المنشور

من تاريخنا الاجتماعي.. طبعة البلاد القديم (3)

حينما وثق الدكتور عبدالعزيز حمزة كتابه “دموع على جزيرة” ليؤرخ ابرز الكوارث التي مرت بها البحرين في تاريخها الحديث على اختلاف انواعها جاء توثيقه دقيقاً شاملاً بتواريخ وقائع تلك الحوادث، مستفيداً في ذلك مما هو متوافر تحت يديه في المؤسسة العامة الصحية التي يعمل فيها من وثائق وسجلات واوراق يرجع بعضها إلى بدايات القرن الآفل، ومستنداً في ذلك أيضا الى تجربته العملية من المهنة التي يمتهنها. على ان هاتين المزيتين اللتين استفاد منهما في الكتاب الأول المذكور افتقر إليهما في كتابه الثاني “طبعة البلاد القديم”، فواقعة الطبعة حدثت عام 1949م في وقت لم يولد فيه بعد الطبيب حمزة، والخدمات الصحية مازالت في بداياتها، ومن ثم لا توجد أي سجلات أو وثائق صحية تتضمن ذكراً او اشارة من قريب او بعيد لحادثة غرق سفينة مخيمر التي نكب فيها زوار البلاد القديم المتوجهون إلى جزيرة “النبيه صالح”.
وكان حمزة قد دون حادث طبعة البلاد القديم، التي اطلق عليها الطبعة الصغرى 1949م تمييزاً عن الطبعة الكبرى عام 1925م، في كتابه الأول معتمداً على قصيدة شهيرة نظمها الشاعر الخطيب الحسيني الراحل المشهور ملا عطية الجمري. بيد ان هذه القصيدة تحديداً وما تتضمنه من وصف بلاغي دقيق مؤثر لوقائع الكارثة وما خلفته من مآس انسانية فاجعة سرعان ما ستغدو بعيد صدور الكتاب حافزاً كبيراً للمؤلف إلى التنقيب عن كل خفاياها المجهولة وصولاً الى توثيقها والتوسع في كل جوانبها واصدارها في كتاب خاص مستقل.
وقد لعبت المصادفات دوراً في دفع حمزة إلى التصميم على خوض هذا المعترك البحثي الكبير الذي اخذ منه جهودا كبيرة جبارة ساعده فيها فريق من المتطوعين من اصدقائه وزملائه في المهنة، وثلة طيبة من اعيان وأهالي البلاد القديم و”النبيه صالح”. ففيما كان يطلع الصديق الدكتور عبدالعزيز حسن الشعباني على قصيدة الجمري حول حادث الطبعة التي تأثر بها أيما تأثر ووثقها في كتابه “دموع على جزيرة” كشف له الشعباني ان له طفلاً شقيقاً من امه يحمل اسمه كان من ضحايا طبعة البلاد القديم، وقد حدثته امه الحاجة مريم محمد جواد عن ذلك فشعر الدكتور حمزة في الحال بأنه عثر على ضالته التاريخية المنشودة للدخول على الفور في مشروع توثيقي كبير لكارثة الطبعة الصغرى التي وقعت قبل 60 عاماً من خلال جمع أكبر ما يمكن من معلومات والحصول على ما يمكن من وثائق عنها من خلال الالتقاء مباشرة ببسطاء الناس في قريتي البلاد القديم والنبيه صالح، سواء من الناجين من الكارثة، أم من أقربائهم، ام ممن كانوا شهوداً على أحداثها المأساوية في يوم حدوثها.
وعلى الفور طلب حمزة من صديقه الشعباني مساعدته في مقابلة والدته ولتكون بعدئذ هذه الفعالية فتحاً مبينا لسلسلة طويلة من المقابلات والزيارات لشهود الواقعة من اقرباء الضحايا والناجين منها. وبفضل تدفق حماسه الوطني التاريخي العلمي لتوثيق الكارثة وقوة ارادته وتصميمه على انجاز المهمة فقد توافر له فريق كبير مساعد في عملية البحث تشجع افراده بتشجعه، وقد توسموا فيه هذه الروح العالية المفعمة بالحماس والمسؤولية العلمية التاريخية التي نذر المؤلف نفسه لاتمامها، بدءاً من الدكتور الشعباني ومروراً على وجه الخصوص بأهالي البلاد القديم، وشقيقه رياض حمزة والمؤرخ علي أكبر بوشهري، والدكتور رؤوف المدحوب، وليس انتهاء بمن حرص الباحث على تعداد أسمائهم في مقدمة الكتاب، ناهيك عن الفريق الفني الذي اخرج الكتاب والفيلم الوثائقي الخاص “الوعد للإنتاج الفني” وقد خرج بفضل هذا التنقيب والغوص في أعماق مجاهيل الحادثة التاريخية بحصاد وفير يشفي غليله لإتمام توثيقها واصدارها في كتاب.
ومع ان المؤلف حصل من خلال عملية جمع شهادات الاهالي عن الكارثة ومن خلال ايضا تنقيبه في بعض المصادر والسجلات التاريخية على شذرات من الوثائق التي تشير على نحو عابر للحادثة أو ما يرتبط بها من أمكنة، كالوثائق الرسمية التي تشير إلى مسجد أو منطقة “الكرشية” التي تنطلق من سيفها السفن المتوجهة من “البلاد القديم” إلى جزيرة “النبيه صالح”، وكوثيقة مدونة بلجريف المتضمنة على نحو عابر الإشارة الى الطبعة وتاريخ وقوعها، إلا ان قصيدة الملا الجمري المشهورة التي مطلعها: “مصاب أهل البلاد الجايدة أخباره.. شعبني ويا قلب ما تشتعل ناره” ظلت محتفظة حتى الآن بقيمتها العظمى ما بين كل المصادر والمراجع والمرويات الشحيحة عن الكارثة، وذلك لما تتميز به من دقة بيانية بلاغية في وصف الكارثة ومكانها وزمانها وصفاً مشوباً بالحرارة العاطفية الصادقة فكأنك بذلك وأنت تقرأ القصيدة تشعر مع الشاعر معاً كأنكما ممن كانوا على متن السفينة أو ممن شاهدوا بأم اعينهم اللحظات الاخيرة المروعة لمأساة غرق ركابها.
القصيدة – الوثيقة لم تكن مرجعا مهما محوريا في توثيق الكارثة فحسب، بل تأثر بها المؤلف وشقيقه د. رياض أيما تأثر واشعرتهما كأنهما مع صديقهما الدكتور الشعباني يعيشون جو مأساة بكل فصولها وانها واقعة توا وليس قبل 60 عاماً، إلى درجة حملت الدكتور حمزة تحت وقع تأثير هذا الجو المأساوي الذي انفعل به أن ينظم قصيدة هو الآخر رائعة تنم عن موهبة في هذا الشأن.
والراجح ان قصيدة الجمري قد نظمها غداة وقوعها في عام الكارثة 1949م نفسه. ولعل مما يرجح هذا الاحتمال ان بين يدي وضمن مقتنيات مكتبتي الخاصة الطبعة الأولى من كتاب البحاثة التراثي الراحل الشيخ محمد علي الناصري “تنفيه الخاطر وسلوة القاطن والمسافر” الصادرة عام 1954م أي بعد نحو خمس سنوات فقط من وقوع الحادثة.
وبالاضافة إلى قصيدة الجمري ثمة قصيدة في هذا الشأن للخطيب العدناني السيد محمد صالح السيد عدنان الموسوي عرضها المؤلف حمزة في كتابه ولربما ثمة قصائد اخرى لا نعلم عنها كما يشير الناصري في تقديمه لقصيدة الجمري في كتابه المذكور.

صحيفة اخبار الخليج
30 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

الدين والمطلق

تـُثار في حياة الأمم الإسلامية مسائل (المطلق) بقوة شديدة في تحولاتها التاريخية الراهنة، وهي تحاولُ أن تجمعَ بين تقاليدها العريقة وأسباب الحداثة الضرورية، أي أن تكون لها جذور كي لا تذوب في الآخرين، وأن تكون باقية بتطورٍ مستمرٍ حتى لا تزول بتخلفها كذلك.
جانبان معقدان يشدانها في اتجاهين متناقضين، وفي خضم ذلك تـُطرح مسائل شديدة الصعوبة والحرارة معاً.
ويتمثلان اجتماعياً بقوى تصر على الماضي وحيثياته ورفض التحول وركوب قطار التغيير، وأخرى تسحب الناس والأشياء نحو التغيير الضروري والسريع والمخيف.
وفي هذا المجرد هناك الكثير من تجسيداته، فماذا نقول في ما هو موجودٌ في الكتبِ الدينية المقدسة من حديثٍ وتجسيدات للأرواح والشياطين وقوى الغيب المتحكمة في الوجود العياني، أي في حياة الناس الظاهرة والخفية؟
ماذا نقول في بعض أحكام دينية أخذت تتناقض بشكلٍ صريح مع تطورات الحياة الحديثة وما يُنتج من تقدم أصبح كاسحاً مطيحاً بالكثير من ثوابت الأمم؟
الرأي السهل لقوى التحديث السريعة والحادة هو أن نطيحَ بمجردات وغيبيات الأديان، فهذه كلها لا تحتاج سوى أن نقول إنها خرافاتٌ وتخلف وعادات اجتماعية بالية.
إزالة البيت القديم بجرافة وبناء بيت جديد، والأحكام والأفكار التي ظهرت في عصور قديمة وأخذت تناقض المساواة والعدالة الاجتماعية وعلوم الفيزياء والكيمياء تـُلقى من الحياة وتـُباد من عالم الثقافة!
ماذا نفعل في أفكار موجودة في الكتب المقدسة أخذت تـُعتبر أساطير مناقضة لأبجديات العلوم؟ كيف نعلمُ برموز دينية كآدم وحواء ونظريات التطور والأحياء ذات الأدلة الوثيقة والحيثيات الكثيرة تنكرها أو تقدمُ قصصاً مناقضة كلياً عنها؟!
بل ماذا نقولُ في سير الأنبياء والكتب المنزلة بما فيها من عجائبية ونسبية؟!
قوى التحديث الحادة والسريعة تقدم لنا ذلك الحل السهل، كما تقدم لنا قوى المحافظة الحلَ السهلَ الآخر وهو الإيمان بكل ما جاء به القدماء والسير على منوالهم وحذو أعمالهم!
المسألة صعبة وخطرة ولا شك، وحلها ليس آنياً، وردم الهوة بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس كلامياً، بل هو فعل صناعي، لا يتأتى بسهولة لمن ليس في يده أدواتها ولا وسائل إنتاجها، هو فعلُ أجيالٍ كثيرة ومواقف مترابطة بين أناس كثيرين يعيشون في عصور مختلفة ومناطق متباعدة وتحكمهم مناهج متعددة.
إن ردمَ الهوة بين الثقافة الدينية والثقافة العصرية فعلٌ نضالي جماعي قبل أن يكون إنشاءات فكرية مجردة.
لكن لابد من هذه الإنشاءات الفكرية التي تقود لذلك الفعل النضالي وتشاركهُ البناء.
الثقافة التقدمية السريعة الحادة ترفضُ الحفرَ المطولَ في أعمدة الأديان، مثل الإله والروح والنبي.
إن هذه المجردات والملموسات والعلاقات بينها، ضرورية عبر آلاف السنين. لم يقل بوذا إنه إله لكن الناسَ التي جاءتْ بعدهُ صيرتهُ إلهاً وهو إنسانٌ بسيط وعرّف نفسه بذلك.
ولو أن العكس قد حدث وقال أنبياء المشرق عن أنفسهم إنهم حكماء لصيروهم فيما بعد أنبياء وآلهة!
وقد ادعى الملوكُ القدماء بأنهم آلهة من دون أن يحتاجوا إلى ذلك وقد تملكوا الكثير من القوة والسلطان والخيرات.
الألوهية والارتباط بها كانتا ضروريتين لآلاف السنين، فلماذا؟
في البداية كانت المادة الأولية الطينية التي تشكلتْ بها هذه العمارات الشامخة في التاريخ، وهي (الروح)!
ومادة الروح اللغوية تستند إلى راح ويروح وما هو مطلق في الحركة، وما هو خفي فيها كذلك!
الروحُ سادتْ في أفكارِ ما قبل الأديان آلافِ السنين الأخرى أيضاً، فانظرْ لبساطة الإنسان، وقد عبدَ المصريون القدماء (الخنفساء) هذا الكائنَ المتواضعَ عقوداً، على ضخامة ما بنوه من عمارة وما شيدوه من حضارة!
فاحترمْ حتى جهالات الإنسان لأن فيها تاريخاً من العلم والمقاومة والبحث!
بينت الروحُ ضعف الإنسان ونسبيته، جعلته يرى كم هو زائلٌ وهشٌ في الوجود، فطالعَ دمَهُ وأمراضَه والماضين الكثيرين الذين رحلوا من دون أن يتركوا أثراً في الوجود على كثرة أعدادهم وضخامة أخبارهم، ورأى كم تضربُ كينونتـَهُ الصغيرة هذه الدولُ العملاقة وتسحقهُ كنملة وكم تفقرهُ وتستغله ولا تعطيه سوى كسرة من خبز وهو العابر المحتقر! فأصيبَ بالرعب من الكون، ومن وجودهِ البسيط المتقزم، فتمسك بالروح التي لا تروح، تمسك بكيانات تجعلهُ مطلقاً سعيداً باقياً، وليس عابراً محتقراً.
أين يذهب أطفاله الذين ماتوا من دون أن يسعدوا؟ أين فرحه في هذا الكون وهو شقي بائسٌ في هذه الأنظمة؟ هشاشة الوجود الإنساني في أنظمة البؤس هذه أعطت الثوابت البشرية في الأحلام الدينية.

صحيفة اخبار الخليج
30 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

هكذا تكلم جمال عبدالناصر

منذ أكثر من ربع قرن ألقى إدوارد سعيد أول خطاب له باللغة العربية في القاهرة. حين أنهى الخطاب دنا منه أحد أقربائه معبراً له عن خيبة أمله، لأن المحاضر لم يكن فصيحاً بما فيه الكفاية. يقول ادوارد سعيد انه سأل قريبه الشاب بصوت يحمل أنة الشكوى: هل فهمت ما كنت أريد قوله؟ فأجاب الشاب بـ “نعم”، فهو فهم كل شيء، ثم أعاد القول: “لكنك لم تكن فصيحاً خطابياً”. هذه الملاحظة ظلت تلاحق ادوارد سعيد فيما بعد، عندما يتكلم بالعربية أمام جمهور واسع، وبعباراته هو نفسه: “أنا عاجز عن التحول إلى خطيب فصيح، لأني أخلط الاصطلاحات واللهجات المحكية والكلاسيكية بأسلوب براجماتي”. ويعقد ادوارد سعيد مقارنة بين الطريقة التي يتحدث بها بعض المثقفين العرب، اليساريين منهم خاصة، وبين طريقة زعماء ذوي نفوذ مثل جمال عبدالناصر وياسر عرفات. برأيه أن الاثنين يستعملان في جلساتهما الخاصة اللهجة المحكية أفضل من المثقفين. كان عبدالناصر يتحدث إلى الجماهير باللهجة المصرية مع جمل مؤثرة بالفصحى، فكان لخطبه وقعها القوي على الآذان والنفوس والأذهان، لكنه يرى أن شهرة ياسر عرفات كخطيب هي دون الوسط بسبب أخطائه اللغوية وموارباته وتعميماته الكلامية. هذه التقييمات جاءت في مقال عميق، يجمع بين الجدية ودقة التحليل وبين الطرافة، كتبه ادوارد سعيد، يناقش فيه السؤال التالي: “كيف نتكلم العربية ونكتبها؟”، منطلقاً من تجربته الخاصة. لكنه، إلى ذلك، يقدم أحكاماً جديرة بأن تقرأ، منطلقاً من ملاحظة أن العرب جميعاً يستخدمون لهجة محكية تتنوع جداً من منطقة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر. هو شخصياً كبر في عائلة كانت لهجتها المحكية، مزيجاً مما كان مستعملاً في فلسطين ولبنان وسوريا، لكنه يعتبر اللهجة المصرية الأكثر سرعة وأناقة من كل ما تعلمه من لهجات من أفراد عائلته، فضلاً عن أنها كانت أكثر انتشاراً فبسبب السينما والتلفزيون والمسرح والتمثيليات الإذاعية والأغاني باتت تعابيرها مألوفة لدى العرب جميعاً. منذ نحو ألف سنة، أقام كتّاب بغداد كالجاحظ والجرجاني وغيرهما منظومات معقدة إلى أعلى حد ومدهشة بعصريتها. لكن اللغة كائن حي ينمو ويتطور، ولساننا العربي اليوم هو، أيضاً، نتاج مسيرة التحديث التي بدأت في أوائل القرن التاسع عشر بجهود رواد النهضة في مصر وبلاد الشام الذين أدخلوا مفردات وتراكيب جديدة. العامية أو اللهجات المحكية لا تموت، والفصحى لا تسود، ولكن يتشكل اليوم خليط بين الاثنتين، العامية تطوع نفسها لتصبح أقرب إلى اللغة الفصحى، فيما تتخلى الفصحى عن قاموسيتها الصارمة لتأخذ من المحكي بعض أوجهه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ينشأ هجين محكي على ألسنة الجيل الجديد من الجنسين، فيه بعض المحكي من اللهجات وفيه الكثير من المفردات والتعابير باللغة الانجليزية. حتى سنوات قليلة كنا نلحظ هذا الأمر عند العدد المحدود من العرب الذين أنهوا تعليمهم العالي في الغرب، لكن التعليم الخاص بالانجليزية في بلداننا الذي يستوعب أكثر فأكثر أعداداً لا من أبناء الأثرياء فحسب، إنما من أبناء الشرائح الوسطى أيضاً عمم هذه الظاهرة، التي ستترتب عليها مفاعيل قادمة في الطريقة التي بها سوف يتكلم ابناؤنا وأحفادنا، وعلى طريقة وعيهم ومعرفتهم، إذا تذكرنا أن اللغة هي وعاء المعرفة.
 
صحيفة الايام
30 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

من تاريخنا الاجتماعي.. طبعة البلاد القديم (2)

أحسن مؤلف كتاب “طبعة البلاد القديم” الدكتور عبدالعزيز حمزة صنعا حينما اعتمد المفردة العامية الفصحى الشائعة نفسها في الخليج “طبعة” بمعنى غرق اي سفينة بالماء أثناء ابحارها، وان كان الأفضل لو وضع عنوانا فرعيا صغيرا اسفلها على نحو “قصة غرق سفينة بحرينية في البحرين عام 1949″، او ما شابه ذلك لكي يكون عنوان الكتاب كمرجع لافتا ودالا لغير البحرينيين من الباحثين العرب وغير العرب ممن يجيدون العربية، على محتوى موضوعه. فمن المؤسف ان كل شعب عربي يختص بعدد من المفردات العامية الفصحى المهجورة التي تعتقد ليس الشعوب العربية الاخرى أنها عامية فحسب، بل حتى الشعب العربي ذاته المعني بتلك المفردات.
فالطبعة، كما نعلم، هي مفردة عربية فصحى مشتقة من الفعل “طبع” الذي من معانيه ملأ الاناء وافاضه، وتطبع النهر بالماء: فاض به من جوانبه وتدفق. وهذا ما ينطبق تماما على معنى تطبع السفينة بالماء عند غرقها وقت الابحار لأي سبب طارئ كان.
والحال ثمة مفردات عامية عديدة فصيحة يجرى هجرها توهما بأنها عامية بفعل سطوة الاعلام العربي المعاصر ولغة النخبة المثقفة الانتقائية وبضمنها مفردات تتصل بالماء والبحر ذاتهما، حسبنا ان نتذكر سريعا في هذه العجالة على سبيل المثال لا الحصر “السيف” بمعنى الساحل او الشاطئ، والفرضة بمعنى المرسى او الميناء، والسباحة بمعنى الاستحمام، وان كانت تأخذ هذه المفردة على سبيل التجويز او التغليب.
حينما استضافني الدكتور عبدالعزيز حمزة في امسية رمضانية جميلة بحضور الصديق الدكتور عبدالعزيز حسن الشعباني والدكتور رياض حمزة، وشرح لي الاسباب التي حملته على تأليف هذا الكتاب لتوثيق هذه الكارثة تاريخيا، ولمست عن كثب الجهود الجبارة التي بذلها بالتعاون مع فريق العمل الذي مده بالمساعدة في تحقيق هذا الانجاز الكبير كتابا وفيلما، وحيث اطلعني في تلك الامسية ايضا على لقطات موسعة من هذا الفيلم الوثائقي الرائع، كان من ضمن الاسئلة والاستفسارات العديدة التي امطرته بها عما اذا هو متأكد حقا أن “الطبعة الكبرى” قد وقعت عام 1925، رغم ترجيحي معه أنها وقعت بالفعل في هذه السنة، ذلك ان مؤلف “معجم الالفاظ العامية في دولة الامارات العربية المتحدة” الاستاذ فالح حنظل ينقل عن مؤلف كتاب “تاريخ الكويت” الشيخ القناعي أن سنة الطبعة كانت في عام 1288هـ، اي قبل نحو قرن وتحديدا خلال القرن الـ 19 الميلادي.
ولكن الراجح، بل المؤكد ان الطبعة الكبرى المقصودة هي التي يتذكرها جيدا البحرينيون والخليجيون الا هي طبعة 1925، اذ من المشكوك فيه ان تكون ذاكرتهم بتلك القوة في استعادة مرويات وقائعها وقد مضى عليها أكثر من مائة عام، وبخاصة ان المؤلف حمزة استطاع ان يعتمد على وثائق تدل على دقة تاريخ الطبعة مثل تقارير الدكتور بندكار الذي اشرف على اول عيادة حكومية في البحرين، وكتاب سعد بن عبدالعزيز السيف “حادثة سنة الطبعة”، وقصيدة للشاعر البحريني عبدالرحمن بن عبدالله الذي توفي عام 1975، ولربما ثمة طبعة اخرى وقعت في القرن الـ 19 هي التي قصدها الشيخ القناعي.
ومع ان كتاب “طبعة البلاد القديم” استطاع مؤلفه ان يوثق الكارثة التي نكبت بها القرية توثيقا يبدد اي شكوك سواء من حيث صحة تاريخها او من حيث الوصول الى اقرب صورة لمشاهد وقائعها وتداعياتها الفاجعة، الا انه في تقديري لولا لهث المؤلف على الايفاء بوعده للأهالي على انجاز الكتاب بحلول الذكرى الستين للطبعة لأمكنه، بمزيد من الصبر وتكثيف الجهود في عملية التنقيب عن الوثائق، الحصول على وثائق اخرى غير التي حصل عليها مهما بدا الامر له للوهلة الاولى انه شاق عسير، أو انه وصل الى طريق مسدود، اي ليس هناك فرصة للحصول على وثائق اكثر مما حصل عليه بعد كل ما بذله من جهد مضن. فمع ان هذا الجهد هو بلا شك كبير ومضن حقا لكن طبيعة البحث التاريخي لتوثيق الاحداث المهمة تقتضي الصبر الطويل للحصول على اكبر قدر ممكن من الوثائق والمصادر دونما الاكتفاء بتغليب المرويات الشفهية، رغم ادراكنا أهميتها هي الاخرى لتسجيل هذا النوع من الاحداث التاريخية، اي المتصلة تحديدا بالكوارث البشرية.
ومن الغريب شح وثائق كارثة طبعة البلاد القديم رغم انها قد وقعت بعد مضي 30 عاما على انطلاقة وتأسيس التعليم النظامي في البحرين بما في ذلك وجود ثاني مدرسة اهلية غدت حكومية في القرية نفسها (مدرسة المباركة العلوية سابقا، الخميس حاليا) ومن ثم وجود نسبة معقولة – كما يفترض – من المتعلمين من ابناء القرية، هذا فضلا عن وجود ادارة مدنية حكومية منذ العشرينيات.
اكثر من ذلك فإنه على الرغم مما كتب عن البلاد القديم، سواء في بعض المؤلفات بشكل عابر او مفصل ام في الصحف والمجلات، فإن لا احد من نخبة القرية المثقفة والمتعلمة التي اتسعت في العشرين السنة الماضية قد خطر بباله ان يكتب او يؤرخ شيئا عن هذا الحادث المأساوي الفاجع البالغ الاهمية في تاريخ القرية الاجتماعي، وهنا تتجلى بالضبط مأثرة مؤلف الكتاب العلمية الوطنية التي يدين اهل القرية له بالفضل فيها، فضلا عن البحرينيين كافة باعتبارها جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الاجتماعي البحريني العام.

صحيفة اخبار الخليج
29 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

الجنة والملكية العامة

تشيرُ قصة الجنة إلى الملكية العامة التي ظهرتْ في الشرق في الأزمنةِ القديمة المغلفةِ بالغموض والاستبداد، وقد كانت جنة زراعية، حيث لم تستطعْ الحرفُ والصناعاتُ أن تظهرَ على مسرح التاريخ بشكلٍ مؤثرٍ في مجالِ الوعي والتخييلِ القصصي الناسج للتاريخ ومصائر البشر وقتذاك.
هي ترميزٌ للملكيةِ العامة وما حولها من قوى سياسية مؤثرة، ولأنها ملكية عامة مخصصة للكادحين من البشر الذين زرعوها وسقوها ونظموها، فقد كانت لهم، مخصصة لعيشِهم وحاجاتهم، لم يكن أحدٌ ينازعهم فيها.
في مستوى المادة الواقعية اليومية وقتذاك، كان البستان والمزرعة والحقل هي السائدة من الإنتاج، وهي التي تنشىءُ القصورَ والبيوتَ والامبراطوريات الحاكمة، والتي تسعى لها هذه في ختام الصراعات والحروب.
أما نقيضها (جهنم) فهي الصورة المضادة، المُنتزعة مما كان يجرى من حرق للأشياء الفاسدة المُلقاة من مدينة القدس، وحين تـُحرق تلك الأشياء يكون لها تأثير وأدخنة، وصور في أذهان البشر، عما يجب تطهيره في نفوسهم، وعن الأوبئة والشخصيات الشريرة التي يجب تعذيبها مثلما يجرى للمادة الفاسدة في المدينة حتى تتطهر وتكون أنظف وأنقى.
كانت صورُ الثعبان والحية والشيطان المتسلل للجنة على مستوى التعبير الفني، هي مجموعة من الرموز المتعددة، ومن أهم معانيها قوة الثقافة وقدرتها على إيجاد التحول والتحدي للسلطاتِ المسيطرة على الثروة العامة، سواءً كانت هذه الثروة أشجاراً مولدة للخير والطعام، أو قوى فكرية عامة يغدو فهمها وتفسيرها مادة جديدة للتحول في المجتمع والتاريخ.
هي قوة التحدي وهي تدخلُ في الملكية العامة المُسيطر عليها، فتكشفُ العري الاجتماعي والفساد، وهي محاولة الكادحين للاقتراب من السلطة المسيطرة، وتحديهم لها ومماثلتهم لمكانتها الرفيعة.
إن الكادحين ويمثلهم آدم وحواء هم من مادة الطين والأرض، هم سلالة العاملين، الأرضيين، الذين عاشوا في فترة من التوحد في الجنة، حين كانت لهم، حين كانت جزءًا من ثمار عملهم، وفجأة من دون أن يعلموا لماذا وكيف تصيرُ غريبة عنهم، مضادة لوجودهم، ملغية لرفعتهم نازلة بهم إلى أسفل سافلين؟
وفي كل ملكية عامة سواء كانت بستاناً أو شركات عامة نفطية أو فوسفاتية أو اتصالية، تغدو باسم الكادحين، ومن أجلهم، ولرفعة وتقدم الوطن، ثم تغدو للملاك الخاصين، ويُطرد العاملون منها، بالفصل، أو بالبقاء الرمزي.
الذي يحولُ الوضعَ في الجنة من النعيم إلى البؤس هو الأفكار، هو عملية الاكتشاف، هو قوة تحدي الفقراء للمُلاك ومحاولتهم أن يفهموا ويكشفوا العري الاجتماعي، وألا يكونوا هامشيين أو أن يتم إلغاؤهم بطردٍ وفصلٍ وتغييبٍ عن تاريخ الإنتاج، فهم صناع الجنة لكن تمت إزالة ملكيتهم لها.
إن الأفكارَ بكلِ رموزها من تكوينِ قصص وأشعار وأبحاث هي شجرة الخلود، بما تضفيه على الإنسانية من خير وتقدم، وقد تم تخصيصها في عُرف مُلاك البستان الاستغلاليين لهم من دون غيرهم، وألا يتم الاقتراب منها، وألا يأخذ البشر العاملون الفانون الهامشيون من نورِها وثمارِها، لكي يظلوا فانين وعابرين غير خالدين غير ملتحقين بالعظمة.
المعرفة تعطيهم الخلودَ والبقاء، واستمرارهم في الجهل يبقيهم في التاريخ العابر، والطينُ يبقى طيناً، والجهلة لا يقبسون من الحكمة والمعرفة، ويستمرون جماداً.
تحولهم للألوهية، أي للخلود، يفترض صعودهم للمعرفة، وصناعتهم للتحدي، ولجعلهم البستان ملكية عامة حقيقية، وهذا يرفعهم من مادة الطين، من كونهم مجرد أدوات، ومن كونهم أشياء في صناعة البستان، إلى كونهم مالكين، وإلى كونهم نوراً، وصيرورتهم بشراً من رفعة وسمو وليس فقط وجوداً غائباً متخدراً.
لكن في التاريخ القديم ليس ثمة إمكانية لكي يظل آدم وحواء مالكين لبستانهما، وهما رمزا البشر العاملة، العادية، المتعددة المستويات بين ذكور وإناث، فيسقطان في حركة التاريخ الحقيقية من الملكية إلى البستان، إلى العمل الأبدي فيه، ويترنحان من القمة للسفح، ويعانيان كل المعاناة في العمل المرير والعيش والولادة والبناء.
في وجودهما على أرض ما بعد الجنة، ما بعد الملكية العامة، بداية لتاريخ العمل القسري الكريه وهيمنة الاستغلال وظهور الحكومات وأدوات القمع وكل تاريخ الاضطهاد.
ليس تاريخ الجنة تاريخا خياليا بل هو عصارة لتاريخ البشرية في زمن الملكية العامة، وصدى تصويري ترميزي له، ثم يُستعاد كحلم، ويوظف في الأمثولات والحكايات والقصص الدينية والأنظمة السياسية والنظرات الذكورية الاضطهادية لجنس النساء، ولأفكار الخلود والعقاب والتطوير الأخلاقي للبشر.

صحيفة اخبار الخليج
29 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

في عنيزة يوجد مصور

على خلاف ما يذهب إليه عنوان رواية خالد البسام، فان الكاتب يأخذنا في نهاية الرواية، في أداء متقن، إلى انه قد أصبح في عنيزة مصور. في لحظةٍ ما في صفحات الرواية الأخيرة يستعيد يوسف أحد أهم شخصيتين في الرواية، إلى جانب مساعد، الجملة التي كانت قد كُتبت محل الصورة في جواز السفر الذي استخرجه، وهو يتأهب للمجيء للبحرين للعمل: “لا يوجد مصور في عنيزة”، لتفسير غياب الصورة عن جواز السفر. سيقضي يوسف سنوات في البحرين، مقيماً في حي الفاضل بالمنامة، مأخوذاً بروح البحرين الساحرة في أربعينيات القرن العشرين، يوم كانت إرهاصات وبواكير الحداثة تعيد تشكيل صورة الجزيرة – الميناء المفتوحة على الدنيا، ويسبح في ذلك العالم المدهش ويشاهد الغرائب بما فيها النساء والصور التي تتحرك عبر شاشة السينما. ولكن يوسف سيضطر لمغادرة البحرين التي أحبها قافلاً ثانية إلى عنيزة، مُكرهاً بعد أن أصيب بمرض التراخوما الذي اكتشفه متأخراً بعد أن أتى على بصره، ولم يفلح أطباء المستشفى الأمريكي في المنامة في علاجه. في عنيزة التي أتاها، بعد أن أصبح أعمى، قرر أن يكتب شيئا غير عادي لرفيق عمره الذي أخذته الأقدار وهو شاب يافع إلى الزبير بالعراق ليعمل فيها ويتعلم ومن ثم يتزوج من إحدى بناتها، لا بل وينخرط في احد أحزابها السياسية، ويدخل السجن لهذا السبب قبل أن يذهب إلى كلكتا في الهند جريا وراء فرصة عمل أتيحت له هناك. لمعت الفكرة في ذهن يوسف، وفي الصباح ذهب إلى المصور الذي أصبح يتجول في السوق ويصور من يرغب في التقاط صورة له. ووسط دهشة المصور الذي لاحظ أن يوسف أعمى وفكر بينه وبين نفسه: هذه أول مرة أرى فيها كفيفا يريد صورة له، فهو لن يراها ولن يعرف إذا كانت متقنة أو لا. في الليل ذهب يوسف إلى المجلس حيث يلتم شمل الرجال وطلب من احدهم أن يكتب لمساعد في كلكتا رسالة، قال فيها التالي: “أبشرك يا مساعد انه صار عندنا مصور ولأثبت لك وتذكرني بخير أرسل لك صورتي التي التقطتها لتوي في السوق وسط دهشة المارة. أرجوك أن تعذرني انني لا اعرف شكلي وكيف صار وجهي”. تطواف ممتع يأخذنا إليه خالد البسام من عنيزة في نجد إلى الزبير في العراق وحي الفاضل بالمنامة وكلكتا في الهند، وسط حشد من الشخصيات أبرزها الصديقين يوسف ومساعد اللذين ستأخذهما الأقدار كل إلى وجهة، في ظرفٍ كانت المنطقة فيه تتسقط أخبار الحرب العالمية الثانية ونهايتها بإلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان وهزيمة المانيا الهتلرية. كأن خالد البسام المولع بتقصي وقائع التاريخ ، لم يفارق في روايته الأولى ولعه الأثير، وكأن روح كتاباته التي عرفناها وهو يتقصى كل ما يتصل بالبدايات، خاصة بدايات التغيير والاحتكاك بصدمات الحداثة لم تفارقه، بل أكاد أزعم أن هذا التقصي شكل عدته الأساسية وهو يكتب الرواية. والى الرواية انتقلت لغة خالد الصحافية ببساطتها الجميلة، وأحياناً إلى درجة الإسراف في التقشف، ربما بسبب شغف الكاتب بالسرد الذي استغرقه، ففوت فرصاً سانحة لتحليل شخوص روايته التي أحببناها، ليس لأنها جديرة بالحب فقط، وإنما لأن روح خالد الكتابية التي نحبها تلبستها.
 
صحيفة الايام
29 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

أوربا الجديدة بين رعب الحرب وحلم السلام

ظلت أوروبا قبل الثورة البلشفية، تعتبر نفسها الوريث الدائم للمركزية الأوربية على مستوى العالم من منظور رأسمالي بحت ينتمي لمرحلة ما بعد الكولونيالية، وبأنها مركز الإشعاع العلمي والنهضوي، بل واعتقدت أوربا أنها قارة واحدة بنظام واحد، حتى وان تميزت بصراعات قومية ونشوء دول حديثة وتقسيم حدود فيما بينها، فقد كان القرن 20 مختلفا عن القرن السابق الأكثر توترا بالحروب القومية الداخلية في القارة، بما فيها اختفاء الإمبراطوريات الشرقية على مشارف حدود القارة كما هي الإمبراطورية العثمانية، غير إن الشبح الذي اختفى مع اختفاء نقيضه القيصري في القارة وانتصار الجزء الأوربي الغربي من القارة على تلك الإمبراطوريتين الكبيرتين في الشرق كالقيصرية والعثمانية، الأولى تميزت بأرثوذكسيتها والثانية بإسلامها لم ينته تماما، وكلاهما كان لديه حلم في تلك القارة العجوز. لم تنته يقظة وأحلام القارة من شبح الحرب الدائم، فمع الثورة البلشفية شهدت القارة ولأول مرة في تاريخها ولادة نظام عالمي جديد قائم على الثنائية الإيديولوجية، مجددا طبول الحرب والتلويح بها والعيش داخل دائرة التهديد والتوتر، خاصة وان القارة ولدت مع حربين عالميتين وكانتا سببا ونتيجة لولادة تلك العملية المدمرة للعالم الا وهي الحرب، فقد اتسعت مجالاتها إلى خارج حدود القارة وقد دفعت ثمنا باهظا له الشعوب قبل الأنظمة بنزعتها الاستعمارية الجديدة. ومع تطور العملية السياسية في القارة بين النظامين العالميين الجديدين خلال سبعة عقود وتنامي تطور العملية العسكرية وتزايد هوس التسلح بين المعسكرين، كانت الولايات المتحدة العراب الأكبر لحماية الحلفاء في القارة أثناء وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كان على الخصمين / الصديقين مؤقتا ضد الهتلرية، أن يعودا إلى موقعهما الإيديولوجي حال انتهاء الحرب وتقاسم كبار القارة ألمانيا المهزومة المدمرة، لهذا وجدنا ان أول المباركين لتلك الخطوة الأمريكية هي ألمانيا لكونها كانت مصدر حربيين عالميتين. كان مؤتمر يالطا التاريخي نهاية المطاف المأساوي للحرب. ولكن هل بالفعل لم تشهد القارة حربا ثالثة؟ الإجابة نعم قياسا بالحربين الماضيتين، ولكن الاحتكاكات والمواجهات والتوترات ظلت قائمة بل وتجلت كثيرا في المواجهات العسكرية في ألمانيا المقسمة وتحديدا برلين تلك المدينة المشوهة والمقسمة بشكل عجيب داخل بنية نظام »المرحومة« ألمانيا الشرقية. هكذا عاش العالم بين حدي السكين والأسنان النووية والصواريخ المنصوبة والمتسارعة في قدراتها التدميرية، إلى أن بلغت بين الصقور المتواجهة في القارة حد التفكير في الدخول إلى مشروع فكرة التسابق في عسكرة الفضاء، ذلك المشروع الجنوني الذي عرف بمشروع حرب النجوم. كانت السياسة السلمية والتفاوض يتناوبان مع التسلح والتسويات السلمية جنبا إلى جنب كثنائية الصراع المستمر بين القطبين العملاقين، انطلاقا من مبدأ فلسفة الردع والتوازن العسكري بين النظامين العالميين. وكان مبدأ محاولة إبعاد العالم عن شبح حرب عالمية ثالثة راسخا في الأذهان، خاصة بعد تأسيس منظمة دولية تعني بسلام العالم وتنميته على أسس عادلة! هذا الحلم الإنساني ربما بدا وهجه يظهر بفرح للأوربيين عامة وللألمان خاصة عندما انهار جدار برلين، ومن ثمة انهارت المنظومة، غير ان ترسانة السلاح المكدسة في القارة ظلت كما هي، وظلت روسيا الجديدة في القارة الأوربية خارج نطاق المشاريع الكبرى في القارة كمشروع قيام الاتحاد الأوربي وإعادة رسم وبناء أوربا الجديدة ما بعد القطبية الثنائية، سمع العالم مجددا الخطاب السلمي بحذر، وسمع مجددا اسطوانة مشكوكا في مصداقيتها حول أهمية توسيع دور حلف الناتو خارج دوله وخارج القارة القديمة. وكدنا نصدق ان المؤسسة العسكرية وصناعة السلاح في عصر العولمة سوف يتناقص، وان القوة العسكرية ستكون حارسا أمينا للديمقراطية!! نعم الديمقراطية في حضن القوة الدولية المدججة بالسلاح ابتداء من العراق ومرورا بباكستان وانتهاء بأفغانستان وأمكنة عدة لم تخلو منها قارة أمريكا اللاتينية مؤخرا إزاء القواعد العسكرية المتعددة في كولومبيا، بحيث اعتبرته دول القارة تهديدا لأمنها، فيما تواصل صقور البنتاغون المحاولة في تمرير خطاب الكذب العالمي، بأن تلك القواعد لمكافحة تجار المخدرات والجماعات المتطرفة والإرهاب! كان ذلك ممكن مع دول صغيرة غير إن تفتيت القارة وإعادة هيكلتها بعد الاتحاد السوفيتي تمت قراءته خطأ في مرحلة ثمالة يلتسن وتبعيته للاملاءات الأمريكية »بعسل الاستثمارات الكبيرة« ولكن روسيا ليست بقالة صغيرة ولا حديقة خلفية، وإنما روسيا الجديدة هي ارث قيصري أوروبي وسوفيتي، تمتلك ثروة وطاقة بشرية هائلة وفي قلب القارة ومفتاح الجزأين الشرقي والغربي والاورواسيوي، وكل نوافذها مفتوحة بحجم حدودها ونفوذها. فكان الدرس الروسي في جورجيا والحروب البلقانية والشيشانية وغيرها يؤكد ان روسيا ذراع هام لثنائية العالم أو جماعيته في مواجهة الإرهاب والتخلف ودمقرطة العالم على الأسس الحرة الغربية المنشودة. ولكي تعيد الولايات المتحدة قراءة ملفاتها السابقة في إدارة اوباما بشكل سليم، كان عليها أن تزيل عنها ازدواجية المرحلة السابقة فلا يمكن من جهة تهديد روسيا بنصب الصواريخ في دول مجاورة وفي ذات الوقت مناشدة روسيا أن تكون الحليف الاستراتيجي في لجم وحث إيران عن نواياها في تملك أسلحة الدمار الشامل، وبان تصبح روسيا مستقبلا جزءا من القوة الفاعلة في ملاحقة خزان الإرهاب في أفغانستان وحدود باكستان واسيا الوسطى. لقد تم إعادة بناء البلقان وهذا هو الحلم الأوربي، وتم إزالة النظام الاشتراكي ومعسكره من القارة وهذا هو الحلم الأكبر، وجاء الوقت لبناء أوربا قوية وحليفا هاما وموحدا مع صديقه فيما وراء المحيط من اجل بناء عالم مختلف ومتنوع قائم على التكافؤ والعدل الدوليين بين دول وشعوب العالم. لهذا فان مشروع بوش في محاصرة روسيا عسكريا وفي التعامل معها بخطاب العسكرة فشل نهائيا، وان التسابق العسكري سيكون على حساب التنمية في ظل وجود أزمة دولية خانقة تحتاج الدول لعقد كامل من إنفاقها في تنمية الموارد البشرية ومواجهة البيئة المدمرة. لهذا كان من الطبيعي أن ينتصر اتجاه السلام والحمائم في القارة الأوربية الجديدة والعالم، في مواجهة الصقور المولعين بتسويق السلاح وإشعال بؤر التوتر والحروب الأهلية اللعينة على حساب أولويات عدة تهم حياة الإنسان ومستقبله.
 
صحيفة الايام
29 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

بوشكين … شاعر روسيا العظيم




بوشكين … شاعر روسيا العظيم

 

 
ولد الكسندر بوشكين في موسكو عام 1799 لأب ينتمي إلى طبقة النبلاء  وتوفي عام 1837م.
عاشت أسرة بوشكين حياة المجتمع الراقي .. وتربى ابنها تربية وتعليما فرنسياً في المنزل .. وقد بدأ القراءة في وقت مبكر جدا , وتعرف وهو مازال في الحادية عشرة من عمره إلى الكلاسيكيين الفرنسيين , كما استمع من خلال مربيته إلى القصص الشعبية التي أغنت ملكاته الفكرية , وذائقته الفنية .. كان على دراية بالقضايا الأدبية منذ صغره فوالده كتب الشعر , وعمه كان شاعرا معروفا ..كما كان يتردد إلى منزل آل بوشكين كثير من الكتاب المشهورين .‏ .‏

وقد كتب العديد من القصائد في تلك الفترة مثل قصيدته الغنائية : أغنية الحرية التي انتقد فيها الأوتوقراطية بقسوة مناديا الشعب للانتفاض :‏

آه فلتهزوا ولترجفوا ياطغاة العالم‏
وأنتم ارهفوا السمع أيها العبيد الساقطون‏
تسلحوا بالشجاعة وهبّوا‏

وخلال هذه الفترة التي قضاها في سانت بطرسبورغ كتب أول مؤلف أدبي كبير وأضحت قصائده الثورية وأقواله الساخرة في النهاية معروفة لدى الحكومة إذ أصدر اسكندر الأول قرارا بنفيه إلى سيبيريا وتفتيش بيته وبتدخل من أصدقائه ذوي النفوذ أمثال جوكوفسكي تم تخفيف العقاب ونفيه إلى الجنوب حيث كتب في كيشيينف قصائد حملت روح الثورة التي كان يتمناها وينتظرها : ‏

شقّي أيتها الرياح والأنواء , وجه الماء‏
وحطمي الحواجز الخبيثة المهلكة‏
أين أنت أيتها العاصفة رمز الحرية؟
لتهبي .. لتنفجري على المياه الحبيسة السجينة‏

لكن أحلام بوشكين لم تتحقق إذ انتصر الرجعيون على الثوريين ويرجع السبب في ذلك إلى عدم نضج الجماهير المتعطشة للحرية بعد .. وحدثت تغيرات في حياة بوشكين الذي انتقل إلى أوديسا للعمل تحت إمرة الحاكم العام الجديد الذي عامل بوشكين وكأنه موظف صغير .. لهذا كان يكتب أبياتا شعرية ساخرة وحادة ولاذعة جدا .. وقد طلب هذا الحاكم من العاصمة نقل بوشكين من أوديسا حيث تم نفيه إلى قرية ميخايلوفسكوي.. وقد ألف بوشكين أثناء نفيه إلى الجنوب عددا من القصائد الشعرية المسماة » سجين القوقاز« و»نافورة بختشيساراي« كما أنجز معظم قصيدة » الغجر« وبدأ بكتابة روايته » يوجين أو ينجين« .‏ 

  وقد أمر القيصر إحضار الشاعر إلى قصره بعد 14 ديسمبر بتسعة أشهر محاولا ترويضه وتحويله إلى شاعر من شعراء القصر , وأصبح يعيش حياة مراقبة.‏

تعرف بوشكين في موسكو على “ناتاليا جونشاروفا” التي أصبحت زوجته فيما بعد .. وقبل زواجه انتقل إلى بولدنيو    عام 1830 وكتب فيها عددا كبيرا من أعماله الأدبية الفنية الرائعة ..

وفي عام 1831 تزوج من  ناتاليا جونشاروفا واستقر في موسكو وأصبح موظفا من موظفي وزارة الخارجية وسمح له القيصر أن يستغل وقته في كتابة تاريخ القيصر بطرس الأكبر والحقيقة أن بوشكين كان مهتما بالتاريخ منذ زمن بعيد .. وهنا نذكر أن القيصر لم يرجع بوشكين إلى سلك الخدمة الحكومية إلا ليرى زوجته الجميلة التي كانت تعشق الحياة الاجتماعية الصاخبة بكل بهارجها والتي لم يستطع بوشكين أن يغطي نفقاتها.  
واشتد غضب القيصر على بوشكين وأظهر نحوه مزيدا من عدم الثقة وكان جمال زوجة الشاعر في قمة ازدهاره وتفتحه ، ولأن القيصر كان يرغب بحضورها إلى القصر فقد أنعم في عشية رأس السنة الجديدة عام 1834 على الشاعر رتبة نبيل من نبلاء الحضرة القيصرية مما أجج غضب بوشكين الذي رفض ذلك لأنه كان يعرف مقدار قيمته الأدبية وبدأت عمليات الاذلال والاهانة … وفي أواخر يونيو عام 1834 قدم بوشكين طلبا للتقاعد فجن جنون القيصر ولم يسمح له بمغادرة سانت بطرسبورغ.‏

وخضعت كل كتاباته للرقابة .. وشدد النقاد والصحافة الخاضعة للحكومة هجماتهم على بوشكين الذي وقع في ضائقة اقتصادية كبيرة جعلته يعيش قلقه وحيدا .. لقد اضطهدوا عبقريته لأنه لا يستطيع أن يكون خانعا .. واشتدت حملة الهجوم على الشاعر إلا أنه استمر يعمل حتى حصل في عام 1835 على حق إصدار مجلة ” المعاصر” التي كرس معظم وقته لها ونشر فيها أعماله ومذكراته وشجع المواهب الشابة ومنهم “غوغول”.  

وفي عام 1836 استلم بوشكين خطابا فيه من القذف الخسيس ما أثار الشاعر الذي كان على يقين تام بأن البارون هيكرن الذي يتبنى الشاب دانتس هو الذي يقوم بمغازلة زوجته لذلك أرسل بوشكين تحديه لدانتس ولم يتحدّ هيكرن نظرا لسنه كمبارز وخاف هيكرن على دانتس من المبارزة فطلب أخت زوجة بوشكين للزواج من دانتس , فسحب بوشكين تحديه رافضا أن يجمعه بنسيبه أي جامع , ومع ذلك استمر دانتس في مغازلة زوجة بوشكين رغم الزواج من أختها ..‏

وعندئذ أرسل بوشكين خطابا إلى هيكرن يتحدى فيه دانتس ويدعوه للمبارزة .. وتمت بالفعل المبارزة التي كانت نتيجتها مقتل الشاعر برصاص دانتس وإصابة الآخر إصابات طفيفة في التاسع والعشرين من يناير عام 1837 وقد ولّد موته حزنا لدى الشعب الذي أحبه حبا كبيرا لأنه كتب عن آلامهم ومعاناتهم متغنيا بالحرية وساخرا من الحكم القيصري الظالم.‏

هذا وقد تجمع حوالي 30 ألف نسمة في يوم واحد لإلقاء تحية الوداع الأخيرة على جثمان بوشكين الذي تم نقله ليلا من قبل الحكومة ودفنه بالقرب من قريته » ميخايلوفسكوي« التي كثيرا ما تغنى بها في أشعاره .. خوفا من قيام مظاهرة شعبية في شوارع سانت بطرسبورغ .‏
مؤلفاته

-“زنجي بطرس الأكبر”. –قصيدة 1820 “روسلان ولودميلا”. –”أسير القفقاس” (1822)، و”نافورة باختشي سراي” (1823)، و”الغجر” (1824)”بوريس غدونوف”. -1828 قصيدته الوطنية الملحمية “بولتافا” –قصيدة “الفارس النحاسي” (1833). -1830 روايته الشعرية “يفغيني أونيغين” – “التراجيديات الصغيرة” ودراما اسطورية “عروسة الماء”، وقصيدة “بيت في كولومنا”، “قصص بيلكين”. –”ملكة البستوني” عام 1833 –”دوبروفسكي” عام 1841 –”ابنة الآمر” (1836) 
  
  
    
 
مختارات من أشعار بوشكين



و طويلا سيظل قومي يحبونني
فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرَة
و تغنيتُ ممجداً الحرية في عصري العاتي
 و ناديتُ بالرحمة على المقهورين
 


  الحرية

 الا ابتعدي عن طريقي
يا ربة الأوتار الخافتة
اين انتِ , اين انت ايتها العاصفة الرجولية
يا مغنية الحرية الفخورة ؟
اقتربي و مزقي اكليلي
و حطمي قيثارتي الناعمة
اريد أن اتغنى الحرية الإنسانية
و أفضح الرذيلة في عروشها


 


القرية



آه لو ان لصوتي القدرةَ على ان يهّز النفوس
لمَ هذا اللهب المتوقد , عبثاً , في صدري
و لم تمنح لي موهبة الكلمة الرهيبة ؟
اتراني ارى شعبنا , يا أصدقائي , و قد تحرر
من جور العبودية بأمر من القيصر ؟
أو لم يحن لفجر الحرية الوطيئة الرائع
أن يشرق على وطننا اخيراً ؟ 


 


السجين

 في زنزانتي الرطبة أقبع وراء القضبان
و النسر الفتي , ربيب الأسر
رفيقي الحزين , مرفرفاً , بجناحه
  ينهش وجبته الدامية عند النافذة
 ينهشها و يلقي بها , و يتطلع من النافذة
.كما لو أنه يشاركني أفكاري
إنه ليدعوني بطرفه و صيحته
و يود أن ينطق : (هيا بنا ننطلق …
نحن طيران حران , آن لنا أن نمضي
بعيداً حيث الجبال  بيضاء  وراء  السحب
حيث البحر يتألق زرقةً
حيث لن يتجول غير إثنين:  الريح و أنا 


 

النبي  

الا انهض يا رسول روسيا
و التفّ بهذه الحلةِ المنسوجة من العار
و تقدم , و الحبل يشدُ على  عنقك
 أمام القاتل الكريه


 

الأشعار ترجمها عن الروسية: الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر
 
 
 

اقرأ المزيد

الأرجوحة اللبنانية المهترئة

أحدثكم من بيروت، وحديث بيروت اليوم مشكلتها الظاهرية – حكومتها التي يجري الحريري محاولة ثانية لتشكيلها. التفاؤل هو الطاغي، إذ تقترب المشكلة من الانفراج الذي يستند بدوره إلى الانفراج الأخير في علاقات س – س كما يقول اللبنانيون، أي السعودية وسوريا، وليس لعربي إلا أن يفرح لهذا التقارب، فهو – بلا شك – ينعكس إيجابا على العلاقات بين البلدين الشقيقين وعلى كثير من القضايا العربية المعلقة من العراق إلى اليمن غير السعيد هذه الأيام، كما ينعكس على لبنان بشكل خاص. دعوني أفسد هذا التفاؤل؛ لأنه هو بالذات ما يخبئ وراءه أزمة لبنان الحقيقية، الأكثر عمقا من أزمته الظاهرية. ليس جديدا بالطبع أن يرتهن حل مشاكل لبنان الداخلية بالاتفاقات والتدخلات الخارجية، لكن اللبنانيين كانوا في نهاية المطاف يحزمون أمرهم ليتفقوا وطنيا على حل ما، ولو جاء أعرجا، مؤقتا، لكن الجديد هذه المرة هو أن لبنان أصبح مكشوفا أمام الخارج كلية. بدأ ذلك مع تبدل أدوار الدول الكبرى صاحبة الأمر والنهي في شأن لبنان الداخلي. كانت فرنسا تصول وتجول في لبنان، لكنها كانت على دراية تامة بتاريخه وحراكه وتوازناته السياسية دائما. أما في السنوات الأخيرة، فتقوم فرنسا بتصفية شاملة لنفوذها وتأثيرها السياسي مخلية الساحة اللبنانية أمام تغلغل نفوذ الأميركي الذي أزاحها بشكل شبه تام، لكنه لا يعرف لبنان كما تعرفه فرنسا. وليس غريبا أن نقرأ في الصحافة خبرا عن عرض السفارة الفرنسية مقرها الصيفي المنبسط على 37 ألف متر مربع في صوفر للبيع بعد أن كان هذا المقر رمز النفوذ الفرنسي الضارب في لبنان، ورغم أن السفارة تنفي وجود أسباب سياسية وراء القرار، إلا أن تراجع الدور الفرنسي في لبنان أصبح مثار جدل داخلي حاد في فرنسا.
هذا التبدل في الأدوار أخذ يهيئ لبنان أكثر ليصبح أرضا خصبة لتصفية حسابات دولية وإقليمية يُلْعَبُ عليها مصير كثير من البلدان والقضايا العربية وقضايا ما يسمى بالشرق الأوسط ‘الكبير’. ألم تقل كونداليزا رايس ذلك صراحة في بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 2006؟ وبهذا أصبحت كل القوى الطائفية اللبنانية – بلا استثناء – مُسيَّرة من الخارج وفق ما تقتضيه مصالح هذا الطرف الخارجي أو ذاك. لقد غدا لبنان اليوم أكثر من السابق أسير قيادات طائفية لا تملك قرارها الوطني. وغدا الانغلاق الطائفي أكثر إحكاما. ولم يعد لكل طائفة تشكيلاتها المدنية ومؤسساتها الدينية والتعليمية وقواها العسكرية وأجهزتها الاستخباراتية والقمعية الخاصة بها، بل، وصدقوا أم لا، أصبح لكل طائفة مصرفها المركزي، وحتى فضائحها المالية الخاصة. ولعلنا قرأنا في صحافة الأسابيع الماضية ما يثبت هذه الحقائق المُرَّة. ومع تناحر القوى الطائفية من أجل اقتسام الحكم على هذا الأساس، فإنها لا تريد أن تترك لأحد مكانا خارجها. العلماني، أكان شيوعيا أو يساريا أو ديمقراطيا، يعتبر خائنا لطائفته أكان سنيا أو شيعيا أو درزيا أو مسيحيا. وفي ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة القوى الطائفية وحدها هي التي تستطيع سد بعض حاجات الناس الملحة، وتتحكم فيهم عن طريق تخصيص غيض من فيض المال المتدفق بغزارة من الأطراف الخارجية المؤثرة، غير أنه إن استمر الأمر هكذا، فإن الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية الشاملة ستظل تطحن لبنان لتحيله إلى دولة فاشلة ورموزه الطائفيين أنفسهم إلى مشاريع شهداء، كما قال الجنرال عون عن نفسه والحريري وهما يتفاوضان على الحكومة المقبلة.
أمام هذا الوضع ليس أمام التيار العلماني الديمقراطي إلا أن يفعل ما يفعله الآن ولو متأخرا ليلملم قواه ويطرح بعيدا عن التجاذبات الطائفية، مشروعه الخاص، الوطني حقا، للخروج بلبنان من أزمته التي تنذر بكالح الأيام. لقد كنت أجد بصيص أمل على هذا الطريق وأنا أستمع إلى محدثي د. خالد حدادة، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني وهو يروي بحماس قصة تحضيرات القوى الديمقراطية لعقد مؤتمر قريب لها تتقدم من خلاله للشعب اللبناني ببرنامجها النابذ للطائفية والداعي لولادة لبنان الجديد. يقول حدادة إن حزبه يستعد وقوى اليسار أيضا للاحتفال قريبا بالذكرى السنوية لانطلاق المقاومة ليقدم في هذه الاحتفالات أعمالا سياسية وفكرية وثقافية وفنية لا لاجترار الماضي، بل لتعطي للمقاومة معنى حاضرا لتطرز ثوب لبنان الجديد الذي يصون مصالح شعبه ويمنع انكشافه أمام التدخلات الخارجية.
 
صحيفة اخبار الخليج
28 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

من تاريخنا الاجتماعي.. طبعة البلاد القديم (1)

منذ نحو عقدين والساحة الثقافية البحرينية تشهد اصدارات عديدة متتالية غير مسبوقة تؤرخ لجوانب من تاريخ البحرين الاجتماعي المعاصر، لعل جلها يتناول تاريخ الأمكنة والمناطق، من قرى ومدن، بالاضافة الى تأريخ بعض المهن من خلال تأليفات عدد من كبار التجار.
الولع بكتابة التراث والتاريخ أو الانكباب على قراءتهما هو حالة تمر بها الآن كل شعوبنا العربية، وهي حالة نفسية انسانية طبيعية مفهومة بالنظر إلى ما تعانيه هذه الشعوب من احباط شديد يزداد تعاظماً لما تمر به من انكسار وعجز عن تغيير واقعها المرير في مختلف الاصعدة في مقدمتها الصعيد السياسي الذي يعد في الوقت ذاته بوابة وأداة حل وتغيير سائر الاصعدة الاخرى الى الأحسن، ومن ثم حاجة هذه الشعوب ونخبتها المثقفة إلى التعويض نفسيا عن هذا الواقع الجاثم بالهجرة إلى ماضيها عبر التفتيش عن أوراقه المضيئة سياسيا وثقافيا واجتماعيا.. إلخ.
على أن ثمة مهنتين راقيتين على درجة من الأهمية، هما الطب والمحاماة، من أهم المهن ان لم تكونا اهمها في الالتصاق بهموم وقضايا الناس الاجتماعية، بما فيها تلك التي ترقى إلى مستوى الكوارث المأساوية، سواء على المستوى الفردي ام على المستوى الجماعي. هاتان المهنتان لم يقيض لأحد من الاطباء والمحامين الاستفادة منهما لرصد وتسجيل وتحليل وقائع من تاريخنا الاجتماعي المفعم بمراحل وفترات من المآسي والمصائب والكوارث الانسانية.
ولعل أي مطلع على صفحات من التاريخ الوطني المشرف لعدد من الاقطار العربية قد وجد ان ثلة غير قليلة من الرموز التي كانت في طليعة الحركات الوطنية، سواء ابان الحقبة الاستعمارية ام بعد جلاء المستعمر، هي من المحامين والاطباء، وهنالك من تصدر منهم قيادة احزاب وطنية كبيرة كالقائد الفلسطيني الراحل جورج حبش أمين عام الجبهة الشعبية الأسبق.
وثمة كتاب صدر في سوريا يؤرخ دور الاطباء في الحركة الوطنية السورية.
الاطباء والمحامون، كما ذكرت، فلأنهم يعملون في أكثر المهن التصاقاً بالناس على اختلاف طبقاتهم، وعلى الأخص البسطاء والمعدمون منهم، فهم الاكثر دراية والاكثر إلماما دقيقا بما يموج تحت سطح المجتمع من مآس وكوارث انسانية. لا بل هم الاكثر قدرة على كسب حب وعواطف هذه الشرائح من فئات البسطاء والمعدمين وذوي الدخل المحدود، هذا إذا ما تمتعوا بالاريحية الانسانية الشفافة المقرونة بحبهم العميق الجارف لشعبهم ووطنهم.
وبالتالي فأصحاب هاتين المهنتين هم الاقدر على توثيق وتأريخ سطور من التاريخ الاجتماعي، مستفيدين في ذلك من تجاربهم المديدة الخصبة في احتكاكهم مع اولئك الناس من مرضى او اصحاب قضايا أمام المحاكم، ومستفيدين كذلك بما هو متوافر تحت ايديهم من كم هائل من الوثائق والاوراق، ولو في حدود ما يسمح به القانون او المعنيون بالامراض والقضايا بذلك.
لكن كم طبيبا وكم محاميا من شعبنا روى أو دوّن تجربته المهنية، كجزء لا يتجزأ من تاريخ وطنه الاجتماعي؟ من المؤسف ان نقول لا نكاد نجد احداً منهم تصدى لهذه المسألة في وقت أضحى فيه القابض فيه على انسانيته ووطنيته كالقابض على الجمر، فيما الأكثرية في كلتا المهنتين انشغلت حتى النخاع بتحويل المهنة الى تجارة عضوض والتربح منها بأي وسيلة، مشروعة أو غير مشروعة، حتى لو قضت على النزر اليسير مما تبقى لها من انسانية ووطنية، بينما القلة هم من وازنوا بين التكسب الحلال من تجارة الطب من دون استغلال وبين المحافظة على انسانيتهم وشرف ضميرهم المهني.
لكن هل يشترط ان يكون الطبيب او المحامي معارضا أو ناشطا سياسيا ليتمتع بالانسانية والوطنية الصادقتين؟ ثم من قال ان كل من كان ناشطا سياسيا في الحركات الوطنية المعارضة بالأقطار العربية هو بالضرورة من تلك القلة القابضة على الجمر في المحافظة على وطنيتها وانسانيتها؟ لذا يكفي ان يكون المحامي أو الطبيب يتمتع بدرجة معقولة من الثقافة العامة، وبضمنها الثقافة السياسية، ويحمل ضميرا مهنيا انسانيا نقيا عصيا على التلوث ليكون انسانا وطنيا مستقلا صادقا في حب وطنه وشعبه حبا جما ولو لم يكن سياسيا ولتكون شهادته بذلك التي يروي ويدون بها سطوراً من تاريخ شعبه الاجتماعي موضوعية صادقة لوجه الله تخلد اسمه على تعاقب الحقب التاريخية المقبلة بفضل سيرته الانسانية الوطنية الوضاءة.
ومن حسن حظ ساحتنا الثقافية ان تشهد هذا العام بروز واحد من هؤلاء القلة الذين نذروا انفسهم لتدوين سطور من تاريخ شعبهم الاجتماعي بكل تجرد وصدق وموضوعية وانسانية ألا هو الدكتور عبدالعزيز يوسف حمزة، وكيل وزارة الصحة السابق الذي باشر فور تقاعده مطلع هذا العام الانكباب على تحقيق هذه المهمة التاريخية الانسانية الكبرى من واقع تجربته المديدة كطبيب، فكانت باكورة وحصاد جهده الأول تمثلا في كتاب “دموع على جزيرة” الذي يتضمن توثيقاً لأبرز الكوارث التي شهدتها البحرين في تاريخها الحديث، وسرعان ما تلاه حصاده الثاني “طبعة البلاد القديم” المتضمن توثيق غرق سفينة في عام 1949م متجهة الى جزيرة النبيه صالح معظم ركابها من البلاد القديم.

صحيفة اخبار الخليج
28 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد