المنشور

النظام السياسي الإيراني على مفترق الطرق

فجرتْ الانتخاباتُ الإيرانية تناقضات النظام الرأسمالي الحكومي بين فريقي من يَسمون المحافظين والإصلاحيين، جماعة تعملُ على بقاء الامتيازات السياسية والاقتصادية لفريق وجماعة تعمل على إزالة هذه الامتيازات.
وتعطينا شخصيات المرشحين المتنافسين تاريخية حلقات الصراع التي جرت منذ تكوين هذه الرأسمالية الحكومية حتى مفترق الطريق الراهن.
لقد كان مير حسين موسوي مرشح الإصلاحيين هو من مؤسسي هذه الرأسمالية وشكل قطاعاتها الحكومية البيروقراطية، وحاول أن يوجهها للصالح العام، وتـُضاف إليها مؤسساتٌ خيرية كثيرة قامت بدعم الفقراء وأسر الشهداء من قبل الحكومة، حيث كان مشرفاً على قضايا الدفاع عن الجمهورية بمواجهةِ العدوان الصدامي.
لكن هذا النهج السلمي التنموي لم يُعجبْ القيادة العليا، التي كانت تسعى لدولة عسكرية ذات نفوذ كبير في المنطقة، ودولة تعلي شأن القومية الفارسية على بقية القوميات داخل إيران الإسلامية.
كانت هذه نقطة مفارقة كبيرة فرجلُ كرس نفسَهُ لبناءِ القواعد الأولى للنظام، يتمُ الاستغناء عنه ببساطة ويُوضع في الظل.
كان ذلك يعني ان القطاعات العامة الاستغلالية تصاعد نفوذها، ولم تعد الشراكة مع جمهور الأغلبية الشعبية واردة، ولم تعد دولة المساواة بين القوميات والمذاهب ممكنة.
علينا أن نرى أن الفهمَ المحافظ للاثناعشرية تغلب على الفهم الديمقراطي الجنيني فيها الذي ولدته مجرياتُ الثورة الشعبية، فدائماً تؤدي الهيمناتُ الحكومية إلى وجود قوى مستفيدة، خاصة إذا كانت مطولة غير مراقبة، فتقوم الفئة السياسية العسكرية بالتركيز في النصوصية الفارغة من أي مضمون شعبي ديمقراطي متأتٍ من هذا المذهب المناضل، وتنحرف عن تشكيل تعاون بين المذاهب الإسلامية والقوميات كما يُفترض لنضالٍ مشترك ضد الدكتاتورية السابقة، وتحل بدلاً من ذلك دكتاتورية عسكرية في الفرس ثم في القوى السياسية العسكرية المسيطرة في الحكم.
ولا شك أن بعض القوى السياسية المتطرفة في الجانب الفارسي كمجاهدي خلق أو في القوميات المحكومة التي تلجأ للعنف والارهاب، تعطي الحكومة مبررات للصرف المضاعف على الحرس “الثوري” والجيش، وهذا ما أطلق أيديها تدريجياً فغدت شيئاً آخر.
إن الفوائض النفطية الكبيرة تتوجه لمشروعات الحكومة المركزية، وإلى قواها العسكرية والسياسية، وفي البدء كانت المشروعات المدنية هي التي تستحوذ على الفوائض بشكل كبير فلم تشعر الدول المجاورة بخطر من تطور إيران المدني هذا.
لابد أن نرى هنا المؤسسات السياسية وتاريخيتها، فحزب الجمهورية الإسلامية ظهرَ كقائدٍ سياسي لهذه العملية السياسية واندمج في عملية البناء الأولى، وقد رافقتها عملياتُ قمعٍ شرسة لليبراليين واليساريين ولقوى القوميات والمذاهب الأخرى، فتحول إلى حزبٍ دكتاتوري يميني قريب للفاشية، وكتجلٍ للقومية الفارسية الشوفينية، وأدت تصفياته للقوى المعارضة إلى أن يقومَ بتركيز السلطة داخل الأجهزة العسكرية ويلغي ذاته.
وبهذا انتقلَ ثقلُ السلطة إلى المنظمات العسكرية الحكومية الكبرى المتنفذة خاصة الحرس “الثوري”.
هنا اصبحت رئاسة مير موسوي للوزارة الإيرانية غير ذات معنى، لقد وضع السلطة كلها في أيدي العسكر، فلم يعد العسكرُ بحاجةٍ إليه. لقد تجاوزهُ تطورُ النظام نحو العنف لا نحو البناء السلمي والحريات.
ولابد هنا من التذكير كيف قاومت القوى العسكرية الإيرانية التدخل الصدامي الشرس وعمل موسوي وغيره من القادة الإيرانيين على تصعيد دور المنظمات العسكرية لمواجهة هذا التدخل.
كذلك كانت التهديدات الأمريكية والإسرائيلية عاملاً آخر في تصعيد دور القوى العسكرية في نظام يعرضُ نفسه بصورة المهدّد دائماً والمحاصر.
فصارت القوى العسكرية هي الرابحة من كل هذه الصراعات والمواجهات وخلقت ثقافة النظام المحاصر، فوجدنا الحزبَ الجمهوري الإيراني يتوارى ويصبح شبحا سياسيا.
إن ترويج ثقافة النظام المحاصر استمراراً لثقافة الطائفة المغبونة المحاصرة، والمبعدة عن إرثها وحقها، وتشكيل ذلك عبر الأحزان والمخاوف من القوميات والطوائف الإسلامية الأخرى، هي ما كان يركز فيه النظام بدلاً من ثقافة الأممية الإسلامية والنضال المشترك والبناء السلمي والديمقراطة الحقيقية وليس الديمقراطية داخل نظام دكتاتوري محكم، رغم أن الانتخابات الأخيرة أظهرت قدرة الناس حتى على اختراق الثغرات الصغيرة في هذا النظام العسكري المحكم.
إن اختفاء مير موسوي هو تعبيرٌ عن انطفاء مرحلة، ومجيء خاتمي محاولة مدنية جديدة لاختراق الجدار العسكري الشمولي من دون فائدة.
لقد تعملقت الرأسمالية الحكومية باتجاه القيادة المركزية للحرس ولشركاته وتنفذه في كل شؤون المجتمع، وكان من مصلحته عيش الحكم على حافة الهاوية، فكان لابد له من أخطار، لقد ذهب خطر صدام حسين فكان لابد من اصطناع خطر آخر، بل مجموعة من الأخطار لبقاء الامتيازات العسكرية – السياسية – الصناعية موجودة لديه.
وفي محمود أحمدي نجاد ظهر الحاكم الفعلي لإيران وهو القوى العسكرية، وفي مشروع القنبلة النووية ظهر الرمز الآخر للتحدي ولإبقاء المجتمع على حافة الهاوية والحصار والرعب.
إن تصعيد الحرس إلى هذا المستوى لابد أن يؤدي إلى أخطار جسيمة على الشعب الإيراني والمنطقة، كنظيره النظام الكوري الشمالي ومشروعاته.
وفي كل هذا المناخ المشئوم لابد أن تستفيد إسرائيل من هذه الظروف وسوف توجه ضربة عسكرية قاسية لهذا النظام وحينذاك لن ينفع الندم فتظهر “خدماتها الجليلة” للنظام الدولي العاجز.
أما قدرة الشعب الإيراني على مواجهة نظام عسكري دكتاتوري فتبقى محدودة، كما كان الأمر مع النظام العراقي السابق.

صحيفة اخبار الخليج
16 يونيو 2009

اقرأ المزيد

أبواب التغيير في إيران وقد فتحت

لم يكن علينا أن نتوقع تغييرات دراماتيكية في السياستين الداخلية والخارجية لإيران، حتى لو كان مير حسن موسوي قد فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت هناك منذ يومين، وتركت نتائجها من التفاعلات والتداعيات المرشحة للمزيد من التصاعد. نقول ذلك وفي الذهن أن مفاصل القرار السياسي في إيران بيد المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي تأتمر بإمرته العديد من الأجهزة والمؤسسات المحافظة في البلاد والتي تشكل ركائز الجمهورية الإسلامية، وعلينا أن نتذكر في هذا السياق ولايتي الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي الذي وإن كان قد أفلح في تحسين صورة بلاده الخارجية، فانه لم يتمكن من إحداث تغييرات جوهرية في سياسة طهران إزاء العالم وإزاء ذاتها، ليس لأنه لا يريد، وإنما لأنه كان محكوماً بتوجهات ورغبات المرشد الأعلى. ما كان حظ مير حسن موسوي سيكون أفضل كثيراً من حظ خاتمي لو أنه أصبح رئيساً. للأمر ذاته. مع ذلك فالمشهد الإيراني عشية وغداة الانتخابات الرئاسية يطرح أسئلة جدية، لا عن مستقبل إيران السياسي فحسب، وإنما عن طبيعة التجاذب السياسي – الاجتماعي الراهن فيها بين من باتوا يوصفون بالإصلاحيين وبين المحافظين. والاصلاحيون يمثلون جبهة واسعة متعددة التوجهات من أبناء وبنات إيران الذين ضاقوا ذرعاً بنهج التزمت والانغلاق الذي فرضه المعممون الذين جاؤوا إلى السلطة منذ ثلاثين عاماً، وهو نهج لا يستقيم مع المزاج المنفتح للمجتمع الإيراني وريث واحدة من أعرق الحضارات وأكثرها ثراء، وبعداً عن الانغلاق. إن جيلا جديدا من الإيرانيين والإيرانيات الذين اتحدوا خلف مير حسن موسوي بحثاً عن فسحة حرية أوسع، يمثلون قوة تغيير هائلة ليس بالوسع تجاهلها، حتى لو اتحدت كل القوى المحافظة خلف محمود أحمدي نجاد، لإعاقة المسار الموضوعي لتطور المجتمع الإيراني، الذي بات، من داخله، جاهزاً للتغيير. في الظاهر يمثل محمود نجاد نموذجاً من القيادات «الشعبوية» التي تعمل على تعبئة وتحشيد المجتمع حول شعارات مواجهة الخارج، ممثلاً بشكل خاص في الولايات المتحدة، وفي الغرب بشكل عام، الذي يقف في وجه مساعي إيران لامتلاك القنبلة النووية، ولديه في ذلك وسائل قوة لا يستهان بها، فإضافة إلى الدعم المفتوح الذي يتلقاه من المرشد الأعلى الذي خرج هذه المرة عن حياده الظاهري المفترض في الانتخابات، وألقى بكل ثقله مع نجاد، فان أسلوب حياة نجاد المتقشف ومظهره البسيط يمكن أن يداعب مشاعر قطاعات شعبية معدمة خاصة في الأرياف والمناطق البعيدة عن المدن الرئيسة، خاصة مع نجاحه في الموائمة بين ذلك وبين استنهاض الروح القومية الإيرانية من خلال التأكيد على حق إيران في امتلاك أسباب القوة العسكرية شأنها شأن باكستان والهند اللتين غض الغرب الطرف عن امتلاكهما السلاح النووي. لكن هذا النوع من القيادات الشعبوية كثيراً ما يخفق في برامج التنمية والتطوير السياسي والتقاط حاجات المجتمع للتغيير التي نضجت مؤشراتها وعواملها، وهو ما بات واضحاً في الضائقة الاقتصادية في إيران في ولاية نجاد المنتهية، والتي تفاقمت منها العقوبات الدولية. نجح نجاد في الانتخابات، ليصبح رئيسا لولاية ثانية، لكن أبواب التغيير في إيران، رغم هذا النجاح، قد فتحت على مصاريعها.
 
صحيفة الايام
16 يونيو 2009

اقرأ المزيد

سلطة الدم في مجتمع قبلي ومتخلف

الأحداث الدموية المنتشرة في باكستان لن تكون المحطة الأخيرة ولن يستطيع احد اختزال الوقت بالسرعة المتوقعة في مجتمع من النمط الإسلامي الباكستاني، حيث الملايين تعيش حالة من الاضطراب والفقر والضياع واليأس والغضب. هذا الشعور المختلط يلمسه كل مراقب للواقع الداخلي، وان كانت المحاولات الرسمية تسعى لتقديم صورة عاجلة للإعلام بدت وردية كالعادة، ولكن مؤشرات الدم ستكون دائما دليلا على تنوع الأمكنة لعمل سري عنيف سيطول أمده ولن تحله التقنيات العسكرية المتطورة ولا القدرات الأمنية في البلاد، فمن بين الملايين سيندس الإرهابيون لنشر الذعر وحصد أرواح الناس بالمجان دون اعتذار! تدفع اليوم باكستان الثمن باهظا لكل جراحاتها المختلفة، فقد ورثت مع تقسيم شبه القارة الهندية ظواهر سياسية معقدة منها الظاهرة السياسية بتقسيم كشمير، وظواهر سياسية أخرى كالانقلابات والحكومات العسكرية المستمرة، ومكونات سياسية – اجتماعية عززت في التربة الداخلية كل مظاهر التخلف، كالظاهرة القبلية وتسلطها المتجذر في مجتمع شبه أمي ومتعصب قبليا لفكرة رد الدم بالدم. لم تستطع كل الحكومات المركزية المتعاقبة التعاطي معه بجدية نتيجة المشاغل الأخرى وللانشغال السياسي بالظاهرة الكشميرية. بعد نصف قرن اكتشفت باكستان محنتها العميقة، في عصر وقرن مهتم بمكافحة الإرهاب وبحقوق الإنسان والديمقراطيات وتعزيز قيم الحريات التي اصطدمت بكل تلك الحالة الداخلية المعقدة، والتي وجدت نفسها على تصادم وتناقض بكل المظاهر الحضارية والثقافية العالمية، فكيف ستجد حكومة آصفي نفسها تتعامل مع الواقع الراهن بعد هجومها العسكري على منطقة سوات؟ سؤال تكمن فيه الإجابة، إذا ما حاولنا تفكيك ذلك السؤال السهل في منطقة جغرافية معقدة سياسيا وقبليا. لقد عاشت دولة داخل الدولة، والتي لم يكن لها رئيس ولا تمثيل ولا علم خاص بها اسمها دولة وزيرستان، حيث القبائل وزعماؤها وبنادقهم المعلقة على أكتافهم، يحكمون تلك المنطقة بحرية كاملة، ولم تكن إلا على تماس بسيط بالحكومة المركزية، إذ عاشت تلك المناطق المعزولة على هواها وتعبرها قافلات التهريب لكل أنواع الممنوعات من أسلحة ومخدرات وبضائع، بل ونجح الجهاز الأمني والعسكري طوال حقبة تلك الحكومات الانقلابية المتعاقبة على التعاون مع «دولة القبائل تلك» دون أن تفكر إطلاقا بتطوير تلك المنطقة ولا تحديثها، فعاشت على نماذج اقتصادية متخلفة، مكتفية ذاتيا بما تنتج من زراعة ورعي، فدارت في حلقة التخلف إلى جانب التعليم الديني والقيم البالية، والتي أحكمت سيطرتها باسم الدين تارة وباسم التقاليد والقيم تارة أخرى، ما جعل القبيلة والدين يلتقيان، محاولة المؤسسات العسكرية إبقاء تلك المنطقة «وزير ستان» مرتعا لمهربي وتجار الأفيون والمخدرات التي أحاطت تلك الجغرافيا الواسعة من أفغانستان ووزير ستان، حتى امتد نفوذها لكل أفغانستان وباكستان. اليوم تصحو حكومة آصفي بعد ميراث شريف ومشرف وهي تستمع إلى كل ألوان التعاويذ السياسية، وكل ألوان المؤثرات الفكرية والعقيدية المرتبطة بنموذج القاعدة، حيث تنتشر حركة طالبان الباكستانية في وزير ستان وحركة طالبان الأفغانية في موطنها الأصلي، غير أن الترابط العقائدي والسياسي والجغرافي بينها ملحوظ تشوبه روح من التعاون الجهادي، إلى جانب تنظيم القاعدة التي تتخذ من حزام وزيرستان مقرا لها. ذلك البيت السياسي الكبير للقاعدة وسقفها الدائم وموطن حمايتها منذ أن هزمت حركة طالبان في أفغانستان وجاءت إلى السلطة حكومة كرزاي تحت حماية القوات الأمريكية. بعد ما يقرب من ثماني سنوات من فشل حكومة بوش القضاء على تلك الحركات «الجهادية» في تلك «الدولة المشاغبة المدعوة وزير ستان» كان على حكومة آصفي أن تعد حكومة اوباما بأن تعمل جهدها بتصفية ذلك الملف على وجه السرعة، متناسية أن الضربات الجوية لن تكون قادرة إلا على حسم جوانب عسكرية كالمقرات الرئيسية في سوات وغيرها، ولكن جيوب الخلايا والحلقات التنظيمية المحكمة، فإنها بحاجة إلى وقت طويل لاجتثاثها، فمثل هذا النوع من التنظيمات تمرس على كل أشكال وفن العمل السري، مثلما كان لديها امتدادات في الجسد الأمني الباكستاني، وعرفت كيف تبني لها خيوطا في المدن الرئيسية وتكون على استعداد لكل أشكال الأعمال التكتيكية الإرهابية. لهذا لن تستطيع الطائرات تصفية الصراع بتلك السهولة، مثلما لن تكون تلك الخلايا متحصنة في سوات المركز، لكونها تدرك أن مساحتها هي وزير ستان وعمقها داخل باكستان وأفغانستان. فهل بإمكان الطائرات وقصفها الجوي القدرة على إنهاء صراع طويل، صراع عسكري من الفضاء، كل نتائجه هو جعل السكان تفزع من بيوتها وتهرب نحو المخيمات السيئة. عملية تفجيرات بيشاور ولاهور وغيرها من أعمال صغيرة هنا وهناك، لنشطاء وإرهابيي طالبان الباكستانية كرسائل قوية ردا على قصف الجيش لمناطقهم، وفي الوقت ذاته رسالة لمؤيديها «بأننا هنا» قادرون على المواجهة بطرق أخرى.
 
صحيفة الايام
16 يونيو 2009

اقرأ المزيد

ايران على مفترق طرق

الجميع يعرف أن الديمقراطية الإيرانية مغلقة، محدودة بأفق الأيديولوجية الدينية-المذهبية وسيطرة رجال الدين على كل جوانب ومنافذ حياة المجتمع الإيراني. والطريق إلى الرئاسة ليس مفتوحا إلا لعدد محدود من المواطنين المؤهلين. فالرئيس يجب أن يكون إيراني المولد، متدين، مؤمن بالمذهب الرسمي للدولة، أي أن يكون شيعيا.
مصفاة مجلس تشخيص مصلحة النظام لا ينفذ منها إلا مرشحون بأقل من عدد أصابع اليد. لقد تقدم للترشيح 475 شخصاً، بينهم 42 امرأة. اختار المجلس أربعة رجال فقط. أما ما هي حدود قدرة الرئيس المنتخب على إحداث تغيير فعلي في سياسات النظام، فقد وصف محمد خاتمي الرئاسة بعد أن جربها مرتين، بأنها «مجرد أداة تنفيذية للأوامر الصادرة من الأعلى». والأعلى هو المرشد الأعلى للثورة الإسلامية.
الحقيقة تعكس جزءاً من واقع الحال. فاهتمام المجتمع الإيراني والعالم بالانتخابات الأخيرة كشف عن انقسام حاد بين قوى المجتمع المختلفة حول أي رئيس يريدون. لقد أدرك الإيرانيون بحكم التجربة أنه مهما كانت سلطات المرشد واسعة فإنها تبقى مقيدة بشبكة العلاقات وتوازنات القوى بين مراكز النظام المختلفة. الرئيس المنتخب هو الذي يرأس المجلس الأعلى للأمن القومي ما يعني أنه يستطيع إحداث تأثير ملموس على السياسة العامة للبلاد، رغم وجود شخصين يمثلان المرشد الأعلى في هذا المجلس. ورغم أن الحرس الثوري يخضع رسميا لإمرة المرشد إلا أن لقادته مصالحهم الخاصة، خصوصا وأن هذه القوة تضاهي الجيش. وهي التي وضعت كل ثقلها إلى جانب الرئيس نجاد في الانتخابات الأخيرة رغم تواري المرشد عن إبداء دعمه الصريح له في اليومين الأخيرين. كما أن لتجار البازار تداخلهم العضوي مع السلطة السياسية والدينية ونفوذهم في المجتمع، ليس التاريخي فقط، حيث كان للبازار دور مهم في إسقاط نظام الشاه، بل وفي إجبار السلطات الحالية على التراجع عن بعض قراراتها كما حدث بشأن الضرائب، ناهيك عن دور الرموز التي تمثل مراكز القوى المختلفة كالرئيس رفسنجاني. لكن العامل الأهم هو أن بنية المجتمع نفسه أصبحت تشكل قوة ضاغطة كبيرة نحو التغيير، إذ أن أكثر من ثلثي السكان هم دون الثلاثين عاماً، وأن المرأة تشكل نصف القوة الانتخابية النشطة فعلا، وقرابة 65% من عدد الدارسين في الجامعات والمعاهد الإيرانية. وإذا كنا قد شهدنا على شاشات التلفزيون أثناء الحملات الانتخابية فتيات استطعن الكشف عن شعورهن بابتهاج، فإن ذلك لم يُزل الشعور بالضيم الذي لحق بهن في السنوات الأخيرة من تزايد المضايقات حول طريقة لباسهن ومن الغارات التي تشنها الشرطة على أماكن التجمعات النسائية.
المجتمع عموما شعر بتراجع شديد في أوضاعه المعيشية. فمقارنة بالأداء الجيد الذي أبداه موسوي بإدارته لاقتصاد الحرب أثناء الحرب العراقية الإيرانية فإن أداء نجاد الاقتصادي في فترة السلم قاد إلى تدهور الاقتصاد وبلوغ التضخم 25%. وشعر المجتمع الإيراني بأنه وقع في طوق من العزلة الدولية بسبب سياسات الرئيس نجاد حول البرنامج النووي تحديداً. فإيران بدأت هذا البرنامج منذ أيام الشاه. وبخلاف مجاهدي خلق فإن كل ممثلي القوى الاجتماعية الأخرى بغض النظر عن موقفها من النظام، بمن فيهم أنصار نظام الشاه لا تزال تؤمن بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية. إلا أن الكثيرين غير مقتنعين بطريقة إدارة نجاد للملف النووي التي قادت إلى تشديد الخناق على إيران.
هذه العوامل مجتمعة حركت تلك الكتلة الهائلة من الناخبين الذين عزفوا عن المشاركة في الانتخابات بعد فترة رئاسة خاتمي الثانية. عادت هذه الكتلة ‘الصامتة’ بكل ثقلها الذي بلغ ما بين 26 و28 مليون ناخب لتعيد تصحيح الوضع لصالح عودة الإصلاحيين. وكانت فرضية مختلف المراقبين أن هذه الكتلة شاركت بنشاط من أجل تغيير الوضع لا الإبقاء عليه. وكانت متابعة المراقبين للمزاج العام في المراكز الانتخابية داخل وخارج إيران تقول ذات الشيء.
وفجأة يأتي تسريب إعلان النتائج على جرعات لصالح الرئيس السابق أحمدي نجاد. أكتب إليكم الآن وأنا لا أزال أتابع عملية إعلان النتائج والوجوم الذي أصاب حتى أنصار المحافظين الذين صوتوا لصالح القائد السابق لحراس الثورة السيدمحسن رضائي. فمثله مثل الإصلاحي مهدي كروبي اعتبر نتيجة هذه الانتخابات باطلة بسبب التزوير الذي شهده الفرز مطالباً بإعادتها. ويعرف الكثيرون أن كروبي، ابن لارستان يتمتع بتأييد واسع في معظم محافظات إيران الغربية. طهران العاصمة ومدينة الطبقة الوسطى الإيرانية التي يتركز فيها قرابة خمس الناخبين ومعها المناطق الشمالية التي كانت كل المؤشرات فيها تشيع الثقة بانتصار ساحق للإصلاحي موسوي ذهلت جميعا بإعلان النتائج. كان يبدو بأن موسوي وزوجته الأستاذة الجامعية زهرة، المثقفان وفنانا الرسم يرسمان للسياسة الإيرانية لوحة بألوان مختلفة فعلا. موسوي رفض الاعتراف بالنتائج المعلنة مهددا بالإقدام على «مخاطرة» لمواجهة ما أسماه «بحقبة جديدة من الطغيان».
إيران شهدت هذه المرة انتخابات كانت أجواؤها الظاهرة أكثر ديمقراطية من سابقاتها من حيث المناظرات ومساحات وأشكال التعبير التي تمتع بها الناخبون. لكن المنافسين الثلاثة شكوا من انتهاكات فظة من قبل الحرس الثوري وقوى الأمن وشركة الاتصالات التي أعاقت التواصل بين المرشحين وفرقهم الانتخابية والرقابية وجماهير الناخبين. وقد بلغت الانتهاكات حد استخدام القوة.
على مختلف مظاهرها الإيجابية والسلبية كشفت هذه الانتخابات عن انقسام عميق بين مراكز القوى في الثورة الإيرانية، وبدأ يضع إيران على مفترق طرق سترينا الأيام المقبلة مدى تصميم الشعب الإيراني على الاختيار عند هذا المفترق. والمقالة في طريقها إلى القارئ أقطاب الإصلاحيين (رفسنجاني، خاتمي، موسوي وغيرهم) مجتمعون في طهران لإعلان موقفهم النهائي من الانتخابات. وأيا سيكون موقفهم فإن اجتماعهم ورد فعل الشارع الإيراني يقول إن الوضع يختلف عن كل الانتخابات السابقة التي كان جميع المنافسين الآخرين يسلمون بنتيجة الانتخابات فور إعلان ‘الفائز’.
 
