المنشور

مقاربة إسلامية للحداثة

تنشأ في العديد من الدول الإسلامية جماعاتٌ صغيرةٌ من الفرقِ الدينيةِ الإسلامية متجهةً لاختيار طريق الحداثة بما يتضمنهُ من مبادئ ديمقراطية وعلمانية وعقلانية.
تنشأ ضروراتٌ للفئاتِ الاجتماعية الصغيرة من محامين ومثقفين وموظفين وتجار وغيرهم كي تعارض دكتاتوريتين: دكتاتورية الأنظمة الحكومية الرأسمالية، ودكتاتورية الجماعات السياسية المذهبية المستخدمة للإسلام في سبيل توسيعِ نفوذِها المحافظ الخطر على تطور الأمم الإسلامية.
استيلاءُ الحكوماتِ على أغلبيةِ المال العام يجعل الشركات الخاصة والتجار الصغار تعيش على فيضِها وعلى رحمتِها وميزانياتِها واعتماداتها، فمن رضيتْ عنه صمدَ وكبرَ في السوق ومن لم تصله مظلةُ الرحمةِ غرقَ أو ظلَ يبحثُ عن الأوكسجين المغذي وهو يوشكُ على الموت الاقتصادي.
ويتمكن بعضُ الجماعات المذهبية السياسية من العيش والصمود والمجابهة ضد الحكومات الرأسمالية البيروقراطية هذه، بسببِ تنوعِ البلدان الإسلامية وتعارض سياسات حكوماتها، فهذا التنوعُ يتيحُ أن تصلَ تلك الجماعاتُ المسيسةُ للإسلام بشكلٍ محافظٍ ويميني على أموال، تُقدم كهباتٍ من المؤمنين أو من جمعياتٍ معينة أو من الدولِ مباشرةً أو من الأجهزة الخفية عموماً، لتقوم تلك الجماعات السياسية الدينية المتنوعة، بدعم سياسات تلك الحكومات المرسلة للأموال.
وقد تلاقت فيما سبق مصالحُ وأهدافُ كلٍ من تلك الحكومات وتلك التنظيمات السياسية، في مواجهةِ خطٍ قومي تحرري، أو تحديثي يضعفُ وجود تلك الدول المحافظة التي غابت عنها المؤسساتُ الحديثة، وتجمدتْ فيها العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الطبقات الشعبية والأجهزة وضعفت العلاقات بين المناطق والجمهور، وبين النصوص الإسلامية والمقاربات العقلانية التحديثية، ودخلت مثل تلك الدول في تفككٍ وبدءِ تمزق داخلي بسبب تلك السياسة الدينية المحافظة المتخلفة.
لكن العلاقات تتغير بين الدول والجماعات الدينية، فقد أحس العديدُ من الدولِ المحافظة بخطورةِ البقاءِ في مثل هذا الجمود، وللعداء للغرب الديمقراطي، فحاولتْ أن تغيرَ من أجندتِها، في حين بقيت بعضُ الجماعاتِ التقليدية في ذات السياسة المعادية للتحولات الديمقراطية العالمية. وبقاؤها في ذلك حدث بسبب خطوطها الدينية المقامة فوق أجندة طائفية وأفكار غير عقلانية وغير ديمقراطية وذكورية شمولية، وعدم قدرة تنظيماتها على المراجعة النقدية، وعلى المقاربة مع الحداثة وعلى تقديس الزعماء وعدم الجدل مع النصوص.
إن ظهور جماعات صغيرة إسلامية تقاربُ الحداثةَ والديمقراطية، يأتي من ظهور تلك الفئات من المتعلمين والتجار والموظفين القادرة على تكوين تنظيماتٍ من دون اللجوء للتبعية للدول، والحصول على أموالِها، وبالتالي تعيشُ تحت مظلتها السياسية – الايديولوجية، ومن هنا استطاعت أن تطرح أشياءَ جديدةً على صعيد التنظيمات الدينية، خاصة القبول بالعلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، وتغيير حتى مواد (جوهرية) في الدساتير كالنص الغامض المؤدلج لخدمة اليمين: (الإسلام دين الدولة) والدفاع عن حق المواطنين في كل الآراء المتعددة، كما تفعلُ جماعةُ القرآنيين في مصر، لسحبِ عمليةِ التجارةِ الطويلة المضنية للإسلام من قبل قوى الاستغلال، ولتفريقها المواطنين ولجعل البنى الاجتماعية محافظةً يتجذرُ فيها القهرُ للنساء والعامة، وقد دافع رئيسُ الجمعية أحمد صبحي منصور عن الباحث العلماني سيد القمني ، وحقه في نشر آرائه، كذلك رغم معارضته القوية لآرائه، طارحاً أفكاراً بعضها خصب وبعضها غير ناضجٍ كالحديثِ عن الأماكن المقدسة في السعودية.
أو كما تفعل جماعة الإسلام الديمقراطي في سوريا في خطتها لديمقراطية علمانية وطنية.
فثمة قوى متجبرةٌ حكوميةٌ استولتْ على معظم الشركات الكبرى ولا تريدُ حكماً ديمقراطياً، وكرست المذهبية السياسية كشكل ديني أساسي، وأوجدت تحجراً سياسياً تحتهُ تئنُ البلدانُ الإسلامية بفسادٍ وتخلف خطرين على مصيرها نفسه. ومشكلةُ الجماعاتِ الإسلامية الموحدة هذه غياب الدعم من القطاعات الاقتصادية الخاصة بدرجة أساسية، وكونها جماعات ثقافية تنويرية وليست قوى سياسية ذات أهمية وسط الجمهور. كذلك فإنها تعاني من اليسار التقليدي وعدم فهمهِ لتعقيداتِ المرحلة، ومن تأييدهِ للجماعاتِ الطائفية، بدلاً من تصعيد التنوير والديمقراطية. فهي ضائعةٌ بين يمينٍ خائفٍ ويسارٍ جامد!

صحيفة اخبار الخليج
17 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

فاطمـــــــة

لا أتخيل كيف سيكون العيد القريب بدونها. منذ عدت البحرين قبل سنوات وصورة العيد في ذهني تقترن بها، حيث تجتمع كل أطراف العائلة في بيت واحد، بعد أن توزع الجميع السكنى على أكثر من منطقة من مناطق البلاد، وانصرف كل إلى تدبر شؤون الحياة التي تزيد ولا تنقص. في جلسة العيد هي اكبر الحاضرين سناً، لكنها اقلنا كلاماً، حيث تجاهد، دون نجاح، لمداراة خجلها الذي ظل طفولياً حتى رحيلها، خلف تعابير الطيبة التي تشع من وجهها. يخيل لي، أحيانا، كما لو أن كل الطيبة اختزلت في هذا الوجه، أو كما لو أنها هي الطيبة تمشي على الأرض. لم تذهب فاطمة إلى الجامعة، ولا حتى إلى المدرسة، لكن الإنسان لا يُلقن الحنان أو الطيبة في المدارس أو في الجامعات، إنهما عطية ربانية، يهبهما الله لمن يشاء من خلقه، ورغم سنوات عمرها التي قاربت السبعين ظلت فاطمة محتفظة بكل هذا الدفق الهائل من الطيبة والحنان، الذي لم تفلح متاعب الحياة وتشوهاتها أن تنال منه، وكان لكل من جاوروها نصيب من هذا الدفق، على شكل رعاية استقرت في نفوس هؤلاء، وقد أصبح الكثيرون منهم، كبارا، آباء وأمهات. بعد أن توفيت أمي منذ نحو ثلاثين عاماً، أصبحت تتعامل معي كما لو كانت أماً لي، خاصة وأني أصغر أخوانها، وقد صرت وحيداً بعد أن رحل الآخرون، وراحت تتسقط أخباري وأنا أتنقل من بلد إلى آخر. بعد غياب قسري طويل عنها فرضته ظروف الحياة التي قست علينا، التقيتها في الشارقة عندما أتيتها أول مرة، ولن أنسى تلك اللحظة المؤثرة، والمربكة، في نفس الوقت، حين أغمي عليها وهي تندفع نحو حضني معانقة إياي، وعندما عدت البحرين خشيت عليها من الأمر نفسه، أوصيتهم ألا تحضر المطار، ولكنها أصرت على المجيء. فرحة عودتي هذه المرة جعلتها أكثر تماسكاً، ولكن اندفاعتها القوية نحوي بيديها المفتوحتين ذكرتني بلقائنا في الشارقة. فاطمة بنت عبدالله مدن، أختي، التي عاشت بهدوء، اختارت أن ترحل بهدوء أيضاً. كانت في حال صحية طيبة، ولكن تعباً مفاجئاً أدركها. لزمت سرير المرض يومين أو ثلاثة فقط، ثم ودعت الدنيا، مخلفة في أذهاننا وأفئدتنا، نحن أحبتها، صورة وجهها الوديع الطيب الذي لن نراه في العيد القريب.
 
صحيفة الايام
17 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

أسرة الأدباء (11) ماذا بعد الأربعين؟!

نود في حلقتنا هذه التركيز والحديث على مسيرة أسرة الأدباء والكتاب خلال عقودها الأربعة، مع تدبيج اعتذار حار لكل من نعرفهم أو لا نعرفهم شخصيا، إن لم نعرج لذكر اسم من الأسماء التي شيدت معمار ثقافتنا المعاصرة والحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين. فمثل ما ذكرت سابقا انني هنا لا أخوض في ميدان التحليل والاستعراض لكل المنتوج الأدبي الغزير وعلاقته بالمرحلة، وإنما كان الهدف فقط هو تقديم بانوراما مكثفة ومرحلية، لعلها تكون جزءا من مشاركة متواضعة منا لاحتفالية الأسرة بعيد ميلادها الأربعين. ولكون الكتابات الصحافية مختلفة من حيث الدقة والصرامة البحثية، لهذا لم نقاربها ونقترب منها كما توقع البعض. فإننا كنا نرغب من خلال الحلقات إبراز المحطات والمشاهد والشهادات لمعاناة الأوائل من الأدباء الشباب، في مناخ اتسم بخصوصيته التاريخية كما اشرنا لها في قراءاتنا التاريخية المتزامنة مع تاريخية تأسيس وتطور الأسرة، وتداخل الأصوات الأدبية الإبداعية مع الأصوات المجتمعية والسياسية المحتجة والساخطة، كجزء من مشروع وطني تحرري عام، بدا تاريخيا كالمخاض المؤلم، ولكنه الحتمي في مساره المتعرج والمستمر، والذي لا بد وان ينتهي بفرح غامر. وبما أن كل الأشياء التي تبدأ في نبتتها المبكرة، تمر بظروف صعبة وعصيبة، فان ولادة أسرة الأدباء والكتاب، التي خرجت من رأس منيرفا، حاملة قوس النار والنور، حاملة صخرة سيزيف وتمرد الالهة الدلمونية، فكان صوت التراث والأسطورة والواقع وكل أشكال التحايل الأدبي حاضرا، لكي لا يتم إيقاف الكلمة الممنوعة عند بوابة المرفأ. اليوم صاروا أعضاء الأسرة الأوائل في العقد السادس والسابع من عمرهم وغزا الشيب رؤوسهم، متمنين لهم جميعا الصحة والعافية والعطاء الدائم، فقد اختزنت ذاكرتهم تجارب المرحلة السابقة ونضوج مراحلها المتعاقبة حتى لحظتنا الراهنة، وهم مازالوا كبرمثيوس يحملون كرة النار في مواجهة الظلمة، فأعداء الكلمة والحرية يتربصون بها دائما ويخافون من سطوتها وقوتها التدميرية لبناء حياة إنسانية مختلفة، حتى وان كانت كالحلم البعيد واليوتوبيا الخرافية. لا يهم الرعيل الأول أن يمضي نحو الأبدية، ولكن، ظل قلقه الكبير بأن لا يترك بصمة صغيرة من إبداعه في كونية العالم، بأن يخلدوا الوطن في كلمات كانت سجينة أو محاصرة أو مقتولة. أربعون عاما لا يسعنا الوقت لإعادة انتاجها اليوم بصورة جديدة ومختلفة، غير إن التسلسل الزمني لثقافتنا البحرينية المتصلة كمشعل اولمبي وماراثوني يسلمه الرعيل الأول للذين سيرثون تاريخ الأسرة بأمانة وتقدير وتقديس للكلمة والحرية، من اجل عصر نهضوي وتنويري للبحرين المنشودة، وهي تضع لبنات اتجاه حركتها نحو التغيير في عهد المشروع الإصلاحي، الذي جاء مع عاهل البلاد، فحلّقت الأسرة بجناحي نسر في أحضان جديدة وفضاء له وجوه عدة، فأينما ستذهب ستجد نفسك محاطا برغبة المعرفة والإبداع والثقافة المتدفقة من زمن الانترنت، جيل سيحمل الأمانة كجزء من موروث وارث ثقافي للبحرين الحديثة وهي تدخل الألفية الثالثة بطموحات كبرى، فمشروع الديمقراطية وحقوق الإنسان، قطار لتوه يتحرك، وأمامه زمن من الجريان بين الأودية والصخور. لن يصدق الرعيل الأول في غفلتهم مع الزمن، أنهم امضوا أربعين عاما وهم يجالدون القسوة والمعارضة، بل والتغييب والتشويه والإساءة، حتى كان عضو الأسرة المبدع بلا جواز سفر ومسجونا في بيته ومحاصرا في عمله ومطاردا في لقمة عيشه، ومعتقلا بين كتابه وكلماته وحياته داخل قفص الموت. هؤلاء الأوائل بذروا الفكرة التي تجذرت شجرتها وتمددت وتعالت أغصانها واخضرت أوراقها، فنحن في زمن آخر ولحظة أخرى من التغيير وهوامش الديمقراطية. وعلينا أن نقيس المراحل والتجارب ليس فقط ببداياتها وإنما بنتائجها ونهاياتها أيضا، فان على الجيل الجديد من أعضاء الأسرة، التعلم من خصوبة التجارب الإنسانية وتنوعها، المحلية والعالمية، وان يمتطوا هم أيضا كفرسان الكلمة الجدد حصانهم التاريخي، ويجعلوا من مسار الأسرة وتاريخها يتلازمان مع الخط البياني للديمقراطية وفضاء الحريات المتاحة في مجتمعنا المدني، والتي كثيرا ما توضع لعجلاتها العصي لمنعها من الدوران فتتعثر وتنغلق حينا وتنفرج وتتفتح كالزهرة حيينا آخر، فإرادة الكلمة الحرة عنوان روحي وفكري لكل مبدع مهما اختلفت الأجيال والتجارب والمراحل. أربعون عاما وكأننا نبدأ انطلاقة بدم جديد يمتزج بلون النبيذ المعتق لكتاب وأعضاء مرحلة التأسيس، ليؤسس الجميع، الشيوخ والشباب، لمشروع ثقافي أرحب وأخصب وفعاليات أفضل في ظل حياة نيابية أشبه بالحضانة وعالم من الشفافية ودولة القانون وحريات المجتمع المدني وهي تواصل مشروعها التحرري الدائم من اجل الكلمة والإنسان. فهل نمسك بمقولة عظيمة ومهمة لشاعرنا الكبير ناظم حكمت »بأن أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد، وان أجمل البحار تلك التي لم نشرع لها أشرعتنا بعد، وان أجمل الأطفال من لم يولد بعد«. تلك الأمنيات والأحلام الجميلة حق إنساني للجميع، وتجاوزت حدودها القومية نحو الإنسانية العظيمة، بعد ان عادت لنا تلك الأغنية الجميلة من الحلم في خطابات عاهل البلاد، حيث أشار عن تلك الأيام الجميلة المنتظرة والتي لم نعشها بعد.
 
صحيفة الايام
17 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

صراع الرأسماليتين الكونيتين

إذا كان شكلُ الرأسماليةِ الغربيةِ قد اتخذَ طابعاً عالمياً تغلغلياً على مدى قرون، فهو قد اتسم بالجمود حيناً وبالمرونة في أحيان كثيرة، جاعلاً قوى الإنتاج الغربية في حراك مستمر.
في القرون الأولى بدءاً من القرن الـ 15 حتى نهاية القرن الـ 19، كانت القرون الأولى هي قرون التجميع الرأسمالي والتراكم التي جعلتْ من الرأسمال الصناعي بؤرة الرساميل المختلفة ومفجر العلوم والمدنية، وهي قرونُ الاستعمار وجلب المواد الخام وتكوين شبكات الأسواق، التي أنشأتْ كذلك بؤرةَ الرأسماليات الكبرى، أمريكا الشمالية، وبريطانيا وفرنسا، لتنضم إليها بضعفٍ وتلكؤ الأخريات: ألمانيا وإيطاليا واليابان، دولُ المحورِ المتخلف والقافز في مغامرات عالمية، وعلى مدى العلاقات بين الرأسمال الصناعي وبقية الفروع، وشبكة العلوم والقوى العاملة، كان يجري التراكم التقني، الأبطأ، في وضعِ سيطرةِ الصناعة.
ومع تجذرِ الرأسمالِ الصناعي الغربي حجر الزاوية في الحضارةِ البشرية المعاصرة، كان بقيةُ العالم ينتقلُ لتطوراتٍ رأسماليةٍ متفاوتةٍ ضعيفة، خاصةً في شرق آسيا حيث البلدان الأكبر من حيث الرقعة الجغرافية والمليئة بالمواد الخام والثروات البِكر، لكن هذا الرأسمال الصناعي الشرقي المُفترضَ نموه بقوة، كان ممنوعاً، ولهذا كانت الجزرُ اليابانيةُ البعيدة المُحصنة، شكلاً طبيعياً للحماية الاقتصادية، فيما كانت الثوراتُ(الشيوعية) شكلاً آخر لتلك الحماية.
وعرفتْ أمريكا اللاتينية شكلاً آخر لتلك الثورة وتجلتْ بحروبِ العصاباتِ الفاشلة عموما في إنتاجِ رأسماليةٍ قومية لاتينية. ومع سقوط المعسكر(الاشتراكي) حصلتْ على تلك الفرصة الكبيرة للتطور القومي المستقل.
إن تصادم الرأسماليتين الكبريين بدأ أولاً بشكلِ حربٍ بين الرأسمالياتِ الغربية نفسِها، بين المستوى المتطور وبين المستوى المتخلف، بين أمريكا وحلفائِها وبين ألمانيا وحلفائها، وفي هذه الحرب المدمرة توحدتْ الرأسمالياتُ الغربيةُ في بنيتِها العامة عبر التناقض، فرغم عدم حصول البلدان الأقل تطوراً على مستعمرات، وهو الهدفُ الذي عملتْ لأجلهِ، وذلك بسببِ تراجعِ نفقاتِها العسكرية ولعدمِ وجودِ جيوشٍ تصرفُ عليها وهي المهزومة والممنوعة من تكوين الجيوش، فكانت نتيجةُ هزيمتِها هي نفسها سببَ نموِها المتفوق فيما بعد.
عبرَت حركاتُ (الاشتراكية) والتحرر الوطني عن تشكيلِ رأسمالياتٍ وطنية مضادةٍ للرأسماليات المسيطرة، وهي أمورٌ كانت تضيقُ الأسواقَ، وتقلصُ الموادَ الخامَ المستنزفةَ من الشعوب، ومن جراءِ ذلك واصلتْ بنيةُ الرأسماليةِ المتطورةِ الغربية في التغيرِ التقني بعد تلك التراكمات الكبيرة في عدةِ قرون سابقة، وقد غدا الرأسمالُ المالي هو بؤرة الرساميل معبراً عن نقلة كبرى في البنية العامة للرأسمالية البشرية، وصارت قوى العمل اليدوي متأخرةً في أهميتِها الكاسحة السابقة، وانتقلت قوى العمل للذهن، وقوى التقنية، لتبدأ ثورة التقنيات والبرمجيات التي بدأت صغيرةً نادرةً، لتغدو بعد عقودٍ ثورةً تجتاحُ قوى الإنتاج وحقولَ المعرفة كافة.
ومن هنا فإنه لا المساحة الجغرافية ولا وجود الموادِ الخامِ الكثيرة غدت هي صلبُ الرأسمالية بعد أن صار رأسمالُ المال العالمي المتنقلِ مجسداً في أوراق كونية، لتغدو بلدان أصغر مساحةً، وأقل تبذيراً عسكرياً، هي قائدةُ التحولاتِ الرأسمالية، وغدتْ البضائعُ الاستهلاكيةُ المتطورة – التي تُصنع من خلال الثورة التقنية – قذائفَ كبيرةً تسقطُ الدولَ الكبرى المنتصرةَ في الحرب العالمية السابقة، كأمريكا من موقعها القيادي الأول وتفككُ الاتحادَ السوفيتي وتهمشُ بريطانيا الأمبراطورية السابقة.
إن سقوط الاتحاد السوفيتي هو بفعلِ حراك الرأسمالية القومية الروسية، التي تشكلتْ برجوازيتها في حضنِ الاشتراكية، وانتفضتْ قواها البيروقراطيةُ والعسكريةُ على الاذلال القومي الجديد المتمثل في سقوطِ برلين، وتهميشِ روسيا، فلم تعدْ قادرةً على دفعِ فواتير أممٍ متخلفة تابعة، وكانت تدفعُ ملايين الدولارات لدولٍ أخرى في أغرب تبعيةٍ بشريةٍ في التاريخ، فأرادتْ أن تصل لمستوى ألمانيا واليابان تقنياً بعد أن وجدتْ نفسَها مهزومةً في صراع الرأسماليات المتقدمة.
لكنها لم تستطع ذلك بسرعة، بسبب مواصلتها النفقات العسكرية الباهظة، وكون إنشائِها لبنيتِها التحتية الصناعية قد كلفَ كثيراً وجمد جوانب كبيرة من القوى المعرفية وحراك العاملين، أي أنه كرس القوى اليدوية، والبيروقراطيات، وجاء تنامي قطاعها الخاص السريع المذهل بأسباب إدارية وبفساد وليس معتمِداً على تفجرِ القوى التقنية من داخلِ منظومةِ الإنتاج.
وهكذا فإن صراعَ الرأسمالياتِ الكبرى قد أدى إلى تداخلها، وتكوين بنية رأسمالية كونية مشتركة، ذات مستويات متعددة، ومتضادة في جوانبٍ عديدة منها، بسبب تفاوت التطور التاريخي لكل منها، وتباين تطور القطاعات الرئيسية، واختلاف قوى التقنية في كل منها، وتباين أسواقها ومستوى قوى العمل فيها. وبهذا فإن تناقضات جديدة ملتهبة تتشكلُ بينها، للاستحواذ على الأسواق، وعلى المواد الخام الثمينة: البترول والذهب وغيرهما، والدول المتأخرة فيها تلجأ للرأسماليات المتخلفة في العالم الثالث تستغلها بأشكال متدنية من التجارة، كتجارة السلاح والمخدرات والجنس والاتجار بالبشر، فمازالت الهوة الاقتصادية بين الغرب والشرق موجودة.

صحيفة اخبار الخليج
16 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

تأملات في الوقت

أستغرق أحيانا في تأملات حول الوقت. لا أعرف على وجه اليقين الباعث على هذا النوع من التأملات، ولكني أرجح أن مرد ذلك هو الإحساس بأن الوقت يضيق على الالتزامات والمهام التي يرغب المرء في أدائها: أن ينخرط في الحياة فيكون حاضراً في أحداثها، وأن يقرأ كتباً كثيرة، وأن يسامر أصدقاء يحبهم، وأن يهاتف أحبة، وأن يذهب للعمل صباح كل يوم في الموعد نفسه، وأن يجد عدداً كافيا من الساعات كي يخلد إلى نوم عميق يستمد منه طاقة ونشاطاً. العمل بالنصيحة التقليدية البالية: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد لا تروق للكثيرين منا ولا تناسب إيقاع حياتهم لأنهم يفعلوا ذلك حين لا يجدون الوقت الكافي لأداء هذا العمل قبل أن يؤجلوه للغد، وتبدو الساعات الأربع والعشرون في اليوم الواحد قليلة أو محدودة لكي ننجز فيها كل ما نريد، لأنها تبدو أشبه بدوامة سريعة الدوران لا تمنحنا الوقت الكافي لأداء كل ما نرغب فيه: أن نعمل، وأن نستمتع بالكسل، كأن نرمي بأنفسنا على مقعد ونتسمر أمام شاشة التلفزيون نقلب المحطات بحثاً عن لا شيء، سوى البحث الرتيب نفسه عل قناة ما تشدنا إليها بأمر مسل أو أمر مفيد. شدتني عبارة قرأتها مرة ودونتها في مفكرة صغيرة، بين أشياء أخرى أدونها، وجاءت العبارة على لسان رجل سأله أحدهم، وهو يشكره على خدمة أجزاها له: أنت تقدم الكثير من وقتك. فرد الرجل: “المرء لا يقدم وقتاً أبداً. إنه يقدم اهتماماً، نصائح، معلومات، صداقة، ما أدراني ماذا أيضاً؟ الوقت ليس ملكاً لأحد إنه أداة قياس”. أدهشني هذا التوصيف الدقيق للوقت، إنه ليس أكثر من أداة قياس، وهو توصيف يرغب صاحبه في أن يبدد الفكرة المستقرة في الأذهان عن إضاعة الوقت أو “تضييع” الوقت. وقد يدفعنا التفكير في هذه المسائل إلى متاهات فلسفية عن الزمن، وعن موقفنا في هذا الزمن. من الأجدى والأكثر متعة بالنسبة لنا أن نفكر في الأمر بصورة أبسط، بعيداً عن الفلسفة، لنرى أن الوقت الذي نشكو من قلته ليس أكثر من وحدة قياس، ولكنها وحدة قياس مخيفة لأنها تذكرنا بأن مشاريعنا في الحياة هي على الدوام أكثر وأوسع وأكبر من المساحة التي يتيحها لنا الوقت، إنه لا يمتد كي يمكننا من أن ننجز كل ما نريد، ولو إنه امتد لربما اكتشفنا أن مشاريع أخرى جديدة قد نشأت تبعاً لذلك. والمدهش أننا في عصر السرعة، حيث التسهيلات الضرورية متاحة وهي توفر لنا أوقاتا إضافية لم تكن متيسرة لأسلافنا، ومع ذلك فإننا نشكو من قلة الوقت. أذكر مرة أني تحدثت مع صديق شاكياً له قلة الوقت، وأذكر جوابه المخيف: كل الذين ماتوا رحلوا قبل أن ينجزوا مشاريعهم. كان هذا الصديق يستحث فكرة أخرى لدي ولديه: لا تتعب نفسك بالمشاريع الكثيرة. ستمضي الحياة قبل أن تنجزها. لكني لا آخذ هذه النصيحة على محمل الجد، لأني أظن أن الحياة من دون مشروع تكف عن أن تكون حياة.
 
صحيفة الايام
16 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

الجمعيات السياسية «2»

في المقال السابق عن الجمعيات السياسية أشرنا الى العديد من المنغصات الموجودة عند الجمعيات السياسية والتي نريد لها ان تتجاوزها حتى تستطيع ان تؤدي الدور المطلوب منها. ولزاما عليّ، أود أن أؤكد ان المقصود بالجمعيات السياسية التي تناولتها وسأتناولها حاليا هي كل الجمعيات السياسية، ولم يكن المقال السابق إشارة لأحد، هذا تبيان للناس، ومن أراد ان يفهم غير ذلك فهذا شأنه، والله على ما أقول شهيد. ان النقد النابع عن معزة ومحبة لهذه الجمعيات هو في محله، بل اذا لم يوجد مثل هذا النقد فالمعنى واحد وهو ان هذه الجمعيات التي لا تقبل بالنقد تعيش دكتاتوريتها، وبهذا عليها ان لا تطالب بالديمقراطية، فمن المعيب ان ترى دكتاتورية بأي شكل كانت تنادي بالديمقراطية. الجمعيات السياسية لها تاريخها وعملها السياسي الذي نحترمه، ولكن عليها ان تقدم ما يمكن ان نفخر به وما يمكن ان تقدمه للإنسان والوطن والمواطن حتى يذكرها دوما ويرفع اسمها على رؤوس الاشهاد. أحد الاحبة وجه ملاحظة عزيزة بمعزته، يشير فيها الى ان اي نقد أوجهه لهذه الجمعيات فإنه حتما يجب ان أوجهه لنفسي كوني عضوا في لجنة مركزية بجمعية سياسية. يا سيدي ملاحظتك وتوجيهك على رأسي، ولكن هذه المقالات هي تمتمات أوجهها لكل مكتب سياسي ولجنة مركزية وأفراد بالجمعيات، وهي أمل أود ان أرى عليه هذه الجمعيات، بما فيها الجمعية التي انتمي لها، والتي هي جزء مني كما انا جزء منها. احترم كل وجهات النظر والملاحظات التي بدت على المقال الاول، ولكن مازلت مصرا ان الجمعيات بحاجة الى مراجعة كبيرة، والى دور اكبر. ربما لا املك القدرة على العطاء المطلوب، ولكن أحب ان أرى هذه الجمعيات كما أود. هي وجهة نظر أبديها، ومشاعر أعلنها، خوفا على المستقبل، فقد استشعرت الالم عند البعض.
 
صحيفة الايام
16 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

تقرير الرقابة والظاهرة الصوتية.. !


لعل أحسن ما في التقارير الستة التي أصدرها ديوان الرقابة المالية حتى الآن أنها في كل سنة تكشف عن تقيحات لم تمتد إليها يد التطهير والعلاج، وتسرب دخاناً كثيراً وكثيفاً كما أنها تبعث لنا برسالة قديمة متجددة نتلقاها جميعاً “ بعلم الوصول”..

رسالة تذكرنا بالعجز والضعف وقلة الحيلة في مواجهة هذا الكم الكبير من التجاوزات والاختراقات للوائح المالية والنظم الإدارية تصد أي انتهاك وتوقف أي انحراف بكل حسم وحزم ناهيك عن الردع.

 ولعل أسوأ ما يحدث فور صدور كل تقرير ليس أنه يكشف في كل مرة صور وحكايات الانحراف مما يمس المال العام في الصميم والتي نحن على يقين بأنه رغم كثرتها هي قطرة في بحر، وإنما هذه الطقوس الموسمية من ردود الفعل الباهتة الباعثة على الدهشة والصدمة في آن واحد والتي ترد من الجهات الرسمية والتي تختار كالعادة أن تستعيض عن الفعل بالقول في إطلاق تبريرات غير مقنعة وتعليقات مواربة وشروح مرتبكة تثير قدر كبير من الالتباسات وقدر أكبر من علامات الاستفهام والتعجب، وليس بمستغرب أن تصل خلاصات هذه التبريرات الى أن تمنح بعض هذه الجهات لنفسها ليس صك البراءة وإنما شهادة الجدارة في قلب لمجريات الأمور لتسويغ وجهة نظرها وأمعنوا وتمعنوا في ردود هذه الجهات على تقرير عام 2008، فهي تخرجنا بانطباع بأن هناك من يصر على منطق التبرير والتمرير وتسكين الأمور الخطأ.. ! في الوقت الذي كان يتعين على هذه الجهات من باب “المصداقية” وإقناع الناس بجدية الحسم أما بحث وتوجيه ديوان الرقابة المالية على تحريك قضايا لمحاسبة المخالفين والمتلاعبين بالمال العام وإحالتهم الى القضاء ، وهو الأمر الذي يدخل ضمن صلاحيات الديوان، أو تكليف النيابة العامة كجهة محايدة ومختصة بالمباشرة الفورية لتفعيل أجهزتها وآلياتها وأدواتها للتحقق من حقيقة المخالفات والوقائع الخطيرة الواردة في التقرير لتوجيه الاتهام ومحاسبة من يستحق، لأنه ليس من الحكمة أن نجعل ذات الجهات موضع الاتهام بالتجاوزات أياً تكن هذه الجهات هي وحدها المعنية بمعالجة هذه التجاوزات لتتولى وحدها أيضاً مهمة المراجعة والحساب وأن تكون صاحبة الكلمة الفصل في رفض هذه الاتهامات أو التهوين منها أو تفنيدها أو حرفها الى مسار آخر وكأنه حكم علينا أن نقبل بصحتها وأن نستسلم وأن نصدق هذه التبريرات على ما فيها من مآخذ أو علات.. !

ومن أسوأً ما يحدث أيضاً حيال تقارير ديوان الرقابة المالية هو أننا على صعيد الممارسة العملية لا نجد اعترافاً رسمياً صريحاً وواضحاً بالتجاوزات والانحرافات التي يرصدها الديوان، بل لازلنا نعتبرها مجرد ملاحظات ، ونتعامل معها على هذا الأساس ، وبالتالي نبقي لا نغادر نقطة الصفر، ونستمر في إثارة وطرح وتداول البديهيات في الوقت الذي يشير فيه التقرير الأخير لديوان الرقابة المالية الى تصاعد منحى التجاوزات والمخالفات مقارنة بالتقارير السابقة. وبالتالي عليكم الحسبة لحجم الأموال المهدرة.. !!
 
لم يكن ذلك أسوأ ما في المشهد، لأن الأسوأ في ظني هو أن المخالفات طالت مؤسسات تشكلت في ظل التوجهات الإصلاحية، وهو أمر يستحق التأمل والمراجعة، ومن بين الأسوأ أيضاً هذا الموقف المثير لكثير من الريبة والغموض من جانب المجلس النيابي المقترض أن يكون لديه من أدوات المساءلة والمحاسبة ما يكفي ليفتح الباب على مصراعيه لمناقشة جادة لتقارير ديوان الرقابة المالية، ولكن في الممارسة العملية لم نجد هذا المجلس قد قام بدوره المفترض في التعاطي مع هذه التقارير، وفي مواجهة الفساد وحساب المسؤولين عنه بشكل عام، وهو انطباع سائد أثبته على الأقل تجاهل مجلس النواب بكل كتلهم لتقريري 2006 و2007 اللذين فيهما ما يكفي ليؤكد النواب بأنهم لا يسيرون على درب المساءلة كما يجب، بل إن أسوأ وأخطر ما في هذا الموضوع هو ذلك الاتهام الذي وجه قبل أيام لإحدى الكتل النيابية بأنها تساوم على تقارير الرقابة المالية للحصول على امتيازات كما حدث مع تقريري 2006 – 2007 وهو اتهام خطير يبعث فينا القلق والجزع، فهو اتهام موجه الى كل النواب وليس نواباً بعينهم أو كتلة بعينها ولا غرابة في ذلك ولكن الغرابة تنشأ حينما يكون الانزلاق مرة تلو مرة وحينما نألف السكوت على التجاوزات وتمريرها ، والانكا من ذلك أن يظل النواب إياهم على إصرارهم بأنهم حماة المال العام يثيرون الضجيج ويستثيرون المشاعر عبر تصريحات قرأناها من قبل لهم ولإقرانهم.
تقارير ديوان الرقابة المالية لعام 2008 كما هو الحال بالنسبة للتقارير السابقة مليئة ودسمة بكثير من التجاوزات والانحرافات أغرب ما فيها حجم اللامسؤولية وتغييب قيمة المساءلــــة..!!
 

اقرأ المزيد

الشملان والمسرح


قلنا في مقالة سابقة ان الحديث عن احمد الشملان يعني الحديث عن شخصية وطنية سياسية شفافة، متعددة الاهتمامات الفكرية والأدبية والثقافية والصحفية. وعلى هذا الأساس كان في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي غزير العطاء خصب المخيلة كان الشعر فعلا رؤيويا عميقا ونشاطا حضاريا عنده يدعو إلى إعادة النظر في الذات والزمن والمجتمع، وكان المسرح له مكانة خاصة في قائمة اهتماماته لاعتباره مشروعاً راقياً يبعث إلى النهوض، ومن هنا كانت رؤيته النقدية لتجارب المسرح البحريني واضحة تفرض الوقفة الجادة تجاه هذه الاضاءات، وخاصة إن إصدار الشملان مقالات في المسرح يعد من منجزاته النقدية التي تسعى الى الارتقاء بالحركة المسرحية البحرينية.

باختصار شديد ان أهمية هذا الإصدار، وهذه الرؤية النقدية للتجارب المسرحية البحرينية كما يقول الناقد المسرحي يوسف الحمدان: انه يعد توثيقا لمرحلة مهمة في تاريخ المسرح البحريني.. حيث تشكلت فيها رؤى واقتراحات وتقنيات جديدة ومختلفة عن سائر الرؤى والاقتراحات والتقنيات الذي صنع الحركة المسرحية في السبعينات. والحق ان قارئ الشملان في هذا الجانب يلاحظ ان “آلية” النهوض بالمسرح عنده تبدأ في المقام الأول من كيفية التعامل مع مشكلاته انطلاقا من النص والممثل والإخراج والجمهور ونقد صالات عرض وديكور ومؤثرات صوتية، والاهم هنا هو مدى الاهتمام الرسمي به..

وبمعنى آخر ان ضعف الاهتمام بالمسرح ساهم في الحد من تطوره وحول هذه الإشكالية له رأي يقول: حتى الآن مازلنا نتعامل مع المسرح كعمل إضافي رائد يمارسه الهواة في أوقات فراغهم وعندما يتحول هؤلاء الهواة الى عشاق متيمين بالمسرح ويتدخل المسرح في حياتهم اليومية والعائلية يشاغبهم في نفس من أنفاسهم يبدءون في الدخول في حلبة الصراع الداخلي والتمزق بين الإخلاص للمسرح وبين تلبية متطلبات الحياة اليومية ومواجهة مشاكلها المعيشية، فيظهر المسرح ومسرحياته مشوباً بالنقص والقصور ويتحول الى هدف سهل للطعن فيه وفي عشاقه!!

هذا الازدواج والتناقض بحاجة الى موقف يحسمه لصالح المسرح فقط. ولا مجال هنا للتعليل بمحدودية جهود المسرح او ضعف الحركة المسرحية. ذلك الضعف الذي سببه ثانوية الاهتمام بالمسرح، وإنما لا بد من نبذ كافة المعوقات التي تقف حائلاً أمام تكوين مسرح أصيل معافى يشرف تراثنا وتاريخنا وحاضرنا.

في إصداره النقدي المعني بالتجارب المسرحية المحلية، كثيرة هي التفاصيل التي تناولها بكل موضوعية وواقعية وهو يدافع عن حركة مسرحية تحتاج بالتأكيد إلى إغناء وتجديد وتطوير وبالتالي ان ما يؤرقه على حد تعبيره هو ان صعوبة الدرب الذي قطعته التجربة المسرحية عندنا يستدعي التساؤل كما وكيفا عن حصيلتها فهي قد تمت وتطورت على ما يبدو عامودياً  ولم تستطع أن تتسع أفقيا باتجاه حشد جمهور يتعلق بها ويتفاعل معها.

الأيام 14 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

الجمعيات السياسية


الجمعيات السياسية بشكل عام لها في التجربة العلنية والممارسات الديمقراطية الشيء الجديد، وربما يمكن لنا ان نقدم لها النصيحة والنقد البناء إذا ما أرادت هي أن تستمع للآخرين، ففي بعض الأحيان نرى نفورا من النقد والتناصح.

لا نريد لها الفشل ولا تتصور هذه الجمعيات إننا يوما سنريد لها أن تتعثر، حاشا لله، كل الجمعيات لها تقديرها واحترامها رغم اختلافنا مع بعضها في المواقف والتحليل وغيرها من أوجه الاختلاف إلا أننا لا نشك في إخلاصهم الوطني.

هذا مبتدأ للمقال الذي نريد ان نشير في خلاصته إلى أن الجمعيات السياسية ألان أصبحت (باردة) بالنسبة للناس والجماهير بل هي كذلك بالنسبة لأعضائها، بل واني على يقين أن كل الجمعيات تشعر ان حالها في تراجع بخلاف ما كان عليه بداية التأسيس والحماس والاندفاع الذي كان عليه المنتمين لهذه الجمعيات السياسية التي كانت لها رنات ورنات. أما الآن فيا للأسف، أصبحت لا تتعامل إلا بردات فعل، بعد ان يصدر قانون، او تقرير او .. او، دورها ألان هو فقط في إحياء الذكريات والبكاء على الأطلال، او اختزلت نفسها في ندوات سياسية تعقد كل أسبوع في مقر جمعيتها، هذا إن لم تتعثر هذه الندوات عند البعض. وإن سألت عن الوجوه التي تحضر هذه الندوات فهي ذاتها التي تراها كل أسبوع، أما المحاضرون فهم هم، فكل جمعية تجعل من أعضاءها فقط منتدون، وإن تطوروا وأحبوا التغيير طلبوا من صديق لهم او محسوب عليهم ان يشارك الأعضاء في الانتداء.

أصبحت فعالياتهم (مملة) لا طعم لها، ولذلك لا تجدون جوابا عندما يوجه لكم سؤالا كم من الأعضاء الجدد استقطبتم.
تركتم الحبل على الغارب، وهمشتم الشباب وتضربون بآرائهم عرض الحائط، ثم تريدون ان يكون متوسط عمر الأعضاء اقل مما هو موجود عندكم.
نفرتموهم حتى بلغت حناجرهم التراق، فراحوا يبحثون عن البديل، فهل ستعقلون ما هو البديل…. ستبكون يوما من الأيام نتيجة هذا التغابي. إن لم تراجع هذه الجمعيات أدائها فسوف يبني العنكبوت عليها وعلى من فيها..


 

الأيام 13 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

الواقعية والتطرف في ذكرى احتلال السفارة الأمريكية

في ضوء ما شهدته الفعاليات التي أقيمت بمناسبة “يوم القدس” في الجمعة الاخيرة من رمضان الفائت من صدامات بين الشرطة وأنصار “المرشد” والرئيس نجاد من جهة وأنصار ورموز المعارضة من جهة أخرى، بات واضحا ان ثمة تكتيكا جديدا تتبناه المعارضة يتمثل في عدم تفويت ما يوفره الاحتفال بالمناسبات العامة الوطنية من فرصة لها للتظاهر في الشوارع وتنظيم المسيرات الخاصة بتلك المناسبات وذلك بغية عدم ترك الشارع لتنفرد به السلطة وأنصارها ومن ثم استغلال مسيرات وفعاليات يوم المناسبة لرفع شعاراتها ضد السلطة والفساد والتزوير، وهذا ما فعلته المعارضة بالضبط في مناسبة ذكرى يوم احتلال الطلبة للسفارة الامريكية بطهران وهو الحادث الذي وقع قبل 30 عاما بعد تسعة أشهر من انتصار الثورة واقامة النظام الجمهوري الاسلامي بقيادة المرشد الراحل الإمام الخميني.
وعلى الرغم من تحذير السلطات الامنية المتكرر للمعارضة من تسيير أي مسيرات في هذه المناسبة، فإن الاخيرة تجاهلت ولم تكترث بكل تلك التحذيرات فكان ان تمكنت من حشد مسيرات قدرها البعض بعشرات الالوف فيما قدرها البعض الآخر بمئات الالوف. وبالطبع فإن هذه المسيرات التي نددت بالفساد والتزوير وهتفت بـ “الموت للدكتاتور”، في اشارة ضمنية للمرشد، لم تنته بسلام فقد قمعتها الشرطة بشدة واعتقلت المئات من الشباب المنادين بالاصلاح.
واذا كانت هذه المسيرات السلمية الاصلاحية الموازية لمسيرات أنصار النظام الرسمية البيروقراطية التي اعتادت السلطة سنويا الاشراف عليها ورعايتها، هي ابرز ما يميز فعاليات الاحتفال بهذه الذكرى هذا العام فثمة أمر آخر لافت يرتبط بالذكرى ذاتها ويتمثل في اعلان المرجع الايراني الكبير آية الله العظمى حسين المنتظري نقده وتخطئته لقيام الطلبة الاسلاميين باقتحام واحتلال السفارة الامريكية واحتجاز كل من فيها من دبلوماسيين وغير دبلوماسيين كرهائن على مدى 444 يوما، أي زهاء عام وشهرين.
منتظري الذي شعر بالخذلان لحقه في خلافة الخميني كقائد ومرشد للثورة قبيل بضعة أشهر من رحيل هذا الاخير قال: “ان احتلال السفارة الامريكية لقي في البدء دعم الثوريين الايرانيين والإمام الخميني وأنا بنفسي دعمته”. وأضاف: “ولكن نظرا الى التداعيات السلبية والحساسية البالغة التي نجمت عن هذا العمل لدى الشعب الامريكي، والتي لاتزال موجودة حتى اليوم، فإن القيام بهذا العمل لم يكن صائبا”.. ويستطرد قائلا: “من حيث المبدأ فإن سفارة بلد ما تعتبر جزءا لا يتجزأ من هذا البلد، واحتلال سفارة بلد ليس في حرب معنا هو بمثابة اعلان حرب على هذا البلد، وهذا ليس أمرا صائبا”.
ومع ان النقد الذاتي الذي أعلنه منتظري لدعمه الهجوم الطلابي على السفارة الامريكية في مثل هذا الوقت من خريف عام 1979 قد جاء متأخرا ومع ذلك فان يأتي هذا النقد الذاتي والاقرار بالخطأ خير من ألا يأتي أبدا.
والحال ليس منتظري هو الذي انتقد الهجوم الطلابي على السفارة الامريكية فقط، بل سبقه اليه قادة ورموز الطلبة أنفسهم مثل معصومة ابتكار وعباس عبدي ومحسن ميرداماديه ففي الوقت الذي صقلت هؤلاء وغيرهم كثيرون التجربة السياسية، فكرا وواقعية، وأضحوا أكثر نضجا وواقعية في مواقفهم السياسية والفكرية وفي ممارساتهم السياسية وانتقلوا جميعهم الى صف الاصلاحيين فإن العديد من الرموز الدينية في النظام مازالت عاجزة عن التطور قيد أنملة في مواقفها ومازالت تعيش في مناخ ربيع الثورة لا خريفها رغم كل ما جرى في ايران والمنطقة والعالم من متغيرات. قلة منهم يعود الامر الى تحجرها الفكري لطبيعة ذهنيتها السياسية غير القادرة على التطور وكثرة منهم انما رأت في المحافظة على هذه الافكار ضمانا ومحافظة على امتيازاتها التي تحظى بها داخل السلطة.
لا أحد بالطبع بمقدوره ان يكابر فيما كانت تلعبه السفارة الامريكية في عهد الشاه من ادوار قذرة داخل ايران وفي المنطقة بحق شعوبها وقواها الوطنية وما كانت تختزنه من وثائق تعري تلك الادوار، لكن ان يتم الانتقام من أمريكا ومصادرة تلك الوثائق بتلك الطريقة الصبيانية على أيدي طلاب مراهقين بمعرفة وتشجيع الدولة الجديدة التي مضى على قيامها حينذاك تسعة أشهر لهو أكبر دليل على عجز قادتها وسلطتها عن ابتكار وسائل قانونية مشروعة يتيحها لها حقها السيادي دونما الحاجة الى تشجيع الغوغاء على ضرب القانون الدولي ضد جهة دبلوماسية يفترض انها تحت مظلة حماية الدولة التي تستضيف بعثتها.

صحيفة اخبار الخليج
15 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد