المنشور

شملنا والشملان


يقولون إن من أزكى الورود رائحة في منطقتنا الورد الطائفي (نسبة إلى الطائف). ونقول إن أزكى العطر في مجتمعنا يفوحه اللاطائفيون. وعندما تستعر حمى الطائفية وتستشري في كل مناحي الحياة، فإن دائرة اللاطائفيين تضيق للأسف. وأن تصبح لاطائفيا ليس من منطلق الحياد بين الطوائف، بل مخترقا إياها بانحياز اجتماعي واضح لمصالح كادحي وفقراء كل الطوائف في وجه مستغليهم من كل الطوائف، فإن الدائرة تضيق أكثر. وأن تصبح لاطائفيا مناهضا للتمييز الطائفي وتقف إلى جانب ضحاياه وضد ممارسيه، فإن الدائرة تضيق أكثر فأكثر. وأن تربط بين هذه الأهداف في وحدة وطنية تصب في مجرى النضال الوطني الاجتماعي العام من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، فلن تجد في هذه الدائرة إلا قلة من الأبطال الحقيقيين. أما وأن يجمع بطل من هؤلاء بين إيمان عميق بالنظرية الثورية العلمية وبين الممارسة اليومية ممتشقا سلاح الكلمة ليهندسها مقروءة شعرا أو عمودا صحافيا، مسموعة غناء أو نشيدا أو خطابا جماهيريا ملهما أو دفوعات عن المظلومين في قاعات المحاكم، فهنا تضيق الدائرة وتضيق.. ولا متسع إلا لمثل البطل الأسطوري أحمد الشملان.

الكاتبة والصديقة فوزية مطر، زوجة المناضل أحمد الشملان ورفيقة دربه النضالي سكنت دواخل هذا البطل وعرفته أكثر من أي من رفاقه إنسانا رقيقا متواضعا وشاعرا رهيف الحس، ومحاميا نصيرا للعدالة، وحزبيا صارم الالتزام والمبادرات، ووطنيا غيورا ومناضلا شديد البأس، أتحفتنا بكتابها ‘’أحمد الشملان.. سيرة مناضل وتاريخ وطن’’. وقد بيع الكتاب بكثافة خلال ‘’أيام أحمد الشملان’’ التي أقامها المنبر التقدمي ما بين 14 و 25 نوفمبر/تشرين الثاني احتفاء بهذا المناضل الكبير. بما لأحمد وعليه من شهادات أهله وأصدقائه ورفاقه وضعت فوزية على رفوف المكتبة البحرينية والعربية مؤلفا موضوعيا رائعا يستحق أن نقرأه ويقرأه أبناؤنا من الغلاف إلى الغلاف. من هذه السيرة يتضح أن ليس كل إنسان يستطيع أن يكون بطلا. بهذا المعنى كتب الأديب والمترجم الروسي الشهير ألكسي بليشييف ( 1825 - 1839 ) أن ‘’لكل شيء في الكون حصته، ولا يمكن أن يتكون العالم كله من أبطال’’. لكن، هل الظروف هي التي ساقت الشملان ليصبح بطلا من هذا الطراز؟ هنا يقول الكاتب الهنغاري الشهير والثوري العالمي، بطل الحرب الأهلية في روسيا والحرب الإسبانية بيلا فرانكل (1896 – 1939)، المعروف باسم ماته زالكا، إن ‘’البطل هو ذلك الذي خطط نواياه بشكل مسبق، مدركا بأنه يخاطر بحياته، ومع ذلك فإنه يقدم على الخطوة الضرورية من أجل الصالح العام’’. كأني بالثوري الأصيل زالكا يشير ببنانه من ذاك الزمان إلى شملان حاضرنا. دفع الشملان على مدى عقود، وعلى أقساط وبالجملة ثمن نضاله الذي لم يعرف الهوادة يوما. لكنه كان يعرف الثمن مقدما. هدفه الدائم الصالح العام لشعبه ووطنه.

وإنك لتحتار حقا، بمن احتفل المنبر الديمقراطي التقدمي هذا الشهر.. برئيسه الفخري أم بفخر البلاد كلها؟ أليس هو الشملان الذي تطور في انتماءاته الحزبية من البعث إلى الشعبية إلى التحرير، مشكلا في كل مرحلة جسرا للتواصل بين هذه القوى التي خاضت مع شعبنا نضالاته منذ الخمسينات والستينات – ألا يشكل الشملان نداء طبيعيا لهذه القوى لإعادة تأصيل ذلك التراث النضالي بقيام التيار الوطني الديمقراطي الذي يجمعها والقوى والشخصيات الديمقراطية الأخرى في البلاد -ألم يشكل الشملان إلى جانب الشيخين الجمري والمحمود رمز الوحدة الوطنية أثناء أحداث التسعينات،ألا يشكل الاحتفاء به إلهاما لزعماء الطوائف اليوم كي يرأبوا صدع الوحدة الوطنية ويعيدوها إلى ما كانت عليه في فترات ناصعة من تاريخ شعبنا النضالي؟

بسبب الظروف الصحية سكت، أو أسكت الشملان زمنا طويلا. ورغم صمته كان حاضرا، فاعلا في أهم المنعطفات التي مر بها المنبر التقدمي منذ تأسيسه. وفي منزله تحديدا تم اتخاذ أخطر القرارات. أنصاف الكلمات التي يحاول إطلاقها زائدا ما يختزنه هذا الرجل من خبرات نضالية وثراء روحي وقوة إيحاء تجعلك على الفور تفقه أفكاره الحبيسة خلف عقدة لسانه.

كانت احتفالات أيام أحمد الشملان رائعة على كل المستويات. المناضلون الذين نظموها حاولوا الارتقاء بها قدر قامة الشملان نفسه. ولربما تولد انطباع لدى البعض أن كتاب فوزية وتلك المظاهر الاحتفالية قد بالغت في تصوير الشملان. الحقيقة ببساطة هي أن الشملان عاد من خلال الكتاب والاحتفالات فنطق من جديد، وتحدث بأعلى صوته ليذكر كلا بالأجندات الحقيقية التي ينتظرها منه شعبنا: للدولة – أن معضلات الديمقراطية لا تعالج إلا بمزيد من الديمقراطية، وإلا عدنا للوراء.. للديمقراطيين – أن رسالتهم اليوم قيام التيار الوطني الديمقراطي وطرح وتحقيق برنامج البديل الديمقراطي، وإلا عدنا للوراء.. للوطنيين عموما – السمو فوق الاعتبارات الطائفية البغيضة نحو بناء الوحدة الوطنية، وإلا عدنا للوراء.

إنه ذلك كله وأكثر.. إنه الشملان – شامل شملنا.


