات، وضوح سير أداء المسؤول دوره، وضوح المصادر، ووضوح الصرف والإنفاق، وبشكل عام وضوح كل مجريات الأمور ذات الصلة بالشأن العام والمال العام.

 والشفافية في أدبيات منظمة الشفافية الدولية لها ارتباط وثيق بالمساءلة والمحاسبة، فمن لا يعرف ماذا يجري لا يمكن أن يحاسب، ومن يعمل في الخفاء خلف أبواب مغلقة لا يريد أن يحاسب ويعمل ما بوسعه للحيلولة دون أن يحاسب أو يساءل، ومن هنا فإن الشفافية والمساءلة تمثلان مساراً واحداً، ففي غياب الشفافية لا يمكن وجود مساءلة، وما لم تكن هناك مساءلة لن يكون للشفافية أي قيمة، ومادامت الشفافية غائبة أو مغيبة لن يكون لأي جهد يبذل لمواجهة الفساد والتصدي للتجاوزات أي وزن أو اعتبار، ومن هذه الزاوية أصبحت الشفافية أهم سلاح في مقاومة الفساد، وكلما تراجعت الشفافية في أي بلد زاد الفساد.

 إذن الشفافية هي من مقومات الدولة الحديثة، وباتت هيبة ومصداقية أي دولة، ودرجة الموثوقية فيها وفي مناخ الأعمال والاستثمار فيها مربوطاً بمدى ما تتمتع به هذه الدولة من شفافية، وأصبحت العديد من الهيئات والمنظمات الدولية بما فيها منظمة الشفافية الدولية، وصندوق النقد الدولي في تقاريرها تدق بعنف شديد أجراس الإنذار لتحذير الدول من مغبة انخفاض أو تراجع مستوى الشفافية فيها، ومع صدور ميثاق الأمم المتحدة لمحاربة الفساد، والاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي باتت البحرين على وشك المصادقة عليها فإن مسألة الشفافية لابد أن تأخذ مساراً آخر من الاهتمام يرسخها ويخلق لها حضوراً حقيقياً وملموساً في الحياة العامة في جميع المجالات لتكون اداة فاعلة في الرقابة والمساءلة والمحاسبة والتقويم والتصحيح والتصويب والإصلاح ومحاربة الفساد وإيقاف استفحاله في المجتمع.

دعونا نعود إلى موضوع الشفافية التي قلنا بأنها تعني حقاً من حقوق المواطن على الدولة، وواجبا من واجبات الدولة تجاه المواطن والرأي العام، فمن باب الشفافية التـــي أشاد بها رئيس مجلس إدارة «ألبا» حينما أجرت هذه الشركة تسوية مع الشركـــة السويسريــــــــة «غلين كور العالمية» وتالياً حينما شدد خلال اجتماعه باللجنة المالية النيابية على أن تلك التسوية لم تكن على حساب مصالح البحرين وأنها جاءت من مبدأ مكافحة الفساد، فإننا نرى أن ذلك الكلام الجميل ليس كافيا ليصرف النظر عن اسئلة هي في محلها ووقتها ولابد من مواجهتها حيث لا أحد يعلم تفاصيل التسوية، وحجم المبالغ التي استردت مقابل تلك التسوية؟ وما هي الإجراءات التي اتخذت بحق المسؤولين المتهمين في هذه القضية؟ هل تمت محاسبتهم أو مقاضاتهم؟ ثم التزاماً بالشفافية إلا يحق للمواطن والرأي العام البحريني أن يتساءل ما هي حكاية الشركات الأربع التي تتفــــاوض «ألبا» معها لبحث تسويات أخرى معها، وهل هذه الشركات هي نهاية المطاف ؟هذا ما على الرأي العام أن يعرفه التزاماً بالشفافية، وأيضاً من هذه الزاوية فإن من حق الرأي العام في البحرين أن يحاط علماً بمجريات قضية الفساد المليارية، فهل من يطمئننا بأن القضية لازالت منظورة أمام المحاكم الأمريكية المختصة.
 
صحيفة الايام
19 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الرأسمالية الحكومية البولندية

في وسط أوروبا عبرت بولندا عن الانسحاق بين العمالقة الكبار، فهي تواجه روسيا من الشرق وتواجه ألمانيا من الغرب، ومن التخلف الإقطاعي راحت تشكل تجربة نهضوية صناعية بعد الحرب العالمية الثانية. ومرة تغزوها ألمانيا الهتلرية وتلغيها من خريطة التاريخ ومرة تغزوها روسيا (الاتحاد السوفيتي) وتقتطعُ منها أقاليم، ثم تغزوها بشكل كامل بعد الحرب العالمية الثانية.
وبين الأرثوذكسية أو الماركسية في الشرق وبين الهتلرية والبروتستانتية في الغرب حافظت بولندا وجاراتها الأخريات على الكثلكة كهوية دينية مغايرة للجيران الكبار الأقوياء.
وحين تمت السيطرة عليها من قبل الاتحاد السوفيتي شهدت تطورها الصناعي الكبير، لكن المتوقف بعد فترة، والمقولب حسب سيطرة أجنبية، ومن هنا تصاعدت المشاعر القومية الكبيرة المحبوسة.
لكن بولندا دخلت الاشتراكية من خلال السيطرة العسكرية الروسية فلم تنبثق بشكل داخلي عميق، و(الاشتراكية) كما هي في النسخ الشرقية الرأسمالية الحكومية، حيث تغدو الدولة (الرأسمالي الأكبر) تتطور بقوة ثم تتجمد لقوانين اقتصادية داخلية.
بعد الحرب العالمية الثانية تصنعت بولندا وأممت المصانع، وتهمشت الفئاتُ الوسطى وغدا مكان نموها هو دهاليز الدولة الرأسمالية الحكومية، وإذ قدمت حياة تقشفية مسيطرة على الأوضاع الاقتصادية ووسعت أعداد العمال لتغدو عشرة ملايين عامل وأكثر(البلاد تحوي ما يقارب حاليا أربعين مليونا)، حدث لها ركود اقتصادي بسبب تلك الملكية العامة البيروقراطية، وكان الفلاحون قد رفضوا تجربة التعاونيات مما أوجد قوى مالكة مناوئة.
عبرت الكاثوليكية عن وحدة الشعب البولندي وأداة تشكله السياسي، وهو أمرٌ مشابه للكثير من التجارب حيث يقوم مذهبٌ ديني بتشكيل الهيكل السياسي لشعب تم تمزيقه مرات عديدة وألغيت الدولة من الخريطة السياسية بضع مرات.
وكما كانت (الماركسية – اللينينية) هي صيغة تلك الرأسمالية الحكومية البيروقراطية التي طورت تصنيع بولندا بشكل كبير خلال عقدين من السنين، كانت هي كذلك معبرة عن الطواقم البيروقراطية التي فسدت مع غياب الديمقراطية بأدواتها المختلفة.
ولكن الجانب المهم هنا هو تغييب الكاثوليكية وهي الوجه القومي المعبر عن الهوية الوطنية، في ظرف يتم فيه إلحاق بولندا بالسياسة الروسية، والتبعية هذه تمثل جرحا قوميا لهذا الشعب. إلغاء الهوية هنا مزدوج ولكن الهوية تصحو خاصة مع سوء العيش الاقتصادي.
صحوة العمال البولنديين على إيقاع الكنيسة تمثل فشل الماركسية المستوردة التي لم تقدرْ هنا على التغلغل في طبيعة هذا الشعب وتجربته الخاصة، فجاءت كقوالب من الخارج، من دون أن تعطي هذه الكنيسة دورها التاريخي، وتجمع بين الماضي بتراثه والماركسية بتفتحها وقراءتها للواقع.
وبؤرة التحرك تستند دائماً إلى قضايا معيشية، تعبر عن ضعف هيكل الرأسمالية الحكومية وعدم قدرتها على حل مشكلات الاقتصاد، بحيث يتحول العمال أدوات لاستنزافها وهم يعيشون في ظروف معيشية صعبة، ولهذا كان التصادم في (جدانسك) – ورش تصليح بناء السفن – غير سياسي من الناحية الظاهرية، لكنه سياسي بشكل عميق بسبب أن الدولة التي تقول إنها ممثلة العمال والمعبرة عن قضاياهم تقفُ ضد العمال، أي أنها لم تعد تمثل العمال سياسيا، لم تعد دولة الطبقة العاملة.
وكونها دولة بحد ذاتها يعني أنها ليست مع العمال، لأن الدولة أي دولة هي جهاز قهر طبقي، والدولة في الاشتراكية غير موجودة فهي دولة قد ذابت في المؤسسات الاجتماعية، وحينئذ في المستقبل الاقتصادي المتطور تزول الطبقات بفعل قوانين الاقتصاد التقني وثورات الإنتاج الكبرى، أما هنا فهي دولة رأسمالية حكومية لها مسارات التطور الخاصة بكل بلد، وفي بولندا كانت تعكس سيطرة الفئات الوسطى المتنامية داخل هذه الأجهزة، وحيث يحدث الفراق بينها وهي نامية لأعلى، والجماهير الناقعة النازلة في الحاجة والفقر.
هنا تظهر الغيبياتُ وقت الأزمة، يظهر ليخ فاليسا والبابا بولس الثاني، تتداخل المؤامرات السياسية والأزمة الاجتماعية، تتداخل النقابات المناضلة لتطوير حياة العمال مع قيادة معركة الديمقراطية وتطوير الماركسية البولندية كذلك في عملية تاريخية متضادة مركبة.
طرحت نقابات (التضامن) مسائل زيادة الأجور وتحسين أوضاع العمل ثم ما لبثت أن طرحت قضايا الحرية والديمقراطية وحولت تنظيمها النقابي إلى اتحاد مستقل مناهض للاتحاد الحكومي البيروقراطي الذي لم يكن يدافع عن مصالح العمال بل عن الإدارات، ثم انضم إليه عشرة ملايين عامل، وبدأت مواجهات مطولة بين الرأسمالية الحكومية المتجمدة والشعب البولندي عموماً.
إن دخول الكنيسة الكاثوليكية كان مهما لتجميع ملايين العمال في وقت فقدوا الثقة بنقاباتهم الحكومية والاقتصاد العام بتوجهه الراهن، فغدت الكنيسة هي القيادة الفكرية السياسية، وفي ذلك الوقت كان بداية صعود موجة المحافظين الجدد في أمريكا وبريطانيا، الذين دخلوا في عمليات هجومية ضد الاشتراكية (الرأسماليات الحكومية الشرقية) لتوسيع أسواقهم.
قام بولس الثاني وهو المواطن البولندي باحتلال عرش البابوية، فوجه من مركزه دعما قويا لنقابة تضامن، وكان محافظا مضادا للتطورات الديمقراطية في الكنيسة فطرد العديد من المصلحين التحديثيين، وكان ذلك تعبيراً عن العداء الصارخ للماركسية والليبرالية، وكذلك عن محدودية الكثلكة في فهم مجريات الصراع الاجتماعي.
وكان يقول “انّ البابوية عماد السلطة والسلطان وبالإرادة الإلهية المطلقة عبر كلمة المسيح المأثورة لبطرس وعنه: على هذه الصخرة أبني كنيستي”.
وإذ لعبت الكثلكة البولندية دور تقويض الرأسمالية الحكومية الشمولية، فإنها لعبت دور تجديد الماركسية من دون قصد منها، فقوضت النظامَ الدكتاتوري، وخرج حزبُ العمال البولندي الموحد من السلطة وبدل اسمه وأفكاره، وخاض الانتخابات على الأساس الديمقراطي فعاد للحكم.
إن وعي العمال تحول في خضم الصراع الاقتصادي على ملكية الدولة، وعلى الإجراءات التي قام بها ليخ فاليسا قائد (الثورة)، الذي أراد نظاما رأسماليا خاصا يقوض ملكية الدولة العامة التي كانت إنجازا تاريخيا، وأدت قيادته إلى فقدان العمال لمكاسبهم، فأعادوا حكم الماركسيين المجددين الديمقراطيين في بضع سنوات.
بقيت الكثلكة رؤية دينية محافظة بينما ألغت الماركسية البولندية طابعها المحافظ الديني، وتحولت إلى أداة معبرة عن مصالح العمال والشعب، فجددت رأسمالية الدولة الديمقراطية الجامعة بين دور القطاع العام المحوري ونمو الرأسمالية الخاصة مع الارتكاز على مصالح الأغلبية.

صحيفة اخبار الخليج
18 يونيو 2009

اقرأ المزيد

بقاع ضوئية في ظلام الشمولية (1 ــ 2)

لعل واحداً من أبرز المآخذ التي باتت تؤخذ دوليا على (بعض) الدول الشرق أوسطية المعروفة بسعيها المحموم لنيل رصيد جيد وسمعة طيبة على الساحة الدولية فيما يتعلق بتجاربها الديمقراطية الجديدة ومشاريعها الإصلاحية، انها لم تعد تكتفي بتصميم تلك التجارب على مقاسات أنظمتها وحكامها السياسيين فحسب، بحيث تضمن التحكم في سقف العملية الديمقراطية برمته بحيث لا يخرج عن السيطرة غير المرغوبة، بل لطالما لجأت هذه الأنظمة ذاتها تعسفيا الى التزوير أو التلاعب بشتى الفنون والوسائل والابتكارات ليس فقط في إرادة الناخبين والتحكم مقدما في كيفية ادلائهم بأصواتهم الانتخابية، بل حتى اللجوء الى التزوير المفضوح في عمليات الفرز واحتساب الأصوات وإعلان النتائج، دع عنك التضييق على المرشحين في الحملات الانتخابية.
ومما لا شك فيه أن الدول التي تحترم على الأقل ديكور وحدود لعبتها الديمقراطية المحدودة التي فصلتها مقدما على مقاس أنظمتها، لهي أفضل من الدول التي لا تكتفي فقط بذلك، بل بعدم التورع عن تزييف وتزوير إرادة الناخبين أمام مرأى المجتمع الدولي والمجتمع المحلي اذا ما جاءت نتائج الانتخابات ليست كما تشتهي وفق أهوائها التي تروم إليها سلفاً، وبالتالي فإنها تضيف الى فضيحة شكلية تجربتها الديمقراطية ومحدوديتها الأصلية فضيحة أخرى تتمثل في تزوير الانتخابات الدولية. ولعل الأمثلة على نماذج من هذه الدول الشرق أوسطية المتورطة في مثل تلك الفضائح الانتخابية معروفة لدى القارئ وليست بحاجة الى تعدادها أو تسميتها.
لكن وبالرغم من السمعة السيئة للتجارب والمشاريع الديمقراطية الشكلية المحدودة لتلك الدول، وبضمنها الدول التي تملك تجارب ديمقراطية عريقة فإنها تمر بأزمات داخلية متفجرة كلبنان ثمة بقاع يتيمة من الضوء داخل نفق الشمولية جديرة بالتنويه لما لها من دلالات وعبر ودروس لعلها تفتح آفاقا لتطوير الحياة الديمقراطية برمتها في تلك البلدان، أنظمة ومجتمعات ومؤسسات مجتمع مدني.
ويمكننا في هذا الصدد ان نشير الى ثلاثة بلدان في المنطقة قدمت بعض النماذج الإيجابية المشرفة من الممارسة الديمقراطية خلال الأيام القليلة الماضية:
النموذج الأول: يمثله لبنان، ويتعلق تحديداً بالعملية الانتخابية الناجحة التي جرت خلال الانتخابات النيابية الأخيرة بكل سلاسة ونزاهة وشفافية باعتراف جميع الأطراف والقوى السياسية، وباعتراف جل المرشحين لتلك الانتخابات، الفائزين منهم والفاشلين على السواء، وبشهادة أيضا كل المراقبين الدوليين الذين تابعوا وراقبوا العملية الانتخابية بكل مراحلها. ثمة بطبيعة الحال تجاوزات وخروق لكنها بكل تأكيد لا ترقى الى الخطورة التي تمس معظم وجوهر العملية الانتخابية.
وأهمية هذا النجاح لا تقاس عظمته لكونه يحدث في بلد عربي فقط، بل يحدث في بلد لم تزل تعصف به الاصطراعات والانقسامات السياسية منذ خروجه من حرب أهلية طويلة مدمرة دامت أكثر من 15 عاماً.
النموذج الثاني: وتمثله ايران، ويتعلق تحديداً بانتخاباتها الرئاسية الأخيرة التي عصفت نتائجها بحياتها السياسية، فعلى الرغم من كل ما يؤخذ على النظام السياسي الإيراني كنظام ثيوقراطي شمولي يحكمه الملالي الشيعة بزعامة مرشد الثورة الذي يمنحه الدستور سلطات مطلقة بحق التفرد باتخاذ القرارات المصيرية تبعاً لنظرية ولاية الفقيه التي أرسى دعائمها مرشد الثورة الراحل الإمام الخميني، فإن ثمة مزية تحسب لهذا النظام الشمولي الديني بسماحه بالتعددية السياسية في إطار لعبته الديمقراطية المحدودة، بمعنى أنه ليس نظاما شموليا يقوم على حكم الفرد المطلق الواحد مباشرة وفي مختلف الظروف وبفضل هذه المزية أمكن لإيران أن تشهد مرحلة ذهبية من الانفتاح النسبي على العالم والثقافة الداخلية المستنيرة خلال عهد الرئيس السابق السيد محمد خاتمي.
وكان التطور اللافت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، رغم أنها تمت في أجواء تفتقر للشفافية الكافية والتكافؤ بين المرشحين، هو سماح النظام باجراء مناظرات تلفزيونية حرة (الى حد ما) بين المرشحين المتنافسين، ويكتسب هذا التطور شيئا من الأهمية وذلك بالنظر لما أحدثه من جدل سياسي مجتمعي ساخن مثير إبان الحملات الانتخابية التي جرت في ظل نظام شمولي ظل يحرص على أن يطبع الحياة السياسية بلون سياسي واحد على امتداد ثلاثة عقود وبالتالي فإن هذا التطور يُعد إذا ما أريد له ان يتطور ويخطو خطوة الى الأمام في الممارسة الديمقراطية الصحية لابد ان ينفتح على خيار التعددية حتى في ظل نهجه الشمولي، ذلك لربما أفضى هذا الخيار مستقبلا الى فتح الطريق نحو إحداث نقلة نوعية في الحراك السياسي ودفع الحوار المجتمعي الحر نحو الوعي الشعبي الكامل بإفلاس النظام القائم نفسه برمته وليس إفلاس رئيسه أو حكومته فقط، وبخاصة في ضوء تداعيات الأحداث التي تفجرت بعد اعلان نتائج الانتخابات.
النموذج الثالث: وقد شاءت المصادفات ان يمثل هذا النموذج أكبر بلد عربي وهو في نفس الوقت من أكثر البلدان العربية معاناة في الأزمات والمشاكل السياسية والاقتصادية الكبيرة ألا هو مصر التي ما فتئت تمر بمخاض ولادة ديمقراطية بالغة الصعوبة والمفاجأة انها قدمت خلال الأيام القليلة الماضية نموذجا رائعا للممارسة الديمقراطية الخلاقة من خارج النظام السياسي.
وقد مثل هذا النموذج نادي الزمالك في انتخاباته الأخيرة التي اتسمت بالشفافية والنزاهة التامتين غير المسبوقتين في تاريخ مصر المعاصر وربما التاريخ العربي برمته، وهو نموذج جدير بالاقتداء ليس من قبل الأندية المصرية فحسب بل من قبل الأندية العربية ومؤسسات المجتمع المدني العربي كافة، ناهيك عن النظام السياسي المصري وسائر الأنظمة السياسية العربية، مما يستحق معه بذلك أن نفرد له وقفة خاصة مستقلة.

صحيفة اخبار الخليج
17 يونيو 2009

اقرأ المزيد

ولاية الفقيه “الاشتراكي”

في أزمة الرأسمالية الحكومية الشرقية الكبيرة، حين يستنفد النظامُ قدراته على إعادة تشكيل نفسه باتجاه الحريات ويفشل في السيطرة على الملكيات العامة من أجل التطور الشعبي، تصحو عفاريتهُ القديمة، يعودُ لاستنهاض قواه اللاوعية، الأشكال الإيديولوجية الغيبية المجربة في التأثير السياسي، تنبعث اللاعقلانية والعقلانية الدينية في صراع متشابك ضار، قد تزدهر الفوضى والتخريب والارهاب وقد تتغلب قوى العقلانية السياسية.
وبين عصر الأنوار الثوري الأول حين كانت قوى الشغيلة تسيطر على الشوارع وتراقب الملكيات والبنوك وتسيطر على الدخول، وبين عصر ملوك الفساد الإداريين والجثث المحنطة البيروقراطية، مسافات كبيرة.
غالباً ما يلعبُ الدينُ دورَ المحول في هذه الأزمات، لكنه كذلك يصيرُ إلى عائقٍ حين يكونُ هو المظلة الايديولوجية لنظام الرأسمالية الحكومية الشمولية، فيغدو العكس هو المسار، أي رفض سيادة الدين.
أكثر الايديولوجيات حضوراً في الوعي الشعبي العفوي هو الدين ومع الرأسمالية الحكومية الشرقية تصبحُ الماركسية والقومية والوطنية ديناً، فهي تتقولبُ لما هو سائد، ويصبحُ ما هو مستوردٌ من الغرب محافظاً شرقياً، إذا ما استمرت الرأسمالية الحكومية في شموليتها، وتغييب الرقابة والحريات.
وأحياناً تندمجُ هذه المكونات الفكرية المختلفة في خليط واحد يعبر عن الطبيعة الاجتماعية لهذه الرأسمالية.
لقد كانت الماركسية الروسية مستوردة من الغرب ولم تـُنتجْ من التطور التحديثي الداخلي، فتمت قولبتها لتلائم نمو الرأسمالية الحكومية المتصاعدة بدءًا من الثورة في عام 1917 التي كانت ثورة شعبية تم خطفها بعد ذلك من الشغيلة وتسليمها للبرجوازية الحكومية البيروقراطية، ولهذا فإن الماركسية تحولت إلى دين، وصار السكرتير العام للحزب شبيهاً بالمرشد الأعلى للجمهورية الدينية الإيرانية.
لقد تمت قصقصة أجنحة الماركسية التحليلية والنقدية، وصارت دوغما ونسخة مُصدرة عالمية، وبطبيعة كونها ذات مصدر أوروبي كانت أكثر تفوقاً من المذاهب الشرقية المحافظة التي عبرت عن جمود الأرياف وسيطرة الإقطاع، فهي – أي الدولة السوفيتية – تقوم بنسف هذه العوالم الجامدة ساعية لثورة صناعية كبرى، ملائمة لنهوض قومي في بلد فقير شاسع، فتمصُ خلايا القوى العاملة لتشكيل تلك الرأسمالية، ولكن في الدول الصغيرة ذات الأسواق المحدودة تعجز عن ذلك مهما كان الفقيه الاشتراكي متحمساً كما حدث في كوريا الشمالية، التي غدت رأسمالية حكومية متخلفة محنطة وذات مخالب عسكرية مغامرة.
ولكون الماركسية غدت دينا غيبيا معتمدة على حفظ الجمل وتغييب التحليل النقدي المستمر للواقع، فإن الفقيه الاشتراكي قادر على الفهم (العميق) للكتب المقدسة التي تـُحنط، ومهما كان التباين الشاسع بين فكر القائد الأول والقائد الحالي المحدود وقتذاك، فالقادة يزدادون تحجراً وضحالة كلما تنامى استغلال هذه الرأسمالية.
فيما بعد يتم تحنيط القادة أنفسهم ويصيرون مزارات مقدسة، يتبرك بهم الجمهور في هذا الموت – الحضور – المقدس، حيث يتم إختراق وضع الدنيا الزائلة بغيب الشيوعية المبارك في المستقبل، أو يصيرون في حالة دينية وقومية مصدراً للسعادة الأخروية في مقابرهم الخالدة مع تحول الدول إلى جهنم.
إن تقاليد الشرق الدينية تسحب النظريات الغربية وتخضعُها للبناء الاجتماعي الشمولي.
في إيران تم خطف الثورة الشعبية من العمال والفلاحين من قبل الرأسمالية الحكومية المتجهة للعسكرة. ولم تحتج المذهبية إلى أن تـُحنط سياسيا فهي مُحنطة جاهزة بفعلِ الطبقات الاستغلالية التي هيمنتْ عليها وجمدتها عن متابعة نضال الجمهور، أي أنها رؤية شرقية مستمرة لمخاض قومي تسيطر عليه القوى العليا وتستغل الجمهور لبناء هذه الرأسمالية الحكومية، عبر ما توارث من مذهبية مقدسة تخدع الجمهور في نضاله الطبقي المستقل.
المرشد الأعلى، والسكرتير العام، ورئيس الجمهورية الأوحد، والملك المطلق، والشاه، وقائد الثورة، وغيرها من الألقاب الشرقية هي تعبيرٌ عن جمود هذه الرأسماليات الحكومية وعمليات نخرها البيروقراطي الاستغلالي، وتعبير عن ضعف الرأسماليات الخاصة الليبرالية، وجمود وعي العمال.
هنا تجري العمليات الفكرية والسياسية نفسها، أي عدم القيام بالتحليلات الاقتصادية والاجتماعية للحياة الحقيقية، ولعلاقات القوى وكيفية توجه فوائض الاقتصاد ومن تخدم وما هي علاقاتها بالسياسة وأدوات الحكم.
ولاية الفقيه الرأسمالي الحكومي تجري في بخور الشرق التغييبي، ويتم سحب المراحل من سيرورة التاريخ، وتـُعلق في فضاءٍ مقدس منزه عن النقد، وتقدم البركة والمكانة المعيشية الممتازة لمن يقترب من محراب الدولة المقدس، ويُعاقب الناقد لها والرافض ككافر وإنسان فقد الاستقامة وحلت عليه اللعنات بدءاً من الحبس حتى الاعدام.
تعتمد عملية الإصلاح والعقلانية السياسية النقدية على مدى حضور التقاليد الديمقراطية لدى الجمهور والتنظيمات، ففي الهند حيث التاريخ الطويل للتعددية، يتم إصلاح ذلك والعودة للمسار الحقيقي للواقع، فلا تـُصور رأسمالية الدولة كالمعجزة الإلهية، بل تظهرُ كخيارٍ اقتصادي تم لظروف معينة تم تجاوزها، في الصين يظهر تحايلٌ ايديولوجي ويعبرُ ذلك عن صعوبة التوجه للمسار الرأسمالي الديمقراطي بعد هيمنة هائلة للدولة وموظفيها ومستغليها.
في روسيا يتم ذلك بانفجار ويحدث انقلابٌ كامل، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لكون قيام الرأسمالية الحكومية الروسية تم بقدسية كبيرة، فيجرى تحطيمها بكفر كامل، وتغدو الأرثوذكسية المسيحية هي المظلة الايديولوجية الإيمانية لما كان دولة إلحادية ذات رسالة عالمية في هذا الالحاد.
إن عودة الأرثوذكسية المسيحية هي عودة للمسار القومي الروسي الأوروبي، هي عودة روسيا لمسارها الرأسمالي الخاص الغربي، وانفكاكها عن عالم الشرق الإسلامي، رغم أن ذلك لا يحدث بشكل شامل لأن لغة المصالح والمنافع الاقتصادية تبقى أهم من بركات الكنيسة.
إيران لم تحصل على توليفة فكرية لفهم الاثناعشرية والديمقراطية معاً، وهي كروسيا حادة في خياراتها، فإما المذهب المحافظ وإما الانجراف للغرب والليبرالية بشكل كامل.
يعتمد ذلك من الناحية الاقتصادية على مدى حضور الطبقة الوسطى الصناعية – التحديثية، وقوى العمال ذات الوعي السياسي المميز والمستقرة معيشيا، فإذا كان حجم الفساد ضخماً يصعب ذلك، وإذا تنامت عمليات الحرية الاقتصادية والسياسية والتحكم في الاقتصاد الحكومي، فإن قوى عقلانية سياسية تظهر من مختلف جوانب الحياة وتحد من الخيارات السياسية المغامرة أو من عمليات الانهيار والفوضى ويتم سحب كلمات المرشد الفقيه المسيطر والسكرتير العام الأوحد.

صحيفة اخبار الخليج
17 يونيو 2009

اقرأ المزيد

رفيعة غباش

تغادرنا بعد أيام قليلة صديقتنا العزيزة الدكتورة رفيعة غباش عائدة إلى وطنها، دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، بعد سنوات من الانجاز قضتها في رئاسة جامعة الخليج العربي، هذا الصرح العلمي الخليجي المشترك، الذي قدم ويقدم نموذجاً ناجحاً لما يمكن أن يسفر عنه تضافر جهود دولنا الخليجية في المشاريع المشتركة ، لا في الحقول العلمية والثقافية وحدها، وإنما في كافة أوجه التنمية. خلال سنوات إقامتها الحافلة بالنشاطات بيننا، كانت رفيعة غباش ابنة البحرين مثلما هي ابنة الإمارات، قريبة جداً من مشاغلنا الثقافية والأكاديمية والاجتماعية، ومن مجمل الحراك الذي تعيشه البحرين في الأوجه المختلفة. ولا غرو في ذلك فهي تمثل، خير تمثيل، ذلك الجيل المتقد من أبناء وبنات الإمارات، الذي فتح عينيه على قيام دولة اتحاد الإمارات العربية المتحدة على يد بانيها الأكبر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي دخل تاريخ المنطقة والتاريخ العربي عامة بصفته رجل دولة من الطراز النادر، وبصفته رجلاً وحدوياً بامتياز بنى دولة اتحادية مزدهرة في صمت وبدأب، بعيداً عن الضجيج والشعارات الجوفاء، فيما لم تورث محاولات الوحدة القسرية في أكثر من بقعة عربية سوى المرارات وشلالات الدماء. رفيعة غباش ابنة هذا الجيل الذي فتح الشيخ زايد أمامه أوسع أبواب المعرفة والتعليم والتدريب واكتساب الخبرات الإدارية، وهي حملت بين جوانحها ما حمله جيلها الإماراتي من حس وطني وتوق وحدوي وتشرب بقيم التجديد وأفكاره، هي التي تنتسب إلى عائلة معروفة بوعيها الوطني والتقدمي، وحسبي هنا أن أشير إلى شقيقها المرحوم غانم غباش الذي ساهم بدور محوري في وضع مداميك المجتمع المدني وأسس واحدة من أهم المجلات السياسية والفكرية في الإمارات وفي منطقة الخليج هي مجلة» الأزمنة العربية». وهي إلى ذلك قدمت فكرة طيبة عن المرأة الإماراتية التي أطلقت دولة الاتحاد طاقاتها، وفتحت أمامها أبواب العلم والعمل والمشاركة النشطة في مناشط الحياة الإدارية والثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية أيضاً، وهذا ما تجلى في عطاء رفيعة غباش العلمي والأكاديمي والإداري، وفي عطاء الكثير من نظيراتها الإماراتيات اللواتي يشكلن نسبة كبيرة في الكادر الأكاديمي ويتبوأن مقاعد في الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية وكذلك في المجلس الوطني الاتحادي، وفي مختلف مواقع الإدارة والتنمية والإعلام وغيرها. ولن يتسع المجال هنا لقول الكثير عما تستحقه انجازات رفيعة غباش من تقدير، ولكني أردت أن أستغل هذه المناسبة لا لكي أودعها، وهي تغادر البحرين، لأنها ستظل حاضرة معنا دائماً، وستذكرنا انجازاتها بدورها المقدر فترة رئاستها لجامعة الخليج العربي، وإنما لأوجه لها تحية تقدير وشكر لما أظهرته تجاه البحرين من حب وحنو، وأن اتمنى لها المزيد من التوفيق والنجاح في ما ينتظرها من مهام في بلادها، دولة الإمارات، هذا الوطن العزيز عليّ شخصيا، الذي أمتن له بالكثير، خلال سنوات إقامتي فيه التي كانت فرصة رائعة وجميلة في الاقتراب من نبضه الإنساني وفي التآلف مع وجوه رائعة فيه من طراز رفيعة غباش التي لا نقول لها وداعا، وإنما أهلاً بك دائما: ابنة للبحرين أيضاً.
 
