المنشور

التغييرات التي طال انتظارها

لسنا هنا لمناقشة الدور الذي لعبته أو مارسته الدولة ومدى حجمه أو تأثيره سواء في انتخابات عام 2002 النيابية أم في انتخابات 2006 ومدى رضاها عن تركيبة وأداء النواب في كلا الفصلين النيابيين لكن من الثابت والمؤكد أن الحكومة لم تكن راضية كل الرضا عن أداء مجلس النواب الثاني وعلى الأخص بسبب ما جرى ودار خلال عامه الأخير (2009 ــ 2010) والأسباب هنا يطول تعدادها وشرحها في هذه العجالة لكن وصول المجلس إلى درجة مرَضية من المماحكات والاصطفافات الطائفية بات يحرج الحكومة في الداخل كما في الخارج ويقوّض سمعة المملكة وشعب البحرين دوليا حتى على الرغم من أن النواب هم الذين يتحملون المسئولية الأولى عن رسم هذه الصورة المشوهة لسمعة البحرين السياسية والوطنية.
أما حينما بدت الكتل النيابية تتوحد فقد جاء توحدها حول قضيتين مزعجتين للسلطة التنفيذية: الأولى: حول القرار المتعجل المعروف بتأثيره في الاستثمارات السياحية، وقد توحدت الحكومة والقوى الليبرالية خارج المجلس في التعبير عن امتعاضهما الشديد من القرار، وشعرت الحكومة عندها بالأثر السلبي للتغييب المطلق الكامل للتيار الليبرالي المعتدل في تركيبة المجلس وأدركت خطأها بعدم مبالاتها لاستخدام نفوذها الخلفي لدعم هذا التيار أو الوقوف على الأقل على الحياد في المعركة الانتخابية التي خاضها، وان انفراد قوى الإسلام السياسي بشقيه بتركيبة المجلس لابد أن يؤثر في منعطف من المنعطفات في مصالح الحكومة ورجال الأعمال على حد سواء وهذا ما حصل.
أما القضية الثانية فتتصل بما بات يعرف بملف العقارات وأراضي الدولـة غير المسـجلة، أو الـتي مسـجلة باسـمها وآلـت إلى مسـتثمرين ومـلاك في القطـاع الخـاص وبخـاصة الأراضي المدفونة، وباختصار شديد آلت إلى أملاك خاصة وهو ملف بدا شائكا وحساسا وشديد الازعاج ليس للسلطة التنفيذية فحسب بل لشريحة كبيرة من رجال الأعمال والمتنفذين على حد سواء.
وتأسيساً على هذه المعطيات بات في حكم المؤكد ألا تقبل السلطة التنفيذية أن تُلدغ من جحرها أكثر من مرتين ويتوهم من يظن انها ستترك الحبل على الغارب وتتفرج على الانتخابات القادمة من دون أن تمارس ما هو متاح لها من وسائل وأدوات نفوذ – المشروعة منها على الأقل – في اللعبة الانتخابية لتتمخض نتائجها عن تركيبة تحظى بقدر من توازنات القوى المجتمعية الحية الفاعلة بصرف النظر عن نصيب كل تيار في التركيبة.
ومن ثم فإن وجود تمثيل للتيار الليبرالي العريض بمختلف ألوان طيفه، وعلى الأخص الممثل لفئات رجال الأعمال أو بعضها على الأقل، بات قضية آنية تؤرق الحكومة ورجال الأعمال مثلما تؤرق التيار الليبرالي على حد سواء أيا تكن نسبة هذا التمثيل أو حظوظه من اجمالي كراسي مجلس النواب القادم.
وإذا كانت السلطة التنفيذية تملك – كما ذكرنا آنفاً – وسائل وأدوات نفوذها في المجتمع لدعم الوجوه الليبرالية ــ أو بعضها ــ المترشحة إلى الانتخابات النيابية القادمة ولن تألو جهداً لممارسة هذا الدور المنتظر، فمن باب أولى أن تكون عينها حاضرة على إحداث تغيير ملموس منتظر من جانبها ليكون فاعلا وكفوءا وندا في مواجهة الغرفة المنتخبة وبخاصة عند التعاطي مع القضايا المهمة الطارئة.
وهذا التغيير المتوقع أن تقدم عليه القيادة السياسية يفرض نفسه وتفرض الحاجة إليه بعد مرور عشر سنوات على ما يشبه الجمود والركود في العملية السياسية عبر تشكيلتين في غاية الأهمية لدفع العملية الإصلاحية قدماً: الأولى: تتمثل في إحداث تغيير في تشكيلة مجلس الشورى القادم، والثانية: تتمثل في إحداث تغيير ملموس في التشكيلة الوزارية المنتظر إعلانها عشية انعقاد الدورة البرلمانية المقبلة.
وفي كل الأحوال فإن الأمر مرهون بما سيجري في الخريف القادم موسم التغييرات السياسية التي طال انتظارها منذ انطلاقة المشروع الإصلاحي قبل عشر سنوات.

صحيفة اخبار الخليج
28 يونيو 2010

اقرأ المزيد

شبكة القنوات الفضائية

ما الذي دفع شباب منطقة النعيم الى ان يصدروا حكمهم وقرارهم الأحادي بقطع جميع اسلاك شبكة القنوات الفضائية المخالفة التي انتشرت بين ليلة وضحاها في جميع شوارع المنطقة، ومنها الشوارع الرئيسية؟
هل كانت هي الخطوة الاولى لهؤلاء الشباب حتى نلومهم ونقول ان هذا التصرف صبياني ونابع عن تحد ومراهقة؟
لمن لا يعرف التفاصيل، نشير الى انه بين ليلة وضحاها شاهد أهالي النعيم أسلاكا عديدة تمر على منازلهم من دون (احم ولا دستور)، وحاول الأهالي معرفة المصدر وطبيعة هذه الأسلاك، التي أخذت بالانتشار، والبعض يظن ان جهة رسمية قامت بتركيب هذه الأسلاك.
وبعد التحقق منها، اتضح ان شخصا ما من أصول آسيوية، قام بتوصيل شبكة قنوات فضائية بشكل غير قانوني، وتمت مخاطبته من قبل عدد من الأهالي بضرورة إزالة هذه الأسلاك، وعدم تمريرها على المنازل إلا بإذن مسبق، إلا ان هذا الخطاب اللين لم يجد منصتا ولم يغير ساكنا.
تمادى الاسيوي في التركيب دون اي اعتبار لأهالي المنطقة، وتمت مخاطبة العضو البلدي الذي قام مشكورا بمخاطبة الاسيوي، وبحسب معرفتي بما جرى، فإن المخالف أبدى إصرارا وعناداً، بل الاكثر من ذلك، قال في تحد غير مقبول: ان جميع الآسيويين القاطنين في المنطقة تحت أمرته وتصرفه، وكأنه يرغب في ان تنفلت الامور الى ما هو أسوء من ذلك.
وزارة الاعلام قامت مشكورة بإرسال مفتش لمعاينة مكان تواجد الاجهزة الموجودة على أحد الاسطح، ولكن كأن الطير قد أخبره ان أحد المفتشين قادم، وفي أقل من ساعة، أزال المخالف جميع الاجهزة الالكترونية، وحضر المفتش إلا انه لم يشاهد اي جهاز.
اليوم قام عدد من الشباب بتقطيع الاسلاك، وغدا الله العالم بما يحدث، وعليه نوجه رسالتنا الى الجهات المعنية بالتدخل السريع لحل المشكلة، من اجل ان لا تتفاقم، وهذا التحذير يجب ان يؤخذ على محمل الجد، فالذي دفع الشباب هو عدم التدخل السريع وعدم ايجاد إذن صاغية من قبل الجهات التي وصلتها الشكوى.
 
صحيفة الايام
28 يونيو 2010

اقرأ المزيد

كاتب ثورة القرنفل

ذهب إلى الموت منذ نحو أسبوع، وبشكل هادئ، تماماً كهدوء السنوات الأخيرة من عمره التي قضاها في جزيرة لانزاروتي في الكناري، واحد من عمالقة الأدب الإنساني الذين كان الأدب بالنسبة لهم موقفاً بمقدار ما هو فن، الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو حائز على جائزة نوبل للآداب عن عمرٍ ناهز السبعة وثمانين عاماً، بينها نحو أربعين عاماً قضاها مناضلاً في صفوف الحركة اليسارية والديمقراطية في بلاده.
نفى ساراماغو نفسه عن بلده البرتغال احتجاجاً على الضجة التي أثيرت ضد إحدى رواياته حين قادت أوساط قريبة من الكنيسة حملة ضد صدور الرواية، رغم أن البرتغال، كما العالم، تقر بتاريخه الإبداعي وكذلك النضالي الحافل، حيث كان في قلب الحركة المناهضة لفاشية سازالار ومناضلاً عنيداً من أجل الديمقراطية، ولم يكن في ذلك يشذ عن القامات الأدبية الكبرى في القرن العشرين، التي وجدت في الانحياز للقيم الديمقراطية شرطاً من شروط الإبداع.
حين تذكر ثورة القرنفل في العام 1974 يذكر اسم ساراماغو كأحد المشاركين فيها. كانت تلك الثورة قد أنهت الحكم الفاشي في البرتغال، وتزامنت مع التحول الديمقراطي في اسبانيا الذي أزاح عن صدور الأسبان ديكتاتورية فرانكو، لتتم الإطاحة بآخر المعاقل الاستبدادية في جنوب القارة الأوروبية.
كان بالوسع ألا يصبح كاتباً مرموقاً على الإطلاق، فراويته الأولى «ارض الخطيئة» التي صدرت في العام 1947 لم تسترع الانتباه. فلزم ساراماغو الصمت تسعة عشر عاماً، وعن ذلك قال: «لم يكن لديَّ ما أقوله».
لم يعرف الشهرة إلا في العام 1982 وهو في سن الستين مع رواية «الإله الأكتع»، وهي قصة حب تدور أحداثها في القرن الثامن عشر، ولكن الاعتراف به كإحدى القامات الأدبية الكبرى في أوروبا سيتوالى، ويتوج بنيله جائزة نوبل للآداب عام 199، عن روايته «الطوف الحجري»، حيث ذاعت شهرته من خلال ترجمة رواياته إلى مختلف اللغات، بما فيها اللغة العربية.
يؤكد ساراماغو انه يكتب ليفهم عالماً يصفه بأنه «مقر الجحيم»، في روايات تحرض على التمرد، رغم أن مناخاته وعوالمه تقترب من الخيال، ولم يبارحه الاعتقاد بكون هذا العالم مقراً للجحيم حتى موته، هو القائل، عن هذا العالم، في مدونة اليكترونية ظل يحررها منذ عام 2008: «يولد فيه ملايين الأشخاص من اجل أن يعانوا من دون أن يهتم احد لأمرهم». وكانت الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالعالم لما تزل في بداياتها حين اعتبرها ساراماغو «جريمة ضد الإنسانية ويجب أن يُحاكم عليها المتسببون فيها».
يحظى ساراماغو بشعبية كبيرة في بلدان أمريكا اللاتينية، حيث التقت الروح المتمردة لرواياته مع المزاج الثوري في القارة، التي خبرت حكم الديكتاتوريات العسكرية، تماماً كما هو حال بلاده البرتغال، سيما وأن عدداً كبيراً من سكان القارة ناطقون بالبرتغالية، حيث استقبل نبأ رحيله بالحزن في الأوساط الثقافية والحركات الديمقراطية هناك.
وانسجاماً مع مواقفه الأممية زار ساراماغو مدينة رام الله في آذار/مارس 2002، فهالته جرائم وخطايا الاحتلال الصهيوني، حينها قارن الوضع في الضفة الغربية بالوضع في معسكرات الموت التي أقامها النازيون، وقال: «انه الأمر ذاته باستثناء الحقبة والمكان».
 
صحيفة الايام
28 يونيو 2010

اقرأ المزيد

الأمين العام في لقاء صحفي: شخصيات وقيادات التيار الديمقراطي في البحرين جديرة بأن تمثل الناخبين و جديرة بالفوز


 
أكد الأمين العام لجمعية المنبر الديمقراطي التقدمي حسن مدن، أن للتيار الديمقراطي في البحرين فرصة إلى أن يحرز بعض النجاحات في الانتخابات المقبلة إن لم تتدخل العوامل التي أثرت بشكل مباشر على مخرجات العملية الانتخابية في العام 2006. 
وقال في لقاء خاص بـ «الوسط»: «إن خطاب التيار الديمقراطي في البحرين مسموع من قبل قطاع ليس قليل الأهمية في المجتمع ويمتلك …… 
 


 




أكد أن للتيار الديمقراطي حظوظاً للفوز في الانتخابات المقبلة
مدن: أعلنا منافستنا لـ «الوفاق» في عدد من الدوائر منذ شهور


 


 
أجرى اللقاء: جميل المحاري
 
أكد الأمين العام لجمعية المنبر الديمقراطي التقدمي حسن مدن، أن للتيار الديمقراطي في البحرين فرصة إلى أن يحرز بعض النجاحات في الانتخابات المقبلة إن لم تتدخل العوامل التي أثرت بشكل مباشر على مخرجات العملية الانتخابية في العام 2006.
 
وقال في لقاء خاص بـ «الوسط»: «إن خطاب التيار الديمقراطي في البحرين مسموع من قبل قطاع ليس قليل الأهمية في المجتمع ويمتلك هذا التيار شخصيات وقيادات على كفاءة عالية وذات تاريخ وطني وهي جديرة بأن تمثل الناخبين كما أنها جديرة بالفوز إذا لم يحدث أي تأثير على مخرجات العملية الانتخابية».
 
وأشار إلى وجود جهود حثيثة تبذل في الوقت الراهن لتوحيد التيار الديمقراطي في البحرين، موضحا أن جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي وجمعية العمل الديمقراطي (وعد) وجمعية التجمع القومي قامت بصياغة وثيقة ستطرح في وقت لاحق على عدد من الجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بالإضافة إلى عدد من الشخصيات الوطنية لمناقشتها.
 
وانتقد مدن تصريحات نسبت إلى محسوبين على جمعية الوفاق الإسلامية تشكك في المواقف الوطنية لجمعية المنبر وتشير إلى أنها «محسوبة على الحكومة»، وقال: «إن الوفاق تعرف جيداً أننا طرف معها في التنسيق السداسي ونعمل منذ سنوات على ملفات مشتركة, فكيف أصبحنا جمعية حكومية, بمجرد أننا ترشحنا في دوائر تحسبها الوفاق مغلقة عليها؟». وأضاف: «هل المطلوب منا أن ننسحب من المشهد السياسي في البحرين لكي يرضى عنا البعض».

 

وفيما يلي اللقاء :  
 




ذكر الأمين العام للتجمع القومي حسن العالي أن جمعيات وعد والمنبر الديمقراطي والتجمع القومي بصدد صياغة مسودة ميثاق للتيار الديمقراطي في البحرين يتم طرحها في وقت لاحق على مؤسسات المجتمع المدني والشخصيات الديمقراطية في البحرين لإقرارها من أجل وحدة هذا التيار وقد أسندت مهمة صياغة هذه المسودة للمنبر التقدمي.
 أولاً: إلى أين وصل العمل في صياغة هذه المسودة وما هي أهم ملامحها؟ ثانياً: هل هناك إطار تنظيمي سيطرح من خلال هذه الوثيقة للم صفوف التيار أم أن الأمر لا يعدو كونه تنسيقيا؟
 
–  أولا يجب توضيح خلفية هذا الموضوع, فمنذ أكثر من سنة والجمعيات الثلاث تجتمع في لقاءات دورية على مستوى الأمناء العامين وقياديين في المكاتب السياسية في هذه الجمعيات, وتناقش في هذه الاجتماعات قضايا الوضع السياسي في البحرين وأوضاع التيار الديمقراطي في البلد وسبل التنسيق بين أطرافه, وقد جرى الاتفاق في بداية هذه الاجتماعات على أن تكون هناك أرضية سياسية مشتركة تضع قاعدة المواقف التي تجمع بين الجمعيات الثلاث, وقد قام الأمين العام لجمعية التجمع القومي حسن العالي بكتابة مسودة هذه الأرضية, ومن جانبنا قمنا بتقديم ملاحظاتنا وتعديلاتنا على هذه المسودة وفي وقت لاحق قدم الإخوة في جمعية «وعد» ملاحظاتهم على هذه الوثيقة, وفي الاجتماع الأخير ناقشنا مجمل هذه التعديلات, واتفقنا على أن يكلف المنبر الديمقراطي بإعداد الصيغة النهائية أخذا في الاعتبار الملاحظات التي قدمت, وقد سلمنا الإخوة في التجمع القومي وفي «وعد» الصيغة التي وضعناها, وننتظر أن نناقش هذه الصياغة لإقرارها في اجتماع قريب ربما بعد أن ينتهي مؤتمر جمعية «وعد» المقبل.
 
إحدى قضايا النقاش بين الجمعيات الثلاث يدور حول مفهوم التيار الديمقراطي, وماذا نقصد عندما نتحدث عن التيار الديمقراطي في البحرين, والجمعيات الثلاث متفقة على أن هذا التيار ليس محصورا عليها وإنما يشمل عدداً من الجمعيات السياسية الوطنية الأخرى ومؤسسات المجتمع المدني وقطاعا واسعا من الشخصيات الوطنية المستقلة القريبة من الجمعيات الثلاث في أطروحاتها وفي مواقفها, وبالتالي جرى الاتفاق على أن تكون هذه الأرضية في صيغتها الأولية منطلقا بين الجمعيات الثلاث لكي يتوسع الحوار في مستقبل التيار الديمقراطي ودوره ويشمل جميع تكوينات هذا التيار ولا يقتصر على الجمعيات الثلاث فقط, ولكن بحكم الوضع الخاص لهذه الجمعيات كونها الأطر المنظمة والتي تشكل امتدادا تاريخيا لتنظيمات الحركة الوطنية والديمقراطية الرئيسية في البحرين لذلك كان عليها أن تتولى هذه المهمة وتضع آليات معينة للتنسيق فيما بينها، على أن تشرك كل مكونات التيار الديمقراطي في هذا الموضوع لاحقا.
 
فيما يخص الجانب التنظيمي, فإن اللقاء الدوري بين الجمعيات الثلاث يعتبر شكلا من أشكال التنسيق, والحقيقة أن هناك حاجة لتفعيل أكبر لمثل هذا التنسيق, عندما نفرغ من إعداد هذه الوثيقة السياسية فإن هناك مقترحات قيد الدرس لآلية تنظيمية دائمة لعمل الجمعيات الثلاث وكيفية إشراك باقي مكونات التيار الديمقراطي الأخرى.
 


وهل هناك مقترحات لأطر معينة؟
 
–  كما ذكرت فإن الإطار الحالي هو عبارة عن لقاء دوري بين الجمعيات الثلاث, وربما نفكر في المستقبل في أن يكون لهذا الإطار طابع ثابت على شكل هيئة تمثل الجمعيات الثلاث تتناوب الجمعيات على رئاستها، على أن يجري في هذا الوقت مناقشة الطرق التي تمكن المكونات الأخرى من أن تكون شريكاً في عملية بناء التيار الديمقراطي.
 
وفي هذا المجال، أحب أن أشير إلى أن المنبر الديمقراطي في مؤتمره العام الخامس في مايو/ أيار سنة 2009 وجه دعوة إلى عقد مؤتمر لجميع مكونات التيار الديمقراطي بحيث لا يقتصر هذا المؤتمر على الجمعيات الثلاث، ولكن بعد مناقشة الاقتراح مع أشقائنا في وعد والتجمع القومي كانت هناك آراء حبذت أن نتريث في عقد المؤتمر وان نسعى إلى تهيئة ظروف نجاحه من خلال تفعيل العلاقة بين الجمعيات الثلاث وتنشيطها أولاً لكي تقطع شوطا في مجال التنسيق وفي وقت لاحق ينظم مثل هذا المؤتمر.
 


تأخذ بعض الشخصيات الديمقراطية على الجمعيات الثلاث – وان كانت هي تشكل النواة للجسم الديمقراطي في البحرين – أنها استفردت بهذا التحرك مستبعدة جميع مؤسسات المجتمع المدني والشخصيات الديمقراطية, وطالبت هذه الشخصيات الجمعيات بالرجوع خطوة إلى الوراء من خلال إشراكها في هذا التحرك من أجل بناء تيار ديمقراطي على أسس صحيحة, ما رأيكم في ذلك؟ وهل أنتم على استعداد للرجوع للوراء إن رأيتم في ذلك مصلحة للتيار الديمقراطي؟
 
 
–  كما اتفقنا في الجمعيات الثلاث فإن مفهوم التيار الديمقراطي هو أوسع بكثير من هذه الأطر الثلاثة، ولكن هذه الأطر لها وضعها التنظيمي لأنها تشكل الامتداد التنظيمي للتيارات الرئيسية, تيار جبهة التحرير الوطني وتيار الجبهة الشعبية وتيار حزب البعث وهي التيارات الرئيسية في الحركة الوطنية في البحرين منذ الخمسينيات. وفي تقديرنا، أنه لا يمكن بناء التيار الديمقراطي من دون حدود دنيا من التنسيق والتفاهم على الأقل بين هذه الأطر الثلاثة لكي يشكل ذلك منطلقاً لبناء التيار في مفهومه الواسع, ولم يكن الهدف استبعاد الشخصيات أو حتى الجمعيات السياسية الأخرى التي يمكن أن تندرج تحت مفهوم التيار الديمقراطي وأن تكون شريكة في هذا الموضوع.
 
وفيما يتصل بالشخصيات الوطنية, فأعتقد بأن عددا من هذه الشخصيات يلعب دوراً إيجابياً الآن في إثارة النقاش والحوار حول مفهوم التيار الديمقراطي وضرورة بنائه، ونأمل ونتطلع من هذه الشخصيات أن تواصل هذا الدور وأن تشكل قوة ضاغطة باتجاه الدفع بهذا المسار.
 


ونحن على أبواب الانتخابات النيابية والبلدية, لماذا فشل التيار الديمقراطي في الخروج بقائمة موحدة لخوض هذه الانتخابات؟ ومن الذي تحملونه مسئولية هذا الفشل؟
 
–  الظروف الخاصة بكل جمعية ألقت بظلالها على هذا الموضوع, كما أن طبيعة الدوائر التي ستترشح فيها كل جمعية تختلف من دائرة إلى أخرى وحتى خريطة التحالفات في كل دائرة على حدة كان لها دور في هذه المسألة.
 
نحن لا نقول إن الوقت قد مضى على تشكيل هذه القائمة, فلايزال هناك متسع من الوقت للبحث في هذا الموضوع, ولكن هناك أمور إيجابية تحققت في هذا المجال وإن كانت تبدو في حدودها الدنيا, بينها اتفاق الجمعيات الثلاث على ألا تتنافس في الدوائر نفسها وذلك أمر مهم, لأنه سيترتب على ذلك أن الجمعيات الثلاث يجب أن تقدم الدعم لبعضها البعض في الانتخابات, فمثلا عندما لا يرشح المنبر التقدمي في دائرة ترشح فيها «وعد» أو التجمع القومي فنحن سندعم مرشحي هذه الجمعيات في هذه الدائرة. وفي المقابل، نتطلع إلى أن تدعم هذه الجمعيات مرشحنا في الدوائر التي سنترشح فيها, وكما فعلنا في انتخابات 2006 سنعمم على أعضائنا وأصدقائنا ليصوتوا لمرشحي الجمعيات الثلاث.
وسننتظر كيف ستتبلور خريطة مرشحي الجمعيات الثلاث في الفترة المقبلة، وفي ضوئها يمكن أن نبحث أشكال التنسيق والتعاون الأخرى الممكنة.


 
ألم تكن هناك طريقة للتوصل لمثل هذا الاتفاق مع جمعية الوفاق؟
 
–  الجمعيات الثلاث التقت الأمين العام لجمعية الوفاق الشيخ علي سلمان منذ شهور وبحثنا معه إمكانية تشكيل مثل هذه القائمة على خلفية التنسيق السداسي الذي يعمل منذ سنوات ويتفق على عدد من الملفات المهمة في الحراك السياسي في البلد، ولكن الذي فهمناه من الإخوة في الوفاق أن المزاج العام داخل الجمعية ليس في وارد تشكيل مثل هذه القائمة وليس في وارد أن تتخلى الوفاق عن أي دائرة من الدوائر التي تعتقد بأنها ضامنة للفوز فيها.
 
وماذا لو طلبت منكم الوفاق سحب مرشحين من دوائر معينة؟
 
–  مقابل ماذا؟ يجب أن تكون هناك تنازلات متبادلة، ما يعني سحب مرشح من هذه الدائرة لصالح مرشح آخر في دائرة أخرى، نحن سننزل بقائمة قليلة العدد وبالتالي في حال جرى الحديث عن إمكانية التنازل عن دوائر معينة فإن ذلك يتطلب تنازلا من الطرف الآخر.
 


كيف تقرأ المشهد الانتخابي المقبل؟ وهل ترى أن هناك تغيرا في المزاج العام للشارع البحريني بحيث يكسر سيطرة القوى الدينية على الشارع الانتخابي ويمكن القوى الليبرالية من أن تنافس في الانتخابات المقبلة؟
 
–  إن لم تتدخل العوامل التي تدخلت في الانتخابات السابقة فأعتقد بأن التيار الديمقراطي لديه فرصة إلى أن يحرز بعض النجاحات في الانتخابات المقبلة، بسبب أن خطابه في البحرين مسموع من قبل قطاع ليس قليل الأهمية في المجتمع ويمتلك هذا التيار شخصيات وقيادات على كفاءة عالية وذات تاريخ وطني وهي جديرة بأن تمثل الناخبين كما أنها جديرة بالفوز إذا لم يحدث أي تأثير على مخرجات العملية الانتخابية.
 
بعد ثماني سنوات، هما مدة الفصلين التشريعين, أعتقد بأن الناخب البحريني لمس محدودية برامج القوى التي هيمنت على المشهد الانتخابي في السنوات الماضية, وهناك شعور نلمسه ونرصده الآن في مناطق ودوائر مختلفة بالرغبة في التغيير والبحث عن بديل, فلقد كان الطابع الغالب لأداء هذه القوى التي احتكرت التمثيل في المجلس السابق أنه لم يكن مرضيا لقطاعات واسعة من الناخبين. ويبدو لنا أن الظروف مهيأة إلى أن تحدث اختراقات للعناصر الوطنية والمستقلين وكذلك للوجوه النسائية.
 


ما هي أهم الملفات التي ترون ضرورة طرحها في المجلس المقبل؟ وما هي أهم ملامح برنامجكم الانتخابي والذي تختلفون فيه عن باقي قوى المعارضة؟
 
–  أعتقد بأنه يجب أن نولي أهمية كبيرة لملف الوحدة الوطنية, إن هذا الملف ليس قليل الأهمية, فمشكلتنا أن الذي غلب على الوضع السياسي في البحرين في الفترة الماضية هو الانقسام الطائفي, ومجلس النواب بدل أن يشكل رافعة للوحدة الوطنية ساهم في تكريس الطائفية وخاصة في الفصل التشريعي الأخير بسبب غياب العناصر الوطنية التي كان يمكن أن تشكل حلقة وصل أو جسرا بين أعضاء المجلس, هناك حاجة إلى مرشحين جامعين بمعنى أنهم يمثلون الخط الوطني العام وقادرون على مخاطبة مكونات المجتمع كافة بالتركيز على الهم الوطني المشترك وليس على الهم الخاص بهذه الفئة أو الطائفة أو تلك
 
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 2851 – الأحد 27 يونيو 2010م  
 

اقرأ المزيد

هل تحمل انتخابات 2010 البحرينية مفاجآت ؟ (3-3)

تعمقت رؤية المرأة لدورها وبزيادة الثقة بالنفس ، وبتطور الوعي الاجتماعي والرسمي بأهمية وحق المرأة في المشاركة السياسية ، فهي ليست شريكا كامل الحقوق وحسب ، بل ومواطن حدد الدستور والميثاق كامل واجباتها ومسؤولياتها كجزء مكمل للرجل في العملية السياسية . وقد لاحظ الجميع كيف تعمل الجمعيات النسائية والاتحاد النسائي ومجلس الأعلى للمرأة ، إلى جانب منظمات المجتمع المدني والجمعيات السياسية ، من اجل إبراز الدور النسائي في اقتحام كل المجالات بما فيها الحياة النيابية .
وبالرغم من وجود برامج التوعية للمرأة وتمكينها من الانخراط في العملية السياسية ، إلا أن بعض النواقص تشوب عملية مشاركتها ، من أبرزها العقبات التي يضعها التيار الديني المتشدد في وجهها ، بما فيها الفتاوى التي تقلل من مكانتها وبقدرتها على لعب دور مؤثر في الحياة السياسية . ورغم وجود نقص واضح في الكاريزما النسائية سياسيا ، إلا أن الطاقة العملية الكامنة للمرأة يساهم في منحها دورا فاعلا ، لصالح المرشحين الرجال قبل النساء ، مع إنها تشعر إن تبادل المنفعة ليس متساويا إذ مطلوب منها دعم الرجل في التصويت دون أن يقدم الرجل دعمه لها ، خاصة داخل التيارات الدينية الأكثر تأثيرا على المجتمع . وهناك قوة دفع داخلية وخارجية للنساء لاقتحام الانتخابات دون تردد ، فالمهم هو المشاركة وتأكيد الذات والتعلم من التجربة والخسارة . وإذا ما كان نصيب النساء قليلا في النجاح حسب الدوائر الانتخابية ، فان المفاجآت ممكنة بعبور نائبتين أو أكثر ، خاصة وان من شاركن في انتخابات 2006 مصممات على مواصلة كسر طوق اليأس في انتخابات 2010 الأكثر مفعما بالأمل ، بدلا من أصوات غريبة تنادي بكوتا نسائية بالتعيين في مجلس انتخابي . ولكي ينجحن النساء في العملية الانتخابية فان عليهن أن يتوجهن بمطالبهن للصوت الانتخابي من كل الجنسين ولا يحصرن مطالبهن وأهدافهن بالجانب النسوي البحت ، فالمهم هو التماس الجماهيري سياسيا وليس » جنسانيا« فالهموم المجتمعية مشتركة والتحديات كذلك .

اختراق جدار الاسمنت السياسي

تعتبر بعض الدوائر الانتخابية دوائر مغلقة على الطائفة الشيعية خاصة في المناطق الريفية ، ومن الصعب اختراقها على المدى المنظور ، غير إن الجانب الديني السني بشقيه ،الأصالة والمنبر الإسلامي ، بالإمكان خلخلة بعض دوائرهما في حالة توافر عناصر النجاح للتكتل الثالث المكون من تحالف الليبراليين واليسار والديمقراطيين والقوميين ، ففي حديقتهم الملونة بالأطياف السياسية بالإمكان أن تلتقي عناصر وشخصيات وطنية وتكنوقراطية وتجارية ، بحيث يشكلون ثقلا انتخابيا جديدا ، قادرا إما على العمل ككتلة واحدة تحت مسميات معينة وإما التنسيق والتعاون الواسع لتحركهم في دوائر عدة تربك التيار الديني بمكوناته .
ويشكل البرنامج المعبر عن مصالح تلك الكتلة الثالثة ، أداة وهدفا مهما في العملية الدعائية الانتخابية ، إذ تجد تلك الكتلة المتأرجحة والمتنوعة نفسها اليوم خارج التأثير البرلماني ، فيما ترى نفسها تمتلك من المقومات العديدة في تغيير الخارطة السياسية لمجلس النواب . وإذا لم تستوعب تلك الكتلة الثالثة إمكانية رص صفوفها على أساس المصالح المشتركة وفضلت العمل منفردة ، فان فرص نجاحها ستكون قليلة واختراق دوائر الاسمنت السياسي يصبح شبه مستحيل ، خاصة وان الأزمة الفعلية داخل هذا التكتل المتنوع ، هو امتلاك اليسار والديمقراطيين لحركة شعبية وتاريخ سياسي متجذر ، غير إنها لا تمتلك رموزا مؤثرة في هذه اللحظة الانتخابية ولا الإمكانيات المالية الهائلة ، فيما يمتلك الليبراليون وعلى رأسهم الكومبرادورية التاريخية » القدرة المالية والإعلانية واللوجستية « ولكنهم في الوقت ذاته يفتقدون للخبرة السياسية الجماهيرية والتلاحم اليومي بين صفوف الناخبين . لهذا بحاجة كل طرف لتكملة نواقصه وتعويض ما يفتقده في هذه المرحلة.
ربما الوقت ضيق لاستيعاب هذا الدرس ، ولكن اختراق تلك الدوائر المغلقة أمر ليس مستحيلا في بعض المحافظات السنية متى ما توفرت الإرادة السياسية والتصميم بخلق كوة في جدار الاسمنت.
 
صحيفة الايام
27 يونيو 2010

اقرأ المزيد

لماذا‮ ‬غاب العرب عن الحملة الدولية لمحاصرة إسرائيل؟

في‮ ‬إسرائيل اليوم حكومة فاشية لا تستطيع،‮ ‬حتى لو أرادت،‮ ‬التغطية على هذه الحقيقة ونكران معطياتها،‮ ‬ولأنها كذلك فهي‮ ‬لا تتوانى عن ارتكاب الحماقات التي‮ ‬تفضح كينونتها‮.‬
وكي‮ ‬نكون دقيقين سوف نعمد إلى إيراد التوصيف العلمي‮ ‬الدارج للفاشية،‮ ‬هي‮ ‬مذهب أيديولوجي‮ ‬يجسد قمة العصبية العرقية أو الإثنية أو القومية،‮ ‬واتخاذ‮ -‬بناء على ذلك‮- ‬موقفاً‮ ‬عنصرياً‮ ‬وازدرائياً‮ ‬من الأقوام والأعراق الأخرى،‮ ‬والهوس بالتسلح بالقوة والتفوق العسكري‮ ‬والاقتصادي‮ ‬عليهم،‮ ‬والاستعداد الدائم للحرب،‮ ‬وترويج وتسويق مبرراتها ومسوغاتها‮.. ‬باعتبارها أداة للهيمنة والسيطرة،‮ ‬وبإسقاط هذا التوصيف على الدولة العبرية سوف نجد أن الصورة طبق الأصل كما‮ ‬يقال‮.‬
الآن‮.. ‬لا نريد الذهاب بعيداً‮ ‬في‮ ‬فحص الحالة الصهيونية الثقافية الوجلة دوماً،‮ ‬وعقدة عصبيتها القومية النرجسية لحد اللامعقول،‮ ‬وسوف نكتفي‮ ‬فقط بالإحالة إلى خطاب بنيامين نتنياهو الذي‮ ‬ألقاه في‮ ‬مستهل ولايته الجديدة في‮ ‬جامعة بار إيلام‮. ‬في‮ ‬ذلكم الخطاب طرح نتنياهو،‮ ‬وهو رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية التي‮ ‬نزعم أنها فاشية،‮ ‬طرح تصوره للدولة الفلسطينية،‮ ‬ولو دققنا،‮ ‬من دون كثير عناء،‮ ‬في‮ ‬مفردات هذا التصور،‮ ‬فسنجد أنه تصور متطابق لتطبيقات نظام الغيتوات أو معازل السود التي‮ ‬أنشأها نظام الفصل العنصري‮ (‬الأبارتايتد‮) ‬في‮ ‬جنوب أفريقيا‮.‬
ثانياً‮ ‬لننظر إلى العناصر التي‮ ‬تأتلف الحكومة الإسرائيلية الحالية،‮ ‬فبخلاف قيادات ورموز الأحزاب الدينية اليهودية المفضوحة بعنصريتها الفاقعة،‮ ‬يكفي‮ ‬تتبع وتفحص تصريحات ومواقف الرجل الثاني‮ ‬في‮ ‬هذه الحكومة وهو وزير الخارجية أفيغدرو ليبرمان‮. ‬فهذا الرجل تعوزه الكياسة فيجبره تكوينه النفسي‮ ‬على الإفصاح عن مكنوناته العنصرية والفاشية‮.‬
المناضل العربي‮ ‬محمد بركة رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة داخل أراضي‮ ‬48‮ ‬وعضو الكنيست الإسرائيلي‮ ‬قال بأن‮ ‘‬إسرائيل توشك أن تتحول لدولة فاشية بالكامل،‮ ‬وإنها على بعد خطوة فقط منها‮’‬،‮ ‬مدللاً‮ ‬على ذلك بالحملات العنصرية المتتالية وغير المسبوقة التي‮ ‬تشهدها إسرائيل،‮ ‬والتشريعات العنصرية التي‮ ‬تُطرح وتمرر في‮ ‬الكنيست كل أسبوع،‮ ‬واتساع المزاج العام المعادي‮ ‬للعرب في‮ ‬الشارع الإسرائيلي‮.‬
وهو أرجع هذا‮ ‘‬الفلتان‮’ ‬العنصري‮ ‬إلى الطابع العدواني‮ ‬للصهيونية‮.‬
سفير إسرائيل الأسبق في‮ ‬تركيا ألون ليئيل وفي‮ ‬معرض تعليقه على الهجوم الإجرامي‮ ‬الإسرائيلي‮ ‬على أسطول الحرية في‮ ‬القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي،‮ ‬قارن بين عضو الكنيست عن التجمع الوطني‮ ‬المناضلة العربية حنين الزعبي‮ ‬التي‮ ‬تتعرض لتهديدات عنصرية متواصلة وبين هلين زوسمان النائبة اليهودية الوحيدة في‮ ‬برلمان جنوب أفريقيا قبل انهيار نظام الفصل العنصري‮.‬
نحن إذن لا نضيف جديداً‮ ‬إذا ما قلنا أن حكومة إسرائيل الحالية هي‮ ‬حكومة فاشية‮. ‬رأس المال القذر ودسائس وضغوطات مراكز قواه النافذة في‮ ‬مواقع أعلى الهرم السلطوي‮ ‬في‮ ‬بلدان المركز الرأسمالي،‮ ‬وبلدان الأطراف،‮ ‬والمنظمة الدولية‮ (‬الأمم المتحدة‮)‬،‮ ‬هما اللذان‮ ‬يقفان وراء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي‮ ‬صدر في‮ ‬ظروف مريبة مطلع تسعينيات القرن الماضي،‮ ‬وقضى بإبطال القرار السابق الذي‮ ‬أصدرته نفس الهيئة منتصف سبعينيات القرن الماضي‮ ‬وقضى باعتبار الصهيونية شكلاً‮ ‬من أشكال العنصرية‮.‬
إلا أن هذه المكيدة السياسية التي‮ ‬دبرتها الدول الغربية للإطاحة بالقرار الأممي‮ ‬الذي‮ ‬يوصم الصهيونية بالعنصرية،‮ ‬لم تفلح في‮ ‬إخفاء الوجه العنصري‮ ‬للدولة العبرية وأيديولوجيتها الفاشية،‮ ‬مثلما لم تفلح حملات العلاقات العامة الإسرائيلية ومساحيقها الرديئة في‮ ‬تحقيق ذلك،‮ ‬إلى أن جاءت الحكومة الإسرائيلية الحالية بائتلافها الفاشي‮ ‬لتزكي‮ ‬ذلك القرار الأممي‮ ‬المهدور‮ ‬غيلةً‮. ‬إنما السؤال‮ (‬المفارقة‮) ‬الذي‮ ‬يطرح نفسه هاهنا هو‮: ‬كيف قُدِّر لهذه الحكومة أن تفلت من ثلاث جرائم وإدانات دولية متوالية‮:‬
‮- ‬تقرير جولدستون الذي‮ ‬أدان الجرائم التي‮ ‬ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها على قطاع‮ ‬غزة‮.‬
‮- ‬اغتيال محمود المبحوح في‮ ‬دبي‮. – ‬العدوان الهمجي‮ ‬على أسطول الحرية وقتل وجرح العشرات من الناشطين المدنيين الدوليين الذين كانوا‮ ‬ينقلون مساعدات إنسانية للمحاصرين في‮ ‬قطاع‮ ‬غزة‮. ‬نعم لا مراء في‮ ‬أن الدول الغربية هي‮ ‬التي‮ ‬تحركت من جديد،‮ ‬كما في‮ ‬كل مرة‮ ‘‬تنزنق‮’ ‬فيها إسرائيل،‮ ‬لحمايتها من أية ملاحقات قانونية وقضائية،‮ ‬هذا مما لاشك فيه‮.‬
إنما السؤال هو أين هم العرب؟‮.. ‬ما هو تفسير‮ ‬غيابهم وتلكؤهم عن استثمار هذه الفرص الذهبية للإطاحة أخلاقياً‮ ‬وسياسياً‮ ‬بالهالة الديمقراطية الإسرائيلية المزيفة،‮ ‬وكشف عورتها وجوهرها العنصري‮ ‬البغيض ونزعتها الفاشية الفاقعة؟‮!‬
ماذا‮ ‬ينقصهم لأن‮ ‬ينهضوا بهذه المهمة‮.. ‬المال،‮ ‬وأوراق الضغط الاقتصادية سريعة المفعول،‮ ‬وفرص النفاذ إلى أجهزة الميديا العالمية‮.. ‬كل هذا بحوزتهم،‮ ‬ومع ذلك تصرفوا إزاء هذه الفضائح الإسرائيلية وكأن شيئاً‮ ‬واحداً‮ ‬من أمر ذلك لا‮ ‬يخصهم ولا‮ ‬يعنيهم،‮ ‬لا من قريب ولا من بعيد‮! ‬نزعم أن الذي‮ ‬ينقصهم هو إرادة الفعل المستقلة التي‮ ‬جسدتها تركيا على أرض الواقع بصورة لافتة على الصعيدين الرسمي‮ ‬والشعبي،‮ ‬حيث أقامت الدنيا وأقعدتها،‮ ‬فكان لها الفضل الأول في‮ ‬ذلك الضغط المعنوي‮ ‬والأخلاقي‮ ‬والسياسي‮ ‬الذي‮ ‬نزل كالصاعقة على إسرائيل وحماتها في‮ ‬الغرب،‮ ‬فلم‮ ‬يكن أمامهم من سبيل سوى الإذعان لهذه الضغوط وتقديم بعض التنازلات،‮ ‬وإن كانت تكتيكية اضطرارية،‮ ‬فيما‮ ‬يتعلق بتخفيف الحصار الإجرامي‮ ‬على سكان قطاع‮ ‬غزة،‮ ‬من أجل امتصاص‮ ‬غضب ونقمة الرأي‮ ‬العام العالمي‮. ‬في‮ ‬حين ظهر العرب الرسميون عاجزين عن أداء واجباتهم تجاه الانخراط في‮ ‬الحملة العالمية لمحاصرة إسرائيل سياسياً‮ ‬وأخلاقياً‮ ‬ومعنوياً،‮ ‬حتى زيارة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى قطاع‮ ‬غزة التي‮ ‬جاءت متأخرة أربع سنوات،‮ ‬لم تكن لتأتي‮ ‬لولا الاختراق النوعي‮ ‬الذي‮ ‬أحدثته المبادرة الإنسانية التركية في‮ ‬جدار الحصار الإسرائيلي،‮ ‬وأجبرت الجميع على إعادة التفكير في‮ ‬الموقف من جريمة الحصار الإسرائيلي‮.‬
نسأل لماذا لا تكون للدول العربية سياسة مستقلة،‮ ‬على‮ ‬غرار تركيا،‮ ‬تقدم مصالحها وكرامتها وكرامة شعوبها على مصالح القوى الساهرة على مصالح إسرائيل؟ لماذا؟
 
صحيفة اخبار الخليج
26 يونيو 2010

اقرأ المزيد

الدعاة الجدد والصراع على جمهور الفتاوى

احمد لطفي من كتّاب روز اليوسف المتخصصين في الجماعات الإسلامية كتب العديد من المقالات والدراسات والبحوث عن التطرف الديني وعن رجال الدين في معروض صراع العلماء والادعياء والامراء على جمهور الفتاوى في هذا البلد الذي يعج بفتاوى المتشددين.
قبل ثلاث سنوات، كتب عن الصراع بين الدعاة الجدد على جمهور الفتاوى مشخصا حقيقة ابعاد هذا الصراع بادوات الباحث المتمكن الذي يتعامل مع مفهوم الاسلام السياسي بتأثيراته السلبية المختلفة على السلطة المدنية والجمهور.
وعن هذا الصراع كان يرى ان بين الاسلام الرسمي الممثل في مشايخ الازهر والاوقاف وبين الاسلام الكاجول الممثل في مشايخ الدعوة الجديدة الذين انطلقوا من مساجد النوادي الكبيرة وصالونات القصور في المهندسين ومارينا وبين الاسلام السلفي الذي حولت الفضائيات الجديدة شيوخه الى نجوم فوق العادة بعد ان كانت دروسهم مقتصرة على مساجد الاحياء الفقيرة بين هؤلاء وأولئك يعيش المواطن في حيرة شديدة، بل تستطيع ان تقول تجاوزا ان الاسلام نفسه يعيش في حيرة اشد بين الرسمي والروشي والسلفي، وتتوزع خريطة المشايخ في مصر وتتوزع ايضا عوائد وارباح السوق الاسلامية وهي ارباح كبيرة للغاية تقدر بعشرات المليارات، ومن جانب اخر تحدث لطفي عن ثورة الاتصالات التي عبرت عن نفسها في صورة مئات من القنوات الفضائية ومئات من المواقع الالكترونية وملايين من الاسطوانات المدمجة، وعن دورها الكبير الذي اتاح لنا ان نقرأ خريطة الدعوة في مصر والعالم العربي في يسر وسهولة.
ومن هنا، يسلط الضوء على اول مكونات الخريطة الدينية وهو الازهر الذي يتمتع بتاريخ مجيد ولكن ومن حيث الواقع فهو ليس كذلك، ومن هذه المكونات ايضا وزارة الاوقاف المنافس للازهر وفضلا عن هؤلاءالوعاظ الجدد الذين نجحوا في تسويق انفسهم في اوساط النخبة، ومن هنا فالمتتبع للوعاظ الذين تخرجوا من كليات الدعوة في الازهر يجدهم بالالاف من الخريجين يعملون في الاوقاف برواتب متدنية، ولكي سرعان وفي شهور قليلة متى مانجح الداعية في تسويق نفسه يتحول الى مليونر.
لماذا؟ لان ثمة فرق بين الدعاة اي هناك دعاة اصبحوا غير قادرين على متابعة التغييرات التي حدثت في السوق الدينية بخلاف الجدد منهم الذين ادركوا هذه التغييرات اي دخل مستهلكون جدد مع زيادة اقبال الطبقات الجديدة في مصر على مظاهر التدين الشكلي حيث تختلف نوعية المشكلات التي يلبون الفتوى بشأنها.
اذن وفي هذه الاوساط يلعب الدعاة الجدد دورا استثنائيا نفسيا وتربويا واقتصاديا لجمهوره وقد ادى هذا الى خروج واعظي الازهر من حلبة التأثير في النخبة، وبعبارة اخرى ان نمط الدعوة الجديدة والروش او الكاجوال كما يسميها لطفي برزت بعد تراجع المؤسسة الدينية الرسمية وفقدانها لقدراتها على التواصل والتأثير وهو احد العوامل الاساسية في ظهور الدعاة الجدد الى جانب التغييرات الاجتماعية.
ولهذا السبب نجد ان السمة الاساسية لهؤلاء الدعاة هي انهم لم يحصلوا ثقافاتهم الدينية من خلال المؤسسة الدينية الرسمية وان غالبيتهم من خريجي كليات التعليم المدني بل ان معظمهم مهنيون ناجحون ورجال اعمال، ومع ذلك لايعني هذا ان هؤلاء الدعاة بلا ثقافة دينية ورغم انهم حاولوا الحصول على شهادة اكاديمية من مؤسسة تعليمية امريكية اسسها اسلامي مصري يعيش في امريكا هو د.صلاح سلطان الا انهم سرعان ما اكتشفوا انهم ليسوا في حاجة لترخيص لا من الازهر ولا من غيره.
ولعل السمة المميزة الثانية لهؤلاء الدعاة هي قدرتهم على التواصل مع الجماهير والسبب هو انهم ينتمون للذين يقدمون لهم منتجهم الديني ويعرفون طرق حياتهم ومشاكلهم وذنوبهم اليومية التي تدفعهم لطلب التوبة والتطهر ورغم انهم فاقدون لاي قدرة على الاجتهاد او حتى الفهم العميق للمسائل الفقيهة، الا انهم اجتهدوا كثيرا في ابتكار طرق التواصل مع الجماهير وتلبية احتياجاتهم وقد نجحوا في ذلك ونجحوا في تحويل المنتج الديني الى حد مكونات السوق وفقد الوعظ الديني على ايديهم البعد الرسالي وتحول الى اهم مكونات السوق الواسعة التي تتضمن مبيعات بمليارات الجنيهات لاشرطة الكاست والقنوات الفضائية والتبرعات والمشروعات، ومن هؤلاء الدعاة الداعية ياسين رشدي كان وكيل وزارة سابق تحول لتجارة القمح والسياحة الدينية اما الشيخ عمر عبدالكافي فقد كان استاذا في اكاديمية البحث العلمي وصاحب شركة استيراد وتصدير في حين ان عمرو خالد الذي بدأ حياته محاسبا تحول الان الى رجل اعمال من الوزن الثقيل. وعلى صعيد الدعاة السلف تحدث لطفي عن هجوم هؤلاء الدعاة الجدد الذي وصل الى حد التكفير وهو ما اوقع الجمهور في حالة من الارتباك، رغم ان هؤلاء ليسوا افضل من اولئك اي دعاة السلف روجوا المنتج الديني كمنتج جذاب من خلال التركيز على القصص الديني والحكايات ذات البعد الدرامي وخاصة مع ظهور الفضائيات التي وظفت لفتاوى التشدد والتطرف.
 
صحيفة الايام
26 يونيو 2010

اقرأ المزيد

إدوارد سعيد والجامعة

إضافة إلى كونه مثقفاً ومفكراً وناشطاً سياسياً، بمعنى من المعاني، هناك وجه مهم للراحل إدوارد سعيد يتصل بكونه أكاديمياً، وأستاذاً جامعياً، وهو جانب لم يحظ باهتمام كبير في وسائل الإعلام العربية التي كتبت عن إدوارد سعيد في حياته وبعد مماته.
وقد وجه له أحد النقاد سؤالاً ذات مرة عن فكرة جمعه بين مفهوم المثقف العضوي الذي صاغه غرامشي، والذي كان، أي غرامشي، يحظى بتقدير إدوارد سعيد وإعجابه وبين عمله كأستاذ جامعي، الأمر الذي رأى السائل أنه يندرج ضمن تلك الوظائف التي يقوم بها المثقف التقليدي، الذي ينتهي إلى تقديم المبررات للسلطة، أياً كانت هذه السلطة، فكان رد إدوارد سعيد أن ما يشده إلى غرامشي ليس التقسيم بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي، وإنما كونه مهتماً بكل شيء، ومع أنه كان مقيداً بشدة بحكم وضعه الصحي، وبحكم كونه سجيناً لفترة طويلة، فإنه مر بتجارب مدهشة كثيرة تجلت في رسائله وفي الوقت الهائل الذي أمضاه في القراءة والكتابة في السجن، وهو أمر يمثل مغامرات إنسانية كبرى في التجارب الإنسانية.
وبرأي إدوارد سعيد، في رده على محاوره، إنه بوسع الجامعة أن تتجنب كونها مؤسسة لما يسميه غرامشي المفكرين التقليدين، وهو يرى أن الجامعة في أمريكا، رغم بعض النواحي القسرية فيها بالطبع، مازالت تؤدي دوراً معتدلاً، فمع أن هذه الجامعة تعمل من خلال علماء الاجتماع وسواهم لتوطيد شرعية السلطة الاجتماعية، لكن أفراداً مثله ومثل نعوم تشومسكي موجودون في الجامعات، رغم أنهم يتعرضون لكثير من الضغط، لكنه، وكذلك تشومسكي، ما كان سيجدان نفس جمهور المستمعين لو لا الجامعة.
فكثير من الناس الذين يستمعون إليهما، خاصة في حالة تشومسكي، هم طلاب جامعيون، فالجامعة، بهذا المعنى، تؤمن المنبر المطلوب للتفاعل بين المفكر وبين القاعدة الاجتماعية أو كتلة الرأي العام التي يخاطبها، ورغم أن حالته وحالة تشومسكي تعد استثناء وليست قاعدة، فإنه يرى بأنه لابد للخارجين على القاعدة أن يظهروا من مكانٍ ما، فهم ليسوا من علم الغيب. لكن الأمر ينطوي على تعقيدات كثيرة، ذلك أن أقصى ما يمكن تحقيقه في الجامعة هو «إنتاج» أفراد يبدون صادقين مع أنفسهم.
وفي حالة قيام أستاذ بتدريس مادة كمادة الأدب الإنجليزي، كما هو حال إدوارد سعيد نفسه، فإنه يشعر بالتقييد الشديد، فالمشكلة ناشئة من أن الأستاذ عليه مسؤولية تجاه المادة التي يدرسها لطلابه، وهي مسؤولية حقيقية، لكن الهدف الرئيسي هو أن يخلق لدى طلابه وعياً نقدياً آخر. من هنا يبدو الأمر صعبا أن يكون مثقف بحجم إدوارد سعيد معلماً، لأن عليه دائماً أن يجتزئ من نفسه، فهو يعلم الأشياء التي يستطيع الطلاب أن يتعلموا منها، ولكنه في الوقت نفسه مدعو لأن ينبههم إلى الجوانب السلبية في المادة، كأنه يقول لهم في الآن ذاته: افعلوا هذا ولا تفعلوه. مهمة صعبة كهذه بإمكان أستاذ مرموق مثل إدوارد سعيد أن يضطلع بها بذكاء وموهبة.
وهو إذ يفعل ذلك يقدم درساً بإمكان أساتذة الجامعة في كل مكان أن يستفيدوا منه.
 
صحيفة الايام
26 يونيو 2010

اقرأ المزيد

الدولة العلمانية والمسألة الدينية : تركيا نموذجاً


 
 
(I)

لا أنوي في هذه المداخلة تقديم محاولة لفضّ الاشتباك والتشابك والشربكة الحاصلة كلّها بين معاني الدين والعلمانية والليبرالية والديمقراطية والمجتمع المدنيّ، وذلك في الجدالات والمناقشات والسجالات العربية العامة والخاصة المحتدمة منذ فترة غير قصيرة حول هذه الموضوعات الحيوية بالنسبة لنا جميعاً اليوم.

بدلاً من ذلك، سأقارب الموضوع انطلاقاً مما يقال ويُحتجّ به على نطاق واسع في بعض تلك المناقشات، من أنّ العلمانية – كفكرة ودولة وممارسة وتطبيق – نشأت في أوروبا بسبب من الحروب الدينية الدموية الشهيرة هناك، وعلى خلفية صراع المجتمع المدني البورجوازي الصاعد وقتها وقواه مع الكنيسة والإقطاع، ممّا لا ينطبق على الإسلام وأراضيه، لأنّه ليس في الإسلام كنيسة أو ما يشابهها أصلا.

وبما أنّ الحديث عن الدولة العلمانية والمسألة الدينية يدور هنا على هذه الخلفية الحربية – الصراعية، وجدت من المناسب الدخول في موضوعي عبر التركيز على النزاع الحادّ والحادّ جداً الجاري منذ فترة غير قصيرة – في أراضي الإسلام وغير الإسلام- على ضبط معنى الإسلام ذاته وتحديد تعريفه والهيمنة على فحواه وطبيعة تطبيقاته. ولا شكّ عندي أنّ هذا الصراع المستمرّ للسيطرة على معنى الإسلام وتعريفه يشكّل الجزء الأهمّ من المسألة الدينية اليوم في عالمنا العربي، وبخاصة عندما ينحلّ هذا النزاع ويُبتذل إلى مستوى التناحر الدمويّ الأهليّ العنيف والمديد بين طوائف الدين ومذاهبه وملله ونحله في المجتمع الواحد، كما شاهدنا ونشاهد في أكثر من دولة عربية وبلد إسلاميّ في الوقت الحاضر.

أمّا الأطراف الرئيسية الداخلة في هذا الصراع على ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه، كما تمكّنتُ من رصدها وتصنيفها، فهي على النحو التالي :

أوّلاً، أنظمة سياسية وحكومات وأجهزة دولة ومؤسّسات دينية رسمية تديرها نُخب من رجال الدين، تعمل كلّها على الدفاع عن ما يمكن تسميته هنا بـ”إسلام الدولة الرسميّ”، وعلى صياغة تعاليمه وتوجّهاته صياغات مناسبة وفقاً للظروف والأحوال المتبدّلة، وعلى نشره وبثّه عبر الوسائل المتوفّرة للدولة وأجهزتها. ونجد النموذج الأعلى لهذا النوع من الإسلام في إسلام البترودولار لدولتين مثل العربية السعودية وإيران، وهو إسلام مدعوم جيّداً جدّاً، ليس محلياً وإقليميا فقط، بل ودولياً أيضًا وفي شتّى أنحاء العالم، مدعوم بجبروت الدولة المعنية وبأس أجهزتها الأمنية المتنوّعة وبقوّة أموالها الوفيرة وإغراءاتها.

معروف أنّ العقيدة الأساسية لإسلام البترودولار الإيراني هي “ولاية الفقيه”، في حين أنّ العقيدة الأساسية لإسلام البترودولار السعوديّ تقول : “القرآن دستورنا”، بما يعني أننا لسنا بحاجة إلى أيّ دستور مهما كان نوعه، لأنّ الحكم المطلق هو الأفضل والأنسب للإسلام الحقيقيّ والأصيل.

ولا أعتقد أنّي أبالغ حين أقول إنّ كلّ دولة من دول العالمين الإسلامي والعربي اليوم، قد طوّرت لنفسها نسخة مناسبة وطبعة ملائمة من إسلام الدولة الرسميّ هذا، تستعملها في خدمة مصالحها الحيوية وغير الحيوية داخلياً وخارجياً من ناحية أولى، وفي مناوءة وإحباط المصالح المشابهة لدول أخرى منافسة لها أو متخاصمة معها، من ناحية ثانية.

ثانياً، أما الطَرَف الثاني في هذا الصراع على ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه وتفسيره وتأويله، فنجده على الجانب الآخر البعيد من إسلام الدولة الرسمي، وأعني بذلك الإسلام الأصولي الطالباني التكفيري الجهادي العنيف، بأجزائه المتكثرة وفئاته المتنوعة وتنظيماته المتفرعة، وعقيدته الأساسية هي : “الحاكمية”، ومنهج عمله شبه الوحيد تقريباً هو “التكفير والتفجير” بلا مقدّمات وبلا نظر إلى العواقب أو النتائج مهما كانت. هذا هو الإسلام الذي احتلّ الكعبة سنة 1979 بقيادة جهيمان العتيبي، واغتال الرئيس أنور السادات سنة 1981، وخاض معارك إرهابية دموية خاسرة في سوريا ومصر والجزائر، وهو الإسلام الذي نفّذ ضربات 11 أيلول/سبتمبر سنة 2001 داخل الولايات المتحدة الأمريكية، إنه إسلام يئس إلى حدود العدمية من بلوغ أية أهداف أو تحقيق أية برامج بأي أسلوب أو منهج غير أسلوب ومنهج التكفير والتفجير الإرهابي الانتحاري شبه الأعمى، ولتكن النتائج مهما تكن حتى لو انعكست تدميراً على الإسلام عموماً، وعلى الإسلام التكفيري نفسه تحديداً. انه الخيار الشمشوني الصارخ يأساً وعدمية : “عليّ وعلى أعدائي يا ربّ”.

ما هو موقع إسلام حزب الله اللبناني وموقع إسلام حماس الفلسطينية من إسلام التكفير والتفجير هذا؟
السؤال مطروح محلياً ودولياً بسبب شبهات تقول إنّ العمليات الانتحارية/ الاستشهادية التي اشتهرت بها حماس، مثلاً، وعمليات خطف الرهائن من المدنيين والأبرياء التي نفّذها حزب الله في ثمانينات القرن الماضي في لبنان، كمثل آخر، تحمل صلات قربى ما إلى ذهنية الإسلام التكفيري التفجيري إيّاه. وبالفعل، فقد بدا للحظات وكأنّ العمليات الانتحارية/الاستشهادية هي المنهج الوحيد الذي بقي لحماس، تماماً كما حدث للإسلام الطالباني- القاعدي الذي لم يعد عنده من أسلوب عمل غير أسلوب التكفير والتفجير.

أرى أن حزب الله وحماس يشكّلان اليوم البقية الباقية من حركات التحرّر الوطني التي عرفها القرن العشرين في العالم عموماً وفي العالم العربي تحديداً، لكن مع انحدار مذهبيّ ضيّق إلى مستوى أدنى بكثير من المستوى الوطني الرحب، وبنزول طائفيّ متزمّت تحت خطّ كلّ معنى من معاني التحرّر المعروفة، بما فيها التحرّر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلميّ وما إليه. وفي الوقت ذاته يناضل التنظيمان من أجل أهداف محددة جيداً وقابلة للتحقيق، من حيث المبدأ، وعلى رأسها تحرير أرض محتلّة باعتراف العالم أجمع، كما يحصران بدقّة كفاحهما المسلّح في الساحتين المحليتين المعنيتين، ولا يهاجمان عنفياً إلا الاحتلال ودولته، كما أنّهما يتمتعان بقاعدة جماهيرية كبيرة ومنظّمة نسبياً في أوساطهما الشعبية، وبتعاطف فعّال وملحوظ في أوساط المجتمعات العربية الأوسع، ولا ينطبق أيّ من هذا كلّه على إسلام التكفير والتفجير المتفلِّت من هذه الشروط جميعاً.

مع ذلك أعود لأؤكّد أنّ حزب الله وحماس لا يمكن أن يرتقيا إلى مستوى حركة تحرّر وطني جدّية، بسبب من انتمائهما المذهبي الصافي، ومن الأيديولوجية الطائفية الخالصة لكلّ منهما. فتجارب التحرير الوطني السابقة بيّنت بما لا يترك مجالاً للشكّ، في نظري، أنّ حركات التحرّر الوطني تتطلّب نسبة عالية من العلمانية المحايدة دينياً وطائفياً وإثنياً، بحيث تكون الحركة حركة لكلّ شعبها تمهيداً لمجتمع ودولة وبلد تكون هي أيضًا لكلّ مواطن من مواطنيها. ولا بدّ من إشارة هنا إلى أنّ غياب هذا العنصر في حالة العراق تحت الاحتلال أدى إلى استحالة قيام حركة تحرر وطني جدية هناك تواجه الاحتلال الأمريكي وتقاومه بجبهة وطنية متّحدة، بل الذي حدث هناك كان خرقاً فظاً وفاضحاً ومتعمّداً من جانب الإسلام الطائفي والمذهبي والتفجيري للحكمة الإستراتيجية والتكتيكية التي راكمتها حركات التحرّر الوطني الناجحة، وحتى غير الناجحة، خلال القرن العشرين، فمال ميزان الأحداث والتطورات هناك ميلاً مفجعاً نحو إشعال الحروب الأهلية والتناحر المذهبي الدموي والقتل الجماعي على الهوية الطائفية.

ثالثاً، آتي الآن إلى الطرف الثالث المنخرط في الصراع الجاري على معنى الإسلام وتعريفه، وأقصد إسلام الطبقات الوسطى والتجارية، إسلام البازار والأسواق المحلية والإقليمية والمعولمة، إسلام غرف التجارة والصناعة والزراعة، إسلام المصارف وبيوتات المال المسماة إسلامية، وإسلام الكثير من رؤوس الأموال الطافية والباحثة بيقظة عالية عن أية فرصة استثمارية سريعة ومجزية في أيّة ناحية من نواحي الكرة الأرضية اليوم. والى الحد الذي تشكل فيه بورجوازيات البلدان الإسلامية عموماً والعربية تحديداً العامود الفقري لمجتمعاتها المدنية، فإن هذا الإسلام الجيد والمفيد “للبيزنس” (Good for Business Islam) يكون هو أيضًا إسلام المجتمع المدني فيها.

إنّه إسلام معتدل ومحافظ، يتمحور حول عمليات البيزنس بأشكالها كافّة، له مصلحة حيوية في الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، وهو بالتأكيد غير مهووس بالمشركين والكفار والمرتدين والمجوس والملحدين والزنادقة والمنافقين والروافض والنواصب وأحفاد القردة والخنازير، أو بالحدود وقانون العقوبات الجسدية. انه إسلام يميل إلى التسامح الواسع في الشأن العام والى التشدد في الشأن الشخصي والفردي والعائلي والخاص. ولذا يجب تمييزه بدقة عن إسلام الحكم المطلق من ناحية، وعن إسلام التكفير والتفجير، من ناحية ثانية.

يعبّر الباحث والمفكر الإسلامي اللبناني الدكتور رضوان السيد عن بعض التفاؤل العربي العام، ولو البسيط، في هذا النوع من الإسلام بعد أن يموضعه في “تلك الفئات الاجتماعية الصاعدة من مجموع الـ250 مليون نسمة في الوطن العربي التي تريد أن تعيش بسلام مع نفسها ومع الآخرين، فالفئات الوسطى التي تشتغل وتعمل… هي التي يمكن أن تنشئ فكراً جديداً، إرهاصاته بدأت. فكرٌ لا يصارع العالم ولا النفس، بل يعيشُ في مصالحه معهما”(1).

أما النموذج الأعلى لإسلام البيزنس هذا، فنجده في حكم حزب العدالة والتنمية لتركيا اليوم وفي طبيعة مشاريعه وإصلاحاته وطموحاته وسياساته الداخلية والخارجية على المستويات كافة. يصف الحزب المذكور عقيدته الأساسية بـ”الديمقراطية المحافظة” في إشارة واقعية جداً منه إلى أن القاعدة الشعبية والانتخابية الواسعة لحكمه موجودة في الأناضول الأوسط وهي المنطقة الصاعدة بسرعة فائقة اقتصادياً وإنتاجيا وتجارياً وعولمياً وبزنسياً في الوقت الحاضر والمحافظة سياسياً واجتماعياً ودينياً في اللحظة ذاتها.

ومن علامات النجاح البارزة التي تسجل لإسلام حزب العدالة والتنمية أن نزعته المحافظة لم تبدّد نفسها – كما جرت العادة – في سطحيات “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في الملبس والمأكل والمشرب والمذهب والمسْبَح والمسلك اليومي للناس، بل اهتمت بحكمة كبيرة بالمحافظة المتأنية على مؤسّسات الدولة التركية الكمالية والعلمانية وعلى دستورها الأساسي كما تطورت ونمت كلها، وكما خدمت المصلحة القومية التركية على امتداد القرن العشرين. ولا يبدو أن هذا النوع من الإسلام سيفرّط للحظة أو يتلاعب بخفّة بمكتسبات حديثة هائلة ومنجزات عصرية نوعية كبيرة حققتها تركيا المعاصرة مثل :

(1) المجتمع المدني التركي المتطوّر والنامي بسرعة كبيرة بمنظماته وتنظيماته وتياراته وقواعد تعامله وقوانينه الضابطة.
(2) المستوى المتقدم الذي بلغه البلد في ممارسة ديمقراطية المواطنين وتطبيق إجراءاتها حتى لو لم يتعدّ ذلك المستوى بعد نسبة الـ60 إلى 70 بالمائة، بدلاً من ديمقراطية الطوائف والمذاهب والعشائر واستفتاءات الحزب الواحد والمحاصصة الفئوية المسبقة الصنع، وما إلى ذلك مما هو معروف جيداً لنا كعرب مما يضغط على حياتنا كل لحظة.
(3) فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بمنسوب عالٍ ومتقدم خاصة بالمقارنة مع أيّ مجتمع قائم آخر ذي أكثرية إسلامية واضحة. ومن المهم التذكير هنا بأن الفصل الكمالي الشهير للدين عن الدولة جاء امتداداً لمبدأ فصل السلطات هذا واستكمالاً له ولتطبيقاته العملية. وما المانع في أن تنطوي علمانية الدولة في بلدان مثل بلداننا على خمس سلطات منفصلة بدلاً من الثلاث المعروفة والمألوفة وهي : السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية، السلطة الرابعة، أي الصحافة المستقلة والإعلام الحرّ، والسلطة الخامسة التي تعنى بشؤون الأديان والمذاهب والطوائف والأوقاف والمزارات وما إلى ذلك من شؤون دينية أخرى ومتنوعة في البلد الواحد.
(4) استقلال القضاء حتى لو لم يصل هذا الاستقلال إلى نسب عالية جداً بعد في تركيا كما ينبغي له أن يفعل.
(5) الحريات العامة وعلى رأسها، طبعاً، حرية الصحافة والإعلام والميديا عموماً وحرية تداول المعلومات والمعارف وتبادلها وحرية الرأي والتعبير والضمير والاحتجاج والمعارضة السلمية.
(6) الإصلاحات التشريعية الكثيرة التي تمّ إنجازها مؤخراً باتجاه التزام تركي أكبر بشرعة حقوق الإنسان الدولية واحترام تركي أفضل لحقوق المواطن والمواطنة داخلياً.
بعبارة أخرى، إنّ ما يعد به الإسلام البيزنسي لحزب العدالة والتنمية هو “المزيد من الإصلاح والتحديث” وليس “الإسلام هو الحل”.(2(
 
(II)
 
واضح إذن أنّ تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية تشكّل في الوقت الحاضر الأنموذج العملي الأفضل والوحيد، على ما يبدو، عن الدور الذي يمكن أن يضطلع به إسلام البزنس هذا في بلد إسلامي محوريّ وكبير يتطوّر بقوّة وبسرعة داخلياً وإقليميا ودولياً. وأريد أن أقدّم فيما يلي بعض الملاحظات عن تأثير هذا الوضع الجديد نسبياً علينا، كعرب أحياء اليوم، علماً بأني لا أنظر، في هذا كله، إلاّ إلى الملامح العامّة والعريضة جداً للتجربة التركية وكما تبدو لي من بعيد، دون الدخول في أية تفاصيل لا أعرفها أصلاً ولا يمكن أن يتكلّم في دقائقها إلا أصحاب الشأن والاختصاص.

ما من مراقب من بعيد إلاّ ووقف حائراً متأمّلاً متفكّراً أمام ما يمكن تسميته بالمفارقة التركية : أي أن يكون البلد الإسلامي الوحيد الذي أعلن علمانية دولته رسمياً منذ البداية، وفصل الدين عن الدولة منذ لحظة التأسيس الأولى، وطوّر ايديولوجية علمانية صريحة ومتماسكة بتطبيقات عملية فعالة على الطريقة الفرنسية، أن يكون هو أيضًا البلد الإسلامي الوحيد الذي أوصل حزب سياسي لا يخفي إسلاميته، لا وبل يفاخر بها، إلى السلطة بصورة ديمقراطية انتخابية سلمية وسَلسلة اعترف العالم أجمع بها وبشرعيتها ونزاهتها وبدون أن تضرب البلد كارثة كبرى كما حدث في الجزائر، مثلاً، أو في بلدان إسلامية أخرى حيث حاول الإسلاميون فيها الإمساك بالسلطة بطريقة أو بأخرى. على سبيل المثال، يتساءل مراقب قدير ومتمرّس مثل الزميل الدكتور علي حرب في لبنان “كيف تمكّن حزب سياسي، ذي خلفية دينية وأصول إسلامية، أن يقود تركيا، بنجاح ملحوظ في نظر العالم، وفي أكثر القضايا والشؤون : في السياسة والتربية كما في الاقتصاد والأمن، سواء على مستوى الداخل أو من حيث العلاقة مع الخارج؟”(3).

تعمقت المفارقة لمّا تبين أن الحزب الإسلامي إياه – بشعبيته الكاسحة وأكثريته الحاكمة وديمقراطيته الناجزة – هو الذي يسعى سعياً استراتيجياً حثيثاً لضمّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي الذي كان الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان قد نعته بـ”النادي المسيحي”، ولمّا تبين، في الوقت ذاته، أنّ الجيش الذي أسّسه أبو الأتراك والحامي التقليدي الصارم لحمى العلمانية التركية ولكمالية الجمهورية التركية هو الذي يبطئ الخطى في مسيرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي العلماني ويعارضها ويصطنع العراقيل في وجهها.

أعتقد أن إسلام البزنس هذا يعرف تماماً من أين تؤكل الكتف سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أي أنه يعرف جيداً أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو حتى الاقتراب منه، سوف يجعل احتمالات رجوع المؤسسة العسكرية إلى عاداتها القديمة في التدخّل الفظّ في شؤون الدولة التركية أضعف بما لا يقاس عمّا كانت عليه في السابق، كما يعرف أيضًا أن هذا الانضمام سوف يجعل، في الوقت ذاته، احتمالات ارتداد أيّة أحزاب تركية ذات صبغة دينية إلى أي نوع من أنواع الأصولية المذهبية أو الحَرْفية الدينية أو النصوصية الإسلامية تتراجع إلى حدود التلاشي تقريباً.

لذا أعتقد كذلك أن مساعدة تركيا على عبور هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة بسلام وبدون انتكاسات مدمِّرة تشكل مصلحة أوروبية وشرق أوسطية حيوية في الوقت الحاضر، كما تشكل مصلحة “إسلامية” كبرى بمعنى أن العالم الإسلامي عموماً (ومعه العالم العربي) بحاجة ماسة إلى نموذج ناجح سياسياً وديمقراطياً وإنتاجيا في بلد إسلامي هام، حتى لو كانت نسبة هذا النجاح لا تتعدى مستوى الـ60 إلى 70 بالمائة، وتركيا هي البلد الوحيد الجاهز والمرشح حالياً للقيام بمثل هذا الدور. وفي هذا كله تفسير للملاحظة القيمة التي أبداها الدكتور علي حرب حول امتناع تركيا حزب العدالة والتنمية المدروس والمتقن عن مواجهة بعض المعارضة الأوروبية لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي بأساليب “التشنج والعدوانية” الرائجة عربياً، أو “بالتهويل بالويل والثبور” وعظائم الأمور مما هو معروف وشائع عندنا، أو باستعادة هوجاء “لثنائية الإسلام والغرب” العدائية مما يبخش الأذن العربية صبحاً ومساءً(4).

وبهذه المناسبة، من المفيد أن نذكر أنه لما كانت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن تعدّ لغزو العراق واحتلاله سنة 2003، رفض البرلمان التركي طلباً أميركيا ملحّاً لاستخدام الأراضي التركية في العمليات الحربية ضدّ العراق. ومعروف أنّ جورج بوش أضطر يومها إلى ابتلاع قرار الرفض هذا (على الرغم من عدوانية بوش المشهورة) والى تعديل الخطط العسكرية على ضوئه لأنّ القرار نابع من برلمان حقيقي – باعتراف جورج بوش نفسه – بلا علامات استفهام حول نزاهة انتخاباته وبلا شكوك في شرعيته التمثيلية وبلا طعن من جانب أحد في ديمقراطية سلطته التشريعية. بالمقابل، هل من حاكم آخر في أيّ بلد إسلامي أو عربي قادر على أن يقول لا كبيرة للرئيس الأمريكي، في لحظة حربية وحرجة وضاغطة مثل تلك اللحظة، استناداً إلى قرار كبير اتّخذه البرلمان في بلده دون أن يصرفه الرئيس الأمريكي مقهقهاً هو وبرلمانه؟

ومن الملفت للنظر كذلك في الوقت الحاضر، أنه عند نشوب خلافات كبيرة وأزمات حادة بين أطراف نظام الحكم التركي الحالي وداخل أجنحته وأجهزته (بما في ذلك المؤسسة العسكرية نفسها) جرى الاحتكام بسرعة إلى المؤسّسات الشرعية المعروفة مثل الدستور والقضاء والبرلمان والمحكمة الدستورية العليا بدلاً من الاحتكام المعهود إلى السيناريوهات الانقلابية والاقتحامات العسكرية الفظة والأساليب المؤامراتية. ولا شك أن الامتحان الأكبر لحزب العدالة والتنمية ولمستوى نضج نظام تركيا الجمهوري العلماني الديمقراطي على العموم سيأتي يوم تتشكل أكثرية انتخابية سياسية جديدة من أحزاب علمانية وشبه علمانية وتتقدم لتتسلم السلطة بصورة ديمقراطية وسلمية وسَلسة من الحزب الحاكم في الوقت الحاضر. وهذا يوم آتٍ لا ريب فيه.

لا شكّ أنّ الدكتور علي حرب أصاب حين شخّص هذا الوضع في تركيا اليوم على النحو التالي:

“في المسألة السياسية، لم يقل أردوغان ورفاقه إن الشورى بديل الديمقراطية، التي هي صيغة غربية مستوردة، كما يقول عندنا الذين أخفقوا في تحديث الشورى أو في تطوير الديمقراطية. بل أقرّ ورفاقه بالعمل ضمن أطر النظام الجمهوري وقوانينه، وانخرطوا في اللعبة الديمقراطية بعقلية تداولية، إشارة إلى اندراجهم في زمنهم وعالمهم. ولذا لم يشنّ أردوغان حملة على الثقافة الغربية الحديثة، ولم يعِد مجتمعه وبلده بالعودة عن مسارات التحديث ومنجزاته، كما يعلن حكام مسلمون في مكان آخر، لأنّ مآل ذلك أن نتخلّى عن كل أسباب العيش وأدواته.”(5(

مع ذلك سيكون من دواعي الغفلة والسطحية في التحليل إسقاط احتمالات النكوص والارتداد كلياً في بلد إسلامي مثل تركيا، كما سيكون من دواعي السذاجة السياسية عدم التيقظ الحاد والكامل لإمكانات حدوثهما لأن الرجوع إلى نوع من أنواع الحكم العسكري أو إلى شكل من أشكال الاستبداد الأصولي الديني الشمولي يبقى إغراءً قائماً وكامناً في منطقتنا خاصة إذا اتخذا صورة ديكتاتورية عسكرية مغلّفة بالتعصّب الديني والتزمت الطائفي والمذهبي. وتزداد الخطورة كلّما تدرج الحكم الحالي في تركيا في محاولاته إخضاع المؤسسة العسكرية إلى قرار الحكم المدني الديمقراطي في البلد مهما كانت هوية ذلك الحكم في أية مرحلة من المراحل القادمة.

على كل حال، أرى، بصورة عامة، في وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة ديمقراطياً وسلمياً، لحظة نضج للتجربة التركية مع الجمهورية الكمالية ومع الدولة العلمانية ومع الآليات الديمقراطية كما تطوّرت ونمت كلها خلال القرن العشرين ومنذ بداياتها المتواضعة والمتردّدة وعبر تحولاتها الصعبة ومراحلها الخطرة. إنها لحظة نضج ليس للعلمانية التركية وآلياتها الديمقراطية فقط (على ضعف الأخيرة سابقاً)، بل ولإسلامها السياسي أيضًا. كما يبدو لي أن اللحظة ذاتها تنطوي على احتمالات جيدة لتجاوز ديمقراطي أرقى لمعاني الكمالية والأتاتوركية الكلاسيكية بعد أن استنفدت تلك المعاني أغراضها التاريخية وحققت أهدافها الأكبر على ارض الواقع.

أقول هذا لأنّ العلمانية قامت على امتداد القرن العشرين بدور حاسم في المجتمع التركي يشبه إلى حدّ كبير الدور الحاسم الذي قامت به الليبرالية في أبرز المجتمعات الأوروبية الغربية حتى الحرب العالمية الأولى. أقصد بهذا التشبيه: تثبيت الجمهورية ومؤسساتها وقيمها. تثبيت الحكم الدستوري حتى في المَلَكيات الوراثية. تثبيت فصل السلطات والدفع به قدماً. تثبيت استقلال القضاء. تثبيت فكرة المواطنة والمواطنية وتوطيد قيمها. تثبيت حقوق المواطن والمواطَنَة والحريات العامة المعروفة. تثبيت عملية التداول السلمي للسلطة حيث تحكم الاكثرية السياسية الانتخابية مع حفظ حق الأقلّية السياسية الخاسرة في اعادة تشكيل نفسها كأكثرية انتخابية جديدة وبحيث لا تعود أية أكثرية قادرة على الاستبداد بنفسها وبشعبها وبمجتمعها، ومن قال إنّ الأكثرية لا تستبد؟ هذه هي الإنجازات الليبرالية التي أُعجب بها أيّما إعجاب رفاعة رافع الطهطاوي (وأحفاده فيما بعد) في باريس، هذا على الرغم من أننا نعرف اليوم مدى التسلّط الطبقي الذي مارسته تلك الليبرالية على المجتمع عموماً ومدى قصور ديمقراطيتها في ذلك الحين ومدى محدودية شعبيتها الانتخابية هي أيضا في تلك الأوقات.

شيء شبيه يقال في إنجازات العلمانية الاتاتوركية التي أعجب بها رجالات السياسة والفكر والأدب والإصلاح في العالم العربي في تلك الحقبة كما عبّر عن ذلك أمير الشعراء في ذلك الزمن أحمد شوقي في بيت شعر شهير ما زال في ذاكرتنا الجماعية إلى اليوم شبّه فيه مصطفى كمال وفتوحاته بخالد بن الوليد بقوله :
الله أكبر كم في الفتح من عجبٍ … يا خالد التركِ جدد خالد العربِ
 
هذا كله، على الرغم مما نعرفه اليوم عن مدى تسلطية تلك العلمانية على المجتمع التركي في البدايات وعن النقص المريع في ديمقراطيتها ومحدودية شعبيتها في تلك الأوقات. من هنا استنتاج الدكتور علي حرب بأن حزب العدالة والتنمية وقادته “هم في النهاية ثمرة النظام الجمهوري العلماني والديمقراطي، أياً كانت شوائبه وأعطاله : ولولاه لم يكونوا في مكانهم الآن، بل في السجن أو المنفى أو القبر، كما هي مصائر الساسة في أكثر دول العالم العربي، على اختلاف اتجاهاتهم”(6).

وأودّ الإشارة هنا إلى أن الزميل الباحث صقر أبو فخر قد لحظ بعض هذه النقاط (مع قسوة أشدّ على علمانية أتاتورك بسبب ديمقراطيتها المفقودة) في دراسته “التحول التركي الكبير: “خرافة العثمانية الجديدة””(7)، منبّهاً إلى أن الديمقراطية بلا علمانية كما العلمانية بلا ديمقراطية لا بدّ أن تؤديا إلى شكل من أشكال الاستبداد الشمولي أو الحكم العسكري ومستنتجاً أن الهند هي “الدولة الكبرى الوحيدة في آسيا التي تمكنت من دمج قيم الديمقراطية بقيم العلمانية في نسق دستوري واحد” في القرن العشرين. ويبدو لي بأنه يجوز لنا القول الآن إنّ تركيا قد نجحت هي أيضًا، مع بدايات القرن الواحد والعشرين، في تحقيق دمج تطوري مشابه لقيم الديمقراطية بقيم العلمانية في نسق دستوري وسياسي واحد ولكن عبر مسار تاريخي متعرّج من نوع آخر تماماً.

أصاب صقر كذلك حين اعتبر أن ما يسمى أحيانا بـ”العثمانية الجديدة” هو اقرب إلى الأسطورة منه إلى الوقائع في الجانب التركي، مؤكداً بأنه إن كان هناك أية “عثمانية” لدى حزب العدالة والتنمية فهي بالتأكيد ليست عثمانية “جغرافية” أو حتى محاولة مباشرة أو غير مباشرة للهيمنة الإقليمية، بل إنها لا تعدو كونها إعادة تموضع تركية سياسية جديدة، ناجحة وفعالة، في مجال إقليمي أوسع من حدود تركيا الحالية، على حد تعبيره.

أما الحنين المعروف به الإسلام السياسي العربي إلى الخلافة والسلطنة والولاية والإمامة والعصر الراشدي وتوقه الحالي المستجد إلى إقامة “فراديس إلهية” على الأرض (على حدّ تعبير الدكتور علي حرب) فهما غائبان كليا عن ما يقال أنه “العثمانية الجديدة” في تركيا اليوم.

في المقلب الآخر، تشكل العثمانية الجديدة في الجانب العربي أسطورة – وفقا لما المسه – ولكن بمعنى آخر للأسطورة، أي بمعنى بروز توجه أيديولوجي (بالمعنى الأسوأ للايدولوجيا) يعمل على تفصيل “الحقيقة” وإعادة تفصيلها على قياس طبيعة اللحظة السياسية الحاضرة في علاقات الأنظمة والحكومات العربية بتركيا حزب العدالة والتنمية وبما يتناسب آنيا معها. بطبيعة الحال، لا علاقة لعملية التفصيل وإعادة التفصيل هذه بحقائق التاريخ أو بوقائع التأريخ كما أنها لا تأبه البتة – بسبب من طبيعتها الأيديولوجية الزائفة – باحتمالات أن تكون اللحظة السياسية التي تُفصل “الحقيقة” على قياسها الآن هي لحظة طارئة أو عابرة أو مؤقتة أو انتهازية مما سيستدعي حتما إعادة للتفصيل مجددا وبأقصى سرعة ممكنه وبمقاسات مغايرة تماما أو معاكسة كليا “للحقيقة” التي كان قد تم تفصيلها قبل قليل.

لذا نشاهد العثمانية الجديدة في الجانب العربي وهي تهرع بحماسة فجائية أصابتها لاستكشاف قبر امرئ القيس عند تلة بالقرب من العاصمة التركية أنقرة بغرض تحويله إلى مزار يجذب السياح والحجاج. كما نشاهدها وقد أخذتها حمية طارئة وعاجلة ومفتعلة إلى اهتمام غير مسبوق بالآداب والفنون والعلوم والثقافة التركية في الوقت الذي كان فيه الانتباه العربي الطبيعي والتلقائي يتمحور، بصورة رئيسية، على الثلاثي: ناظم حكمت وعزيز نسين واورخان باموك بالنسبة للإنتاج الأدبي التركي. ومعروف أن هذا الثلاثي غير مغرم بالعثمانية عموما كما أن العثمانية ذاتها لا تحبه هي بدورها ولا ترحب به.على سبيل المثال، كان الزميل فاضل جتكر قد نقل إلى العربية عن اللغة الأصلية رواية باموك الأولى “جودت بيك وأولاده” (1982) منذ زمن بعيد وقامت وزارة الثقافة في سوريا بنشرها سنة 1989.

لا يمكن للعثمانية الجديدة هذه إلا أن تضع علامات سؤال واستفهام كبيرة جدا على الثورة العربية الكبرى لسنة 1916 وعلى “حقيقتها”، علما بان عملية الاستفهام والسؤال هنا هي من النوع الذي لا يهتم بمسائل التاريخ العربي الحديث ومساءلاته الجدية أو باستفهامات علم التأريخ وأسئلته العلمية المشروعة والمشرعة دوماً. لذا لن نعجب إذا ما غاب الاستفهام الأيديولوجي هذا فجأة عن الوجود او انسحب بعجلة من الساحة أو انقلب إلى عكسه تماما بسرعة فائقة مع تراجع اللحظة السياسية العابرة التي تم تفصيله من اجلها وعلى مقاسها.

لا تكره عثمانيتنا الجديدة هذه جمعية الاتحاد والترقي وقادتها وضباطها، على سبيل المثال، لأنهم اضطهدوا في زمانهم الفكرة العربية ورجالاتها وحاربوهم جميعا أو لأنهم جربوا التتريك في الأراضي العربية التي كان ما يزال لهم سلطة عليها، بل بسبب من علمانية قادة الاتحاد والترقي وقوميتهم وتقدميتهم وتحديثيتهم، أي بسبب من كل ما صنع تركيا اليوم وأوصلها إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر.

ولا نعرف بعد ما الذي ستفعله علامات السؤال والاستفهام التي أخذت ترفعها عثمانيتنا الجديدة هذه بـ”عيد الشهداء” (6 ايار – مايو 1915) و”حقيقته” وبساحات الشهداء التي تخلد ذكراهم في قلب عواصم عربية مثل بيروت ودمشق وماذا يمكن لها أن تفعل بصورة جمال باشا السفاح عربياً، أو بصورة مدحت باشا الملقب بأبي الأحرار وأبي الدستور، في عالم أراد فيه العرب وما زالوا يريدون أن يكونوا أحراراً وأن تكون لهم دساتير محترمة. وستكون على المحك كذلك “حقائق” أدب ممدوح عدوان ولا سيما مسرحيتيه “الغول” و”السفربرلك” وروايته المعروفة “أعدائي”.

في الجدل العربي الدائر حالياً حول هذه المسائل كثيراً ما يعاب على العلمانية التركية بأنها قامت واستمرّت بإرادة سلطوية وليس بإرادة شعبية مُعَبَّر عنها ديمقراطياً. تكمن المشكلة في هذا النقد في سطحيته التاريخية لأنه يتناسى ويهمل كلياً أن تلك العلمانية قامت في اللحظة الكاريزمية المنتصرة والمؤسِّسة للجمهورية التركية وليس بإرادة سلطوية وتسلطية متعالية بالمعنى العادي للعبارة وكما يريد أن يوحي أصحاب المأخذ المذكور.

ولا بأس من التذكير هنا بأن الخلفية التي صنعت تلك اللحظة الاستثنائية كانت انهيار ما تبقى من الدولة العلية الهرمة – أي الموت العنيف لرجل أوروبا المريض – ووقوع الأرض التركية بأكملها تحت الاحتلال الأجنبي، من جهة أولى، ونجاح أتاتورك في قيادة حراك شعبي وعسكري جبار نجح في طرد جيوش الحلفاء بأجمعها من البلاد وفي تطهير أرضها من الاحتلال الأجنبي، من جهة ثانية. أي أن القرارات الكبرى والدراماتيكية لتلك المرحلة مثل: إلغاء الخلافة والسلطنة، إنشاء الجمهورية، فصل الدين عن الدولة، العمل سياسياً بآليات النظام الديمقراطي التمثيلي الانتخابي على محدوديتها، كتابة اللغة التركية بالأحرف اللاتينية بدلاً من الخط العربي وغيرها جاءت كلها بإرادة سلطوية هي ابنة تلك اللحظة الكاريزمية المؤسِّسة والمنتصرة مما يفسر ديمومة تلك القرارات وفاعليتها واستمراريتها وتجذرها وتقبل الإرادة الشعبية لها وإن كان على مضض في كثير من الأحيان ومع ممانعة قوية في أحيان أخرى. كما أنه يجب أن لا ننسى أن تلك القرارات الجذرية والحاسمة لم تهبط من السماء بصورة مفاجئة أو تنبع من إرادة سلطوية تعسفية بدون سابق إنذار، بل شكلت، في الواقع، امتداداً جريئاً وطبيعياً ومنطقياً لمرحلة سابقة مديدة في حياة ما تبقى من الإمبراطورية الهرمة هي مرحلة البيريسترويكا العثمانية التحديثية المعروفة باسم “التنظيمات”. ولما كانت حركة التنظيمات هذه قد فعلت فعلها التحديثي الأقوى والأكبر في مركز الإمبراطورية وليس في أطرافها تمكن المركز التركي من تحرير نفسه – بقيادة مصطفى كمال – من الاحتلال الأجنبي والاستعمار والتجزئة فيما وقعت الأطراف العربية المتبقية فريسة سهلة لهذه الشرور كلها.

على المستوى العربي، لنتصور، على سبيل المثال، الرئيس جمال عبد الناصر في لحظته الكاريزمية المؤسِّسة لقامته ولزعامته الكاسحة، أي لحظة تأميمه قناة السويس وانتصاره سياسياً ودولياً وعالمياً على جيوش العدوان الثلاثي الغازية والمحتلة للأرض المصرية سنة 1956، وكيف كان سيكون تلقي الإرادة الشعبية والجماهيرية العربية يومها لأية قرارات إصلاحية دراماتيكية جريئة وتحررية كان يمكن أن يتخذها، كإرادة وسلطة، في أي شأن من شؤون دنيا مصر والعرب ودينهم في تلك اللحظة الاستثنائية المنتصرة.

أعرف رأياً للزميل الدكتور فهمي جدعان يعيب فيه على الفكرة العلمانية منبتها المسيحي الأقلوي حيث يقول:
“يجب أن نضع هنا الحدود والفوارق والتمايزات، ما بين المفكرين المسلمين، والمفكرين المسيحيين. فالقضية الأساسية التي كانت لدى المفكرين المسيحيين، في تلك الفترة، هي قضية المِلَل والأسس الاجتماعية والسياسية التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع. وعلينا أن نقرّ: بأن المفكرين المسيحيين لم يكونوا مرتاحين لأوضاعهم في الدولة العثمانية، ولم يكونوا أيضًا مرتاحين لمبدأ أن تكون المرجعية الاعتقادية في الدولة مرجعية دينية إسلامية. وبحكم اعتقادهم المسيحي… فإنهم تمثلوا بسهولة القيم الغربية ووجدوا في مسألة فصل الدين عن الدولة… حلاً مثالياً لأوضاعهم الخاصة، ولذلك كانوا يدعون بقوة إلى بناء الدولة على أسس مدنية بحتة”(8).

أما المشكلة في هذا الرأي، الشائع جداً عربياً وإسلامياً، فتكمن في عدم تنبه صاحبه المتعمَّد الى ازدواجية المعايير التي ينطوي عليها، علماً بأننا نحن العرب لا نكلّ ولا نملّ من توجيه تهمة ازدواجية المعايير إلى الغرب والتشنيع عليه بها. فالأقلّية المسلمة في الهند، على سبيل المثال وليس الحصر (وهي ليست قلة قليلة، بل يزيد تعدادها عن 150 مليون نسمة)، هي اكبر متمسك بعلمانية الدولة الهندية وديمقراطيتها الانتخابية وأهم مدافع عنهما واقوي مروّج لهما ولأسسهما المدنية البحت. ولا اعتقد أن تلك الأقلّية يمكن أن ترضى، في يوم من الأيام، بغير ذلك من الأسس لكي تقوم عليها الهند ودولتها سياسياً واجتماعياً وأيديولوجيا في زماننا الحاضر. وباستخدام المنطق ذاته الذي يستعمله د. جدعان في محاصرة الفكرة العلمانية العربية يمكن للقوى الهندوسية الأصولية أيضًا محاصرة الفكرة العلمانية الهندية وتطبيقاتها بادعاءات مشابهة مما سينقلب شراً مؤذياً على الأقلّية المسلمة هناك وعلى السلم الأهلية في البلاد اجمع. كما يمكن لتلك القوى اتهام الأقلّية المسلمة بأنه بسبب من عدم ارتياحها لمبدأ أن تكون المرجعية الاعتقادية في دولتها مرجعية دينية هندوسية أو بوذية أو سيخية فإنها – أي الأقلّية المسلمة – تمثلت بسهولة القيم الغربية ووجدت في مسألة فصل دين الأكثرية الهندية عن الدولة حلاً مثالياً لأوضاعها الخاصة. لذا أقول للدكتور جدعان ومن يأخذون برأيه: يبقى الأفضل في عالم اليوم أن نعامل الناس كما نُحب أن يعاملوننا.
ولنلاحظ أيضًا في هذا السياق أن الأقلّية السنية في العراق اليوم هي التي تجاهر برفضها القاطع للدولة الدينية هناك (دولة ولاية الفقيه أو نائب الإمام) وبدعوتها القوية إلى إرساء دعائم دولة عراقية علمانية مدنية تكون لكل مواطنيها استناداً إلى أولوية المواطنة العراقية المحايدة دينياً وطائفياً ومذهبياً وإلاّ فإن السيناريو الأسوأ هو الذي سيسود في البلد. وكي لا يسود السيناريو الدموي الأسوأ أرجح بأن صناديق الاقتراع في العراق سوف تميل بشكل ملحوظ ومتزايد لصالح الاتجاهات التي تعمل على تعزيز الملامح العلمانية للدولة العراقية الجديدة وعلى دعم طابعها المدني. من هنا تحول شخصية علمائية سنية عراقية مرموقة مثل حارث الضاري إلى داعية قويّ للعلمانية في العراق وللدولة المدنية فيه والى رافض متشدد لفكرة الدولة الدينية – الإسلامية هناك.
 
(III)
 
ترك النضج السياسي والديمقراطي الذي حققه تطور التجربة التركية العلمانية أثراً هاماً وقوياً ومباشراً في العالم العربي وفي قواه السياسية وتياراته الفكرية ونخبه الاجتماعية وفعالياته الاقتصادية. أو على حدّ تعبير الدكتور علي حرب “فقد باتت تجربة هذا الحزب (العدالة والتنمية) في البناء والتحديث مادة للتأمل والتدبر، خاصة من جانب العرب والمسلمين، الذين يهتمون بتحليل أبعادها ودلالاتها لاستخلاص دروسها وعبرها”(9).
 
فاليسار العربي عموماً كان على خصومة عالية مع تركيا أثناء الحرب الباردة ورافض لتوجهاتها الداخلية والخارجية بسبب من (أ) عضويتها في حلف الناتو (الحلف الأطلسي) (ب) تحالفها الوثيق مع الغرب في الحرب الباردة (ج) مناوأتها للاتحاد السوفيتي وللحركات والأفكار الاشتراكية والشيوعية محلياً ودولياً (د) علاقاتها الطيبة بإسرائيل (و) نزاعاتها المائية والحدودية مع دولتين عربيتين مركزيتين هما العراق وسوريا.

بعد انتهاء الحرب الباردة وتراجع الكتلة الأكبر من اليسار العربي – بما في ذلك أحزاب شيوعية كثيرة – إلى خط دفاعه الثاني، أي إلى الخط الذي يعطي الأولوية لبرنامج يلتف حول حقوق الإنسان، المواطنة، الحريات العامة، العلمانية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية والتوزيعية، المحاسبة والمساءلة والدفاع عنها كلها، فقد تغيرت علاقة هذا اليسار جذرياً بكل ما تمثله التجربة التركية وتعنيه ولا سيما بعد استلام حزب العدالة والتنمية السلطة بهذا الشكل السلمي الديمقراطي المبهر وغير المعهود في منطقتنا كلها، وبخاصة بعد الإصلاحات التشريعية التي رعى الحزب إصدارها والتي تلتقي مع أولويات البرنامج المدني الذي تبناه اليسار المذكور وأخذ يدافع عنه ويطالب بوضع بنوده موضع التنفيذ. بعبارة أخرى، إذا أراد هذا اليسار أن يؤشر إلى بلد إسلامي يتحقّق فيه شيء من هذا البرنامج بحدود معقولة أو مقبولة نسبياً لما وجد أفضل من النموذج التركي حالياً.

ومعروف كذلك، أن اليمين العربي الديني بتياره العريض – بما في ذلك الأخوان المسلمين بطبيعة الحال – كان هو أيضًا يكره التجربة التركية كره العماء بسبب من كماليتها المعروفة وعلمانيتها المتقدمة وتصفيتها لمؤسسة الخلافة وتوجهها الغربي – الأوروبي الحداثي على المستوى الاجتماعي بالإضافة إلى علاقاتها القوية بإسرائيل. أما الآن، فإن السؤال الذي يطرحه الإسلام السياسي العربي هذا على نفسه وعلى ضوء ما آلت إليه تجربة الإسلام السياسي التركي في الجمهورية الكمالية العلمانية المحتقرة سابقاً، فيقول: لننظر أين هو الإسلام السياسي التركي اليوم وأين هو الإسلام السياسي العربي اليوم؟ لننظر في ماذا يرفل الإسلام السياسي التركي الآن وفي ماذا يتخبّط الإسلام السياسي العربي في الوقت الحاضر؟

ويعرف كل مراقب ومتابع أن مناقشات نقدية واسعة ومراجعات كبيرة ونزاعات حادة تتفاعل الآن في وسط تيارات الإسلام السياسي العربي في محاولة منه للتعامل مع هذا النوع من الأسئلة والتساؤلات ومع الأزمة الحادة التي خلّفتها. على سبيل المثال، لا أعتقد أن الخطاب الذي انطوى عليه مشروع إصلاح المجتمع والدولة في مصر الذي أطلقه الإخوان المسلمون في القاهرة في شهر آذار-مارس سنة 2004 (تحت عنوان “مبادرة الإخوان المسلمون للإصلاح الشامل في مصر”) كان يمكن ان يكون او أن يصدر بدون ما آلت إليه تجربة الإسلام السياسي التركي المرنة مع الدولة العلمانية ومع الديمقراطية الانتخابية ومع المجتمع المدني في تركيا. تخلى مشروع الإصلاح الشامل في مصر كلياً عن الخطابات والدعوات الإخوانية المعهودة من نوع: “القرآن دستورنا”، “التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية”، “الإسلام هو الحل” وما إليه لصالح خطاب يحاكي بالتفاصيل إجراءات حزب العدالة والتنمية في تركيا ويقلِّد دعواته ومشاريعه وإصلاحاته وسياساته وقيمه حتى أنك تظن للحظة وأنت تقرأ بعض فقرات “مبادرة الإصلاح الشامل” المصرية وكأنك أمام نص منتزع من أحد كتب ديديرو (Diderot) أو مونتسكيو (Montesquieu) دون أن يعني ذلك بأني أصدق كل ما أقرأ.

أما الوسط القومي في العالم العربي فلم يكن يوماً أقل إدانة لتركيا وتجربتها وسياساتها من الطرفين الآخرين المذكورين وللأسباب ذاتها في معظم الأحيان يضاف إليها : (أ) لوم التيارات القومية – وخاصة في سوريا – الاحتلال التركي المتخلف (على حدّ تعبيرها) على حال التأخر الحضاري والعلمي والثقافي والإنتاجي الذي وجد العرب أنفسهم فيه في القرن العشرين؛ (ب) ما تختزنه الذاكرة العربية المحلية من تصورات ومشاعر معادية لحملات التتريك التي أدارها المركز في بدايات القرن الماضي؛ (ج) الاضطهاد الذي تعرضت له الفكرة العربية ورجالاتها في ذلك الحين من جانب الدولة العلية المنهارة (د) النزاعات الإقليمية على الحدود السيادية والسياسية والحقوق المائية التي نجمت كلها عن ما أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى من نتائج إقليمية ودولية.

أما اليوم، فأعتقد أن هذا الموقف القومي العربي السلبي من التجربة التركية عموماً وتاريخاً قد طرأت عليه تبدلات كثيرة في اتجاهات أكثر ايجابية أولا، على ضوء النجاحات البارزة التي تمكنت من تحقيقها الفكرة القومية التركية وخاصة على صعيد خدمة المصالح القومية العليا للأمة والدولة وثانياً، على ضوء الإخفاقات المأساوية التي لازمت الفكرة القومية العربية بالمقابل وخاصة على صعيد خدمة المصالح العليا للأمة كما درجت على رؤيتها الحركات القومية العربية إياها. فهل من درس وعبرة لنا في ذلك كله كعرب أحياء اليوم، لا سيما وأننا ما زلنا هاملت (Hamlet) القرن العشرين وما بعده بامتياز.
 
الهوامش:
(1) علي العميم، “العلمانية والممانعة الإسلامية: محاورات في النهضة والحداثة”، دار الساقي، بيروت، ط 2، 2002، ص 163.
 
(2) علي حرب، “تواطؤ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم”، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008، ص 251.
 
(3) “تواطؤ الأضداد”، مرجع مذكور سابقاً، ص 249.
 
(4) “تواطؤ الأضداد”، مرجع مذكور سابقاً، ص 254.
 
(5) “تواطؤ الأضداد”، مرجع مذكور سابقاً، ص 251.
 
(6) “تواطؤ الأضداد”، مرجع مذكور سابقاً، ص 252.
 
(7) صقر أبو فخر، “التحول التركي الكبير: “خرافة العثمانية الجديدة””، مجلة “معلومات” الصادرة عن جريدة “السفير”، بيروت، عدد 73، كانون الأول- ديسمبر، 2009، ص 148-149.
 
(8) “العلمانية والممانعة الإسلامية”، مرجع مذكور سابقاً، ص 129.
 
(9) “تواطؤ الأضداد”، مرجع مذكور سابقاً، ص 248.
 
 
مايو 2010
 

اقرأ المزيد

حراكُ الأديان: خفوتُ الكونفوشيوسية (2)

 الأشكالَ العامةَ العبادية المظهريةَ للصين القديمة تزدادُ اهتراءً، الكلماتُ المثالية لكونفوشيوس لا تقدر أن تجمل النظام الإقطاعي البشع، وكان الكثيرُ من مشكلات النظام تقعُ فوق رؤوسِ أحد الشباب الثوري وهو ماوتسي تونغ الذي تقدمَ لتغييرِ كل تلك القرون!
تذكر سيرتهُ الحزبيةُ الرسميةُ ما يلي:
(وقد لجأ النظامُ الإقطاعي المتوحش السائد آنذاك إلى الايديولوجيا الأكثر تسلطاً المبنية على تعاليم كونفوشيوس لإيجادِ شرعيته. هذه الايديولوجيا التي تهدفُ قبل كل شيء إلى قمعِ ظهورِ أي فكرة جديدة ودفع الشعب إلى القبول بوضعه، إذ تعتبر أن العائلةَ وكل العلاقات الاجتماعية ينبغي أن تتلاءم مع تراتبٍ دقيق. لكن ماو تسي تونغ كان قد حسم مبكراً مع التقاليد وتمردَ عليها، وهكذا عارضَ الممارسة الكونفوشيوسية التي تتيحُ للآباءِ أن يختاروا الأزواجَ لبناتهم، ليتحولن مذ ذاك إلى إماءٍ لأزواجهن وآبائهم. ومنذ أن كان ماو لم يتجاوز بعد سن الثالثة عشرة، رتب له والدهُ زواجاً بفتاةٍ عمرها تسع عشرة سنة لتعملَ كخادمةٍ له، حتى يصبح هذا الزواج تاماً، لكن ماو رفض نهائياً قرارَ والده.).
هذا الرفض في الواقع لعلاقاتِ الزواج التقليدية كان يعبرُ عن اصطدامٍ عميق مع تلك الأفكار المحافظة التي تجمدت لكونفوشيوس وإيذاناً بدخولِ علاقاتٍ ديمقراطية في الخلية الأولى للمجتمع وهي الأسرة، ثم يجري توسيعها لترفض كل أشكال السلطة الفوقية ثم تتبنى الماركسية لكن من خلال آرائه الخاصة.
نستطيع أن نقولَ إن ثمةَ قشرةً ماركسيةً هنا وتحتها اللب وهو القومية الصينية العريقة، وراح ماو عبر العقود التاليةِ يكيفُ هذه الماركسية المستوردة مع الطموحات القومية للفلاحين الصينيين، وعلى ضوءِ قراراتهِ الحادةِ التسريعية كان يشكلُ التاريخَ المستقلَ الجديدَ للصين. كان هو مركز القرار والدكتاتور القادم، غير القابلِ بوجودِ سلطةٍ أخرى، وعبر القوة الفلاحية العسكرية التي حصلت على الأرض غير الخاصة كان يهدمُ القوى الأخرى بذكاءٍ عسكري كبير.
إن تشكيلَ دولةٍ قومية من دون طبقةٍ برجوازية أمرٌ عسير، وتشكيلها من خلال طبقة فلاحين متخلفة أمر أكثر عسراً، وعبر حرب عصابات ضارية تتويجٌ عنيفٌ لكلِ تلك المغامرات المركبة! لكنها كانت اختزالاً للتاريخ على طريقة روسيا ومن خلال خصوصية قومية.
خلافاً لكونفوشيوس الواسع الأفق المثالي الحالم المتسامح ظهرَ ثوري هائجٌ باسم الشعبِ وكرسَ نظاماً ذا ملكياتٍ عامةٍ وصناعاتٍ شعبيةٍ صغيرة واسعة ذات فقر تقني رهيب، وهو صاحبُ فقرٍ نظري كذلك لأن ما يعمله وفي تصوره هو إزالة للطبقةِ الغنية وإنه يهدمُ البرجوازيةَ(غيرَ الموجودة) بشكلٍ كامل، في حين كان هو المؤسسُ للبرجوازيةِ الحكوميةِ الشمولية القادمةِ بتوسعٍ هائل.
يقود النظامُ الجديدُ إلى تكوين أسرةٍ حديثةٍ بالقوة، وتُنشر ثقافة حديثة، ويتم إبعاد كلي لصيغة الدين الماضوية عبر صياغة دين جديد، معلب: المساواة بين الأجناس والقوميات، إلغاء الذكورة المستبدة، إلغاء هيمنة ملاك الأرض، إطلاق قوى الشعب العاملة الخ هذه كلها شكلت صين جديدة.
هنا نرى ان الهدمَ(الشيوعي) للدين، وهو إجراءاتٌ كاسحة بيروقراطية بمنعِ الدين، على غرارِ إجراءاتِ لينين وستالين، تزيلُ نفسَها بعد عقود، لأن البيروقراطية ليست عقلانية فكرية تحليلية تتغلغل شعبياً، كما أن الديانة الماضوية البعيدة كانت قد اختنقت اجتماعياً في الواقع، ومع تغيير العلاقات الاجتماعية الاستبدادية فإن تلك الصيغ المحافظة الدينية تتبدل.
إن الألحادَ الماوي مثل الإيمان التقليدي هما وجهان لعملةِ الاستبداد، فنظراً لنقصِ الثقافةِ العلمية الديمقراطية لدى الجانبين وعدم حصول تغيير ديمقراطي شعبي طويل تظهرُ نسخٌ عسكرية وطنية وعبر ماو يتم التعجيل الرهيب بمسيرةِ النهضة، وتُقدسُ الشخصيات: كونفوشيوس، بوذا، ماو، أعضاء المكتب السياسي، تاريخ الثورة، الحزب وأدبياته، تُحنطُ ولا تنقد بشكل علمي.
إنها توجد رأسماليةً ذاتَ مستويين: رأسمالية حكومية مسيطرة، ورأسمالية خاصة طالعة من أمها الفاسدة السابقة، لأن الاشتراكيةَ فوق بيئةٍ متخلفةٍ لا تُنتجُ سوى رأسمالية حكومية بيروقراطية متناقضة، ونظراً لضخامةِ السوق البشريةِ الصينية ونشر آليات تعاون دقيقة متطورة بين الرأسماليتين العامة والخاصة، فإن التجربةَ تحققُ تقدماً كبيراً وهي تتجاوزُ ماو وتبسيطاتهِ الاقتصادية والفكرية.
تستردُ الكونفوشيوسية بعضَ جذورِها المتيبسة القديمة، والقيادات الجديدة ما بعد ماو لا تطلقُ حريات الأديان، لكونها يمكن أن تقودَ إلى حراكٍ سياسي فوضوي في بلدٍ هائل ذي قوميات وأديانٍ متعددة، رغم حماية قومية الهان الكبرى للهيكلِ البشري الرهيب. كما أنها تجلبُ بعضَ العاداتِ الغربيةِ الحضارية رغبةً في التحديث، لكنها لا تقدرُ على الانتقالِ للديمقراطية الغربية، فيحدث حراكٌ ديني غامضٌ عبر استعادات النزعات الروحانية القديمة في أمةٍ لا تستطيع أن تنتقلَ للرأسماليةِ الغربيةِ الديمقراطية ببساطةٍ بسببِ أن الطبقتين البرجوازية والعمالية متداخلتين بشكلٍ مركبٍ صعب الانفكاك من دون كوارثٍ اجتماعية، ولهذا فإن ظهورَ الكونفوشيوسية ربما يخففُ من هذا الاحتدام الطبقي الصراعي الداخلي، ومن التفاوتِ الهائلِ والمتصاعدِ بين الأغنياء والفقراء، خاصةً انها تدعو للتضحيةِ والفضائل لكن الأساسَ الاجتماعي الذي ظهرتْ عليه مجدداً هو أساسٌ صراعي متضادٌ كذلك، وهو مفيدٌ بعض الشيء لعدمِ وصولِ الأطرافِ الاجتماعية إلى نزاعاتٍ دموية تسبب فوضى وطنية – عالمية، مع ضرورة رجوع الثقافة السياسية لأساسياتِ الحضارة المتقدمة الحديثة.

صحيفة اخبار الخليج
25 يونيو 2010

اقرأ المزيد