المنشور

الرأسمالياتُ الحكومية العربية في طور الأزمة


تواجه الرأسمالياتُ الحكومية العربية حالات متعددة من الأزمات، وهي كلها تمثلُ حقبة مختلفة عن حقبة الازدهار.
حين كانت تونس في زمن بورقيبة بتعاونه الوثيق مع اتحاد العمال وكأنهم فرعان من شجرة الشعب الواحدة، كان ثمة انسجام وتوافق. وكذلك زمن أحمد بن بللا في الجزائر والطور الأول من حياة الرئيس بومدين، كانت الرأسمالية الحكومية في كل من البلدين في حالة توافق نسبي مع الجمهور.

وهكذا كانت الرأسماليات الحكومية العربية المتعددة في طور التأسيس، وانهمار فائض القيمة على الحكومات، ويلعبُ شكلُ التوزيع لفائض القيمة دوره في تحديد المسارات السياسية والاجتماعية لكل بلد.

وقد مضت البلدان العربية في مسارات عدة في هذا التوزيع، ويتجلى ذلك في طبيعة أملاك وثروات المسئولين أولاً، وطبيعة وأحجام ومستويات الرأسمالية الحكومية ثانياً، وكيفية نشوء الرأسماليات الخاصة المتنفذة في أثناء عمل الرأسماليات الحكومية وطبيعة الرأسمالية الخاصة المستقلة ودورها وأهميتها ثالثاً، ومعيشة وأجور العمال رابعاً.

عندما حاولَ أحمد بن بللا مشاركةَ العمال وجعل مرتبتهم في السلم الاجتماعي تقفز عن التراتبية الطبقية الرسمية المعتمدة من قبل البيروقراطية السياسية العسكرية حدثَ الانقلاب عليه.

عندما حاول بورقيبة ان يقوي البيروقراطية والرأسمالية الخاصة حدث الصراع بينه وبين اتحاد الشغل.

تجري الصراعات والأزمات وتُبنى الايديولوجيات وتتفاقمُ المشكلاتُ بسبب صراع هذه الأطراف الأربعة الرئيسية، أو هذه الحصص الاقتصادية القادمة المتصارعة على أنصبتها من الفيض المالي للإنتاج.

وكلما ظهرت أطرافٌ جديدةٌ احتدمتْ الأزمة. أو كلما ظهرت محاولات لتغيير التوزيع في هذا الفيض تفجر الخلاف.

إن العمال هم آخرُ القوى الاجتماعية في عمليات التوزيع الخاصة بالنظام الرأسمالي الحكومي، في البدء هم الذين ينتجون ويستخرجون الفيض الاقتصادي ثم يذهبُ الفيضُ للوزارات لتحددَ أقسامَه وطرائق توزيعه: رواتب المسئولين ومكافآتهم، وحصص الوزارات والشركات التابعة للدولة، والعلاقات الاقتصادية مع القطاع الخاص، ثم أجور العمال.
بغياب علاقة ديمقراطية تحددها المؤسساتُ المنتخبةُ يحدثُ التداخلُ والاضطرابُ في علاقاتِ هذه القوى الاجتماعية، أو هذه المراكز الكبرى للحياة السياسية الاجتماعية، أقسامٌ من الدولة من مختلف المستويات وبأحجام رأسمالية متنوعة تنشئ فروعاً للاقتصاد الخاص وتمولهُ عن طريق القطاع العام، وينقلب الاهتمام من القطاع العام للقطاع الخاص، ويحدث هذا التخثر في النمو، والإشكاليات المتعددة، حيث يجب ان يقود القطاع العام لا ان يُقاد. ولكن قيادته تتطلب مركزية الدولة وديمقراطيتها وقيادتها للعملية النهضوية لكافة أطراف الإنتاج.

في عمليات الاضطراب والاختلال التي تجري تتغير حصة العمال من الفيض الاقتصادي، وتزدادُ نقصاً بعوامل الاختلال وبعوامل خارجية إضافية، ومنها طبيعة المواد المنتجة وأسعارها في السوق.

في تعملق القطاعين العام والخاص تجري حسابات دقيقة بحيث ان تكون هذه العملقة قادرة على تطوير حياة الجزء الرابع من البناء الاقتصادي وهو العمال، وفي حال عدم وجود مثل هذه الحسابات الدقيقة فإن الشريك يدخلُ في حالات تمرد تبدأ من العقلانية إلى الجنون والفوضى.

ويُلاحظ ذلك في طبيعة الايديولوجيا الدينية كأحد المقاييس في عملية الانتقال هذه.
عندما تحدث علاقات ديمقراطية وعمليات تخطيط وحوارات بين القوى الأربع السابقة الذكر تسود العقلانية السياسية، لكن حين تفلت الأمور، وتتضخم أطراف على حساب أطراف أخرى، تصعد اللاعقلانية ويمكن مراقبتها في تبدل مزاج الجماهير من السلم نحو العنف: مثل كثرة الجرائم الشخصية وغيرها واللامبالاة الاجتماعية الواسعة، وصعود أطراف دينية تعبرُ عن تغيير القسمة والتوزيع الاقتصادي بطرائق ذاتية حادة وكأنها قادرة على تغيير قوانين الاقتصاد والسياسة بالسحر والدجل.

لكن هذه ليست سوى حالات ضرورية مؤقتة، بمعنى إنه في عملية التحول الشاقة التاريخية التي تجري من الرأسمالية الحكومية وهي شكل متخلف شرقي من التطور الاقتصادي السياسي، إلى الرأسمالية الحرة ذات القوانين الاقتصادية الناتجة من داخل البنية الاقتصادية، سوف تحدث صراعات وانهيارات وبناءات، بحيث ان البناء الاقتصادي الحكومي الهائل سيختفي أو تتلاشى أجزاء كبيرة منه، أو يُعادُ تشكيلهُ حسب ضرورات السوق والحاجات الشعبية.

ولهذا فإن القراءات المعمقة والحوارات بين قوى الإنتاج المختلفة وخاصة عبر المؤسسات المنتخبة ستكون لها نتائج فهم العملية الموضوعية وضبطها، وهي التي تجري بنا وضدنا، والخارجة أحيانا عدة عن الإرادات السياسية.

أخبار الخليج 16 يناير 2011

اقرأ المزيد

تفـاهـــــــة ..


كيف نفهم التفاهة بشكل غير تافه؟

إنها ليست لعبة لفظية، بل لعبة فكرية ومفهوم فلسفي. باسكال هو المنظر الفلسفي لفكرة التفاهة، ويعني بها خلط نسق أو مجال أو مستوى بآخر متمايز عنه. يحدد 3 أنساق متمايزة: نسق القلب، ونسق الذهن، ونسق البدن، من يخلط واحداً من هذه الأنساق بآخر يوقع نفسه في التفاهة. مثلاً، المعلّم الذي يطلب من تلاميذه أن يحبوه لأنه أستاذهم الفاضل الذي يمنحهم المعرفة، يوقع نفسه في التفاهة، لأن المعرفة التي يقدمها تختص بمجال الذهن، فهي مسألة فكرية، والحب مسألة تتعلق بالمشاعر والتقبّل، وجعل الأول شرطاً لحدوث الثاني خلطٌ أعوج وتافه. مثال آخر، أن يخلط صاحب مؤسسة تجارية بين عمله الذي يقوم على طلب الربح وبين غاية أخلاقية أخرى تختص بالوطن، كأن يقول مثلاً: إن الهدف من إرساء هذا المشروع التجاري هو خدمة الوطن والمواطن. أو أن مترشحاً للمجلس النيابي يقول: إنني أرشح نفسي استجابة لرغبة الناس في أن أمثلهم. أو أن ناصحاً يقول لمجموعة من الجياع والمحرومين: جوعكم امتحان من الله. أو أن داعية يقول في وصف زلزال أو كارثة بيئية وقعت في مكان ما من الأرض: هذا غضب الله على الفساد والفسق المنتشر في الأرض. هذه نماذج للتفاهات التي لا تخلو منها الخطابات الاجتماعية.

لكن لماذا نعتبرها تفاهة؟ لماذا لا نعتبرها غشاً أو خلطاً أو كذباً؟

هناك سببان. الأول أن باسكال فيما اعتقد أراد أن يستخدم التعبير الأكثر إيجاعاً لإدانة الخلط والغش والكذب. فالتفاهة لا تخلو من أن يداخلها شيء من هذه المفاهيم. والسبب الآخر، أن مفهوم التفاهة يعبر عن السطحية، سطحية الربط بين الأشياء. فالعقل هو عملية ربط وتركيب، وبمقدار ما يكون ربطك محكماً ومقنعاً، يكون عقلك أبعد عن التفاهة. التفاهة هي الوجه الآخر لعدم القدرة على استخدام العقل استخداماً محكماً. نطلق على الشخص الذي يخلو خطابه من فهم عميق لعلاقة الأشياء أو أسبابها: تافه وسطحي، لأنه لم يمسك بالعلاقات الحقيقية والأسباب الحقيقية التي تنتج مشكلات أو ظواهر سياسية واجتماعية تحتاج إلى فهم عميق.

هل الوقوع في التفاهة مقصود ومتعمد دائماً؟

التفاهة ليست بالضرورة خلط متعمد ومقصود. فالمرجعيات الفكرية التي تتحكم في أذهان الأفراد في مجتمع ما أو عند جماعة معينة، لها دور كبير في الانزلاق نحو الخلط. ليس هذا فقط، بل لها دور في تعميم هذا الخلط وتثبيته ونقله من جيل إلى جيل، أي في تداول التفاهة. التداول بما يتضمن من نشر وتثبيت وتعميم ونقل وإضافة، يعمل على إرساء التفاهة وتأصيلها حتى تبدو عبر الزمن وكأنها حقيقة غير قابلة للنقاش. ربط الزلازل والكوارث الطبيعية مثلاً بغضب الله هو خلط نسمعه في كل مرة نشهد فيها حدثاً مشابهاً، الخلط نسمعه متردداً على ألسنة الصغار والكبار والمتعلمين والأميين فضلا عن الدعاة ورجال الدين. مثل هذا الخلط صار أقرب إلى الحقيقة الدينية في ثقافة مجتمعاتنا. ليس هذا فقط، بل إنك حين تحاول فضح سطحيته وكشفها تُتهم أنك غير مؤمن بقدرة الله وحكمه أو أنك راض على الفساد المنشر على الأرض، وهو خلط آخر وتفاهة أخرى، وهكذا نجد أن تداول التفاهة ينتج، عبر تثبيتها، المزيد من التفاهات التي تنبني عليها.

من هم الذين يمارسون التفاهة؟

ليس البسطاء هم من يمارسون التفاهة، فأولئك تفاهتهم ناتجة عن بساطة وعفوية تخصهم ولا تعتدي على الآخرين، بل غالباً لا يترتب عليها إلزام يمارس سلطته على الآخرين. البسطاء أقرب أن يكونوا ضحية لتفاهات الكبار الذين يديرون خطابهم الاجتماعي والسياسي والديني إدارة لا تحترم تمايز المجالات عن بعضها. تحدثنا في المقال السابق عن الزعيم الاسماعيلي حسن الصباح كيف كان يمارس خلطا بين إرساء نفوذه على أتباعه واستثماره الرغبة باسم الجنة. من يمارس التفاهة هم أصحاب السلطة والقوة والنفوذ سواء في المجال السياسي أو الديني أو الاقتصادي أو الاجتماعي. إنهم أصحاب القوة الذين يملكون صناعة الرأي العام والتأثير فيه. يتأثر به أتباعهم في الشارع وفي السوق وفي المنتديات وفي المساجد وفي المآتم وفي الكتب وفي وسائل الاعلام. كثير من التفاهات يثبتها الإعلام والرأي العام العالمي عبر ما يعيده ويجتره علينا بشكل يومي ليل نهار حتى لا نعود نميز الخلط الذي فيه ويبدو وكأنه ينطلق من نسق واحد.

ما علاقة التفاهة بالاستبداد؟

العلاقة بينهما هي الطغيان. ممارسة التفاهة على سدة السلطة استبداد محصلته الطغيان. الطاغية يخلط بين القوة والمحبة والطاعة. فهو حين يمسك بالسلطة ومقاليد الدولة يريد من الجميع أن يحبه ويثق به ويواليه ويطيعه لأنه الأقوى الذي يمتلك السيادة السياسية. القوة لديه هي الرابط الذي يقتضي أن يقابل بالحب والطاعة وخروج المسيرات ورفع الصور والأعلام التي تنصبه محبوباً للجماهير وأسيراً لقلوبها.

القانون لا يسلم من سيطرة الطاغية الذي يسخره بقوته، فيخلط بين قوة القانون وقانون القوة، أي قوة تسلطه هو على القانون، والتفاهة الكبرى التي يمارسها تتحق حين يخرج طغيانه استخراجاً قانونياً، فيصير القانون الذي مجاله العدالة مخلوطاً بالطغيان الذي مجاله الاستبداد.

ولعل قصة الحاكم الذي جعل جميع وزرائه ورعيته يصدقون أنه يلبس أجمل وأفخم الثياب في الوقت الذي كان عارياً، هو نوع من تفاهة القوة التي تخلط بين القوة والحقيقة، وتمنعك أن ترى بعينك أو تدرك بحواسك غير ما توهمك به القوة أو خاصة القوة أو حاشية القوة، ولم يفضح هذه التفاهة غير طفل مازال يحتفظ بفطرته المتحررة من داء تفاهة الكبار.
 

الأيام 16 يناير 2011

اقرأ المزيد

نبوءة أبي القاسم الشابي


مَن من العرب لا يحفظ عن ظهر قلب بيتي الشعر الشهيرين في قصيدة الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي: «ارادة الحياة»، اللذان يبدآن بالجملة الخالدة: إذا الشعب يوما أراد الحياة، وبالمناسبة فان هذين البيتين غديا جزءًا من النشيد الوطني التونسي الذي وضع بعد الاستقلال.

هل كانت المصادفة وحدها وراء كون أبي القاسم الشابي تونسياً، هل كان يهجس في قصيدته تلك بالوعود التي تنتظر بلاده الرائعة تونس، أم أن كان يبذر نبتة الأمل لا في قلوب التونسيين وحدهم، وانما في قلوب كل الشعوب بأن ارادة الشعب لا يمكن أن تنهزم.

لا يحضرني الآن أين قرأت عن نتائج استطلاع قامت به إحدى الوسائل الاعلامية، لعلها إذاعة او صحيفة، حول لأيهما الأولوية عند المواطن العربي: أللخبز أم للحرية؟

الاستطلاع شمل مجتمعات عربية متفاوتة من حيث المستوى المعيشي، فتفاوتت الردود بين افراد المجتمعات التي تعاني اكثر من غيرها من الضوائق الحياتية، وبين افراد المجتمعات التي تنعم بمستوى معيشي معقول.

ففيما مال أفراد الفئة الأولى للتأكيد على أهمية لقمة العيش، باعتبارها الحاجة الأكثر إلحاحاً، أظهر أفراد الفئة الثانية ميلاً أكبر للمطالبة بالحرية والمشاركة السياسية، مع أن الجميع اتفقوا على أهمية الأمرين معاً: الرغيف والحرية، بل أن بعضهم ذهب الى القول انهما متلازمان، فلا معنى للحرية مع الفقر، ولا معنى للغنى دون حرية.

انتفاضة تونس تدفع بنقاشٍ مثل هذا الى الصدارة، فالمواطن العربي الذي رُوض طويلاً على الصبر، لا يخرج الى الشارع محتجاً الا تحت ضغط الحاجة القاهرة، حين تعييه السُبل عن تأمين لقمة عيشه، ويشعر بأن كافة الأبواب قد سُدت في وجهه، فلا يجد بداً من أن يخرج مطالباً برغيف الخبز له ولأطفاله.

المواطن لا يخرج الى الشارع شاهراً قبضته صارخاً بأعلى صوته الا حين لا يجد ما يأكله، والا فما الذي يحمل مواطناً بسيطاً مثل الشهيد التونسي محمد البوعزيزي على أن يُحرق نفسه احتجاجاً على الجوع والبطالة منذ نحو شهر في مدينة سيدي بوزيد؟

فجذوة الرفض حتى وإن توارى لهبها، تبدو عصية على الانطفاء، لأن ما في هذا العالم الجائر من مظالم كفيل بإشعال أوارها من جديد، وربما بقوة غير مسبوقة، والاستخفاف بمصالح الناس، وأرزاقها، والامعان في الاستحواذ على الثروات، وحرمان مستحقيها منها، لا يمكن أن ينجم عنه الاستقرار والرخاء، اللذان لا يمكن تأمينهما الا عبر تكريس ثقافة وسلوك المساءلة التي يلزمها الحرية التي تصونها، فيضمن من يقوم بالمساءلة انه سيعود الى بيته سالماً ينام قرير العين.

وفي عالم اليوم فان المساءلة المقصودة لا تتأمن الا من خلال سلطات رقابية مسموعة الكلمة، مثل البرلمانات ذات الصلاحية ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والصحافة المستقلة، فلا يمكن النظر إلى الفقر الا بوصفه مضاداً للديمقراطية، فلا يمكن لهامش من الحريات العامة، على أهمية ذلك، أن يغني عن الديمقراطية الاجتماعية، أي ديمقراطية العدالة في توزيع الثروات.

والسبيل الى ذلك واضح: الإصغاء الى أصوات الناس الموجوعة وهي لا تطالب بأكثر من لقمة عيش كريمة، تأمينها ليس مستحيلاً، لو أعيد النظر في الطريقة التي توزع بها الثروات وتدار بها أمور الأوطان.
 

اقرأ المزيد

تونس الجميلة


شعب هادئ بسيط رقيق مسالم جداً، دفعته سياسات ليبرالية طويلة الأمد منذ الحبيب بورقيبة إلى أن يصير متحضراً، وهو في فقرهِ وعوزه الشديدين.

تقلصتْ الزراعة وبدا أن المدنَ تمتلئ بالشغيلة الفقراء، وحين تدخل أزقةَ العاصمة تونس ترى العمال أشباه هياكل عظمية صلبة، وبملابس قاسية عتيقة، يملأون المقاهي والحانات بزحام شديد، حيث المشروبات والأكلات الرخيصة.

عاصمة عمالية بامتياز، قلدتْ باريس من دون ثرائها ومستعمراتها وأريافها الغنية، والمدن التونسية الأخرى المتعددة التي تبدأ من الجنوب الأكثر ريفية وخضرة وحشداً لأشجار الزيتون في الأراضي الواسعة الخلاء حتى بنزرت في الشمال حيث يتعملق الحديدُ وتظهرُ البواخر والآلات، هي مدن كادحين أيضاً، ومن الواضح أن الطبقة العاملة سادت في هذا البلد بتوسع، وهذه الأغلبية العمالية تجد آثارها في انتشار الأحزاب اليسارية.
حتى الحزب الدستوري الحاكم قاربَ الاشتراكيةَ يوماً ما وطرح وجهات نظر اجتماعية ديمقراطية مقاربة للاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين في السابق، وقد تداخل مع اتحاد الشغل التونسي النقابة القوية المهيمنة، التي هي حكومة ظل في الواقع، أُبعدت أكثر فأكثر عن مراكز القرار وهذا نقطة ضعف كبيرة في الديمقراطية الاجتماعية التونسية، مع تزايد الانقسام الاجتماعي بين من يملكون ومن يعملون.

الحزب الدستوري من أقدم الأحزاب الحديثة في العالم، وهو بعراقته وإصلاحيته المتدرجة الطويلة النفس حدّث تونس، لكن الانهيار الأخير يعود لانقطاع هذه العقلية الإصلاحية وتحكم أجهزة السلطة والأمن في هذا الحزب، لكن لن يزول رغم حرق بعض مقراته بشكل غريب ومعاد.

كانت ثمة احتمالات للمقاربة بين الرأسمالية الحكومية والنقابات العمالية في زمن بورقيبة لكن هذا التقارب تلاشى واتسعت الهوة: أقليةٌ تتوجه لجمع الثروات بقوة وتحجم الأجورَ وتجمدها لسنوات، وتؤدي الأجور دور شراء الحاجيات الضرورية الزراعية وإبقاء الهياكل العظمية للكادحين، وجاء العهد الجديد بنظام يفتقد الحركة والمبادرات والحيوية عموماً، وتفجرت الخلافات بين الموقعين المتباعدين، موقع يوسع دخوله وموقع تتجمد الأجور فيه.

في الصورةِ التي عُرضتْ لانتحارِ البوعزيزي البائع المتجول مشهدٌ لشاب يحترق بضراوةٍ بين نيران مشتعلة في جسده وهو ينظر بتحدٍ وكبرياء! كأنه يقول أنا أموت وأهددكم معي!
الصورة تثير بقوة أي مشاعر، صورة لم يَسبقْ أن ظهرتْ في التاريخ: موجعة صادمة مفجرة لبلد بكامله!
صورة ربما عكست تناقضات تونس الشعبية البسيطة كافة: بائع متجول يتعرضُ للإهانة من شرطية، ثم تتستر الدوائرُ الرسمية عن شكواه وتقف مع الشرطية التي ضربته.
قضيةٌ شديدة البساطة، لكنها تعكس الهوة التي نشأت بين من يحكمون ومن يشتغلون.
إدارةٌ انفصلت وقيدت الشعب وحجزته في عيش منهك وسيطرة شمولية، وجاءت ردود فعلها على التظاهرات مثل عنف المتظاهرين عليها، كلٌ منهما في حالة رد فعل عنيف تجاه الآخر، والآن حين سمحت الحكومة بالتظاهر السلمي لم تحدث ردود حادة.

