المنشور

انتفاضة شعب وليست مؤامرة خارجية


محاولة السلطات الإيرانية تصوير انتفاضة الشعب الإيراني بأنها نتاجُ التآمرِ الخارجي تعبرُ عن مستوى سياسي شديد الضيق والتعسف.
إنها محاولة تذكرنا بما كان تفعلهُ الأنظمة الاستبدادية في منطقتنا التي كانت تحيلُ كلَ حركةٍ نضالية احتجاجية تصحيحية تقومُ بها الشعوبُ إلى تآمرٍ خارجي، وإلى وجود أيدٍ خفية تتسلل إلى البيت المقدس النقي من كل دنس.

نتذكر هنا ما كان يرددهُ بعضُ الزعماء عن (انتفاضة الحرامية) وعن (الأولاد بتاع الشيوعية المأجورين)، ونتذكر كلمات الحكومات الصاخبة عن الاعتقالات وحل البرلمانات وسحل المعارضات وقتل بعض المناضلين، التي كانت كلها تجري باسم تسلل المخربين من الدول العدوة، وحينذاك كان التركيز على الدول الشرقية الاشتراكية المُخرِبة، وقد عبرت كل هذه التلفيقات عن عقلية سياسية شمولية ترفض التغيير والقراءة العقلانية لأوضاعها السياسية وتصحيحها.
وفي هذه التبريرات كان النشطاءُ السياسيون يتعرضون للكثير من القمع، ويمتد ذلك إلى الجماعات والمنظمات السياسية والاجتماعية حتى إلى أسر هؤلاء، بغرض فرض توجه سياسي محدود الرؤية والبصيرة ومن خلال العنف.

وعلينا أن نناقش بعقلانية وليس بمثل انفعالية الحكومة الإيرانية ومؤيديها هنا وهناك، عما أسمته بتدخلات القوى الخارجية التي تغلغلتْ بقوة وسببت الانتفاضة الشعبية.
فهذه الرؤية تصدرُ من ذات العقلية السياسية الوطنية المتطرفة التي تقول بأن الداخل الوطني سليم معافى لا توجد فيه تناقضات ولا مشاكل، وبالتالي فإن أي حركة نضالية لا يمكن أن تنبثق فيه. ونظراً لخلو الداخل من أي صراع ومن أي تناقض ومن أي سوء فإن الخارج هو الذي يصدرُ مؤامراته إلى الداخل النظيف!
إن هذه الرؤية الحكومية الإيرانية تبتعد عن تحليل المجتمع والاختلالات فيه وتغدو ذاتية مفرطة، وبالتالي ترفض وجود صراعات داخلية وتناقضات ومشكلات كبيرة، وترفض وجود أي قوة مستقلة بين الناس وتغدو هي المعبرة الوحيدة عن النظام.

إنها تقوم باحتكار القرار، وإذا ظهر مصدرُ قرارٍ آخر فلا بد أن يُسحق. ويعبر هذا أيضاً عن عدم القدرة على السيطرة على تناقضات النظام.
ولكن التناقض الحاد المرئي لعين المراقب في المجتمع الإيراني تواجد في قمة السلطة. وظهر في الشارع، ومن خلال العملية الانتخابية التي تجري كلها في هيمنة النظام ولكنها تمردت عليه، فكيف تكون مشكلة من خارج قبضته؟

وعلى كثرة التناقضات المحتدمة في إيران بين قلة الأغنياء وبحر العاملين، بين هيمنة الرجال الساحقة على النساء، بين المشروعات الحكومية المهيمنة وتقزيم المجتمع المدني التجاري الخاص، بين هيمنة القومية الفارسية على القوميات الأخرى المنبوذة من عربية وتركية وكردية وبلوشية، فعلى كثرة هذه التناقضات فإن تناقضات قوى السلطة هي التي طفحت وتفجرت.

وكيف يمكن للقوى الخارجية أن تصنع الصراع بين المحافظين من قادة الحرس الثوري والمخابرات والشرطة وبعض رجال الدين الكبار، وبين المنشقين عليهم من حزبيين دينيين وتجار في نفس الكيان؟

لو كانت القوى الأجنبية تصنع هذه القوى كلها وتملك هذا السحر كله لتوجهت لقوى الجيش وحرّكته وأطاحتْ بكل شيء.
إن رفض العقلية الحكومية السياسية الشمولية وبعض من يؤيدها ممن يعيش العقلية الدكتاتورية نفسها في مجاله، هو رفض للاعتراف بالواقع وتناقضاته وحركيته التي تتجاوزها.

إن الشعب الإيراني يرفض مشروعات القيادة العسكرية وتوجهها بعيداً عن التنمية والمشروعات المدنية، ومغامراتها الخارجية، وهو ما ظهر بوضوح لدى القادة والباحثين والسياسيين الإيرانيين المعارضين، فهم لم يطرحوا أشياء أبعد، ورؤاهم السياسية محدودة وقاصرة، ولكن هذا ما طرحوه وما عبر عن كونهم أجزاء من الطبقة المسيطرة، طبقة القوى البيروقراطية والعسكرية والدينية الاستغلالية للأمم الإيرانية، فهم لم يعارضوا سيطرة هذه الطبقة بل عارضوا توجهاً سائداً كرسته وتريدُ الاستمرارَ فيه.

ولو كانوا مفبركين ومصنوعين من القوى الخارجية وعملاء لطرحوا أشياء أبعد وطرحوا هدم هذه السلطة، فلماذا طرحوا ما يقوي النظام، ويخففُ من تناقضاتهِ الداخلية، ويوسعُ دخولـَه ويوجهها نحو الصناعات المدنية، ونحو حاجات الشعب.
لماذا حاولوا رفع بعض الغطاء عن القِدر الإيراني الواسع الذي يغلي ولم يتركوه ينفجر كعملاء مهمتهم التخريب لا البناء؟
أما أن هناك عشرات الفضائيات الموجهة نحو إيران وأن هذه كلها بريطانية وإسرائيلية وأمريكية فهي أقوال تدعو إلى تساؤل عن مدى معرفة هؤلاء بما يجري من واقع يعصف بإيران؟

فهناك أكثر من خمسة ملايين إيراني مشردون في الخارج، وقام النظامُ بسحق الحداثة الرقيقة في إيران وأدى ذلك إلى هروب قوى كثيرة متعددة من يساريين وليبراليين وقوميين وملكيين وعلماء ومثقفين ومبدعين الهروب من الملاحقات والدكتاتورية والنجاة بأنفسهم من هذا القمع، فقامت هذه الجماعات الكثيرة بتأسيس منابرها الخارجية المختلفة. ولا ندري هل يريد هؤلاء ملاحقة أبناء الشعب الإيراني حتى في المنافي؟ أما وجود أجهزة إعلامية أمريكية وبريطانية فبعضها سابق حتى لوجود الجمهورية الراهنة في إيران.

إن التدخلات والتأثيرات الغربية المتعددة أمر يجري في كل الكرة الأرضية، فلماذا لا تستطيع أن تؤثر في حكومات كثيرة ولا تستطيع أن تحرك الملايين في كل الدول. ولماذا برز نجاحها في الشعب الإيراني من دون غيره؟
وهو شعب كما يقول الشموليون الفرس والعرب خارج التناقضات والسلبيات؟
إذن لابد أن تكون هناك سلبيات وثغرات أتاحت هذا (التسلل الخبيث)، فلماذا لا نعرف ما هي، وكيف تشكلت وما هي حلولها؟
أما أن يكون القمع والمطاردات التي طالت المنبثقين من النظام والجمهور الشعبي على السواء، فهو هروب من الحوار ومن رؤية هذه الثغرات والمشكلات وحلها.
وكيف يمكن لتأثير أجنبي تافه مثل هذا أن يحرك الملايين خلال أسابيع ومع كل القمع؟

وإذا كان هذا التأثير التافه يحرك كل هذه الملايين في نشاط هائل في الشوارع، فمعنى هذا أن النظامَ بيتٌ من ورق حسب هذا المنطق الهزيل، فرموه بالنقد والإصلاح وليس بالقهر.