 
صحيفة الوقت
30 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

السياسة والثقافة والتحولات (2)

كان الأدب أقرب لإيجاد انعطاف كبير في الثقافة البحرينية من خلال الصحافة التي ظهرتْ في فترة أوائل الستينيات والسبعينيات، عبر هذا الجمع المرهف بين تطوير الأدوات التعبيرية والانتماء لهموم الناس.
ولهذا فإن الشعرَ كان رأسُ الحربةِ في عمليةِ هذا النمو نظراً لكثافتهِ وتعبيريتهِ المنبرية وحرارة التصاقه بالحياة، فيما جاءتْ القصة القصيرة والرواية بشكل أبطأ ومن خلال زحف واسع لتحليلِ مظاهر الحياة الاجتماعية واستيعابِها وتلمسِ جذورها، وكذلك فعلت الفنون لكن من خلال رصد الظواهر المادية والطبيعية في أغلب الأحيان. فكان الأدباءُ على اتصالٍ بذاتِ الجذور الكفاحية للموجة الثقافية الخمسينية السابقة، ومن هنا فاضتْ كتاباتُهم من على سطور الصحافة، التي لم تتسعْ لمثل هذه المضامين النقدية والسياسية الجارفة، كذلك فإنها اتسمتْ بغموضٍ تعبيري نظراً لمحاولاتِها التوغل في مناطق تحليلية نفسية وفكرية واجتماعية أبعد من إمكانات القراء المحدودين، ولربطها الثقافي الوطني بالظاهرات القومية العربية والإنسانية وخاصة الحداثة الغربية المتطورة.
في هذا السياق الأدبي، وهو قمةُ الوعي الثقافي البحريني في هذه المرحلة، ظهر تياران: تجريبي يبحث عن تطوير الأدوات التعبيرية بدرجة أساسية، وواقعي يكرسُ عمليةَ تحليل الحياة، كان التياران يعبران عن معركة الماضي بين العريّض والآخرين لكن في مستوى أكثر تطوراً، فالتوجه للأدوات التعبيرية بما يرافقها من تجريب خلاق في بعض الأحيان وغامض في أحيان أخرى، ومن آراء عن تحطيم الأنواع، كان يفصل الأدب الذي نشأ في حضن المعركة لتغيير الواقع التابع، عن واقعه البحريني وعن القراء، ويوجد للمبدع استقلالاً غامضاً، يجمع فيه بين الكتابة والأهداف المستقلة عن القضايا العامة، أي يغدو هو بؤرة ذاتية وينسجُ حول نفسهِ دوائرَ من العزلة والمصلحة الخاصة، ويغدو التجريب في بعض الأحيان انسحاباً من معارك الحياة ومن دفع الثمن في مواجهةِ كشف الأخطاء في المؤسسات العامة ومن نقص الحريات. وقد نشأتْ هذه العمليةُ التجريبيةُ الانسحابية المنفعية في القصة والشعر والنقد والمسرح على حدٍ سواء.
إن التجريبية كما لوحظت في بعض النتاجات الشعرية والقصصية تتوقف عن التجريب نفسه، لأن التجريب لابد أن يعتمد كذلك على التحليل، تحليل الحياة ومشكلاتها، وتصوير الشخوص والغرف من ثراء الواقع المتحول باستمرار، وهذا يوجد الترابط بين الكاتب والقضايا والمعارك الاجتماعية التي تثار في البلد، لكن تجريبية غامضة وغير مرتبطة بتحليلات معمقة ومواقف تقود إلى بعثرة الوعي الفني وذوبان القصة والشعر في الدخان!
فالمسرح – على سبيل المثال – الذي كان ينمو بأشكال واقعية نقدية متدرجة ذات حضور مهم ظهر فيه ما يُسمى التجريب ليقفز عن هذه العملية إلى أشكال فيها بعض التجارب القليلة الجيدة التي جمعت بين التجريب وكشف الواقع، ثم غرقت في مزايدة فنية تعبيرية وفذلكات، ومن ثم حدثَ انطفاءٌ لهذا المسرح الواقعي النضالي عموماً، فحتى عملية التجريب هنا لم تتمْ بأشكالٍ أمينةٍ على مبادئ التجريب نفسه لكي تبحث عن الاتصال مع الجمهور والوصول لمعاني الحياة العميقة.
ولكن الواقعية تغدو بخلاف ذلك، مسؤولة عن تحليل الحياة، وكشف ما يدور في الواقع وبأشكال تعبيرية جمالية، وقد تحقق شيءٌ منها، ولكن تناميها في الأجيال الجديدة كانت عملية غير ممكنة.
إن الانقطاع بين ازدهار الثقافة (الوطنية الديمقراطية) وثقافة الضياع والغربة الدينية فيما بعد هو تعبير عن نشوء بُنية اجتماعية جديدة، بُنية مختلفة عولمية تابعة.
مثلتْ الواقعيةُ حلمَ الرواد في الأربعينيات والخمسينيات بوجودِ ثقافةٍ تجمعُ بين نقد الواقع والجماليات المعبرة، مثلما مثلت القوى الديمقراطية والتقدمية استكمال مشوار الوطنيين الأوائل وتطويراً لآرائهم التنويرية، وهذا التراكم على صعيدي السياسة والثقافة، لم يكن سهلاً، وُوجه بعقبات وعسف، حتى حدث تآكلٌ له، مما منع من نموه في كلا الجانبين خلال العقود التالية.
إن القيام بالتحليلات المعمقة في مختلف أشكال الفنون والآداب والفكر كان يعني نقد الحياة، ومظاهرها المختلفة من عمل وبطالة وقهر وغيرها، وهو في الأدب والفن يتخذ مظاهر غير الكلمات المباشرة، فهو يتقمصُ الشخصيات المؤثرة والأحداث المعبرة ولهذا يكونُ توغله في الناس أكثر عمقاً وبقاءً. ولهذا كلما تجاوز الفن المنشورات التحريضية كان أكثر خطورة. لكن المثقف تنشأ لديه مصالح ذاتية، وهو لا يريد أن يتخذ موقفاً عميقاً مثل هذا، ويلجأ للتجريب والغموض ويصر على بقائه كمبدع، ويرغب في الشهرة والمال كذلك، مثل المثقف الديني الذي سيكون (بطل) المرحلة التجريبية التالية(الراهنة).
لكن المرحلة الثقافية الوطنية اليسارية في الثقافة البحرينية مثلت ولادة الأنواع الأدبية خاصة والفنية والفكرية، ولم تستطع أن تصل بعمقها للأجيال الجديدة بسبب قطع قنوات الاتصال والتراكم بين الأجيال.

