المنشور

أقوى من الفولاذ وأرق من النسيم


 

 


 


لم يكتب نيكوس كزانتراكيس روايته الشهيرة”زوربا” من وحي الخيال، حتى وان كانت المخيلة قد غطت مساحة واسعة فيها. فالرواية لم تكتب إلا على خلفية لقاء الكاتب مع زوربا الحقيقي على السواحل الجنوبية لليونان، حيث كان هذا الأخير يعمل في قطع الأخشاب.

عن هذا اللقاء قال الكاتب الشهير الذي ذاع صيته في بلده اليونان وفي العالم: “لقد تعلمت من زوربا حب الحياة”. ويعرف الذين قرأوا الرواية أو شاهدوا الفيلم المأخوذ عنها أنها كانت نشيداً مفعماً بحب الحياة، بالمغامرة، وبالرغبة في الاكتشاف وعدم الاستكانة للأمر الواقع. ومنذ سنوات قليلة صدرت ترجمة عربية لكتاب” تصوف” للكاتب نفسه، والكتاب الذي لا يقع في صفحات كثيرة ينتسب إلى المرحلة التي كان فيها الكاتب لما يزل شاباً.

يفرق النقاد والباحثون في سير وأعمال الكتاب والفلاسفة والمفكرين عادة بين مرحلتين على الأقل في حياة هؤلاء، مرحلة الشباب ومرحلة النضج، وهو تفريق ليس تعسفياً، فالكاتب والمفكر هو نتاج سيرورة فكرية وإنسانية متصلة يخضع فيها لتغييرات وتعديلات في رؤاه ومفاهيمه، وإذا كان الباحثون يتوخون التركيز على الأعمال الأخيرة لأي كاتب بصفتها كتابات ناضجة، فلأنهم يرون في كتابات الشباب بذرة أفكار هذا الكاتب، والمكونات الأولى لرؤيته للحياة، وللعملية الفكرية الإبداعية ذاتها. “تصوف” نيكوس كزانتراكيس ينتسب، إذاً، إلى المرحلة الأولى من حياته ككاتب، لذا نجد فيها كل روح التمرد والإقبال على الحياة التي طبعت أعماله اللاحقة، وما كان له أن يتعلم حب الحياة من قاطع الأخشاب على السواحل الجنوبية في اليونان، ويكتب عنه تلك الرواية العذبة لو أن الكاتب نفسه لم يكن مهيئاً لان يلتهم تفاصيل هذه الحياة ويتشربها قطرة قطرة، عبر ما يدعوه بالممارسة، التي هي هنا قرين التجريب والاستكشاف والتعلم. الممارسة، بكلماته، هي الوسيلة الوحيدة التي تستطيع الإجابة على أسئلة القلب، وهي أسئلة نابعة من تحديد اللامحدود، بأن نملأ دورة حياتنا برغبات ومخاوف ومناشط، وأن نتوسع حتى نبلغ الحدود، وألا تعود هذه الحدود تسعنا، وأن نتشقق ونتحطم، وهكذا نفعل فعلنا فنزيد الجوهر ونوسعه.

والكاتب الذي يختار لكتابه هذا العنوان، لا يفعل ذلك عبثاً لأنه قادر على تحويل الملموس إلى مجرد، إلى مقولة فلسفية، ويرى الحياة كما هي من لحم ودم في هذا المجرد:” النجمة تموت لكن الضوء لا يموت”، لذا فانه يحثنا على النضال من خلال اللقاء المؤقت للقوى المتناقضة الذي يشكل وجودنا، لكي نبدع أقصى ما يستطيع الفاني في هذا العالم: أن نبدع صيحة. وهو هنا، كما في كل مواضع الكتاب، لا يترك الأمر غامضاً، فهو يُشخص تلك الصيحة بوصفها عُشقاً جارفاً يعبر الكون. انه كالأثير أقوى من الفولاذ وأرق من النسيم، انه عشق يقتحم ويعبر كل شيء يذهب وينعتق، لا يخلد للراحة على المواقع الدافئة، ويقتحم الروح ويُظهر رغبته في التوحد معها،” فلا نوجد أنا وأنت، لأن العشق يدفع البشر بقوة، في اللحظات الحاسمة، ليلتحم بعضهم بالبعض الآخر”.

“تصوف” نيكوس كزانتزاكيس يحمل بذرة تمرد هذا الكاتب وسر عذوبته. انه تأملات فلسفية في الحياة والحب والنفس البشرية مكتوبة بلغة مخاتلةٍ تستدرجنا نحو أسرها الساحر بكل سلاسة .

