المنشور

حكاية ذبيح الله!

علقت في ذاكرتي صورة انسان طقوسي الملمح، صورة لم تبارحني حتى الآن، إذ بدا لي شخصية نمطية من قصص الخيال، صورته وشكله ومشيه نمطيًا كتلك الشخصيات الحكائية، مع شيء من الرهبة والخوف، فذبيح الله هو الاسم الذي تعامل به الناس الذين عرفوه في الجوار وفي الطرقات التي يمر عليها هذا الانسان الكوني الغريب والخارج من فوهة الارض المغبرة كملابسه المتربة المتسخة التي لم يلامسها الماء ولا لحيته الكثة الطويلة التي اعتدنا على شكلها لدى اولئك الاولياء الجالسين عند القبور، ولكن ذبيح الله برغم غترته المتسخة الرمادية الملتفة حول رأسه وكأنها عمامة شخصية متصوفة، وثوبه القصير ومشيته المتئدة وكأنه يمشي على ارض من الزجاج والقطن، كان يرتدي قبقابًا كتلك القباقيب الخشبية التي يرتديها اهل الشام في حماماتهم، وشاهدناها نحن في طفولتنا في حوش البيوت الشعبية وصبانها. هذا القبقاب هو ما كان يثير صوتًا من بعيد وكلما اقترب منك ارتفع وقعه، ومن ثم ايضا يخفت بالتدريج كايقاع منتظم مع مشيته الاسطورية. ما زاد رهبته في نفسي هو تلك الصورة المتجهمة دون التفاتة منه وكأنه يتحرك تحت عباءة الادعية والطلاسم، إذ بدت شفتاه تتحركان بهدوء يماثل الشمعة عند ملامسة الهواء لها.
كان ذبيح الله يمر من شرق العوضية في اتجاه الشارع والجدار الشمالي المحاذي لمقبرة البحارنة متجهًا نحو الكنيسة والمستشفى الامريكي والعكس احيانا، ثم يختفي مع تلك المسافة. واذا ما مر ذبيح الله من شوارعه فان هناك اهتزازا شعوريا يلامس الاطفال اما تحببًا او خوفًا من تلك الشخصية الغامضة والقصصية.
اما من اين جاء هذا المخلوق الغريب ولماذا تم تسميته بذبيح الله، فان الناس الذين سكنوا وعرفوا المنطقة وتلك المرحلة، فانهم اتفقوا على جهلهم تفاصيل حياته الشخصية، ولكنهم جميعهم يرددون الحكاية نفسها حول طبيعة امسه الغريب، اذا اتفقوا على ان ذبيح الله كان في قبر امه، فحينما توفيت كانت حاملًا به، وعندما دفنت خرج من رحمها من تحت التراب ووجدوه يلعب على القبر ويبكي «وكل ما رددوه هو» عبارة سبحان الله «ولهذا تداولت الناس اسمًا لا يعرفون من هو اول من اطلقه عليه» هذا الذبيح «الذي ولد في لحظة من لحظات الحياة اختفى ايضا دون علمنا، ولكن دون شك لابد وان يعرف احدنا حكايته واين توسد مخدة الموت، وفي لحظة من لحظات الوداع التاريخي لحكاية ذبيح الله، الخارج من تحت التراب والذاهب اليه، فقد عاش – يبدو لي – يتيمًا ومشردًا ووحيدًا، وعندما فطن للدنيا وسأل عن والده ووالدته قيل له انها توفيت منذ طفولتك، وربما صدمة الطفولة الميتمة والفقر والتشرد تسببت له بتلك العزلة والانطواء، فيومها لم يكن لدينا الا مستشفيات تسمياتها مخيفة ولا يحب احد الدخول اليها، فلا احد يود ان يدخل مستشفى للاعصاب والمجانين والاستهزاء «وكل حالة نفسية وعصبية تلصق بها هذه العبارة والصفة، مثلها مثل المستشفى البيطري وطبيبه الذي كان يسمونه طبيب الحمير ومستشفى الحمير، ومع تحسن وعينا وعلمنا صرنا نوظف لغتنا بشكل اكثر دقة وحضارية، اذ صرت اتقبل جلوسي مع « طبيب الحمير!» اليوم ونحن محاطون بامراض الخنازير والبقر!
لكم كنت يا ذبيح الله طفلنا الكبير الذي نستمتع بمشهدك كصغار ونستعذب صورتك المهيبة، فقامتك الطويلة التي زادها القبقاب طولا امتدت الى السماء معك، حتى رحلت تاركا لذاكرتي شكلك الخرافي بلحيتك التي ذكرني بها المفكرون والكتاب العظام، فأنا اول ما شاهدته في الدنيا بلحية مثيرة هي صورتك، وهي الاولى ولكنها صارت ليست الاخيرة، رغم مفردتها الفلسفية باسطوريتها لذلك الطفل الذي حفر قبر امه وخرج الى العالم، حتى عثر عليه الناس وهو يبكي جاهلًا هويته الانسانية في الحياة. بدأت لي قصة رمزية عظيمة لاستلاب هوية الانسان في الارض وتحت الارض وفوقها دون بداية او نهاية. كائنا من تكون، وكائنا من تبقى او ترحل، فعظمتك هي الباقية كانسان يا «ذبيح الله» الفقير والمعدم والمجهول بذلك الاسم الغريب!
 
صحيفة الايام
2 مايو 2010

اقرأ المزيد

جليل الحوري سيأتي اليوم


يشارك عمالنا اليوم عمال العمال الاحتفال بعيدهم السنوي المجيد في الأول من مايو.
منذ التحولات الإصلاحية في البلاد أصبح هذا اليوم عطلة رسمية، وهو مطلب قديم قدمت الطبقة العاملة البحرينية تضحيات جليلة في سبيل أن يكون واقعاً.
منذ الخمسينات والنواة العمالية المناضلة تحتفل بهذا اليوم سراً، في سنوات لاحقة اتسعت دائرة الاحتفالات وتحولت إلى مسيرات واعتصامات في الأول من مايو تطالب بإقراره عطلة رسمية.

كتلة الشعب البرلمانية في المجلس الوطني عام 1974 تقدمت باقتراح بإعلان الأول من مايو عطلة رسمية، ولم تكن الحكومة وحدها من وقف ضد الاقتراح، بل شاطرتها كتل برلمانية أخرى مصابة بالفوبيا من كل ما يمت للفكر التقدمي والإنساني بصلة، لكن عمال البحرين وقادتهم الشجعان أقاموا في تلك السنة احتفالاً مهيباً في نادي البحرين بالمحرق. ورغم التضييق على الحريات في السنوات اللاحقة ظلّ عمالنا يحييون المناسبة بصورٍ وأشكال مختلفة، بينها إصدار المنشورات وتبادل التهاني وتوزيع الحلويات.

ليس غير ذي مغزى أن عمال البحرين ومناضليها سيتذكرون اليوم وبكل إجلال واحداً من رواد النضال في سبيل النقابات وفي سبيل إحياء الأول من مايو، النقابي العنيد والشجاع جليل عمران الحوري الذي رحل وهو في قلب اعتصام الاحتجاج على تسريح المصرفيين منذ أسبوع واحد فقط. لم تمهله الأقدار لكي يشارك رفاقه مسيرة اليوم بجسده، لكنه بروحه المحلقة حواليهم سيكون حاضراً بقوة تضاهي حضوره كل سنة.

في العام الماضي، وفي الأعوام التي تلته، كان جليل عمران مع رفاقه من النقابيين المخضرمين في مقدمة صفوف المسيرة العمالية التي تجوب شوارع البحرين. كان مقدار سعادته الطفولية كبيراً لأن شيئاً مما ناضل في سبيله قد تحقق، لكن النضال ذاته لم يتوقف في سبيل صون الذي تحقق وفي سبيل المزيد من الحقوق.
في العام الماضي، وبهذه المناسبة كتبت عن خاطر خطر في ذهني بالمناسبة، وأنا أرى جليل عمران وعباس عواجي وجعفر الوداعي وأحمد سند البنكي وغيرهم الكثيرون من رفاقنا العمال يسيرون مبتهجين في مقدمة المسيرة العمالية بهذا اليوم.

لقد أفنى هؤلاء زهرات شبابهم في السجون وفي الملاحقة لأنهم كانوا يحلمون ويعملون في أن تنشأ في البلاد نقابات عمالية تدافع عن حقوق الشغيلة، وأن يكون الأول من مايو عطلة رسمية، تكريماً لأصحاب السواعد السمراء التي أخذت من شمس البحرين لونها. بوسع كل منا أن يتخيل مقدار البهجة في نفوس هؤلاء وسواهم من ذلك الرعيل، فبعض ما حلموا به قد تحقق، فها هي النقابات العمالية قد تشكلت، والأول من مايو أصبح عطلة رسمية، بعد أن كان التفوه بفكرة الاحتفال يقود إلى السجن.
 

اقرأ المزيد

الطبقة العاملة.. همومها وعيدها

تحتفل الطبقة العاملة في بلدان العالم كافة اليوم بعيد العمال العالمي ومن ضمنها طبقتنا العاملة البحرينية التي ظلت تحتفل بهذه المناسبة سرا عقودا طويلة، ولم يتسن لها الاحتفال بها علنا إلا غداة انطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك في أوائل العقد الحالي الموشك على الأفول، وذلك بعد أن تم إقرار المناسبة رسميا وتقرر جعل الأول من مايو من كل عام مناسبة رسمية للاحتفال بعيد العمال العالمي تعطل خلالها مختلف المؤسسات في القطاعين العام والخاص ليتحقق بذلك مكسب مهم لطالما ظل حلما يراود الطبقة العاملة وحركتها النقابية التي قدمت الغالي والنفيس من التضحيات الجسام من أجل أن تراه محققا على أرض الواقع.
ومع ان الحركة العمالية والنقابية لم تعد اليوم تتمتع بقوتها وتأثيرها أنفسهما اللذين كانت عليهما طوال عقود ما قبل تحقيق هذه المكتسبات التي نالتها في بدايات المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، إلا أن تمتعها بهذه الحقوق بعد إقرارها، ومنها حق التنظيم النقابي العلني المشروع وحق الاحتفال بعيد العمال العالمي بشكل علني ومرخص.. كل ذلك ساهم موضوعيا في تعويض الحركة العمالية والنقابية عن جزء مما افتقدته من قوتها ونفوذها اللذين تميزت بهما خلال تلك العقود الخوالي من عصرها الذهبي وبخاصة في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث لم تكن الطبقة العاملة الوطنية حينئذ أقلية كما هي اليوم في ظل التدفق المتواصل للعمالة الأجنبية الرخيصة.
وبالرغم من أن الطبقة العاملة البحرينية مازالت بحاجة ملحة إلى تعزيز لحمة وحدتها النقابية، سواء على مستوى نقابات المنشأة الواحدة كالشركات الكبرى أم على مستوى اتحادها التنظيمي المركزي “الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين”، فإنها حققت العديد من المكتسبات والإنجازات المهمة طوال السنوات السبع أو الثماني الماضية التي ما كانت لتحققها لولا حصولها على حقوقها النقابية المشروعة، بما فيها حق التنظيم وحق الإضراب وحق التظاهر والاعتصام وحق التعبير عن نفسها في إعلام خاص بها.
وبالتالي فلنا أن نتخيل كم هي قوة ونفوذ الحركة العمالية والنقابية اليوم لو نالت كل تلك المكتسبات المتقدم ذكرها وهي لم تزل محتفظة بقوة عودها وشكيمتها أنفسهما! وإذا كانت الحريات والحقوق النقابية التي تمكنت الحركة النقابية من الحصول عليها غداة إعلان جلالة الملك مشروعه الإصلاحي قد ساهمت في تعويض الحركة العمالية جزءا مما افتقدته من قوة ونفوذ في عصرها الذهبي فلنا أن نتخيل كم سيكون هذا التعويض أعظم لو أنها متماسكة وموحدة بما فيه الكفاية سواء على المستوى النقابي للمنشأة أم على المستوى النقابي الاتحادي العام!
بل لنتخيل مدى قوتها لو لم يتسرب إلى اجسام بعض منظماتها النقابية واتحادها العام فيروسات من أشكال الفساد والشللية الحزبية السياسية المقيتة والمحسوبية، ناهيك عن الشلليات ذات المظهر الطائفي المؤسف.. وكلها مظاهر تحد من فرص تعظيم الاستثمار والاستفادة مما تحقق من مكتسبات خلال العقد الحالي على الأرض.
***
} تكريم وزارة العمل لعمالها
من المنتظر أن يقام اليوم جريا على عادة كل عام بمناسبة عيد العمال العالمي في أول مايو احتفال كبير برعاية جلالة الملك ينوب عنه في رعايته وزير العمل مجيد بن محسن العلوي وستلقى خلاله كلمات من قبل ممثلي أطراف الإنتاج الثلاثة الحكومة ممثلة بوزير العمل ورئيس غرفة تجارة وصناعة البحرين ممثلة في عصام فخرو والسيد سلمان جعفر المحفوظ الأمين العام للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، وإلى جانب ما سيلقى في الحفل من كلمات من المؤمل أن تكون قيمة وتلامس هموم العمال وترسم طريق الآفاق الواعدة لتحسين أوضاعهم فإن أهم فقرات الحفل ستكون بلا شك تكريم مجموعة جديدة من العمال المجدين المخلصين في عملهم ومن أجل قضاياهم النقابية والوطنية.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن ذلك الاحتفال العام الكبير بيوم العمال الذي يجرى خلاله تكريم مجموعة كبيرة من العمال المجدين لا يعني عدم الحاجة إلى إقامة احتفالات داخلية بالمناسبة نفسها في مختلف مؤسسات القطاعين العام والخاص لتكريم عمالها. وللأسف مازالت أغلب الوزارات والمؤسسات والهيئات في القطاعين العام والخاص، وبضمنها مؤسساتنا الإعلامية والصحفية التي يغطي مندوبوها وقائع احتفالات وفعاليات هذا اليوم ، لا تقيم احتفالات داخلية.
ولعل البادرة التي أرستها وزارة العمل هذا العام بإقامة احتفال داخلي كبير لتكريم مجموعة من عمالها وموظفيها العاملين في الوزارة بهدايا رمزية الذي جرى برعاية وزيرها مجيد العلوي تستحق الإشادة والتقدير نأمل أن تقتدي بها في السنوات القادمة سائر الوزارات والمؤسسات العامة والخاصة، فقد كان مشهدا جميلا تكريم أولئك البسطاء من العمال والعاملات المجدين الذين كانوا بمثابة جنود مجهولين ومما ساهم في نجاح الاحتفال وإضفاء البهجة والسرور على المحتفلين به من مكرمين ومدعوين حسن التنظيم والإعداد الجيد المسبق الذي تولته إدارة العلاقات العامة والدولية بقيادة مديرتها السيدة فوزية شهاب.
ولا يسعنا ختاما سوى أن نوجه أحر تهانينا وأطيب الأمنيات لطبقتنا العاملة البحرينية وكل عمال العالم بهذه المناسبة الميمونة.. وكل عام وأنتم بخير.

صحيفة اخبار الخليج
1 مايو 2010

اقرأ المزيد

حقيقة الثورة في‮ ‬تايلند وقرغيزستان

كانت العقود الثلاثة الأولى التي‮ ‬أعقبت الحرب العالمية الثانية فترة عاصفة بالثورات المسلحة التي‮ ‬كان جلها مكرس لإنجاز مرحلة التحرر الوطني‮ ‬من الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني‮.‬ ومع أن كثيراً‮ ‬من هذه الثورات المسلحة لم‮ ‬يكن ثورات شعبية بالمعنى الدقيق لمفهوم وتعريف الثورة،‮ ‬إلا أن استدراج أعداد‮ ‬غفيرة من السكان وانخراطهم،‮ ‬بعضهم بصورة مباشرة ومعظمهم بصورة‮ ‬غير مباشرة،‮ ‬في‮ ‬حركات التحرير الوطني،‮ ‬وبمستوى مشاركة أقل انخفاضاً‮ ‬في‮ ‬العمل المسلح المكرس لإطاحة أنظمة‮ ‬غير وطنية‮ ‬‭-‬‮ ‬نقول مع ذلك فقد ذهب تقليداً‮ ‬أن‮ ‬يطلق على هذه الحركات في‮ ‬غالبية الوسائط الإعلامية والأدب السياسي‮ ‬في‮ ‘‬العالم الثالث‮’ ‬بالثورات،‮ ‬رغم أن الدارج في‮ ‬أجهزة الميديا الغربية هو إطلاق مسمى التمرد المسلح على هذه الحركات‮.‬ إنما الذي‮ ‬نقصده هاهنا هو الثورات والهبات الشعبية التي‮ ‬تندلع فجأة،‮ ‬ليس من‮ ‬غير مقدمات طبعاً،‮ ‬وتهب للانخراط فيها جموع الشعب الغاضبة سواء من حكم استعماري‮ ‬بغيض كما هو حال ثورة‮ ‬1919‮ ‬في‮ ‬مصر بقيادة الزعيم الوطني‮ ‬سعد زغلول ضد الاحتلال البريطاني‮ ‬لمصر والطبقة الفاسدة في‮ ‬الحكم،‮ ‬والثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي،‮ ‬أو ضد نظام استغلال اجتماعي‮ ‬أو استبداد سياسي،‮ ‬كما هو على سبيل المثال حال الثورة الطلابية في‮ ‬فرنسا وبعض الدول الأوروبية في‮ ‬ستينات القرن الماضي‮ ‬ضد نظام الاستغلال الرأسمالي‮ ‬وهكذا‮…‬ هذا النوع من الثورات والهبات الشعبية العارمة كاد أن‮ ‬يطويه النسيان بسبب شحتها،‮ ‬لولا أن ظهرت على سطح الأحداث فجأة ما سميت بالثورات البرتقالية في‮ ‬بعض الدول التي‮ ‬كانت تنتظم الاتحاد السوفييتي‮ ‬السابق،‮ ‬وتحديداً‮ ‬أوكرانيا وجورجيا‮.‬ وحتى هاتان الثورتان البرتقاليتان‮ (‬نسبة إلى اللون البرتقالي‮ ‬الذي‮ ‬توشح به المشاركون فيها‮)‬،‮ ‬اتضح فيما بعد أنها لم تكن وليدة ظروفها المحلية الصرفة وإنما تدخلت في‮ ‘‬تصنيعها‮’ ‬عوامل خارجية نفخت في‮ ‬كيرها‮.‬ ولذلك فإنه عندما تندلع ثورتان شعبيتان،‮ ‬هما الثورة القرغيزية والثورة التايلندية،‮ ‬في‮ ‬منطقتين جغرافيتين متباعدتين،‮ ‬وإن كانتا في‮ ‬قارة واحدة هي‮ ‬القارة الآسيوية،‮ ‬وفي‮ ‬وقت متزامن،‮ ‬وذلك حين اعتقد العالم أن عصر الثورات قد انتهى وولى إلى‮ ‬غير رجعة‮ ‬‭-‬‮ ‬فإن ذلك‮ ‬يُعد أمراً‮ ‬لافتاً‮ ‬وغير مألوف نظراً‮ ‬لكونه‮ ‬غير متوقع في‮ ‬ظل اكتمال حلقات الكوكبة بالتحاق أبعادها ومكوناتها الاجتماعية والثقافية التي‮ ‬أنشأت عادات وثقافات ذات طبيعية كونية‮ ‘‬بفضل‮’ ‬ثورتي‮ ‬الاتصالات والمعلوماتية الهائلتين،‮ ‬وكذلك اتساع نطاق الأطر المؤسسية ذات الطابع الكوني‮ ‬التي‮ ‬وجدت طريقها،‮ ‬بشكل أو بآخر،‮ ‬إلى البلدان الأعضاء في‮ ‬المنظومة العالمية،‮ ‬سواء في‮ ‬صورة مؤسسات تفريعية أفقية‮ (‬تفرعاً‮ ‬عن إطار مؤسسي‮ ‬كوني‮) ‬أو في‮ ‬صورة تشريعات وطنية‮ (‬اشتقاق من تشريع عالمي‮ ‬جامع‮).‬ ولسوف‮ ‬يزول هذا الاستغراب حال القيام بفحص كل حالة من حالتي‮ ‘‬الثورة‮’ ‬اللتين نحن بصددهما‮ (‬القرغيزية والتايلندية‮) ‬وتفكيك ثم إعادة تركيب عناصر مكوناتهما‮.‬ في‮ ‬المُعطى الأول للحالة الأولى‮ (‬القرغيزية‮) ‬نجد أننا أمام دولة شبه‮ ‘‬معدمة‮’ ‬اقتصادياً،‮ ‬ودولة جديدة نسبياً‮ ‬إذ لا‮ ‬يتجاوز عمرها الحديث وبالتالي‮ ‬تجربتها الاستقلالية‮ (‬الفتية نعم‮) ‬في‮ ‬الحكم عشرين سنة‮ (‬منذ عام‮ ‬1991‮ ‬حيث أصبحت جمهورية مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي‮ ‬الذي‮ ‬كانت إحدى جمهورياته الخمس عشرة‮). ‬ فهذه الدولة بمساحتها البالغة‮ ‬9‭,‬199‮ ‬ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها البالغ‮ ‬5‭,‬5‮ ‬مليون نسمة،‮ ‬هي‮ ‬دولة زراعية ورعوية بامتياز،‮ ‬إذ تُقدر ثروتها الحيوانية بحوالي‮ ‬عشرة ملايين من الأغنام والماشية،‮ ‬ومن محاصيلها الزراعية القمح والذرة والأرز والقطن الذي‮ ‬تنتج منه نصف مليون طن سنوياً‮. ‬ولا‮ ‬يتجاوز فيها دخل الفرد بحساب الناتج المحلي‮ ‬الاسمي‮ ‬‭(‬Nominal GDP‭)‬،‮ ‬950‮ ‬دولاراً‮ ‬سنوياً‮.‬ ومع ذلك وقبالة هذه الحصيلة المتواضعة لثروات البلاد الطبيعية وطاقاتها الإنتاجية،‮ ‬فإن فساد وتسلط رئيس البلاد المخلوع كرمان بك باكاييف،‮ ‬كان كافياً‮ ‬لبعثرة وضياع وسلب القسم الأعظم مما تنتجه البلاد وسكانها سنوياً‮ ‬من ناتج محلي‮ ‬إجمالي‮ (‬حصيلة إنتاجها السنوي‮ ‬من السلع والخدمات‮)‬،‮ ‬حتى قيل إن نجل الرئيس وحده قد اقتطع لنفسه‮ ‘‬شريحة‮’ ‬من هذا‮ ‘‬المحصول‮’ ‬تزيد على‮ ‬300‮ ‬مليون دولار‮!‬ فلا‮ ‬غرو أن تفيد الأنباء التي‮ ‬تواترت مع بدء اندلاع الانتفاضة ضد الرئيس وأتباعه‮ ‬يوم السابع من أبريل الجاري،‮ ‬أن نجل الرئيس هو من أمر بإطلاق الرصاص الحي‮ ‬على المتظاهرين‮.‬ أما في‮ ‬الحالة الثانية‮ (‬التايلندية‮) ‬فإن التحرك الشعبي‮ ‬الذي‮ ‬انطلق من الأقاليم باتجاه العاصمة بانكوك للإطاحة بالحكومة،‮ ‬فهو لا‮ ‬يمكن وضعه في‮ ‬عداد الهبات أو الثورات الشعبية‮.‬ في‮ ‬واقع الأمر أنه أقرب إلى التحركات الانقلابية المعدة سلفاً،‮ ‬مع سبق الإصرار والترصد لإحداث تغيير في‮ ‬السلطة تحقيقاً‮ ‬لأجندة سياسية خاصة‮. ‬فمن الواضح أن رئيس الوزراء التايلندي‮ ‬السابق تاكسين شيناواترا المقيم في‮ ‬الخارج بعد إطاحته في‮ ‘‬تحرك شعبي‮’ ‬مشابه في‮ ‬عام‮ ‬2006‮ ‬تُوِّج بانقلاب عسكري‮ ‬دبرته قيادة الجيش بما‮ ‬يتوافق مع أهداف حركة الاحتجاج في‮ ‬الشارع وشنت بعده حملة سياسية وملاحقات قضائية ضد رئيس الحكومة المخلوع شيناواترا بتهم المحاباة والفساد وعدم احترام المَلَكية‮ ‬‭-‬‮ ‬من الواضح أن شيناواترا الملياردير المقيم في‮ ‬المنفى هو الذي‮ ‬يقف وراء تحريك الشارع وتمويل حملة عصيانه المدني‮ ‬بهدف إجبار الجيش على إقناع الحكومة بحل البرلمان والدعوة لانتخابات‮ ‬يستعيد بموجبها شيناواترا السلطة من جديد‮.‬ هي‮ ‬إذاً‮ ‬ثورة مصطنعة،‮ ‬إن شئتم،‮ ‬غايتها التمرد على السلطة والنظام العام ليس احتجاجاً‮ ‬على أوضاع معيشية أو سياسية مزرية،‮ ‬وإنما لإعادة أحد مراكز القوى التي‮ ‬تتنازع السلطة في‮ ‬تايلند منذ بضع سنوات إلى السلطة قسراً‮ ‬وعنوةً‮.‬ الآن،‮ ‬هل هذا‮ ‬يعني‮ ‬أن الثورات قد نضب معينها،‮ ‬وأنه لم‮ ‬يعد بالإمكان حدوثها؟ ليس هذا ما قصدناه تماماً،‮ ‬إنما القصد أن حدوث الثورات لم‮ ‬يعد متاحاً‮ ‬كما كان الحال في‮ ‬السابق،‮ ‬قلنا إن ذلك مرده عوامل خارجية ألقت بظلالها على مصادر التطور والتقدم القطرية‮ (‬المحلية‮) ‬وعلى مساراتها الفرعية،‮ ‬السياسية والاجتماعية والثقافية،‮ ‬حتى لم‮ ‬يعد بإمكان الدول المستبدة،‮ ‬مهما بلغت درجة استبدادها،‮ ‬ألا تتعاطى مع هذه الموجة من العولمة‮ (‬السياسية والثقافية والاجتماعية‮) ‬في‮ ‬شكل قبول الانضمام إلى كافة المواثيق والمعاهدات والاتفاقات الدولية المنظمة لعلاقات الدول كأجهزة مع مجتمعاتها وأفرادهم وحماية وحفظ حقوقهم الأساسية،‮ ‬وفي‮ ‬صورة التواجد في‮ ‬سوق الاتصالات والمعلوماتية الدولي‮ ‬بجعل شبكة الإنترنت متاحة للجميع من دون استثناء‮.. ‬حتى ولو حدث ذلك اضطراراً‮ ‬وتمويهاً‮ ‬وتحايلاً‮ ‬لإثبات المجاراة والمواكبة مع النسق العالمي‮ ‬العام‮.‬ ولاشك أيضاً‮ ‬أن هنالك دوراً‮ ‬لا‮ ‬يُغفل للأجهزة الأمنية التي‮ ‬طورت أساليبها لتقوية شوكتها وسيطرتها التامة والمحكمة على المجتمعات فرفعت كلفة معارضة أنظمتها أو حتى انتقاد أخطائها أو لومها على حدوث اختلالات هنا أو هناك،‮ ‬إلى حدودها القصوى‮.‬ إنما القانون هو القانون،‮ ‬فمثلما‮ ‬يؤدي‮ ‬استهتار رأس المال بالعلاقة المتوازنة‮ (‬افتراضاً‮) ‬بين قيمة السلعة‮ (‬أي‮ ‬كلفة المواد المدخلة في‮ ‬تصنيعها والعمل المبذول في‮ ‬عملية تصنيعها‮) ‬وبين سعرها في‮ ‬السوق،‮ ‬إلى حدوث ما تسمى الفقاعة‮ ‬‭(‬Bubble‭)‬‮ ‬التي‮ ‬ما إن‮ ‬يصل انتفاخها إلى حدوده القصوى حتى تتفرقع في‮ ‬وجه الجميع،‮ ‬كذلك الحال بالنسبة للمقاربة المجتمعية،‮ ‬حيث إنه مع تراكم السخط الشعبي‮ ‬‭(‬Discontent‭)‬‮ ‬ووصوله إلى حدوده القصوى،‮ ‬فهو إما أن‮ ‬يتم تنفيسه حكومياً‮ ‬أو‮ ‬ينفجر في‮ ‬صورة ثورة عارمة‮ ‬غير مُتَكهَّن بتداعياتها ومآلاتها‮.‬
 
صحيفة الوطن
1 مايو 2010

اقرأ المزيد

جليل الحوري

يوم الاحد الماضي شيع جثمان المناضل النقابي جليل الحوري احد المشاعل المضيئة في الحركة العمالية والنقابية البحرينية.. وعندما نفذت اللجنة التأسيسة لاتحاد عمال البحرين تحركها العمالي عام 1972 دفاعاً عن تحسين الاوضاع المعيشية وظروف العمل والاجور وبحرنة الوظائف وحرية العمل النقابي. كان الحوري نموذجاً رائعاً وهو يناضل مع رفاق دربه من المناضلين من امثال عباس عواجي وعبدالله مطيوع وغيرهما من الذين نذروا انفسهم للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة ليس في البحرين فحسب بل في كل اوطان العالم.. جليل العضو الفاعل في المنبر.. الديمقراطي التقدمي لم يكف عن النضال الوطني والطبقي لحظة واحدة بل كان ولآخر نبض في حياته أحد اولئك الذين نالوا وسام شرف التضحية، نعم «بو منير» الذي نهشت من جسده اصابات العمل والامراض والبطالة فارق الحياة وهو يهتف باعلى صوته في اعتصام نقابة المصرفيين الاخير لم يتنازل او يفرط في حقوق الطبقة العاملة، فكيف يتنازل عن مطالب العمال وهو الذي وهب نفسه اكثر من اربعين عاماً مرافعاً شرساً عن قضايا العمال والفقراء والوطن.
نعم فارق الحياة ورغم جراحه الغائرة لم يوقع في حياته صك استسلام بل كان منذ عرف المعتقلات والسجون عزيزاً شامخاً لان قضيته لم تكن سوى قضية شعب ووطن وما اجمل وروع ان يدافع الانسان عن قضية الشعوب والوطن.. منذ اكثر من اربعة عقود كان يردد اناشيد العمال وباسم العمال ومستخدمي هذه الارض رفع الراية الحمراء وحتى تظل هذه الراية خفاقة عالية ها هو يدفع دمه الحار وتلمع الحياة في عينيه ويصرخ نعم للعمال والوطن والتقدم ولكن في احضان العمال والوطن لفظ انفاسه الزكية التي ستبقى خالدة في ضمائر كل الشرفاء على هذه الارض.
فاذا كنا نتذكر الحوري وغيره من المناضلين الذين غادروا الحياة بكثير من الحزن والالم فاننا نتذكر كل التضحيات التي قدموها. بنكران ذات خلال المعارك الوطنية والطبقية في سبيل التحرر والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.. نتذكر المسؤولية الوطنية التي حملوها في اقسى الظروف ببسالة ووفاء وايمان وثقة واصرار لم تشوهه على الاطلاق لا اغراءات الحياة ولا مصالح الذات الضيقة.
وبالتالي كان الحوري واولئك المناضلون من الامثلة الوطنية البارزة التي تنبض دائماً باحساس عميق تجاه العمال وكافة فئات الشعب العامل الاخرى وتجاه الوطن الذي كان في مقدمة الولاءات. وباختصار كانت طموحات الحوري هي طموحات شعب ووطن وحقوق عمالية، هذه هي الرسالة التي حملها وهو في عنفوان شبابه ونشاطه.. هذه هي آماله الوطنية العريضة التي لم يتنازل عنها قط حتى وفاته، مات الحوري ولكن سيظل اسمه مضيئاً في الوجدان والذاكرة.. عزاؤنا لاسرته ورفاق دربه واصدقائه ولكل الذين ابحروا في السفينة الوطنية من اجل الشعب والوطن.
 
صحيفة الايام
1 مايو 2010

اقرأ المزيد

آيـــــار..الـحـــوري…! (إلى طـبـقـتـنــا الـعـامـلـة )

 

يطل علينا
الأول من مايو في البحرين بصفحاته المشرقة والخالدة، صفحات الكادحين الشرفاء الذين سطروا بعرقهم وتعبهم وجهدهم أنبل التضحيات من أجل غد أفضل من دون استغلال، وسجلوا فيه عيدا للطبقة العاملة البحرينية، ما كان ليتحقق لولا تضحياتهم الجسام.
بهذه المناسبة يوجه شاعرنا عبدالصمد الليث تحية مليئة بالفخر والإخلاص لكل عمال العالم ولعمالنا في البحرين الذين يستحقون كل التقدير والمؤازرة. 
  
 



آيـــــار..الـحـــوري…!
(إلى طـبـقـتـنــا الـعـامـلـة



)

 



عـــاد آيــار ظـهـيــراً…
فـي مـشـقـّّات الـشـغـيــلـة ْ
عـــاد آيــار مـنـيــراً…
لـلـمـسـارات الـنـبـيــلـة ْ
وهــو يــدري…
إن رأس الـمــال أمـسـى…
فـي دجـى الـعــالـم وحـشا يـتـنــامى
عــولــم الـنـهـب…
تـجـنــّى فـجـنــى…
فــائـض الـقـيـمـة والـفـقــر تـرامـى
يـسـلـب الأحــلام مـن أحضــانــهـا…
قــولــب الـنـَصْـبَ…
لـيـجـتـثّ الـمُـنــى…
يـشـبـع الـنـاس عــذابـاً مـسـتــداما
وعـلـى الـضــدِّ تـنــادى كــادحٌ…
 يـحـمـل الــرايــة آيـــار الـسـنــا
وصـدورُ الـوعـي تـنـحو فـجــرها…
تـرفـد الـركـب َصـدوقــاً وهـمــامـا
وأوال الـشـعـب فـي صـيــرورة ٍ…
تـجـعـل الـسـاعـد مـكـدوداً مـُضـامـا…
يـصـطـلـي نــار نـهــارات الأســى…
ثـم تـغـشــاه عــذابـاتُ الـمَـســا
وجــدارُ الـربــح قــد صـار ظــلامــا
وعـلـى كـلّ مــدارات الــرؤى…
يــوم ( مـكـرومـيــك – شـيـكــاغــو ) تـسـامـى…
فـبـه يـسـتـنـهـض الـكــفَّ دمٌ…
ســال يــروي جـشــعَ الـقـيـــد…
ويـُعـلـي أنـفـُســـا…
هــتــفـــت :
              حــيَّ عــلــى الــمـــوت
فــيـُهــديــهــا ســلامــــا
وبــه يـسـتـنـطــقُ الـفـخــرََ فـــمٌ…
عـن رعـيــل ٍمـثــّّل الـصـدق َالـتــزامــــا
وعــن الـبـحـريــن..عــن سـاحـاتـهــا…
وعــن الأسـمــاء ِ..عــن أفــعــالـهــــا…
( حــورة ُالـحــدّادة)الـشـمّــاء قــد جــّلـت مـَقــامـــا
لـلـعـُلى…
تـسـتـنـبـت الأحــرار بـالـوعـي كــرامـــــا
عــن ( جـلـيـــل ٍ)يُـسـبـق الـفـعـل كــلامــا
شـامـخ ٌكـالـنـخـل ِفـي أرجــوزة ٍ…
تـُنـشــد الــوحــدة َبـــدءاً وخــتــامــا
وغــداً تــتــلــو أنــاشــيـــد ُالــنـــدى…
ويـقـيــم الـفـجــرُ لـلــعــدل نــظــامــا 
   

 عـبـد الـصـمـد الـلـيـث 

1   أيار 2010  

اقرأ المزيد