محاولة السلطات الإيرانية تصوير انتفاضة الشعب الإيراني بأنها نتاجُ التآمرِ الخارجي تعبرُ عن مستوى سياسي شديد الضيق والتعسف.
إنها محاولة تذكرنا بما كان تفعلهُ الأنظمة الاستبدادية في منطقتنا التي كانت تحيلُ كلَ حركةٍ نضالية احتجاجية تصحيحية تقومُ بها الشعوبُ إلى تآمرٍ خارجي، وإلى وجود أيدٍ خفية تتسلل إلى البيت المقدس النقي من كل دنس.
نتذكر هنا ما كان يرددهُ بعضُ الزعماء عن (انتفاضة الحرامية) وعن (الأولاد بتاع الشيوعية المأجورين)، ونتذكر كلمات الحكومات الصاخبة عن الاعتقالات وحل البرلمانات وسحل المعارضات وقتل بعض المناضلين، التي كانت كلها تجري باسم تسلل المخربين من الدول العدوة، وحينذاك كان التركيز على الدول الشرقية الاشتراكية المُخرِبة، وقد عبرت كل هذه التلفيقات عن عقلية سياسية شمولية ترفض التغيير والقراءة العقلانية لأوضاعها السياسية وتصحيحها.
وفي هذه التبريرات كان النشطاءُ السياسيون يتعرضون للكثير من القمع، ويمتد ذلك إلى الجماعات والمنظمات السياسية والاجتماعية حتى إلى أسر هؤلاء، بغرض فرض توجه سياسي محدود الرؤية والبصيرة ومن خلال العنف.
وعلينا أن نناقش بعقلانية وليس بمثل انفعالية الحكومة الإيرانية ومؤيديها هنا وهناك، عما أسمته بتدخلات القوى الخارجية التي تغلغلتْ بقوة وسببت الانتفاضة الشعبية.
فهذه الرؤية تصدرُ من ذات العقلية السياسية الوطنية المتطرفة التي تقول بأن الداخل الوطني سليم معافى لا توجد فيه تناقضات ولا مشاكل، وبالتالي فإن أي حركة نضالية لا يمكن أن تنبثق فيه. ونظراً لخلو الداخل من أي صراع ومن أي تناقض ومن أي سوء فإن الخارج هو الذي يصدرُ مؤامراته إلى الداخل النظيف!
إن هذه الرؤية الحكومية الإيرانية تبتعد عن تحليل المجتمع والاختلالات فيه وتغدو ذاتية مفرطة، وبالتالي ترفض وجود صراعات داخلية وتناقضات ومشكلات كبيرة، وترفض وجود أي قوة مستقلة بين الناس وتغدو هي المعبرة الوحيدة عن النظام.
إنها تقوم باحتكار القرار، وإذا ظهر مصدرُ قرارٍ آخر فلا بد أن يُسحق. ويعبر هذا أيضاً عن عدم القدرة على السيطرة على تناقضات النظام.
ولكن التناقض الحاد المرئي لعين المراقب في المجتمع الإيراني تواجد في قمة السلطة. وظهر في الشارع، ومن خلال العملية الانتخابية التي تجري كلها في هيمنة النظام ولكنها تمردت عليه، فكيف تكون مشكلة من خارج قبضته؟
وعلى كثرة التناقضات المحتدمة في إيران بين قلة الأغنياء وبحر العاملين، بين هيمنة الرجال الساحقة على النساء، بين المشروعات الحكومية المهيمنة وتقزيم المجتمع المدني التجاري الخاص، بين هيمنة القومية الفارسية على القوميات الأخرى المنبوذة من عربية وتركية وكردية وبلوشية، فعلى كثرة هذه التناقضات فإن تناقضات قوى السلطة هي التي طفحت وتفجرت.
وكيف يمكن للقوى الخارجية أن تصنع الصراع بين المحافظين من قادة الحرس الثوري والمخابرات والشرطة وبعض رجال الدين الكبار، وبين المنشقين عليهم من حزبيين دينيين وتجار في نفس الكيان؟
لو كانت القوى الأجنبية تصنع هذه القوى كلها وتملك هذا السحر كله لتوجهت لقوى الجيش وحرّكته وأطاحتْ بكل شيء.
إن رفض العقلية الحكومية السياسية الشمولية وبعض من يؤيدها ممن يعيش العقلية الدكتاتورية نفسها في مجاله، هو رفض للاعتراف بالواقع وتناقضاته وحركيته التي تتجاوزها.
إن الشعب الإيراني يرفض مشروعات القيادة العسكرية وتوجهها بعيداً عن التنمية والمشروعات المدنية، ومغامراتها الخارجية، وهو ما ظهر بوضوح لدى القادة والباحثين والسياسيين الإيرانيين المعارضين، فهم لم يطرحوا أشياء أبعد، ورؤاهم السياسية محدودة وقاصرة، ولكن هذا ما طرحوه وما عبر عن كونهم أجزاء من الطبقة المسيطرة، طبقة القوى البيروقراطية والعسكرية والدينية الاستغلالية للأمم الإيرانية، فهم لم يعارضوا سيطرة هذه الطبقة بل عارضوا توجهاً سائداً كرسته وتريدُ الاستمرارَ فيه.
ولو كانوا مفبركين ومصنوعين من القوى الخارجية وعملاء لطرحوا أشياء أبعد وطرحوا هدم هذه السلطة، فلماذا طرحوا ما يقوي النظام، ويخففُ من تناقضاتهِ الداخلية، ويوسعُ دخولـَه ويوجهها نحو الصناعات المدنية، ونحو حاجات الشعب.
لماذا حاولوا رفع بعض الغطاء عن القِدر الإيراني الواسع الذي يغلي ولم يتركوه ينفجر كعملاء مهمتهم التخريب لا البناء؟
أما أن هناك عشرات الفضائيات الموجهة نحو إيران وأن هذه كلها بريطانية وإسرائيلية وأمريكية فهي أقوال تدعو إلى تساؤل عن مدى معرفة هؤلاء بما يجري من واقع يعصف بإيران؟
فهناك أكثر من خمسة ملايين إيراني مشردون في الخارج، وقام النظامُ بسحق الحداثة الرقيقة في إيران وأدى ذلك إلى هروب قوى كثيرة متعددة من يساريين وليبراليين وقوميين وملكيين وعلماء ومثقفين ومبدعين الهروب من الملاحقات والدكتاتورية والنجاة بأنفسهم من هذا القمع، فقامت هذه الجماعات الكثيرة بتأسيس منابرها الخارجية المختلفة. ولا ندري هل يريد هؤلاء ملاحقة أبناء الشعب الإيراني حتى في المنافي؟ أما وجود أجهزة إعلامية أمريكية وبريطانية فبعضها سابق حتى لوجود الجمهورية الراهنة في إيران.
إن التدخلات والتأثيرات الغربية المتعددة أمر يجري في كل الكرة الأرضية، فلماذا لا تستطيع أن تؤثر في حكومات كثيرة ولا تستطيع أن تحرك الملايين في كل الدول. ولماذا برز نجاحها في الشعب الإيراني من دون غيره؟
وهو شعب كما يقول الشموليون الفرس والعرب خارج التناقضات والسلبيات؟
إذن لابد أن تكون هناك سلبيات وثغرات أتاحت هذا (التسلل الخبيث)، فلماذا لا نعرف ما هي، وكيف تشكلت وما هي حلولها؟
أما أن يكون القمع والمطاردات التي طالت المنبثقين من النظام والجمهور الشعبي على السواء، فهو هروب من الحوار ومن رؤية هذه الثغرات والمشكلات وحلها.
وكيف يمكن لتأثير أجنبي تافه مثل هذا أن يحرك الملايين خلال أسابيع ومع كل القمع؟
وإذا كان هذا التأثير التافه يحرك كل هذه الملايين في نشاط هائل في الشوارع، فمعنى هذا أن النظامَ بيتٌ من ورق حسب هذا المنطق الهزيل، فرموه بالنقد والإصلاح وليس بالقهر.
لابد من الاعتراف الموضوعي بأن أي نظام شمولي لابد أن يُقصم ظهره في خاتمة المطاف، وعجزه عن الوصول لحلول داخلية بين أقطابه وقواه الحاكمة يعرضه لأخطار أفدح.
إن حلول مشكلات الرأسماليات الحكومية الشرقية الاستبدادية متعددة، والنظام الإيراني ليس الأول ولا الأخير الذي يواجه مثل هذه التناقضات في تطوره، والحوارات التي تجري من وراء الكواليس سوف تؤدي إلى مخرج مستقبلي لمشكلات النظام لكن من خلال الطبقة البيروقراطية العسكرية الحاكمة، وهذا يعتمد على تطور الحكم والتجارة في الحرس الثوري، فماذا يقرر قادته، وكيف يشكلون ميزانيتهم وكيف يجلبون أفضل الأرباح؟ هنا يُقررُ مصير إيران خلال السنوات المقبلة، فالقرار النهائي يعتمد عليهم.
إن وجود الحكم في الحرس الثوري يوجه الدولة للمغامرات العسكرية والتصنيع الحربي والتدخلات الخارجية لاكتساب الأرباح، وحين يحدث تحولٌ نوعي فيه سوف يغير المعادلة السياسية الراهنة.
أخبار الخليج 4 يوليو 2009