اقرأ المزيد

السياسات الفاشية

تتجسد المشكلات المركبة القومية الشوفينية في الشرق الأوسط أو المشرق العربي الإسلامي في حكومات مستبدة في إسرائيل وإيران وغيرهما، تجاوزت القمع العادي والاحتلال إلى القيام بالمذابح وتشكيل أنظمة الكراهية للبشر.
الفاشية الصهيونية هي مصدر الفاشيات في المنطقة، هي التي ولدت فاشية البعث والقومية والسلفية والآن الحرس الثوري الإيراني. هي الجرثومة الكبرى المنتجة لكل الجرائم.
إن أي تعليق لإحدى هذه الدول من عضوية النادي الفاشي هو تعضيد للمبنى الأساسي.
هو جر المنطقة لصراعات غير مبدئية.
هو جر المنطقة لصراعات المصالح الضيقة، هو غياب الانسجام الديمقراطي الإنساني، هو جعل الفاشية الصهيونية فوق الناس والدول، وهو أمرٌ سيجعل من “القاعدة” جرثومة صغيرة قياساً لما سوف يجيء من قواعد.
لابد من قيام تحالف دولي ديمقراطي إنساني لوضع حد لهذه الفاشيات، وأول واجباته هو إجبار الصهيونية على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة بالقوة.
ومن دون ذلك هو الخراب.
إننا نعي بأن الأطراف الغربية تمثل مصالح رأسمالية كبرى هي بطبيعتها مخاصمة لشعوبها العاملة ولطبقاتها الفقيرة، ومتضافرة في المصالح مع الشركات الكبرى اليهودية ومراكز النفوذ فيها، ولكن عليها أن تتمتع بعقلية ديمقراطية على المستوى العالمي البعيدة المدى، وعليها أن تمثل طبقاتها العاملة كذلك في المجال الدولي، وأن استثناء الصهيونية وإسرائيل من التحليل الموضوعي وعدم رؤية القوى الفاشية فيها، وضرورة ضربها، سوف يؤدي إلى خسائر على كل الأصعدة: الاقتصادية والسياسية والثقافية للغرب بمختلف قواه الاجتماعية.
إن هذه القوى هي التي تقوي الفاشيات القومية والدينية في المنطقة، وعليها تتعكز.
إن المسألة ليست معاداة للأديان والمذاهب، ولكن للقوى العسكرية التي تقف وراء أقنعة هذه المبادئ السامية، وتؤجج الصراعات بين الشعوب لتبقى على سلطاتها ولتؤجج الكراهية بين الشعوب والأديان. وكل من هذه الدول تعيش على فاشية الدولة الأخرى، في عملية تهديد جماعي للسلم والحياة في المنطقة، وغياب أي طرف منها سوف يضعف الأخرى، وهزيمتها كلها سوف تقوي الحياة في المنطقة.
إن الدول الغربية بمستوى قراءتها السياسية الراهنة لا تعكس القوى الشعبية الواسعة في دولها، وهي تمثل قراءات شكلية فوقية استغلالية محدودة الرؤية، مثل القراءات التي جابهت هتلر في 1933، وهي تتصور أن منطقة الشرق الأوسط محدودة وصغيرة وغير قادرة على تفجير حرب عالمية ثالثة، لكن ذلك وهم مثل وهم رئيس الوزراء البريطاني في تلك السنة المشؤومة السابقة الذكر.
إن تشكيل حلف ديمقراطي إنساني لمواجهة الدول الاحتلالية ولإجبارها على الانسحاب سوف يهزم الفاشيات القومية والدينية في المنطقة.
إن صراعكم الكبير ضد طالبان والقاعدة هو جهد عظيم مشكور ولكنه بلا فائدة من دون هزيمة الصهيونية الاحتلالية، فيجب أن تتطوروا إنسانيا وديمقراطيا وأن تروا في الصهيونية طالبانية يهودية كذلك. وحين تفعلون ذلك سوف تضربون مخلتف أنواع الطالبانيات في المنطقة.
وحين لا تقومون بذلك فليس معنى هذا إن الإنسانية هُزمت بل سوف تظهر قوى سياسية شعبية في بلدانكم أكثر تبصراً للنضال العالمي، وسوف تعمل على النضال المشترك ضد الفاشيات المتعددة، بل معنى هذا أن المصالح التجارية والاستغلالية هَزمتْ المثلَ الإنسانية فيكم.
إن النضال الديمقراطي الإنساني هو جهود بشرية مشتركة، وأن تراجع قوى تلك الدول عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، وعن تصدير المجازر والاغتيالات إليها، والانسحاب من الأراضي التي احتلتها، هو المطلوب، وحين تفعل ذلك تبقى مشاكلها مع شعوبها، ولن تكون الدول الأخرى معنية بمحاربتها وهزيمة سياستها الداخلية.
إن حكومات الدول العربية حين تتجاهل هزيمة الفاشيات بشكل مشترك، وتناور مع هذا الطرف أو ذاك، سوف تخسر المعركة كلها، لأن المعركة معركة مبادئ ديمقراطية وإنسانية، وأي تنازل سوف يلغي الصراع المشترك الجماعي مع التمددات خارج حدودها والمؤدية إلى سياسات دموية.
وأي احتضان لأفعى ووضعها في الجيب وتدفئتها واستخدامها لن يقود سوى إلى انتشار السموم في المنطقة.
حتى مسألة وصول إيران إلى السلاح النووي يجب ألا تفجر الأعصاب لدرجة وضع الثعبان الصهيوني في الجيب الخليجي، فالسلاح النووي هو نفسه قيد على من يملكه وتدمير لبلده.
ولكن تشكيل جبهة التحالف ضد الدكتاتوريات وإجبارها على الانسحاب من الأراضي المحتلة، وعدم التدخل والتوحش في شؤون الدول الأخرى، وتكوين تعايش سلمي بين كل دول المنطقة هو الهدف المباشر الذي يجب إيجاده بكل الوسائل.

صحيفة اخبار الخليج
23 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

أقوى من الفولاذ وأرق من النسيم

لم يكتب نيكوس كزانتراكيس روايته الشهيرة”زوربا” من وحي الخيال، حتى وان كانت المخيلة قد غطت مساحة واسعة فيها. فالرواية لم تكتب إلا على خلفية لقاء الكاتب مع زوربا الحقيقي على السواحل الجنوبية لليونان، حيث كان هذا الأخير يعمل في قطع الأخشاب. عن هذا اللقاء قال الكاتب الشهير الذي ذاع صيته في بلده اليونان وفي العالم: “لقد تعلمت من زوربا حب الحياة”. ويعرف الذين قرأوا الرواية أو شاهدوا الفيلم المأخوذ عنها أنها كانت نشيداً مفعماً بحب الحياة، بالمغامرة، وبالرغبة في الاكتشاف وعدم الاستكانة للأمر الواقع. ومنذ سنوات قليلة صدرت ترجمة عربية لكتاب” تصوف” للكاتب نفسه، والكتاب الذي لا يقع في صفحات كثيرة ينتسب إلى المرحلة التي كان فيها الكاتب لما يزل شاباً. يفرق النقاد والباحثون في سير وأعمال الكتاب والفلاسفة والمفكرين عادة بين مرحلتين على الأقل في حياة هؤلاء، مرحلة الشباب ومرحلة النضج، وهو تفريق ليس تعسفياً، فالكاتب والمفكر هو نتاج سيرورة فكرية وإنسانية متصلة يخضع فيها لتغييرات وتعديلات في رؤاه ومفاهيمه، وإذا كان الباحثون يتوخون التركيز على الأعمال الأخيرة لأي كاتب بصفتها كتابات ناضجة، فلأنهم يرون في كتابات الشباب بذرة أفكار هذا الكاتب، والمكونات الأولى لرؤيته للحياة، وللعملية الفكرية الإبداعية ذاتها. “تصوف” نيكوس كزانتراكيس ينتسب، إذاً، إلى المرحلة الأولى من حياته ككاتب، لذا نجد فيها كل روح التمرد والإقبال على الحياة التي طبعت أعماله اللاحقة، وما كان له أن يتعلم حب الحياة من قاطع الأخشاب على السواحل الجنوبية في اليونان، ويكتب عنه تلك الرواية العذبة لو أن الكاتب نفسه لم يكن مهيئاً لان يلتهم تفاصيل هذه الحياة ويتشربها قطرة قطرة، عبر ما يدعوه بالممارسة، التي هي هنا قرين التجريب والاستكشاف والتعلم. الممارسة، بكلماته، هي الوسيلة الوحيدة التي تستطيع الإجابة على أسئلة القلب، وهي أسئلة نابعة من تحديد اللامحدود، بأن نملأ دورة حياتنا برغبات ومخاوف ومناشط، وأن نتوسع حتى نبلغ الحدود، وألا تعود هذه الحدود تسعنا، وأن نتشقق ونتحطم، وهكذا نفعل فعلنا فنزيد الجوهر ونوسعه. والكاتب الذي يختار لكتابه هذا العنوان، لا يفعل ذلك عبثاً لأنه قادر على تحويل الملموس إلى مجرد، إلى مقولة فلسفية، ويرى الحياة كما هي من لحم ودم في هذا المجرد:” النجمة تموت لكن الضوء لا يموت”، لذا فانه يحثنا على النضال من خلال اللقاء المؤقت للقوى المتناقضة الذي يشكل وجودنا، لكي نبدع أقصى ما يستطيع الفاني في هذا العالم: أن نبدع صيحة. وهو هنا، كما في كل مواضع الكتاب، لا يترك الأمر غامضاً، فهو يُشخص تلك الصيحة بوصفها عُشقاً جارفاً يعبر الكون. انه كالأثير أقوى من الفولاذ وأرق من النسيم، انه عشق يقتحم ويعبر كل شيء يذهب وينعتق، لا يخلد للراحة على المواقع الدافئة، ويقتحم الروح ويُظهر رغبته في التوحد معها،” فلا نوجد أنا وأنت، لأن العشق يدفع البشر بقوة، في اللحظات الحاسمة، ليلتحم بعضهم بالبعض الآخر”. “تصوف” نيكوس كزانتزاكيس يحمل بذرة تمرد هذا الكاتب وسر عذوبته. انه تأملات فلسفية في الحياة والحب والنفس البشرية مكتوبة بلغة مخاتلةٍ تستدرجنا نحو أسرها الساحر بكل سلاسة.
 
صحيفة الايام
23 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

المستوى السياسي للمعارضات العربية

يعود العديد من أسباب عدم صعود المعارضات السياسية العربية للحكومات لأسباب ذاتية كبيرة في هذه المعارضات ذاتها.
ومهما كانت سلبيات الحكومات فإنها أكثر تمثيلاً للشعوب من المعارضات، وهو واقع حقيقي للأسف.
هذا التمثل الأوسع هو الذي أتاح لها الوجود والاستمرار.
وعلى الرغم من أن هذا التمثل الحكومي للشعوب قام على أساس الأمر الواقع والقوة والعفويات الاجتماعية المختلفة وبعض التخطيط، لكنها قدرت أن تستوعبَ مختلفَ الطبقات والطوائف داخلها، وتجعل أجهزتها ذات تنوع مناطقي وأثني، على الرغم من أن هذا التمثل يجري من خلال هيمنة قوى معينة.
بطبيعة الحال جرى هذا التمثل الحكومي العربي أولاً بسبب سياسة الغرب الذي سيطر على المنطقة وأخرج الحكومات من المستويات المتدنية لزمن ما سُمي فترة الانحطاط وفترة حكم الأتراك التي تلتها، فتشكلت سياسة عملية كنست زمن الرقيق وحكم الطوائف الكلي، وأخذت حكومات الاستقلال تقوم بتمثل نسبي للأهالي، واعتمدت سياسة عملية أدخلت النسيج الوطني في هياكلها السياسية، على الرغم من أن هذا النسيج لم يكن متساوياً ومتساوقاً في ألوانه!
وكان يُفترض في المعارضات أن تكون متجاوزة لهذا، وذات بُنى وطنية أكثر تعبيراً عن النسيج الشعبي، وأكثر قدرة على تبصر طموحاته وتنويعاته، لكنها عجزت بعد أكثر من نصف قرن من زمن الاستقلال.
حين تعبر القوى التقدمية عن نفسها تقول إنها تمثل العمال، ولكنها لا تضم العمال فقط بل تضم قوى اجتماعية أخرى، لكن القوى الاجتماعية الأخرى، التي دخلت تمثلت بأفراد ذابوا في أهداف العمال، ومع ذلك فإن هذه القوى السياسية تطرح مشكلات طبقات أخرى كمشكلات التجار والصناعيين، وتريد تغيير حياة الفلاحين وغير ذلك من تمثيل للقوى الاجتماعية.
إن هذا لا يجعلها معبرة فقط عن العمال بل عن قوى أخرى، ولكن القوى الأخرى من تجار وصناعيين غير موجودة داخل التنظيم، ولا تطرحُ أفكارَها ولا أهدافها، فكيف يمثلها الحزب التقدمي من دون تمثيل؟!
إن حالات الأحزاب التقدمية العربية السياسية وعموم الأحزاب في الشرق هي حالات منقولة من مجتمعات متطورة، هي مجتمعات الغرب الرأسمالي، حيث انقسم المجتمع بوضوح بين طبقتين كبريين، هما الرأسماليون والعمال، أي جرى اصطفاف اجتماعي حقيقي، وحينئذ يعبر الحزب التقدمي بانسجام عن قواعده، كما يعبر الحزب الليبرالي أو الجمهوري عن طبقته.
إذاً الأحزاب التقدمية في الشرق هي جبهات اجتماعية تضم طبقات عديدة، لكن التصور الأيديولوجي المستورد يجعلها تظن أنها تمثل طبقة واحدة، وبالتالي عليها أن تقيم المجتمع الاشتراكي.
هذا يجعلها غير قادرة على تمثل مختلف الطبقات، ولا على فهم طبيعة المرحلة الانتقالية من الإقطاع للرأسمالية الحديثة، متصورة مهمة أخرى، وبهذا فهي تعجز عن مقاربة موقف الحكومات، التي تعي أنها تعبرُ عن مرحلة ما من التطور الرأسمالي، من دون أن تتطور هذه المرحلة لتصل إلى مماثلة النظام الرأسمالي الغربي المتطور، فهي تحافظ على بقايا من الأنظمة السابقة المتخلفة والشمولية. في حين تتجمد القوى التقدمية عند تمثل العاملين والحرفيين وغالباً ما يكون ذلك في العاصمة.
من الممكن للقوى التقدمية العربية أن تتجاوز هذا التمثيل الضيق بعقد تحالفات عميقة مع قوى التجار والصناعيين، أو بتحويل الحزب إلى جبهة تحالف عريضة بين أحزاب تستوعب مشكلات وأهداف مختلف القوى الاجتماعية الراغبة في التغيير.
أو أن تنمو المنابر الحزبية الداخلية لتعبر عن أطياف من الرؤى الاجتماعية في ظل فكرة سياسية كبرى تستوعب المرحليات المتعددة في التطور الاجتماعي، فهناك مرحلة كبرى لمماثلة النظام الرأسمالي المتطور ومقاربته وإزالة العوائق من طريقه، وهناك مرحلة ثانية هي العمل على تجاوزه، من دون أن يمنع من ذلك النضال المستمر لتغيير أحوال الأغلبية العاملة في شتى المراحل.
بطبيعة الحال هذا يرتكز على فهم طبيعة التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الراهنة، وعدم الفهم هذا غالباً ما يسبب الفوضى السياسية والاختلافات.
وقد ازداد عدم التمثل الديمقرطي والتمثل الوطني في الأحزاب الدينية بشكل أوسع وأخطر. وهي التي مثلت تمزيقاً للخريطة الوطنية، أي أبعد بكثير من الحكومات، ومن دون أن تعترف بالمراحل التاريخية الموضوعية للبشرية.
ولهذا فإن نموها يمثل افتراقات وتفككاً للخرائط السياسية للشعب بدلاً من نمو التمثيل الوطني شبه المتماسك في ظل الحكومات على الرغم من سلبياته.
والحكومات العربية تقوم بالتغلب على ضعف الديمقراطية والتمثيل الوطني في الأحزاب، مكتشفة بعض المشكلات التي تقوم بترميمها من أجل تجفيف المياه التي تعيش عليها الأحزاب المعارضة غالباً، لكن مع استمرار سيطرتها على الموارد الكبرى، وهو أمر يعني عدم التطور الديمقراطي الحقيقي ولا حدوث المقاربة مع المجتمعات الديمقراطية المتطورة.
ولهذا فإن الأحزاب التقدمية مع حفاظها على بناها الاجتماعية العمالية فقط تظل ذات تمثل قوى محدودة، وغير قادرة على الاقتراب من إدارة بلد، وعلى تطوير الاقتصاد، وعلى فهم الطبقات المختلفة وتمثلها أو تمثل مطالب كبيرة مهمة وطنياً لديها، أما الأحزاب الدينية فاقترابها من الإدارة يؤدي إلى رعب قوى سكانية كبيرة وإلى صراعات مذهبية ودينية وتمزقات في الخريطة السياسية للبلد.
فلابد من هضم الثقافة الوطنية لكل بلد وأن يكون الحزب المعارض معارضاً لسياسة معينة معيقة من مقاربة الدول المتطورة، ويكون ممثلاً لمختلف القوى الاجتماعية بدرجات من التمثيل النسبي الذي يعبر عن أهدافه وفهمه لمراحل التطور السياسي المستقبلي للبلد المعني.

صحيفة اخبار الخليج
22 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

جرعة خفة.. جرعة رصانة

يوضع الترفيه دائماً في مقابل الثقافة، كوجه نقيض لها، ويكثر الحديث عن أن الناس تريد الترفيه والتسلية ولا تريد البرامج الجادة، ومع الوقت نشأت سيكولوجيا لدى أوسع القطاعات بأن الثقافة تعني الصرامة والتجهم وثقل الدم، أما الترفيه فهو كما يشي التعبير يعني تجزية الوقت بما هو مسل دونما بذل جهد ذهني أو محاولة شحذ الذهن في التفكير بأمر من الأمور. ويذهب المتحمسون للترفيه للقول: يكفي الناس ما في هذا العالم من مآس وبواعث خيبة، وأن من حقهم أن يرفهوا عن أنفسهم بوجه ما في هذا العالم من مصائب، ويدللون على ذلك بإقبال الجمهور على البرامج التلفزيونية الترفيهية. والواقع انه سيكون من التجني أن ننكر على الإعلام حقه في ان يكون ترفيهياً، وسيكون تجنياً أكبر أن يحرم الجمهور من إعادة الترفيهية. ولكن السؤال هو: لماذا الافتراض ان الثقافة هي نقيض الترفيه؟ برأي باحث عربي أن الثقافة هي أرقى صنوف الترفيه، وأن أكثر البرامج اجتذاباً للأطفال هي البرامج العلمية التي تظهر حيوانات الغابة أو البرامج الموسيقية وما إليها، وهي تضم العنصرين الترفيهي والتثقيفي في آن، وبرأيه انه ليس من تناقض بين الترفيه والتثقيف إلا حين يبتذل الترفيه فيهبط الى درج التهريج. والواقع أن فلسفة التلفزيون المختص بالترفيه وحده، كما يشير الباحثون ظهرت أول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية، غير ان هذه الفلسفة بما يدعمها من مستوى فني استطاعت ان تهيمن على السوق في أغلبية البلدان النامية بما فيها بلداننا العربية. ولكن حتى البلدان التي نرميها نحن بأنها مجتمعات استهلاكية وبأنها منتج غزير لبرامج الترفيه التي نعرفها أو نقلدها. ثمة اهتمام ملحوظ بالبرامج التربوية، حيث تضغط الأجهزة التربوية مدعومة من قبل الهيئات التشريعية والخيرية والحقوقية من أجل تخصيص موازنة كافية لإنتاج مثل هذه البرامج. وعلى سبيل المثال فقط فإن بريطانيا تخصص 20% من مواد التلفزيون للبرامج التربوية، والسويد تدرس منذ ستينيات القرن العشرين مادة النقد الإعلامي، وفرنسا أدمجت وسائل الإعلام في المواد التربوية بهدف وضع مسافة نقدية بين التلاميذ والطلبة من جهة، والإعلام خاصة في قسمه الإعلاني من جهة أخرى. ليست هذه دعوة الى الصرامة والتزمت والتجهم والجفاف، وليس الى تقديم المادة الثقافية في أطباق منفرة، إنها دعوة الى التفكير في إيجاد صيغة تجمع بين الترفيه وبين الرقي بوعي المشاهد وذائقته، وهما ممكنان معاً. وإذا لم يجتمعا فذلك يعود الى عجز معدي البرامج لا لتعذر الجمع بينهما. وتحقيق هذه الصيغة مهمة تتطلب الموهبة والابداع والتفكير الخلاق، وهي عناصر ضرورية لتقديم بديل مشوق ومفيد لهذا الغث الذي نشاهده ونحن نتجول بين الفضائيات العربية، التي تستفز أذهاننا وذائقتنا بجرعات زائدة من الخفة.
 
صحيفة الايام
22 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

«الرتبة» وحكمة الماضي (2-2)

إنسان القرية ومجتمع البحارة، هم بطبيعتهم يتمتعون بلغة مباشرة وسهلة كسهولة الحياة والمحيط الاجتماعي. وبما أن الأمهات قابعات في بيوتهن ولا يعرفن السوق فهي من مهمات الرجل “أما هي فان عليها إعداد كل شؤون البيت” وكل محيطها الذي تتحرك فيه هو الجيران والحي الأقرب بمساحته، فعادة كلما كان الحي صغيرا كانت العلاقة مباشرة مع كل الجيران وكلما كان كبيرا، فان العلاقة تتقسم بين مناطق جغرافية بتعبيرات “أهل جنوب ( ينوب) وأهل شمال أو شرق وغرب، وبعضهم إذا ما كان الحي يتميز بطبيعته العمودية أو الطولية كما نقول فان أهل وسط أيضا يرددها المجتمع”. غير أن هذا لا يعني انك لا تعرف جزءا من كل تلك الأقسام فعادة يحدث إن اهلك يعيشون في الضفتين، الضفة الغربية والضفة الشرقية ( بدون القدس ولا الجدار العنصري) ومن الاستخدامات المجتمعية عادة للطبوغرافية السكانية فان الناس يستخدمون عبارة أهل فوق وتحت أو ناس فوق وناس تحت، وهكذا نمت المدن الحديثة أو عبارة المراكز والأطراف، فمنذ ذلك الوقت كانت الأنشطة تتركز في مركز المدن الجديدة فيما الأطراف فقيرة بلا أنشطة ويذهب الإنسان من الأطراف للمراكز لقضاء حاجاته الرسمية وتبضعه وثقافته وتعليمه. لهذا حينما نذهب لكل الثقافات بل ولكل المدن والقرى في العالم سنجد في قاموسها المدني والشعبي مثل عبارة “الداون تاون down town” او السنتر. وطبعا البحرين الصغيرة كانت لها أيضا تلك المصطلحات. والمسكين من الريف أو القرية كلما فتح فمه للجيران متفاخرا أو زوجته لكي تغيظ النساء غريماتها أو تعلن عن مجدها الزوجي، فان لسانها لا يتوقف عن إن زوجها سيذهب للسوق وسيشتري لها مترين من قماش الحرير الجيناوي ( الصيني ) هذا هو حدود ثقافتها أما هل هذا صحيح أو خطأ فلا يوجد شجاع لتصحيحها يوم ذاك. لهذا تعاملت الأمهات الطيبات مع العملة والشراء والبيع بطريقة “الرتبة” قد تكون بخطاب واساليب مختلفة ولكنها تؤدي الغرض نفسه، في زمن لم تتكاثر فيه الدكاكين والبقالات كما هي في يومنا، وإذا ما فتح أعمى دكانا فإن كل بضاعته مع رفوفه الثلاثة المغبرة ست علب من الطماطم من الحجم الصغير مصنوع في الهند أو الصين ودزينة أناناس (عناناص) وخوخ وكرز تستنجد بها النساء إذا ما فاجأهن زائر عزيز عليهن، ولا يجوز عدم استضافته بالروتين من الموجودات، باعتبار إن التمر والقهوة من مستلزمات يومية للاستخدام، فاركض يا حمود وقل لعبدالله، وإذا ما تلعثمت وسألت أمك من يكون عبد الله صرخت في وجهك “من بعد عبد الله يا المفعوص وراسك في التنبه! عبدالله العمي راعي الدكان، قل له أمي بتسلم عليك وتبقي سلف منك قوطي (علبه) أناناس وخوخ وإذا ما عنده خوخ اخذ منه الحمر” (ولم يكن النساء يعرفن فاكهة الكرز وبعد مدة عثرن على تسميته ولكنهن لم يقتنعن به ومكثن يرددن ’’الحمر’’ وكنت يومها أحب الكرز فهو مثل التيله فماذا افعل غير أن اتخابث على خالتي عائدا به للبيت قائلا: ما عنده إلا الكرز والخوخ. وبما أنني اعرف إن الخطار/الزوار القادمين فجأة لن يلهفوا الصحنين، فان فرصة التهام الكرز ذلك اليوم عيد وفرح. وطبعا كانت لكل زيارات الماضي البعيد لها معنى ودلالات، فالمرأة لا تغادر بيتها إلا لتقديم التعزية أو خطبة ابنة احد الأقرباء أو غيره. هذا الواقع الصعب من حيث البيع والشراء، كيف حلت “الرتبة” جريدة النخل وحفرها إشكالية قائمة بين الطرفين ولمدة خمسة عشر يوما، فبعدها يتم الدفع لكي يبدأ الخضار من جديد الحفر في جريدته. وواثق شخصيا إن لا احد في البحرين احتفظ بجريدة في بيته كذاكرة حقيقية، وان كانت معارض التراث بإمكانها فعل ذلك بكل سهولة، ولا اعرف إن كانت تلك المتاحف الشعبية لدينا عرضت ذاكرة تلك الجريدة والعلاقة الاقتصادية بين البائع والمشتري، حيث لم تتوفر العملة يوميا ولا يوجد كردت كارد. أما لماذا تم توقيت الجريدة بخمسة عشر يوما أيضا، فلذلك حكاية وحكمة يومية، إذ عندما انخرط الغواصون والبحارة للعمل في شركة النفط كانت الشركة تدفع لهم أجورهم في أغلفة بيضاء وبنية أجورهم، عندها تكون تلك الأمسيات حفلات صاخبة، فكلما عددنا الخمسة عشر يوما أي الأجر كل أسبوعين وعادة يتم دفعها لهم كل يوم خميس، فان الفرح له معنى ورائحة الأشياء لها معنى وللمشموم معنى ولدقات الدف ورنة العود معنى وللثياب المبخرة أعظم المعاني، فيا لها من ليلة من ليالي الزكرته!! فقد كان ابن عم أمي كريما وازكرتي ومن النوع المشهود وقد كان يعمل في الشركة فكانت ربع الروبية التي احصدها عالما لا يمكن تصديقه. يا جماعة الخير ربع آنه قبل نصف قرن !! لا استطيع أن أقول – وبعد تنهيدة عميقة – لذلك الإنسان إلا عبارة بيتك في الجنة يا عليّ الحسيني حتى وان كانت ذنوبك لا تحصى ولم يسعك القبر – كما يقولون – من تلك الذنوب. وحقا كان يستحق لقب عنتر (اسمه الشائع في الحي علي عنتر). ومع دخول شركة النفط عرفت البيوت بالتدريج العملة وعرفت عدها وتعلمن النساء الأميات كيف يفصلن بين كل الحدود الجزئية للعملة وكم تساوي مع كل علبة يشترينها من الخباز وراعي الدكان، حيث تكاثرت الدكاكين وتكاثرنا نحن وتغيرنا وتغير وقتنا ومعمارنا وكل خيط في ثوبنا، وغزتنا روائح باريس ونيويورك ولندن وروما، وصرنا أكثر بعدا عن بومباي وبضائع الصين الرائجة لدينا حينذاك. لكم كانوا الانجليز تجارا جيدين ووسطاء جيدين وخبثاء وماكرين في بضاعة السياسة إلى ابعد حدود جودة بضائعهن القديمة، الزبدة والبطاطس.
 
صحيفة الايام
22 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

رسالة مفتوحة إلى جامعة البحرين

اقترح على جامعة البحرين غلق ملف الطالبة نور حسين بما يحفظ ماء وجه الجامعة وبما يحفظ سمعة البحرين التي تلطخت عند ازداد الحديث عن الجامعات الخاصة، والآن قد تتلطخ أكثر عندما نستذكر أن لدينا جامعة وطنية تنفذ إجراءات وكأنها ثكنة عسكرية.
ولأننا نقدر ونحترم وزير التربية و التعليم ماجد النعيمي وكذلك رئيس جامعة البحرين إبراهيم جناحي، فإننا نتوجه بإخلاص إليهما ونطلب منهما عدم إفساح المجال لبعض الموظفين العطاشى لتنفيذ إجراءات عسكرية ربما تتناسب مع بلدان غريبة عن البحرين، لكنها بكل تأكيد لا تتناسب معنا، وهي لن تمر بسهولة ولاسيما إذا تسلمت منظمات حقوق الإنسان الدولية والهيئات المعنية بالحرية الأكاديمية والأنشطة الطلابية هذا الموضوع الذي يعد انتهاكا صارخا للمادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وهو الذي أصبح جزءا من قوانين البحرين المحلية بعد أن اعتمده البرلمان في العام 2006.
إن الحل السريع لقضية «نور حسين» هو إلغاء القرار، علما بأن الإجراء المفضل هو تغيير اللوائح الداخلية وإعادة تأهيل بعض الموظفين، ولاسيما غير البحرينيين، بحيث يمكنهم أن يفهموا طبيعة المجتمع البحريني ويتدربوا على التعامل معهم بلطف واحترام بحسب قوانين حقوق الإنسان، فنحن لسنا في «تورا بورا» ولسنا في «الفلوجة»، وإنما في البحرين ولدينا وسائل أكثر إنسانية لتقبل بعضنا الآخر من دون الحاجة لاستيراد ممارسة ومناهج شمولية لا تعترف بالرأي الآخر.
لقد فتحت قضية «نور حسين» الباب على جوانب وأمور شتى تتعلق بجامعة البحرين وتحديدا منذ أن تحول حرمها الجامعي إلى حرم أمني – عسكري منذ أحداث التسعينيات التي قضت على الملامح الطبيعية للجو الجامعي. لقد آن الأوان أن تعود الجامعة إلى وضعها الطبيعي، وأن تلتزم بالضوابط الدولية المنصوص عليها في اليونسكو وغيرها من المؤسسات العالمية التي تدعو إلى احترام العلم وطلابه.
إننا نأمل من الجامعة أن تعترف بخطأها وتباشر بإصلاح وترتيب البيت الداخلي للجامعة، فلا يمكن أن تضع الجامعة شروطا خارجة عن روح العصر على «نور حسين» أو على أي طالب آخر، فالمفترض أننا نعيش في عصر الإصلاح، والمفترض من الذين تخرجوا من جامعات عالمية أن يعملوا على نشر أجواء الحرية التي تمتعوا بها أيام كانوا طلبة في تلك الجامعات بدلا من محاولة فرض نظام قمعي وبوليسي لا يجني سوى ثمار سلبية.
 
صحيفة الوسط
20 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

جامعة البحرين والحرية الفكرية


منذ نعومة أفكارنا وهذه الوزارة لا تفقه ثقافة الحرية.
مدارسها أقفاص كبيرة من الحجر.
معلموها المتعبون الفقراء منهكون في فصولها الحاشدة بالطلبة.
يجري التعلم الحق خارجها في الكتب الحرة وفي التيارات السياسية المنشطة لحرية العقل.

طردت أفضل المعلمين، اهتمت بتعليم الحشو والحفظ فوجدنا انه من الصعوبة أنها تنتج ثقافة حرة ومتألقة داخلها، وعلى مدى عقود نتساءل أين المبدعون المنتجون فيها؟ أين العباقرة؟ أين القصاصون والرواة والمسرحيون والفنانون الكبار؟ أين العلماء؟ لماذا لم ننتج ممثلاً واحداً كبيراً؟ والخليج الذي علم الطلبة في أجواء عدم الخوف أنتج حتى في مدنه الأخيرة ممثلين كباراً لا يخافون وينشرون المرح والوعي في عشرات المسلسلات والأفلام، أما الذين ألفوا الكتب الكثيرة والكبيرة فهم الذين فصلوا من سلك التعليم في هذه المدارس.

لماذا لم تستطيعوا أن تنقذوا بناتنا وأولادنا من الطائفية ومن أفكار الظلام والارهاب؟ أين كنتم؟
لماذا هذه المؤسسات التعليمية مثل أبراج بابل والتعليم الوطني أين هو؟

نعرف كيف نشأ المبدعون وكيف ظهروا وذلك حين هربوا من هذه المدارس، وتعلموا خارج مناهجها، في أجواء عدم الرعب، في أجواء تفتقد الكشافات المسلطة على الكلمات والمكبرات التي تتابع كل حرف وتخشى من نملة الفكرة الخطرة.

ولهذا لا عجب أن تكون جامعتنا “الوطنية” تتويجاً لهذا التاريخ.

حين نسمع عن أن طالبة في هذه الجامعة تم توقيفها وتم استجوابها نقول هذا الشبل من ذاك الأسد.
هل الجامعة يجرى فيها استجواب؟
أأستاذ جامعي يستجوب؟
أأستاذ جامعي يحاكم قراطيس الطلبة الانتقادية الاجتماعية؟
أإدارة جامعية تحقق وتعاقب طالبة لنقد؟

فكيف يُطلب أن تكون الجامعة أساساً لفكر الحرية والتنوير والوطنية والهرم الذي تقوم عليه لا يستند إلى ذلك، فهو بناء قائم على التلقين والحفظ، وعصا الناطور، وعلى المدرس المحقق في الضمير والرأي الحر؟ والجامعة ليس معناها هذا بل معناها البناء الفكري الجامع لكل الأفكار البشرية المتناقضة والمتضادة والمتوهجة بخصبها وتنوعها، وحين يدخل الطالب الجامعة يعني أنه يدخل هذه التعددية الخصبة ويجاهر باختلافه ونقده لأنظمة الجامعة ومناهجها وأفكارها فيتحول حينئذٍ إلى طالب جامعي حقيقي، يجمع المعرفة ليؤسس معرفة جديدة.

لكن أن يتحول البناء الجامعي إلى مدرسة ثانوية أخرى تحشو وتمنع تعدد الأفكار وتخاف من قراطيس الطلبة السياسية، وتخاف من الرسوم الكاريكاتيرية والمجلات الحائطية ومن القصص والأشعار وأفلام الطلبة، (وحاش لطلبتنا المجمدين أن يبلغوا مثل هذه الأنشطة (الهدامة) المنتشرة بوفرة في كل جامعات العالم)، فهو استمرار للمدرسة الثانوية المسورة بالأسلاك الشائكة والجدران العالية.

إذاً هي خيرُ خلف لخيرِ سلف، تضربُ بعصاها العقابية أصابع هذه الفتاة وتدميها، حتى لا تكرر فعلتها مرة أخرى وتفكر وتنشر انتقادات، والعصا تتبدل وتصير إسقاطاً من فترة تعلم، لأن العصا في الجامعة تكون فضيحة، فلتكن معنوية ملغية لنشاط ودراسة، ولتصر إذلالا فكريا وتحقيرا معنويا، فهذا أشد مضاءً من فناني العقاب.

حتى لو تم التراجع عن هذا القرار فتلك وصمة عار.

ذلك دليل على المستوى المعروف لوزارة يُفترض أن تكون تتويجاً للإبداع والخلق لا الخنق.
إنها قضية تبين أي مستوى نعيشُ فيه، وضخامة الأحجار التي تـُقذف على الثقافة خاصة والتعليم والفكر الحر.

صحيفة اخبار الخليج
20 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

«الرتبة» وحكمة الماضي (2-1)

مفردة الرتبة (بكسر الراء) ربما لا يعرفها جيل كامل في البحرين ولا اعرف إن كان المجتمع الخليجي الزراعي كالعين أو غيرها من مزارع عمان والجميرة ورأس الخيمة والقطيف وعسير، وغيرها لديهم مفردة شبيهة بها وتقوم بنفس المهمات ولنفس الوظائف المجتمعية والحاجات الاقتصادية اليومية لواقع بسيط ومعاش. وبما أننا نود التحدث عن مجتمع أكثر تحسسا لي ولطفولتي حيث كنت أراها بأم العين لذلك المزارع »الجوال القادم من الريف« البائع – بمعيار زمان أول – وبما أن الخبرة والتجارب اليومية لحياتنا مهمة وبحاجة للتدوين المستمر، فان الضرورة تدفعني لتسطير هذه التجربة المتواضعة لمجتمع أمي يجهل القراءة والكتابة، بين حالة مشتر لا يملك معيار الشراء وهي العملة النقدية، ولا بائع يملك أيضا معاييره النقدية وموازينه في تقدير كل الحاجات المحيطة به . وبما أننا نتحدث عن مجتمع للوراء عمره نصف قرن، لطفولة جميلة حيث كانت البراءة أجمل ما فيها شقوتها تحت مطر يزخ ونساء يبحثون عنك، فلم تكن أمهاتنا كالأمهات المتمدينات حاليا اللاتي يخفن من الروماتيزم والزكام والكحة وكل أمراض التدرن الرئوي ، لمجرد انك غرقت في ماء مطر يتيم وعابر يترك خلفه نقع ووحل هنا وهناك، وفي أزقة ملؤها الصغار بصراخهم، ولمدارس أغلقت أبوابها بفصول دمرها المطر، ويا لبؤس أسقف المدارس وطينها !! ما تعرفه أمهات الأمس مجهول عما تعرفه بنات اليوم المتمدنات والخائفات من كل شيء، فإذا خرجت من البيت لا تقول لك أمك إلا مفردة واحدة »خال بالك على نفسك وليحفظك ربي« إذن أنت بت في يد أمينة فلا تخاف وهذا ما جعلنا لا ندخل في تيه الأمراض النفسية الحديثة كأطفال اليوم . وبما اننا عشنا مع الظلام والمطر والرعد وكل الأباليس وقصصهم فإننا أيضا عشنا مع حداثة جديدة عرفها مجتمع النفط المبكر والتعليم الحديث، فكان علينا التأقلم مع بنية مجتمعية متناقضة، إلى حد تناقض الحفر المتراكمة في شوارع إسمنتية حديثة لم يعمرها مقاول غشيم في ذلك الوقت، ومع التعلم المستمر بين الحداثة والتقاليد، ترعرع جيلنا، ولكن أمهاتنا كان عليهن تقديم مبالغ الشراء لرجل غريب من خلف سواتر الباب المفتوحة ضلفته فقط والوجه المغطى بطريقة اقل تشددا وتزمتا من وقتنا هذا، فـ “صفكة” الباب مشرعة للجيران والأهل فلا غرباء من حولك حتى تخاف وربما لم تعرف أبواب الأمس مفردة »القفل« إلا لصناديق الحج الحديدية القادمة من بومباي. فهل بإمكاننا تعريف علمي لمعنى كلمة »الرتبة«؟ سأحاول جاهدا تعريفها لعلني أصل بشكل اقرب للقارئ . هي مفردة لمعنى عقد شراء وبيع بين طرفين كان يتم في الأحياء الشعبية عندما تشتري النساء حاجياتهن من الخضراوات والفواكه من البائع الجوال، إذ تقوم المشترية (النساء) بتقديم جريدة نخل نظيفة أزيلت منها سعفها كاملا، فيقوم هو بسكينه حفر حفرة واحدة لكل عينة من عينات اشترتها المرأة، ولكي لا يتوه في أسعاره المختلفة في حفر عدة، فان كل البضائع تكون متقاربة بل يجعلها في تسعيرة واحدة بجمع أكثر من عينة معا لتكون ضمن سعر واحد لا غير ولنقم على سبيل المثال بطريقة الشراء والبيع »الرويد بربع آنة زائدا اللوز الموزون أو المحسوب بربع أيضا صارت نصف آنة معاه بربير صرة واحدة أو صرتين فلك يا ام محمد بلاش ها الصرة خليها بربع الربع «المهم يبدأ كل شيء بهذه الطريقة حتى يصل إلى حفرة واحدة أو حفرتين سعر الحفرة كاملة بآنة واحدة وأحيانا بروبية واحدة، ولكي لا يغشها تبدأ بعد أن يذهب بعد حفرها في الجريدة فبالأمس كانت لديها ثماني حفر واليوم صارت تسع »يعني الحساب ما في غش« ومع الأيام تكتشف النساء علاقتهن بذلك الرجل أنها جيدة إلى حد يصبح من المؤتمنين عليه للدخول للحوش ومجالسة النساء فكلهن يعرفنه ويعرفهن، ويتناول قهوة الضحى معهن حيثما صادف البيت وعادة يوقت مروره على الجيران لكي ينتهي في لحظة ما عند بيت اعتاد فيه المؤانسة الاجتماعية والإنسانية، إذ لا يجد الناس قديما أمرا يدفع للغضب حينما يسأل “البقال” ( البقال في البحرين هو الشخص الذي يبيع الخضراوات بعربته أو حماره دون عربة والقادم من الريف الزراعي ). فكثيرا ما يسأل أم فطوم بعد أن يعرف أن ابنتها تزوجت ومضى على زواجها أسابيع بترديد عبارة بسيطة وهو يرتشف القهوة “ان شالله يا أم فطوم بنتج تجيب جدتها” مثل تلك الجمل اليومية لا تعني شيئا بين الناس ولا تعتبر في دلالاتها فخاخ وحيل اجتماعية كما يقوم بها الرجل المعاصر، فالحياة كانت ابسط مما نتصور نحن اليوم عليه، والخطاب اليومي الساخر كان تعويضاً عن المتعة الحياتية .
 
صحيفة الايام
20 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

نعم لمراجعة سياسة منح الجنسية

لنقرأ معاً شيئاً مما صرح به سعادة وزير الداخلية الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة حول مراجعة بعض الإجراءات الخاصة بمنح الجنسية البحرينية “إن شرف حمل الجنسية البحرينية يناله من يستحق هذا الشرف، وفي ظل المستجدات الأمنية والسياسية والاقتصادية فإننا نقوم بمراجعة سياسة منح الجنسية، وأن هذا الأمر خاضع للتقييم من قبل الوزارة، وهذا يشمل إجراءات منح الجنسية وإصدار الجوازات، وهذا الأمر يحكمه وينظمه قانون الجنسية الذي يعد من القوانين التي تطلبت اشتراطات متشددة لمنح الجنسية البحرينية ومن ذلك ما تطلبه القانون من مرور فترة إقامة تبلغ خمسة عشر عاما للعربي وخمسة وعشرين عاما للأجنبي، مشددا على أهمية المراجعة الدقيقة في جميع مراحل وجوانب هذا العمل المهم سواء كانت قانونية أو أمنية أو إدارية” نكتفي بما ورد في سياق حديث سعادة الوزير حول قضية هي من الحساسية بحيث أصبحت بفعل كل ما ذكر من معطيات سياسية وأمنية واقتصادية تحتل أهمية قصوى لجموع المواطنين في هذا البلد الذي يتميز بمحدودية موارده وشحة أراضيه وصغر مساحته الجغرافية وتجاهد قيادته السياسية وشعبه معا في سبيل حلحلة قضايا أصبحت هما مؤرقا للجميع مثل قضايا الإسكان والبطالة والضغط المستمر على الخدمات كالتعليم والصحة والكهرباء والماء، حيث توجه الميزانيات الضخمة سنويا لإجراء حلول جزئية تبقى عاجزة عن إيجاد ما يرضي طموح المواطنين، وتتميز بنسبة نمو سكاني جعلت من البحرين واحدة من أكثر دول العالم نموا في السكان. نثمن عاليا مراجعات وزارة الداخلية لهذا الشأن، ونتمنى أن يستمر التعاطي بجدية مع قضية منح الجنسية وما تعنيه من مصاعب جمة، خاصة وأن السنوات العشر الأخيرة كانت قد شهدت تنامي معدلات ونوعية الجريمة، وفرضت بدورها على البلاد أن تتعايش على مضض مع وضع لم تألفه طيلة العقود الثلاثة التي تشكلت فيها ملامح الدولة الحديثة منذ خروج المستعمر الأجنبي. وهنا لن نعيد ما سبق وتحدثت وجادلت حوله مختلف القوى السياسية حول هذا الموضوع، وها هو الرجل الأول المسؤول عن أمن البلاد يجد ضرورة مراجعة تلك السياسات من مختلف جوانبها، فليكن ذلك بداية التعاطي الايجابي مع قضية طالما شاغلت وشغلت الحكومة والرأي العام، وخير للبحرين وشعبها أن يأتي الحل ولو متأخرا من أن لا يأتي بالطبع! شخصيا أتفهم جدية توجهات سعادة وزير الداخلية في التعاطي مع هذه المسألة الهامة والحساسة، فهو الرجل الذي تضطلع وزارته بدور محوري في التعاطي مع ما اسماه بالمستجدات الأمنية، فقد تزايدت معدلات الجريمة وكثرت الخلايا الإرهابية النائمة والمتيقظة، واصبح لها امتدادات تجاوزت حدودنا الجغرافية، من هنا فان اجتراح ما يمكن أن نعول عليه من حلول هي ليست عصية على الفهم والاستدعاء، فهي واضحة وجلية ومن يقصدها لن يخترع العجلة بكل تأكيد ولكنه حتما سيصنع تاريخا جديدا وعهدا منتظرا يعيد لنا الثقة والأمل في الحفاظ على أمننا الوطني ولحمة شعبنا. أمر آخر مهم، يجب أن نتفهمه ونحن نعول على جدية التوجهات الجديدة لوزارة الداخلية، وهو أن معالجة قضايا منح الجنسية لا يمكن بأي حال أن تكون مسؤولية حصرية لوزارة الداخلية، بل هي مسؤولية اشمل وأكبر من ذلك بكثير، حيث يتداخل فيها ما هو سياسي بما هو اقتصادي بما هو أمني ومجتمعي أيضا، وهي مسؤوليات كما نلاحظ تتحملها عدة جهات تتوزع مسؤولياتها بحسب ما يبينه قانون الجنسية البحريني، الذي يجب أن ينسجم مع ما جاء في الدستور بهذا الخصوص حتى يضمن مشروعيته بالدرجة الأولى. بعيدا عن أية إسقاطات أخرى، تبقى مسؤولية مراجعة سياسات منح الجنسية مهمة ملزمة لمن يعنيهم الأمر، وهي لذلك لا تحتمل لغة الشعارات أو ردود أفعال ولا حتى المزايدة، فهي من الأهمية بحيث لا يمكن أن تستتب الكثير من الأمور من دون وضع حلول لا تنقصها الشفافية والوضوح، وتكون محل مراقبة جادة من قبل الجهات المعنية، عطفا على ما صاحب تطبيق تلك السياسات في السابق من ملاحظات استدعت بدورها ما صرح به الوزير المسؤول، بضرورة وضع المعالجات المطلوبة بالنظر إلى ما اسماه من مستجدات أمنية وسياسية واقتصادية..
 
صحيفة الايام
20 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد