المنشور

وما الجديد؟‮!.. ‬مصالح رأس المال أولاً‮ ‬ودائماً‮ ‬وأبداً

نكرت وراوغت وتذاكت حكومة العمال في‮ ‬بريطانيا حول خلفية إطلاق سراح الليبي‮ ‬عبدالباسط المقرحي‮ ‬المدان‮ ‘‬وحده‮’ ‬في‮ ‬تفجير طائرة الـ‮ ‘‬بان أمريكان‮’ ‬فوق قرية لوكيربي‮ ‬الاسكتلندية‮.‬ وجهد رئيس وزرائها‮ ‬غوردن براون من أجل نفي‮ ‬وجود أية علاقة بين إطلاق‮ ‬المقرحي‮ ‬وبين عقود النفط التي‮ ‬أرستها الحكومة الليبية في‮ ‬شهر‮ ‬يناير‮ ‬2008‮ ‬على شركة‮ ‘‬بريتش بتروليوم‮’ ‬البريطانية والبالغة قيمتها‮ ‬900‮ ‬مليون دولار،‮ ‬وأصر على روايته‮ ‘‬البريئة‮’!‬ ولكنها كانت أيام معدودات فقط قبل أن‮ ‬يقر وزير العدل البريطاني‮ ‬جاك سترو بأن المصالح التجارية واتفاقاً‮ ‬للتنقيب عن النفط بين شركة بريتش بتروليوم‮ (‬بي‮.‬بي‮) ‬وليبيا ساهمت في‮ ‬اتخاذ قرار الإفراج عن المقرحي‮. ‬ففي‮ ‬مقابلة لصيفة‮ ‘‬ديلي‮ ‬تلغراف‮’ ‬أجاب سترو على سؤال للصحيفة بهذا الشأن بالقول صراحةً‮: ‘‬نعم لقد كانت التجارة عاملاً‮ ‬في‮ ‬المسألة،‮ ‬فالتجارة جزء أساسي‮ ‬منها،‮ ‬وكان هناك لاحقاً‮ ‬اتفاق مع بي‮.‬بي‮’.‬ وفي‮ ‬مكان آخر من العالم،‮ ‬وتحديداً‮ ‬في‮ ‬الجابون،‮ ‬ثار الناس ضد إعلان الحكومة هناك عن نتائج الانتخابات الرئاسية بفور علي‮ ‬بونغو نجل الرئيس الغابوني‮ ‬الراحل عمر بونغو،‮ ‬حيث أفرغ‮ ‬المنتفضون جزءاً‮ ‬من خزين‮ ‬غضبهم على المصالح الفرنسية في‮ ‬الجابون وفي‮ ‬عاصمتها ليبرفيل تحديداً‮ ‬وذلك لإحساسهم المرير بانحياز فرنسا لصالح المرشح علي‮ ‬بونغو وتواطؤها مع شبكة المؤسسة الفاسدة التي‮ ‬أنشأها والده الرئيس الراحل عمر بونغو في‮ ‬تزوير الانتخابات للحيلولة دون وصول مرشح المعارضة التي‮ ‬اتفقت على مرشح واحد من بين مرشحيها الأحد عشر‮.‬ ففرنسا تريد أن تضمن استمرار رعاية مصالحها لاسيما النفطية المتمثلة في‮ ‬شركة‮ ‘‬توتال‮’ ‬ذات الامتيازات الدسمة في‮ ‬شقي‮ ‬الصناعة النفطية،‮ ‬التفريعات الرأسية‮ ‬‭(‬Upstream‭)‬‮ ‬والعمودية‮ ‬‭(‬Downstream‭)‬‮ ‬أي‮ ‬الإنتاج والتكرير‮ (‬لدى الجابون مصفاتان للنفط واحدة في‮ ‬ميناء بورت جنتي‮ ‬والثانية على مقربة من بوينت كلاريت‮). ‬فضلاً‮ ‬عن مصالحها الاستثمارية في‮ ‬الموارد الطبيعية الأخرى التي‮ ‬تختزنها الجابون مثل خام المنجنيز‮ (‬معدن فلزي‮) ‬الذي‮ ‬تزيد احتياطياته على مليوني‮ ‬طن،‮ ‬واليورانيوم‮ (‬حوالي‮ ‬ألفي‮ ‬طن‮) ‬وخام الحديد‮ (‬حوالي‮ ‬مليار طن‮).‬ ومع أن فرنسا تعتمد على الطاقة النووية في‮ ‬توليد‮ ‬80٪‮ ‬من حاجتها من الطاقة الكهربائية،‮ ‬فإن شركة توتال‮ ‬‭(‬Total‭)‬‮ ‬التي‮ ‬تدخل في‮ ‬عداد الشركات الست العملاقة الرئيسية العالمية‮ ‬‭(‬Six Supermajors‭)‬،‮ ‬وتنتج أكثر من‮ ‬2‮ ‬مليون برميل‮ ‬يومياً‮ ‬في‮ ‬حوالي‮ ‬120‮ ‬بلداً،‮ ‬هي‮ ‬بالتالي‮ ‬تشكل مصدراً‮ ‬هاماً‮ ‬جداً‮ ‬لتغذية حساب فرنسا الجاري‮ ‬ضمن حساب مدفوعاتها‮.‬ وفي‮ ‬ناحية أخرى،‮ ‬آسيوية هذه المرة،‮ ‬وتحديداً‮ ‬في‮ ‬أفغانستان التي‮ ‬قرر الغرب متمثلاً‮ ‬في‮ ‬حلف شمال الأطلسي‮ (‬نيتو‮) ‬أن‮ ‬يشن فيها حرباً‮ ‬ضروساً‮ ‬ضد حركة طالبان ومجموعات الإرهاب العقائدية التي‮ ‬التحقت بها من جميع أنحاء العالم الإسلامي‮ ‬والمهجري،‮ ‬لم‮ ‬يكن الرئيس الأفغاني‮ ‬حامد كرزاي‮ ‬ليجرؤ على القيام بعمليات التزوير واسعة النطاق والفاضحة لولا تواطؤ قيادة حلف‮ ‘‬النيتو‮’ ‬مع نظام كرزاي‮ ‬الذي‮ ‬جيء به من الغرب بعد الحرب التي‮ ‬شنها الحلف بقيادة الولايات المتحدة على أفغانستان في‮ ‬عام‮ ‬2001‮ ‬وإطاحته بنظام طالبان،‮ ‬باعتباره ممثلاً‮ ‬أميناً‮ ‬لمصالح اللوبيات النفطية‮ (‬وتحديداً‮ ‬الأمريكية‮)‬،‮ ‬حيث كان طرفاً‮ ‬مع الأفغاني‮ ‬الأمريكي‮ ‬الآخر زلمان خليل زاد الذي‮ ‬خدم في‮ ‬إدارة الرئيس بوش الابن،‮ ‬وكان آخر منصب تقلده فيها منصب مندوب الولايات المتحدة الدائم في‮ ‬الأمم المتحدة،‮ ‬في‮ ‬المفاوضات السرية التي‮ ‬أجراها الأمريكيون مع نظام طالبان في‮ ‬نهاية عقد تسعينيات القرن الماضي،‮ ‬حول مد خط أنابيب لنقل الغاز من عشق أباد عاصمة تركمانستان إلى باكستان عبر الأراضي‮ ‬الأفغانية‮. ‬وما إعراب بعض المسؤولين الغربيين عن قلقهم من حجم التزوير الذي‮ ‬شاب الانتخابات الأفغانية الأخيرة،‮ ‬سوى اضطرار مفضوح لدفع الشبهة عن تورطهم في‮ ‬تعويم الرئيس المنتهية ولايته‮.‬ ما تقدم سوى حفنة أمثلة سجلتها أحداث الأيام الأخيرة من شهر أغسطس الماضي‮ ‬لتعطينا فكرة عن ماهية شعارات وتغنيات وتبجحات الساسة الغربيين بالديمقراطية،‮ ‬هؤلاء الساسة الذين أفسدهم الرأسمال المتوحش وأغوتهم‮ ‘‬الشيئية‮’ ‬السلعية لنسق الحياة المادية الطاحنة‮.‬ فهل من جديد في‮ ‬هذه الفضيحة‮ ‘‬الديمقراطية‮’ ‬الغربية؟ كلا بطبيعة الحال،‮ ‬فشتان ما بين التغني‮ ‬ونفش الريش ونفخ الأوداج تبجحاً‮ ‬بالقيم الديمقراطية والعدالة والشفافية وما بين الممارسة الاوليغارشية التي‮ ‬لا تختلف،‮ ‬في‮ ‬بعض فصولها،‮ ‬كثيراً‮ ‬عن ممارسات المافيات السرية‮.‬ فهذه ليست المرة الأولى على أية حال التي‮ ‬تدوس فيها بريطانيا أو فرنسا أو‮ ‘‬حيتان النيتو‮’ ‬على ديمقراطيتها تفضيلاً‮ ‬وفزعةً‮ ‬لرأس المال الكبير،‮ ‬ولن تكون الأخيرة بطبيعة الحال‮.‬ قد‮ ‬يعد البعض هذا قدحاً‮ ‬في‮ ‬الديمقراطية الغربية‮. ‬وهو كذلك‮. ‬نعم هي‮ ‬ديمقراطية عريقة أرست تقاليد أضحت بحكم الأمر الواقع أقوى من القوانين والتشريعات المنظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع وبين أفراد المجتمع أنفسهم‮. ‬حتى صارت‮ (‬الديمقراطية الغربية‮) ‬تُمارس تلقائياً‮ ‬من دون الاضطرار لاستخدام رادع القانون‮.‬ بل لعلها النموذج الأمثل الذي‮ ‬طالما حلم به الطوباويون الأوائل من أفلاطون وأرسطو إلى دعاة مجتمعات العدالة الاجتماعية عبر العصور،‮ ‬والذي‮ ‬استطاعت مجتمعات الغرب الصناعي‮ ‬في‮ ‬مراحل مبكرة من قيام الحضارة المعاصرة،‮ ‬وضع لبناته الأولى ومراكمتها،‮ ‬من دون انقطاع،‮ ‬على مدى القرون الأربعة الأخيرة،‮ ‬والمتمثل في‮ ‬الاهتداء إلى آلية مناسبة لتنظيم مختلف علاقات الناس بعضهم ببعض على أسس متوازنة‮.‬ هذا مما لاشك فيه،‮ ‬ولكنه ليس كل شيء بالنسبة للديمقراطية الغربية في‮ ‬مستقرها الراهن الذي‮ ‬انتهت إليه بعد مكابدتها لمعاناة شديدة على أيدي‮ ‬عمالقة المال وجماعات الضغط التي‮ ‬تتعاطى على مضض مع استحقاقات الديمقراطية لعدم احتمالها ضوابطها‮.‬ على انه إذا كان ثمة ما‮ ‬يروض مراكز قوى رأس المال الضاغطة على آليات عمل الديمقراطية ويغل أيديها عن التمادي‮ ‬في‮ ‬التطاول ومحاولة الالتفاف عليها في‮ ‬الداخل،‮ ‬فإن هذه القوى الرأسمالية العابرة للحدود،‮ ‬لا تجد خارج الحدود حرجاً‮ ‬ولا‮ ‬غضاضة في‮ ‬التعبير عن مصالحها بأبشع الصور،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك عدم التحرج في‮ ‬إظهار الدعم والمساندة لأنظمة استبدادية وقمعية وتسويغ‮ ‬سياساتها وممارساتها‮! ‬أو لم‮ ‬يقل أحد رجالات الكونجرس الأمريكي‮ ‬يوماً‮ ‬في‮ ‬جلسة استماع لإحدى لجان الكونجرس،‮ ‬وكان محورها الممارسات الأمريكية في‮ ‬أمريكا اللاتينية‮: ‘‬لقد دعمنا حكاماً‮ ‬أوغاداً‮’!‬ هي‮ ‬إذاً‮ ‬ديمقراطية وليبرالية في‮ ‬الداخل ولكنها تدار بعقلية مافيوية في‮ ‬الخارج‮.‬
 
صحيفة الوطن
19 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

الملابس والحرية

ينطلق بعض الشباب في مواجهة الموجات المحافظة ويعارضونها بقوة وحدة، ومن دون امتلاك أدوات البحث العميق. يناقش أحد هؤلاء الأستاذ أحمد عرار هذه الموجة في كل مجال بنشاط كبير، ولكن أدوات المعرفة والتحليل تقصر هنا، يقول حول موضوع الحجاب ما يلي:
“ارتبط الحجاب عبر تاريخه بالنمط السياسي للحكم، فما يسمى بأهل الحل والعقد أو مجلس الشورى في الحكومات الإسلامية السابقة هم من كانوا يسنون القوانين وفق تصوراتهم واجتهاداتهم ويفرضونها على المجتمع، هذه الاجتهادات والتصورات التي لم تكن محل إجماع في أي عصر من العصور، إلا أن الاجتهاد الاصوب والأحق في الاتباع هو للحزب الأكثر غلبة وقوة دائماً حتى ولو كانت حجته وبرهانه ضعيفين، لان العبرة هي بما يحققه الاجتهاد من مصالح سياسية وليس بما يقترب أو يبتعد عن النص القرآني”، (أحمد عرار، موقع نسوي، مدونة خاصة بالفكر النسوي).
لم يرتبط الحجاب بنمط الحكم ولا بأهل الحل والعقد، وتوجد هناك آيتان في القرآن حول الحجاب تعلقتا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فرضتْ الحجابَ عليهن، بسبب ان مركز حكمه عليه السلام كان بسيطاً متواضعاً، وفيه نساؤه، وكان المسلمون يكثرون القدوم إليه، مما يسبب مشكلات للنساء فيه، ولحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته ومكانة نسائه قننت الآيتان ذلك.
وقد عرفت نساء الشرق خاصةً الأحجبةَ المختلفةَ، التي تـُوضع على الرأس وتغطي الشعر، لأسباب اجتماعية ودينية كثيرة ومعقدة، الأبرزُ فيها ان ذلك جرى بسبب تطور الملابس عامة في الأقاليم الحارة، وظروف الأعمال الحرفية المختلفة، وأوضاع البيوت المحدودة والخيام ووجود التجمعات الكبيرة، والأحجبة لم تقتصر على النساء بل استعملها الرجال كذلك، خاصة في الصحراء والمشاكل التي يسببها الغبار والضوء الحاد وغيرهما من العوامل الطبيعية.
وكانت النساء قد تفاعلن مع الحدث الإسلامي وشاركن فيه منذ جذوره الأولى، وتصاعد دورهن خاصة في زمن الهجرة، حيث توافرت ظروفٌ مختلفة للنساء بين مهاجرات وأنصاريات، وبين مشاركات في القيادة النبوية والراشدة وبين عاديات، وبين مناضلات على رؤوس الجيوش وبين العاملات في البيوت.
وهذا كله أدى إلى تفاعلهن مع الأحداث ومع لغة القرآن وعمليات استفساراتهن لعبت دوراً في تصعيد المجرى النضالي المشترك وقتذاك، وتأسيس دولة شعبية ذات قرارات ديمقراطية في تلك الظروف الأولية.
أما تعميم الحجاب على النساء بشكل ديني، فهو أمر سياسي تشكل مع انهيار الدولة الشعبية تلك، وظهور الارستقراطية الحاكمة، ومعها الرجال البارزون المسيطرون على المنافع الكبرى وبسبب تدفق الجواري والإماء مع حروب الفتوح عليهم، وهم الذين وسعوا القيود على النساء، وفسروا الآيات القرآنية كما يهوون.
وكانت الكثير من الأحكام التأسيسية في الزمن الأول مرتبطة بضرورات تشكيل الدولة الأولى وظروفها الصراعية مع قوى كثيرة حولها وداخلها، وتصعيدها لهدف بناء المجتمع الحر والمتطور، وعلى ذلك نقيس العديد من تلك الأحكام. فهل يؤدي أي حكم إلى تطور جماعة العرب والمسلمين تطورا تحديثيا كما جرى أم أنه يؤدي إلى منافع فئة خاصة وتخلف المجتمع بشكل عام؟
وصحيح القول: إن الحزب الذكوري كان هو الأقوى، وقد برز في الحكم السياسي العام، وفي السيطرة على البيوت، والتحكم في طبيعة التربية، جاعلاً أنانياته وتخلفه محل تضحيات السلف، وهي التي أدت إلى تدهور المجتمعات الإسلامية وتخلفها الاقتصادي وسيرورتها مادة لسيطرة المجتمعات المتقدمة المتوسعة.
أما أن يكون الحجاب (غطاء الرأس) نتيجة للتطورات السياسية في إيران والسعودية، فقد كان من الإيجابي مشاركة النساء بتوسع في الأحداث التحولية الحديثة، وكانت جذور هذه الموجات هذه بدوية وقروية، وهذا هو الشائع من اللباس فيها لأسباب اجتماعية، أما نساء المدن في زمن التغييرات التحديثية الليبرالية، فكن زوجات تجار كبار ومتعلمات ذهبن للجامعات، فأعطى مستوى الحركة لباساً مختلفاً للقيادة فحسب، أما النساء العاديات فظللن في ملابسهن البسيطة المخاطة في الحواري بأثمانها الرخيصة.
إن اللباس لا علاقة له بالعقل وبالرؤى الفكرية والمواقف السياسية. وحركة الحداثة للنساء والرجال مرتبطة بالصناعات الثقيلة والخفيفة، ومستويات تغلغلها في البُنى الاجتماعية، ومدى جذبها للسكان ومستويات تطورها، فذلك يغير طبيعة الثقافة عبر ملاءمتها لهذا الإنتاج وتكييفها للتقاليد المتعلقة بكل شعب، وثيابه وطبيعة خصوصياته.
واللباس الغربي يظل مرتبطاً بإنتاج آخر في ظروف مغايرة، ونحن نقوم بالتحديث غير العميق حتى الآن، ومن سوف يصنع ويغير البُنى الاقتصادية سوف يفصل ملابسنا الخاصة، وأزياءنا، وسوف تفرض القوى المسيطرة التصنيعية طبيعة هذه الملابس، وتعربُ الحشودَ من الأزياء والكرنفال الجامع لملابس العصور الوسطى والحداثة الغربية المعتدلة والمتطرفة والأزياء الهندية وغيرها، وهذا رهن بتطور صناعة الملابس العربية كذلك ومواقف النساء من كل هذا، ومدى ملاءمتها للعمل والحياة.

صحيفة اخبار الخليج
19 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

أسوأ ما فينا

الأشياء، تكاد تكون كلها، قابلة للانقسام إلى نصفين، والنصفان إلى أربعة وهكذا دواليك. حتى الأشياء متناهية الصغر كالذرة هي الأخرى تنقسم، ولكن مع ذلك فليس كل نصف هو مجرد النصف الثاني المكوّن للشيء. هناك أنصاف هي في الحقيقة نقض أو نفي للشيء نفسه. وأسوق هنا ثلاثة أمثلة، على الأقل، من أنصاف الأشياء التي تناقض الشيء كاملاً في جوهره ودلالته. المثل الأول هو أنصاف الحلول، كأن نسعى لحل مشكلة فنقوم بمعالجتها جزئياً، بنصف حل أو بربع حل. ما نفعله حقاً ليس خطوة على طريق الحل الجذري أو الشامل أو المتكامل، وإنما هو مجرد إعاقة لهذا الحل، لأن نصف الحل هو تمويه على جوهر المشكلة الحقيقي، هروب منه إلى بعض مظاهر المشكلة عوضاً عن حل أو معالجة أسبابها. لدى الكثيرين رأي آخر يقول إنه إذا استعصت المعالجة الجذرية للمشكلات، فإن الحلول المؤقتة أو الجزئية ضرورية. ولكن هذا القول لا يخلو من المغالطة إلا إذا كان ذهن من يتصدى للمشكلة يعي جوهرها ويعمل على إيجاد الحل النهائي، الجذري لها، وريثما يتعين ذلك يقوم ببعض حلول التهدئة أو التخفيف من الأعراض، شأنه في ذلك شأن الطبيب الذي يعطي مريضه مسكناً من الألم رغم إدراكه أن العلاج الجوهري للعلة يكمن في دواء آخر. مشكلتنا أننا حتى لو وعينا أن ما نقوم به ليس سوى نصف حل أو حل مؤقت، سرعان ما ننسى ذلك ونتعامل مع الألم النائم بسبب المسكنات على أنه قد زال، فما أن ينتهي مفعول المسكن حتى تضج الآلام من جديد مذكرة إيانا بأن المشكلة ما زالت أبعد عن الحل. المثل الثاني هو أنصاف المثقفين، وهؤلاء لكثرتهم في مجتمعاتنا، لأن أعدادهم هي أضعاف عدد المثقفين الحقيقيين، باتوا يشكّلون همّاً ومشكلة حقيقية لأنهم يقودون إلى خراب الثقافة أكثر مما يسهمون في تطورها. شبه المثقف أو نصف المثقف هو في الغالب شخص دعي يسبغ على نفسه من الأوصاف والمدائح ما هو غير جدير به، وله في كل عرس قرص، أما المسافة بين المثقف ونصف المثقف فليست كالمعادلة الرياضية واحد – نصف = نصف، إنما هي كالمسافة بين الثريا والثرى، لأن المثقف قرين القلق والبحث الدائم والسؤال عن الحقيقة، أما نصف المثقف فهو قرين الإدعاء والتبجح الأجوف والوجاهة الزائفة. المثل الثالث هو نصف الحقيقة. ولفت نظري في كتاب قرأته منذ سنوات لعالمة نفس أمريكية تشير فيه إلى رسالة استلمتها من صديقة لها أشارت فيها إلى وقائع معينة حدثت لها، لكنها، أي الوقائع، لم تكن سوى نصف الحقيقة. تقول المؤلفة: إن الصديقة لا تكذب، لكنها لا تقول كل شيء، ونصف الحقيقة هنا يحبط المرء لأنه يتصور أنها الحقيقة الكاملة. وتضيف الكاتبة: “إن هذا يمثل أسوأ ما فينا”، لأنه يرمز إلى نوع من الإنكار المضلل والمؤذي. وللأسف فإن الناس إما أنهم غالباً ما يمارسون هذا النوع من التضليل أو أنهم ضحية له، ربما بسبب أن الحقيقة كاملة هي مُرّة دائماً.
 
صحيفة الايام
19 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

عندما يتداخل الخطأ بالخطيئة

ثمة قضايا وأحداث تناولتها الصحافة في الآونة الأخيرة لا يجب أن تكون بعيدة عن دائرة الاهتمام والملاحظة والتناول، ونرى بأن ثمة ما يستدعي رصدها ودراستها وتحليلها، وان كنا في هذه المشاهد التي تجري أمامنا تباعاً نرى أنه بمقدورنا ونحن نودع الشهر الفضيل أن نكتشف على الأقل فضيلة لا يملك المرء إلا أن يعترف بها أياً تكن درجة الامتعاض والاستياء، وأيا تكن دلالات هذا الذي جرى ويجري، وهي فضيلة الاعتراف بأن واقعنا لايزال يزخر بمساحة لا يستهان بها في الكم والنوع من الشطط التي تستوجب المعالجات الحصيفة التي ربما تتجاوز الصدمات الكهربائية، لعلنا بذلك نكون أكثر قدرة على مواجهة المشكلات وعلاج الأخطاء وكل أوجه الخلل والفساد وتصحيح المسار. خذوا مثلاً هذا اللغط الجاري حول حادثة الاعتداء التي تعرض لها أحد أعضاء مجلس بلدي المنامة، فبصرف النظر عن التسوية التي تمت والتي جرى الإعلان عنها قبل أيام وعن غلق هذا الملف، إلا أن هذه القضية، وكل قضية مشابهة تغري بالكثير الكثير من الكلام تفسيراً وتحليلاً وتوقعاً واجتهاداً واستنتاجاً، وهو أمر يستحق ذلك وأكثر، لذا كان بودنا لو قامت جهة رسمية ما بالتوضيح والتفسير لما جرى ووقف هذا اللغط الذي دار حول قضية المحزن فيها دلالاتها.. وما أثارته من تساؤلات حول دولة القانون، وسيادة القانون، ومدى القدرة على انفاذ القانون على الكبير قبل الصغير، والقوي قبل الضعيف. وليس خروجاً على السياق فيما يخص الأخبار والقضايا التي تغري بالكلام الكثير، منها كمثال تلك القضية ذات الصلة بالطالبة نور حسين والتي تأتي في وقت تتبنى فيه الدولة برامج للتنمية السياسية وأنشأت معهداً خاصاً يعنى بالتنمية السياسية، ومن هذه الزاوية ننظر الى تصرف الجامعة حيال هذه القضية بأنه أمر محزن لا ريب، فهو يثير تساؤلاً عن أي تنمية سياسية تنشد الدولة اذا كان الفعل الاحتجاجي على مطالب جامعية بالشكل الذي شهدناه.. وما جدوى الندوات والمحاضرات حول التنمية السياسية اذا كان التمرين العملي على التنمية السياسية يثير قدراً من الإحباط والتشاؤم والعقاب، خاصة وأنه من البديهيات أن الجامعة ليست فقط مكاناً للدراسة الأكاديمية، وإنما هي أيضاً منارة ينعكس أشعاعها على المجتمع، وهي من هذه الزاوية كان من المتوقع أن تلعب الجامعة دوراً في التنمية السياسية والديمقراطية وليس دوراً في القمع وإخراس الأصوات. وإلى جانب ذلك ربما من المفيد أن نتوقف أمام خبر قيام أحد المستشفيات الخاصة الكبرى بمضاعفة أسعار فواتيره على المرضى فور علمهم بأنهم يحظون بتغطية تأمينية، مما أدى بمعظم شركات التأمين الى إسقاط المستشفى من تغطية التأمين الصحي..!! وهو أمر له دلالته التي لا تخفى على من لا تنقصه الفطنة والحصافة والبصيرة، تماماً كما هو الحال بالنسبة لقيام بعض الأجهزة بنشر اعلانات عن وظائف رسمية في الداخل والخارج، ويتقدم كثر من الجامعيين وأصحاب المؤهلين ممن يحلمون بوظيفة ويجرون الاختبارات والمقابلات، وفي النهاية يكتشفون بأنهم مجرد كمبارس في مسرحية حينما يجدون بأن الوظائف المعلن عنها هي من الأصل والأساس محجوزة للبعض ممن هو محسوب على هذا أو ذاك، أو هذه الجمعية أو تلك، أو تيار ديني بعينه، في صورة تغتال فيها المقاييس وتهدر المعايير وتغيب مبادىء تكافؤ الفرص وكل معاني الشفافية، ولعل تصريح النائب عادل العسومي من أن هناك وزراء أصبحوا يتعاملون بكل وضوح تحت أمر هذه الكتلة النيابية أو تلك، أو جمعيتها، لعل هذا التصريح يلفت الانتباه إلى وجه آخر ليس فقط لقضية التوظيف والتعيين وطرق تصعيد البعض وهو الملف الذي تم استغلاله من قبل نواب وغيرهم بصورة مشينة، وإنما أيضاً هو أمر يلفت الانتباه الى مشكلة تواجه مجتمعنا، ولا داعي للاستفاضة لأنني أحسب أنها معلومة للجميع. في الحالة الأولى – ونشدد على أنها مجرد مثال – تكمن المشكلة التي تواجه مجتمعنا في تضييع المعايير التي تحكم الخطوط الدقيقة الفاصلة بين المشروع والممنوع، بين إغراء الكسب السريع أو المغانم الخاصة على حساب المنافع العامة، وفي الحالة الثانية فإننا نحسب بأنها تعبر عن أمور سلبية عدة في مجملها وفي تفاعل بعضها البعض توصلنا بالنهاية واقع أقل ما يمكن أن يقال فيه بأنه يفتح مع سبق الإصرار والترصد الباب الذي تأتي منه الريح، واللبيب من الإشارة يفهم. على أي حال هناك العديد من القضايا والأخبار والأحداث التي يمكن التوقف عندها ولا يجب أن نجيز لأنفسنا الغفلة عنها لأنها في جزء معتبر من تفسيرها تمثل استعراضاً لعناصر مشهد الحياة في بلدنا.. أخبار وحوادث لا يستطيع المرء حيالها أن يخفي شعوره بالأسى، وهو أسى مركب، مرة للفعل، ومرة ثانية لردة الفعل، فعل المعنيين وردة فعل من يفترض أن يتحملون مسؤولية المواجهة والمعالجة لاسيما أمام تلك النماذج من القضايا والأحداث التي يتداخل فيها الخطأ بالخطيئة مع قناعتنا التامة بأن المسؤولية ستبقى دوماً لمن يتحملها لا لمن يحملها..!
 
صحيفة الايام
19 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

نــور حسين

نحن على ثقة من ان وزير التربية والتعليم د. ماجد النعيمي رئيس مجلس امناء جامعة البحرين سيعالج بحكمة قضية نور حسين الطالبة في كلية ادارة الاعمال التي تم حرمانها من الفصل الدراس 2008 – 2009 والسبب ان الطالبة المجتهدة والمتفوقة دراسياً والنشيطة بجمعية الشبيبة البحرينية وعضو قائمة الوحدة الطلابية بالجامعة قامت بتوزيع بيان صادر عن قائمة الوحدة في يوم الطالب البحريني، لماذا تم حرمانها؟ لا تدري!! مع العلم ان البيان لا يكرس الطائفية في الجامعة كما تفعل الاطراف الطلابية المحسوبة على الجمعيات السياسية الدينية الطائفية ولا يدعو الى شق الوحدة الوطنية ولا يسيء لا للجامعة ولا لمجلس ادارتها وانما كل ما هنالك ان اطرافا تصم اذانها عن سماع الرأي الاخر في “بيت” المعرفة والعلم. فالبيان كان يعبر عن هموم الطلبة وعن رأيهم في الموازنة التي لا تلبي الاحتياجات الطلابية وبالاضافة الى ذلك، وعن زيادة عدد الطلبة في القاعة الدراسية الواحدة وهذا بالطبع يتطلب حوارا هادئاً لا جزاءات كالتي اتخذتها لجنة التحقيق دون مراجعة تفتقد الى الحقائق بل والاكثر من ذلك ان العقوبة بحق الطالبة نور التي بالفعل حرمت لفصل دراسي كامل دون انذار او تدرج في العقوبة يعد في الاساس تجاوزاً لأنظمة الجامعة ولوائحها الداخلية والامر الآخر والمهم يعد تعدياً على حقوق الطلبة في ابداء الرأي!! الطالبة نور وجميع الطلاب من حقهم ان يناقشوا ويتساءلوا عن اية قضية لها علاقة بالاوضاع الطلابية وبظروف دراستهم فهو ما يؤسس لثقافة النقد والحوار ولكن المدهش في الامر ان اللجنة لم تعر اهتماما لذلك وإلا لماذا كانت العقوبة قاسية؟ في حين ان الطالبة لم تكن تعرف ان توزيع مثل هذه البيانات ممنوع، وفضلاً عن ذلك انها اكدت لاعضاء اللجنة بأنها لن تقوم بذلك مرة اخرى مادامت قوانين وانظمة الجامعة لا تسمح بذلك. اما بالنسبة للشيء الآخر والمدهش ايضا هو ان اللجنة بالاضافة الى انها لم تعالج القضية بشكل اداري منصف بل تجاوزت حدود صلاحياتها ولاسيما عندما سئلت الطالبة عن توجهاتها الفكرية والاديولوجية وعن انتماءاتها السياسية؟!! وهذا ما يكشف لنا ان التحقيق كان يتدخل في حرية الرأي والمعتقد التي كفلها دستور المملكة لكافة المواطنين!! وبالتالي لماذا كل هذا التعدي على الحقوق الديمقراطية للطلاب؟ وباختصار ان التجاوز هذا يعد سابقة خطيرة تتعارض مع مكتسبات المشروع الاصلاحي ومع حقوق الانسان. مرة اخرى، نحن على ثقة من ان وزير التربية والتعليم سيحل هذا الاشكال بشكل يحفظ حقوق الطالبة نور وكل الطلاب بالجامعة وكذلك ثقتنا الكبيرة في رئيس الجامعة د. ابراهيم جناحي الذي عرف عنه مرونته ورحابة صدره في ان يبذل جهداً كبيراً في ترسيخ ثقافة الديمقراطية في الجامعة وان تعود نور الى مقاعد الدراسة وفي المقابل ان تبقى جامعتنا الوطنية منارة للعلم والمعرفة والثقافة والديمقراطية والتطور الاكاديمي والاداري.
 
صحيفة الايام
19 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

وسيظل المناضل عبدالرحمن النعيمي شامخا


إن الزيارة التي قام بها الرفاق المناضلون في (جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي) وعلى رأسهم الأمين العام للجمعية المناضل الدكتور (حسن مدن)، والرئيس الفخري للجمعية المناضل المحامي (احمد الشملان)، للمناضل التاريخي (عبدالرحمن النعيمي) شافاه الله في ليلة يوم السبت الموافق 5 سبتمبر .2009 هي زيارة ليست بالزيارة العادية او الإنسانية فحسب، بقدر ما هي زيارة تاريخية وطنية ومبدئية.. زيارة تليق بمقام المناضل الرمز الوطني (عبدالرحمن النعيمي)، وتنسجم مع تاريخه الوطني المضيء.. لأن من قام بهذه الزيارة هم رفاق الدرب الوطني الطويل لـ (أبي أمل).. هم رفاق عاهدوه بأنهم بنهجه الوطني ملتزمون، وعلى دربه النضالي سائرون.. لكون تاريخهم الوطني ينصهر بالتاريخ الوطني لرفيق دربهم في بوتقة واحدة من النضالات الرائعة والتضحيات الرائدة طوال أعوام خلت.

ولعل من دواعي الفخر ان هذه الزيارة قد حملت في جوهرها مغازي كبيرة ومعاني عظيمة.. لتجسيدها (ارثا وطنيا وتاريخيا ومبدئيا).. يمثل جزءا محوريا من حياة المناضل عبدالرحمن النعيمي، ويعكس جزءا مفصليا لأفكاره الوطنية والقومية والأممية، التي كان مسكونا بها ما بين جنبات عقله وفي اغوار دواخله، وفي مكنونات جوارحه، وما بين وجدانه وجوانحه.. وبالتالي انعكاساتها بكل جلاء في تلك الثوابت المبدئية وحقائق النضالات المستمرة والمتسمة بالنفس الطويل والعنيد.

أيها الرمز الوطني (عبدالرحمن النعيمي): مثلما عرفناك شامخا في صحتك.. فإننا وجدناك أثناء تلك الزيارة عظيما في مرضك.. لأنك قطعت فيما مضى اشواطا كبيرة من طريقك النضالي الصعب عبر عقود من الزمان، تجاوزت أوجاعها المرة قسوة مرضك.. مرضك الذي الم بك نتيجة لردود أفعال مؤلمة ومريرة، انعكاسا لواقع أكثر مرارة، وتجسيدا لظروف موضوعية هي أعمق إيلاما من ردود الأفعال تلك.

انك اليوم أيها الرفيق المناضل: طريح لفراش المرض لا تتكلم.. لأن لسانك الفصيح الصريح قد أبى أن ينطق ببنت شفة، بعد ان تجاوب هذا اللسان الطليق بما كان يعتمل في أغوار النفس من معاناة كبيرة وآلام عظيمة، حولت أهوالها وفظائعها دموع البكاء دما.. ولكن بالرغم من ذلك كله فإن نضالاتك الكبيرة وتضحياتك المبدئية من اجل شعبك ووطنك قد تنطق بجلاء في سجل الخالدين.

انك اليوم أيها الرمز الوطني: تعاني الداء الذي عجز عنه الدواء، فيلفك ثوب السكون والصمت والهدوء.. ولكن صمودك الشامخ والمشهود له بالحضور الدائم في مواجهة قسوة المنافي وأتون الفيافي، منتصرا على ويلاتها ووحشتها، قاهرا غربتها واغترابها فترة تجاوزت الثلاثة العقود.

لقد تكلمت بالفم الملآن أمام العيان والبيان، ونطقت باللسان الجريء أمام شعوب العالم العربي قاطبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى شهادة (الإنسانية والتاريخ).. بأنك كنت سفيرا للشعب ورمزا للمعارضة وكاتبا تقدميا ومثقفا ملتزما وسياسيا محنكا تبوأ أعلى المناصب الحزبية التقدمية.. ألا وهو الأمين العام للجبهة الشعبية.. مثلما أبدعت بنضالاتك في عهد الإصلاحات العامة في تبوئك منصب الأمين العام لجمعية العمل الوطني الديمقراطي.. منصبا تنسجم مهماته ومسئولياته ومرتبة المناضل الأول والمناضل القائد الذي امتلك صفات المناضل الحقيقي بوعي حقيقي ونضج فكري، وتجليه بجرأة المواقف الوطنية والتزامه بالمبادئ الأممية وتفانيه وقضايا شعبه وسيادة وطنه، وتميزه ببسالة الأبطال باستعداده للتضحية في الصفوف الأمامية واتصافه بالمثل القيمة والأخلاقية، وسموه بالسلوكيات الإنسانية والمجتمعية والجماهيرية.. فاستحق هذا المنصب الرفيع والمنصب المشرف.

ولعل الشيء بالشيء يذكر هو بحسب ما وجدنا المناضل التاريخي شامخا بمرضه، فإن زوجته ورفيقته وشريكة حياته (أم أمل) كانت شامخة كالجبل صامدة كالطود.. ورغم مكابدتها الآلام وعميق الحزن الذي يكتنف دواخلها واغوارها.. فإن ابتسامتها امام ضيوفها الذين استضافتهم على الرحب والسعة، كانت مضيئة بجلاء.. مثلما بدت صابرة ومتصابرة، في مجابهتها مرارة الهم العظيم فتخرج منتصرة بعد تجرعها هذه الكأس المرة بمرارة العلقم والحنظل، حتى بلغت بإرادتها ورغبتها الأكيدة عنان السماء.

وقد أصاب الفلاسفة والحكماء بمقولتهم: “وأي هم على الإنسان يكابده حينما تطحنه نوائب الدهر طحنا، وتسحقه نكبات الزمن سحقا، فيخرج منها سليما”.. هكذا آمنت المناضلة (أم أمل) بالحكمة القائلة “ان الابتسام عند الشدائد يعلو على معنى الصبر”.. لكون المناضلة (أم أمل) تزداد صلابة كلما ألمت بها كوارث الزمن الرديء وفي عصر التردي.. وتترسخ صمودا كلما توسعت حولها دائرة عسف الحيف والظلم وتعسف القهر السياسي.. فهي المرأة العظيمة بحسب المثل الشهير القائل: “إن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة”.. حتى نسجت (أم امل) أروع الملاحم النضالية عضيدة ورفيقة درب نضالي شائك للمناضل الكبير (أبي أمل) في أسوأ اللحظات وأتعس الساعات التاريخية والمفصلية خلال سنوات الجمر.

في نهاية المطاف ينحني المناضلون إكبارا للإنجازات الوطنية المبدئية للمناضل التاريخي (عبدالرحمن النعيمي).. متمنين له الشفاء العاجل في ان يرفل بأثواب الصحة ترفرف عليها راية السعادة ورافد الحياة المعيشية الهانئة.. والنضالية الرائعة.. مثلما عاشها بمفاهيم النضالات المتألقة وعايشها بتداعيات التضحيات المضيئة، حملها على كواهله وأضاء دروبها باستنارة أفكاره وشجاعة انتماءاته انطلاقا من قناعاته وبمحض إرادته وبإحساسه بشعور من المسئولية الوطنية والمبدئية والتاريخية التي آمن بها في أنها (تكليف لا تشريف).. وواجب وطني يؤديه من اجل شعبه.. بل من اجل أناس لا يعرفهم.. ولم يلتقهم البتة، سوى تجاوب لنداء ضميره اليقظ الذي دفع به إلى ان يسمو بمواقفه الوطنية والمبدئية والأخلاقية شامخا شموخ الجبل.
 
أخبار الخليج 18 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

قانون «البندول»

في حوار نشر على موقع ‘الحوار المتمدن’ في العام 2007 مع فولفجانج جيركه، المتحدث باسم حزب اليسار الألماني سألوه عن ‘منافع ومضار’ مشاركة الأحزاب السياسية في الحكم مع اليمين؟ فقال جيركه: ‘في ايطاليا يتحدث اليسار عن ‘قانون البندول’ ويقصدون أن مشاركة اليسار في الحكم تأتي لليسار بخسائر وتوسع المجال أمام اليمين. هذا حدث معنا أيضا، ولكن لا يجوز الرفض العام للمشاركة في الحكم. بل ينبغي ان تصاغ شروط المشاركة بشكل صحيح. لا يجوز على سبيل المثال أن يقبل اليسار المشارك في الحكم أن تشن الحكومة حروبا، أو أن تسلب الحكومة حقوق الشعب.
قبول المشاركة في الحكم يجب أن يقترن بالاستعداد لتركها. وهذا صعب بالفعل ولكن قد يصبح ضروريا. طبعا الاستئثار والسلطة يعرقلان هذا. من الضروري أن تبسط القواعد رقابة على سياسات الحزب وشرط القبول بالمشاركة يجب أن يوضع في مكانة عالية’.
حين نتأمل مثل هذه التعابير بعد الانهيارات المدوية لاشتراكيات دول كثيرة بعد انهيار سور برلين والاتحاد السوفيتي، يبدو أن هناك لا زالت فرص موجودة أمامها وأطروحة ‘نهاية التاريخ’ التي راجت في التسعينات لم تعد صحيحة، أي أن الاشتراكية ‘لا زالت قابلة للحياة’، والدليل أيضاً توجه أميركا اللاتينية إلى اليسار، أو يسار الوسط، وكذا الحال في أوروبا اليوم، والأهم حال مصير البشرية وسط تردي الحياة الاجتماعية في أرجاء العالم الذي يبحث عن بديل للجشع الرأسمالي.
في هذا الملف ‘نهاية الأسبوع’، نتناول بشيء من الإسهاب، عددا من القضايا إلى جانب موضوع الانتخابات الألمانية العامة التي ستجري في السابع والعشرين من الشهر الجاري، وبروز حزب اليسار الألماني الذي تأسس منذ عامين، وتحديداً في أيار عام ,2007 حيث اقتحم الحياة السياسية بقوة غير مسبوقة على مستوى الانتخابات المحلية التي جرت في 30 أغسطس الماضي، وحقق فيها نتائج لائقة، وتزايدت شعبيته في استفتاءات الرأي في الآونة الأخيرة.
 
صحيفة الوقت
18 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

الفنون في الأديان

اضطر العرب المسلمون في نقلتهم الحضارية بين الجزيرة البدوية الصعبة ذات التاريخ المرير واحتلالهم للشمال الزراعي الغني إلى أن يختزلوا الكثير من المظاهر الحضرية ويشكلوا سمات حضرية خاصة بهم من دون أن تكون هذه السمات متناسقة تمام التناسق.
من الجوانب البارزة في هذا الموقف الرسمي من الفنون، والموقف الرسمي هو الموقف المسجل في الوثائق الدينية المعتمدة للأنظمة السياسية التي تتالت بعد هذا.
كانت الشعوب القديمة الوثنية بطبيعة دياناتها تقدس الفنون، فهي مدار حياتها، فالإنتاج كالبذر والحصاد والصيد وبالتالي الأعراس والولادات والختان كلها تجري من خلال فنون الشعر والغناء والرسم والنحت، ولكن هذه الفنون تجري بتقديس الآلهة لهذه الشعوب، فهي جزءٌ من حياتها واحتفالاتها.
وقد وجد العربُ المسلمون أنفسَهم مع قدومِهم لمسرح التاريخ في المنطقة بشكلٍ متأخر، أنهم يحاربون الوثنيات بقوة، وهي التي تمثل تعدديات الدول وتنوعها وسلطات المدن والقبائل والشعوب المتختلفة. ولم يكن مستواهم الثقافي في ذلك الوقت يتيح التمييز الدقيق والفصل بين ما هو وثني وما هو فني إنساني.
فلم يفصلوا بين محاربتهم للوثنية ومحاربتهم للفنون، التي كانت هي مندمجة فيها، بحكم التطور الطويل السابق، فظلت الأحكامُ الفقهية في الأجيال التالية من دون معرفة العلل فيها، ثم تغيرت الظروفُ الوثنية المرتبطة بتلك الفنون، لكن الأحكامَ الفقهية بقيتْ على حالها.
كان الساحرُ قديماً هو الفنان النحات والشاعر والراقص والصياد، ثم تخصصت صفاته في فنانين متنوعين، فالشاعر المغني انفصل عن الساحر، ثم أن الشاعر كذلك انفصل عن المغني وعن رجل الدين، لكنه انفصال غير تام وحاسم، فالثلاثة في علاقة متداخلة، كأشكال متقاربة من الثقافة، نظراً لأن الموسيقى والقداسة تجمعها.
فهذه هي كلها في عرف القدماء نتاج السماء أو وادي عبقر أو الروح أو الالهام، فرجل الدين يصنع الشعر ويغنيه ويؤثر من خلاله في الجمهور.
ومن هنا بقيت في الكنيسة المسيحية علاقة رجل الدين بالغناء، فهو إن لم يتحول إلى مغنٍ تماماً فهو ينشد، أو يقرأ بموسيقية ما، ويضعُ آلة موسيقية في الكنيسة، ويدعو المؤمنين إلى الترتيل معه، أو الإنشاد أو الغناء.
المسيحيون كسكان مناطق زراعية متحضرة قديمة، لم ينشئوا دولة بسرعة العرب المسلمين، ولهذا احتفظوا بتقاليد فيها وثنية وتعددية إلهية وتراث موسيقي قديم، وانتقلت تدريجيا إلى أوروبا وبعد قرون ومع البعث “النهضوي” والتراجم الإغريقية تحولت إلى نهضة جديدة عالمية.
أما العرب فعلى العكس أرادوا ازالة المظاهر الوثنية بقوةٍ وسرعةٍ حتى لا تتفكك دولتهم الطرية، فعارضوا أي تذكير بالماضي حتى لو كان فنيا واحتفاليا فرحا، وكان يمكن لهذه الاحتفاليات والمظاهر الوثنية أن ترتبط كذلك بمعارضاتِ الشعوبِ ومؤامرات الامبراطوريات الكبيرة المهزومة في ساحات القتال.
وفيما بعد حين زالت تلك المظاهر التاريخية السلبية المؤقتة، لم يكن بإمكان الفقه الحكومي المتصلب أن يقرأ ذلك في ضوء التحولات، وبقي في الموقف الرسمي وخاصة في الاتجاهات السنية، وكلما زاد في بدويته وشكلانيته قل تعليله للتاريخ الاجتماعي الديني.
لكن الشعوب الإسلامية لم تكن تعبأ بالموقف الرسمي الديني، فقد كانت شعوباً أدبية وفنية بحكم تقاليدها الطويلة وتجاربها الإنسانية، فانتشرت الفنون والآداب على نحو هائل فيها، فكانت أكثر الشعوب إنتاجاً وقتذاك في التراث الإنساني.
وقد حافظت كذلك على الوحدانية، لكن العلاقة بين رجل الدين والفنون ظلت متضادة، فحافظ شيخ الدين المسلم على طبيعة الراهب المتشددة فيما يتعلق بالفنون في زمن الفتوح الإسلامية، أي ذلك الراهب المجافي للغناء والفنون عامة، خاصة الحركية منها والمرتبطة بالرقص فهذه أشد اقتراباً من الماضي الملغوم، الماضي المرتبط بالفنون المذمومة، والشهوات، وفقد الوعي، من أجل ألا ينزلق إليها المؤمن ولا يهوي في الوثنية، رغم أنها جميعاً غدت لا علاقة لها بذلك الماضي البعيد، وأن المسلمين انتصروا منذ زمن بعيد وأن تلك الروح الحربية لم تعد ابنة زمانها. لكن روح الأحكام العرفية مستمرة خاصة مع حكم المناطق العربية المحررة من هيمنة الدول السابقة، التي كانت تزدهر بالفنون الوثنية لكن بعد استقرار الفتح العربي تلاشت، وبحثت الفنونُ العربية الإسلامية عن الجمع بين التوحيد والفرح والرقص والتشكيل والمسرح والموسيقى.
لكن موقف عالم الدين التقليدي استمر وظلت معاداته للفنون قائمة حتى بعد زوال أسبابها، فهو يعارض أنواع الفنون كافة حتى لو كانت التجريدية منها وغير المرتبطة بالحراك الجسمي المبتذل، والمصعدة للنفس والروح في حالات إنسانية راقية. فيبدو له ان الفنون تخفي ورآها أوثاناً.
وهذا يعود لاستمرار الأحكام التقليدية الفقهية طوال قرون سيطرات الأسر الخاصة.
لكن ذلك يغدو مستحيلاً خاصة في العصر الحديث فالموسيقى تملأ الحياة والسياسة والعالم، والموسيقى لابد أن تدخل في كل مكان، ومن هنا تنازل شيخ الدين التقليدي للموسيقى الحربية أن تدخل عالمه، فهي تماثل روحه القتالية المستمرة، فاستعان بها للأناشيد والجنائز.
ولا شك أن قضية إدخال الموسيقى في الفرح والاحتفال ستظل هاجساً، وقضية خطرة، بسبب انتشار الثقافة الغربية واعتماد الموسيقى والفنون كمناخ احتفالي اجتماعي جذاب، لكن هذه الثقافة تختلط فيها الجوانب العظيمة والجوانب المبتذلة، كما تغدو وسيلة اجتماعية لنشر المخدرات والجريمة في بعض الملتقيات. ومن هنا ضرورة الفصل بين هذه الأنواع وعدم التعميم.

صحيفة اخبار الخليج
18 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

الطلبة… صوت بلا صوت

يشعر المواطن كما هو الطالب في جامعة البحرين بكثير من الإحباطات والهموم التي تبدو واضحة في كثرة الردود والاتصالات التي ترد إلى الصحافة منذ نشرها لقضية الطالبة «نور حسين»… هذه القضية التي تحولت إلى رأي عام، ولاسيما مع شريحة الشباب التي تمثل جزءا كبيرا من كثافتنا السكانية.
ومجلس الطلبة الذي أشرنا إليه بالأمس يبدو أنه مسلوب الإرادة، لا صوت له، وقد أشار قارئ معلقا «كوني أحد منتسبي جامعة البحرين وأعرف كل صغيرة وكبيرة بحكم الفترة الطويلة التي عملت فيها في الجامعة، أستطيع أن أجزم بأن تشكيل مجلس طلبة جامعة البحرين ما هو إلا ديكور فقط لاستكمال بقية ديكورات الجامعة الجامدة التي لا تنطق، وإن نطقت نقد طقت كفرا، مجلس الطلبة لا حول له ولا قوة، ضعيف في تركيبته بل ضعيف في كل شيء، وإذا كنتم تعولون على هذا المجلس لإحداث شيء إيجابي للطالبة نور فإنكم بلا شك تحلمون لأنه أضعف من بيت العنكبوت حاله كحال بعض العمداء وبعض مدراء الدوائر الإدارية».
وأضاف «ناهيك عن أن الجمعيات والأندية الطلابية في جامعة البحرين في أغلبها محتكرة لجماعات مسايرة لإدارة الجامعة، وإدارة الجمعيات الموالية تقوم بإقصاء الطلبة المخالفين لها انتماء وفكرا على مرأى ومسمع من إدارة الجامعة بل ودعم من خلف الستار لها، حتى تفجرت هذه السياسة عن إيقاف عضوية أكثر من 220 طالب وطالبه من كلية تقنية المعلومات لأجل أن تبقى الجمعية محتكرة ومحصورة لفئة تتوارث الجمعية سنة بعد سنة. ماذا فعلت الجامعة في قضية جمعية احتكار جمعية تقنية المعلومات؟ الجواب عاقبة كل من أراد التصحيح».
إن مثل هذه الردود توضح أن الدعوات التي أطلقت لإخماد «نور» لم تلقَ صدى بقدر ما حققته هذه القضية وإبعادها من إجماع جماهيري بأنها قضية تحمل أبعادا غير مطمئنة، تحذر أي طالب وأي شاب من قول رأيه في أي شيء كحال بعض المسئولين الذين لا يتحملون أي نقد ولا يعترفون بتقصيرهم في قضايا كثيرة حاولت طرحها الصحافة أكثر من مرة.
إن ثقافة سماع الطرف الآخر للأسف مازالت غير معروفة داخل مجتمعنا بمعناها الصحيح، فلو كانت موجودة لما تعززت ثقافة عدم سماع الرأي الآخر وفكر الآخر وعقلية الآخر وحتى مظهر الآخر.
جميع ما ذكر يشير إلى أن مجتمعاتنا مازالت أسيرة الرأي الواحد والثقافة الواحدة وبالتالي فإن إلغاء ثقافة ورأي الطرف الآخر هي مسألة طبيعية لا شاذة، والشاذ هو أن تقول رأيك بصراحة، لا نقد ولا هم يحزنون.
يبدو ان بعض المسئولين من الجميع أن يغطي ويجمل كل موضوع وكل رأي وكل قضية وكل مشكلة لكي لا يتعكر صفو هذا الديكور المجمل، وحتى لا تتعثر المصالح ولا يخسر البعض مكاسبه الأنانية التي تأتي على حساب أشياء كثيرة أهمها الوطن والحرية.
 
صحيفة الوسط
17 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

من «نور».. نشمُّ رائحة «أشدب»

جُلنا مارس السياسة، وإن ادعى أحدنا عدم تعاطيه العمل السياسي، الذي كان إلى وقت قريب عندنا في البحرين يشكل تهمة مخيفة أعظم وأشد من المتاجرة بالمخدرات، وغسيل الأموال، والمتاجرة بالبشر أيضاً.. فلم نسمع في تاريخنا المعاصر، أن تاجراً للمخدرات، أو فاسداً إدارياً أو مالياً، أو منتهكاً حقوقياً تم تعذيبه إلى حد التصفية الجسدية، مثلما خبرنا ممارسات ارتكبت ضد الذين يقرؤون الكتب (تلاميذ مدارس، طلبة جامعيون، أو مثقفون، منتمون للحركة الوطنية بنشاطها السياسي السلمي، وغير المنتمين أيضاً): فحينها كانت كل وزارات الدولة «تخاف من كتاب لا يحمل مولتوفاً ولا يفجر سلندر غاز، ولا هم يحزنـــون!»، تـــارة ينعتــونــه بـ «الهدام»، وتارة أخرى يتهمونه بـ «التحريض على كراهية الدولة والنظام»، وخذ على ذلك ما أصاب قراءه من سجن، تعذيب، قتل، نفي، فصل من أعمال، شظف عيش، تشرد، وسحب جوازات طلبة يدرسون في الخارج حرموا على إثر هذه الممارسات من مواصلة دراستهم الجامعية.. والبقية تعرفونها.
؟؟؟
قبل نحو عامين وجدتُ ابنتي «حنين» منهمكة في قراءة كتاب من اليوم الأول الذي وصلت فيه من الخارج إلى البلاد في عطلة جامعتها الصيفية، فسألتها: ما هذا الكتاب الذي يشغلك عنا منذ الساعات الأولى لوصولك؟!.. قالت: رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، ثم سألتني: هل قرأتها بابا؟.. نعم حبيبتي.. لغتها جميلة، ولكن من أين لك هذه الرواية؟ أهدتني إياها صديقتي «وفاء».. إذاً، أريني إياها.
فتحت الصفحة الأولى بفضول، فوجدت إهداءين؛ واحداً مكتوباً بخط اليد من «وفاء إلى حنين»، جاء فيه على ما أذكر: «من الصعب أن أفكر يوماً أن أهدي هذه الرواية لأي كان، غير أنه لا أعزها عليك يا أعز صديقة عندي.. تمتعي!»، أما الإهداء الثاني، طبعاً من الكاتبة: إلى مالك حداد.. ابن قسنطينة الذي أقسم بعد استقلال الجزائر ألاَّ يكتب بلغة ليست لغته.. إلى آخره.
غمرتني الفرحة مرتين: الأولى لأن ابنتي الشابة تقرأ هذه الأنواع من الروايات والكتب، والفرحة الثانية، أن صديقتها الشابة أيضاً، تقرأ مثلها بالحماس وحب المعرفة والمطالعة نفسها، قلت وفي داخلي غبطة: مادام شابات وشباب اليوم يقرؤون، فمستقبل بلادنا سيصبح في يوم ما «عال العال» لا محالة بفضلهم، وبفضل بلد لم يعد يخاف من كتاب، بل يفتخر بانفتاحه على الثقافات المتعددة.
تذكرت هذه الجزئية أثناء متابعتي لفصول قضية الناشطة الطلابية الشابة نور حسين وقصتها مع جامعة البحرين، فزاد الإفراط في تفاؤلي من جهة الشباب بحيويته، وإحباط من «أدوات عتيقة» مازالت تمسك بمفاصل مؤسسات مفترض عصرية لفجر جديد قد بزغ أخيراً عندنا.
؟؟؟
قرار الجامعة الذي شطب خمس مواد كانت قد درستها نور حسين في الفصل الماضي واجتازتها بنجاح وتفوق للعام الدراسي 2008/,2009 جاء عقاباً على توزيعها بياناً بمناسبة يوم الطالب البحريني في 25 فبراير/شباط الماضي بشأن أوضاع الجامعة، والذي وصفه أحدهم، ربما يحمل شهادة دكتوراه في «الفيزياء النووية» ولا ندري: بـ «القرار الجامعي النزيه والمحترم بحق نور»؛ لأنه على ما يبدو، لا يمثل في قسوته ما تعرض له أمثالها من فظائع وشظف عيش في حقبة قانون تدابير أمن الدولة، السيئ جداً جداً، لكنه مع ذلك، يُذكرنا بحقبته السوداء، ومقصلته المدمرة على الناس والحكم. وليس بعيداً إن لم يتدارك المسؤولون، قبل فوات الأوان، وعلى رأسهم طيب الذكر وزير التربية والتعليم، الدكتور ماجد النعيمي للتدخل بروح وطنية، غيورة، كما عهدناه، تخاف على سمعة البحرين لوقف «غلطة، أو خزبيقة» أمناء الجامعة وعلاج المسألة، أن يخرج علينا قريباً من يقول: «ها.. هل صدقتم أن عندكم ديمقراطية، وبحبوحة من الحريات السياسية والنقابية، كما تدعون صبح مساء، وأثخنتم آذاننا من كثرة ما ترددون تلويث أسماعنا بمثل هذه المفردات، حيث الممارسات تعكسها إلى النقيض؟!».
ألا تخافون من يتقول على الجهات الرسمية هذا الكلام في الداخل والخارج، والمحافل الدولية، بينما تصابون بالرعب من بيان وزعته نور يحمل شعار قائمة الوحدة الطلابية التابعة لجمعية الشبيبة؟
حتى وكما تزعم جامعة البحرين في بيان صادر في عطلة رسمية (يوم جمعة) بأن هذا البيان يحمل شعار جمعية الشبيبة، وما الضير في ذلك؟.. ولمَ الحساسية وهذا الحد من الإفراط في الفزع، والهلع؟
حتى لو كان البيان، لنفترض جدلاً، قد صدر من جمعية الشبيبة، فهل تشمون منه أو من «نور» رائحة «أشدب» – اتحاد الشباب الديمقراطي، لأنه يذكركم بنضالات وتضحيات كوادره ومنتسبيه السابقين في المدارس والجامعات والمصانع وفي الفرجان، والتي لولاهم ولغيرهم من الناشطين السياسيين والحقوقيين، لما ارتفع سقف الحريات في بلادنا مليمتراً واحداً؟
يا أمناء جامعة البحرين «صلوا على النبي»: لا تتقووا على «فتاة رقيقة، نجيبة، متفوقة، ناعمة من عمر أبنائكم وبناتكم».. وفروا جهدكم في هراء تعسف «القوانين واللوائح»، وكذا استعراض العضلات الكارتونية، ببديل ديمقراطي يخاطب العقل بروح التسامح، الذي لا يكلفكم «ديناراً أحمر واحداً»، ليمارس فيه طلبتكم الحقوق والحريات، بدل دفعهم بإصرار المطالبة بها وتدويلها بكل أشكال التضامن الأممي مع نور وكل من تنتهك حقوقه.. فالزمان قد تغيّر، وبقاء الحال على ما هو عليه، كما كان في السابق من المحال.. ولو طال الزمن.
 
صحيفة الوقت
17 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد