المنشور

هو البيت الذي أحبه!

لم يَعُدْ لنا بيت. جاءَ الغرباءُ وأخذوه.
كان بستاننا هنا، وبحرنا الذي نسبحُ فيه، وشاطئنا الذي نصطاد عليه.
لم يعدْ لنا شاطئ ولا سمك، والقوارب تكسرتْ على القوارب.
نتذكرُ بأسى كيف كنا، عائلة واحدة، فريقاً ملتحماً يصطاد معاً، يتبادل صحونَ الأرز في الأزمات، نتسلف من بعضنا، نأخذ المياه من عين واحدة.
لم يعدْ لك حيك، صار أشبه بجهنم الدولارات والصفقات والسلع والغرف التي تـُؤجر في كل لحظة وتخلى في اللحظة التالية، وهو حي البضائع السرية المهربة، تخرجُ من غرفتك في الفندق أو غرفتك في الدواعيس الرثة لتجد أن مدينتك خطفوها، أين ذهبت عاصمتي ومدينتي وأمي؟
لغات بعدد سكان الأرض، رثاث من الخلق وسوق فوضوية، وكراجات تضرب جدران رأسك الذي تحول إلى جمجمة، وكان الأب يعدُ ابناءه بمستقبل شفاف سعيد، ويقول لهم ستكون هذه الأرض لكم، وكبرنا ووجدنا الأرض تـُسحب منا، ونحن سلع في المزادات، وأدوات حديدية صدئة في مشاغل رثة.
بيتنا سُرق منا، ولم نعدْ نعرفُ جيرانـَنا، وذهبَ رجلٌ (مناضل) لحيهِ القديم يجمعُ الأصوات للانتخابات، وطرقَ بابَ بيت رفيقه الذي عاش سنوات الطفولة والصبا معه، وعلمهُ بعضَ الكلمات، طرقَ الباب ليسأل عن رفيق يعاونه في الوصول لكرسي الهيلمان، فوجد أن الصديق مات منذ سنين، بعد أن امتلأ بأمراض غريبة.
خرج أولادُ الصديق غاضبين!
حارتنا سُرقت، أولاً سرقوا النادي منا، ذلك النادي الذي كانوا يقيمون عليه المسرحيات الفكاهية الجاذبة للناس، وكان مثل التلفزيون الوطني يبث الحكم والقصص، فيتداول الرجال والنساء قضايا الحداثة ومشاكل الواقع، وكانت جرائده الحائطية مكتوبة بعشرات الأيدي، وبعدها يصيرُ الصغار رسامين وكتاب قصة وحالمين بالأمل الأخضر.
بعد أن خطفوا النادي خطفوا صدورَ المراهقين التي امتلأت بالدخان فراحوا يسبحون في بحر الإبر والعروق المفتوحة على الجروح والسموم، يغرزون في سواعدهم الرقيقة الأنصال، ليشبع تجار لا يشبعون، ويعودُ المناضلُ ليسأل: أين ذهب شاكر؟ أين ذهب سالم؟ أين ذهب عمار؟ أين.. أين!؟
فيقولون له يعطيك طول العمر، رحلوا وتركوا الدنيا الفانية!
فيصرخ كلهم كانوا شباباً!
يجيبُ من بقي على قيد الحياة ولم تزلْ في لسانهِ مضغة شجاعة: هل رأيتَ كيف جاعوا، وبحثوا عن العمل ولم يجدوه، وتسكعوا طويلاً، وجلسوا يثرثرون أزماناً، فاصطادتهم شبكاتُ الهوى والنوى؟
حين يعود المناضلون ليجمعوا الأصوات لا يعرفون أزقتهم، أزقتهم التي خطفها الدرزي والحلاق وتاجرُ الإبر والملا وتاجر العقارات وتاجر النعوش والأضرحة.
بعد أن خطفوا النادي وعقولَ العصافير الصغيرة خطفوا المصائدَ والقواربَ وتراب البحر النقي، والقواقع، وحكايات الربابنة والبحارة، والمرفأ الصغير الذي كان متحفاً للطائرات التي سقطت بين الحورة والقضيبية، والدواليب الملأى باللوز والبراحات الملأى بالحكايات وعشاق الليل والأقمار.
خذ الآن ما شئتَ من قمامةٍ ومن شعراء بلا ألسنة نسوا الصراخ والكلام، ومن أبطالٍ مُرممين بقش، ومن متهالكين على الكراسي/المآسي.
خذ الآن ما شئتْ من براميل مليئةٍ بالبقايا والهدايا والشيكات، والذكريات المحروقة ولكن لن تجد الكهول الذين حفظوا أشعار الأولين، والفرق الشعبية الصاهلة بغناء الوطن والنسوة الحرفيات اللواتي كن يصنعن الأكلات والحلوى، ويبعن في الطرق دون أن يتعرضن للحبس والأحجار.
لن تجدَ امرأتك فقد تيبست من الولادات وتربية الأطفال وتسليم ضلوعهم لتجار الممنوعات.
لن تجدَ المجالسَ المليئة بالحكمة والسوق المليئة بالأسماك الطازجة القادمة من السواحل، ومن المصائد الجالسة على مرمى حجر.
لن تجدَ أهلكَ الذين تواروا من التلوث والمطابخ والأسعار العالية والطوفان الأجنبي، وهجمت عليهم الأدخنة والغازات والسرطانات والدماءُ البيضاء.
بعد أن خطفوا النادي والصغار والساحرات الطائرة في السماوات والأحلام خطفوا العقولَ التي كانت واعدة بالطيران نحو المريخ واكتشاف العلاجات للأمراض الاجتماعية والجلدية والروحية.
صار الشباب ممغنطين موجهين للآخرة، أو للقبور، مسحورين أو شبه مسحورين، يكتبون الجوامع والتمائم، ويهذون ويحلون المعادلات الخرافية للقرن الثاني الهجري، أو يتخدرون طوال اليوم بأعشاب.
لم يعد لي بيت، خطفوا بيتي.
استولى الأغرابُ على بيتي، فلجأت لمدينتي فوجدتهم خطفوا مدينتي، فذهبتُ إلى أصدقائي فوجدتهم خطفوا أصدقائي.
كلّ حجر فيه كان من معاشي وكلماتي، وكلّ قطعة فيها سُقيت بدمائي، لكن الأرضَ هربتْ من يدي، وراحتْ تبحرُ خارج خليجي، كلّ يومٍ تمشي بوصة جديدة وتسحبُ أولادي، وصراخي يتعالى: أعيدوا لي وطني!

صحيفة اخبار الخليج
11 يونيو 2009

اقرأ المزيد

النظام الانتخابي

عيـــوب ومــــزايا لفتت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في الكويت الأنظار إلى المزايا التي يتوفر عليها النظام الانتخابي الكويتي على نظيره البحريني، الذي نطالب بتعديله، لتصبح مخرجاته أكثر تعبيراً عن طبيعة الخريطة السياسية – الاجتماعية في البحرين. أولى هذه المزايا هو اتساع حجم الدائرة الانتخابية، فالكويت مقسمة الآن إلى خمس دوائر انتخابية تضم كل منها عددا كبيرا من المناطق السكنية المتجاورة جغرافيا، ويمثل كل دائرة عشرة نواب، فيما لا يحق للناخب انتخاب أكثر من أربعة فقط من المرشحين، بحيث يكون هناك من جهة مجال للتنافس الانتخابي، ويضفي طابعا سياسيا أوضح على العملية الانتخابية. ثاني هذه المزايا هي عدم اشتراط إقامة المرشح في إحدى المناطق السكنية للدائرة الانتخابية التي يرشح نفسه فيها، وإنما يُكتفى فقط بأن يكون اسمه مدرجا في جدول الناخبين في أي دائرة انتخابية، وتتوافر فيه الشروط الانتخابية الأخرى، ويستطيع أن يرشح نفسه في أي دائرة انتخابية، وذلك انطلاقا من الحكم الدستوري القائل إن النائب يمثل الأمة بأسرها ولا يمثل ناخبي دائرته. وبالمناسبة فان هذا النظام كان معمولا به في البحرين في انتخابات المجلس الوطني عام 1973. ميزة أخرى في النظام الانتخابي الكويتي غير متاحة في نظامنا الانتخابي هي اختصاص المحكمة الدستورية بالنظر في الطعون الانتخابية، وليس القضاء العادي، ذلك أن الاختصاص الأول في النظر بالطعون الانتخابية مقرر دستوريا لمجلس الأمة، ويمكنه أن يعهد به إلى جهة قضائية، حيث أقر مجلس الأمة لاحقا أن يعهد بهذا الاختصاص إلى المحكمة الدستورية وليس إلى القضاء العادي، لأن أحكام المحكمة الدستورية ملزمة للكافة. المقترح الذي تقدم به المنبر التقدمي لتعديل النظام الانتخابي يطالب بتقليص عدد الدوائر تقليصا كبيرا بضم عدد من الدوائر الصغيرة المتجاورة حاليا في دوائر كبيرة، لتفادي عيوب التقسيم الحالي للدوائر، وإقامتها بدلا من ذلك على أساس المواطنة، وبالتالي تخفيف حدة الاستقطابات ذات الطابع الطائفي أو القبلي أو غيرهما. ويمنح هذا المقترح فرصاً أكبر للقوى غير الكبيرة في التمثيل في مجلس النواب والمجالس البلدية، وإعطاء الناخب فرصا أوسع في الاختيار بين المرشحين بدل أن يكون خياره محصورا في مترشحي الدوائر الصغيرة، كما أنه يضفي على المنافسة الانتخابية طابعا سياسيا ليحولها إلى منافسة بين البرامج، مما يزيد من فرص المترشحين الأكثر كفاءة وكذلك من فرص فوز النساء، ويقلل بالتالي من الأصوات المهدرة، وتقليل إمكانيات التلاعب في مخرجات الانتخابات، وتقليص المصاريف الإدارية للعملية الانتخابية. وهناك ميزة أخرى يقدمها هذا المقترح وهي توسيع دائرة التحالفات في الدائرة الواحدة بين أكثر من قوة أو مرشح، حيث لن يعود الأمر محصورا في انتخاب نائب واحد فقط عن كل دائرة كما هو الحال الآن، وإنما انتخاب مجموعة نواب مما يهيئ موضوعيا للتحالفات، خاصة بين القوى غير الكبيرة.
 
صحيفة الايام
11 يونيو 2009

اقرأ المزيد

الفلسطينيون والعرب وملاحقة مجرمي غزة

لا يبدو ان كلا من السلطة الفلسطينية والدول العربية هما في وارد الاهتمام الجاد بملاحقة اسرائيل قضائيا على الساحة الدولية على جرائمها ضد الانسانية، ولاسيما ان اكثر العرب معنيون بهذه القضية الا هم الفلسطينيون مشغولون حتى النخاع بانقساماتهم السياسية والفصائلية التي مازالت عقبة كأداء في انهاء الانقسام على السلطة والخروج بتوافق يفضي إلى قيام حكومة وحدة وطنية واعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية اساسية لكل الفلسطينيين في الداخل والخارج وكممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وهي المرجعية التي جرى تغييبها على امتداد اكثر من 15 عاماً، وفجأة تذكرتها قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله وجعلتها شرطاً من شروط المصالحة مع “حماس” أي أن تعترف بها هذه الاخيرة كمرجعية وكممثل وحيد للشعب الفلسطيني، في حين ان قيادة السلطة نفسها لم تتورع عن الانفراد بتشكيل حكومة فلسطينية جديدة بزعامة سلام فياض من دون الاحتكام للمنظمة وفصائلها التي عارضت تلك الحكومة، ومن دون انتظار انتهاء مفاوضات جلسات الحوار الوطني، الأمر الذي يضاعف من تعقيدات وتأزيمات هذا الحوار المتعسر ضد بعضهما بعضاً وباشرا الاعتقالات المتبادلة والحرب الاعلامية المتبادلة، ولم تحل الذكرى الـ 42 لنكسة يونيو 1967م المشئومة التي انتهت باستكمال الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين كاملة (احتلال القدس وكامل الضفة الغربية وقطاع غزة) دون مواصلتهما ذلك الاقتتال العبثي المجنون والصراع على السلطة. يحدث ذلك فيما تمر الساحة العربية على الصعيد الرسمي بأسوأ حالاتها التاريخية انقساماً وتخاذلاً وتخلياً عن القضية الفلسطينية. أما على الصعيد الشعبي فتمر الساحة العربية ذاتها بحالة غير مسبوقة من العجز والتفتت وتعاظم الانشغالات بالقضايا المحلية.
فهل تواتي القيادات الفلسطينية بعد اليوم، أي بعد هذا الاصرار على ممارسة هذا العبث الجنوني اللامسؤول بحق قضية شعبهم، الشجاعة للوم أي تقصير أو تخاذل عربي بحق قضيتهم؟ ثم ماذا تريد الانظمة العربية المتخاذلة عن القضية الفلسطينية أفضل من هذا الوضع الداخلي الفلسطيني لتبرير تخاذلها؟
ولعل من المفارقات المؤلمة في الوضع العربي والفلسطيني المأساوي الراهن ان جهات وقوى دولية غير عربية تبدو أكثر اهتماماً من العرب والفلسطينيين بفضح جرائم العدوان الفاشي الصهيوني على أهالي غزة، فمثلما نددت قوى ومسيرات احتجاج عالمية حاشدة ابان ذلك العدوان بالصمت والتخاذل العربيين، ها هي اليوم تنبري قوى ومنظمات دولية مختلفة لفضح جرائم الابادة الصهيونية في غزة، وللمطالبة بملاحقة الجناة وامتثالهم أمام العدالة الدولية. فبالأمس القريب وقف أحد القضاة الاسبان موقفا مبدئيا شجاعا حينما رفض بحزم مطالبات المدعي العام الاسباني وضغوط شخصيات اسرائيلية وقوى صهيونية لوقف مواصلة التحقيق في بعض جرائم اسرائيل خلال عدوانها على غزة. كما رفض هذا القاضي ضغوط كارلوس ديفار رئيس المحكمة الاسبانية العليا بوقف التحقيق، ولاسيما ان المتهمين في هذه الجرائم وزراء وجنرالات اسرائيليون كبار، مثل وزير البنى التحتية السابق بنيامين بن اليعازر، والجنرال دان حالتوتس قائد القوات الجوية السابق، والجنرال دورون الموغ قائد المنطقة الجنوبية، وجيورا إيلاند رئيس مجلس الأمن القومي، ومايكل هرتزوغ المسؤول بوزارة الدفاع، وموشيه يعالون رئيس اركان الجيش الاسرائيلي، وابراهام ديشتر مدير الإدارة العامة للأمن.
وفي أوائل مايو الماضي صدر تقرير للأمم المتحدة يؤكد تعمد اسرائيل القصف التدميري على مؤسسات الامم المتحدة والمدنيين الفلسطينيين وانها ارتكبت جرائم حرب فظيعة، وهو التقرير الذي ارتعدت فرائص اسرائيل منه. واقامت الدنيا على اثره ولم تقعدها رغم صدوره بلهجة ملطفة ومخففة لكي لا يجرح أحاسيس ومشاعر الدولة العبرية.
وها هي منظمة دولية جديدة، ألا هي منظمة “إيه. سي. دي. إن” المعنية بجهود نزع أسلحة الدمار الشامل في العالم يصدر عنها تقرير، قبل أيام قليلة من وصول بعثة لجنة حقوق الانسان إلى غزة، يرجح استخدام الجيش الاسرائيلي اليورانيوم المنضب خلال حرب اسرائيل على غزة. وبطبيعة الحال لم تصل المنظمة المذكورة الى هذه النتيجة اعتباطاً، بل بناء على عينات اخذت مسبقاً من تراب وغبار غزة حيث ثبت بعد تحليلهما احتواؤهما على مادة مشعة مسببة للسرطان والتشوهات في البشر. كما وجدت في هذه العينات جسيمات من “السيزيوم” وهي مادة مشعة ومسرطنة، بالإضافة إلى مركبات متطايرة من “في. أو. سي” وهي جسيمات دقيقة تشكل خطراً على الصحة وخصوصاً الاطفال وكبار السن والمصابين بالربو. وعثرت في العينات كذلك بعد تحليلها مختبريا على فوسفات ناتج عن اكسدة الفوسفور الابيض.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بناء على كل المعطيات المتقدم ذكرها: اين الدور الفلسطيني والعربي رسميا وشعبيا من استغلال وتوظيف كل تلك الجهود والمتابعات الدولية نحو تعزيز فرص ملاحقة مجرمي العدوان الاسرائيلي على غزة لتقديمهم امام ساحة القضاء الدولي كإرهابيين؟ ام ان الفلسطينيين والعرب في ظل كبواتهم وانقساماتهم المحزنة سيضيعون هذه الاوراق المجانية التي تحت ايديهم مثلما ضيعوا الآلاف من الاوراق المماثلة التي تدين اسرائيل وظلت مطوية في الارشيف؟

صحيفة اخبار الخليج
10 يونيو 2009

اقرأ المزيد

تحليل خطاب أوباما في القاهرة (2 – 2)

ونتابع هنا تحليل خطاب الرئيس أوباما في القاهرة وهو خطاب مثير ومهم، وقد قلنا كيف أن الرؤية الليبرالية الإنسانية تسودُ فيه وتتركزُ في إنشاء تحالف سياسي بين القوى الحاكمة الجديدة في أمريكا والقوى السياسية الحكومية المرنة والقوى الليبرالية العربية الإسلامية.
ويجسد ذلك تحياته للمؤسسات الدينية المنفتحة كالأزهر وجامعة القاهرة والإشادة بالحضارة العربية الإسلامية ومنجزاتها العلمية لا السياسية، ولبعض الرموز السياسية الموقعة اتفاقيات السلام المنفرد مع إسرائيل، واستخدام آيات قرآنية تدعو إلى السلام.
وكل هذه الاستخدامات السياسية والثقافية تستهدف تمتين المقولة الأساسية في هذا الخطاب وهي خلق علاقة سلام مع العالم الإسلامي، وبالتالي توسيع المؤيدين لتفكيك بؤر التوتر وشبكات الارهاب والعنف، وإطفاء نيران الحرائق المشتعلة في العراق وافغانستان وفلسطين، وجذب مختلف الفئات الشعبية والوسطى لعلاقة تحالف تؤدي إلى المساهمة في ذلك الاطفاء وتعزيز النمو الاقتصادي.
وتتمثل توصيفاته لعلاقات الصراع بين المسلمين والغرب في النص التالي:
“… إننا نلتقي في وقتٍ يشوبهُ توترٌ كبيرٌ بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم، وهو توتر تمتد جذوره إلى قوى تاريخية تتجاوز أي نقاش سياسي راهن. وتشمل العلاقة ما بين الإسلام والغرب قروناً سادها حسن التعايش والتعاون، كما تشمل هذه العلاقة صراعات وحروباً دينية. وساهم الاستعمار خلال العصر الحديث في تغذية التوتر بسبب حرمان العديد من المسلمين من الحقوق والفرص، كما ساهمت في ذلك الحرب الباردة التي عومل فيها كثير من البلدان ذات الأغلبية المسلمة بلا حق كأنها مجرد دول وكيلة يجب عدم مراعاة تطلعاتها الخاصة، وعلاوة على ذلك حدا التغيير الكاسح الذي رافقته الحداثة والعولمة بالعديد من المسلمين إلى اعتبار الغرب معاديا لتقاليد الإسلام”.
تـُوضع مسألة التوسع من كلا الجانبين الإسلامي والمسيحي للجانب الآخر في علاقة تجريدية عامة، فلا تـُدرس مسألة (الاستعمار) كعلاقةٍ خلقتْ الإشكالية الصراعية بين الجانبين المسلم والغربي، التي تتواصل بسبب حماية الغرب لحكومات عربية إسلامية تابعة له، وتحدث فيها اختلالاتٌ كبيرة في الثروة، فــُتنتجُ عمليات تغيرٍ محدودة وصراعات غير محلولة وإشكاليات طائفية وعنفية مختلفة.
ولم تكن المسألة محصورة في مساهمة “الاستعمار في تغذية التوتر بسبب حرمان العديد من المسلمين من الحقوق والفرص” بل بسبب بناء شبكة علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية تؤبد التبعية والهيمنة وقد أدت إلى تلك الاختلالات الكبيرة السابقة الذكر.
وتجسد ذلك بصورة أخرى في مساعدة الصهيونية على صناعة بلد محتل وعلى حساب شعب آخر طرد وسحق.
ولكن الرئيس أوباما من جهة أخرى عرض جوانب إيجابية على سطوح هذه العلاقات الصراعية، حيث ان بؤرة الخطاب تتوجه لمجابهة عدو مشترك للجانبين وهو قوى الارهاب والدكتاتوريات العنيفة، وهو أمر مهم وضروري لكلا الطرفين، وقدم قائمة طويلة من الحلول السياسية الراهنة.
لكن الرئيس أوباما يصور قضايا العنف وصعود الارهابيين كنتيجة لأخطاء عرضية ويقلل من مساهمات حكومات الولايات المتحدة السابقة في دعم هؤلاء وتحولهم إلى شبكات واسعة، وهو يقول بهذا الصدد:
“لقد استغل المتطرفون الذين يمارسون العنف هذه التوترات عند أقلية صغيرة من المسلمين بشكل فعال. ثم وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 واستمر هؤلاء المتطرفون فى مساعيهم الرامية إلى ارتكاب أعمال العنف ضد المدنيين، الأمر الذي حدا بالبعض في بلدي إلى اعتبار الإسلام معادياً لا محالة ليس فقط لأمريكا وللبلدان الغربية وإنما أيضا لحقوق الإنسان. ونتج عن كل ذلك مزيد من الخوف وعدم الثقة”.
لكن تشكلت شبكات كبيرة قبل تلك الأحداث وأدت سياسات الشمولية والتفقير ونهب ثروات المسلمين من قبل الشركات والأنظمة إلى جعل هؤلاء المتطرفين يغدون أبطالاً.
إن المسألة ليست مسألة مجموعة صغيرة.
ولهذا يجب توسيع مثل هذا التصور إلى مدى أوسع لتعميق العلاقة التعاونية بين قوى السلام في الجانب العربي الإسلامي والجانب الأمريكي.
إن كون الحلول سياسية هو أمرٌ تفرضه هذه اللحظة، فهي لا تتعدى إلى جذور الصراعات السياسية الكبيرة، ولهذا فإنه يقدم صورة أمريكا الليبرالية الإنسانية لا صورة أمريكا المحافظين وقادة المجمع العسكري – الصناعي والصقور عامة، والصورة الليبرالية التي يقدمها تظل راهنة مؤقتة مُشكلة من قوى الصراع الحالي في الولايات المتحدة، وقد تتغير مثل هذه الصورة ويعود المحافظون، ولهذا فإن مساعدة الرئيس أوباما على هزيمة المحافظين العنفيين على الجانب الآخر، أي في العالم العربي الإسلامي هي مهمة كذلك لتحجيم المحافظين في أمريكا نفسها.
وتكمن هنا مفارقة غريبة ففي الوقت الذي هـُزمت فيه مؤقتاً قوى العسكرة والتدخلات والهيمنة على موارد النفط في أمريكا، تقوت قوى المواجهة العسكرية والعنف والدكتاتورية في العالم الإسلامي، وفجرت مشكلات العنف بصورة لم يسبق لها مثيل حيث يتعرضُ الآلاف للقتل كما أن مشروعات العسكرة وتطوير قوى القتل والصواريخ تهدد بجعل المنطقة مقبرة واسعة، ومن هنا تكمن أهمية مبادرة الرئيس أوباما ونشاطه في كلا الجانبين؛ ففي الجانب الأمريكي يطبق برنامجه الانتخابي ومشروعاته لتقزيم التطرف والعنصرية وهو حاكم هناك لكنه غير مطلق فقوى المعارضة اليمينية قوية ومازالت تعرقل الكثير من إجراءاته، في حين انه في العالم الإسلامي يدعو سياسياً وفكريا، وأغلب أدوات الحسم عند غيره، وخاصة قوى اليمين العسكري، والمحافظين الكثيرين.
وهكذا فإن عملية تطور الديمقراطية والسلام والعيش الآمن للملايين تعتمد على قوس كبير من القوى الرسمية المرنة والشعبية الواسعة واستنهاض جهودها.
ولا شك أن الآهات السياسية التي دوت عقب خطاب أوباما من قبل المحافظين ودعاة المغامرات العسكرية تؤكد أن جهوده وبلاغته وحصافته السياسية وجدت لها صدى كبيراً في عقول مليار مسلم وأنها سوف تتحول إلى أفعال سياسية مفيدة ومهمة خلال نضال السنوات الحالية.

صحيفة اخبار الخليج
10 يونيو 2009

اقرأ المزيد

أوباما في خطاب ثقافي

بدءاً لابد من القول إن الرئيس الأمريكي باراك اوباما استخدم لغة غير مألوفة لدينا من قبل الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت البيض، على الأقل خلال العقود القليلة الماضية، على خلفية الموقف الأمريكي المعروف من الصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك العلاقات الملتبسة بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي، خاصة بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. سيبرز الأمر أكثر لو قارنا لغة أوباما مع لغة سلفه جورج دبليو بوش التي تنضح بالغطرسة والعدوانية، لا بل بالصبيانية أيضاً، في طريقة فرضه الإملاءات على العالم العربي . اختار أوباما القاهرة بالذات مكاناً لإلقاء خطابه، ليس فقط تقديراً للأهمية السياسية والتاريخية والاستراتيجية لمصر، وإنما لإرسال رسالة مؤداها أن إدارته مستمرة في دعم ما بات يعرف بنهج الاعتدال في العالم العربي . ومن جامعة القاهرة بالذات سعى أوباما، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لإبراز اطلاعه على الثقافة والتاريخ العربيين، واحترام ما يمثله الإسلام من مكانة لا في تشكيل الحضارة العربية فقط، وإنما أيضاً ما يمثله راهناً في الوجدان العربي، ومن هنا حرصه على إبداء التفهم لبعض الرموز المتصلة بالأمر كارتداء النساء المسلمات للحجاب . سيكون تعسفاً منا لو قلنا إن خطاب اوباما خلا من المواقف السياسية، وتعسفاً أيضاً سيكون لو نفينا ما سعى الرئيس الأمريكي لإظهاره من تغير في لهجة الخطاب، وحتى محتواه، ويمكن تلمس ذلك من ردود الفعل المتشنجة في إسرائيل وفي بعض الأوساط اليمينية والمحافظة المعروفة بميلها للصهيونية، والتي رأى بعضها في لهجة أوباما هزاً للصورة القوية للولايات المتحدة على الصعيد الدولي. لكن كل هذا لا ينفي عن الخطاب طابعه، فهو، في الجوهر، لم يكن خطاباً سياسياً، وإنما هو خطاب ثقافي، أراد من خلاله أوباما أن يرّمم ما هدّه سلفه من جسور مع العالمين العربي والإسلامي، وأن يزيل، ما أمكن، ما طبع صورة السياسة الأمريكية في المنطقة، بصفتها سياسة للحرب والاحتلال وإملاءات القوة، والاستخفاف بالتضاريس الدينية والحضارية والثقافية في المنطقة. وحسب التقارير الصحافية فان أوباما استعان في وضع خطابه بعدد كبير من المستشارين المطلعين على خصوصيات العالم العربي والإسلامي، وعلى المزاج السيكولوجي للمسلمين، ليحسن مخاطبتهم، وهذا ما أفلح فيه بامتياز. أوباما كان محكوماً بألاّ يخرج عن حدود الخطاب الثقافي، وأن ينأى ما استطاع عن تحديد المواقف السياسية القاطعة، ليس لأنه لا يريد بالضرورة، وإنما لأنه يعي حدود الهامش الذي يتحرك فيه بوصفه رئيساً لدولة كبرى، تصنع سياستها عدة مواقع قرار ولوبيات مالية وسياسية ضخمة. لم يكن بوسعه وهو يتحدث أن ينسى نفوذ الكونغرس ومصالح البنتاغون والمجمع العسكري، وتأثير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي .آي . إيه”، ولا أن ينسى جبروت اللوبي الصهيوني أو المؤيد لإسرائيل في المجتمع وفي مواقع القرار.
 
صحيفة الايام
10 يونيو 2009

اقرأ المزيد

كفاكم «زهلقة» وشُمُّوا الحقيقة ..


فليكفَ مسؤولو تمكين ووزارة العمل عن’’ زهلقة’’ الوضع، ولتتحمل ذائقتهم الحقيقة المرّة :
* شهدت الفترة من 31 مارس 2008 وحتى 31 مارس 2009 أعلى مستوى في توظيف العمالة الأجنبية بتوظيف 71 ألف عامل أجنبي جديد .. تخيلوا 71 ألفاً ..!! في عام واحد..!! وبإضافة هذا الرقم للأعداد المهولة الموجودة نكون في حضرة ضربة قاصمةً للخدمات الصحية والرعائية – المتواضعة أصلاً- في البلاد..!!

* 95% من الوظائف ذات الأجور العالية ( ما فوق الألف دينار ) التي خلقها القطاع الخاص في الربع الأول من العام 2009 ذهبت للأجانب.. للأجانب.. 95% .. وذلك وفق ما كشفته أرقام الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي.. فيما بلغ عدد البحرينيين الذين وظفوا بالأجر نفسه 24 موظفاً لا أكثر..

* البحرنة تراجعت اليوم لأدنى مستوياتها بانخفاضها لما دون الحد الأدنى لتصل لـ23.9% من مجموع العمالة في البلاد.

فأي صفعة مدوية نحتاج أكبر من تلك لندرك أننا نسير في الاتجاه الخاطئ ؟!

لا يقولنّ أحد – رجاءً- إن تجربة إصلاح سوق العمل في طور الاختمار، وإن علينا الانتظار أكثر .. فنحن – صدقاً- لم نطلب أن نرى المعجزات في ظرف 4 أعوام؛ ولكننا -في الوقت عينه- لا نريد أن نرى الوضع يتدهور تباعاً تحت راية الإصلاح.. ولا نريد أن تبلغ الخسائر مبلغها؛ وتتراكم الإخفاقات وتبدد الجهود في السير بضلال؛ لنبدأ بعد خراب البصرة في ‘’إعادة النظر’’ في عقم الخطوات التي اتخذت!! وقد أصاب علي سلمان رئيس كتلة الوفاق عندما أعرب مؤخراً عن قلق كتلته -المتأخر حقيقةً- من صيرورة الأمور بقوله إن إصلاح السوق ‘’لا يكون بالرسوم فقط’’.. وبالفعل إن نحن عرَّينا الحقيقة من التنظير والتجميل؛ سنجد أنّ ما من أحد راضً عن التوجهات إلا الجهات الرسمية التي تحكم المشهد وتجبي الأموال فارضةً – بالعضلات- رؤيتها..

‘’ولم لا ينتفض التجّار معربين عن رفضهم’’.. يتساءل بعضكم، والجواب ببساطة ‘’أن رأس المال -في العالم قاطبةً- جبان’’ .. فما بالك إن كان لأقطاب رأس المال هذا مصالح متشابكة مع الجهات الحكومية التي تمسكهم من’’ زمورهم’’ وتحوِّل كبار رجال الأعمال لتلامذة صاغرين أمام أصغر مسؤول في الوزارات خوفاً على أعمالهم وصفقاتهم!!
ما علينا.. فلنترك الخلق للخالق ونعود للب موضوعنا..

إقرار انتقال العامل الأجنبي، الخطوة الجديدة في مشوار ‘’إصلاح’’ السوق التي تكابد وزارة العمل لتمريرها الآن، لن تزيد الأوضاع إلا تدهوراً.. ولا نحتاج لضرب الودع لنعلم أن هذا الإجراء سيزيد من المضاربة على رواتب الأجانب وسيرفع سقف رواتبهم بما يضرب المؤسسات ولا يخدم أبناء البلد .. والضحية هاهنا هو الموظف البحريني، سيما حديث التخرج، الذي يضرب الكف بالكف في ظل الغزو الأجنبي للوظائف والخيرات.. وإن عمل فإنما يعمل تحت مظلة أجنبي يخطف أفكاره وجهده ويكبِّل ويعوق تطوره.. والحق أننا لا نعرف كيف يُطالب القطاع الخاص بالثقة بالبحريني، وتمكينه من التخطيط والإدارة إن كان المسؤولون أنفسهم قد انتهكوا – في مشروعهم لإصلاح سوق العمل- هذا المبدأ بلجوئهم للأجانب ليخططوا لهم ولينفذوا هم دونما غربلة لما طرح من خطط تثبت يومياً عقمها.. وهي مفارقة ساخرة سيسجلها التاريخ بحروف.. من حسرة..

الزبدة:
ـــــــــــــ
ليكابر المسؤولون ما شاءوا.. ولكن الشمس لا تُحجب بغربال.. قطار إصلاح سوق العمل قد حاد عن هدفه وظل سكَّته.. وما اتخذ من خطوات لم يأت بقطاف على العمالة الوطنية بل زاد وضعها حرجاً وثبت أقدام الأجانب ومال بكفتهم على رؤوسنا.. فهل من خطة عاجلة لإصلاح مشروع إصلاح سوق العمل؟
 
الوقت 3 يونيو 2009
 

اقرأ المزيد

خطاب أوباما بين التشاؤم والتفاؤل (2 ــ 2)

خلصنا في حلقة يوم أمس الى ان الجديد و”التاريخي” في خطاب الرئيس الامريكي الذي توجه به الى العالم الاسلامي من داخل قاعة جمال عبدالناصر بجامعة القاهرة ليس في انطوائه على عناصر تؤشر لتغيير نوعي في جوهر السياسات الامريكية تجاه المسلمين والعرب، انما الجديد والتاريخي في الخطاب يتمثلان في لغته غير المسبوقة التي صيغت بعناية فائقة بما يساعد على احداث صدى طيب، إلى حد ما، في نفوس العرب والمسلمين، أو بما يحدث ولو شيئا من التفاؤل الحذر لديهم، وهذا في تقديري هو بالضبط أقصى حدود السقف الذي ينبغي الذهاب اليه من قراءة الخطاب، لا أكثر ولا أقل.
وقبل ان نتناول الاشارات “الحذرة” في لغة الخطاب التي أرسلها أوباما الى العالم الاسلامي وحاول من خلالها الايحاء قدر الامكان بأن خطابه “متوازن”، في حين انه لم يتمكن من الوصول بما فيه الكفاية الى الحد الادنى من التوازن، وان كان في محاولته قد نجح على نحو أفضل من أسلافه الرؤساء الامريكيين السابقين، لعل من المفيد ان نشير الى ثلاثة عوامل في شخصية أوباما لم تساعد فقط على نجاحه في خطابه في احداث شيء من التفاؤل الحذر لدى العرب والمسلمين بل لتقبل العرب من جانبهم شخصيته بما تتضمنه تلك العناصر ذاتها:
أولا: امتلاكه حدا أدنى مقبولا من الخلفية الثقافية والسياسية في الالمام بجغرافية وثقافة المنطقة ومشاكلها الراهنة والتاريخية.
ثانيا: خلفيته الاثنية لانحداره من أصول افريقية، فهو ملم جيدا بتاريخ الاضطهاد العنصري الذي عانى ومازال يعانيه أبناء جلدته من السياسات العنصرية للطبقة الحاكمة تجاه السود وهو ما يحدث شيئا من التطلع المتفائل عند العرب للتعويل عليه باحداث شيء من التغيير في السياسات الامريكية المعادية لمصالح وحقوق العرب والمسلمين، وذلك باعتباره يتفهم مشاعرهم ويشاركهم، ولو من خلال أحاسيسه المكبوتة، الشعور المشترك بالاضطهاد، ويتفهم ولو في حدود معينة الغبن التاريخي المزمن الواقع عليهم من جراء السياسات الامريكية الظالمة بحقهم.
ثالثا: أصوله الاسلامية، فمهما تكن حقيقة الديانة المسيحية التي يدين بها مع غالبية شعبه الا انه لا يستطيع ان يتجرد تماما من أحاسيسه وعواطفه نحو ديانة أبيه الذي كان يدين بالديانة الاسلامية، دع عنك ان كثرة من الامريكيين السود من أبناء شعبه يدينون بهذه الديانة نفسها. ومن ثم فمن المحال بمكان ان يكون معاديا للإسلام والمسلمين على النحو الذي أظهره سلفه بوش.
أما أبرز الايماءات الايجابية اللافتة للنظر التي أرسلها أوباما في خطابه الى العرب والمسلمين والتي حاول اضفاء عليها شيء من “التوازن” فيمكن اجمالها فيما يلي:
1 ــ الاسرائيليون يجب ان يعترفوا بحق الفلسطينيين في الوجود مثلما لا يمكن انكار حق إسرائيل في الوجود.
2 ــ الأزمة الانسانية المستمرة في غزة لا تخدم أمن اسرائيل، ولا انعدام الآفاق في الضفة الغربية.
3 ــ الوضع بالنسبة إلى الفلسطينيين غير مقبول.
4 ــ “المقاومة عبر العنف خطأ ولا تنجح”.. وهذا يعني اعترافه ضمنيا بالحق المشروع مبدئيا بالمقاومة ولو غير المتبنية للعنف على الاقل.
5 ــ الولايات المتحدة لا تعتبر استمرار المستوطنات الاسرائيلية مشروعا.. وحان الوقت لوقفها.
وثمة دغدغة خاصة لعلها لامست مشاعر المسلمين عامة حرص أوباما على ابرازها في نقطتين من خطابه:
الأولى: استشهاده بسبع آيات قرآنية جديدة لم يسبق ان استشهد بها احد من أسلافه لابداء حسن نياته نحو المسلمين والتطلع لفتح الولايات المتحدة صفحة جديدة نحوهم.
الثانية: دفاعه ثلاث مرات عن حق المسلمة في ارتداء الحجاب باعتباره حقا يندرج ضمن الحريات الشخصية وضمن الحريات الدينية. ولأن سياسات دول أوروبا الغربية أقل عداء من أمريكا نسبيا تجاه العرب، وأكثر تفهما للحقوق والمصالح العربية، الى حد ما، من الولايات المتحدة، فلم يفوت أوباما في خطابه الفرصة للتذكير ضمنا بأن بلاده لا تفرض قوانين في مؤسسات التعليم أو غيرها بحظر الحجاب كفرنسا التي أومأ اليها ضمنا، وان تغافل أوباما حقيقة ما تواجهه المحجبات في بلاده من ممارسات تمييزية ومضايقات في المجتمع والمؤسسات. لكن يظل على أي حال في هذا الشأن أفضل من الليبراليين العرب ومعظم منظمات حقوق الانسان العربية الذين يعجزون عن التجرد من ميولهم وثقافاتهم الشخصية العلمانية لعدم تنديدهم المبدئي الصريح بانتهاك تلك الحقوق ولو انطلاقا من مبدأ احترام الحريات الشخصية والحريات الدينية.
لكن هل تكفي كل تلك الايماءات والعناصر التي جاء بها أوباما في خطابه لتبديد كل شكوك وهواجس ومعاناة العرب والمسلمين المديدة من السياسات الامريكية؟ بالطبع لا تكفي فمثلما انطوى خطابه على عناصر وايماءات “ايجابية” الى حد ما تجاه المسلمين، فقد انطوى خطابه ذاته، أيضا، في سياق الظهور بمظهر “التوازن” الذي توخاه بين الطرفين الاسرائيلي من جهة والعربي والاسلامي من جهة أخرى، على عناصر غير ايجابية، ما لم نقل معادية، تثير الريبة والشكوك لدى العرب والمسلمين حول مستقبل احداث تغيير ملموس في السياسات الامريكية تجاههم وتجاه المنطقة ومن ذلك:
1 ــ التقليل من شأن تنازلات الدول العربية المتمثلة في المبادرة العربية “بداية جيدة لكنها ليست نهاية مسئولياتها”.
2 ــ الصلات القوية بين أمريكا واسرائيل لا يمكن زعزعتها.
3 ــ تشديده غير المتوازن في الشروط على “حماس”، أي من دون ان يقابلها تشديد مماثل في الشروط على اسرائيل، كمطالبة حماس بوضع حد للعنف من دون مطالبة اسرائيل بالانسحاب الكامل من الاراضي التي تحتلها عام 1967 وهذا، الاحتلال، هو السبب الرئيسي لاتصاف المقاومة بالعنف المضاد تجاه ارهاب الاحتلال الاسرائيلي المستديم الاعظم عنفاً وفتكاً.
مهما يكن فإن خطاب أوباما ليس سوى بداية أولية من حسن النيات، فأمام الرئيس الامريكي “مشوار” طويل لإحداث النقلة المطلوبة في السياسات الامريكية التي قد لا تحدث حتى في عهده، لكنها على أية حال يمكن القول انها بداية مشجعة كخطوة أولى في رحلة الألف ميل نحو التغيير، فأوباما يبقى في النهاية الابن البار النجيب لدولة المؤسسات الامريكية التي لا يمكن تغيير سياساتها بين عشية وضحاها بجرة قلم على ورقة الخطاب، ومن ثم لا يمكن ان يأتي أوباما بهذا التغيير وحده ليقدمه للعرب والمسلمين على طبق من فضة “مجانا” بسرعة صاروخية وهم على هذا الوضع المأساوي الكارثي الراهن مشتتون وممزقون وتسيرهم نزعات المصالح والمنافع الذاتية والقطرية الانانية.

صحيفة اخبار الخليج
9 يونيو 2009

اقرأ المزيد

تحليل خطاب أوباما في القاهرة ( 1 – 2)

لا شك أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يمثل لحظة جديدة مهمة في تحول السياسة الأمريكية عن نهج الحروب والعسكرة الذي اعتمدته الحكومة السابقة، التي قامت على شركات السلاح والنفط والمجمع العسكري – الصناعي الأمريكي، فيما كانت إدارة أوباما تعبيراً عن حركة شعبية أمريكية ضد هيمنة تلك القوى التي وجهتْ الأمريكيين نحو حروبٍ ضارية، وبغض النظر عن كونها مصيبة أو مخطئة، فإنها واجهت الأفعال الإرهابية والقوى الاستبدادية الخطيرة في العالم الإسلامي خاصة، بردودِ أفعالٍ عسكرية كاسحة، شعر الأمريكيون بصفة عامة – وتجلى ذلك من خلال المظاهرات العارمة- بأنهم يدفعون ثمنا غاليا من دماء أبنائهم لمخاطر لا يفهمونها ولقوى سيئة غير مدروسة بعناية.
لقد ولّد ذلك كله بما فيه من وعي وجهل هزيمة الإدارة السابقة ومجيء الرئيس أوباما وإدارته، فكان لازما عليه أن يخرجَ من هذا المأزق، ويرفضَ ردودَ الأفعال الحادة للإدارة السابقة، وأن يبحث عن مخرج لهذه الأزمة التي ورطت الولايات المتحدة في حربين مباشرتين باهظتين في العالم الإسلامي أرواحاً تزهق وتكاليف مالية هائلة.
ونتيجة ذلك كله رأت انه لابد من بحث عن مخرج نوعي تحولي.
وكان هذا جزءًا من كون الرئيس الجديد وطاقمه لا يستندون إلى شركات السلاح والنفط والحروب، وهم جزء من قوى مدنية تمثل فئات وسطى لا تتجذر في تلك المؤسسات الكبرى، ولها علاقات معينة مع ميراث الليبرالية في أمريكا: (روزفلت، وكيندي، وكلينتون)، وهي أمورٌ ستلعب دورا كبيرا في إنتاج نظرة سياسية مغايرة للسابق.
ومن جهةٍ أخرى فإن الاستعمارَ بشكلهِ المتوغل والمسيطر يكاد أن يلفظ أنفاسه، فإن الشركات العابرة للجنسية والمسيطرة على الاقتصادات العالمية، لم تعدْ بحاجةٍ كبيرةٍ إلى الحكومات الغربية وجيوشها، فقد فـُتحت لها الأبواب في كل القارات، وصارت الدول(المستعمرَة والمستقلة) تتهافت على حضورها!
ويبدو ذلك جليا في دول أمريكا الجنوبية التي كانت الحديقة الخلفية للولايات المتحدة وكيف راحت تنتخب حكومات يسارية، من دون أن تعترض الجارة الشمالية القوية!
لم تعد حكوماتُ الغرب سوى إدارات لجمع الضرائب وتنسيق المشروعات العامة، وفتح الأسواق لشركاتها وتوفير بيئة مساعدة على التجارة (الحرة)، وهو جانبٌ لم يتجذر بصفة نهائية، لكون القوى الشعبية لاتزال هامشية عموماً، لكنها في لحظات مفصلية تفرض حضورها كحرب العراق.
أوباما هو تتويجٌ لمثل هذه اللحظة التاريخية، لحظة تخفيف العسكرة وتسريع المشروعات المدنية وتطوير أوضاع الشركات غير العسكرية، بعد أن بلعت الشركاتُ العسكرية العالم وقذفت به في أزمة مالية كبرى.
ولهذا فإن مشروع أوباما يستند إلى إعادة الأسواق لحركتها، وتخفيف الاستثمار العسكري الفاشل والباهظ المكلف.
وهذا يحتاج إلى تغيير بؤرة ذلك الاستثمار الفاشل وهو العالم الإسلامي، الذي تجرى فيه عدة حروب مباشرة كبيرة وغير كبيرة وغير مباشرة.
إن هذا يحتاج إلى استراتيجية مغايرة، أساسها هو عزلُ الأطراف المتطرفة الرافضة للحوار والتعاون، عن جماهير الأمم الإسلامية الراغبة في التنمية والسلام.
هذا هو مفتاح فهم خطاب أوباما: عزل القوى المتطرفة الراغبة في المواجهة وفي هزيمة امريكا والغرب، والتعاون والارتكاز على القوى السلمية المحبذة للتعاون المشترك.
هذا التعاونُ يغدو آنيا، لا تـُحلل فيه جذور الاستعمار وتكاليف الحروب الباهظة السابقة والراهنة التي جرت على الأرض العربية والإسلامية، بل تـُقلب صفحات ذلك الكتاب، بجذوره وتكاليفه وأحداثه وجرائمه، ويبدأ من صفحة جديدة.
تتحدد هذه البؤرة المركزية الواسعة بالعديد من الفقرات:
(إن المسألة الأولى التى يجب أن نجابهها هى التطرف العنيف بكل أشكاله).
إن كونها مسألة أولى فهي القضية المشتركة وهي الهم الرئيسي، وماعدا ذلك فهو ثانوي، وبالتالي فإن الجزئيات الأخرى كافة هي مكملة لهذا الهدف الاستراتيجي.
ويضيف:
(وعلى أية حال لن نتوانى في التصدي لمتطرفي العنف الذين يشكلون تهديدا جسيما لأمننا والسبب هو أننا نرفض ما يرفضه أهل المعتقدات كافة: قتل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال. كما أنه واجبي الأول كرئيس أن أتولى حماية الشعب الأمريكي. ).
ومن هنا فهو يتعرض لبؤر الحروب والمواجهات المحددة هذه، ويعرضُ الإجراءات الحالية والمستقبلية تجاه كل منها، ولكن الحل العام هو في مواجهة المتطرفين وحملة السلاح بالسلاح.
العراق وباكستان وافغانستان والقاعدة هي المناطق الممثلة لبؤرة المواجهة الحالية. والبؤرة الأخرى هي إيران ومشروعها العسكري. هاتان البؤرتان اللتان تمثلان الخطوط الحمراء في الخريطة السياسية له. كما أن حلول المشاكل الأخرى تصب في تخفيف من إشعال تينك البؤرتين. ولكن المشكلة أن القوى في هاتين البؤرتين قادرة على تفجير القضايا الأخرى وجعلها مكان البؤرتين!
أما الجوانب الأخرى من الخطاب فهي جوانب ايديولوجية متعددة تستهدف طرح رؤية أمريكية ليبرالية إنسانية في العلاقة بين أمريكا والمسلمين.
وتتكون هذه الرؤية من لغة عامة، فهو يستخدم مصطلح الإسلام بشكل كلي عام، يركز في الإسلام كمضمون إنساني تنويري، وكجزء آخر من الحضارة الليبرالية الإنسانية، ولهذا يشيد بمنجزات المسلمين التقنية، لكن لا يصل إلى فهم جذور وإشكالية الحضارات الإسلامية المعرقِلة بسبب الإقطاع، وتسلط الدول، فهذه الجذور سوف تقوده لمواجهة العديد من الحكومات والقوى الاجتماعية المحافظة والجامدة في العالم الإسلامي، ولهذا يبقى في مستوى ليبرالية الفئات الوسطى المنفتحة، كما يبقي مواجهته للارهاب في مستوى عنفي، لا يتغلغل في الجذور، وفي علاقات الاستغلال الغربية للعالم الإسلامي، ووجود قوى محافظة عربية إسلامية وشركات رأسمالية كونية تسنزفُ المواردَ وتنتجُ مشكلات العنف والفقر في هذا العالم.

صحيفة اخبار الخليج
9 يونيو 2009

اقرأ المزيد

تسريحات بنك الخليج الدولي

في ندوة تضامنية مع الموظفين المفصولين من بنك الخليج الدولي، أقيمت مساء الأحد الماضي في المنبر التقدمي، تحدث كل من إبراهيم القصاب عضو الأمانة العامة لاتحاد نقابات عمال البحرين وخليل زينل رئيس نقابة المصرفيين، عن أبعاد هذا التسريح ودلالاته، وحذرا من أن يكون ذلك نذير تسريحات قادمة في مؤسسات مالية ومصرفية أخرى، كون القطاع المصرفي هو أكثر القطاعات التي انعكست وتنعكس عليها آثار الأزمة المالية العالمية. وقد تتبع الأخوان المتحدثان في الندوة مظاهر الأزمات العاصفة التي تضرب بالنظام الرأسمالي العالمي في مراحل تاريخية مختلفة، تعبيراً عن أوجه الخلل والقصور البنيوية في هذا النظام، وما الأزمة الحالية إلا واحدة منها، وسط آراء متضاربة عن المدى الزمني الذي ستستغرقه، بين من يروج لقرب الخروج منها ، وبين من يؤكد بالمعطيات والتحليلات المقنعة أن ما عرفناه حتى الآن من مظاهر هذه الأزمة ليس إلا قمة جبل الجليد، وان العواقب الاجتماعية والاقتصادية القادمة للأزمة هي أخطر بكثير. وكما كانت التوقعات في العالم كله، فان الضحية الأساسية لمثل هذه الأزمة هم الشغيلة من عمال وموظفين، لأن طواغيت المال ليسوا مستعدين للتفريط بمكاسبهم وأموالهم، فيدفعون ، بالتالي، الأجراء من العمال والموظفين إلى البطالة، وليست البحرين استثناء من هذا، ومن هنا خطورة ما جرى في بنك الخليج الدولي من تسريحات، وأهمية أن تكون هناك وقفة عمالية ونقابية حازمة بوجهه، لكي لا يصبح نهجاً عاما على منواله تسير مؤسسات أخرى، ومن هنا أيضاً أهمية أن تحظى هذه الوقفة بمؤازرة المجتمع المدني في البحرين. الكثير من موظفي بنك الخليج الدولي الذين طالهم التسريح أمضوا أكثر من 20 عاما في خدمة البنك المذكور وساهموا طوال سنوات في تعزيز موقعه وربحيته، ولا يجوز، أخلاقياً، تحميلهم آثار ما يواجهه البنك من صعوبات، نتيجة للسياسات المالية الخاطئة التي لم يرسمها هؤلاء الموظفون في يوم من الأيام. إن إجبار هؤلاء الموظفين على تقديم استقالتهم لتعويضهم براتب واحد لكل سنة خدمة أو مواجهة التسريح بدون تعويض عملية خطيرة فيها تحدي لأطراف العمل المختلفة، وتعد كبير على حقوق العمال والموظفين وانتهاك للقواعد المرعية في التشريعات المحلية والدولية. في هذا السياق تجدر الإشادة بمواقف نقابة المصرفيين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين في موقفهما الرافض لمبدأ التسريح وفي تحركاتهما الداعمة للموظفين المسرحين، كما تجدر بالإشادة مواقف وزارة العمل التي ذهبت الوجهة نفسها، مع تطلعنا لأن تستمر الوزارة على هذا الموقف وأن تظهر صلابة أكبر في التمسك به، والقيام بدور أكثر جدية تجاه التلاعب بحقوق ومصالح العمال والموظفين، لكي لا تمثل خطوة تسريح موظفي بنك الخليج الدولي أولى حلقاته. وحيث تلوح في الأفق أكثر وأكثر الأشباح المخيفة لتداعيات الأزمة المالية، تبرز الحاجة لضرورة تلاحم الطبقة العاملة دفاعا عن مصالحها الحيوية ومكتسباتها، ولمنع أية خطوات من شأنها تسريح المزيد من العمالة الوطنية.
 
صحيفة الايام
9 يونيو 2009

اقرأ المزيد

سلطة تستحكمها القبائل والتخلف

تدفع اليوم باكستان الثمن باهظا لكل جراحاتها المختلفة، فقد ورثت مع تقسيم شبه القارة الهندية ظواهر سياسية معقدة منها الظاهرة السياسية بتقسيم كشمير، وظواهر سياسية أخرى كالانقلابات والحكومات العسكرية المستمرة، ومكونات سياسية – اجتماعية عززت في التربة الداخلية كل مظاهر التخلف، كالظاهرة القبلية وتسلطها المتجذر في مجتمع شبه أمي ومتعصب دينيا، لم تستطع كل الحكومات المركزية المتعاقبة التعاطي معه بجدية نتيجة المشاغل الأخرى وللانشغال السياسي بالظاهرة الكشميرية. بعد نصف قرن اكتشفت باكستان محنتها العميقة، في عصر وقرن مهتم بمكافحة الإرهاب وبحقوق الإنسان والديمقراطيات وتعزيز قيم الحريات، التي اصطدمت بكل تلك الحالة الداخلية المعقدة، والتي وجدت نفسها على تصادم وتناقض بكل المظاهر الحضارية والثقافية العالمية فكيف ستجد حكومة آصفي نفسها تتعامل مع الواقع الراهن بعد هجومها العسكري على منطقة سوات ؟ سؤال تكمن فيه الإجابة، إذا ما حاولنا تفكيك ذلك السؤال السهل في منطقة جغرافية معقدة سياسيا وقبليا. لقد عاشت دولة داخل الدولة، والتي لم يكن لها رئيس ولا تمثيل ولا علم خاص بها اسمها دولة وزيرستان، حيث القبائل وزعمائها وبنادقهم المعلقة على أكتافهم، يحكمون تلك المنطقة بحرية كاملة، ولم تكن إلا على تماس بسيط بالحكومة المركزية، إذ عاشت تلك المناطق المعزولة على هواها وتعبرها قافلات التهريب لكل أنواع الممنوعات من أسلحة ومخدرات وبضائع، بل ونجح الجهاز الأمني والعسكري طوال حقبة تلك الحكومات الانقلابية المتعاقبة على التعاون مع، دولة القبائل تلك، دون أن تفكر إطلاقا بتطوير تلك المنطقة ولا تحديثها، فعاشت على نماذج اقتصادية متخلفة، مكتفيا ذاتيا بما تنتج من زراعة ورعي، فدارت في حلقة التخلف إلى جانب التعليم الديني والقيم البالية، والتي أحكمت سيطرتها باسم الدين تارة وباسم التقاليد والقيم تارة أخرى، مما جعل القبيلة والدين يلتقيان، محاولة المؤسسات العسكرية إبقاء تلك المنطقة «وزير ستان» مرتعا لمهربي وتجار الأفيون والمخدرات، التي أحاطت تلك الجغرافيا الواسعة من أفغانستان ووزير ستان، حتى امتد نفوذها لكل أفغانستان وباكستان. اليوم تصحو حكومة آصفي بعد ميراث شريف ومشرف وهي تستمع إلى كل ألوان التعاويذ السياسية، وكل ألوان المؤثرات الفكرية والعقيدية المرتبطة بنموذج القاعدة، حيث تنتشر حركة طالبان الباكستانية في وزير ستان وحركة طالبان الأفغانية في موطنها الأصلي، غير ان الترابط العقائدي والسياسي والجغرافي بينها ملحوظ تشوبه روح من التعاون الجهادي، إلى جانب تنظيم القاعدة التي تتخذ من حزام وزيرستان مقرا لها. ذلك البيت السياسي الكبير للقاعدة وسقفها الدائم وموطن حمايتها منذ ان هزمت حركة طالبان في أفغانستان وجاءت إلى السلطة حكومة كارازي تحت حماية القوات الأمريكية. بعد ما يقرب من ثمان سنوات من فشل حكومة بوش القضاء على تلك الحركات الجهادية في تلك «الدولة المشاغبة المدعوة وزير ستان» كان على حكومة آصفي أن تعد حكومة اوباما أن تعمل جهدها بتصفية ذلك الملف على وجه السرعة، متناسية إن الضربات الجوية لن تكون قادرة إلا على حسم جوانب عسكرية كالمقرات الرئيسية في سوات وغيرها، ولكن جيوب الخلايا والحلقات التنظيمية المحكمة، فإنها بحاجة إلى وقت طويل إلى اجتثاثها بعمق، فمثل هذا النوع من التنظيمات تمرس على كل أشكال وفن العمل السري، مثلما كان لديها امتدادات في الجسد الأمني الباكستاني، وعرفت كيف تبني لها خيوطا في المدن الرئيسية وتكون على استعداد لكل أشكال الأعمال التكتيكية الإرهابية. لهذا لن تستطيع الطائرات تصفية الصراع بتلك السهولة، مثلما لن تكون تلك الخلايا متحصنة في سوات المركز، لكونها تدرك ان مساحتها هي وزير ستان وعمقها داخل باكستان وأفغانستان. فهل بإمكان الطائرات وقصفها الجوي قادرين على إنهاء صراع طويل، صراع عسكري من الفضاء، كل نتائجه هو جعل السكان تفزع من بيوتها وتهرب نحو المخيمات السيئة بكل أنواع الخدمات، ولن تكون تلك الدبابات المتمترسة في المواقع المفصلية لسوات ووزير ستان قادرة على إنهاء الضربات المتوقعة، فجاءت عملية تفجيرات بيشاور ولاهور وغيرها من أعمال صغيرة هنا وهناك، لنشطاء وإرهابيو طالبان الباكستانية كرسائل قوية ردا على قصف الجيش لمناطقهم، وفي الوقت ذاته رسالة لمؤيديها «بأننا هنا» قادرون على المواجهة بطرق أخرى. لن تكون وسائل الإعلام الرسمية مجدية في ترويج انتصاراتها في ظل هروب الناس من منازلهم وترديد اسطوانة « استخدام الدروع البشرية» فقد الفرد الباكستاني ثقته بكل مصدر حكومي، ظل لوقت طويل يعيد تكذيب وتشكيل حكوماته المتعاقبة. وكلما ضغطت السياسات الأمريكية القادمة من البيت الأبيض بإنهاء بؤر الخلايا المتناثرة لتنظيم طالبان الباكستانية والأفغانية، كان على البلدين تقديم إجابات عاجلة بهجمات نصف ناجحة، محاولا كل رئيس تأكيد زعامته الناقصة، فمشكلة كل رئيس انه لم ينجح في كسب ثقة وحب كل الباكستانيين له، حتى وان كان الشعب منزعجا من أعمال حركتي طالبان الباكستانية والأفغانية. تكون بالتأكيد واهمة واشنطن إن صدقت تطمينات باكستان وكابل، بأنهما ستنجزان المهمة بأسرع ما يمكن، و سوف يدخل البلدين في فردوس الأمن المفقود. إذ ستواصل باكستان بركانها المتدفق بالانفجاريات المستمرة ولوقت طويل، فقد تحولت حركة طالبان الباكستانية إلى تنظيم سري بحت، وستحتاج الحكومة الحالية إلى وقت لن يعرف احد متى ينتهي، فمنطقة قبائل وزيرستان سلطة قائمة بذاتها، ولكنها دون ممثل لها في الأمم المتحدة!
 
صحيفة الايام
9 يونيو 2009

اقرأ المزيد