المنشور

جدلية التراكم الديمقراطي


إذا كان العراق يتمزق ويتدمر فهو كذلك ينمو ويتشكل جديداً.
قامتْ التصوراتُ التقدمية الأخيرة على القطع البنيوي المطلق مع الآخر الرأسمالي، وطنياً كان أو غربياً.

أعطى الاحتلال سلسلةً من التضاداتِ الحارقة، التي أظهرتْ تداخل الغربي والوطني، الديمقراطي المعلب والمحافظ الحقيقي في عظام البلد.
وإذا كان الوعي التقدمي القديم يقوم على الميتافيزيقا الفكرية أكثر من الجدل، فلم يعدْ مثل هذا الوعي قادراً على قراءةِ الألوانِ المختلفةِ والتداخلات المعقدة، وتكوين النضالات المُركبة.

وفيما الغربي المسيطرُ يهدمُ إستبداداً فهو يخلقُ إستبدادات جديدة، وبين لحظةِ هدمٍ شموليةٍ تتدفقُ شمولياتٌ، وبين ظهورِ حريةٍ تنزلُ فخاخٌ شمولية كثيرة.
وفيما تتعاونُ مع غربٍ ديمقراطي تصارعُ غرباً متدخلاً يُلحقكَ بعربتهِ ذات السكك الخاصة، ولا يجعلكَ تصنعُ سكتك الحرة.
وفيما تعتز بنضالك الثوري السابق تنقدهُ بصورةٍ موضوعية ولا تحيلهُ إلى مآتم جديدة أو خرابة يأس.

وفيما كنتَ تناضلُ لإزالةِ الرأسماليةِ عليكَ أن تشجعَ صعودَها الوطني الإنتاجي الآن وتصارعها في بخسِ أجورِها وفي بذخية أشكالها وطفيلية أعمالها!
وفيما كنتَ تقدسُ الطبقةَ العاملة وتحيلُها إلى أسطورةٍ خارجَ الزمانِ والمكان عليك أن تضعَها فيهما، وترى بذورَ العلوم والنضال والوطنية والديمقراطية الصغيرة فيها وترعاها!

الأممية، الوطنية، القومية، المذهبية، وشائجٌ متداخلة، الوعي المادي الجدلي يضعُ بينها جسوراً، ولكلٍ منها تركيب، فالأمميةُ هي الخيمةُ الكبرى التي تضمُ البشرَ منتجين ومالكين، هي التاريخُ الأساسي للشعوب وصانعةُ التشكيلات والتداخلات الكبرى، وتصيرُ مجردةً وقاتلة إذا تناقضتْ مع القومية والوطنية، ففي التوحيد الوطني طوبة للأممية، وفي تفكيكِ المذهبية عن التعالقِ مع الشمولية السياسية الحاكمة تطويرٌ للدين، وفتح الآفاق أمامه للتجديدِ العقلاني.

النسخُ الأولى القديمةُ من التقدميةِ هي طيرانٌ فوق التضاريس، هي موديلٌ مجردٌ موحدٌ يُركبُ على كلِ التضاريس، لا يَعرفُ المركِبون خصائصَ الموديل وتاريخيته وصلاحيته وكيفيته، لا يفككون العلاقات بين أمميته، ووطنيته، وقوميته، ومذهبيته، وطبقيته.

الآن تغدو القراءاتُ والدراسات مواكبةً للانتخابات والعمل اليومي الدعائي النشط، هنا يجري فحص موديلَ الرأسمالية الديمقراطية المجلوب عبر القوة العالمية، وتفكيك أجزائه، حيث لا أن يكون بدون الصناعتين الحرة والعامة المتداخلتين لخلق قوى إنتاج وطنية متحررة، تعيد إحياء وتطوير القوى الشعبية المنتجة من رأسمالية وطنية وعمال وفلاحين ومثقفين.
هذه هي الشبكةُ التوحيديةُ العابرةُ للنسيح المُفكك المذهبي والسياسي القومي الانعزالي.

من الضروري تجاوز التناقضات العدائية بين الوطني والمذهبي والعالمي وبضرورةِ رؤيةِ البذور المفيدة في كلٍ منها، وصفها بطريقةِ التحام الوطنية والعلمانية والأممية الديمقراطية الجديدة في العالم، لتغدو نضالاً عراقياً مركباً، يلغي من الأمميةِ التبعيةَ والتجريدَ الشكلاني والذيليةَ لعولمةٍ إستهلاكية، نازفةٍ للموارد، ومفككة لعرى الوطن وتاريخه الإنساني وصعوده الوطني!

ومن الضروري تجاوز المذهبيةَ الشمولية المعرقلة لتطور الإسلام، ولتحررِ المسلمين ووحدتهم، وهذا لا يحدث إلا بعلمانية ديمقراطية ثقافية تنويرية طويلة تحررُ العامةَ والخاصة من أوهام الطائفيات، وتعيدُ قراءات الإسلام بصورٍ ديمقراطيةٍ لتأسيسِ حضارات إسلامية ديمقراطية جديدة تضيفُ للإنسانية ولا تكونُ توجهاً إنتحارياً سائراً نحو الماضي عبر المجازر والخرائب.

إن العقولَ والإرادات التقدمية التي لديها كنوز من التاريخ والتراث والعلاقات العالمية لم تعد حكراً لجهة جغرافية، أو لموديل لا يقبل التعديل والنقد والتجاوز، فالماضي النضالي لم يمت لكن الاشتراكية تغيرت ولم تعد شعارات آنية مباشرة، وما تكرس من قطاعات عامة وقوى سياسية يتطلب مشاركة ومراقبة البشر، وسوف تكون لها مخاضات وتحولات جديدة في المستقبل، فلم تذهب التضحيات عبثاً، ولتطورها تتطلب تقدميين أكثر وعياً وتبصراً بالقادم على المستويات القومية والمستويات العالمية معاً، يعبدون الصلات بين الشعب وبين الشعوب، ويؤثرون في مرحلةٍ جديدةٍ من هزيمة الرأسماليات الحكومية الشرقية الشمولية نحو شراكةٍ ومكانة أكبر للعاملين.

كان صراعُ العراق مع شموليتهِ الحكومية الدموية وصارت مع شموليات حكومية جارة، تريدُ إلحاقَهُ بمشروعاتِها، ووقف مشروع الديمقراطية الوطنية الذي هو مؤثر ديمقراطي على شعوبها المحبوسة، مستخدمةً شعارات الوطنية والمذهبية والقومية في تفكيكِ العراق علها تلحقُ أجزاءً منه بها، أو تجعلهُ يدورُ في حلقةٍ طائفية مفرغة.
إن توسيع حضور الوعي الديمقراطي عند كافة أجزاء الشعب، عبر جبهات وقوى أهلية واسعة تجذر هذا التحول وتدعمه بإجراءاتٍ إقتصادية لصالح الأغلبية الشعبية هو المسار الطبيعي، بدلاً من العزلة والمطالبات ببرامج إشتراكية وثورية كاسحة وغيرها من الكلمات الرنانة بدون فعل على الأرض.
أو أن يجري الحديث عن الصفاء الوطني المطلق، والنقاء الطبقي الجوهري، في حين يتطلب الوطن كل ذرة من نضال، والأستفادة من أي شعاع في الحطام، وخلق تراكم ديمقراطي صعب في كل الطبقات والمذاهب والسياسات والمناطق.

لا شك أن مرونة الرؤى لدى التقدميين العراقيين ستلعبُ دوراً ليس لصالح الشعب العراقي بل لصالح شعوب المنطقة كذلك.

 

اقرأ المزيد

ورحل النقابي جليل الحوري واقفا على قدميه


رحل المناضل (جليل عمران الحوري) وهو يؤدي واجبه الوطني والنقابي وذلك أثناء مشاركته في الاعتصام الذي نظمته نقابة المصرفيين البحرينية، احتجاجا على ما أقدمت عليه مختلف المصارف والبنوك بفصل العديد من الموظفين العاملين لديها، فصلا تعسفيا.

رحل النقابي المخضرم (جليل الحوري)، بعد أن اتخذ موقفا وطنيا صلبا، بتحدي ورغبة أكيدة في مشاركة رفاقه أعضاء نقابة المصرفيين وأعضاء جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي، احتجاجا على عسف الظلم الاجتماعي بحق المضطهدين والمسرحين من أعمالهم ووظائفهم.. وبالرغم من أزمة أمراضه التي ألمت به، والمشاكل الصحية التي كان يعانيها، فإن هذا النقابي الأصيل قد آل على نفسه بجلد وتجلد، ألا يستكين وذلك بإصراره العنيد على مواصلة النضالات النقابية، كعادته في لحظات تاريخية حرجة كهذه. وفعلا فقد حمل لواءها حتى الرمق الأخير من حياته.

ومثلما جاء رحيل المناضل والنقابي (جليل الحوري) مشرفا بالنسبة إلى المناضلين كافة بسقوطه في ساحة النضالات العمالية المطلبية في يوم 24 ابريل 2010م.. فإن جميع رفاقه المناضلين سواء في) المنبر الديمقراطي التقدمي) أو خارجه، يفخرون بنضالات وتضحيات هذا المناضل الملتزم، وهذا النقابي العريق، الذي تألق بوهجها وبريقها في سماء الحرية، قد امتدت إلى أربعين عاما خلت، هي مازالت وستظل ماثلة في ضمير الشعب، ووجدان الطبقة العاملة البحرينية، وذاكرة الوطن.

ولعل ما يبعث على القول فخرا ان المناضل (جليل الحوري) قد أكد للآخرين، سواء أثناء حياته أو ما بعد رحيله، أن المناضل الحقيقي لا يساوم على مبادئه، وان المناضل الملتزم، يظل أمينا على انتمائه، ويصون تاريخه، ويذود عن أفكاره، حتى إن جاء هذا على حساب شقائه بل حياته.. ليؤكد الراحل الحاضر بالتالي موقف المناضل، الذي قلما يجود الزمان به، في الزمن الصعب.. وليضرب انموذجا وطنيا ومبدئيا ونقابيا رائعا، في “فترة تمتحن فيها نفوس الرجال” كما يقول المناضل المواطن (توم بين).. أمام الكثير ممن تألقوا المكانة الحزبية، وتبوأوا المناصب القيادية، ورفعوا الرايات النضالية، لكنهم في نهاية المطاف انتكسوا وتراجعوا بمزيد من الانكسار، في تنكرهم لانتماءاتهم وتخليهم عن مبادئهم.

وحينما يضرب الراحل (جليل الحوري) أثناء حياته، ذاك “الأنموذج الوطني الرائع”.. فإن تاريخه كان حافلا بأروع النضالات والتضحيات.. فهو المناضل الوطني والناشط النقابي في (جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي) وكذلك في (جبهة التحرير الوطني البحرانية) على حد سواء.. والنقابي المخضرم وأحد مؤسسي اللجنة التأسيسية لاتحاد عمال البحرين عام 1972م.

ومثلما كان المناضل (جليل الحوري) متبوئا ومتصدرا الصفوف الأمامية في تنظيم الإضرابات والاعتصامات العمالية، وإحياء المسيرات الشعبية، وعلى رأسها المسيرات لعيد العمال في اليوم الأول من مايو من كل عام.. فإنه كان المدافع الأول عن العمال المضطهدين والعمال المفصولين، والمدافع العنيد عن حقوق الطبقة العمالية البحرينية في كل الأوقات.. ناهيك عن أن الراحل قدم ضريبة النضالات الوطنية غاليا، حين مواجهته أوجاع السجون والمعتقلات.. معتقلا سياسيا، ونقابيا وطنيا، في الأعوام المتتالية (72، 73، 74، 75م) بشجاعة المناضل الذي تجاوز بإرادته أصعب المواقف، وقهر أتعس اللحظات.. بقدر ما كان صامدا حينما كان يعاني اضطهاد البطالة أعواما طوالا، من دون ان توهن تلك البطالة من عزمه وعزيمته، حتى يوم رحيله.

وسيظل يوم رحيله علامات مضيئة بمشاركته عمال وموظفي نقابة المصرفيين احتجاجا على الاستغلال الاجتماعي.. بقدر ما يمثل يوم رحيله شهادة نضالية وأخلاقية للتاريخ وتعاقب الأجيال وتقادم الزمن.. لأن الراحل الحاضر (جليل الحوري) حسبما كان مناضلا من خارج قضبان السجن ما قبل اعتقاله وأثناء فترات اعتقاله، فإنه ظل مناضلا حتى الرمق الأخير من حياته.

طوبى لرفيق الدرب المناضل والنقابي (جليل عمران الحوري) الذي كان مسكونا بقضايا شعبه ومجتمعه، وقضايا طبقته العمالية البحرينية.. وسلام عليك أيها المناضل الحقيقي، وأيها النقابي العريق، يا من وجدت المكانة الإنسانية التي تليق بنضالاتك ومكانتك في ضمائر المناضلين، وقلوب وعقول الرفاق، الذين بدورهم يعاهدونك أنهم سيصونون أمانتك (النضالية والنقابية والمبدئية) في أعناقهم، وفي قلوبهم ووجدانهم وما بين جوانحهم.. فنم قرير العينين.. مرتاح النفس والضمير ما بعد رحيلك.. بعد ان أديت واجبك الوطني والنضالي والنقابي المنوط بك أثناء حياتك على أحسن وجه مشرف، وبكل ما تحمله كلمة النضال من معنى.

 
أخبار الخليج 7 مايو 2010

اقرأ المزيد

الأفكار والتحولات في العالم الثالث

إن الاضطرابات في العالم الثالث وعدمَ وجودِ تطورٍ حثيثٍ متصاعدٍ من دون حروب وكوارث لا يمكن أن تنفصل عن اضطرابات الأفكار وعدم وجود تقارب بين التيارات.
إن الأفكارَ الرئيسية وهي النزعاتُ العقلانيةُ الدينية والليبراليةُ والماركسيةُ وتنوعاتها، تعبرُ عن هواتٍ كبيرةٍ بين هذه التوجهات، ففي بلدان فقيرة ومتخلفة وأمية، تغلغلتْ أكثرُ الأفكارِ العالمية تطوراً، وهذا يعبرُ من جهة، عن استقلاليةِ الأفكارِ وقدراتِها على الحراكِ الواسعِ من البُنى الاقتصادية والاجتماعية، ويعبرُ من جهةٍ أخرى عن التفاعل البشري المضطربِ وغيرِ المنظمِ وعن اصطدامِ تشكيلات اجتماعية ببعضها بعضا وبشكل قوي في هذا الزمن.
إن الأفكارَ قادرةٌ على التحليقِ وعلى الخيالِ وتبصرِ المسافات المستقبلية، وإعطاء إرشادات مهمة، وكذلك على السير للوراء، أو القيام بقفزات مغامرة أو توجيه الشعوب لمزالق أو جمود.
إن التراتبَ المبينَ أعلاه للأفكارِ وهو ضخامةُ أفكار الأديان المحافظة وبصيص العقلانية الدينية والليبرالية والماركسية، يعبرُ عن بقاءِ القسمِ الأعظم من الوجودِ البشري المادي الإنتاجي في عالمِ الحرفِ القديمة والتشكلاتِ ما قبل الرأسمالية الحداثية، وحين دخل العالمُ الثالثُ حومةَ التاريخ البشري الحديثِ الذي تم بقيادة الغرب الرأسمالي الصناعي، كان سوقاً للاستنزاف واللصوصية وكان دوره هو تغذية المصانع في الغرب.
وهكذا فإن الليبرالية هنا حصلتْ على ضربتين: غربية وشرقية، فالغربُ كرّسَ الدكتاتوريات الحارسة لهذه المناجم والغلال، كما أن طبقاته العليا راحتْ تحاربُ الفكرَ المادي الجدلي والأفكارَ الديمقراطية العميقة، وراحتْ تحافظُ على الأشكال الفكرية المحافظة الدينية في الشرق.
ولهذا رأينا اللحظات الوامضةَ للفكرِ الليبرالي الديمقراطي الشرقي سواء لدى غاندي أو سعد زغلول أو طه حسين أو تولستوي، الذي نبتَ هو كذلك فوق الحاضنة الدينية التقليدية، فكان اقتباسات من الغرب واستيرادات وارتكازات على ماضي الشعوب الشرقية ذي الشبكات الدينية الهائلة.
وحين ظهرتْ الرأسمالياتُ الحكوميةُ على درجاتٍ متفاوتة من النمو وقامت بتغيير البُنى الانتاجية المتخلفة الشرقية، صعّدت كلها الأشكالَ الدكتاتوريةَ من الفكر، حسب طبيعة الظروف الموضوعية ومستويات الوعي المحدودة، والخوارق موجودة ولكن كبلدان استثنائية حصلت على ضرائبها الدموية من هذه الاختراقات.
إن المادية الجدلية الديمقراطية الغربية والليبرالية التنويرية الخلاقة وكذلك الأفكار القومية المحافظة في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، كلها تم استيعابها شموليا في الشرق، لقد هضمها الشرقُ المحافظُ الزراعي غيرُ الديمقراطي بآلياتهِ الخاصة، وبمستوياتِ تطوراتهِ المتباينةِ بين البلدان الشرقية، فحول الماديةَ الجدلية إلى مادية شمولية شبه ميكانيكية، ضعيفةِ الجدل والقدرة على التركيب والغنى التاريخي، وحول الاشتراكية والقومية والملكيات الواعدة بالديمقراطية إلى دكتاتوريات، ومن خلال هذه الجوانب الصغيرة المقطوعة والمتحولة إلى أدوات غير مرنة في التحليل واستشراف المستقبل، تغلبت ايديولوجياتُ الأديان والمذاهب، بتنميطاتها الخرافية والغيبية وبخداعِها للجماهير الأمية.
لقد قامت الأفكارُ الماديةُ والليبراليةُ شبهُ الشموليةِ المحولة من الغرب والقومية بإنتاجِ رأسمالياتٍ نهوضية شرقية كبرى مع كل هذه التبسيطات والشعاريات الحربية، وهذا جزءٌ من تداخلِ تاريخِها الديني الشمولي مع الأفكار القادمة التجددية، والعالمُ ينمو عبر حلقاتٍ قافزةٍ حيناً وبطيئة تراكمية حيناً آخر، وهذا هو مستوياتُ وعي الفئاتِ الوسطى الصغيرة الحاملة لهذه الأفكار التجديدية، ومستويات الجماهير العاملة الغارقة في الأمية والخرافات، الجاهلة بمصالحها والتواقة كذلك إلى العدالة وإلى نمو معيشتها ومحاربة أمراضها.
ان هزيمة الرأسماليات الشرقية الشمولية الكبرى هي جزءٌ من تطورِ الرأسماليةِ العالمي، وهو قيام هذه الرأسمالية التي غدت كونيةً، بتجديدِ قواعدِها الإنتاجية وأسواقها، وإذا كانت الرأسماليةُ الغربيةُ هي التي تتمتع بمركزِ القيادة فإن طليعتها المتمثلة في تطوير قوى الإنتاج وتضفيرها بالثورة التقنية المعلوماتية، جعلت قوى الإنتاج الشرقية العتيقة تتفككُ وتعجزُ عن اللحاقِ بهذا المستوى في تصنيع السلع وتسويقها، والسلعُ في النهاية هي التي تقصمُ ظهورَ الأنظمة أو تطورها. هذا جعل الغربَ الرأسمالي الديمقراطي ذا السوق الفاعلة مع الإنتاج ينتصرُ في هذه المرحلة، وبالتالي فإن جماهيرَ هائلةً في الشرق خرجتْ من أسر المادية الميكانيكية السياسية والقوميات العسكرية الشمولية، ودخلتْ حقبةَ السوقِ – الدولةِ شبهِ الشمولية، ولم تجد سوى جذورها الدينية وشظايا من الليبرالية الشعارية أمامها تستغلهما في الحراك السياسي.
رأينا الاستعادات للهندوسية وللبوذية ولأفكارِ الطوائف الإسلامية واليهودية والكاثوليكية والأرثوذكسية، وهذا يمثلُ حراكَ أجهزةٍ حكومية متنفذة وفئات وسطى جديدة قادمة من مناطق متخلفة تكدست في المدن، وظهرتْ لها الرأسمالية كوحش من العصور الحديثة، فاستعانت بخيالاتها ومأثورها الأسطوري وجمل من الأديان وبأجواء الوحدة “الجميلة” التي وفرتها لها الأديانُ خلال التاريخ الطويل، حيث لم تستطع إنتاج طبقات عاملة صناعية قوية ذات نقابات وأحزاب مؤثرة، ولا برجوازيات وطنية ديمقراطية، فقد كانت هذه مع الفكر المادي الجدلي والليبرالية والعقلانية هي ضحايا الأنظمةِ الدكتاتورية النهضوية السابقة.
هذه هي مرحلةُ انتقالٍ بين رأسماليتين عالميتين، خاضتا عمليات صراع باهظة التكاليف، وجذبتا مليارات من البشر لإنتاج غيرِ موحد، ومتضاد، ويعيشُ سلسلةً من العواصف، من أجل الأسواق وتخفيض تكاليف الإنتاج وتقليل العمال، وإزالة الهياكل البيروقراطية المكلفة، وعبر عولمة العمالة والأرباح والثقافة.
إن عمليات تحليل هذه البراكين الاجتماعية بالمعلومات والتحليلات والمجابهات صعبة، فتلجأ الجماهير إلى السائد من الأفكار والعلاقات المحافظة، وإلى ظلال الدول التي لم تزلْ قوية وبمظلات رأسمالية حكومية تواصل الحياة، تبحث الجماهير عن الرزق والستر وتحت مظلات الأديان تحفظها من التقلباتِ “السوقيةِ الشيطانية” لكن بعضها يقود وتضطر قوى كبيرة إلى النضال من أجل التعاون والصراع ضد التعسف بالأجور وبحياة الناس المعيشية، وتكميم العقول، وبنقلهم مثل المواشي عبر القارات، وليس هنا سوى التعاون مجدداً بين التيارات الفكرية وعبر تجديد أدواتها للوصول إلى ما هو مشترك في الكفاح ضد الاستغلال الحاد.

صحيفة اخبار الخليج
7 مايو 2010

اقرأ المزيد

عبد الواحد عبد الرحمن ورفاقه

أعادت نقابة عمال أ لبا ذاكرتنا عقوداً الى الوراء، حين قررت في بادرة وفاء جميلة ومُعبرة تكريم مجلس ادارة نقابة العاملين قي البا التي تشكلت فترة الحياة النيابية الأولى في سبعينيات القرن الماضي، برئاسة المناضل النقابي والوطني عبدالواحد أحمد عبد الرحمن، وجاء هذا التكريم في الحفل السنوي الذي أقامته النقابة وبحضور ادارة الشركة وممثلي الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين بمناسبة الأول من مايو عيد العمال العالمي.
اثنان على الأقل من مجلس الادارة المذكور رحلا عنا هما المناضلان حميد ابراهيم عواجي وابراهيم علي سلمان بعد حياة كفاحية حافلة توزعتها السجون والمنافي، فيما يواصل الاخرون نضالهم من مواقع مختلفة بينها المنبر الديمقراطي التقدمي والحركة النقابية والعمالية في البلاد.
كان شعار الحفل الذي اقيم هذا العام هو التالي: «عبد الواحد أحمد عبد الرحمن- مناضل من الزمن الصعب»، الذي كرم فيه هؤلاء المناضلون، والقى عبد الواحد كلمة مؤثرة استعاد فيها ذكريات النضال العمالي في ذلك الزمن الذي كان فيه المناضلون والقادة النقابيون يمسكون بالجمر في أيديهم دفاعاً عن حقوق الطبقة العاملة البحرينية، وروى معاناة العمال في مصهر الألمنيوم، حيث رأى بأم عينيه كيف احترق العديد من العمال في المصهر الهرم، الذي انتفت فيه شروط السلامة.
لم يكن أمرا غير ذي مغزى أن أول نقابة تشكلت في السبعينات بعد نجاح الحركة الوطنية والشعبية في الانتخابات النيابية الأولى كانت في ألبا بالذات، والى هذه النقابة التي رأسها عبد الواحد عبد الرحمن يعود الفضل في التقاليد الكفاحية للحركة العمالية في الشركة المذكورة التي تواصل مسيرتها في ظروف اليوم نقابة عمال البا برئاسة القائد النقابي الشاب والنشط علي البنعلي.
في الكتيب الذي وزعته نقابة البا في حفل التكريم شرحت باسهاب نضالات الحركة العمالية في مصنع البا في تلك الفترة، والدور الذي لعبته نقابة السبعينات في قيادة الأنشطة المطالبة بحقوق العمال، برئاسة عبد الواحد الذي قال عنه كتيب الحفل، انه «كان رجل الموقف والعزيمة والمبادىء، حيث كانت له مواقف بطولية حينما وقف وسط العمال وبين صفوفهم يواجه آلة القمع التي كانت مجهزة مسبقا لكسر الاضراب واعتقال قادة النقابة»، وهذا ما حدث بالفعل حين اعتقل عبد الواحد ورفاقه في يونيو 1974، ثم أعيد اعتقاله في عام 1976 حيث مكث في السجن عدة سنوات.
نحيي نقابة البا على هذه الالتفاتة المهمة في دلالاتها تقديرا لجهود رواد العمل النقابي الذين وضعوا اسس الحركة النقابية البحرينية في أصعب واحلك الظروف، ولم يترددوا بالتضحية بحرياتهم ولقمة عيشهم واستقرار عائلاتهم، ففي ذلك تذكير للحركة النقابية اليوم بتضحيات اولئك الرواد، الذين لولا جهودهم وعطاءاتهم الغالية لما أمكن لحركتنا النقابية اليوم ان تحقق ما حققته من مكاسب، ولكي يعرف نقابيو اليوم ان رجالاً من امثال عبد الواحد عبد الرحمن وفقيدنا الغالي جليل الحوري الذي اهدت نقابة البا كتيبها الى ذكراه العطرة، وسواهما من مؤسسي وقادة الحركة العمالية هم الذين شقوا طريق النضال العمالي وعبدوا الدرب من اجل انتزاع المكاسب التي تنعم بها حركتنا النقابية اليوم.
 
صحيفة الايام
6 مايو 2010

اقرأ المزيد

المجد للعقل

برأي فولتير أن دماغاً بشرياً بألمعية دماغ نيوتن، وعبقرية مثل عبقريته، لا يجود بها الدهر إلا مرة كل عشرة قرون مثلا، أما رجالات السياسة والفاتحون العسكريون وقادة الجيوش فإنهم موجودون في كل قرن وجيل، وهم في الغالب أشرار ومشاهير، وبالتالي فإن العظمة لا تكون إلا للفكر وللروح.
كتب فولتير «الرسائل الفلسفية»، وكان في الأربعين من عمره، حيث ابتدأ انخراطه الفعلي في الشأن الفلسفي، شعورا منه بأهمية خوض معركة التنوير في بلاده، فرنسا. وكانت الفلسفة بالنسبة له تعني النضال من أجل الحقيقة، وهي الوسيلة الأساسية لتحرير العقول من الأوهام والخزعبلات. في معركة انتهت، كما يعرف تاريخ الفكر والفلسفة العالميين، بانتصار التنوير، الذي فتح لفرنسا ولأوروبا كلها، آفاق التقدم.
المجد للعقل، هو وحده الذي يمكن أن ينتصر للحقيقة ويذود عنها، وليس لأولئك الذين يهيمنون على الناس عن طريق العنف والقوة المحضة، ثم يحولونهم إلى عبيد، لذا فإن الاحترام والتقدير يجب أن يتوجهان نحو من يسعى لاكتشاف أسرار الكون، لا إلى أولئك الذين يريدون تدمير العالم أو تخريبه.
لذا فإن المعركة التي خاضها فولتير ضد التعصب والجمود، كانت معركة من أجل انتصار النور والعلم، وتبديد الجهل، من خلال نقل أفكار فرانسيس بيكون وجون لوك وإسحاق نيوتن ونظام الجاذبية، وبقية الأفكار الفلسفية والعقلانية، ذلك أن من يربح المعركة الفكرية هو من يربح المعركة السياسية عندما تنضج ظروفها، وليس العكس.
العودة لتاريخ التنوير الأوروبي تحمل، في طياتها، مضموناً معاصراً يعنينا نحن معشر العرب والمسلمين، لا برغبة نسخها، فذلك أمر محال، لأن لكل مجتمع سياقه التاريخي والثقافي والحضاري الخاص به، وإنما للتذكير بأن للفكر النهضوي تراثاً في تاريخنا الحديث.
وعلى خلاف أوروبا، فإن مشروعنا النهضوي قد انتكس في أكثر مفاصله التاريخية أهمية وحساسية، مما جعلنا نراوح في دائرة مغلقة لا نقوى على كسرها بسبب حالة العجز والهوان التي نحن فيها، كأن الأمر يستدعي وجود مفكرين شجعان عظام بوزن رواد النهضة العرب الذين شقوا طرقاً جديدة وسلكوا دروباً غير مطروقة من قبل.
لكن مشروعهم انكسر في منتصف الطريق لأن الأمر آل، فيما بعد، إلى من لم يتشربوا بالروح العميقة لهذا المشروع، ممن يمكن أن يعيشوا مغازي العبارة المنسوبة إلى نيتشه، وفحواها «إن خدمة الحقيقة هي أقسى أنواع الخدمات».
 
صحيفة الايام
4 مايو 2010

اقرأ المزيد

مات «المشاغب العمالي» فرحاً

في غمرة التجوال في عالم مسكون بين الفرح والحياة وعالم منهك من الحزن والموت، ترافقك الهواجس وتحملك الهموم لمشاهد الكون والانسان في مناطق مختلفة، ولكنك تبقى مسكونا في مكان ما من كيانك، هو الوطن مهما تجرعت مرارة سنواته، فالوطن يبقى خارطة اخرى من الروح، لهذا اظل بين الحين والاخر مشدودا للانترنت وللبريد الالكتروني فربما هناك زوبعة عاصفة مرت محاذية للجزيرة او خبر مؤلم يعيد لك ذاكرة الوقت. هكذا هبط عنيفا وقويا خبران متقاربان في فترة اسبوع واحد، موت ابنة الاخ يوسف محمد ملا جناحي، الشخصية المحورية الذي لعب دورا حيويا في مساعدتي بولادة كتابي الاخير «ترويكا المهن النبيلة في مملكة البحرين» وموت الرفيق عبدالجليل عمران «الحوري» الذي حمل من الحكايات العمالية والنضالية الكثير، فقد عاش كما يريد ومات كما يرغب ولكنه ظل بابتسسامته الخجولة في سنواته الاخيرة يذكرك بتلك الشخصية العنفوانية المتحمسة والعنيدة والصدامية، بل ويجتاز غضبه كل الممرات فلا يصغى لاحد حالما تركب «جنونه» الطبقي مسألة عمالية. عرفته طوال هذه السنوات عاطفيا بقوة وصامتا بحزن وباحثا عن سعادة لم تكتمل، فظل يجرجر نفسه في السنوات الاخيرة لكي يعيش حلم الانتصار والفرح مع كل احتفال مايو في سنوات الاصلاح، ويردد اغنياته وشعاراته القديمة التي لم تشخ في روحه. دون شك كان بو منير مشروعا تاريخيا للحركة العمالية، فقد كان في مقدمة كل الاضرابات العمالية بل وكان مشروعا للصدام والمواجهة حينما يتطلب ذلك هدوءا. اتذكره بما يحمل وما يكتم من اخفاقات السنوات الماضية كإنسان شاب، فأرى شيخوخته المبكرة بالامراض قبل ان يذهب الى العلاج خارجا. ألتقيه كلما سنح الوقت في مقر جمعية التقدمي في هذه المناسبة او تلك، فأشعر بأنه مازال حالما بمشروعه الثوري. ربما نحن البرجوازية الصغيرة عرضة للمتغيرات الابكر من طبقتنا العاملة، فمسافة الوعي والمعايشة تشكلان تلك التباينات بيننا كابناء طبقات مختلفة في الفكر والانتماء، ولكننا عندما نحاول ان ننسلخ عن طبقتنا نبقى مشدودين لها بلاوعي، فيما ظل بو منير منتشيا بالماضي الذي كان يحلم به. اتذكره في سنوات 68-69 عندما ضم حوضا كبيرا من مشاريع المقاولات في ميناء سلمان، كل المهن العمالية من لحامين ومفصلين وحدادة وغيرها، فانك في ذلك الرتل الواسع من العمال ستجده امامك يترنح ويتجول «بالتاتو» الوشم الذي حفره على زنده، وكان عبارة عن مطرقة ومنجل، وبما ان بومنير مولع باستفزاز رؤساء شركات انجليزية وامريكية، واقفين عند بوابة تلك الورش الكبيرة عند مداخل بوابات حديدية مجاورة للميناء، فان قادة شركات مثل ويبمي ودلونج وبراون رود، كان يغضبهم ذلك الشاب الاستفزازي البروليتاري الطباع، فكنا نسمعهم يرددون عندما يرونه قادما بوشمه وحمرته «اللعنة عليه.. لا نريد ان نرى وجهه» هكذا كانت تستثيرهم تلك الرسمة المنحوتة في زنده وكأنها عشيقته كبحار يسافر عبر المحيطات فيحمل في قلبه وصدره رسوما لصبية يحبها ولم تحبه، وطبقة احبها ولم تفهمه وزمن عاشه ولم يكمله الا في ساعاته الاخيرة من ذلك الفرح. ولم تكن تثير الانجليز رؤية تلك النقشة على زنده وانما حين يطل من بعيد فرحا في شتاء بلادنا الممطر لابسا «الشبكة» الروسية السوداء (قبعة روسية مصنوعة من الفرو يرتديها الروس بشكل عام ولكن النوع الذي كان يرتديه جليل قريبا لشبكات العمال الروس) وكأنه بطلا من ابطال رواية الام او احد العمال السعداء بيوم اضراب طويل في مصانع الدنيا الاممية التي احبها بقوة. كان علينا في ذلك الوقت ان نقيم حفلة ليلية في حوش بيتنا في الحورة، وكان على فرقة ليليز الجميلة يومذاك ان تجعل من فضاء الحورة المسائي كله مستيقظ، حيث جاء رجال الحي يستمعون ذلك الضجيج الشبابي فاوهمناهم انها مناسبة خطوبة، فيما كنا نحتفل بطريقتنا لكل مناسبة سرية منعنا البوليس من ممارستها. يومها كان الحوش رمليا والفضاء مفتوحا والفرقة تهز جذوع شجرة مكتنزة في ارض المحبة، فكانت رقصة «الكازاتشوك» الروسية تطرب جليل طربا فهي تذكره بمعنى الاغنية والرقصة حينما رافقت الروس في الحرب العالمية الثانية وهم يمطرون الالمان بفخرهم الكبير صواريخ الكاتيوشا. ظل الغبار في الذاكرة وظلت رقصات جليل الهستيرية منتشية فيما ظلت الكاتيوشا وكازتشوك وقبعة العمال الروس حلما جميلا لامثال جليل عمران وغيره من رعيل طبقتنا العاملة.
قصص كثيرة عشتها معه في السجن وفي الشارع وفي المحبة وريحها وفي الهدوء والغضب منه، في وقت كان لا يسعنا فيه الالتفات للصغائر. رحل كما يريد فقد اختار ان يموت فرحا في زمن الفرح العمالي، مات قبل ان ينهي فرحه في الاول من مايو القريب، فقد كان كل عام على موعد معه في مسيرة المنبر، فهل ستكون اعلامنا حمراء كقلبه وفي غيابه؟! اتذكره عندما كنا في مسيرة الاول من مايو قبل سنتين حينما قلت له «ان هذه اللحظة من المناسبة المزدانة بالحمرة هي مناسبتك وفرحك».

صحيفة الايام
4 مايو 2010

اقرأ المزيد

الاقتصاد الخليجي وتحورات الأزمة العالمية

يواصل عدد من الاقتصاديين الحديث عن <>انتهاء>> الأزمة العالمية. ويسند اعتقادهم ما جاء في بلاغ قمة مجموعة العشرين الأخيرة. فهل الأزمة في طريقها إلى الانتهاء أم التعمق، أم أنها تتحور، ومركز ثقلها يتنقل؟ وما علاقة الروابط الاقتصادية الخليجية الدولية والعملة الخليجية بهذه التقلبات؟
العالم كله يتحدث عن تدهور اليونان اقتصاديا وتداعي ذلك اجتماعيا وسياسيا. وغداً، الثلثاء يفترض أن يعلن الشعب اليوناني الإضراب العام الذي سيشل الحركة في البلاد. لكن الأمر لن ينتهي عند حدود اليونان ولا حتى الاتحاد الأوربي. المرض اليوناني ينشر عدواه عالميا. الأسبوع الماضي خفضت الوكالات بشدة التصنيف الائتماني لليونان والبرتغال معا. وعلى إثر ذلك انخفض سعر اليورو واضطربت بورصات العالم القديم بشدة وسرت موجة قوية من بيع الأوراق المالية التابعة لهذين البلدين. وأصبح الاقتصاديون يرسمون للاتحاد الأوربي أكثر السيناريوهات سوداوية بإعلان هذين البلدين حالة الإفلاس. ورغم محاولات الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي وبلدان أوروبية محددة تهوين الأمر، إلا أن المستثمرين يتحدثون أكثر فأكثر عن إفلاس اليونان كحقيقة تمَّت بالفعل. خصوصا بعد أن طفرت الفوائد السنوية على السندات اليونانية ذات العامين إلى 23%، بعد أن كانت 4.6% قبل شهر واحد فقط. وعلى وجه الخصوص فإن خفض وكالة S&P للوضع الائتماني لأثينا بمقدار ثلاث درجات دفعة واحدة إلى BB+ عنى في الحقيقة أنه في حالة إعادة جدولة ديون اليونان فإنه يمكن للدائنين استرداد 30 – 50 سنتا فقط مقابل كل يورو. هذا الوضع حول الأوراق المالية اليونانية إلى فئة <>القمامة>>. انعكس هذا فورا على سعر اليورو الذي انخفض يوم الأربعاء الماضي مقارنة بالدولار بنسبة 1.03%. وبدأ المستثمرون يهربون من اليورو إلى عملات يعتقدونها <>أكثر أمنا>> كالدولار.
من الطبيعي القول إن ما يجري في منطقة اليورو الآن يعكس آثاره التي يجب التنبه لها على الاقتصاد الخليجي. فأوروبا من أكبر شركائنا التجاريين. كما أن انخفاض اليورو قد يقوض الدعوة إلى تنويع احتياطات العملة الخليجية الموحدة. وإذا كانت اليونان والبرتغال تعانيان صعوبات في جذب الأموال، فإن عالم الأعمال، بما في ذلك القطاع المصرفي، سيعاني صعوبات أكبر. وعليه ستتراجع فرص إقراض المصارف للشركات في منطقتنا. كما أن الأثر السلبي المحسوس سيكون جراء انخفاض جدي في أسعار المواد الكربوهيدراتية والذي ستصاحبه على الأغلب صدمة جدية أخرى في النظام المالي العالمي بما يشبه العودة إلى حالة النصف الثاني من العام 2008 التي لا يرغب الكثيرون في تذكرها.
هناك الأثر المعاكس أيضا، سواء مباشرة أو على مستوى روابطنا الاقتصادية الدولية. إذا توسعت صادراتنا من الاتحاد الأوروبي في الفترة المقبلة فإن انخفاض اليورو سيساعد على تراجع التضخم في منطقتنا عبر انخفاض أسعار البضائع المستوردة من منطقة اليورو. وفي حين سيرفع ضعف اليورو القدرة التنافسية للبضائع الأوروبية، فإن هذا سيؤدي إلى سوء وضع الميزان التجاري للولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي إلى إضعاف الدولار مجددا.
دعونا هنا نختبر فرضية صحة تنويع مكونات الاحتياطات النقدية الذهبية للعملة الموحدة أو العملات الوطنية الخليجية في كل الأوقات. سعر صرف اليورو سيظل في الأشهر القريبة القادمة يهبط بجدية. وعليه فهل الوقت مناسب بالنسبة للمصرف المركزي الخليجي أن يفكر في جعل احتياطاته النقدية بالدولار وحده؟ المحللون القطاعيون في بلد نشترك معه كمصدرين للمواد الكربوهيدراتية كروسيا يقولون بثقة أن لا داعي لفعل ذلك. فرغم ما يحدث الآن في تناسب اليورو/ الدولار، إلا أن وضع الدولار لا يبعث على الاطمئنان هو الآخر. فحسب سيرغي فوندوبني، رئيس دائرة التحليل في شركة <>أربات كابيتال>> الروسية أن تشكيلة الاحتياطات النقدية الذهبية يجب أن تعكس من حيث الفكرة تشكيلة التجارة الخارجية، وعليه يقول <>لست واثقا من أن تحويل كل احتياطاتنا إلى الدولارات الأميركية هي فكرة جيدة>>.
وبدوره يرى ألكسندر كوبتسيكييفيتش، المحلل المالي لمؤسسة FxPro إن التخلي المطلق سواء عن اليورو أو الدولار يعتبر قرارا غير بعيد النظر، إذ قبل نصف عام فقط كان الحديث يجري عن الأمر ذاته، لكنه كان يتعلق بالدولار. أما على المدى البعيد فكما يقول كوبتسيكييفيتش، يجب أن لا ننسى فارقا دقيقا، وهو أن الدولار يزداد سعرا في وقت الأزمات فقط، في حين أن وقت الأزمات يكون عادة أقصر بكثير من أوقات النمو.
يرى الخبراء القطاعيون بأنه إذا كانت تذبذبات الدولار بحدود 20% في السنة لم تدفع مصارف مركزية إلى التخلي عن الحصة الرئيسية للدولار في مكونات الاحتياطي، فإن الأجدر هو أن هبوط اليورو بنسبة 14% لا يجب أن يدفع إلى هكذا إجراء بالنسبة لليورو. وحكما على سيناريو بداية الألفية، يرى بعض الخبراء أنه بقدر نمو الاقتصاد العالمي وأسبقية النمو في الاقتصادات الناشئة سيمتلك الدولار ميلا مستمرا إلى الانخفاض، واليورو إلى الارتفاع. وعليه فإن الأحاديث عن <>انهيار>> اليورو وقوة الدولار لا تملك أساسا سوى من زاوية مصلحة المضاربين، بمن فيهم المضاربين السياسيين.
وهكذا تبقى فكرة توازن المصالح في العلاقات الاقتصادية الدولية وتنويع مكونات الاحتياطي النقدي للعملة الخليجية الموحدة بما يتناسب والميزان التجاري في الاتجاهين صحيحة في كل الأوقات، وفي كل الأوقات أيضا لا يجوز وضع كل البيض في سلة واحدة.
 
صحيفة الوقت
3 مايو 2010

اقرأ المزيد

الأصل في البحرين هو التنوع

أفق الحياة هو في التباين لا في التماثل، والأصل في البحرين هو التنوع لا التنميط، وفي الآونة الأخيرة تكاثرت المؤشرات على أن هذا التنوع بات مهدداً، حين يدور الحديث عن أنماط السلوك والثقافة ونمط العيش، وكل ما يمكن أن ندرجه في نطاق الحريات المدنية، التي تباهينا كثيراً بها، لأنها هي التي أعطت الحياة في البحرين مذاقها المختلف.
والمحزن أن هذه المؤشرات لا تأتي من داخل الغرفة المنتخبة في المجلس الوطني، التي نعرف تكوينها الراهن، مما يجعلنا لا نتوقع منها خلاف ما تأتيه، ولكن الأمر تعدى ذلك ليشمل الغرفة المعينة، التي جرى التعارف، ولو على سبيل المجاز، أنها الغرفة «الليبرالية»، التي يمكن أن تخفف من الغلواء والشطط الذي يستهدف نطاق الحريات المدنية في هذا البلد.
نطاق الحريات المدنية والشخصية في البحرين لم يكن نتيجة قرار ليلغى بقرار، وإنما هو نتاج تطور اجتماعي وثقافي مديد اجتازه المجتمع البحريني، بموجبه تشكلت فضاءات التنوع في البحرين، التي تعايش معها البحرينيون بكل أريحية وتسامح، ولم يكن في هذا التنوع ما يحمل أحدنا على مغادرة أسلوب الحياة الذي اعتاده ولا نمط التفكير الذي يلائمه، سواء ورثهُ من بيئته التي ولد ونشأ فيها، أو اكتسبه من تجربته الخاصة في الحياة.
إضافة إلى هذا كله فانه ليس من حق تيار أو مجموعة أو فئة، كانوا من كانوا، أن يكيفوا البحرين وفق مزاجهم الخاص، أو هواهم الايديولوجي أو الاجتماعي، مهما قيض لهذا التيار من غلبة عددية في المجلس المنتخب، لأن البحرين يجب أن تكون لجميع أبنائها، من مختلف التكوينات ومشارب التفكير، وعلى الجميع احترام حق الآخرين في اختيار اسلوب المعيشة الذي يريدونه، إذا أردنا أن يحترم الآخرون خيارنا المختلف.
لا يصح، مهما كانت الحجج أو الذرائع، أن يُترك لفريق من الفرقاء أن يُملي على البلد وجهة نظر ليست هي محل اتفاق، وهذا أمر لا يشمل المجموعات الإسلامية وحدها، وإنما ينطبق على التيار الليبرالي، ونحن ضمنه، لأن هناك معطيات موضوعية هي نتاج تشكل المجتمع وتطوره، تفعل فعلها، لا يمكن التعاطي معها بشكل «ارادوي»، ونقصد بذلك إحلال الرغبة محل الواقع.
اذا لم يجر التبصر في المآل المقلق الذي يمكن أن نذهب إليه على ضوء الإشارات السلبية التي تأتينا كل يوم، فإننا سنصادر حق قطاعات واسعة في هذا المجتمع، ظاهرةً وكامنة، ليست راضية على ما يجري، وللأسف فإنها تستنكف عن إبداء اعتراضها عليه، ولكن هذا حديث آخر ربما تسنح لنا الفرصة العودة إليه.
لا تكمن الخطورة، كما يتبادر إلى الأذهان، في قرار بعينه اتخذه مجلس النواب وقد يوافق عليه مجلس الشورى، وإنما يكمن في فكرة التراجع عن مستوى من التطور الاجتماعي في البلد، والأمر إن بدأ بخطوة واحدة، فستليها خطوات وخطوات، لأن شهية الراغبين في مثل هذا التراجع لن تقف عند حد، وستكر سلسلة التراجع، حتى تجد الدولة ومعها المجتمع نفسيهما أسيرين لأجندة اجتماعية، لا نحسب أن مملكة البحرين التي نريدها عصرية وديمقراطية وقائمة على أسس التسامح، ترضاها لنفسها ولنا.
 
صحيفة الايام
3 مايو 2010

اقرأ المزيد

فرحة عيال الملحة…!


 
النفوس مغمورة في بحر السرور، فقد حلّت ساعة الدهشة وموعد لمّ شمل المسرّات لنشر أجنحة الحنايا في فضاءات الفرح ، فبعد جهد جهيد ، وبعد انتظار دام أكثر من أربعة أشهر، منذ تسجيل بيانات عقد الزواج في لجنة الصندوق الخيري،الخاصة بجمع التبرعات من المحسنين 
 



قصة قصيرة


   فرحة عيال الملحة   …!


 
النفوس مغمورة في بحر السرور، فقد حلّت ساعة الدهشة وموعد لمّ شمل المسرّات لنشر أجنحة الحنايا في فضاءات الفرح ، فبعد جهد جهيد ، وبعد انتظار دام أكثر من أربعة أشهر، منذ تسجيل بيانات عقد الزواج في لجنة الصندوق الخيري،الخاصة بجمع التبرعات من المحسنين ، أفراداً ومؤسسات ، حان اليوم توزيع بطاقات الدعوة لحفل الزواج الجماعي ، حيث تم منح كل عريس،مائة وخمسين بطاقة للأهل والأصدقاء.

كان اسم علاء حسين جعفر،التاسع بين اثني عشر عريساً،وصورته الزاهية الألوان،وهو يعتمر الغترة والعقال بثيابه وعباءته العربية،وبهاء محيّاه  الذي زينته رتوش الحلاق الهندي الحاذق،والفنان الفلبيني في الإستوديو،بلحية الشباب المصقولة

 ذات السنوات الخمس والعشرين،يبدو كإبن أحد وكلاء السيارات أو الوجهاء الميسورين أوحتى…!.

–  أين عبد علي؟(نادى والد العريس وقد ضاقت عليه ملابس اللحظة،مشيراً لإبن أخيه)
–  نعم يا عم( يجيبه من الغرفة المجاورة الصغيرة المتداخلة)
– (إبتسامة عشرينية العمر تعلو شيبته)اليوم يومك يا بطل..فمن غيرك يحسن خط أسماء المدعوين؟!
–  حاضر وبكل سرور(مبادراً بتسلم بطاقات الدعوة).
–  احرص على عدم الخطأ فالعدد محدود.
–  طبعاً( مبتدئاً بالكتابة).

ينتصب ظهر أب العريس كرمح ليزدهي بنشوة السيد المطاع :  

–  أهلاً..أهلاً بالأحباب مشاركين ومباركين.
–  (يفاجئه صوت أجش)إثنان وثلاثون عاماً وأنت تطيع أوامر تنظيف المكتب وتلبية طلبات الموظفين..جاء الآن دورك ولو لساعات .تأمر فتطاع.
– ( الأب متململاً أنت حسود حتى هنا) يا رجل دعك من هذا(محسن..إسم على غير مسمى).
–  ما بك؟ لا تخف فعيني باردة.
–  ( حقاً أنه يعرف نفسه)المهم أن يتم الفرح على أحسن وجه.

يهبط المساء على القرية ناشراً مظلته المزدانة بالمصابيح الملونة لعرس الشبيبة.
يتقاطر المهنئون زرافات وفرادى فيستقبلهم منظمو الاحتفال بالترحيب والمساعدة في إيقاف سياراتهم والتوجه للتهنئة وتناول وجبة العشاء،فيما مذيع الحفل يتلو تبريكات بعض الضيوف.
علاء والأحد عشر عريساً ، يصافحون أيدي قلوب الناس ودفء قبلاتهم.
من بعيد تلوح وجوه عبد الحق ومشتاق وحتى رام بسحنتهم الآسيوية ومعهم ثلاثة من البحرينيين العاملين في الفندق حيث يقوم علاء بواجبه كعامل صيانة.

– أهلاً عبد الحق ..شكراً مشتاق ورام وأولاد العم( يعني زملاءه البحرينيين).
فجأة يستعرض ذكرى صور حفلات العقد أو الزواج لشخص واحد فقط وتكاليفها التي تبدأ من خمسة آلاف دينار تصاعدية حسب ذوق الجيوب ودسم الأرصدة.
يتذكر أنه و(عيال الملحة)من موظفي الفندق ، تشبع بطونهم وعوائلهم من طيبات أصناف الطعام، طيلة شهر كامل إذا ما رزقوا بأربع حفلات شهرياً وعند الزيادة فللأقارب نصيب.
إنتبه من حلم يقظته حينما أمطره معارفه بماء ورد التحية.
بعد ساعات عذبة بعذاب الوقوف وبحّة الكلمات، ينتهي الحفل بالزفاف إلى قفص السعادة.
يدخل علاء – مأخوذا بموجة المشاعر- غرفته التي بناها بالعمل التطوعي المتقطع على مدى أشهر وحسب السيولة والديون والمشاركة بجمعية شعبية للتوفير،فغلاء مواد البناء لا يرحم، تلك الغرفة التي بناها نزولاً عند رغبة والده المضطر:-

–  أنت إبننا البكر ونريد أن نفرح بك، وقد توفيت والدتك دون أن ترى عرسك..صحيح أن مجموعنا ثمانية وبيتنا صغير جداً ولكن ما في اليد حيلة،فراتبك الشهري لم يصل الثلاثمائة دينار وأسعار الأراضي نار وتكلفة البناء بالنسبة إلينا والغالبية خيالية، وهذا جواد إبن عمك أستأجر شقة صغيرة وقديمة بمائة وخمسين دينار شهرياً،وزميلك دعيج خليفة عبد الرحمن كذلك،كل الفقراء كذلك.
أكثر من مرة، قال له والد زوجته، السيد هاشم سيد علوي:-

–  يا ولدي علاء حالنا من بعضه.. ولداي إستغرقا حوالي الأربع سنوات لبناء شقتين من غرفة واحدة وصالة فوق سطح منزلنا..وأنت منذ سنتين فقط.. وها(أشار بيده نحو الفيلا ذات الثلاثة طوابق ويسكنها أربعة أشخاص )أرزاق (متبرماً) كما يقولون!.
يتناسى هموم الديون وضيق السكن،مستبشراً بقادم الأيام.
يتهلل وجه عروسه خديجة فنجم العشية في يدها.
زغاريد النسوة وأغاريد الأكف تعبق في سماء المكان.
علاء وخديجة وعالم جديد….         
                                                                               
   عـبدالصـمـد الـلـيث       
  18ابريل 2010


                                        

اقرأ المزيد

الحوري الذي رحل شامخاً

قد لا نعرف عنه الكثير، وقد نجهل تفاصيل عديدة توزعت على فترات متعددة طيلة سنوات عمره السبعيني الذي قضى جله مدافعا عن قضايانا الوطنية، حيث كان على الدوام في الصفوف الأمامية مدافعا صلبا وشجاعا عن العمال والمعذبين والفقراء والمضطهدين، في سنوات الجمر وما بعدها، لكننا وفي حدود ما تيسر لنا معرفته عن سيرته الذاتية الناصعة البياض، عرفناه بسيطا متواضعا شهما غيورا ووطنيا بامتياز، رغم أنه لا يطيق الحديث عن تلك السيرة المشرفة، وهو الذي عرف بشدة بأسه عندما يتعلق الأمر بحق من حقوقنا أو قضية من قضايانا الوطنية، فان ذلك كفيل بان يفجر الدم في عروقه التي أتعبتها سنوات الضنك والمعاناة في المعتقلات وغرف التحقيق عبر مراحل زمنية ونضالية متواصلة كان فيها إلى جانب رفاق دربه صبورا، مستعدا على الدوام لكل الاحتمالات مهما اشتدت المصاعب. إنه جليل عمران، الذي لقبه رفاقه «بالحوري» نسبة الى منطقة سكناه في حي الحدّادة بمنطقة الحورة، حيث تتفتح براعم الوطن الواعدة بمستقبل أكثر إشراقا.
هذا «الحوري» الذي ترجل مؤخرا هو أحد أولئك البسطاء الذين شغلهم على الدوام حب هذا الوطن، فرخصوا أحلى سنوات العمر في سبيل نهضته ورقيه وتقدمه، قد لا يعرفه الكثيرون وهو العامل البسيط المعدم، النقابي الذي عاش ومات في سبيل قضية آمن بها وتلبَسته حتى الرمق الأخير، إنها قضية الطبقة العاملة ومعاناتها مع الجشع والاستغلال، لذلك كان جليل عمران، احد أهم المؤسسين للجنة التأسيسية لاتحاد عمال البحرين إلى جانب رفيقيه المناضلين عباس عواجي وعبد الله مطيويع وآخرون، ويشهد التاريخ على حجم ما عاناه هؤلاء وبقية رفاقهم من مصاعب جمة أوصلتهم مرارا إلى غرف التحقيق والزنازن. لكنهم بقوا أوفياء لقضيتهم فكانوا الأساس المتين لما تنعم حركتنا العمالية اليوم بشيء من رحيقه الذي هيأ له نهج الإصلاح وعهده.
لهذا لم نستغرب أن يعاند جليل عمران نصيحة أطبائه ورفاقه الذين أوصوه بالحذر واخذ الراحة حتى يستعيد شيئا من صحته التي تدهورت كثيرا قبيل وفاته، وهو الذي عاد للتو من رحلة علاج مضنية، لم نستغرب أن يستقل باص النقل العام بعد أن تعمد رفاقه عدم اصطحابه معهم إلى موقع اعتصام نقابة المصرفيين الأخير خوفا عليه، وقد شاهدته بأم عيني حين وصوله إلى موقع الاعتصام مغتبطا وفي نشوة غير عادية وهو يرقب بقية زملائه ورفاقه النقابيين وأهازيجهم المطلبية، لينفجر مجلجلا وكأنه قد وجد نفسه وشبابه مجددا في هؤلاء الذين وقفوا مطالبين بحقوق المسرّحين من بعض المصارف، جراء سياسات تلك المصارف التي وجدت ضالتها في عمالتنا البحرينية باعتبارها «الطوفة الهبيطة» كما يقول مثلنا الشعبي، على الرغم من غياب من يعنيهم الأمر من المسرّحين الذين لم نر لهم حضورا يذكر في تلك المسيرة الحاشدة. لقد اسلم هذا النقابي العنيد والصلب الروح أمامنا جميعا وهو يهتف بوحدة العمال وان يرفعوا رؤوسهم دون خوف في وجوه مستغليهم، حيث لم تفلح محاولات المسعفين من رفاقه ومن بعدهم طواقم الإسعاف الطبية التي وصلت متأخرة، لينال جليل الحوري بوفاته شهادة شرف وامتياز يُجمع كل من عرفوه أنه يستحقها عن جدارة وهي خير تكريم لهذا النقابي المُخضرم الذي اثبت مجددا أن الثبات على المبادىء والموت بشرف دفاعا عن القضية وفي سبيل الآخرين هو ديدن أمثال هؤلاء الشجعان في زمن تراجعت فيه القيم والأخلاق والمروءة.
بقي أن نقول أن رحيل رفيقنا «الحوري» الفاجع أمام قيادات العمل النقابي في النقابات واتحاد عمال البحرين الذين شاركوا بكثافة في اعتصام المصرفيين الأخير، وهو يهتف مطالبا بوحدة الطبقة العاملة، يجب أن يكون حدثا تتعلم منه قياداتنا العمالية، جميعها دون استثناء، دروسا وعبر للملمة صفوفها مجددا، بعيدا عن تلك التمايزات وذلك التهافت المقيت وصولا لحركة عمالية متراصة وقوية في وجه ما ينتظرها من تحديات قادمة، ليكون ذلك خير تكريم لجليل الحوري وكافة النقابيين الذين رحلوا دفاعا عن مصالح الطبقة العاملة البحرانية.

صحيفة الايام
2 مايو 2010

اقرأ المزيد