لابد من الاعتراف الموضوعي بأن أي نظام شمولي لابد أن يُقصم ظهره في خاتمة المطاف، وعجزه عن الوصول لحلول داخلية بين أقطابه وقواه الحاكمة يعرضه لأخطار أفدح.

إن حلول مشكلات الرأسماليات الحكومية الشرقية الاستبدادية متعددة، والنظام الإيراني ليس الأول ولا الأخير الذي يواجه مثل هذه التناقضات في تطوره، والحوارات التي تجري من وراء الكواليس سوف تؤدي إلى مخرج مستقبلي لمشكلات النظام لكن من خلال الطبقة البيروقراطية العسكرية الحاكمة، وهذا يعتمد على تطور الحكم والتجارة في الحرس الثوري، فماذا يقرر قادته، وكيف يشكلون ميزانيتهم وكيف يجلبون أفضل الأرباح؟ هنا يُقررُ مصير إيران خلال السنوات المقبلة، فالقرار النهائي يعتمد عليهم.

إن وجود الحكم في الحرس الثوري يوجه الدولة للمغامرات العسكرية والتصنيع الحربي والتدخلات الخارجية لاكتساب الأرباح، وحين يحدث تحولٌ نوعي فيه سوف يغير المعادلة السياسية الراهنة.


أخبار الخليج 4 يوليو 2009
 

اقرأ المزيد

رسائل إلى شخص نطمئن إليه



“أبي نائم، وأمي تصلي، بينما تفكر خالتي في حساء الجزر، آنا تستعد للاغتسال، وقد جهزت الحمام بالفعل، أكتبُ وأتأمل: كم مرة قطعت عليّ أفكاري لأنني تجرأت وشرعت في الكتابة؟ ثم الطب.. عملية جراحية كل يوم. أخبر آنّا ايفانوفنا أن بائع الصحف العجوز قد توفي في المستشفى متأثراً بسرطان البروستاتا. نحن نحيا حياة طروب. نقرأ ونكتب وننطلق مساء في نزهات، ونستمع للموسيقا”.
هذا ليس مقطعاً في قصة من قصص أنطون تشيخوف، إنه مقطع من رسالة بعثها إلى صديق له يعمل موظفاً في الجمارك، ومع ذلك فإنه، في رسالته، كما قصصه، يسرد حزمة من الأحداث، كأنه لم يكن يكتب رسالة لصديق، وإنما يكتب قصة جديدة ليرسلها لإحدى المجلات كي تنشرها، فيسد عائدها المتواضع بعض حاجات حياته.
أستاذ ألماني أنفق نحو عشرين عاماً يتقصى رسائل تشيخوف لنسائه ووالديه وإخوته وأصدقائه، وفي النتيجة أصدر ألبوماً ضخماً من هذه الرسائل، إضافة إلى كمية هائلة من الصور والبورتريهات النادرة للكاتب الكبير الذي مازال العالم يعيد اكتشافه.
المجلس الأعلى للثقافة في مصر أصدر النص العربي من هذا الألبوم الضخم، الذي وضعه علاء عزمي.
بوسعنا أن نقضي ساعات طوالاً من المتعة في قراءة رسائل تشيخوف والتأمل في العدد الكبير من صوره التي تظهر ما في ملامح وجهه من ذكاء ومهابة وطيبة ورقة. وسيكون رائعاً أن نجد في هذه الرسائل ذات الروح الفياضة التي نعرفها في قصصه. إنه يروي الحياة، التي لا يجوز برأيه تعريفها بكلمة أو عبارة أخرى. “تسأليني ما الحياة؟ سؤالك غريب، الحياة هي الحياة”. هكذا يكتب في إحدى رسائله، محرضاً إيّانا على التبصر في هذا القول، كي نأخذ الحياة كما هي بحلوها ومرها، بوقائعها ومصادفاتها ومفارقاتها.
يبدو هذا الأمر متسقاً مع روح هذا الرجل الرائع الذي علمنا الحياة، وهو يقص ضجرها وفرحها، في توقه الذي لم يهدأ للحرية والحب والأمان.في واحدة من الرسائل المؤثرة التي بعثها لابن عمه يقول: “إذا بعثت لك برسائل لأمي فسيكون من الأفضل أن تعطيها لها سراً لا أمام الآخرين، فهناك أشياء في الحياة لا يبوح بها المرء سوى إلى شخص وحيد يطمئن إليه، وهو ما يدعوني للكتابة لأمي من دون الآخرين. في هذا العالم الفاسد لا يتبقى لنا أخلص من الأم”.
 

اقرأ المزيد

بسرعة‮..‬ النفط‮ ‬يستعيد مراكزه

يُقارن الانهيار في‮ ‬أسعار النفط الذي‮ ‬شهدته أسواق النفط العالمية في‮ ‬الربع الرابع من عام‮ ‬2008‮ ‬تحت تأثيرات الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية،‮ ‬إذ فقدت الأسعار أكثر من‮ ‬70٪‮ ‬من قيمتها في‮ ‬ظرف زمني‮ ‬قصير جداً‮ – ‬يُقارن بالانهيار الهائل الذي‮ ‬تعرضت له أسعار النفط في‮ ‬ديسمبر عام‮ ‬1997‮ ‬ومطلع عام‮ ‬1998‮ ‬بعد قرار أوبك في‮ ‬اجتماعها في‮ ‬جاكرتا في‮ ‬نوفمبر‮ ‬1997‮ ‬بزيادة سقف إنتاج المنظمة بواقع‮ ‬5‭,‬1‮ ‬مليون برميل‮ ‬يومياً‮ ‬بناءً‮ ‬على توصية لجنة مراقبة الأسعار في‮ ‬المنظمة،‮ ‬ووصل‮ ‬يومها سعر البرميل إلى حوالي‮ ‬عشرة دولارات والنفط الثقيل إلى ما دون ذلك بكثير‮.‬ وقد استغرق الأمر بعض الوقت وتطلب القيام بجهود منسقة تم استدراج بعض المنتجين من خارج أوبك إليها،‮ ‬مثل المكسيك،‮ ‬من أجل تأمين خفض فاعل وملموس للمعروض النفطي‮ ‬في‮ ‬السوق‮. ‬ولم تتمكن الأسعار من استعادة عافيتها والوصول إلى سقف الثلاثين دولاراً‮ ‬للبرميل إلا بعد مرور بضع سنوات من الالتزام بحصص الإنتاج‮.‬ إلا أن هذه المرة تُلاحظ سرعة استعادة الأسعار لزخمها الصعودي‮ ‬بشكل لافت،‮ ‬حيث قفز سعر برميل النفط في‮ ‬غضون ثلاثة أشهر بمقدار الثلثين ووصل إلى ما فوق عتبة السبعين دولاراً،‮ ‬وذلك على الرغم من أن فرص التحسين والاستعادة هذه المرة تكاد تكون معدومة في‮ ‬ظل الانهيارات المالية الكبرى التي‮ ‬خلفتها الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية على كافة مناحي‮ ‬النشاط الاقتصادي‮ ‬في‮ ‬كافة أنحاء العالم وجعلت أجرأ وأكثر المتفائلين تجاسراً،‮ ‬يتوارون ويتفادون التورط في‮ ‬إعطاء أية تنبؤات استشرافية في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تتزاحم فيه مؤشرات التراجع الاقتصادي‮ ‬والإفلاسات‮.‬ صحيح أن‮ ‘‬أوبك‮’ ‬قد تدخلت ثلاث مرات في‮ ‬السوق بخفض إجمالي‮ ‬إنتاج أعضائها لسحب الفائض وموازنة العرض مع الطلب،‮ ‬حيث بلغ‮ ‬إجمالي‮ ‬تخفيضاتها‮ ‬2‭,‬4‮ ‬مليون برميل‮ ‬يومياً،‮ ‬بنسبة التزام تقترب من‮ ‬80٪‮ ‬من قبل الدول الأعضاء،‮ ‬إلا أن هذا الإجراء لم‮ ‬يكن له أن‮ ‬يؤثر على مستوى الأسعار بهذه السرعة الفائقة وبهذا المستوى من الارتفاع لولا أن توفرت عوامل تنتمي‮ ‬للأساسيات الاقتصادية‮ ‬‭(‬Fundamentals‭)‬‮ ‬بالدرجة الأولى تُسوِّغ‮ ‬وتدفع بهذا الاتجاه الصعودي‮.‬ وعلى عكس توقعات تقرير وكالة الطاقة العالمية بعدم وجود مؤشرات طلب إضافية على النفط‮ ‬،وتوقعها لحدوث انخفاض بمقدار‮ ‬56‭,‬2‮ ‬مليون برميل‮ ‬يومياً‮ ‬خلال عام‮ ‬‭,‬2009‮ ‬وهو ما‮ ‬يزيد عما كانت توقعته سابقاً‮ ‬بانخفاض على الطلب بحدود‮ ‬7‭,‬2‮ ‬مليون برميل‮ ‬يومياً،‮ ‬بحيث إنها عزت الارتفاعات الأخيرة في‮ ‬أسعار النفط إلى تحركات للسوق ضمن الإطار النفسي‮ ‬المتماشي‮ ‬مع مؤشرات المخزون الأمريكي‮ ‬والارتفاع المسجل لدى أسواق المال وانخفاض الدولار،‮ ‬وأنها لم تنتج عن ارتفاع الطلب أو تحسن حقيقي‮ ‬في‮ ‬الاقتصاد العالمي‮ ‬‭-‬‮ ‬نقول إن محافظة الأسعار على مستوياتها المرتفعة واحتفاظها بزخمها الصعودي‮ ‬على مدى ثلاثة أشهر متصلة لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعزى إلى عوامل نفسية وحسب،‮ ‬وإنما هنالك تحسن في‮ ‬مؤشرات أداء الاقتصاد العالمي‮ ‬رصدته بعض المؤسسات الاقتصادية الدولية وعكسه احتفاظ الطلب العالمي‮ ‬على مصادر الطاقة وبضمنها النفط،‮ ‬بقوة دفعها،‮ ‬إلى جانب بعض العوامل المساعدة‮.‬ من بين هذه العوامل‮:‬ ‮(‬1‮)‬نزعة المستثمرين في‮ ‬تأمين قيمة أصولهم الاستثمارية ضد الاتجاه الهبوطي‮ ‬للدولار الأمريكي‮ ‬وذلك بالاستثمار في‮ ‬أسواق السلع وبضمنها النفط‮.‬ ‮(‬2‮)‬انخفاض الاحتياطي‮ ‬النفطي‮ ‬الأمريكي‮ ‬الذي‮ ‬كان أعلن عنه معهد البترول الأمريكي‮ ‬‭(‬American Petroleum Institute‭)‬‮ ‬حيث انخفض هذا الاحتياطي‮ ‬بواقع‮ ‬96‭,‬5‮ ‬مليون برميل إلى‮ ‬9‭,‬357‮ ‬مليون برميل‮ ..‬وهو المستوى الأدنى المسجل منذ شهر مارس الماضي‮.‬ وبما أن صفقات الاتجار في‮ ‬النفط مقومة أساساً‮ ‬بالدولار الأمريكي،‮ ‬ولما كانت السلطات الأمريكية قد قامت مطلع العام الجاري‮ (‬في‮ ‬ذروة احتدام الأزمة المالية العالمية‮) ‬بشراء ما قيمته تريليون دولار‮ (‬ألف بليون دولار‮) ‬من الأصول المسمومة،‮ ‬فقد كان لابد وأن‮ ‬يعكس ذلك نفسه سلباً‮ ‬على الدولار الأمريكي‮ ‬حيث فقد الأخير منذ فبراير الماضي‮ ‬فقط‮ ‬10٪‮ ‬من قيمته أمام اليورو‮. ‬ولابد للباعة والمضاربين في‮ ‬بورصات النفط من رفع سعر البرميل لتعويض خسائرهم من نزف الدولار‮.‬ ولا‮ ‬يقتصر هذا الأمر على النفط وإنما‮ ‬يشمل كافة المعادن الطبيعية والمواد الخام‮. ‬فقد ارتفعت أسعار النيكل،‮ ‬على سبيل المثال،‮ ‬في‮ ‬سوق لندن للمعادن‮ ‬‭(‬LME‭)‬‮ ‬تسليم ثلاثة أشهر بنسبة‮ ‬4٪،‮ ‬والألمنيوم بنسبة‮ ‬2‭,‬1٪،‮ ‬والنحاس بنسبة‮ ‬7‭,‬1٪‮. ‬ومنذ نهاية شهر مايو الماضي‮ ‬ارتفعت أسعار المعادن‮ ‬غير الحديدية بنسبة تتراوح ما بين‮ ‬13‮-‬24٪‮.‬ خلاصة القول هو إنه لا جدال في‮ ‬أن ما‮ ‬يسمى بالعوامل الفنية‮ (‬ومنها العوامل النفسية‮) ‬تلعب دوراً‮ ‬أساسياً‮ ‬في‮ ‬تأرجحات أسعار‮ ‬‭(‬Price Fluctuations‭)‬‮ ‬النفط هذه الأيام،‮ ‬ومنذ التعافي‮ ‬الملحوظ‮ (‬منذ حوالي‮ ‬ثلاثة أشهر‮)‬،‮ ‬خصوصاً‮ ‬فيما‮ ‬يتعلق بتذبذبات سعر صرف الدولار الأمريكي‮. ‬ولكن مفعول هذه العوامل هو قصير المدى ويتأرجح حول ثلاثة دولارات تقريباً‮ ‬صعوداً‮ ‬وهبوطاً،‮ ‬وقد لاحظنا كيف انخفضت الأسعار‮ ‬يوم الاثنين‮ ‬22‮ ‬يونيه الماضي‮ ‬بواقع ثلاثة دولارات إلى‮ ‬55‭,‬66‮ ‬دولار نتيجة لضغوط عاملي‮ ‬هبوط الدولار،‮ ‬والهبوط الملحوظ لأسعار الأسهم في‮ ‬البورصات العالمية الرئيسية‮ (‬باعتبارها تؤشر إلى أداء الشركات ومن خلالها الاقتصاد‮). ‬ولكن احتفاظ سعر النفط بمستواه‮ ‬،واتجاهه الصعودي‮ ‬على مدى أكثر من ثلاثة أشهر لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعزى إلى عوامل فنية‮ ‬‭(‬
 
صحيفة الوطن
5 يوليو 2009

اقرأ المزيد

الـجــــذوة..

لا توجد قوة على الأرض بإمكانها القضاء على «جذوة» الشعوب وحيويتها التاريخية الجمعية التي لا تعرف الانكسار، ومرد ذلك بكل بساطة أن محرك تلك الجذوة يتأتى من الحاجة الموضوعية للناس، المتعلقة بالظروف المعيشية ولهفة الإنسان للعدل والحرية ومستقبل أفضل له ولأبنائه من الأجيال القادمة، ضمن مسيرة لا تقف أبداً، مادام الخلل قائماً بين الإنتاج والتوزيع، مادام العدل لم يسد بعد والظلم مازال سيد الموقف في المجتمع البشري.. هذه هي دروس التاريخ البليغة التي لا يتعظّ منها – وللأسف – المستبدون من كل نوع وفي كل الأزمنة. لقد انعكس هذا بشكل جليّ في المشهد الإيراني الآنيّ منذ أن اندلعت «وثبة خُرداد» في منتصف الشهر الماضي (يونيو/حزيران)، كرد فعل طبيعي على النتائج – المطعونة في نزاهتها – التي تمخضت عنها انتخابات الرئاسة العاشرة في هذا البلد العصي على الفهم المبسط..
انتهى الآن الفصل الأول من الاحتجاجات الإيرانية العارمة تلك.. أو هكذا يبدو – ظاهرياً على الأقل – حيث بدأت تلك الاحتجاجات بالانحسار التدريجي على الرغم أن ثلة من النخب السياسية والدينية مازالت عند موقفها الشجاع والواضح في عدم الاعتراف بالنتيجة الرسمية والمعتمدة بشكلها النهائي من قبل مجلس صيانة الدستور بعد إعادة فرزه الشكلي .. واعتبار الثلاثي: موسوي/ كروبي/ خاتمي أن حكومة «احمدي نجاد» غير شرعية.. وهي ظاهرة جديدة عصية على التصديق، الأمر الذي قد يفتح الباب لتفاعلات سياسية لا يمكن التنبؤ بها. لعل أسئلة عديدة تراود وتراوغ أذهان الكثيرين من المراقبين والمحللين وحتى المتخصصين في الشأن الإيراني.. هل تجري في الخفاء عملية طبخة فقهية أو إعداد صفقة سياسية من الوزن الثقيل ستكون ميادينها؛ مجلس الشورى، مجلس الخبراء، مجلس مصلحة النظام أو حتى حوزات «قم» الدينية والفقهية من أجل الوصول إلى هدنة ما، لإعادة ماء الوجه للنظام الإيراني من خلال تطوير معين في تشكيلة حاكمية «ولاية الفقيه».. أم أن القمع والسحق و«الطغيان» سيشكلون لغة المرحلة القادمة؟! هل سيكون «ربيع طهران» أشبه بربيع «بكين»، «بيروت» أو«براغ».. أم خليط من هذا وذلك؟ لا أحد بإمكانه أن يقرأ ما يمكن حدوثه بالضبط ومتى سوف يبدأ الفصل الثاني من» الوثبة» الجماهيرية التي أذهلت وأدهشت القاصي والداني.
لهذا فإنه لا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه تداعيات الأحداث، المتعلقة بأصول النظام السياسي الإيراني.. أي مستقبل الدولة الثيوقراطية الحالية (سلطة ولاية الفقيه المطلقة)، التي أضحت مصداقيتها في مهب الريح. ولهذا فان العد التنازلي قد بدأ بالفعل.. وها هي كرة الثلج قد تدحرجت على أية حال، بعد أن سقط السلاح المعنوي الجبار والفتاك الذي كان النظام يستند إليه.. والمقصود هنا؛ «القناع المقدس» أو قدسية أمر ونهي ولي الفقيه!.. حين لم تعد أبرز رجالات المؤسسة الحاكمة من المعارضين الحاليين يشهرون – أمام الملأ- عصا التمرد والعصيان فحسب، بل إن حناجر المتظاهرين أطلقت، لأول مرة منذ ثلاثين عاماً وفي وضح النهار، شعار:«الموت للدكتاتور» (المقصود ولاية الفقيه)، الذي أخذ يذكرنا بأيام الثورة إبان العصيان الشامل ضد النظام الشاهنشاهي البائد.. بمعنى أن الخط «النفسي» الأحمر قد سقط وتجاوزته الجموع الغاضبة في مشهد أغرب من الخيال، لم يكن من السهولة تصديقه حتى في الأحلام.
لقد أضحى رد فعل الغضب الشعبي والجماهيري عارماً إلى درجة أنه نجح في إيجاد شرخ واضح في المؤسسة الحاكمة واهتزت صورة منظومة ولاية الفقيه المطلقة – كما أسلفنا – بشكل لم يكن في حسبان أحد حتى قبل شهر واحد. ومؤشرات ذلك مجسّدة قبل كل شيء فيما يجري منذ بعض الوقت – خلف الكواليس – من صراع تشريعي فقهي في الحوزات الفقهية في «قم»، على شكل مداولات صعبة متعلقة بجوهر حاكمية ولاية الفقيه، تدور في الخفاء بين مجموعة غير معروف حجمها في الوقت الحاضر متكونة من كبار المراجع الدينية، بُغية إحلال مجلس جماعي مصغّر محل القوة الفردية المطلقة لولي الفقيه.. أي الوصول إلى صيغة جديدة مبتكرة لفلسفة «ولاية الفقيه» بهدف تفادي تفاعلات الأزمة الحالية أو المستقبلية والوصول لمخرج من هذه الأزمة التي قد تطال مستقبل ومصير جمهورية إيران الإسلامية. لاحظنا أيضا أن التهديد الصارم والواضح الذي خرج للناس من أعلى سلطة.. أي «ولي الفقيه» نفسه، قد تراخى في حينه إلى حد ملحوظ، راضخاً لقوة الشارع المليونية راسياً على نغمة أخرى وهي إمكان الوصول إلى تسوية تتلخص في إعادة فرز رمزي للأصوات. بجانب موقف رئيس مجلس الشورى «لاريجاني» وانتقاده العلني للقمع الذي مورس ضد المتظاهرين من قِبَل قوات الباسداران والبسيج. والموقف الموارب لعرّاب النظام «رفسنجاني»، ولا يمكن بالطبع أن لا نعير الاعتبار لظاهرة خروج أثنين من آيات الله الكبار عن صمتهم؛ «منتظري» و«زنجاني» ورجال دين آخرين في وزن «الأردبيلي» و«صانعي» وغيرهما العديدين من بين آخرين التزموا الصمت في الوقت الحاضر.. وهي لغة بليغة على أية حال.
يلاحظ المراقبون والمحللون المحايدون أن النظام الإيراني بات الآن قليل الحيلة بالرغم من قوته القمعية الظاهرية، المستندة – أساسا – على موظفيه العسكريين الرسميين؛ الباسداران (الحرس الثوري) والبسيج (قوات التعبئة). يرون هؤلاء أن رأس النظام ارتكب خطأ استراتيجياً سياسياً جسيماً لا يمكن إصلاحه بطريقة اعتيادية بعد أن فقد النظام هيبته والكثير من اعتباره المحلي والدولي.. وليس لديه سوى حلان أحلاهما مرّ!.. فإما الرضوخ لمطالب الناس والمعارضة الإصلاحية..أي التراجع والمشاركة في طبخة أو تسوية ما، أو الهروب إلى الأمام..أي الركون إلى لغة البطش والتهديد التي جاءت على لسان المسؤولين الأمنيين على شاكلة «المحاكمات» التي تنتظر «المتآمرين» من أعداء الثورة والإسلام. وإنذار «الحرس الثوري» باتخاذ إجراءات «ثورية». ومن هنا نجد أن التهديدات التي تخرج يومياً أو حتى على مدار الساعة من القنوات الإعلامية الرسمية تنم عن ضعف وهوان للنظام ويعبر في الواقع عن تخبط يتجسد خاصة في اتهامه للقوى الخارجية و«العملاء» في الداخل، فيما يتعلق بما سماه «الاضطرابات» أو حتى التذرع عن تبعات اغتيال الطالبة الإيرانية «ندا سلطاني»، مدعياً أن المسؤولية تقع على جهات إرهابية مُندسّة.
 
صحيفة اخبار الخليج
5 يوليو 2009

اقرأ المزيد

تطور الصدام ومجرياته المحتملة

تركزت الأخبار والتحليلات الدائرة حول جمهورية إيران الإسلامية، سوى قبل الانتخابات أو بعد نتائجها مباشرة، أو حول النزاع الدائر بين الطرفين الأول خسر في صناديق الاقتراع، فيما نجح الثاني وهم المحافظون في إعادة انتخاب احمدي نجاد للرئاسة لدورة ثانية وبنسبة بلغت 63% من نسبة الأصوات، مما أثار شكوكا في تلك النسبة، خاصة وان الحملة الانتخابية المضادة لنجاد أثارت موضوع احتمال التزوير في مراكز التصويت، نتيجة وجود قرائن ودلائل ـ حسب ادعاءات الإصلاحيين ـ حول تلك الممارسات غير القانونية، خاصة وإذا ما عرفنا ان الانتخابات لم تتميز بالشفافية الكاملة وفق تقويمات ومعايير الرقابة الدولية للانتخابات بسبب غياب جهات دولية وخارجية تشرف على العملية الانتخابية، تاركة مصير الانتخابات بيد وزارة الداخلية، وهي جهة لا يمكن الركون إليها والثقة بها، لكونها جهة تنفيذية وعملت سابقا في ظل حكم رئاسة نجاد نفسه، والاهم من ذلك، إن في الدول الديمقراطية تصبح الانتخابات من صلاحيات وزارة العدل، ومع ذلك لا يمكن الركون على أي وزارة في السلطة مهما تذرعت بعدلها وتميزها الأخلاقي والعادل لفظا وقولا. ما نقله لنا العالم خلال الأيام القليلة الماضية من مشاهد سوداوية للمعارضة، وقصص خضراء ووردية من قبل النظام، وخطب وخطب مضادة في قلب الشوارع والمواقع الالكترونية، وتلويح برفع سقف الضغط وبردود شجاعة على المقاومة والاستشهاد، وبأحجام وأرقام تعبر عن حالة تصاعد وازدياد في عدد المعتقلين من المعارضة الإيرانية، بعضهم مثقفون معروفون وأساتذة جامعات وشباب وطلاب جامعات حسب وكالات الأنباء، في وقت تواصل وتصر السلطات، على ان المعتقلين ليسوا إلا قوى وعملاء للأجانب ومتآمرين ومخربين يستهدفون تغيير النظام الجمهوري الإسلامي. في هذا الفضاء السياسي الساخن، ـ وما بعد نتائج الانتخابات ـ لم تهدأ الأدخنة لمسيلات الدموع، مثلما لم تتوقف رفع أسماء وشعارات ونداءات التنديد لممارسات رجال الأمن والباسيج لمتظاهرين عزل وحناجر شابة منددة، لتتحول إيران وبعد ثلاثين عاما من حكمها «الثوري والرسالي» أمام مواجهة وانتفاضة مختلفة، وعرضه لمواجهات حقيقية تهز أركانه ابتداء من موقع المرشد الأعلى وانتهاء بشاب متحمس من الباسيج، مؤمن إيمان مطلق بتاريخ الثورة التي ولد على قصص تاريخها ومناهجها المدرسية. كل ذلك انهار خلال وبعد الثاني عشر من يونيو عام 2009، ففي هذه اللحظة من تاريخ إيران الراهن ندخل منعطفا مهما سيحدد مجريات النظام ومدى قبوله بالمساومة أو الدخول في قمة الدموية فيما لو بدأت عملية توازن القوى تختل في الشهور اللاحقة. قد يبدو الصدام حاليا أكثر هدوءا وسلمية بمعيار الصدمات الأهلية والعصيانات المدنية والحروب الأهلية المسلحة، وقد تبدو حركة الاحتجاج متوارية في تكتيكاتها بهدف أن لا تخسر المزيد من الضحايا دفعة واحدة، ولكنها في الوقت ذاته معنية باستنزاف قوى النظام والتيار المحافظ بالتدريج، لكي يبدو أكثر خلخلة وهستيريا وعزلة داخلية وخارجية. كما لا يمكننا الحكم عاجلا على سيناريو مجرى ذلك الخط المتعرج، صعودا ونزولا لكل حركة جماهيرية منظمة، تخرج لمواجهة نظام قبضاته غليظة ولديه مؤسسات منظمة في كافة المستويات الرسمية والشعبية. من هنا تبدأ حسابات المعارضة في اقتحام واختراق تلك المؤسسات والقاعدة الشعبية والفئات والطبقات الحيوية في المجتمع، وبدونها لا يمكن لأي معارضة النجاح على مدى طويل، إذا ما كانت تتوق لتغيير وجه إيران مستقبلا. وتستهدف كل حركة معارضة أولا بالاعتماد على تحريك الشارع عن طريق قوى حيوية وفاعلة كطاقة يومية، هم الطلاب والشباب والنساء، ولكنها، ثانيا، لن تنجح في إضعاف المؤسسة الدينية إلا بتفكيكها إلى قوتين تدخل احدهما وبشكل واسع كقوى حليفة للمعارضة. ثالثا من الضروري دخول الجيش كقوة موازية للحرس الثوري بهدف تحييده في الصراع، وفي حالة عدم الإذعان، فان نزول الجيش تصبح مسألة في غاية الأهمية وإلا لا يمكن كسب رهان المعركة بدون هذه القوة المنظمة، حتى وان رددت مقولة إنها لا تتدخل في الشأن الداخلي ومعنية فقط بالأمن القومي!! وهذا السيناريو لن يتم إلا إذا وجد الجيش إن الباسيج تحول إلى قوة قمعية رادعة وتسبب في سفك الدماء لمواجهة التظاهرات المستمرة والمساندة لقوى الأمن وبدون تبرير. وهناك قوة مهمة وحاسمة في كل الصراعات لكونها مرتبطة بوضع اقتصادي يؤثر في عملية شل البلاد، وهي الطبقة العاملة، والصناعية تحديدا، والكادحين في مؤسسات مهنية مختلفة، وبدون الإضراب العام لا يمكن للمعارضة خلخلة النظام في مفاصله كاملة. وهناك قوى متعددة في المجتمع المدني تلعب دورا مهما في الضغوطات الهيكلية للنظام، وتسبب شرخا في أعمدته العمودية والأفقية. كل تلك السيناريوهات المرئية والمحتملة والبعيدة، تحددها عملية تصاعد المزاج العام والاستعداد والتضحية وتوازن القوى وقدرة المعارضة الدائمة على دفع وفرز كاريزمات قيادية ويومية ومناطقية ـ حتى وان اتسعت حجم عملية الاعتقالات ـ فتدخل النظام في حالة إرباك سياسي واضطراب امني تفقده السيطرة على مفاتيح الاستقرار. بدون تملك زمام تلك المفاتيح والسيناريوهات وتغير الموازين لصالح المعارضة، ستعود حركة المعارضة أدراجها للهدوء التدريجي والاستسلام للأمر الواقع، ومن ثمة إدخال جمهورها في حالة إحباط عميق وانتكاسات سياسية كبرى لحركة المعارضة. لهذا من الضروري أن تدرك المعارضة جيدا فن التقاط الأنفاس دون الركون للخمول، وبتنويع مصادر الاحتجاج في الأشكال والأمكنة والتنظيم اللامركزي في بلد شاسع، وبالاستعداد والتوقع دوما لضربات موجعة، شريطة أن لا تؤثر عليها عضويا ومعنويا. ومن اجل أن تنتصر أي معارضة منظمة وموحدة، عليها في هذه اللحظة التاريخية أن تؤسس لمشروع سياسي واسع يضع كل الخلافات الجانبية خلفه، وينظر لأهدافه العليا والمصيرية بمسؤولية، فلا يوجد عدو حقيقي لأي حركة معارضة مثل تلك التي تنشغل بخلافات ثانوية وهامشية تضعفها من نصف الطريق ومن الداخل. لست من يقدمون نصائح لتاريخ كتاريخ إيران بعظمة رجالاته، ولكنني أحاول قراءة السيناريوهات الممكنة والمحتملة في مجرى تاريخ غامض ومضطرب، وكلما اهتز الزلزال في إيران وأرضها تساقطت أحجار حارقة هنا وهناك فوق منطقتنا.
 
صحيفة الايام
5 يوليو 2009

اقرأ المزيد

حكاية من هونج كونج


ينقل رجب البنا حكاية مفادها أن حاكم هونج كونج منذ عدة عقود أراد أن يحاسب أحد كبار ضباط الشرطة الذي تورط في فضيحة فساد كبرى، فقرر الحاكم تشكيل لجنة مستقلة لمحاربة الفساد، ومن أجل ضمان استقلال وحيادية هذه اللجنة قرر أن ترفع تقريرها إلى الحاكم شخصياً وبشكل مباشر. كما قرر لأعضاء اللجنة مكافآت تزيد على ما يتقاضاها أمثالهم حتى لا يقعوا فريسة لإغراء الفساد، بأن يقوم المستهدفون بالتحقيق برشوتهم بمبالغ كبرى لضمان ألا يأتي التقرير لغير صالحهم، كما تضمن قانون تشكيل هذه اللجنة العليا استقلال أعضائها عن السلطة التنفيذية، وعدم جواز عزلهم أو نقلهم وحظر اشتغالهم في أعمال حرة أو مشاركة رجال الأعمال إذا استقالوا أو تركوا عضوية اللجنة لأي سبب.
القانون أعطى أعضاء هذه اللجنة سلطات كاملة للتحقيق والاتهام ومخاطبة الرأي العام بكل وسائل الإعلام لتوعية الجمهور برفض الخضوع لابتزاز الفاسدين من الموظفين والإبلاغ عنهم دون تردد أو خشية من بطشهم، ولكي يدلل الحاكم على حدية هذه الوقفة اختار لرئاسة اللجنة شخصاً معروفاً بالنزاهة والاستقامة وبعيداً عن الشبهات.

هذه الحكاية وردت أساساً في تقرير للبنك الدولي ساقها مثلا على ما يمكن للفساد أن يكون عليه من استشراء، بحيث انه حتى محاربته لا تعدو ممكنة، لأن أي جهاز إداري للتحقيق فيه لن يتمكن من بلوغ مهمته بالسهولة التي نظنها حتى لو كان أعضاء هذا الجهاز يتمتعون بالنزاهة والاستقامة وشرف الضمير.

لا تحتاج شرور الفساد إلى المزيد من الشرح، إنها آفة تعيق التنمية وتمثل تطاولاً على المال العام وانتهاكاً لحرمته. لكن من أبلغ ما قرأت في توصيف الفساد، تشبيه رجب البنا له بأنه مثل الانفلونزا، ولا علاقة للأمر بانفلونزا الطيور أو انفلونزا الخنازير الرائجة حاليا ،لأن هذا التشبيه أطلق قبل ظهور هذا النوع من الانفلونزا، لكنه بالغ الدلالة، ذلك أن الانفلونزا تملك إمكانية قلّ نظيرها في الانتشار والعدوى، وأكثر من ذلك فإنها تبدأ عادة باختراق الأجسام ضعيفة المناعة، شأنها شأن الفساد الذي يعم حيث يغيب القانون والرقابة الشعبية وشفافية الأداء المالي والإداري في الحكومات والمجتمعات. أورد هذه الحكاية لعل فيها لنا بعض العبرة وسط الحديث المتزايد هذه الأيام لمحاربة الفساد.
 

اقرأ المزيد

الزلازل المصرفية تعصف بالخليج


 
 
كانت البحرين، وعلى مدى ثلاثة عقود خلت، عاصمة مصرفية للشرق الأوسط فهي موطن لـ 150 بنكاً تستخدم أكثر من 14 ألفاً من الأشخاص.

وعلى أية حال، ففي جزيرة مغلقة ومجتمع يضم فقط 740 ألفاً من المواطنين، فإن حرمان أي مواطن بحريني من الإعالة يعتبر في نظر الكثيرين شكلاً من أشكال الخيانة والغدر الاجتماعي. وهكذا عندما انتشرت أخبار في أواخر الشهر الماضي بأن بنك الخليج الدولي الـ ( GIB )، قد استغنى عن 950 موظفاً من مركزه الرئيسي في البحرين، أي ما يعادل، تقريباً، خمس القوة العاملة هناك، فإن اضطراباتٍ عارمة اندلعت من قبل زملاءٍ موظفين في البنك البحريني ونشطاء نقابيين آخرين.

انتهي مستقبلنا

إلى ذلك تقول نرجس أحمد الحداد، وهي موظفة اتصالات في بنك الخليج، كانت تحضر لقاءً نقابياً حول التسريحات منذ أسبوع مضى: “لقد عملت لمدة أربع سنوات بأمانة وشرف في هذا البنك، وكنت اعتبره بمثابة بيتي الثاني، ولكنهم أنهوا أعمالنا في لحظة واحدة ولهذا لا بد أن أكون غاضبـة”.

وتقول منى الكوهجي، التي عملت كسكرتيرة في قسم التمويل الدائم: “لا أستطيع أن أتخيل بأنه لم يعد لدي عمل بعد الآن، ولدينا الكثير من الأشياء التي نخطط لها من أجل مستقبلنا، وأطفالنا، وانتهت، كلياً، الآن”.

رد الفعل النقابي

بدورها، تخطط نقابة المصرفيين في البحرين لسلسة مطولة من الاحتجاجات بسبب عملية التسريحات هذه. وتنوي قرع أجراس الإنذار لذلك. وطبقاً لما يقوله رئيسها خليل زينل، فإن كثيراً من البنوك في البحرين تخطط لعمليات فصل كبيرة خاصة بكل منها، وكان قد اطلع على قوائم بأسماءٍ تم تقديمها لوزارة العمل، وأردف بالقول: “إن هذا هو جزء من تسريحات مستقبلية ستتم عبر القطاع المصرفي, وإذا سـُمح بتمرير هذا الأمر، فإنه سيؤثر على البنوك الأخرى. فالغاية من احتجاجاتنا، هي أن نرسل إشارة إلى إدارات بنكية أخرى، بأن هذا الأمر غير مقبول بالمطلق”.

إخفاق ظالم

وبنك الخليج الدولي هو بنك استثماري، ومملوك بشكل مشترك، من قبل حكومات الدول العربية الست التي تشكل مجلس التعاون الخليجي، وهي تستثمر بشكل كبير في المشتقات المركبة، والصناديق الوقائية في الخارج، وقد تعرض لخسارة بلغت 396 مليوناً من الدولارات في العام الماضي، إضافة إلى خسارة أخرى بلغت 757 مليوناً، في العام 2007. وكان قد باع مؤخراً أكثر من نصف أصوله الخارجية إلى صناديق سيادية مالية للحكومات التي تمتلك الأسهم، كما قام بتقليص العديد من عملياته.
ويقول الرئيس التنفيذي الذي عيـّن في منصبه، مؤخراً، وهو الدكتور يحيى اليحيى ” ربما كان بنك الخليج الدولي الأكثر تعسفاً، والأكثر عالميةً في مستوى نشاطاته، ولكن وقع البنك، ولسوء الطالع، في شراك هذه الأزمة المالية، التي أفضت تالياً، إلى هذا الواقع المؤسف من حالات الفصل”.

إيجاد الوظائف

أصبحت البحرين العاصمة المصرفية في الشرق الأوسط، عقب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان التي كانت تعتبر المركز السابق للأعمال المصرفية في الشرق الأوسط. ووجدت الحكومة في ذلك فرصة لفتح قطاع اقتصادي جديد، وسرعان ما سنت لذلك التشريعات اللازمة للأعمال المصرفية الداخلية كي تستجلب مؤسسات من جميع دول العالم التي أنشأت لها فروعاً في البحرين، متخذة من هذا البلد قاعدة لإدارة الثروة البترودولارية الخليجية. واليوم فإن الخدمات المصرفية تولـّد أكثر من ربع الدخل القومي البحريني. ويعتبر القطاع المصرفي من أكثر القطاعات أماناً للعمل في البحرين.

إن هذا غاية في الأهمية، لأنه لا يوجد بلد في الخليج، أكثر حساسية حيال قضية فقدان الوظائف من البحرين، فحتى أربعُ سنين خلت، كانت معدلات البطالة فيها تتجاوز الـ 15%. وكانت هناك احتجاجات مستمرة، وأعمال شغب بسبب نقص الوظائف. غير أنه، وفي هذه الأيام، فإن معدل البطالة هو تحت الـ 4% وساهم فيه، إلى حدٍ كبير، التوسع بقطاع الخدمات المالية، الذي يستخدم أكثر من 10آلاف مواطن بحريني. والسؤال هو فيما إذا سيــُدفع هذا المعدل مرة أخرى، للارتفاع نحو الأعلى، من خلال عمليات التسريح الجماعي عبر القطاع المصرفي.

النظر إلى نقاط الضعف

هل هناك بنوكٌ أخرى في البحرين مضطربة مالياً كما هو الحال بالنسبة لبنك الخليج الدولي؟ يجيب عن هذا السؤال روبيرت أيني، الرئيس التنفيذي لاتحاد المصارف البحرينية الأمريكي المولد، بالقول: “لا أعلم، ولكنك لو اطلعت على نتائج أرباب الأعمال المصرفيين في البحرين ستراها راكدة. ومن هنا فإن قضية تخفيض نفقات الموظفين للعودة إلى الربحية هي غير واردة الآن. غير أن نقابة المصرفيين تقول بأن هناك عدداً من البنوك الأخرى، وتعمل فقط كبنوك استثمارية مستقلة، لكنها تكابد، هي الأخرى، من نفس الورطة.

وهناك اثنان من البنوك الاستثمارية المملوكة لسعوديين، ومقرهما في البحرين، وهما الأول Awal ، والشركة المصرفية الدولية، وكل منهما ينوي القيام، حالياً، بعملية إعادة هيكلة للديون. فالأول كان قد خفض من معدلات الائتمان إلى حدودها الأدنى، فيما تخلفت الشركة المصرفية الدولية عن تسديد ديون في الشهر الماضي.

من حق النقابات البحرينية المصرفية قرع أجراس الخطر بشأن المشاكل المتنامية في القطاع المصرفي البحريني، ولكن السؤال: هل ستفلح هذه الاحتجاجات في فعل أي شيء بهذا الخصوص؟ 



 
الكاتب : Jeremy Howell
ترجمة نضال نعيسة

العنوان الأصلي اضطرابات في مركز الشرق الأوسط المصرفي

http://news.bbc.co.uk/2/hi/business/8099919.stm 
  
  
 

اقرأ المزيد

لنتعلم من ” آسـيان “


شعوب جنوب شرق آسيا (آسيان) تضم عشر دول (تايلند، الفلبين، ماليزيا، ميانمار، سنغافورا، إندونيسيا، بروناي، كمبوديا، لاوس، وفيتنام)، وهي تعتبر واحدة من الكتل الاقتصادية المتنامية، تتميز بالنمو السريع في المنتجات الزراعية، وتوافر إمكانات بشرية منتجة، وتصنيع محلي مخصص للتصدير، وقدرة على جذب الاستثمارات التي تصبُّ في صالح المواطنين. وهذه الرابطة قامت أساساً في العام 1967 بين خمس دول من أجل التعاون الاقتصادي، وخففت كثيراً من الجوانب السياسية، وبالتالي تمكنت هذه الدول من التعاون فيما بينها على رغم اختلاف نظمها السياسية واختلاف الاتجاهات الحاكمة في الدول الأعضاء.

أما مجلس التعاون الخليجي، فهو يضم دول الخليج العربي الست التي تتشابه في النظم السياسية، وهذا التحالف قام على أساس أمني في 1981، وعلى هذا الأساس، فإن الأجندة الاقتصادية لم تكن من الأولويات، وعندما انطلقت مؤخراً فإنها متعثرة، والتنافس الاقتصادي الذي يقف حائلاً أمام التكامل بين دول الخليج معروف للجميع.

وبوم أمس الأول (30 يونيو/ حزيران) وقّع وزراء خارجية دول مجلس التعاون و «آسيان» في اجتماعهم الأول في المنامة مذكرة للتفاهم تحدثت عن الرغبة في البحث عن ميادين إضافية للتعاون وكلفوا المسئولين في «التعاون» و«آسيان» بتطوير خطة العمل بين الجانبين؛ وذلك لضمان التعاون الفعال وإحراز النتائج الملموسة وتقديمها إلى الاجتماع الوزاري المشترك في العام المقبل، والذي سيكون في إحدى دول آسيان، وكلفوا الأمانتين العامتين في مجلس التعاون الخليجي ورابطة آسيان بدراسة وإعداد التوصيات اللازمة بشأن ” إبرام اتفاقية تجارة حرة بين الجانبين والتعاون الاقتصادي والتنموي والتعليم والثقافة والإعلام”.

والسؤال: كيف يمكن أن تنشأ علاقة بن كتلين مختلفتين من ناحية التشكيل؟ فدول التعاون أولى بأن تحقق التكامل الاقتصادي فيما بينها قبل أن تحققه مع دول آسيان. ويمكن لدول التعاون أن تتعلم من آسيان كيف تركز على الاقتصاد، وكيف يمكن توثيق العلاقات بين الشعوب ذات اللغات والاتجاهات المختلفة بصورة أفضل مما نفعله نحن في الخليج على الرغم من التشابه في الهويات الثقافية وفي النظم السياسية.


الوسط 2 يوليو 2009  

اقرأ المزيد

هكذا يرحل الطغاة.. أذلاء مهانين

يرحل الطغاة والجلادون من الرؤساء في دول العالم الثالث عامة والوطن العربي خاصة، بمزيد من الاذلال والمهانة.. لكونهم قد أذاقوا شعوبهم ومجتمعاتهم فداحة الظلم الاجتماعي، وعسف القهر السياسي.
هكذا رحل أحد أقطاب هؤلاء الطغاة مؤخرا، وهو الرئيس السوداني الدكتاتوري الاسبق جعفر نميري، غير مأسوف عليه، هذا الدكتاتور حكم الشعب السوداني بقبضة من حديد طوال ستة عشر عاما، ما بين (1969 و1985) ضمن اقامته نظاما أوتوقراطيا عسكريا محوره السياسي (مظاهر البطش والعسف).. وتنظيمه الاجتماعي هو (فتح السجون والمعتقلات ونصب أعواد المشانق).. ومن ثم بدل هذا الجلاد جلدته في تلونه كالحرباء، بعد ان غير افكاره ونهجه السياسي من اقامة نظام الشمولية العسكرية، الى اقامة نظام الشريعة الاسلامية في عام 1983م وانزال الحدود على رقاب المناضلين من خلال هذا النظام، بدعم من مستشاريه ومرجعياته الدينية من تيار الاسلام السياسي وعلى رأسهم الاخواني المتشدد المراوغ حسن الترابي.
رحل جعفر نميري بشكل مهين.. مثلما عاش حياته طريدا في المنفى بأكثر مهانة.. ولعل رحيله كما اسلفنا الذكر كان مهينا.. فان جنازته كادت ان تكون الشاهد على الحقائق المرة والوقائع الموجعة، لمروغها في اوحال الذل ايضا.. إذ ان الشعب السوداني المناضل بملايينه سيظل هو الشاهد الاخر على ان هذه الجنازة لم تجد من يمشي فيها سوى أقل من ثلاثة آلاف من اتباع صاحبها وزبانيته، الذين استفادوا من حكمه الدكتاتوري وامتصوا رحيق خيرات الوطن وسرقوا مقدرات الشعب.. بحسب ما سعى النميري طوال فترة حكمه الى افلاس خزانة الدولة والى انهيار الاقتصاد الوطني، على حساب جمعه الثروة الطائلة واختلاسه مليارات الدولارات.. ناهيك عن انتشار المجاعات التي عمت البلاد وخاصة دارفور وكردفان وشرقي السودان، التي ذهب ضحيتها الآلاف من المواطنين، على اثر شد الاحزمة على البطون حتى الموت.
ومثلما اشتهر جعفر نميري بالفساد السياسي والاقتصادي.. فانه جزأ جنوب السودان الى ثلاث مناطق قائمة على التقسيم والصراع والتشرذم والشريعة الاسلامية.. الامر الذي ادى الى اشعال فتيل الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب التي راح ضحيتها أكثر من مليوني شخص.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فان التاريخ مثلما لاحق الدكتاتور جعفر نميري اثناء حياته لمحاكمته، فان وصمة العار ستلاحقه حتى بعد مماته والى الابد.. ذلك لما قام به من عمل اجرامي في حق خيرة مناضلي الحزب الشيوعي السوداني، ونصب اعواد المشانق في اليوم التاسع عشر من يوليو 1971م، واعدامهم، وفي مقدمتهم المناضل عبدالخالق محجوب امين عام الحزب الشيوعي السوداني، والمناضل النقابي الشفيع احمد الشيخ الامين العام لاتحاد العمال العالمي.
ومثلما رحل نميري إلى مزبلة التاريخ، فان الشهداء من مناضلي الحزب الشيوعي السوداني ظلت مكانتهم في قلوب وعقول الشعب السوداني كبيرة، بل في وجدان الشعوب والامم المناضلة في كل مكان.. ويأتي انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي السوداني الاول في أواخر يناير عام 2009م، ليؤكد انتصار شهدائه ومناضليه، والشعب السوداني على حد سواء.. بقدر ما يرسخ مكانته التاريخية والوطنية والمبدئية في أرضية الواقع المجتمعي الملموس للسودان، ويعزز نضالاته وتضحياته وانجازاته ومكتسباته، ضمن مؤسسات المجتمع المدني، كحزب قيادي جماهيري، امتلك البرنامج السياسي ووضوح الرؤى الفكرية والايديولوجية.. بحسب ما حاز مناضلو الحزب ثقة واحترام الشعب السوداني بمختلف قطاعاته وفئاته وطبقاته، وفي مقدمتها طبقة البروليتاريا الكادحة.. بينما يظل الطغاة والدكتاتوريون خارجين عن طبقات الشعوب، وعن ثقة الشعوب، وغرباء عن أوطانهم بمزيد من الذل والمهانة.. بل يكون مصيرهم السحق والمطاردة والتشرد، بثورة الشعوب التي تلاحقهم وغضبة المناضلين التي تطيح بهم.. ولعل الدكتاتور جعفر نميري يمثل انموذجا حيويا لهؤلاء الطغاة وأولئك الجلادين في دول العالم الثالث امثال موبوتو سيسكو وبينوشيه وعيدي أمين وضياء الحق وفرديناند ماركوس وسياد بري وحسين ارشاد، الذين أوصلتهم محاكمة الشعوب الى أسفل الدرك.. بقدر ما دونت اسماء هؤلاء المجرمين في حق شعوبهم في سجل الدكتاتوريين والمستبدين.

صحيفة اخبار الخليج
3 يوليو 2009

اقرأ المزيد

بين زنوج البصرة.. وزنوج أمريكا

مع ان العرب، وعلى وجه الخصوص حركاتهم وقواهم السياسية المعادية لأمريكا والغرب، من أكثر شعوب الأرض قاطبة تنديدا وتشهيرا بما ارتكبه هذا الغرب من انتهاكات وجرائم عنصرية بحق شعوب القارة السوداء، ولاسيما خلال الحقبة الاستعمارية حيث جرى استعباد شعوب معظم بلدان هذه القارة وتم نهب خيراتها واسترقاق الملايين من أبنائها والمتاجرة في هؤلاء الافريقيين الأرقاء وتصديرهم إلى اسواق النخاسة في الغرب، وعلى الأخص الولايات المتحدة التي تعد أكثر البلدان الغربية تورطا في فضيحة استيراد الرقيق الأسود، إلا ان العرب أنفسهم الذين يروق دائما لهم التشهير بالامريكيين وتذكيرهم بفضائح أجدادهم التاريخية لارتكابهم تلك الجرائم العنصرية ينسون أو يتناسون ان اجدادهم كانوا من أسبق الامم في مزاولة تجارة الرق الافريقي قبل قرون طويلة من مزاولة الاوروبيين والأمريكيين لهذه التجارة الخسيسة منذ بدايات غزوهم للبلدان الافريقية.
ولعل من أكبر الشواهد والوقائع التاريخية الدالة على اسبقية العرب في التورط في تلك الفضيحة الزنوج الذين تم استقدامهم من شرقي افريقيا خلال الدولة العباسية في القرن الثالث الهجري حيث تم تسخيرهم لشق القنوات وتنظيف الأراضي السبخة لتمهيدها للزراعة. هذا بالاضافة إلى ما يقومون به من أعمال شاقة أخرى في منتهى القسوة وفي ظروف مناخية تتسم بالحرارة والرطوبة المرتفعتين خلال اغلب شهور السنة، وتحديدا في جنوب العراق حيث يشبه مناخه مناخ الخليج العربي وعلى الأخص في البصرة والمناطق المحاذية أو القريبة منها.
ومن تسنى له الاطلاع على شذرات تفصيلية حول الظروف التي عمل في ظلها أولئك الزنوج ويقارنها بظروف العبيد السود الذين عملوا في مزارع الجنوب الأمريكي سيرى بأنها متشابهة ما لم تكن ظروف عمل زنوج البصرة خلال الخلافة العباسية اقسى بكثير من ظروف عمل زنوج أمريكا.
وعلى الرغم مما ارتكبه المؤرخون المغرضون من تشويه فظ لانتفاضتهم العارمة عام 257هـ بقيادة علي بن محمد وحيث جرى تصويرهم كمارقين خارجين على الملة والخلافة، فإن ثمة مؤرخين عربا أعادوا الاعتبار موضوعيا لانتفاضتهم كواحدة من أكبر الثورات في التاريخ العربي الاسلامي احتجاجا على الظلم والاضطهاد الطبقي والاجتماعي وطلبا للمساواة وتحقيقا للعدل من جور ملاك الأرض وجلهم من “أشراف العرب”.
صحيح ان زنوج البصرة اتسمت انتفاضتهم الشعبية بالانف الثوري الفوضوي مما أفضى إلى مقتل ما لا يقل عن 300 ألف انسان من أهالي البصرة، ناهيك عن تدمير وحرق مئات البيوت والحقول إلا ان ذلك العنف الثوري الفوضوي لا يطمس بأي حال من الأحوال عدالة قضيتهم ورفضهم للعبودية والظلم والتمييز والاضطهاد العنصريين الصارخين. كما أن لجوء زعيمهم علي بن محمد إلى الادعاء بأنه “المهدي المنتظر” لا يفسره سوى كون الوعي السياسي والثقافي السائد حينئذ بين الناس، وبخاصة البسطاء منهم، هو الوعي الديني، وما كان زعيم ثورتهم ليستطيع استمالة الزنوج المسحوقين والتنظير السياسي الفوقي لحركتهم الاجتماعية سوى باللجوء إلى هذه الحيلة أي الاستعانة بالفكر الديني، حيث لم تكن الافكار والنظريات الثورية الحديثة معروفة أو قد ولدت حينذاك.
وإذا كانت ثورات زنوج أمريكا المستعبدين، فضلا عن الثورات الاجتماعية الديمقراطية، التي شاركت فيها مختلف الأعراق، بخاصة منذ اندلاع الحرب الأهلية الامريكية بين الولايات الجنوبية والولايات الشمالية (1860م – 1865م) قد أفضت لاحقا إلى اعلان منع الرق وتحرير العبيد الذي أصدره الرئيس لينكولن خلال الحرب، وصولا إلى حركة الحقوق المدنية في أواسط القرن العشرين التي تمخضت عن اعلان الحقوق المدنية وحظر التمييز العنصري ضد السود، بغض النظر هنا عن استمرار بعض الممارسات التمييزية على ارض الواقع ضدهم على نقيض القانون، فإن احفاد زنوج البصرة حتى بالرغم من تحريرهم من العبودية ظلوا يعانون التمييز الاجتماعي غير المعلن ضدهم إلى يومنا. وزاد من تكرس هذه الممارسة العنصرية المقيتة ان العراق، وعلى عكس الولايات المتحدة، تعاقبت عليه أنظمة استبدادية منذ الخلافة العباسية إلى يومنا هذا، هذا على الرغم من خلو تشريعات الدولة العراقية منذ تأسيسها في العشرينيات من أي نص يحض على التمييز بسبب اللون أو المذهب أو الدين، ومع تفجر حوادث العنف والارهاب الطائفية بعد الغزو الامريكي للعراق عام 2003م طفحت على السطح مجددا قضية زنوج البصرة الذين اعلنوا مطالبتهم بالمساواة، علما بأن العديد منهم قد تصاهروا مع العرب الاقحاح، لا بل ان بعضهم وصل إلى مراتب اجتماعية عليا واعتنقوا مختلف المذاهب الاسلامية. على ان ثمة نظرة اجتماعية متعالية تجاههم ظلت مستمرة، ومازال يطلق عليم في الاوساط الاجتماعية “عبيدا” استنادا إلى بشرتهم الافريقية السوداء.
بقي ان نشير إلى انه مثلما حافظ زنوج امريكا على فنونهم الموسيقية والغنائية الشعبية التي جلبوها معهم من افريقيا وطوروها وتوارثوها جيلا بعد جيل حتى يومنا هذا، فان زنوج البصرة ظلوا أيضا محافظين على موروثهم الانساني الفني الافريقي الفلكلوري جيلا اثر جيل، كما لهم أيضا ألحانهم المميزة التي تعزف فيها الدفوف والطبول معزوفات مثل: بيب وانكروكا وجونباسا والليوة والنوبان، ولربما بعض فنوننا الموسيقية الشعبية مستمدة منهم، وليس بالضرورة مستمدة مباشرة من افريقيا.

صحيفة اخبار الخليج
3 يوليو 2009

اقرأ المزيد