صحيفة اخبار الخليج
30 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

لحظة في الحياة انتظرناها

البروفة في المسرح أو في الغناء أو في الحفلات هي تدريب على أداء الدور أو إنشاد الأغنية أو عزف الآلات الموسيقية، هي في أمر ما تشبه التدريبات التي يجريها الرياضيون لفترات تطول أو تقصر قبل المباريات. يذهب الممثلون إلى المسرح، إلى مقابلة الجمهور، في الوقت الذي يفترض فيه أن يكونوا قد أتقنوا الدور أو الأدوار التي سيؤدنها على الخشبة، في الوقت الذي يبدو فيه أن الممثل قد تمكن من تقمص الشخصية التي سيؤدي دورها على المسرح. فكرة البروفة هدفها في الأصل هو التجويد أو الاتقان، كلما كان وقت البروفات طويلاً وكافياً جاء الأداء أمام الجمهور أكثر اتقاناً.. ولكن هذه الفكرة بالذات تثير مسألة أخرى حول مدى تلقائية أو عفوية الأداء الذي نشاهده، الذي جرى التدخل فيه عدة مرات، وجرى تعديله عدة مرات لولا إدراكنا أن عفوية الممثل وتلقائيته إنما تبرزان أكثر من خلال جودة أدائه واتقانه، لأن الجمهور حين يذهب المسرح لا يرمي إلى رؤية الشخصية التي يؤديها الممثل والتي قد يكون عرفها من خلال قراءته للنص المسرحي أو من كتب التاريخ، وإنما لرؤية الممثل المعني وهو يؤدي هذه الشخصية. لكن هل البروفات موجودة في المسرح وحده؟! الأرجح ان في الحياة سلسلة من البروفات اليومية التي نقوم بها، سواء كانت باعث ذلك ذهنياً أو لا واع، من أجل اتقان أدوارنا في الحياة، وهذا الموضوع من الاتساع بحيث يشمل سلسلة من التدريبات والدورات التأهيلية والحصص الدراسية التي لو تأملنا في جوهرها لما وجدناها بعيدة عن فكرة البروفة المسرحية أو الغنائية، نحن نتدرب لكي يكون أداؤنا أفضل في وظائفنا ومهامنا في الحياة. أبعد من ذلك، نظن أن الحياة ما هي إلا مجموعة من البروفات. التجارب السابقة هي بروفات للتجارب اللاحقة، لأن الإنسان النابه لا يمكن أن يكرر الأخطاء ذاتها التي ارتكبها في تجارب اجتازها في أعماله وتجاربه الجديدة. حقاً إنه يمكن أن يقع في أخطاء أخرى، ولكن يفترض أن تكون جديدة غير تلك التي سبق له أن دفع ثمنها. والقول إن الحياة هي مجموعة متتابعة من البروفات لا يراد منه تسفيه هذه الحياة ومغزاها، بالعكس تماماً فإن المراد القول إن الحياة ما هي إلا سلسلة من التجارب ومن الدروس التي تتراكم طبقات فوق طبقات لتشكل في المحصلة النهائية خلاصة الإنسان وخبراته. وكما يتألق الممثل المبدع على خشبة المسرح في ليلة العرض بعد بروفات صعبة قاسية، يطل على الإنسان الناجح أو المحظوظ بعد طول بروفات في الحياة ما يوازي العرض في صورته الأخيرة المتقنة، حين تأخذه الأقدار التي صنعتها تجارب الحياة إلى تلك اللحظة التي انتظرها.
 
صحيفة الايام
30 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

تضحيات امرأة

هي امراة عانت ما عانته نتيجة لنضال زوجها، الذي تفانى في الدفاع عن هموم الناس، حاملا روحه بين جنبيه من اجل العدالة الاجتماعية، من اجل ان يعيش الناس في بحبوحة من الراحة. تنغص عيشه لأن هناك من الناس من يعيش في هم، لأن العدالة غائبة، لأن الانسانية ضيعت في مراحل الظلام. كانت نتيجة هذا القلب الوهاج بحب الناس، معاناة لا يعرف معناها الا زوجته التي راحت تسطر الكلمات عن ذكريات زوجها العنيد. كانت حاضرة في كل الفعاليات التي تم تدشينها ضمن احتفالات ايام احمد الشملان، ولكن يا ترى من يعرف ما عانته زوجته فوزية مطر. أشارت زميلتنا العزيزة عصمت الموسوي الى انه من سيكتب عن تضحيات فوزية اذا كتبت هي عن تضحيات زوجها، وهي بالفعل قد لا مست عين الصواب. ما قامت به فوزية من توثيق لسيرة هذا المواطن الذي لم يقبل ان يرى الظلمة وراح يبحث عن النور، هو أمر يستحق منا وقفة اجلال، فكما لزوجها وقفة لها ايضا وقفة، فكل رجل عظيم بحجم الشملان وراءه امرأة بحجم فوزية. ان التضحيات التي قد لا نعرفها لأننا لم نشعر بها ولم نحس بها، إلا اننا نقدر عاليا كل من روى زهرة في هذا الوطن المعطاء. فوزية التي لم تسأل عن ما قدمه لها الوطن، تنظر دوما الى ان كل ما قدمته هي وزوجها قرباناً لأجل هذا الوطن. ان لم تكتبي يا فوزية عن تضحياتك ومعاناتك، فإن ارتباط اسمك باسم الشملان مفخرة نكتبها بماء الذهب في كتاب سيرة وطن.
 
صحيفة الايام
30 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

التوازن الحصيف في‮ ‬دالة إنفاق موازنة البحرين

اعتُبرت موازنة مملكة البحرين للسنتين الماليتين‮ ‬2007‮-‬2008‮ ‬أكثر الميزانيات التي‮ ‬حظيت فيها ميزانية المشاريع بحصة وفيرة،‮ ‬بلغت في‮ ‬عام‮ ‬2007‮ ‬حوالي‮ ‬530‮ ‬مليون دينار وفي‮ ‬ميزانية‮ ‬2008‮ ‬وصلت لـ‮ ‬490‮ ‬مليون دينار ذهبت مخصصاتها لمشاريع تطوير البنية التحتية من شبكة طرق وجسور وموانئ ومشروعات إسكانية للمواطنين‮.‬
وكان المتوقع أن تحذو موازنة السنتين الماليتين التاليتين‮ ‬2009‮-‬2010‮ ‬حذو سابقتيهما،‮ ‬أي‮ ‬أن تكونا موازنتين توسعيتين في‮ ‬الاتجاه ذاته وهو استكمال مشاريع البنية الأساسية والتوسع العمراني‮.‬
بيد أن الأزمة المالية/الاقتصادية التي‮ ‬داهمت العالم في‮ ‬سبتمبر من العام الماضي‮ ‬فرضت نفسها على كافة دول العالم خصوصاً‮ ‬تلك التي‮ ‬كانت عرفت قبل الأزمة انتعاشاً‮ ‬مديداً‮ ‬عالي‮ ‬الوتيرة كما هو حال دول مجلس التعاون وبضمنها البحرين‮.‬
لذلك جاءت ميزانية المشاريع في‮ ‬الموازنة المالية لعامي‮ ‬2009‮ ‬و2010‮ ‬أقل بكثير من مخصصات ميزانية المشاريع في‮ ‬موازنة عامي‮ ‬2007‮ ‬و‭.‬2008‮ ‬حيث تم تخصيص‮ ‬300‮ ‬مليون دينار في‮ ‬ميزانية‮ ‬2009‮ ‬و300‮ ‬مليون دينار أخرى لميزانية مشاريع‮ ‬‭,‬2010‮ ‬أي‮ ‬بانخفاض مقداره‮ ‬4‭,‬43٪‮ ‬و8‭,‬38٪‮ ‬عن ميزانية مشاريع عام‮ ‬2007‮ ‬و2008‮ ‬على التوالي‮.‬
والواقع أن موازنة‮ ‬2009‮-‬2010‮ ‬جاءت متحفظة في‮ ‬تقديراتها للإيرادات حيث قدرتها،‮ ‬فيما‮ ‬يتعلق بالمداخيل النفطية،‮ ‬على أساس سعر لبرميل النفط‮ ‬يبلغ‮ ‬40‮ ‬دولاراً،‮ ‬وذلك تراجعاً‮ ‬عن التقدير الأصلي‮ ‬المقترح وقدره‮ ‬60‮ ‬دولاراً‮ ‬للبرميل،‮ ‬ما‮ ‬يجعل العجز الافتراضي‮ ‬المتوقع في‮ ‬ميزانية‮ ‬190‭ ‬2009‮ ‬مليون دينار وفي‮ ‬ميزانية‮ ‬239‭ ‬2010‮ ‬مليون دينار‮.‬
حتى الإيرادات‮ ‬غير النفطية تم تقديرها بحذر حيث إنها لن تزيد في‮ ‬ميزانية‮ ‬2010‮ ‬عن ميزانية‮ ‬‭,‬2009‮ ‬حسب تقديرات الموازنة،‮ ‬عن ثلاثة ملايين دينار‮ (‬من‮ ‬337‮ ‬مليون دينار في‮ ‬عام‮ ‬2009‮ ‬إلى‮ ‬340‮ ‬مليون دينار في‮ ‬عام‮ ‬2010‮).‬
وقد تم كل ذلك،‮ ‬أي‮ ‬وضع هذه التقديرات المتحفظة للإيرادات النفطية وغير النفطية في‮ ‬موازنتي‮ ‬2009‮ ‬و‭,‬2010‮ ‬تحت تأثير أجواء الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية وانهيار أسعار النفط إلى ما دون حتى سقف الموازنة التقديري‮ ‬الموضوع وهو‮ ‬40‮ ‬دولاراً‮ ‬للبرميل‮.‬
ومع ذلك تواصلت عملية تخصيص الموارد لتمويل مشاريع البنية الأساسية في‮ ‬موازنة‮ ‬2009‮-‬‭,‬2010‮ ‬فخُصص للمشاريع الإسكانية‮ ‬80‮ ‬مليون دينار و90‮ ‬مليون دينار على التوالي،‮ ‬وتم تخصيص‮ ‬3‭,‬7‮ ‬و4‭,‬6‮ ‬مليون دينار في‮ ‬السنتين الماليتين على التوالي‮ ‬لإنشاء المدارس والمرافق التعليمية،‮ ‬إضافة إلى‮ ‬7‮ ‬ملايين دينار لكل سنة لدعم برامج ومبادرات قطاع التعليم،‮ ‬وتخصيص‮ ‬2‭,‬17‮ ‬مليون دينار لكل سنة للخدمات الصحية منها‮ ‬14‮ ‬مليون دينار لكل سنة لاستكمال مشروع مستشفى الملك حمد العام بالمحرق،‮ ‬وتخصيص‮ ‬2‭,‬81‮ ‬مليون دينار و85‮ ‬مليون دينار لكل سنة لإنشاء شبكات ومرافق الطرق والجسور والمنافذ والصرف الصحي،‮ ‬وتخصيص‮ ‬5‭,‬175‮ ‬مليون دينار و200‮ ‬مليون دينار على التوالي‮ ‬لمشاريع قطاع الكهرباء‮.‬
الآن،‮ ‬وفي‮ ‬ظل الأداء القوي‮ ‬لسوق النفط العالمية المتمثل في‮ ‬سرعة استعادة سعر برميل النفط لجزء كبير من نقاطه التي‮ ‬خسرها في‮ ‬خضم الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية،‮ ‬ووصوله إلى المستوى الذي‮ ‬اعتبره معظم الدول الأعضاء في‮ ‬منظمة الأقطار المصدرة للبترول‮ (‬أوبك‮) ‬وهو‮ ‬80‮ ‬دولاراً‮ ‬للبرميل،‮ ‬وفي‮ ‬ظل التوقعات المرجِّحة لأن‮ ‬يحافظ سعر برميل النفط على مستواه الحالي‮ ‬حتى نهاية العام المالي‮ ‬الحالي‮ (‬2009‮)‬،‮ ‬يمكن القول إن البحرين قد اختارت أن تدير أدوات السياسة المالية في‮ ‬ضوء الأزمة وخصوصاً‮ ‬فيما‮ ‬يتعلق بالشق المتمثل في‮ ‬انهيار إيرادات النفط،‮ ‬بحصافة بالغة‮. ‬فهي‮ ‬لم تختر التوسع المغامر ولا الانكماش الانفاقي‮ ‬المتساير مع اتجاه الدورة الركودي،‮ ‬وإنما اختارت الموازنة بين الاحتفاظ بزخم الإنفاق الاستثماري‮ (‬للمشاريع‮) ‬وعدم الإخلال بدالة الإنفاق الجاري‮ ‬المعنوَن للشق الاجتماعي‮ ‬التنموي،‮ ‬وبين الحذر المشروع من الوقوع في‮ ‬فخ العجز الذي‮ ‬قد تُظهره الحسابات الختامية في‮ ‬نهاية السنة المالية وما‮ ‬يترتبت عليه من زيادة الدين العام‮.‬
ومع ذلك فإن هذا التحفظ سواء في‮ ‬تقييم سعر برميل النفط أو في‮ ‬الإنفاق الاستثماري‮ ‬التقديري‮ ‬في‮ ‬موازنة السنتين‮ ‬2009‮-‬‭,‬2010‮ ‬قد أتاح بعض المرونة للحكومة لكي‮ ‘‬تتدخل‮’ ‬عند الضرورة لتخصيص موارد مالية إضافية في‮ ‬موازنة عام‮ ‬2009‮ ‬لتمويل بنود إنفاقية استثمارية حالّة‮ (‬استكمال مشاريع الطرق والكهرباء تحديداً‮)‬،‮ ‬وبنود إنفاقية جارية‮ (‬مثل علاوة الغلاء‮)‬،‮ ‬اطمئناناً‮ ‬للمستوى الجيد والثابت الذي‮ ‬يحققه سعر برميل النفط.
 
صحيفة الوطن
29 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

السياسة والثقافة والتحولات (1)

في مجتمعٍ صغيرٍ يشتبكُ بحدةٍ وبأشكالٍ سريعةٍ وينطفئُ بسرعةٍ كذلك ويهمدُ سنين عدة ثم يثورُ بحدته السابقة الذكر ويحترقُ بضعة أشهر ثم يهمدُ ثانية، وليس فيه اتساع لتجذر الظاهرات السياسية والثقافية تجذراً عميقاً في الأرض، أو لتراكمها الواسع الكبير. والأرضُ عادة هي الناس، والناس ليست فيها شرائح واسعة لتعميق السياسة أو لحب الثقافة، تعتبرُ المناضلين مجردَ محركين للعيش، وقوىً قادرة على الغضب والصراخ في الشوارع أو على الورق، أما أن يكون لهم مؤلفاتٌ ونتاجاتٌ ليستْ على التصاقٍ مباشرٍ بلقمةِ العيش ونقدِ المؤسسات بقوة، فهذا الأمر لا يعنيها.
التصقتْ السياسةُ والثقافةُ في البلد التصاقاً مباشراً، فليس للثقافة تاريخٌ عميقٌ سابق، وحين كوّن التجارُ والبحارةُ والفلاحون المدينتين المحرق والمنامة، قاربوهما بأحياءٍ زراعية وبحرية تنضم إلى أبنية تنمو بشكل عفوي، وكان ما هو سائدُ في وعيهِم من أشكالٍ تعبيرية: المواويل والبوذيات والشيلات الحسينية وغيرها من وسائلِ التعبير المباشرة في المجالس والشوارع، التي كانت واضحةً في معانيها، بسيطةً في نسيجها.
وبهذه عبروا عن ضيقِهم من الفقر والعسف، وكان المعبرون المبدعون عنهم جزءاً منهم، وربما كانوا أميين مثلهم، وربما عاشوا البحر ومخاطره والأرض وظلمها والحرف وشقاءها، ومن هنا لم يكونوا قادرين على الاستقلال الثقافي، وتنمية أدواتهم، إلا النادر منهم، وغالباً ما يكون شيخُ دينٍ لديه موردٌ يجعلهُ مستقلا وقادرا على النمو في صناعة التعبير الدينية.
وبهذا كان الشاعرُ إبراهيم العريض ابنُ عائلةٍ تتاجرُ في أهم سلعة وقتذاك وهي اللؤلؤ، وبهذا الظرف، وبسببِ فترةِ إعدادٍ ثقافيةٍ طويلة في مجتمعِ أكثر تطوراً هو الهند، أمكنهُ أن يرتفعَ عن مستوى الثقافة الأميةِ الشعبيةِ السائدة في ذلك الوقت سواءً بإيجابيتها أم بسلبياتها. كان هو من عالمٍ آخر، وكان عالمُ الغوصِ ينهار، مما جعلهُ يبحثُ عن موردِ رزقٍ مغاير، وغدا التعليم عملاً وفكراً، فالمجتمعُ بحاجةٍ شديدةٍ إلى التعلم، والمدرسةُ هي بؤرةُ المرحلة السياسية – الاجتماعية، والمعلمُ هو مناضلٌ وأديب، وكان ثمة طريقان هنا: طريقُ العريض في تأسيس تعليمٍ ثقافي (رفيع) غير مباشر في منحاه السياسي، يتوجه للنصوص الأدبية الكلاسيكية ويشكلُ تحضراً بعيدَ المدى، وطريق عبدالرحمن الباكر والمعاودة في تأسيس تعليم سياسي مباشر يتوجه لهموم العامة، وفيما قاد الطريقُ الأولُ إلى الأدبِ المنفصل عن المباشرة والآلية، قاد الطريقُ الثاني إلى المنشور والمقالة النارية السياسية والتحقيق الصحفي وصياغة الأخبار المؤدلجة الموجهة وإلى الشعر السياسي، وتغلبَ الطريقُ الثاني خاصةً مع ظهورِ الصحافة شبه الحرة في أوائل الخمسينيات، حيث تُكتب في حرارة البلد وتُطبع في لبنان.
الطريقتان الكتابيتان متضادتان على نحو كبير، فأدبيةُ العريض عازفةٌ عن التلاصقِ الحميمِ مع حرارةِ الحياة، تنأى عن الموضوعاتِ الشعبية وفنونها وجمالياتها، وتتوجهُ للتأملِ البارد في العديد من الأحيان، وتصطنعُ موضوعات، وتغرفُ من عمقِ اللغة العربية والتراث، وتؤسسُ أدبيتَها في المجلاتِ العربية ، وتهتمُ بقضايا تغدو مركزيةً في الحياة العربية المخضبة بالدماء خاصة قضية فلسطين التي تغدو مهمة حيناً ومشجباً في أحيانٍ عدة، تُعلقُ عليها عملياتُ التخفي والهروبِ والنقد المراوغ.
رغم شحوب هذه الطريقة فإن لها اتصالاً بما هو عميق، بقوانين الأنواع الأدبية والفنية، بالاتصال بالثقافة العربية ولكن فترة العريض الكلاسيكية كانت تضعُها في قوالب عبر الشكل والوزن والمعاني، لهذا لم تتصل بالطريقة الكتابية الثانية ولم تقم بتحليل الواقع بهذه المواد الغنية القادمة من الثقافة العربية، رغم أن شعراء استفادوا من العريض ووظفوا القالب نفسه في الهتاف السياسي والنقد الاجتماعي.
كانت طريقةُ العريض ترفضُ توظيفَ الثقافة في الحياة الاجتماعية والسياسية، لكن المجتمع كان ساخناً ويدخلُ معركةَ الصراع ضد الاستعمار البريطاني وكانت أدواتُ الكتابة المختلفة مهمة، لكن كانت أدوات الكتابة هذه سطحية كذلك، فهي ليست انقلابا جذريا على الموال، فهي تعتمد المباشرة، والنظرة الجزئية، ونقد اللحظة الراهنة، مما يعبرُ عن عاطفية شديدة ومحدودة وعن غياب النظرات الموضوعية العميقة، ولهذا بعد غياب الأحداث الخمسينية وهدوء العواطف السياسية المتلهبة، أخذت هذه الكتابات تدخل في نفق، فإمكانية تطوير المقالة قلت كثيراً بزوال الصحافة في البلد، والقصة القصيرة غدت نادرة، وتوجهت الكتابات للقضايا الجزئية ومعالجة المشكلات المحدودة كالطلاق وأوضاع اليتامى وضرورة الإحسان الخ، وحين عادت الصحافة في أوائل الستينيات كانت ابرز الأقلام قد تغيرت، فملكيةُ الصحفِ وما تعطيه من مداخيل قد أوجدت لغةً صحفيةً مختلفة عن لغة “المانشيتات” الملتهبة السابقة، وعن التركيز في كشف الأخطاء وطرح الموضوعات السياسية الوطنية، وأخذت الصحافةُ ترتبطُ بالدوائر الحكومية وأخبارها، وابتعدت عن القضايا المثيرة، وتخصصت وتنوعت أبوابها بسبب ذلك، وكان هذا يقود أيضاً لنمو بعض الكتابات وتجذرها في الأرض، وكانت هذه فرصة مهمة لنمو الأنواع الأدبية والفنية والفكرية على أسسٍ مختلفة عن فترة الخمسينيات.

