المنشور

ما لا أفهمه في البحرين ؟! (1-2)

ربما غياب الإنسان مدة من الزمن عن وطنه يعلمه خبرة مختلفة في مكان ما، بل ويسأل الإنسان نفسه بعد هذه المدة كم هو صبور الإنسان البحريني ومقهور أيضا بفعل نمط من الأوراق البيروقراطية والقرارات الإدارية البليدة، بل ونجد أنفسنا في حالة سخرية كوميدية من نمط سخرية موليير أو العالم السفلي الغريب والمجهول.
ما واجهته في البحرين لمعاملات يومية علمتني لماذا فعلا يغضب المرء أو يصمت في تلك المؤسسات؟ علمتني لماذا يمتص الإنسان المواطن معاناته مع تلك المواقف التي فقدت المنطقية وعلاقاتها في أية معاملة حكومية وغير حكومية، مما يربك المسار اليومي لفلسفة ما نتوق له كلاميا وحلما عن عالم «الحكومة الالكترونية والإنسان الآلي والتقني»، حيث الدقة والسرعة والانجاز قبل أي شيء آخر. دون شك المسؤول البليد لديه إجابات جاهزة والموظف الصغير النصف محكوم بعقلية النخاسة هو الأخر يجيبك «أنا عبد مأمور» وهذه تجعلني أكثر غيظا عندما أرى مواطنا لا حول له ولا قوة محتارا وحائرا في ترديد «خطاب الببغاء» لا الإنسان المرن والديناميكي في مواجهته أية مشكلة تحتاج لمعالجة واقعية ومنطقية.
بين المسؤول صاحب المرتبة المتوسطة والكبيرة وصاحب القرار والموظف الصغير «المشبع بالروح الإدارية البليدة» هو الآخر نسخة مشوهة من آلة يومية نتعامل معها إلى حد الإمكان إن تدفعنا لجريمة محتملة كما فعل الممثل الايطالي فرانكو نيرو في فيلم «المواطن الصالح» عندما قرر الانتقام لنفسه دفاعا عن كرامته وحقه المسلوب بقوة السلاح عندما وجد مركز الشرطة عاجزا عن استرداد المبلغ الذي جمعه طوال حياته، وضاع منه سدى في سطو مصرفي عندما كان يزمع إدخال مبلغه في حسابه الخاص، لحكاية ذلك الفيلم أبعاد سياسية في ايطاليا الغارقة في فسادها وبيروقراطيتها التي استشرت في المؤسسات جميعها وفي السلم الوظيفي برمته وبكل مراتبه الوظيفية والوظائفية، فليس بالضرورة الموظف الصغير فاسدا عندما يسرق مبلغا صغيرا تافها أو يقبل برشوة بين أوراقه، ولكنه أيضا يكون موظفا متواطئا عندما يصبح شريكا من لعبة كبيرة يخفض فيها رأسه عن مدار الريح الفاسدة ويغض عينيه عن مناخ عام فاسد من تحته وفوقه وحوله. بهذه المشاعر وتلك الرائحة تواجهك «مافيا وظيفية» صغيرة تبدأ من القسم الأصغر وتنتهي إلى أقسام اكبر حيث تشعر فيها حالة «المجتمع المغلق» مهنيا بين أصحاب القسم الواحد والمهنة الواحدة. ما لا افهمه أبدا في البحرين حالة تلك الازدواجية في تضارب العلاقة بين جواز السفر كوثيقة مواطنة وكونها وثيقة سفر صالحة للسفر والفيزا لا غير، حيث في الأولى لا يعني انتهاء صلاحية الجواز للسفر الغاء حقك الدستوري والمواطنة، إذ إن جوازك هو هويتك الرسمية. هكذا لم يصرف لي الموظف معاملتي لكون جواز سفري منتهيا، فجادلته ما علاقة المواطنة التي يحددها الجواز فيما لو إنني قررت أن لا أسافر أبدا وتركت جوازي معي في الخزانة؟؟ لماذا يتم مزج العلاقة بين صلاحية الجواز للسفر وصلاحيته كوثيقة رسمية من حق أي مواطن يمتلكها، حتى في حالة تجميد الجواز امنيا وقضائيا، فان هناك نسخة عن الجواز كفيلة بتأكيد حقه كمواطن حتى وان كانت لديه قضايا في المحاكم، إذ لا تلغي تلك القضايا كونه مواطنا؟ حاولت إدخال الموضوع في رأس الموظف فاحتار وقبل، ثم دخل على المسؤول وعاد بنتائج سلبية هي لغة الرفض والتشدد الوظيفي الأعمى مع أنني واثق أن ذلك التشدد لن يكون مع شخصيات ذات نفوذ سياسي أو مالي أو غيره بل وسيتخطى كل اللوائح بابتسامة كبيرة لذلك الشخص قائلا له «سامحنا عطلناك !!»، لقد ضاع مني اليوم كما تضيع مياه كثيرة في مجتمع استهلاكي لا يدرك ما معنى الثروة المائية الناضبة؟!! حدث هذا في مكان ما من أمكنة الوطن، المتطلع لعالم الحكومة الالكترونية ولا اعرف إن كانت تلك الحكومة ستصر علينا أن نجدد جوازاتنا لكل معاملة حتى وان قررنا البقاء عشرين سنة داخل البلد وصلاحية جوازنا لخمس سنوات! هذا فقط على سبيل المثال وليس الحصر.
مثلما لن أتحدث عن البطاقة الذكية مستقبلا وما بها من إشكاليات عدة في تبدل المعلومات. غير إن المشكلة تعدت المؤسسات الحكومية إلى القطاع الخاص والمصرفي، والذي اعتقدت انه أكثر فهما لمعنى البزنس حتى وان طفحت الأوراق داخل الأدراج بمحاذير الأموال وغسيلها، فانعكست علينا نحن الصغار والشرفاء في ذمتنا وأخلاقنا فصرنا عملة واحدة ومعاملتنا واحدة سواء بسواء، كمعاملة الجاني والمتهم والفاسد والموبوء مع نقيضه المستقيم خلقا وسلوكا. حقيقة قيل من لا يعرفك يجهلك، وهذه الميزة الأخلاقية اندثرت فكل الذين يعرفون اليوم عالمهم هو تلك الأوراق المالية والذهب الرنان. لهذا نحتاج وقفة مع حكاية المصرف وعالمه الغريب في تعامله مع البطاقة الشخصية المنتهية!!.
 
صحيفة الايام
30 مايو 2010

اقرأ المزيد

دلالات تَسَوُّل بيل كلينتون عبر الإنترنت

ثمة مظاهر وتجسدات شيئية وقيميّة تميز الرأسمالية الأمريكية الفظة،‮ ‬ونظامها السياسي،‮ ‬وجهازها البيروقراطي‮ ‬المعقد،‮ ‬عن الرأسماليات الناضجة في‮ ‬الغرب الأوروبي،‮ ‬من ذلك مثلاً‮ ‬ما خرج به قبل أيام الرئيس الأمريكي‮ ‬الأسبق بيل كلينتون على مواطنيه الأمريكيين،‮ ‬من دعوة عاطفية استجدائية،‮ ‬لمساعدة زوجته وزيرة الخارجية هيلاري‮ ‬كلينتون على سداد ديونها الناجمة عن خوضها معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية،‮ ‬والتي‮ ‬خسرتها لصالح الرئيس الحالي‮ ‬باراك أوباما‮.‬
في‮ ‬التفاصيل فإن الرئيس الأمريكي‮ ‬السابق بيل كلينتون وجه رسالة إلكترونية إلى مناصري‮ ‬زوجته وزيرة الخارجية هيلاري‮ ‬كلينتون‮ ‬يدعوهم فيها للتبرع،‮ ‬لمساعدتها في‮ ‬تسديد ديون حملتها الانتخابية الرئاسية الفاشلة عام‮ ‬‭,‬2008‮ ‬وهي‮ ‬ديون تبقى منها،‮ ‬بحسب صحيفة وول ستريت جورنال‮’ ‬في‮ ‬أبريل الماضي‮ ‬771‮ ‬ألف دولار تدين بها لشركة‮ ‘‬بين شوين وبرلاند‮’ ‬الاستشارية التي‮ ‬قدمت المشورة لهيلاري‮ ‬كلينتون،‮ ‬وهي‮ ‬شركة‮ ‬يملكها مدير حملتها السابق مارك بين‮.‬
ولكي‮ ‬يحفز بيل كلينتون أنصار حملتها الانتخابية السابقين على دعم حملة التبرعات هذه،‮ ‬فإنه عرض عليهم أن‮ ‬يسافر المتبرعون‮ (‬لاحظ على حسابهم الخاص‮) ‬إلى نيويورك لقضاء اليوم معه،‮ ‬إذا تبرعوا بخمسة دولارات أو أكثر من‮ ‬11‮-‬18‮ ‬مايو‮ ‬‭.‬2010‮ ‬وهذه ثاني‮ ‬مرة‮ ‬يتقدم فيها بيل كلينتون لطلب المساعدة المالية لزوجته،‮ ‬لتسديد ديونها الناتجة عن ترشحها لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة‮.‬
ولكي‮ ‬يكتمل مشهد‮ ‘‬اللؤم‮’ ‬الاستجدائي،‮ ‬فإن الموقع الإلكتروني‮ ‬للوزيرة هيلاري‮ ‬كلينتون،‮ ‬دعا الأفراد للتبرع بمبلغ‮ ‬أقصاه‮ ‬2300‮ ‬دولار،‮ ‬وذلك لتفادي‮ ‬دفع الضرائب في‮ ‬حال زاد المبلغ‮ ‬عن الرقم المذكور‮.‬
وكانت ديون السيدة كلينتون المترتبة على إدارة حملتها الانتخابية قد بلغت‮ ‬2‭,‬25‮ ‬مليون دولار،‮ ‬تم دفع الجزء الأعظم منها في‮ ‬حملة جمع التبرعات الأولى التي‮ ‬نظمها الزوجان،‮ ‬ولذا فقد كان سؤال الرسالة الإلكترونية التي‮ ‬وجهها الرئيس الأمريكي‮ ‬السابق للمتبرعين هو‮ ‘‬إن حملة هيلاري‮ ‬مازالت عليها ديون متبقية،‮ ‬أعرف أنها تود أن تراها مسددة بالكامل،‮ ‬فهل تتقدم اليوم لمساعدة هيلاري‮ ‬مرة أخرى هي‮ ‬الأخيرة‮’‬؟‮. ‬
ولك أن تعلم عزيزي‮ ‬القارئ أن السيدة كلينتون نفسها قد أقرضت من مالها الخاص حملتها الانتخابية‮ ‬13‮ ‬مليون دولار استردتها بالكامل‮.‬
والأدهى من ذلك أن الزوجين كلينتون كانا قد كسبا‮ ‬109‮ ‬ملايين دولار منذ أن‮ ‬غادرا البيت الأبيض عام‮ ‬2007‮ ‬من إلقاء المحاضرات والخطابات،‮ ‬ونشر المذكرات،‮ ‬والتي‮ ‬تصدرت قائمة أكثر الكتب مبيعاً‮.‬
ونسجا على منوال الموروث الرأسمالي‮ ‬الأمريكي،‮ ‬الذي‮ ‬أحالته الممارسة التراكمية عبر السنين إلى تقاليد،‮ ‬تشكل جزءاً‮ ‬لا‮ ‬يتجزأ من الثقافة السياسية الأمريكية السائدة،‮ ‬فلقد اعتمدت السيدة كلينتون اعتماداً‮ ‬تاماً‮ ‬على الأثرياء من المتبرعين الذين دفع‮ ‬غالبيتهم أقصى ما‮ ‬يسمح به القانون من المال‮.‬
ولذا،‮ ‬وكما نقول نحن في‮ ‬الخليج بلهجتنا الدارجة‮ ‘‬صار ما لهم عين‮ ‬يفتحوا وجوههم‮’ ‬على هؤلاء مرة ثانية،‮ ‬فكان لابد وأن‮ ‬يوجها حملة تسولهما نحو عامة الناس،‮ ‬الذين لولاهم ولولا أصواتهم لما استطاع المال السياسي‮ ‬أن‮ ‬يرفع من‮ ‬يشاء ويذل من‮ ‬يشاء من الساسة الأمريكيين،‮ ‬ومن أولئك الطامحين الجدد لتسلق قمم المجد والشهرة والنعيم والعيش الرغيد‮.‬
ماذا‮ ‬يعني‮ ‬هذا وما هي‮ ‬دلالاته؟
إنه‮ ‬يعني‮ ‬ببساطة أن السياسة الملعونة،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬باعتبارها أحد مكونات الثقافة الأمريكية البنيوية الفوقية السائدة،‮ ‬تفترض إباحة كل شيء‮.. ‬ودلالات ذلك عديدة لعل أبرزها‮:‬
‮(‬1‮)‬التكسُّب والتسول السياسي‮ ‬ممارسة أمريكية اعتيادية،‮ ‬يمارسهما كبار الساسة وصغارهم على حد سواء‮. ‬فعندما‮ ‬يتحول‮ ‘‬مذهب‮’ ‘‬إذا لم تستحِ‮ ‬فافعل ما شئت‮’ ‬إلى مكوِّن عضوي‮ ‬في‮ ‬أنساق قيم و‮’‬مناقبيات‮’ ‬الوسط السياسي‮ ‬الأمريكي،‮ ‬التي‮ ‬تغذيها لوبيات المصالح النافذة وتمويلاتها المشرعنة والأخرى‮ ‬غير المشروعة للسياسيين وحملاتهم الانتخابية،‮ ‬ناهيك عن استخدامها الواسع للمال السياسي‮ ‬للتأثير على قرارات وتشريعات الكونجرس المتصلة بمصالحها،‮ ‬بصورة مباشرة أو‮ ‬غير مباشرة‮ ‬‭-‬‮ ‬فإن ذلك‮ ‬يؤذن بتفسخ الأساس الأخلاقي‮ ‬للرأسمال الاجتماعي‮ ‬الذي‮ ‬يشكل الحاضنة الأساس للنظام ككل‮.‬
‮(‬2‮) ‬رغم الخاصية الفريدة،‮ ‘‬الغريزية‮’ ‬إن شئتم،‮ ‬التي‮ ‬يتمتع بها النظام الرأسمالي‮ ‬مقارنة بالأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي‮ ‬سبقته،‮ ‬والأخرى المنافسة له،‮ ‬من حيث قدرتها على تجديد نفسها باستمرار لمقاومة سنن شيخوختها وتهالكها،‮ ‬وذلك بفضل ديمقراطيتها المؤسسة على سيادة حكم القانون‮ ‬‭-‬‮ ‬رغم ذلك إلا أن مثل هذه وغيرها من التكهنات التي‮ ‬نالت كثيراً‮ ‬من بنية الديمقراطية الأمريكية العريقة،‮ ‬تشير بأنها قد أدت‮ ‬غرضها واستنفدت خزينها القيمي‮ ‬والتنظيمي،‮ ‬وذلك نتيجة للتداعيات والآثار التي‮ ‬أفرزتها الأطوار الفوضوية التي‮ ‬اجتازتها الرأسمالية الأمريكية،‮ ‬واندفاعها المحموم من طور الرأسمالية المغامرة إلى طور الرأسمالية المقامرة‮ ‬‭(‬GAMBLING CAPITALISM‭).‬‮ ‬وهما طوران تَطَوُّريان،‮ ‬ينطويان بالضرورة على إحداث ندوب‮ ‬غائرة في‮ ‬البعد الأخلاقي‮ ‬للديمقراطية الأمريكية،‮ ‬وأن تحيل هذه رويداً‮ ‬رويداً‮ ‬إلى ديمقراطية نخبوية‮ ‬يتحكم فيها كبار الأثرياء،‮ ‬ويسيطر على سلطتها التشريعية نواب وشيوخ من نفس الطبقة‮.‬
ومن المؤكد أن الوسط السياسي‮ ‬الأمريكي‮ ‬قد أصبح مدركاً‮ ‬لهذه التداعيات ومخاطرها على مستقبل الديمقراطية الأمريكية،‮ ‬وهو لذلك‮ ‬يحاول جاهداً‮ ‬العمل على تجديدها وإعادة بث الروح في‮ ‬أطرها التنظيمية وأنساقها القيمية،‮ ‬ولعل الإصلاحات التي‮ ‬يقوم الآن الرئيس باراك أوباما بتنفيذها والتي‮ ‬شملت بصورة رئيسة حتى الآن نظام الرعاية الصحية،‮ ‬بجعله أكثر شعبية‮ ‘‬وشمولية‮’‬،‮ ‬والنظام المالي‮ ‬والمصرفي‮ ‬بوضع ضوابط صارمة على أعمال المقامرة بالأموال التي‮ ‬تميز ممارسات‮ ‘‬وول ستريت‮’‬،‮ ‬والتي‮ ‬تسببت في‮ ‬العديد من الأزمات الهيكلية للاقتصاد الأمريكي،‮ ‬آخرها وأخطرها الأزمة المالية الأخيرة‮ ‬‭-‬‮ ‬لعل هذه الإصلاحات تصب في‮ ‬هذا الاتجاه.
 
صحيفة الوطن
29 مايو 2010

اقرأ المزيد

عالم جديد يتشكل

احتاج الأسلوبُ الرأسمالي للإنتاجِ إلى عدةِ قرون لكي ينمو ويتبلور ويتصارع ثم يقاربُ وحدةً عالمية متنافسة كذلك.
منذ الكشوفات الجغرافية وهذا الأسلوب يتشكل في الغرب، في أوروبا الغربية بقوة كبيرة، ثم يتمدد إلى أمريكا الشمالية التي وجد فيها قارة بكراً.
إن الدولَ الرأسمالية القيادية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا تركت هذه القيادة للولايات المتحدة الأمريكية، التي أهلتها السوق الجغرافية الهائلة، وغياب الجذور والمشكلات الإقطاعية، وحضور قوى عاملة بكر، والتمدد في قارة أمريكا الجنوبية، لكي تصبح القوة الرأسمالية الكبرى الأولى، وظهر ذلك في ميادين السياسة عبر الحرب العالمية الأولى ثم الثانية التي حسمتها مع الاتحاد السوفيتي.
كان حضورُ الرأسماليات الشرقية متأخراً في عمر التشكيلة الرأسمالية العالمية، واستعانَ هذا الحضور بأدواتِ الدول، وبفضاءِ الايديولوجيات الشرقية الدينية والتعاونية، ثم تنامت المضامين المتوارية لهذه الرأسماليات.
وبعد عملياتِ التوحيد الرأسمالية العالمية التي تمت قسراً بإنهاك المعسكر “الاشتراكي” ودفعه نحو التغيير، وبالاعتماد على المعسكر القديم المراكم للرأسمال الكوني، تصاعدت عملياتُ النمو الرأسمالية بفوضوية واشتباكات بين مختلفِ أقسامِ الرأسماليات الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية، أمريكا الجنوبية، أوروبا الغربية، أوروبا الشرقية، اليابان، روسيا، الصين، جنوب شرقي آسيا، الهند، استراليا، جنوب افريقيا.
تفوقتْ أمريكا على غيرها بسببِ الأسبقية التاريخية في قارة ذات موارد كبيرة وبلا عوائق سوى الهنود الحمر الذين قضت عليهم الأسلحة الحديثة بسرعة، ثم تنامتْ عملياتُ العنفِ السياسي الأمريكية الشمالية من أجلِ حيازةِ الأسواق، مما وسمَ الطابعَ السياسي الحكومي الأمريكي بالاجرام، وهو أمرٌ شكل حزبين عنيفين لطبقةٍ واحدة ذات ولايات متشابهة.
إن غيابَ فعل الطبقات العاملة الشعبية الأمريكية هو بسبب هذه الفوائض الضخمة التي انهمرت على السوق الأمريكية الداخلية خلال قرنين، وهذا المستوى المتطور للإنتاج.
ولهذا نرى عقوداً طويلة من خفوت الفعل الشعبي داخل أمريكا، خاصة مع انتشار العصابات الاجرامية السياسية، وقوانين الكبت، ووجود المعسكر الاشتراكي السابق الذي كان يُبرر هذا القمع.
لكن نمو الأسلوب الرأسمالي للإنتاج أقوى من الأشكال السياسية التي تتمظهر بها علاقات الإنتاج، فهو يندفعُ ليشكلَ توحيدا عالميا لذاته، فوق فسيفساء الأمم والشعوب والأديان والأنظمة، بسبب انه أسلوب إنتاج توحيدي رغم تفكيكه وتمزيقه.
أطاحتْ قوةُ البخار والقاطرات بالممالك الإقطاعية في أوروبا، وأطاحتْ الثورةُ التقنية والمعلوماتية بدول المعسكر الاشتراكي، وقادتْ هذه الثورة لتوحيد الكرة الأرضية عبر جسور الإنترنت والسلع، وستؤدي إلى المزيد من التغيير في دول الأسواق الشرقية المحتكرة، ويقود دول الشرق لثورات صناعية تقنية بشكل متسارع يغير علاقات الهيمنتين الذكورية والسياسية والتخلف الزراعي ومستويات القوى العاملة المتخلفة.
لقد وضعت موازين القوى الولايات المتحدة في مركز القيادة في هذا الوضع التاريخي المضطرب المتسارع النمو، واستغلت القوى المتنفذة ذلك في التهام الفوائض النقدية من العالم النازف.
تدعو برامج المحافظين الأمريكيين إلى إلغاء كل حماية، وإلى فتح كلي للأسواق وتغييب الملكية العامة، لكن هذه تؤدي إلى مزيد من الاضطرابات وفوضى الإنتاج، مثلما أن بقاء الملكيات البيروقراطية العامة، لا يقود إلى تطور قوى الإنتاج في الدول الشرقية وتحرير القوى العاملة من الهيمنات الحكومية.
وجود الأمم المتحدة في أمريكا، ظهور قيادات من حكومات عالمية، تطور منظمات الأمم المتحدة المختلفة، كلها يشير لضرورة حكومة عالمية أو تعاون دولي وثيق يتجه نحو حل تناقضات العالم المعاصر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتشير عملية الإزاحة للمحافظين الأمريكيين ونهوض الطبقات العاملة والمفكرة في الولايات المتحدة وتنامي تأثيرها في السياسة العامة، ومجيء رئيسين ديمقراطيين إصلاحيين داخليا وخارجيا: كلينتون وأوباما، وتصاعد حكومات اليسار في أمريكا الجنوبية، وهيمنة القوى الشعبية على البلديات في أوروبا الغربية، وعودة اليسار الديمقراطي لأوروبا الشرقية، حتى باتت رأسمالية النزيف العالمي وتوجه الفوائض نحو العالم الرأسمالي المتطور محل إعادة نظر عميقة.
فقارة مثل افريقيا تحتاج إلى عمليةِ إنقاذ كبرى، بدأت الكثير من الدول تقترحها.
كذلك ظروف العالم الإسلامي والعديد من دول الشرق تحتاج إلى تغييرات اقتصادية واجتماعية وليس إلى تكديس الأسلحة والفقر والحروب.
لم تعدْ مقبولةً الآن نظرية السوق الحرة الكاملة، وعدم تدخل الدول كإشراف وتخطيط، خاصة على المستوى العالمي، فعملية التغيير في الأسلوب شرقية، وعملية التآكل في الأسلوب غربية، وعملية التداخل بينهما على المستوى العالمي؛ صراعاً وتكاملاً، تتطلب الخروج من العفوية المحضة، ومن غياب التخطيط، إلى العملية الاقتصادية التعاونية المشتركة التي سوف تظهر مع تصاعد أصوات الأغلبية المنتجة في كل بلد وعلى المستوى العالمي.
وتظل القوى المالكة هي المسيطرة بطبيعة الحال لكن الأزمات وانهيار بعض الاقتصادات الشرقية، واختناق الأسواق تدريجيا بسببِ تحول كل الدول إلى مصدرة للسلع، هو أمرٌ يجعلُ من التبادل من أجل التبادل يمضي في طريق مسدود.
هذا منظورٌ مستقبلي بطبيعة الحال.

صحيفة اخبار الخليج
29 مايو 2010

اقرأ المزيد

نحن وثقافة العصر

احد الموضوعات المهمة التي ناقشها الكاتب تركي الحمد في بحثه نحو اطار معرفي جديد للثقافة العربية والذي تضمنه بالاضافة الى بحوث اخرى اصداره القيم الثقافية العربية في عصر العولمة.
«نحن وثقافة العصر» يثير اشكاليات كثيرة فرضتها شروط تطور المعرفة عبر سياقها التاريخي.
واذا كانت حركة التاريخ كما يقول الباحث د. سمير امين في مؤلفه «نقد روح العصر» ليست تنقلاً على خط مستقيم له اتجاه ثابت ومعروف مسبقاً بل تتكون هذه الحركة من لحظات متتالية بعضها يمثل خطوات تقدم في اتجاه معين وبعضها بين التوقف والمراوحة عند نقطة معينة وبعضها يمثل ردات الى الوراء والى الانغلاق.. فان الحمد في بحثه هذا ينظر الى الثقافة في بعدها المعرفي والتاريخي والحضاري كما يتعاطى معها كمنجز يخضع تطوره للشروط الموضوعية والذاتية وللتفاعل المعرفي والحضاري.
من هذه الرؤية، يتحدث عن الحداثة الغربية وما انتجته من ثقافة عقلانية وتقنية في طريقها الى ان تصبح ثقافة عالمية شاملة، فثورة المعلومات والاتصالات المعاصرة انجاز كبير حوّل العالم الى حارة صغيرة وامام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وامكانيات قادرة على اختراق الغرف المغلقة والاصقاع النائية، انهارت الحدود وتلاشت وسائل الحماية وبالتالي ماذا يمكن ان يقال اليوم امام العفريت التقني الجديد الذي يطل علينا ونحن لا نزال اسرى ذات العقل وآلياته؟
فالمشكلة الاساسية هنا كما يقول الحمد هي ان ثقافتنا الذاتية المتصورة هلامية الشكل زئبقية المضمون نخبوية الانتاج والاستهلاك ببنية لفظية بيانية لا تتواءم مع عملية وعلمية ومحسوسية الثقافة العالمية المعاصرة، وعلى هذا الاساس يتساءل: كيف يمكن لمفاهيم قائمة على سحر البيان ان تنافس مفاهيم قائمة على دقة المعلومات؟
هناك من يعتقد انه من الممكن ان نلج حضارة العصر دون التخلي عن ثقافتنا الذاتية اي وفق المبدأ التوفيقي، ان نأخذ افضل ما عندهم وافضل ما عندنا وكأننا مخيرون في ذلك. قد يبدو هذا الحل جميلاً وموفقاً نظرياً ولكن هل يصبح هذا الحل ممكناً من حيث الواقع العملي والمعرفي؟ وهل يمكن ايجاد اتفاق بين التحدي المعاصر للثقافة العالمية المعاصرة وبين طرقنا في النظر الى الاشياء؟ وبمعنى ادق هل من الممكن التوفيق بين التقنية وثقافتها وبين التقليد وموروثه؟
هذه التساؤلات الاساسية تقودنا كما يقول الى سؤال اكثر اهمية وهو هل ثقافتنا وذاتيتنا المنبثقة عنها محكوم عليها بالاندثار والسقوط؟ الجواب في نظره هو نعم ولا في الوقت ذاته، فاذا كانت الثقافة المتحدث عنها وما توحي به من ذاتية ثابتة هي تلك المفارقة لاطر الزمان والمكان فان الزوال هو المصير في النهاية، واذا كانت متغيراً اجتماعياً ضمن متغيرات فان الاستمرار هو النتيجة.
وحول شكالياتنا الثقافية يتحدث قائلاً «ان اشكالياتنا الثقافية الدائرة حول هاجس الهوية والنقاء الثقافي هي اشكالية ذهنية مبالغ فيها ونوع من آليات الدفاع عن النفس الجماعي المستفزة بحالات الاحباط والفشل وعدم القدرة على التوافق مع تحولات المكان والزمان بغرض اعطاء نوع من التوازن للذات المنحرجة حتى وان كان ذلك على حساب الواقع المعطى وتجاهله بوعي او دون ذلك كما انها – اي هذه الاشكاليات الثقافية المفترضة هاجس نخبوي خاص قبل ان يكون هماً اجتماعياً عاماً».
وفي ضوء هذه القضية، ينتقل الى اشكالية تتعلق بالمثقف العربي ذاته وهي ان غالبية المثقفين العرب المهتمين بقضايا الثقافة التي افرزها اكتشاف الغرب الحديث المعاصر لا يحاولون تحليل اشكاليات الثقافة في متغيرات التاريخ والمجتمع ولكن عبر نماذج «افلاطونية» ثابتة وهنا تتفاقم اشكالية المثقف العربي عندما يحاول الدعوة الى هذا النمط النموذجي من الثقافة او ذاك، فيربك متلقي الخطاب من حيث عدم القدرة على المواءمة بين مقولات النموذج – وفقاً للمنطلق الايدلوجي للمثقف – وما هو ممارس ومعتقد فعلاً في المجتمع، فخلاصة القول على حد تعبيره ان النماذج الثقافية المفارقة لن تؤدي في احسن الاحوال إلا الى تجذير الازدواجية الثقافية في حياتنا، حيث يكون هناك نماذج غير قادرة على النزول الى ارض الواقع ومتغيرات عاجزة عن ايجاد من يرفعها الى سماء النظرية وتكون النتيجة هذا الانفصام الشنيع بين المثقف والمجتمع فيلوم المثقف المجتمع على عدم تقديره له، ويلوم المجتمع المثقف على عدم اهتمامه بقضاياه الفعلية.
 
صحيفة الايام
29 مايو 2010

اقرأ المزيد

السنة العالمية لانطون تشيخوف


 
 
السنة العالمية لانطون تشيخوف
تراجيديـــا توافـــه الحيـــاة
 






































       أنطون تشيخوف
 



 
الذكرى العالمية لانطون تشيخوف (1860 ـ 1904) تستدعي الاهتمام مجدداً بهذا الساخر الكبير، والطبيب الانساني، مسرحا ورواية إذ أدبه مرتبط بالحياة، واي شيء ليست له جذور في تربة الحياة يبقى بالنسبة اليه شاحباً. مسرحي وقصصي عملاق عاش في زمن اقرانه العمالقة امثال: تولستوي ودوستويفسكي وتورغنيف وغوركي. اقترب من موضوعات روسيا الملتهبة وعالجها بعمق نيّر وقلم انتقادي ساخر، ويوم قرأه غي ده موباسان قال: «قصصي لا شيء أمام قصص تشيخوف». ورغم استمرار مأساوية الحياة الأرضي من قتل وتشريد وفقر وموت فان أعمال هذا المبدع الجمالية لا تزال تعرض على أهم خشبات العالم، أهمها على الخشبة الباريسية. اشير الى مؤلمات الحياة لأن تشيخوف كان عميق الوجع بالحالة الانسانية، شمولي التحليل، حاضر كأنه يعيش احلام العالم وامراض روسيا حتى الراهنية.
وانطون بافلوفيتش تشيخوف المولود عام 1860 في مدينة تاغنروك في عائلة فقيرة مؤلفة من خمسة صبيان وابنة كابد ضنى العيش مع انتقال العائلة الى موسكو عام 1876 حيث شرع باكراً في العمل الصحافي محرراً في جريدة «الفراغ» مزاولاً في الوقت نفسه اعطاء الدروس الخصوصية. وبعد انهاء المرحلة الثانوية التحق بكلية الطب متتلمذاً على يد نخبة أطباء، منهم: ن. ف سكليفوفسكي، وغ. ازاخارنيا، وقدم اطروحته تحت عنوان: «العمل الطبي في روسيا».
أول عمل أدبي مسرحي له حمل عنوان «رسالة الاقطاعي ستيبان من دونسكوي»، بعدها راح يكتب وينشر مقالاته في مجلات «القبوط» و«المنبه» موقعاً باسم «انتوشا»، ومنذ عام 1882 أخذ ينشر مقالاته في مجلة «بقايا» حتى صدرت له عام 1884 «حكايا مزركشة» مواصلاً الكتابة في مجلة «الأزمنة الحديثة».
عام 1890 كان نقطة تحوّل مفصلية في حياة تشيخوف إذ اصيب بداء السل لكن ذلك لم يمنعه من انجاز رحلته المشهورة الى جزيرة سخالين حيث وضع عنها كتاباً مرفقاً بمئات الصور عن الاستبداد القيصري الروسي، والمجاعة، والكوليرا حيث اطعم الجياع وقدم المساعدة الصحية، وساهم في بناء المدارس لأولاد الفلاحين. تضامن كثيراً مع مكسيم غوركي الذي اضطهدته القيصرية، وفي عام 1901 تزوج من ممثلة «مسرح الفنون» كنيبر حيث عرض مسرحيته المركزية «بستان الكرز».
الضاحك والمأساوي
في ربيع 1897 ولد «مسرح موسكو الفني الشعبي» عبر تجمع عدد من الممولين ومن بينهم تشيخوف الذي طلب من المنظر المسرحي قسطنطين ستانسلافسكي التعاون معه فأخرج له مسرحية «النورس». يقول المخرج ستانيسلافسكي: «في الساعة الثامنة رفعت الستارة وكان عدد المشاهدين قليلاً. لست ادري كيف سار الفصل الأول. ما أذكره ان رائحة عشبة «فاليريان» (مهدئة للاعصاب) فاحت من الممثلين. كنت احس بالرهبة المطبقة وانا جالس في الظلمة مديراً ظهري للجمهور. كنت امسك بساقي لاخفاء الرعشة. وفجأة التمع نجاحنا. كان الجمهور هائجاً وعلى خشبة المسرح عيد حقيقي. تبادل الجميع القبلات وبينهم الغرباء الذين اقتحموا الكواليس، وكثيرون، وأنا منهم، رقصوا رقصة المتوحشين من شدة الفرح والاثارة وبكت الفنانة كنيبر زوجة تشيخوف.
ومرت شهور على عرض مسرحية «النورس» حتى وضع تشيخوف مسرحية «العم فانيا» التي اثارت اهتمام ستانسلافسكي فطلب حق اخراجها، كما طلب هذا «مسرح موسكو الفني» و«المسرح الامبراطوري الصغير». احتار المؤلف وأخذ في التأجل حتى لا يغضب احداً، خصوصاً «مسرح موسكو الفني» الذي كان يزوره باستمرار للثرثرة مع الممثلين. وعند عرضها حازت مسرحية «العم فانيا» على الاعجاب واستمرت تعرض في روسيا عشرين عاماً، وتخطت شهرتها الجمالية البلاد مع ان تشيخوف كان دائم الترداد: «أنا لست مسرحياً، أنا طبيب»، مع ان المخرج ستانسلافسكي يقول: «كان بيته في «يالتا» ملتقى جميع الممثلين والكتاب الذين كان يقدم لهم الطعام، وكانت شقيقته ماريا تقوم بخدمة الجميع».
كان يكتب مع القليل من الكلام والتعليقات والنصائح التي كان يطلبها المخرجون. اجاباته على الأسئلة كانت أشبه بألغاز ينبغي حلها. عن هذه الحالة يقول ستانسلافسكي: «حتى عندما اجلسناه على الطاولة اخذ يضحك. لا يمكن معرفة ما الذي اضحكه. كان متواضعاً جداً رؤوفاً وانسانياً على تراجيديا مؤلمة». وستانسلافسكي يروي قصة اخراج مسرحية «بستان الكرز»: «سار اعداد المسرحية في صعوبة لأنها فعلاً صعبة. سحرها في عبيرها الخفي الذي يصعب بلوغه في وقت كانت روح الابداع لدى الممثلين لا تزال بدائية. حاولنا ايقاظ انفعالاتهم عبر الرؤى الابداعية بخلق الاوهام بالديكور والتلاعب بالاضواء والاصوات، وانا الذي ادمن الافراط في المؤثرات المسرحية الضوئية والصوتية».
اقترب عام 1904 واستمرت صحة تشيخوف في التدهور إذ ظهرت لديه اعراض مقلقة في المعدة كانت اشارة الى تمدد السل على ان الحيوية لم تفارقه. ورغم الوضع الصحي الصعب روى تشيخوف فكرة المسرحية الجديدة التي لم تر النور على الاطلاق. صديقان شابان يحبان امرأة واحدة. الحب المشترك والغيرة يخلقان علاقات معقدة ومتشابكة وتنتهي المسألة بارسالهما كليهما في بعثة الى القطب الجنوبي. نهاية المسرحية تتلخص في ان الصديقين يريان شبحاً أبيض ينزلق على الثلج رمزاً لروح المرأة الحبيبة التي قضت نحبها بعيداً. وعلى هذه الفكرة روت زوجته الممثلة كنيبر ان تشيخوف كان يحب زيارة الاماكن الموحشة كالقطب الجنوبي او الأماكن الثقافية في أوروبا. كان يكره الجهل والتذمر المستمر وضيق الأفق، ورغم اوجاعه تناول في ادبه الامال المشرقة، وجديد الحياة العلمية.
استشراف الثورة الاجتماعية
يصل تشيخوف بالنكتة الى حد التراجيديا المثيرة للدموع والقهقهات وكثيراً ما يبلغ حد العبث والدعابة المرحة. وكثيراً ما يتساءل النقاد: لو عاش تشيخوف الشاب حتى مرحلة ثورة اوكتوبر هل كان بامكانه التعايش معها وهو الثائر؟
عن هذا التساؤل يجيب ستانسلافسكي: «سيكون من المضحك التنبؤ. ليس بعيداً عنا تشيخوف الذي رفض الخمول». لقد احس تشيخوف بترددات الثورة من خلال مراقبته الغليان الشعبي كما غوركي. مثلاً، الممثلون الذين يؤدون شخصية ايفانون يقدمونه، في العادة، على انه شخص مضطرب، متوتر الاعصاب، ولا يثيرون لدى الجمهور سوى الشفقة على هذا المريض لكن الحقيقة هي ان تشيخوف رسمه انساناً قوياً ومناضلاً مع ان قواه خارت في المعركة الطاحنة ضد الظروف القاسية للواقع الروسي. ليست مأساة المسرحية في مرض بطلها بل في ظروف الحياة التي لا تطاق وتتطلب اصلاحاً جذرياً أي الثورة. هنا تكمن أهمية انتفاضة تشيخوف الفكرية. لقد خدم أدب تشيخوف على نحو رائع الواجبات الملقاة على عاتق الثوريين الروس عبر بلورة الاتجاه الانتقادي الواقعي في الفن والأدب.
كان دوستويفسكي يدين المجتمع الطبقي الذي عادت إليه روســيا اليوم بعد تجربة ثورة اوكتوبر التي خان قادتــها كل احلام التغييرين من بوشكين الى غوغــول الى مايكوفسكي فانهارت كالذبابة بعد ان اغتالت خيرة اصفيائها المقاتلين معها وفي صفوفها من تشيخوف الى باسترناك الى ماياكوفسكي الى سولجينيتسين الجندي في صفوف الحرب العالمية الثانية ضد الالمان.
تعرية البورجوازية
عرّى تشيخوف اللامبالاة والفراغ الفكري والابتذال على انها من توافه الحياة. اختار الكلام غير المألوف لكشف النفسية الاقطاعية (بستان الكرز). هاجم ضيق صدر البورجوازية حيال مأساة الفرد، ولم يستوعب احد قبله وضوح تراجيدية توافه الحياة. رسم للناس فكرة واضحة عن حياتهم البائسة والمعيبة. كتب غوركي: «بالحقيقة القاطعة هاجم تشيخوف العهر وعمل على تعميق الانتقاد في نبرات موضوعية متماسكة، وممزوجة بكوميديا حزينة». فضح انعدام العدالة في مسرحيات «بيدر القيصرية» (1894)، «ثلاث سنوات» (1895)، «ممارسة بالصدفة» (1898) حيث تجسد الطابع المعادي للبورجوازية الروسية التي قادت الناس الى الانحلال الخلقي.
صيف عام 1904 ورد من مدينة بادن الالمانية النبأ الأليم حول وفاة تشيخوف. وكانت آخر كلماته بالالمانية: «انني اموت» بعد ان سمع الطبيب يقول لزوجته: «اسقه شامبانيا ليموت مرتاحاً». وبحسب ستانسلافسكي كانت وفاته هادئة ومهيبة.


 

 

اقرأ المزيد

ما ذنــب العمــال؟


أن للأجور التي يتقاضاها العمال من أصحاب العمل أهمية فائقة في المحافظة على المتطلبات الأساسية للعمال وعوائلهم من مواد غذائية واستهلاكية ومتطلبات السكن والنقل والمصاريف الأخرى، حيث أن ثبات أيام صرف أصحاب العمل لرواتب العمال يعتبر من الأمور المهمة في حياة العامل وعائلته.

 ففي بعض المؤسسات والشركات الإنتاجية تقوم إدارات هذه المنشئات بتأخير صرف أجور العمال متعذرة تارة بشماعة الأزمة المالية وتارة أخرى بانخفاض أرباح الشركة أو المؤسسة، وما حصل للشركة الكورية الفائزة بمناقصة مشروع مدينة عيسى في إنشاء الجسور العلوية التي عطلت صرف أجور العمال لمدد طويلة وصلت إلى خمسة شهور، مما أدى إلى إضرابهم عن العمل عدة مرات خير دليل.

لقد تم العمل على المشروع قرابة العامين منذ استلام الشركة الكورية للمناقصة. فقد وضعوا جميع المخططات الهندسية والتصورات المستقبلية للمشروع وتم البدء فيه فعلياً بعد أشهر قليلة من استلام زمام الأمور، إلا انه هنالك مشكلة بأن عمال الشركة قد اضربوا عن العمل عدة مرات ويرجع السبب إلى عدم استلام أجورهم ومستحقاتهم من قبل صاحب العمل. ليس هنالك سبب واضح ومبرر مقنع لعدم صرف أجور العمال سواء اللعب بحقوقهم واستخدام عامل الوقت في تأخير صرفها. 
وبعد التذمر الذي وقع بين صاحب العمل ووزارة الأشغال بالنسبة إلى إضراب العمال الذي أدى إلى تأخر المشروع مراراً وتكراراً، فأن لجوء الأخير إلى المحاكم ورفع صاحب العمل قضية على وزارة الاشغال سوف يطول تذمر المواطنين مستخدمي الطريق إلى اجل غير مسمى!

 والسبب بأن عدم التزام الإطراف المعنية بالاتفاقية في مواصلة المشروع، والخاسر الأكبر من هذه العملية هي الطبقة العاملة الفقيرة التي تعمل على المشروع فما ذنبهم بأن يقوم صاحب العمل بتسريحهم من العمل بمجرد سعيهم ومطالبتهم بلقمة عيشهم؟ وما ذنب أسرهم بعد هذا الاجراء اللامسؤول بعد استقبالهم خبر تسريح من يعيلهم؟  أن غطرسة أصحاب العمل وممارستهم البشعة تفرض على الطبقة العاملة النضال من اجل مقاومة هذه الممارسات التي تهدف الى احراز مكاسب مادية على حساب حقوق العمال. فعدم صرف أجور العمال يعد بمثابة اللعب بحقوقهم وعدم احترام قوانين العمل من قبل اصاحب العمل.

لقد أدت مشكلة عدم صرف الأجور الى توقف مشروع مدينة عيسى إلى أجل غير مسمى، ربما تبدو هذه المشكلة بسيطة ولكن عدم أعطاء العمال حقوقهم أدى وسوف يؤدي ان تواصلت هذه السياسة الى توقف العديد من المشاريع ومعاناة الكثير من المواطنين والى مشاكل اكبر سوف يتعذر إصلاحها.


ابريل 2010
 

اقرأ المزيد

التباس الشخصية الوطنية

لابد من البحث لماذا لم تتكون الشخصية الوطنية العامة لدى رجل الشارع؟
نجد ان البدوي والقروي كانا لا يمثلان مواطناً، وقد ظلا كما هما على مر التاريخ التالي. صحيح ان الملابس تغيرت والبيوت تطورت واستبدل بالمحراث المفك أو المطرقة لكن القروي ظل قروياً. وكذلك البدوي استبدل بالناقة أو الحمار السيارة لكنه ظل يسوق الأشياء والكائنات بعصاه.
في تكوين الأمتين العربية والفارسية تداخلات وصراعات وافتراقات.
نحن نعيش على حواف الأمتين، على أطرافهما المسيجة بالشوك وأسنان الزجاج والمخاوف التاريخية المضللة.
في ظل العصر الديني التقليدي لم يكن ثمة أمم، كانت ثمة(ملة) واحدة، تتبادل المنتجات المادية والفكرية، وتتداخل بينها الأفكار المكونة للمذاهب والشعوب، والخليج هو حافة الصراع بين الأمتين، وشريط لقائهما وتعاونهما ونسيجهما المشترك.
إن الأمة العربية تتكون عبر القبائل البدوية بغاراتها الدائمة لتشكيل النسيج السكاني، ومن الفاتحين الأُولِ مروراً بالخوارج والقرامطة والسنة والشيعة، فهم العرب أنفسهم وان تبدلت أزياؤهم السياسية – المذهبية، وهم ذات البدو، ولكنهم ينسخون في كل فترة حسب الموجة الغالبة من القوى الاجتماعية السياسية، فليس ثمة تغيير في البدو غير أنهم يتحضرون قليلاً، ويسكنون القرى والمدن الصغيرة، والحواف البارزة من الخليج تعطيهم انفتاحاً على الخارج، فيستقبلون أجد الأفكار الدينية، ويعانقون تأثيرات الشعوب وبعض هجراتها، وتختلط الدماء واللغات والأفكار، والقسم الزراعي من حواف الخليج يتأثر بما يموج في عالم الفلاحين المسلمين، من التأثر بالقرمطية وبالإماميات، وتبقى الأقسام الرعويةُ مرتبطة بالجزيرة العربية الداخلية وموجاتها.
ان الانقسام المذهبي يغدو حاداً من دون وجود فواصل اجتماعية سكانية كبيرة، أو مسافات جغرافية واسعة، الأفكار المذهبية متضادة بشدة، كما حدث في بعض الدول العربية النادرة التي أذابت المذهبيات في تكوين سني شيعي، إسلامي مسيحي، مشترك، خاصة في لحظات النضال الموحد.
لكن الجزيرة العربية ذات تضاريس اجتماعية حادة، فبعض التأثيرات جاء من أغوار النتاجات الريفية المرتبطة بالعقول السماوية المتعددة المفارقة، التي التحمت بعذابات البشر وأحلامهم في التغيير وضد هيمنة الثبات والقوى العليا عليهم، والملتحمة بالمذهبيات والقادة والأئمة.
في حين ان الموجات البدوية الخارجة من عمقِ الجزيرة في عمليات تجديد النسيج السكاني، ابتعدت عن المغالاة الراسخة في داخل الجزيرة، وبحثتْ عن فرص العيش الجديدة، لتشكل تداخلات وصراعات على الحواف، هي إعادة إنتاج جديدة لا تلحظ اختلافاتها بسهولة. وكأنها بتجديدها تريد أن تقيم لغة تعاونٍ وعيش مشترك بين المذهبيتين المتفارقتين، احداهما تغرق في التأويل، والأخرى تغرق في النصوصية.
لكن لم تستطع المذهبيات في عصر الجمود أن تعثر على مفاتيح الحداثة الخاصة بفتح الصناديق العتيقة المقفلة منذ قرون. بل كانت الصراعات على النتاج وفرص العيش والتغني بالاختلافات فزادت الهوات.
وفي زمن القوميات بدأ الافتراق بين القوميتين العربية والفارسية، فلم يستطع الجسمان العربي والفارسي الكبيران في منطقة الخليج أن يكونا جزأين مؤثرين في عمليتي الانبعاث القومية الجارية في المراكز خاصة، وكانت المؤشرات ترجح صعود القومية الفارسية نحو الحداثة فهي التي بدأت تطرح أسئلة التغيير والديمقراطية والعَلمانية منذ بداية القرن العشرين، لكن نشوء النظام الملكي العسكري الشمولي فوّت هذه الفرصة الثمينة، فتلبست القومية الفارسية لباس الملكية التي جنحت لحداثة متطرفة من دون جذور ولا رأفة بالبشر، مما وجه منحى القومية الفارسية التالي نحو المذهبية الشمولية العسكرية، خاصة مع اصطدامها بنزعة قومية عربية شوفينية، وهما صيغتان غيبتا الديمقراطية والعلاقة الجيدة بين القوميتين والهموم المشتركة.
في الجانب العربي كان تعدد الدول العربية السنية مفوتاً لفرصة صعود نظام مركزي عسكري شمولي، فبرزت تعدديات مختلفة، حافظ أغلبها على نسيج مذهبي مسطح غالباً، يخلو من مراكز قوية للحداثة والديمقراطية.
كانت الموجات القومية القوية تطرح فضاء عربياً تعصبياً، لكنها لم تبق، وجاءت تطرفات القاعدة بمتاعب أخرى لكن من خلال مذهبية منغلقة إرهابية، فلم تستطع التحديثات ولا القوميات ولا المذهبيات أن تشكل لحمة عربية في مراكز الحواف الخليجية والدول الصغيرة والجزيرة العربية ككل.
كونت النضالات الوطنية عقوداً من ثقافة وطنية عربية إنسانية ذات جذور إسلامية في المنطقة وخفتت من التباينات المذهبية، لكن لم تترك تستمر وتتجذر.
وزادت التطورات السياسية والاجتماعية العولمية وتدفق العمالة الأجنبية والتباين الشديد لفرص العيش وتفاقم تصاعد الدولة الفارسية الشمولية من التباعدات بين الأقسام العربية في المنطقة، وتحصنها في المذهبيات، وعدم نمو الوعي القومي لديها، ولا أي وعي تحديثي آخر.

صحيفة اخبار الخليج
28 مايو 2010

اقرأ المزيد

عن استغلال دور العبادة

حسنا فعلت كل من الاوقاف الجعفرية والسنية حين حذرت من استغلال دور العبادة في الامور السياسية، إلا ان الامر لم ينته بعد.
لا يكفي من هاتين المؤسستين ان تصدرا بيانا فحسب، فالكلام لا يولّد إلا كلاما، ومتابعة الامر واتخاذ الاجراءات المناسبة للحيلولة دون اي نوع من الاستغلال السياسي هو الأجدر والاهم.
الانتخابات على الأبواب، والبعض لا يتورع في ان يجعل من المسجد او المأتم منطلقا لدعاياته الانتخابية، وهذا لا يمكن قبوله، فالمساجد والمآتم تنأى بنفسها عن (الدنيوية) وأردانها، والسياسة وانجاسها.
وإذا ما قبلنا بفتح المجال للمترشحين باستغلال هذه الأماكن الطاهرة والمقدسة، فهل ستفتح لكل من هب ودب، وهل سيكون رأي جميع الأطراف والتيارات ممثلا وحاضرا؟
وحتى على افتراض اننا قبلنا ان تكون جميع الافكار حاضرة وممثلة وموجودة في المسجد والمأتم، ماذا ستكون النتيجة، ستعم الفوضى، وسيتدخل الحلال والحرام، والخطوط الحمراء والزرقاء، وسيتحول هذا المكان المقدس الى مكان للمهاترات والكذب والنفاق والدجل، كما هو حال السياسة، وسيسبح الجميع في بحر النجاسة.
مسؤولية حماية دور العبادة من الاستغلال تقع على الجميع، ويجب ان يتحملها الناس كافة، فالحفاظ على روح المكان المقدس، خير من دعاية انتخابية يمليها علينا (دجال) أو (رجال).
 
صحيفة الايام
28 مايو 2010

اقرأ المزيد

هل ماتت الوقت.. بفعـل فاعـل؟!


في أحدى حلقات المسلسل الكارتوني الشهير   The simpsons  يتعرض مونتغمري ، صاحب “مفاعل سبرينجفيلد النووي ” الجشع، لحادث ويتوارى لأيام فتعلن وسائل الإعلام وفاته بكثير من التهكم والاحتقار. لاحقاً؛ يعود مونتغمري للمدينة ويسوءه الأمر فيقرر – في تصعيد مفاجئ- شراء كل الصحف والمحطات التلفزيونية في المدينة ليضمن ، لا تكبيل إساءاتها له فحسب، بل وتسخيرها لتمجيده وتلميع صورته !!

ركوع وسائل الإعلام لمونتغمري استفز الطفلة الموهوبة ” ليز سمبسون”، فقررت طبع صحيفة مدرسية تنتقد فيها هيمنة مونتغمري وتنشر أخبار المدينة بلا تزلف وتزييف. صيت صحيفتها الغّرة أزعج مونتغمري بالطبع فحاول شراءها فلم تخنع؛ فما كان منه إلا أن جردها من مطبعتها وأشترى مساعديها بالهدايا؛ فبقيت وحيدةً عاجزةً عن المواصلة بعد أن ضيق عليها مونتغمري الخناق بشكل لا يوصف..

الحلقة تجسد الصراع الكلاسيكي للسيطرة على وسائل الإعلام الحرة من قبل ذوي السطوة والمال والنفوذ ؛ وهو مشهد يُرى في دول العالم قاطبة؛ فما بالكم بالدول الأبوية الرعوية التي ألبست حُكمها القبلي لبوساً عصريا وتبنت الديمقراطية بصورة انتقائية دونما استعداد لتحمل مقتضياتها ولدفع أكلافها.. 


*****
لماذا وأدت صحيفة “الوقت” وأهيل عليها التراب وهي في ريعان شبابها – تسألون..

سنروي الآن “جزءاً” من الحكاية تاركين باقي الخبايا لحديث آخر..

مثلت “الوقت” أنموذجاً مزعجاً للصحف استوجبت خطورته محاربته وتصفيته إعلاميا وإعلانيا.. لم تكن خطورتها في كونه الاجرأ ؛ ولا لأنها تمددت وسرقت الأضواء على حساب مطبوعات أخرى تمول – ببذخ- لخدمة أجندات معروفة، بل كمنت خطورتها في كونها تخاطب جميع الطوائف والجماعات والأثينيات وتهز عروش المشروع الكبير لتشطير المجتمع واللعب على تناقضاته وانقساماته واستثمارها في الهيمنة على الناس وإلهاءهم – بصراعاتهم- عن قضاياهم وتحدياتهم المصيرية ..

ببساطة ضاقت العين ” بالوقت”. لذا أغلقت الحكومة وهيئاتها وشركاتها وحلفائها ، وهم أكبر وأهم المعلنين في السوق، حنفية الإعلانات عن الصحيفة.. وحتى عندما كانوا يتفضلون عليها بإعلانات كانوا يدفعون نظيرها قطعاً زهيداً مما يُدفع لقريناتها.. وكانت النتيجة أن الصحيفة، رغم تفوقها البيّن في التوزيع والاشتراكات، غرقت في أزمة مديونية زادتها الضغوط والإشاعات ضراوة..

لماذا لم تنقذ الحكومة والقيادة ” الوقت”؟

كثيرون تعجبوا ذلك سيما وأن الإغلاق تزامن ويوم الصحافة العالمي.. والحقيقة أن “الوقت” كانت بحاجة لأقل من مليون ونصف المليون لتستمر ؛ وهو مبلغ زهيد إن علمتم أن ما أنفقته وزارة الإعلام على حفل العيد الوطني الباهت –فقط- تجاوز الـ5 مليون دينار لحفل استغرق 3 ساعات..!!

جواب السؤال أعلاه ينسحب على تبرير الكثير من المواقف.. فبعض من بالحاشية يروجون لأصحاب القرار بأننا في حالة حرب. .والحرب تقتضي الاصطفاف في معسكرات أحدهما معي والآخر – بالضرورة – ضدي. وقد صور هؤلاء ” الوقت” على أنها خصم يجب أن يُكسر أو يترك ليموت ميتةً طبيعية.. وبالمناسبة جمعيات وأطراف عدة كانت قادرةً على انتشال “الوقت” ولكنها تعاملت معها ” كقط دهسته المركبات في الشارع العام”..! مروا على جثمانها ومطوا الشفاه وتحسروا لثوانً ماضيين في طريقهم !! فالصحيفة –وإن كانت تخدمهم- فهي تخدم أندادهم أيضاً.. بالمفاد وقعت “الوقت” في فخ من رقصت على السلالم؛ فلم يرضى عنها من هم فوق.. ولم يتلقفها من هم تحت أيضا..
 
نسيت بالمناسبة أن أخبركم كيف انتهت تجربة “ليز سيمبسون”..   

حسناً؛ نامت” ليز ” متوسدةً دموعها فانتفض والدها “هومر” لمساعدتها مستنهضاً الحي الذي كان في شوق لصحيفتها فعادت للساحة بقوة ما دفع مونتغمري ، في نهاية المطاف، للاعتراف بأن السيطرة على الإعلام الحر ليست ممكنه؛ فتخلى عن ملكيته للمحطات والصحف وعادت الأمور لنصابها..

هل ابشر بذلك بعودة “الوقت” ؟

 لا للأسف ؛ ولكني أقول أن يوما ما سيأتي وستكتشف فيه السلطة أن السيطرة على الكلمة الحرة واختراق الضمائر لن يجدي في وجود التكنولوجيا وتلون طيف الاتصال.. لقد ذهبت “الوقت” نعم.. ولكن تجربتها ستخلد في تاريخ الصحافة البحرينية وقلوب الشعب وستبقى قبسا للأجيال القادمة.. والبحرين التي أنجبت ” الوقت” لن تعقم عن ولادة سواها حتماً..


حرر في 23-مايو -2010
3 أسابيع بعد اغتيال الوقت

 

اقرأ المزيد

أزمةُ كتلٍ رأسماليةٍ مختلفة

تبدأ جراثيم الأزمة الاقتصادية في ظاهرات معينة خاصة في عجز الميزانية وفي الديون على الناتج المحلي الإجمالي ثم تتسع دوائر المشكلات الاقتصادية والسياسية، وهي تتمظهرُ في كل بلدٍ حسب بنيتهِ الاقتصادية وتاريخه السياسي وجذور مشاكله.
فلا يمكن أن تكون أحجارُ الأزمة التي تسقطُ في الاقتصاد الألماني مثلها مثل الأحجار التي تسقط في اليونان.
وإن ظهور الأزمة أولاً في أمريكا هو بسببِ أن أمريكا غدت رأسَ العالم الاقتصادي، أي انها قيادة أنماطه الرأسمالية المتضادة غير المتعاونة في تخطيط عالمي مشترك.
وقد تنامت مظاهرُ الأزمة الأمريكية في دول أخرى بطبيعة هذين الارتباط والتداخل ، وهي الأزمةُ المتولدة من العجز التجاري ومن الميزانية العامة وارتفاع الديون الحكومية. وكان الحلفاء الأقرب كالمكسيك وأوروبا الغربية المقربون الملامسين الكبار للمريض القائد، فكادت المكسيك أن تُفلسَ وأصبح الاقتصادُ الأوروبي في بؤرةٍ غيرِ مستقرة انعكستْ على العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) التي تراجعت قيمتها أمام الدولار.
وتتفجر الدولُ الضعيفة في الحزام الرأسمالي الأوروبي، وتندلع أحداثٌ عاصفة وصراعات سياسية واقتصادية في بلدان آسيوية كتايلند. إن صداعَ الرئاسة الأمريكي المالي ينقلبُ إلى عواصف وانهيارات أرضية مالية اقتصادية في أمكنةٍ أخرى.
إن الفسادَ السياسي للحكومات والبذخ والعسكرة وغيرها من الظاهرات هي أشكالٌ من هيمنةِ القوى الاقتصادية الكبرى في الغرب، التي ركزتْ في شفطِ فوائضِ الأرباح من العالم الثالث، وفي تسريعِ التطور التقني للمزيد من الأرباح كذلك، وجزءٌ من هذا كله يغدو رفاهيةً غربية كبيرة تتشكل في مقابل انهيارات اقتصادية في الدول المتخلفة.
وقد تمظهر ذلك غربياً في أزمة (مساكن الرفاهية) ولم يجرِ هذا في الغرب فقط بل في الدول والمجموعات التي أنتجت مثل مجموعات البذخ الكبير هذا.
في اليونان الحلقة الضعيفة من السلسلة الرأسمالية الأوروبية كانت تراكمات الديون تعكس فساداً وعدم تغلغل الديمقراطية في نسيج الدوائر الحكومية، ومستوى قوى إنتاج يونانية متخلفة قياساً للمستوى الأوروبي.
عكس العالم خلال العشرين سنة الماضية سيطرة الدوائر المالية والسياسية اليمينية المتطرفة في أمريكا، التي توجهت لسلخ جلد العالم النامي والكادح الغربي معاً، من دون آفاق لتطورات رأسمالية إنتاجية واسعة في العالم. أي أنها ركزت في تداول البضائع الاستهلاكية الثمينة أو السلع المعمرة أو بيع وشراء البيوت، بدرجةٍ أساسية، وأوجدتْ موجات استهلاكية كبيرة لشراء هذه السلع في الكثير من الدول عبر كل أدوات التقنية والمعلوماتية والحداثة.
ومع هذا المسار شجعتْ الحروب أو أنها انساقتْ وراءها، وهي تجارةٌ رابحة هائلة أخرى، لتداول سلع ثمينة غير معمرة، فتفجرتْ حروبٌ كثيرة: العراق، وأفغانستان، والسودان، وسيلان، وحرب الصحراء المغربية، ولبنان، وفلسطين الخ.. وأغلبها في العالم الإسلامي وهو أمرٌ يؤدي إلى حروبٍ من نمط آخر وإلى تبرير الميزانيات العسكرية الهائلة والقوانين المضادة للحريات واستبدال بفزاعة الشيوعية فزاعة الإسلام، كما يُؤجج العداء للعلمانية في بعض دوائر الغرب نفسه.
تعكس عمليتا تداول السلع ان الطبقةَ الحاكمةَ للعالم الآن في الولايات المتحدة تتجسدُ في الشرائح المالية البنكية خاصة، التي تطلقُ عمليات التداول بسرعة شديدة للمزيد من التراكمات الرأسمالية العالية، ولا تستطيع أن تعيدها للعالم الثالث الذي يحتاج العديد من بقعه إلى تأسيسٍ رأسمالي إنتاجي وثورات تعليمية وثقافية وصحية الخ.
فهي على المستوى الاقتصادي تدفع بقوة الاستثمارات الطفيلية وعلى المستوى السياسي تشجع الحكومات على تكوين تطورات رأسمالية مالية – تجارية كبيرة، في ظلِ ديكوراتٍ ديمقراطية، بمعنى انها في عملياتِها المالية السريعة تريد استقراراً سياسياً تتم فيه عمليات سحب الفوائض المالية الكبيرة من هذه الدول، ففي خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات عادَ كل دولار غربي إلى موطنه رابحاً دولارين من العالم الثالث.
هذا الاستغلال الكبير للدول النامية فجر الاضطرابات في العديدِ من البقعِ الهشةِ ديمقراطياً ووطنياً، وهذا يبدو خاصة في مناطق الأرياف والبوادي وفي البلدان الفقيرة، والمعتمدة على سلع زراعية راحت أسعارُها تنهار.
تتنامى العلاقات الغربية – الشرقية في الدول ذات الأسواق الكبرى، أي ذات قوى العمل الواسعة الرخيصة، أو في بلدان الوفرةِ النفطية حيث يتم الاستغلال المزودج: شراءُ نفطٍ رخيص وبيعُ سلعٍ غالية بسهولة.
لكون الولايات المتحدة هي القائد لعالم الرأسماليات الجديدة والقديمة، وبشكلٍ انفرادي وجزئي الآن، يتعرضُ العالم لجملةٍ كبيرة من القلاقل، وهذا يتطلب قيادة اشتراكية – ديمقراطية في أمريكا، لإعادةِ التجديد الموسع الرأسمالي لاقتصاديات العالم، عبر إعادة التركيز في الإنتاج، ودعم اقتصاديات العالم الثالث، ونقل التكنولوجيا إليه.
تغيير العالم يظل عالمياً وديمقراطياً في العقود التالية.

صحيفة اخبار الخليج
27 مايو 2010

اقرأ المزيد