صحيفة الايام
17 يونيو 2009

اقرأ المزيد

إيران.. وحلم التغيير المجهض

تعد تجربة الديمقراطية الديكورية المحدودة التي طبقها النظام الشمولي الإيراني الذي يهيمن عليه الملالي وفق مقاسه من أفضل تجارب الانظمة الشمولية في العالم الثالث في التخفيف نسبيا وبأقل قدر ممكن من دكتاتورية حكم الفرد المطلق واتاحة شيء من تعددية الألوان السياسية والثقافية داخل اطار الديكور الديمقراطي المفصّل مقدما على مقاس مصالح النظام والحدود المرسومة لسعة صدره وتنازلاته للرأي الآخر داخل النظام ذاته بما لا يهدد او يزعزع الركائز التي يقوم عليها.
وبالتالي فالانظمة الشمولية التي تطبق هذا النوع من الديمقراطية الديكورية وتتيح تعددية محسوبة تحت السيطرة داخل حلبة اللعبة المعدة قواعدها باتقان هي مع ذلك أفضل “نسبيا” من الأنظمة الشمولية الفردية التي تقوم على حكم الفرد الواحد المطلق الصريح الرافض لأي شكل من اشكال حتى التعددي الديكورية المحدودة وعلى الأخص حكم الجنرالات او حكم القائد الضرورة.
حكم الفرد المطلق ذو القبضة الحديدية لا يتيح أي فرصة للتغيير السلمي الهادئ لشدة نزعته الاستبدادية للسيطرة على الدولة والمجتمع وتأميمهما فكريا وثقافيا وسياسيا وضميريا وصبهما في لون واحد وقالب واحد، وهنا فان الفرصة الوحيدة للتغيير السياسي تنطبق عليها مقولة “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، لكن القوة إذا ما جاءت بطغمة عسكرية من الجيش بزعامة جنرال متعطش للسلطة فانها تعيد انتاج الشمولية وان بشعارات جديدة براقة. أما القوة من خلال اداة الثورة الشعبية فهي بحاجة إلى درجة عالية من تنظيم ووحدة القوى السياسية التي تقودها، وحيازتها جماهيرية طاغية، وإلا فستكون فعاليات وأنشطة احتجاجاتها وتمرداتها الشعبية معرضة للفشل الذريع لغياب القيادة الناجحة التي تقودها وتعبر بأذكى وأبرع ما يمكن من وسائل عنها في الداخل كما الخارج، ولعل ما يميز المشهد السياسي الراهن لأغلب مجتمعات البلدان الواقعة تحت انظمة شمولية في العالم الثالث هو هذه الحالة الزئبقية تحديدا أي انها مجتمعات في حالة غليان وتململ واحباط من اوضاعها البائسة لكنها لا تجد لا القنوات السلمية التي تعبر فيها عن غضبها ولا القيادات السياسية التي تقود التغيير العنيف في شكل ثورة شعبية هادرة.
ولا شك في أن التحلي بالصبر والبحث عن أفضل الطرق النضالية السلمية التي تجنب الشعب اضرارا فادحة وتضحيات هائلة طويلة الأمد هو من سمات الشعوب المتحضرة وقواها السياسية المتعقلة التي تقيم وزنا كبيرا لمصالح ومصائر شعوبها بأقل الاثمان إيلاما أي من دون دفع الحركات الشعبية للتهور وتعريضا للانتكاسات التي ترجعها إلى الوراء سنوات طويلة.
وحينما تكون ديمقراطية التعددية الديكورية المحدودة بقنواتها الضيقة الاتساع للتعبير والاحتجاج هي الوسيلة السلمية الوحيدة الممكنة لآفاق التغيير السياسي وذلك في ظل غياب ديمقراطية تتمتع بالحدود الدنيا من وسائل حرية التعبير والتعددية المفتوحة والحريات العامة ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة، وفي ظل غياب اختمار النضج الكافي للثورة الشعبية، وغياب القوى السياسية القادرة على قيادتها.. نقول حينما يكون الأمر كذلك، فلا مفر أمام الشعب المحظي بنظام الديمقراطية الديكورية المحدودة سوى ان يطرق آفاق التغيير المرحلي الصبور من خلال ابتكار كل الوسائل والطرائق الممكنة لاختراق قنوات التغيير المتاحة في الديمقراطية الديكورية المحدودة ذاتها والمشروطة ليبني عليها ما يمكن بناؤه وليحسن من خلالها ما يمكنه تحسينه من أوضاع الجماهير الشعبية، وليكسب بالتالي ما يمكن كسبه من حقوقه السياسية والثقافية والدينية المصادرة او المقموعة حتى تأزف لحظة فرض التغيير الجذري الشامل على النظام، إما بالتسليم لارادة الجماهير فيتغير من الداخل وإما التسليم بتهاويه ورحيله واعلان عجزه عن الصمود والاستمرار.
ولعل هذه الحالة تنطبق على إيران منذ نحو عقدين في ظل النظام الراهن، فلا توجد قوى سياسية قوية تتمتع بجماهيرية لقيادة التغيير في الشارع من خارج النظام سواء أكان بالوسائل السلمية أم بالوسائل العنيفة وبالتالي لم تبق سوى محاولة اختراق اطر الديمقراطية الديكورية الشكلية المحدودة التي صممها النظام ذاته، ووصلت ذروة هذا الاختراق بإيصال رجل الدين المنفتح المستنير السيد محمد خاتمي إلى سدة الرئاسة الذي انتخب لولايتين متعاقبتين، ولكن لما شعر النظام بغريزته الفطرية بالخوف من تعاظم مخاطر هذا الاختراق وتهديده لمصالحه وهويته الدينية فانه وفي اطار قدراته على التحكم في حدود اللعبة السياسية أحبط وصول رئيس اصلاحي آخر جديد مشابه او مماثل للرئيس السابق خاتمي، فوجه اللعبة بما يضمن فوز المحافظ محمود احمدي نجاد المقرب من رجل النظام الأول مرشد الثورة السيد علي خامنئي. ولما كان النظام بات يواجه تحديات خطيرة آخذة في التعاظم داخليا وخارجيا بعد ثلاثة عقود من الانغلاق والحكم الشمولي الثيوقراطي المطلق واستمرار الازمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية المتعددة فقد توجس بغريزته ذاتها من خطورة اتاحة الفرصة للشعب وقواه السياسية لإيصال رئيس اصلاحي جديد قد يفقد النظام بعد وصوله السيطرة على زمام الأمور في ظل تلك الاوضاع المأزومة.
وكان أكبر خطأ ارتكبه الاصلاحيون عدم استعدادهم للتحضير المبكر بوقت كاف لخوض معركة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ناهيك عن عدم اتفاقهم مبكرا على شخصية مرشح للرئاسة تتوافر فيه كل مقومات الجاذبية الجماهيرية الكافية (الكاريزما)، بما في ذلك تمتعه بالذكاء السياسي والخلفية الفكرية والممارسة السياسية الكافية، وازدادوا من هذا الخطأ حماقة بأن دخل مير حسين الموسوي، شبه المتقاعد سياسيا، على الخط ليرشح نفسه، وليجبر بذلك المرشح الاصلاحي المفكر والفيلسوف المجرب وصاحب الخبرة محمد خاتمي على الانسحاب، في حين ان الموسوي يفتقر كليا إلى أي من عناصر ومقومات الشخصية الكاريزمية والجماهيرية.
النظام بطبيعة الحال، وعلى وجه الخصوص “المرشد”، عرف كيف يستفيد من هذا الوضع الذي تعانيه القوى الاصلاحية فأتاح وسخر كل امكانياته لتفويز نجاد، وحصد هذا الاخير بالفعل أعلى نسبة من الاصوات، ولا يغير من هذه الحقيقة ما شهدته العملية الانتخابية من خروق وتجاوزات، وبطبيعة الحال فان نجاد اعتمد على رصيده من “الكاريزما” التي ليست سوى اجترار الخطاب البسيط الشعبي المتقادم، والبراعة في “التباسط” مع بسطاء الناس بلغة جذابة خاوية المضمون وتوسل مختلف وسائل دغدغة مشاعرها، حتى لو افتقر إلى شعارات أو برامج تغيير حقيقية تنتشل الجماهير ذاتها من واقعها المزري البائس.. وهكذا أجهض حلم التغيير، مرة اخرى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

صحيفة اخبار الخليج
16 يونيو 2009

اقرأ المزيد