صحيفة اخبار الخليج
29 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

تقرير الإيكونوميست.. حقائق مهملة!

التقرير الدولي الأخير الصادر عن وحدة الاستقصاء التابعة لـ «ذي ايكونوميست»، والذي حمل عنوان «مجلس التعاون الخليجي العام 2020 – منطقة الخليج وشعبها»، حمل حقائق اقل ما يقال عنها انها صادمة، كونها تؤشر بوضوح على مواقع خلل كثيرة باتت تعتري مختلف البنى الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية في جميع دول مجلس التعاون، وهي حقائق تحمل تحديات كبيرة، ستترتب عليها مستقبلا تداعيات سياسية وأمنية واجتماعية خطيرة، إذا لم يتم أخذ ما جاء فيها على محمل الجد، خاصة وأننا حتى في غياب هذا النوع من التقارير، بتنا نتلمس بحق بوادر تلك الحقائق، فهي بدت اليوم أكثر وضوحا عما كانت عليه من قبل، وها هي قد بدأت تلقي بظلالها على جميع دولنا وإن بدرجات متفاوتة. وقبل أن نسترسل في تحليل نتائج التقرير الأخير، يجدر بنا أولا قراءة بعض تلك المؤشرات، حتى تتضح الصورة بشكل اكبر. فالتقرير الذي هو الثاني ضمن سلسلة تقارير تبحث في أهم القضايا المرتبطة بعملية التطور الاقتصادي في دول المجلس خلال عقد من الآن، قد ابرز مجموعة من التحديات أمام صناع القرار في دول المنطقة، يأتي على رأسها نسبة النمو السكاني المتوقع زيادتها بحسب التقرير بنسبة ستبلغ الثلث من مجموع السكان الحالي، ليبلغ مجموع سكان دول المنطقة أكثر من 53 مليون نسمة مع حلول العام 2020، غالبيتهم العظمى ستكون تحت سن 25 عاما، كما يوضح التقرير بأن التغيرات الديموغرافية والاجتماعية الهائلة في دول مجلس التعاون أدت إلى تحولات كبرى فيها، وهي مهيأة للاستمرار خلال الفترة القادمة. وانطلاقا من تلك الحقائق الماثلة على الأرض، يطرح التقرير أسئلة عدة حول مسائل مصيرية حقا، لعل من بينها سياسات العمالة والهجرة، وقدرة وكفاءة البنى التحتية ونوعية الخدمات، والدور القادم للمرأة التي تحتل تدريجيا مواقع تأثير متزايدة ما كانت متوافرة لها في السابق، حيث الإسهام بشكل أكثر تأثيرا في عملية التنمية، والحضور الذي انتزعته النساء في عمومية المشهد في دول المنطقة. وفي جانب آخر يطرح التقرير مسألة جوهرية لا تقل خطورة عن ما سبق، تلك هي المتعلقة بحقيقة أن المجتمع السكاني الخليجي هو مجتمع شاب، بالمقارنة بمجتمعات شاخت وترهلت كالمجتمعات المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة، وهنا يفرض السؤال نفسه بقوة على المشهد القادم، وهو يا ترى كيف ستتعامل دول التعاون خلال السنوات القليلة القادمة مع ما تتطلبه هذه الحقيقة من التزامات، حيث الأعداد المتزايدة من العاطلين في مقابل شُحة الوظائف وتراجع دور الاستثمارات والقطاع الخاص، وتضخم مؤسسات الدولة ببطالة مقنعة هي غير منتجة بالفعل، لكنها تستفيد في الوقت الراهن مما يوفره نظام الاقتصاد الريعي من ابتسار، فها هي بعض دول الخليج وتزامنا مع نشر حقائق التقرير أصبحت تجاهر بضرورة وجود نظام ضريبي وحقوق انتقال العمالة وغيرها. بالنسبة للبحرين، بدأت الدولة تتحسب لبعض تلك المؤشرات، وذلك عن طريق اتخاذ خطوات لإحلال وتمكين العمالة الوطنية، وبالتالي التخلص التدريجي من حجم وتبعات ما تفرضه العمالة الوافدة، المتوقع لها أن تكون قريبا عمالة مهاجرة، لها حقوق وأوضاع كتلك التي تتمتع بها في دولها الأصلية، وهي حقوق ذات طابع دولي ملزم في الغالب، حيث ترتبط بالحقوق والممارسات والحريات العامة والعمل النقابي والسياسي والأجور والامتيازات والعدالة والمساواة وغيرها، وهي بلا شك التزامات لا تبدو دولنا الخليجية ولا حتى تشريعاتنا، بل وحتى مجتمعات الخليجية مستعدة لها كما يجب! أضف إلى ذلك ما يعتري سياساتنا، مما سيخلط الكثير من أوراق اللعب حينها بأدوات ولاعبين جدد، سيفرضون شروطهم لحماية عمالتهم المهاجرة وأجورها وحقوقها، لتصبح معها دولنا في موقع لا تحسد عليه.. فهل سنستعد جيدا من الآن للاستحقاقات المنتظرة؟ وهل تكفي القرارات الفردية لكل دولة على حدة أم هو جهد جماعي من قبل الجميع، آن أوان التفكير فيه بشكل أكثر جدية؟!
 
صحيفة الايام
29 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

عندما يتجوَّل كاتم الصوت بـ” حرية “


قضى العراقيون أكثر من أسبوعين في ‘دوامة من التشنجات’ على التعديلات الجديدة التي أقرها مجلس النواب على قانون الانتخابات المعدل، وما بعده من نقض نائب الرئيس طارق الهاشمي، الذي قبل البرلمان جزءا من نقضه، والتف بثلاثة ائتلافات كبيرة ‘اثنتان شيعيتان وائتلاف الأكراد’ على جزء آخر منه، لكن دون انفراجة، وسط تعقيدات طائفية وسياسية يتخللها تفجير مفخخات سيارات موت تحصد أرواحا بريئة. وعلى جهة خلفية أخرى، ربما منسية، يتحدث ‘كاتم الصوت’ ليكتم أصواتا بيضاء من إعلاميين وصحافيين ومفكرين ومثقفين وناشطين سياسيين وحقوقيين، ولا أحد يعرف على وجه الدقة: من يحركه؟، ومن يقف وراءه؟، ومن يضغط بسبابته على زناده؟.

آخر ضحايا ‘كاتم الصوت’ محاولة اغتيال الإعلامي عماد العبادي الاثنين الماضي، تماماً كما تصدى هذا ‘الكاتم’ للناشطة صفاء الخفاجي قبل أيام من حادث العبادي، وقبل ذلك بأكثر من عام كان ‘الكاتم’ ذاته يغتال المثقف العراقي اليساري الكبير كامل شياع، حتى تصل الأمور بالعراق والعراقيين إلى المعادلة القائلة: حينما يكون القتلة، في أي بلاد كانت، دائما ‘مجهولون وفي مأمن’، و’كاتم الصوت’ يتجوَّل بكل حرية، وهي مفارقة عجيبة، فعلى هذه البلاد ‘الرحمة والغفران’. في العراق الجديد، جميع الكتل تتحدث عن دولة المؤسسات والقانون، لكن جلهم يرسب في أول اختبار لمادة: ‘الحلم بعراق حر، ديمقراطي، موحد، مستقل تسوده عدالة القانون’، والأمثلة كثيرة، بدءاً من فلتات ‘نظام المحاصصة الطائفية’ الذي جعل من القانون كل يقيسه بمقاساته، أو مقاس طائفته العمل نكاية بالطائفة الأخرى، وهكذا على سبيل المثال قضية وزير الثقافة أسعد الهاشمي الذي كان إماماً لمسجد، فصار وزيراً للثقافة في بلاد تغص بالمثقفين، والمفكرين والعلماء، والتي من المفترض أن تؤسس لعراق جديد ينكس ثقافة الماضي الكريه بعصبيات حكم الفرد، والحزب الواحد.. وهذا الرجل بعد فترة وجيزة من تقلده منصبه يتهم بأنه وراء التحريض على اغتيال نجلي النائب ‘مثال الآلوس’، ويهرب هذا الوزير متخفياً بجلده إلى ‘المنطقة الخضراء’، أمام سمع وبصر الحكومة وكتلته، وتُجر قضيته دون أن تطاله العدالة، صوب ملعب ‘الطأفنة’، على الرغم من أن صاحب الدعوى القضائية ‘الآلوسي’ سنياً، والمتهم فيها ‘الهاشمي’ سنياً أيضاً،غير أنه نتذكر الآن من جديد قضية اغتيال الشابين نجلي الآلوسي ,2005 وفزعة كتلة ‘التوافق’ التي في البدء علقت ‘نشاطها البرلماني’، احتجاجاً على مقاضاة الهاشمي، ومن ثم علقت نشاطها الحكومي، وعادت لتقرر مقاطعة وزراء الكتلة حضور اجتماعات مجلس الوزراء فقط، ثم تستثني نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي من هذا التعليق وذاك، فيما ذهب البعض الآخر بعيداً في تخبطه، باعتبار أن المسألة هي ‘إزاحة السنة تماما من المشهد السياسي العراقي، سواء من خلال القتل أو الاغتيال السياسي’، والأنكى أن عدنان الدليمي، رئيس كتلة التوافق يطلب من النائب الآلوسي إلغاء التهمة الموجهة ضد الوزير بالرغم من كونه متهما بقتل نجليه!!.. إن هذا كله لتأسيس دولة القانون، فإذا كان الوزير بريئاً من دم نجلي الآلوسي، فعليه أن ينسجم مع القضاء ويثبت براءته، ومن ثم يطالب بتعويض لتشويه سمعته، أما الهروب من وجه العدالة، فلا يعني إلا شيئاً، أن الوزير لا يحترم القانون ما دامت كتلته تحميه.

في الملعب السياسي العراقي، برزت مؤخراً سرقة بنك الرافدين في المنطقة الخضراء، ويكتشف أن ‘حاميها حراميها’، وهم ضباط في حرس نائب رئيس الجمهورية عادل عبدالمهدي، والمخجل أن توضع المسروقات في مقر صحيفة تياره ‘المجلس الأعلى الإسلامي’، فبماذا نفسر كل ذلك؟.. فمن ينظر لا بد أن يرى.
 
الوقت  27 نوفمبر 2009
 
 

اقرأ المزيد

أليست هذه مبالغة؟


أن تعيش في بلد ليس به قانون يحكمه بغض النظر عن ما هو القانون، فإن هذا البلد يعتبر غابة. وان كان هناك قانون أي كان شكل القانون ولا تلتزم به فأنت كمن يعيش في الغابة.

فلا غرابة أن ترى من يريد أن يعيث الفساد في الأرض ومن ثم يريد أن لا تطاله يد العدالة.

مخطئ كائن من كان، من يعتقد أن من يفسد في الأرض يدوم طويلا، ليس المقصود في عمره، فهذه حكاية أخرى مرهونة بيد من يبقي ويذر. إن كان الأمر مستورا لسنين فلا بد له أن ينكشف بغمضة عين، من مد يده ليأخذ مال ليس له حق فيه، لا بد ان يكون مصيره هناك وراء القضبان.
من يتستر على الجرم، فهو مجرم، هكذا نفهم الحق، وان كنا لسنا من ذوي القانون، ولكن لا اعتقد ان الجميع يفهم ذلك.

أي ارض تعيش عليها يجب أن تحترمها، وأي بلد تأكل من خيراتها عليك أن تكشف أي خلل فيه، حتى لا يغرق الجميع في مستنقعات الفساد.
كل هذا، لأني اعلم جيدا أن هناك داء قد بدأ يستشري، و على الجميع أن يتصدى له وإلا سنجبر على أن نساهم في توسيعه حتى تنتهي أمورنا بالسرعة المطلوبة.

كنت في حديث مع احدٍ له من القدر والشأن ما له، وتجاذبنا أطراف الحديث عن هذا الداء، فتعجبت انه وبملء الفم يقول انه لا يوجد احد لم يصب به. هل حقا الجميع يرتشي؟! لا اعتقد،  لسنا في أي دولة أخرى، إننا في دولة المؤسسات والقانون. أنا متأكد أن صاحبنا كان يبالغ، ولكن اعتقد بأن لا توجد نار من غير دخان، وآخر هذا الدخان ما أحيل إلى القضاء بشأن مفتشي السياحة.

لحظة من فضلكم: أود أن أتساءل، عن ألعاب مشبوهة يصرف عليها مئات الدنانير والفائز يحصل على تلفون فهل لنا أن نعرف ما حكايتها؟! لماذا مسموحة عند البعض وممنوعة عند البعض؟! أليس القانون على الجميع؟! 


 
الأيام 28 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد

العمال بين الرأسماليتين

تشير الملامح العامة للاقتصاد الوطني إلى تمتع الرأسمالية الحكومية بأقوى الشركات ذات الدخول العالية، رغم أن بعضها يواجه مشكلات اقتصادية كبيرة بسبب الأداء البيروقراطي الطويل، وبطبيعة الحال لابد أن تكون أجور الموظفين والعمال في القطاع العام، وهم القاعدة العريضة التحتية للبروليتاريا، أفضل من القاعدة التحتية الأوسع لعمال القطاع الخاص، والفارق بين الأغلبيتين في وجود الأجر العام المتوسط في الفئة الأولى بين 200 و300 في حين ينزل لدى القطاع الخاص بين 50 و.150
إن ثمة مشكلات محورية في البناء كصغرِ السوق وما يترتبُ عليه من ضعف قوى الشغيلة العددية والنوعية وضعف مستواها المعيشي، وتدني إنتاج النفط في البلد، والمشكلات البنيوية في الإدارة كوجود موارد كبيرة من دون قدرة على الضبط والتدقيق والتوزيع الوطني، وخروج فوائض كبيرة من الرأسمالين العام والخاص للخارج، وعدم قيامهما بإعادة تشكيل بنية الاقتصاد الخدماتية القائمة على تصدير المادة الخام، فيما يكون مجيء الرساميل الأجنبية للاستحواذ على أرباح أخرى، وبعدم المساهمة المؤثرة في السوق المحلية.
إن ضعف الأجور لدى القاعدة العريضة التحتية من الشغيلة البحرينيين والأجانب يلعب دوراً في جمود السوق وعدم تطور قوى العمل، وتسببُ ذلك عملياتُ انتزاعِ الربح الأقصى في مثل هذه السوق الضيقة بكل شيء.
الرأسمال العام لا يُحكم بوسائل الرقابة الدقيقة، وفئاته العليا تمتص الزيادة فيه وتوجه أجزاء كبيرة منها نحو جوانب استهلاكية حكومية عامة، فالدخول العامة كبيرة لكن الهيكل البيروقراطي يمتصها، لتضخمه غير الفعال، ولضخامة العمليات غير الاقتصادية البذخية والمظهرية وغير ذلك من مشكلات وكذلك التسربات غير المنظورة منه للقطاع الخاص.
إن اتساع القاعدة العمالية الضعيفة الأجور من أجانب ومواطنين التي تمثل السبب المحوري لضعف الاقتصاد والحياة الاجتماعية، لا ينفي وجود الفئات المتوسطة ذات الرواتب الأعلى، التي تلتقي الفئات المتوسطة الحرة في القطاعات الخاصة.
إن هزالة الأجور تُقابل بارتفاع وسائل المعيشة وبارتفاع الأسعار المستمر، وبالمنافسة بين الشغيلة البحرينيين والأجانب، وبضيق السوق المحلية، وبالسياحة التي ترفع الأسعار على المواطنين والعاملين الأجانب.
إن الرأسمالية الخاصة لا يمكن أن تعطي أجوراً مرتفعة للشغيلة اليدويين، بسبب الموارد المحدودة والمنافسة الشديدة في هذه السوق الضيقة، وبسبب الرغبة في الحصول على أرباح أكبر دائماً، ولهذا فإن حياة الشغيلة كلها تعاني الفقر والحاجة وعدم الوصول إلى الخدمات الجيدة من تعليم وصحة وغذاء ومواصلات.
ويلجأ الرأسمالُ الخاص بشكلٍ كبيرٍ إلى جلب مثل هذه العمالة الرثة للحصول على الفروق الاقتصادية بين البلدان، وهو أمرٌ يؤدي إلى التلاعب بالحدود الدنيا للأجور وتخفيضها بشكلٍ مستمر، ويتواصل ذلك عبر رفع أسعار السلع، خاصة في المواد الأولية كالأرز والطحين والسكر والدهن وغيرها، فيحدث تآكلٌ مستمرٌ للأجور. ويتم التغلب على كفاحية العمال بجلب عمال جدد دائماً وإحداث المنافسة الشرسة بين العمال المحليين والأجانب.
وفيما يحافظ الرأسمالُ العام على أجوره المحددة لكنه يلجأ إلى وسائل أخرى لتخفيض الأجور، عبر الاستعانة بشركات المقاولات التي تجلب عمالاً متدني الأجور.
ليست مصادفةً أن يكون أغلب العمال من الأرياف سواء المحلية أو الآسيوية، لأن ذلك يتم بآلية الأجور المنخفضة، كما يعطي ذلك وعيا نقابيا طبقيا محدودا وأشكالا من الوعي الديني التجسيمي التنفيسي غالباً، وتسهلُ عبرهِ العملياتُ الاقتصادية الرأسمالية المتخلفة، رغم طرح الهدف لإنشاء مدنية تحتذي بالغرب المتطور.
وتُقدم الخدمات الإسكانية من قبل الرأسماليتين الحكومية والخاصة بشكلِ الاستغلال الكبير، فالعمالُ المحليون يشترون بصعوبةٍ كبيرة منازل ذات قيم بأربعةِ أضعافِ قيمتها الحقيقية إن لم يكن أكثر، ويُستنزفون طوال حياتهم من جراء ذلك، فيما يحصل العمال الأجانب على مساكن قديمة رثة، أو شقق ويسكنون فيها بأشكال جماعية متعددة.

صحيفة اخبار الخليج
25 نوفمبر 2009

اقرأ المزيد