صحيفة الوقت
15 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الاغتراب الكامل للجاليات الأجنبية في المجتمعات الخليجية

لعل واحدة من المفارقات الغريبة الباعثة على التعجب فيما آلت إليه مجتمعاتنا الخليجية من تحولات ومتغيرات كبيرة بعد أكثر من ثلاثة عقود من سنوات الطفرة النفطية التي أفضت إلى استقدام أعداد هائلة من العمالة الآسيوية والخبراء الاجانب المتعددي الجنسية وفي مقدمتهم الخبراء الشقر الغربيون، هي الاغتراب الكامل لهذه الجاليات المتعددة الجنسية عن كل قضايا وهموم ومشاكل شعوب البلدان العربية الخليجية التي اضحوا يقيمون فيها اقامات طويلة، فلا يوجد أي شكل من اشكال التواصل المتبادل بين تلك الجاليات وهذه الشعوب، ولا أي شكل من أشكال الاندماج والعلاقات الانسانية بمختلف اشكالها ومجالاتها الثقافية والاجتماعية، دع عنك السياسية، ناهيك عن غياب أي اهتمام للجاليات الآسيوية والاوروبية ذاتها بالقضايا القومية والدينية لشعوب بلدان الخليج العربية.
ولا شك أن هذه المفارقة الاجتماعية الثقافية الغريبة تنطوي على خسارة وطنية وقومية، سياسيا وثقافيا، بكل المقاييس، إذ لم تعد الخسارة تقتصر على خسارة اقتصادية فحسب تتمثل في التحويلات المالية لهذه الجاليات من الأيدي العاملة الأجنبية للخارج تصب في اقتصادات وبنوك بلدانها الأصلية، كما دأبت الدراسات الاقتصادية الخليجية والعربية تنبه بذلك إلى هذه الاضرار على امتداد أكثر من 30 عاما متغافلة الاضرار السياسية لغياب كل اشكال الانفتاح المتبادل بين تلك الجاليات والشعوب الخليجية.
وللمزيد من توضيح الفكرة لنتساءل إلى أي حد كان يمكن تعبئة وكسب هذه الجاليات وتنشيطها للوقوف لصالح قضايا هذه الشعوب على المستويين الوطني والقومي؟ ما هو دور القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني الخليجية للعب هذا الدور الوطني والقومي من خلال استلهام كل اشكال ومستويات التقارب والتواصل الممكنة مع تلك الجاليات الاجنبية، وعلى الأخص التي تتحدث منها بالانجليزية إما كلغة وإما كلغة وسيطة ثانية؟
الاكثر مدعاة للاستغراب فيما آلت إليه أوضاعنا الاجتماعية الخليجية من تحولات جديدة في بحر ثلاثة عقود فقط ان كل ذينك الاغتراب والانكفاء المتبادلين بيننا وبين الجاليات التي تقيم بين ظهرانينا وتعمل معنا في مؤسسات واحدة لساعات طويلة، ولا تقتصر همومنا واهتماماتنا معها إلا في نطاق الاهتمام المشترك الضيق المحدود المتعلق بشئون وقضايا العمل اليومية.. نقول إن كل ذلك يجري رغم وجود أكثر من صحيفة يومية باللغة الانجليزية تصدر في كل الاقطار الخليجية الستة.
وهنا فان السؤال الذي يفرض نفسه ماذا قدمت هذه الصحف التي يفترض انها تخاطب على الأقل النخبة المثقفة والمتعلمة في اوساط الجاليات الاجنبية من دور في استمالة وجذب وتوعية ابناء هذه الجاليات بهموم وقضايا هذه الشعوب الوطنية والقومية؟ وماذا قدمت تلك الصحف ذاتها في المقابل لجعل صفحاتها كمنبر معبر عن هموم تلك الجاليات وقضاياها إن في المهجر ببلدان الخليج ذاتها وان في اوطانها التي قدمت منها؟
وبعبارة اخرى هل ثمة مقالات رأي في صفحات وأعمدة معبرة على نحو مؤثر ومتواصل عن تلك الهموم المتبادلة، إن بأقلام كتاب خليجيين عرب وما أكثر من يجيد الانجليزية منهم كما يفترض! وإن بأقلام مثقفي تلك الجاليات التي يتربع بعضهم من الاوروبيين على ادارات تحرير تلك الجرائد نظير مرتبات خيالية من دون ان يسدوا أي خدمة اعلامية سياسية لصالح شعوب هذه البلدان الخليجية وقضاياها الوطنية والقومية؟
وهكذا فلئن كان يمكن تفهم ضعف اندماج المهاجرين العرب في المجتمعات الاوروبية وفي أمريكا وتضاؤل دور تأثيرهم في تلك المجتمعات على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لعوامل ذاتية وموضوعية شتى متعددة، ليس هنا موضع تناولها، فكيف يمكن فهم غياب أي تأثير عربي خليجي في أوساط الجاليات الاجنبية المقيمة اقامات مزمنة في البلدان الخليجية؟
فاذا كان من عوامل غياب تأثير وزن ودور المهاجرين العرب كونهم يقيمون في بلدان أجنبية غير عربية لها قوانينها وظروفها، ناهيك عن تأثير اللوبيات الصهيونية السلبي المعادي لتلك الجاليات، فكيف يمكن ان نفهم غياب أي تأثير عربي خليجي يذكر تجاه جاليات تقيم في بلداننا الخليجية وتخضع لقوانيننا وتعتمد اعتمادا كليا في أرزاقها على اقتصادات هذه البلدان؟
الأغرب من ذلك ان اغلب تلك الجاليات الاجنبية المقيمة في دول الخليج لها أندية ثقافية اجتماعية ومؤسسات منظمة خاصة بها بما يسهل التواصل معها من قبل مؤسسات مجتمعنا المدني في حين لا يوجد أي شكل من اشكال هذا التواصل.
والحال ان غياب جسور التواصل مع الجاليات الاجنبية في بلدان الخليج لا يقتصر على الخبراء والايدي العاملة فقط بل يمتد حتى إلى أفراد الجنسيات الاجنبية ذكورا وأناثا، المتزوجين من خليجيين عرب او خليجيات من دون أي دور لهؤلاء الخليجيين الأزواج والزوجات للتفكير باستغلال انتماءات زوجاتهم وأزواجهن لتوظيفها في استمالة ابناء جنسياتهم المقيمين في هذه البلدان الخليجية عبر اقامة شبكة من الروابط والتجمعات المنظمة تسهل وتسهم في تحقيق هذه المهمة.

صحيفة اخبار الخليج
15 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الديمقراطية الطائفية

مصطلحان متناقضان لا يلتقيان كل منهما يلغي الآخر.
لكن كيف تركبا معاً وهما في هذا التضاد؟
هي عملياتٌ استخفافية بعقول شعوب المنطقة فلا هي ديمقراطية ولا هي وطنية، تكحيلٌ من أجل العمى، مهرجاناتٌ وهيلمانات من أجل صعود جماعات جديدة من الانتهازيين والنصابين تنضم إلى الدول العاجزة عن التطور الديمقراطي.
هي عملياتُ تمزيق للشعوب والدول فهي تزدادُ عداءً وتباعداً، وتتفجرُ مناطقها النائية بالحروب، كبداياتٍ لزحفها نحو المدن، أو تغدو حروباً ارهابية داخلها.
ديمقراطية الحل السحري.
ديمقراطية الغد المأمول.
لكن على الأرض أشياء مختلفة، عمليات نخبوية معينة من الجماعات الطائفية لتكون في صف الدول، فتحدث رشى لها، وتنفصل فئات الفساد والوصولية عن قواعدها الشعبية الطائفية، فتبحث القواعد عن قادة متطرفين جددٍ بدلاً من أن يتم التركيز في تصفية الوعي الطائفي، وعي التنظيمات الطائفية، وهو وعي يمثلُ تاريخ فساد الدول الدينية في العصور الوسطى الذي تحكم في إنتاجهِ الملوكُ والخلفاءُ والأمراءُ والدعاة السريون وركزوه في أشكال محافظة متيبسة لا ترى صراعات الأرض ولا تمثل الأغلبيات المحرومة، فيتمُ استيرادُ وعي تم إفسادهُ قديماً لكي يُصلح حاضرا فاسدا.
الوعي الطائفي هو تمزيق للعاملين بدرجة أساسية لأنهم المتضرر الأكبر من بث هذه الأشكال الدينية المحافظة التي تعود للماضي غير الديمقراطي.
فهو تشكيلُ المؤسسات الجديدة على أمراض الماضي، وصب السوائل الملونة في المواعين الخربة.
في دول سمحت بالعمل السياسي الديمقراطي العلماني طويلاً كالمغرب تكونُ الأخطارُ أقل ضرراً، لأن النسيجَ الوطني التوحيدي يمنعُ الانفلات والتشطر الوطنيين، ورغم أن المغرب خاض ويخوض حرباً مع البوليساريو على قضية تبقى معقدة، ولديه موارد محدودة، وهناك بقايا إقطاعية قوية في السلطة، فإن شعبه لم يتمزق كشعوبِ المشرق، بفضل تلك الحريات السياسية الطويلة نسبيا، التي تشكلتْ بفضلِها نخبٌ سياسية وثقافية واسعة ديمقراطية، تختلفُ في كل شيء لكنها لا تختلف في الحداثة والعلمانية والوطنية.
تقودُ الديمقراطية الطائفية إذًا إلى نقائضِها وأهم نقائضها هي الدكتاتورية.
فمع استفحال الخلافات الاثنية والمذهبية والاقتصادية وانزلاق الصراعات إلى استقطابات طائفية تنشرخ الخريطة الوطنية إلى دويلات كما يحدث في الديمقراطية الطائفية العراقية، ولا تعود الناس المتعطشة للإصلاح والديمقراطية بمتحمسة لنظام مليء بالقلاقل، وهذا عادة ما يقصده المتطرفون.
فالجماعاتُ الانتهازية الطائفية التي صعدتْ إلى المؤسسات السياسية ليست لديها برامج اجتماعية فهي لا تقوم على رؤيةٍ طبقية، وهنا الفيصل، كأن تمثل العاملين أو المالكين، أو الرأسماليين أو الفلاحين، بل هي تمثلُ هوية طائفية تقوم كما قلنا على وعي العصور الوسطى المحافظ الممثل لقوى الاستغلال المتخلفة.
لا يعرف الملالي ماذا يمثلون ومن يخدمون.
لا يعرف الملالي عمقَ الإسلام وانتماءَهُ إلى الأغلبيةِ الشعبية العاملة من دون هوية طائفية.
إنهم عاشوا على استغلالِ الناس الممزقين المتنابذين وعلى عطايا الدول وبهذا يعجزون عن إنتاج وعي إسلامي ديمقراطي، ويعجزون عن إنتاج وعي وطني لكل دولة إسلامية، ويعجزون عن التعبير عن الطبقات سواءً كانت فقيرة أو غنية عبر صراع ديمقراطي مطور لا مدمر.
وحين صار التوحد الوطني لمجابهة الاستعمار ظهر غيرهم ليقوم بهذه المهام الجسام، فلماذا لم يكونوا هم في الطلائع؟
ليست هذه ألغازا ولكنها سببيات التاريخ والواقع الصلدة.
إن الديمقراطية الطائفية بتصعيدها مثل هذه التيارات توسع الأزمات وتعمق الخلاف وتفكك البلدان، وقد رأينا كيف سار العراق الذي وحدته الملكية الإصلاحية بمستوى محدود، ثم وحدته الجمهورية بمستوى محدود، لكن الملكية والجمهورية كلتيهما لم تصعدا العراق إلى مستوى دولة علمانية ديمقراطية وطنية، وراحتْ النخبُ السياسية المجترة على هذه الشعارات تحرقُ بعضَها بعضا مما أعاد العراق للفسيفساء الطائفية ليتوغل فيها أكثر وأكثر حتى صار خرائط من النار والدماء.
تغدو الدولُ المحارَبة من قبل التيارات الطائفية بعد سنوات من الصراع المحتدم أكثر قبولاً عند الناس من هذه التيارات، فيضيعُ عملـُها عبثاً.
الأسباب لا تعود لعظمة إنجازات هذه الدول لكنها تمثل للناس شيئاً من الوجود السلمي غير المضطرب، ولكون الشعوب قد ناضلتْ موحدة أمامها وكرستْ فيها إنجازاتٍ وطنية قبلتها هذه الدول بحكم النضال والتاريخ.
لكن التناقضات تتشكل، فبدلاً من زيادة شعبية الجماعات الطائفية تحصد الفشل وتراجع المؤيدين، وتتفجر الانقسامات الداخلية فيها.
لماذا تزداد الانقسامات بين الطائفيين؟ لماذا تظهر جماعات جديدة باستمرار ترفض القديمة، ويحدث هذا في الجزائر، وتظهر جماعاتُ القاعدة وطالبان في باكستان رافضة المذاهب السنية التقليدية وتتنطعُ للقيادة عبر تسميات سياسية غير موجودة في التاريخ الديني؟
هل هي مصادفات أم ظواهر لها سببيات؟
ليست لديهم قواعد دينية صلبة، إنما هي لُعَب سياسية وغايات دنيوية دنيا، فيقوم زعيمُ الجماعة المفصول أو المحجّم بتشكيل جماعة أخرى تزايد على الأولى لتظهر أخرى وأخرى.
وهكذا كان أمرُ المتلاعبين بالدين قديماً، أهداف شخصية تتخفى تحت لافتات دينية، وما أكثر انشقاقات الخوارج، وكلما طمحَ قائدٌ شكلّ جماعة الزرق والخضر والبيض!
ولهذا فإن قوانين التنافس الشخصي تفعلُ فعلها بين الجماعات الطائفية المعاصرة، وتلعب رشا الدول وتدخلات الأجهزة الاستخباراتية دورها في إنتاج مثل هذه الانشقاقات والمزايدات التي تتنامى حتى تصل إلى المذابح.
إن الوعي الشعبي هنا مُغيب، لقد أُدخلَ في هلوسة دينية سياسية عبر شحن عاطفي حاد، فتداخلت فيه الرموزُ الدينية المقدسة بقضايا العيش ونقد الدول وسيطرة الشلل السياسية، فلم يعدْ قادراً على الفهم الفاصل بين ما هو مقدس رفيع وما هو سياسي انتهازي.
لم يجعل تطوير عيشه عبر نقاباته واتحاداته وثقافته الشعبية التي هي السبيل لتمييز ما هو حق وما هو باطل.
التمحور حول الذات الطائفية المتشنجة، هو المنتج لزيادة الكوارث السياسية، فتغدو الديمقراطية الطائفية ميدان السباحة في عالم الانشقاقات.
ولكن الديمقراطية غير هذا، هي وحدة الشعوب وصراع بين برامج عيش واقتصاد وتطوير أسواق وعمالة وثقافة وترسيخ لوحدة الأوطان والشعوب رغم الاختلافات.

صحيفة اخبار الخليج
15 يونيو 2009

اقرأ المزيد

تقطير الحكمة

لاحظ الكاتب جورج برنارد شو عند صديقه النحات جاكوب ابشتاين كتلة حجرية كبيرة، فخاطبه سائلا: ما الذي ستفعله بهذه الكتلة؟ أجاب النحات: «لا أعرف بعد.. أفكر في الأمر». رد شو: «هل تخطط لإلهامك؟ ألا تعرف أن الفنان يجب أن يكون حراً في تغيير رأيه عندما يريد ذلك؟»، لكن النحات شرح له الأمر: بالنسبة لك، في حال غيرت رأيك، لا عليك سوى تمزيق ورقة تزن خمسة غرامات، أما عندما تتعامل مع كتلة تزن أربعة أطنان فعليك إتباع طريقة أخرى. باولو كويلهو ليس نحاتاً مثل ابشتاين، إنه كاتب مثل برنارد شو، والمرجح انه مزق الكثير من الأوراق التي لاتزن الكثير بالقياس لوزن كتلة حجر النحات، من اجل أن يخلص أخيرا إلى تلك الصفحات التي تشكل محتوى كتابه «مكتوب»، وهي صفحات قليلة لكن لها وزن الذهب. في الكتاب وردت حكاية عن الفيلسوف شوبنهار الذي كان يتنزه مرة في احد شوارع درسدن باحثاً عن إجابات على الأسئلة التي تؤرقه. قرر فجأة لدى مروره أمام حديقة، المكوث فيها والنظر إلى الأزهار. احد سكان الجوار لاحظ أن سلوك هذا الرجل غريب، فاستدعى الشرطة. بعد بضع دقائق اقترب شرطي من شوبنهار وسأله بنبرة جافة: من أنت؟ رمق شوبنهار الشرطي وقال: «إذا استطعت الإجابة عن هذا السؤال، سأكون ممتناً لك إلى الأبد». بشيء من التأمل يمكن أن نقول إن الكتاب يسعى لإعانتنا على فهم من نكون، وهو يقطر الحكمة الإنسانية تقطيراً كتقطير الرائحة الزكية من الزهور على نحو ما يفعل الخيميائيون في المختبرات. التقطير يتطلب درجة من التركيز العالي، بحيث إن قطرة واحدة تختزن في ثناياها عطر الكثير من الزهور. هنا أيضاً يمكن لعبارة واحدة أن تختزن تراكماً هائلاً من عبر الحياة. اعتدنا أن نقرأ لكويلهو روايات. لكنه هنا لا يقدم لنا رواية، إنما كتاباً فريداً من نوعه. في بعض الأوجه يذكرنا الكتاب برسول حمزاتوف في سفره الجميل والعبقري «بلدي». فهو يتضمن سلسلة من الانتقاءات والاختيارات التي سهر عليها الكاتب بعناية، واستقاها من الكتب ومصادر المعرفة الأخرى. انه يصفه بكتاب لـ «تبادل الخبرات»، لأنه يتضمن حكايات رواها له أصدقاء أو أناس كثر تركوا له رسائل لا تنسى، رغم انه لم يلتق بهم أكثر من مرة، وفيه أخيرا قصص تنتمي إلى التراث الروحي للإنسانية. ولأنه يؤمن بأن الحياة مخاطرة، فانه وافق على اقتراح تقدم به إليه مدير إحدى المجلات المصورة، بأن يكتب زاوية يومية تتضمن ما يشبه الرحيق المصفى من الخبرات الإنسانية، ستشكل في ما بعد مادة هذا الكتاب الذي أعاد نشرها فيه، وان بدت الأفكار التي تضمنها على شكل مواعظ، فإنها في الجوهر تقدم خلاصات عميقة عن الحياة والنفس البشرية والإبداع والتجارب المديدة للإنسان. حين وافق على الاقتراح لم يكن يعرف مسبقا ماذا سيكتب، لكن التحدي كان محفزا له. من أجل أن يكتب الزاوية أعاد قراءة كتب، وبحث في الحياة حوله عن خبرات وتجارب ألهمته بأفكار جديرة بأن تقال.
 
صحيفة الايام
15 يونيو 2009

اقرأ المزيد

التعسف في‮ ‬استخدام الإغراق

بموجب توصية مذيلة بتعليل اقتصادي‮ ‬ومالي،‮ ‬رفعتها مفوضية الاتحاد الأوروبي‮ ‬في‮ ‬بروكسل إلى الدول الخمس والعشرين الأعضاء في‮ ‬الاتحاد الأوروبي،‮ ‬فإن من المتوقع على نحو كبير أن‮ ‬يقوم الاتحاد الأوروبي‮ ‬بفرض نظام حصص‮ ‬‭(‬Quota‭)‬‮ ‬على وارداته من الأحذية الجلدية القادمة من الصين وفيتنام،‮ ‬استناداً‮ ‬إلى ما‮ ‬يعتبره ممارسات إغراق‮ ‬‭(‬Dumping practices‭)‬‮ ‬تتبعها الدولتان‮.‬ وتقضي‮ ‬التوصية المذكورة بفرض رسوم عادية على‮ ‬140‮ ‬مليون زوج من الأحذية الجلدية تستورد سنوياً‮ ‬من الصين و‮ ‬95‮ ‬مليون زوج من فيتنام‮. ‬وفي‮ ‬حال استنفدت الدولتان حصتاهما فإن رسوماً‮ ‬إضافية ستفرض عليهما بواقع‮ ‬23٪‮ ‬و‮ ‬5‭,‬29٪‮ ‬على التوالي‮.‬ على صعيد آخر ولكن متصل،‮ ‬قام الاتحاد الأوروبي،‮ ‬وبناءً‮ ‬على شكاوى عدد من المنتجين في‮ ‬داخل بلدان الاتحاد الأوروبي‮ ‬تفيد بأن كلاً‮ ‬من أوكرانيا وروسيا تصدران إلى بلدان الاتحاد الأوروبي‮ ‬أنابيب الصلب من دون وصلة لحام المستخدمة في‮ ‬مد خطوط أنابيب النفط والغاز وفي‮ ‬البنية الأساسية للصناعات الكيماوية والمرافق العامة،‮ ‬بأسعار مخفضة في‮ ‬إطار إغراق السوق الأوروبي‮ ‬بهذا الصنف من السلع‮ ‬‭-‬‮ ‬بناءً‮ ‬على ذلك،‮ ‬فرضت مفوضية الاتحاد الأوروبي‮ ‬ضريبة إضافية نسبتها‮ ‬3٪‮ ‬على هذه السلعة الروسية والأوكرانية‮.‬ ووفقاً‮ ‬للمفوضية فإن شركة‮ ‘ ‬ميتال ستيل‮ ‘ ‬الأنجلو‮- ‬هولندية هي‮ ‬التي‮ ‬وقفت وراء دفع دول الاتحاد الأوروبي‮ ‬لفرض تلك التعرفة الجمركية الإضافية على منافساتها الشركات الروسية والأوكرانية،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأن شركة‮ ‘‬سيفيروستال‮’ ‬الروسية كانت نافست الشركة الأنجلو‮- ‬هولندية في‮ ‬شراء أسهم شركة‮ ‘‬أرسيلور‮’ ‬الأوروبية المتخذة من لوكسمبورج مقراً‮ ‬لها‮. ‬فلا‮ ‬غرو أن‮ ‬يكون فرع شركة‮ ‘‬ميتال ستيل‮’ ‬في‮ ‬تشيكيا أول المبادرين بفرض ضريبة الإغراق التي‮ ‬قررتها المفوضية في‮ ‬بروكسل‮.‬ دعونا في‮ ‬البداية نشرح لماذا هي‮ ‬رسوم إضافية‮. ‬بموجب ما‮ ‬يسمى بـ‮ ‘‬جات‮ ‬‭’‬94‮ ‬فإن مادتها‮ ‘‬الثانية‮ ‬1ب تنص‮’ ‬على وجوب تقديم الدول الأعضاء في‮ ‬منظمة التجارة العالمية جداول التزامات تحدد فيها سقف الضريبة الجمركية الذي‮ ‬ستلتزم به في‮ ‬علاقاتها التجارية الدولية‮. ‬ وتسمى معدلات الضريبة المدرجة في‮ ‬الجداول الوطنية للدول الأعضاء بالمعدلات المربوطة جمركياً‮ ‬‭(‬Bound lates‭)‬‮ ‬أي‮ ‬أنها‮ ‬غير قابلة للزيادة‮ (‬إلا عبر آلية إعادة تفاوض طويلة‮). ‬فإذا ما أرادت دولة عضو زيادة معدل الضريبة الجمركية الذي‮ ‬تفرضه على وارداتها فإن عليها أن تبرر ذلك‮. ‬وأحد تلك المبررات التي‮ ‬تلجأ إليها عادة الدول في‮ ‬هذه الحالة هو الادعاء بوجد حالة إغراق سلعي،‮ ‬بمعنى أن دولة ما‮ (‬عضو في‮ ‬المنظمة‮) ‬تصدر لدولة عضو أخرى سلعة مـن السلع بأسعار تقل عن أسعار نفس السلعة المباعة في‮ ‬الدولة المصدَّرة‮ (‬المادة‮ ‬1‮:‬2‮ ‬من‮ ‘‬جات‮ ‬94‮ ‘ ‬الخاصة بالإجراءات المضادة للإغراق‮).‬ ومع أن هذه العملية مقيدة بمتطلبات إثبات حالة الإغراق فإنها تعتبر ممارسة شائعة بين الدول الأعضاء في‮ ‬منظمة التجارة العالمية‮ ‬يتم اللجوء إليها حين تتراجع الميزة التنافسية لسلعة ما تصدرها دولة عضو إلى دولة عضو أخرى إزاء سلعة مماثلة تنتجها الدولة الثانية،‮ ‬وأن إزالتها تتم عادة بالتفاوض الثنائي‮ ‬حتى وإن لجأ الطرف المتضرر إلى جهاز فض المنازعات لدى المنظمة‮. ‬مع الاستدراك هنا أن كثيراً‮ ‬من دعاوى الإغراق التي‮ ‬تستند إليها الدول الأعضاء في‮ ‬فرض ضرائب إضافية على الدول المضبوطة بممارسة الإغراق،‮ ‬هي‮ ‬دعاوى مسوَّغة وحائزة على كافة شروط إثبات حالة الإغراق‮.‬ ويبقى مع ذلك أن التعلل بضبط حالة إغراق بالنسبة لسلعة ما،‮ ‬يعتبر من الأدوات الشائعة الاستخدام في‮ ‬التجارة الدولية،‮ ‬وهي‮ ‬بهذا المعنى ترقى إلى مستوى الإجراءات المعيقة للتجارة‮.‬ ولذلك ومن خلال الإجراءات‮ ‘‬المضادة للإغراق‮’ ‬سالفة الذكر التي‮ ‬اتخذتها مفوضية الاتحاد الأوروبي‮ ‬ضد كل من فيتنام وأوكرانيا وروسيا،‮ ‬ندرك أسباب تعثر مفاوضات جولة الدوحة‮ (‬الجولة التاسعة‮) ‬من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في‮ ‬إطار منظمة التجارة العالمية التي‮ ‬أُريد لها أن تكون جولة لدفع التنمية في‮ ‬الدول النامية فإذا بها تتحول إلى مساومات عجيبة بين الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية بشأن حجم التخفيض المطلوب من قبل الأولى تجاه الثانية بالنسبة للسلع الصناعية‮ (‬تطالب الأولى بتخفيض نسبته‮ ‬66٪‮ ‬فيما تعرض الأولى نسبة تخفيض قدرها‮ ‬54٪‮) ‬مقابل موافقة الأولى على إلغاء الدعم الزراعي.
 
صحيفة الوطن
14 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الرأسمالية الأمريكية بين أزمتين

منذ الزلزال الاقتصادي الذي هز الولايات المتحدة في خريف العام الماضي، وهي الدولة الرأسمالية العظمى ذات الاقتصاد الاقوى والاكبر في العالم، ولتطاول آثار هذا الزلزال اقتصادات كل دول العالم بلا استثناء، منذاك وتحليلات المراقبين والمحللين الاقتصاديين في العالم ما انفكت تقارن أو تشبه الأزمة الاقتصادية الرأسمالية الامريكية الراهنة بالأزمة الاقتصادية التي عرفت بالكساد الكبير والتي مرت بها الولايات المتحدة ذاتها خلال الفترة (1929-1932)، وبخاصة في ضوء ما تركته كلتا الأزمتين من آثار اقتصادية ومعيشية مأساوية على شعوب الولايات المتحدة وأغلب دول العالم وعلى الاخص فيما يتعلق بتعاظم معدلات البطالة وانتشار الفقر، وبدت بذلك الكثير من التحليلات المقارنة بين الازمتين كأن الولايات المتحدة لم تعرف قبلهما ازمات اقتصادية مماثلة أو لم تتجرع اهوال وآثار ازمات اخرى.
والحال وان كان عقد المقارنة بين الازمتين مغريا لتشابههما في الحجم الكارثي الا ان كارثة الكساد الكبير في أواخر العشرينيات واوائل الثلاثينيات من القرن الآفل وقعت في وقت لم يكن اقتصاد الولايات المتحدة بهذا التأثير الكوني المعولم، ولم تكن الشركات المتعددة الجنسية قد برزت بتأثيرها الاخطبوطي في معظم دول العالم، كما لم تكن أمريكا حينها لديها مستعمرات في العالم كالتي كانت لدى عدد من الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا.
ولم تكن الأزمة الاقتصادية المعروفة بـ “الكساد الكبير” خلال تلك الفترة هي أول أزمة تمر بها الرأسمالية الامريكية، فعلى سبيل المثال مرت الولايات المتحدة بسلسلة من الازمات الدورية خلال الاعوام 1866، و1873، و1882، و1890، و1900، و1907، وفي الازمة الأولى التي وقعت سنة 1866 تعرضت صناعة السفن للانخفاض في الانتاج، وفي الازمة الثانية 1873 تراجعت صناعة بناء السكك الحديدية اربع سنوات الى الوراء بينما تراجعت صناعة الحديد 3 سنوات، وصناعة القطن سنتين، وصناعة بناء السفن 6 سنوات.
وفي أزمة عام 1882 انخفضت اعمال البناء في السكك الحديدية بصورة حادة، وتقلص حجم الانتاج في الصناعات الاساسية، ومن ذلك القاطرات البخارية التي انخفضت إلى الثلث كما انخفض انتاج القضبان إلى 40%، وتعد أزمة 1890-1893 اشد ازمات الرأسمالية الامريكية خلال القرن التاسع عشر ففي خلال نصف سنة أعلن ما يقارب 8000 بنك افلاسه واغلق 40 بنكا ابوابه فعليا، وفي عام 1891 انخفض انتاج القضبان إلى 32%.
وانعكست كل تلك الازمات على أوضاع الشغيلة والعمال، ففي أزمة 1873 مثلا كان العمال لا يوظفون إلا خلال فترة مؤقتة لا تتجاوز نصف عام في حين احتفظ 20% من مجموع القوى العاملة بوظائفهم الثابتة، أما اجور العمال فقد تدنت إلى نسبة 45% واغلقت غالبية المصانع ابوابها في وجه العمال.
أما فيما يتعلق بالبطالة فحدث ولا حرج، ففي عام 1893 مثلا كانت طوابير العاطلين تجوب البلاد طولا وعرضا حتى بلغ عددهم 5،4 ملايين عاطل ناهيك عن انخفاض الاجور.
وما ان حل عام 1894 حتى اندلعت انتفاضة عارمة للعاطلين والجياع بقيادة الجنرال كوكسي الذي قاد مسيرة توجهت إلى واشنطن العاصمة تم قمعها بهراوات الشرطة.
وبلغت نسبة البطالة عام 1897 10%، وفي عام 1898 6،9% ثم صعدت إلى 1،10% عام 1904 حتى بلغت اوجها عام 1908 حيث بلغت 4،16% وتكررت هذه النسبة عام 1914، والجدير بالذكر ان معدل البطالة الامريكي بلغ ذروته في الازمة الاقتصادية الراهنة مطلع العام الجاري حيث بلغ 5،7% وانخفض عدد الموظفين الى 530 ألف موظف.
وهكذا يتبين لنا من كل ما تقدم ان الازمة الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة ليست وليدة اليوم، بل هي اعتادت ان تمر بسلسلة من الازمات الدورية منذ دخولها المرحلة الاحتكارية الامبريالية، فمرحلة العولمة الراهنة، وعلى الاخص بعد هيمنتها شبه المنفردة على الاقتصاد العالمي.

صحيفة اخبار الخليج
14 يونيو 2009

اقرأ المزيد

مستقبلُ الرأسماليات الحكومية الشرقية

مستقبلُ الرأسماليات الحكومية الشرقية هو حاضرُ الغرب الرأسمالي الراهن المتوجه للاشتراكية، فهو جدلٌ اجتماعي كوني عبر عقود السنين.
هناك اشتراكية علمية وهنا اشتراكيات خيالية.
فنحن نصعدُ لبلوغ مستوى بلغهُ غيرنـُا منذ زمن بعيد، لكن نحن نسرع الخطى في الزمن ونتخطى السلالمَ والدرجات، مرة نسقط بقوةٍ ونكسرُ ما نصعدُ عليه، ومرة نتعلمُ ونمشي بحذر.
وبهذا فإن البرامج الخيالية كافة في تجاوز الغرب والقفز عليه هي برامجُ القفزات الحادة والعسكرية التسريعية وتشكيلُ أنظمةٍ فاسدةٍ تخافُ من الديمقراطية والرقابة، وتخصصُ الثروة وتعممُ المشكلات والفقر، التي تعود لمراجعة نفسها ببطء وبصراعات ضارية مكلفة.
فهل رأينا أنظمة الغرب تراجع نفسها وتترك البرلمانات والصحافة الحرة وتبحثُ عن سبلٍ أخرى أم أنها تعزز هذا النهج بمزيدٍ من التطوير فيه؟
في حين اننا وجدنا أنظمة الرأسماليات الشرقية تغيرُ من أبنيتها الاجتماعية الكلية وتنسفها بين لحظة وأخرى، وما كان مُحرماً من الملكية الخاصة ومذموماً يغدو هو حجر الزاوية في البناء الاقتصادي التالي.
وذلك بسببِ أن لا شيءَ راسخاً وثابتاً فيها من هياكل اقتصادية ومؤسسات ديمقراطية.
وحكم الحزبُ الواحد يتحول إلى تعددية فوضوية وحروب أهلية.
ويغدو هذا تجريباً في لحم البشر، ففي فترات يُعتبر الناس مشبوهين ومقبوضا عليهم ومدانين ومعرضين للتعذيب، ومختفين عن الأنظار، وفي فتراتٍ أخرى تـُعتبر حرياتهم مُصونا وحياتهم ثمينة، والأنظمة والحكام لم يتغيروا كثيراً، مما يجعل الماضي محشوراً في الحاضر.
وتنطلق الرأسمالياتُ الحكومية ذات الصبغات الدينية في اناشيد صاخبة للقضاء على الأخلاق الفاسدة ومنع الموبقات والاجهاز على الحرام، لكن ذلك لا يجد له سبيلاً من التطبيق، ففي الأعلى طابق من الشعارات والدعايات عن الأخلاق العظيمة وفي الطوابق السفلى تنتشر الموبقات والفساد.
لأن الأخلاق لا تتشكل بأوامر من الإذاعات ومن قوى السلطات.
وبسبب أن الحرام والفساد والجرائم تعششُ في البناء عامة وبسبب الفقر واختلال توزيع الثروة، وعلى سوء الرأسماليات الغربية فقد قامتْ على جدلٍ سياسي واسع يكشفُ هذه المناطق ويطورها عبر عشرات السنين، ووصل الأمر إلى أن اصبحت المدن حدائق والمناطق المؤبوة محددة وضيقة وتجارية مبتذلة.
وإذا حدث أن تـُركت القطاعات الخاصة تنمو بحرية في الشرق الرأسمالي الحكومي فهي حرية نسبية خاضعة للسيطرة الحكومية، وقد رأينا في تجارب دول مثل اليابان الاستمرارية في النظام وتصعيد منجزات الصناعة والثقافة بحيث غدت هذه التجربة الشرقية مُعممة على دول عديدة، فغدت الديمقراطية متسعة في كل شؤون الحياة من تكوين البرلمانات الحرة وانتخاب السلطات من القمة حتى القاعدة.
في حين اعتمدت رأسماليات الشرق الحكومية على إنتاج المواد الخام الثمينة وخاصة النفط والذهب، ولم تستطع أن تطور قوى الإنتاج بشكل كبير، لأن نظام رأسمالية الدولة يعجز عن ذلك، ولا يترك الأسواق تتطور، ولا يدع الحريات تنمو بشكل مستمر.
سوف يأتي زمن تنفد الموادُ الخامُ الثمينة ويتوقف إنتاجُ النفط وتنضبُ المناجم، وإذا لم تطور هذه الأنظمة قوى الإنتاج البشرية، عبر التوجه للاقتصادات الحديثة، ويصبح البشر قوى إنتاج متقدمة، فسوف تنهار اقتصاداتها وأشكال وجودها السياسية، فتتمزق إلى دول متصارعة وتنشب الحروب الأهلية.
الخيار واضح: فإما أن تنقل الدولُ الاقتصادَ لقوى القطاعات الخاصة والعامة المحكومة بالإرادة الشعبية وإما الضياع.
لأن القوى البيروقراطية تأكلُ أغلبية الفوائض التي توزع على الحاشيات ودوائر البذخ وعلى مشروعات خارج البناء الاقتصادي المنتج، وبعدئذ لن تكون هناك فوائض بهذه المستويات.
وليست متابعة الدول الشرقية للدول الغربية في أنظمتها سوى عملية لتجنب مثل هذه الكوارث.
لكن هل هي تطبقها بشكلٍ مدروسٍ حقيقي أم زائف؟ هل تأخذ بعض الديكورات الخارجية أم هي تطبق الجوهر واللب من تلك الأنظمة المتقدمة؟
أغلب الأحيان هي تنقلُ ديكورات كما يجري الأمر في أغلب هذه الدول، والديكورات لا تخلق تغيرات عميقة.
إن تعبيرات الإصلاحيين والمحافظين ليست نتاج علاقات فارغة، ولكنها تعود للصراعات في القوى الحاكمة.
المحافظون هم المسيطرون على الهياكل الرأسمالية العامة في هذه الدول، ولا يقبلون بالتجديد والتغيير، ويصطنعون تعبيرات متعددة فيها دغدغة لمشاعر البسطاء، كما يفعل أحمدي نجاد في الانتخابات محتفظاً بالرئاسة، وهو معبر عن العسكريين والبيروقراطيين الحكوميين المسيطرين على هذه القطاعات العامة.
في حين ان الإصلاحيين يريدون زعزعة هذا التحجر وتغيير الاقتصاد بحيث لا تحتكره الحكومة، ولكنهم ضعاف لأن السيد رفسنجاني الليبرالي الديني هو تاجرُ فستق وليس صاحب مصانع كبيرة.
وهذا يجري في معظم الدول الشرقية، فالسيطرة على الشركات العامة والوزارات هي مشكل الأسواق والثروات، وهي سبيل تؤدي إلى توقف تطور الإنتاج كذلك وعدم الغنى فيه لأنه يعتمد على التنوع والمنافسة وتطوير البضائع، وليس على توسع العمل غير المنتج والإدارات المتضخمة والعائلات الفارغة من أي إنتاج حقيقي.
لا تستطيع قوى الشرق الحكومية أن تطور البضائع، فالنفط الخام لا يحتاج كثيراً إلى تطوير، لكنها عاجزة عن صنع ساعة دقيقة، قد تصنع الأحذية والثياب، لكن صنع الأجهزة الدقيقة يحتاج إلى تطور كبير في السوق والتعليم وتطور الكفاءات وتوسع الفئات العمالية التقنية المتطورة.
وخواتيم تاريخ الرأسماليات الحكومية تحدد بسبب نضوب المواد الخام، وهنا تأتي السكتة القلبية، فتحتاج الأنظمة إلى إعادة تكوين البناء الاقتصادي برمته، ووقف الاسراف، وبيع المؤسسات العامة، ووقف المعونات للداخل والخارج، ووقف التوظيفات الحكومية.
وتتحدد برامج السكتة القلبية هذه بمدى حضور القوى السياسية الممثلة للقوى الاجتماعية المختلفة، التي تغيرُ البناءَ الاقتصادي حسب مصالحها، فإذا كانوا ورثة في الأجهزة نفسها أو كانوا قوى شعبية فإن الأمور مختلفة ويتشكل البناء الجديد حسب هذا الحضور.

صحيفة اخبار الخليج
14 يونيو 2009

اقرأ المزيد