تمثل تونس حالة استقطابية اجتماعية بين رأسمالية حكومية ضيقة القواعد الاجتماعية وفي بلد محدود الموارد وأغلبية شعبية عمالية فقيرة، وقد تقلصت الفئات الوسطى بينهما، وتعرضت لصدامهما الحاد.
لن يخفت الصراع لكن البلد يحتاج إلى تهدئة كبيرة ومراجعات سياسية تخفف من هذا الاستقطاب المزمن.
نرجو أن تبقى تونس بجمالها، بشعبها الطيب، بنضالها الديمقراطي التحديثي العريق.

أخبار الخليج 16 يناير 2011

اقرأ المزيد

تبهرنا الكلمات الكبيرة !!


لفت انتباهي ما تم «تدشينه» وتشييده كمعمار ثقافي احتجاجي جديد في جمعية التجديد الثقافية حول إشهار جماعة تحت اسم «تحالف مفكرين ضد التزوير» والمتأمل في كل أبعاد تلك العملية سيجد الجامع الشامل للمختلف المؤتلف، وسيقول بعدها سبحان الله، أولا سبحان الله للتسمية، إذ لم يتواضع أصحابها ويقبلوا بتسمية اسمهم مثقفين أو أي اسم ما، عدا «مفكرون» التي باتت اسطوانة مكررة ومفردة أساءوا استخدامها كثيرا فبات المفكرون في العالم العربي يفوقون العامة عددا وعدة، في وقت فيه المفكر في مجتمعات متحضرة لا يتم تسميته بتلك السهولة التي يتحمس الناس لترويجها بل ويتقبلها الآخرون من الناس لكونها تضيف لهم هالة مجتمعية إضافية مثلها مثل كثير من أنواع الوجاهة الاجتماعية كنوعية السيارات والفلل والأمكنة والأرصدة الأخرى .
 
قد لا نلوم بساطة الناس في حماسهم وقد نراها تنتفخ وتتضخم حتى يشعر أصحابها بعد التسميات إنهم فعلا صاروا مفكرين بين ليلة وضحاها، بل ولم يكتفوا بشهادات عليا والتي هي حصيلة علمية ومعرفية يتم اجتيازها بشكل متعارف عليه، وإن وجدنا لاحقا في السنوات الأخيرة دخلت على الخط كثرة الشهادات الفخرية الممنوحة مثلها مثل جوائز صارت توزع دون اعتبارات ومعايير سليمة ومحددة لا تفسدها الواسطة والعلاقات الخلفية التي تحدد الأسماء قبل لحظة إعلانها.
 
وبما أن التواضع أكثر جاذبية للناس، وبما إن مشروع التزوير التاريخي قضية مهمة كموضوع حديثنا – فان توسيع رقعة المحتجين والمنضوين تحت لواء هذه الجماعة من الضروري أن تكون واسعة النطاق بدلا من حصرها في مساحة « المفكرين !! إذ ليس الموضوع ورنته وجزالة صوته في هذا الجانب من البرستيج العالمي محليا وعربيا، إذ بالتسمية هذه وحدها يحيا هؤلاء على ضفاف الدعاية الاجتماعية والفكرية حقا.
 
حاولت تفحص الأسماء كمبادرين مشكورين، لكونهم صاروا هم من سيدقون نعش التزوير المحاط بالتاريخ، وإن كان البعض في نفسه حاجة يعقوب، فلكل شخص واتجاه مبتغاه في فهمه للمعنى الدقيق للتزوير والاعتراف بتحديد هذا التعريف، لكي لا يتم بعد ذلك ترحيله لقضايا أخرى وموضوعات معينة خارج نطاق المشروع المحدد. للقومي دوافعه وللديني دوافعه ولكل منهم منطلقاته، ولكن كل ما نخشاه هو انتفاخ هذا التجمع من مفكرين كثر وسدنة معبد أكثر من المفكرين أنفسهم تحت مظلة هكذا تجمع، إذ ما الذي سيبحث فيه المفكرون؟! البعد التاريخي للتعريفات الاثنية للشعوب في المنطقة في مراحل تاريخية عتيقة؟ الاختلاف مع حقيقة أن اليهود كتكوين إنساني واثني نبعوا من هذه المنطقة أو خارجها، فربما يذكروننا الأخوة بما قاله كمال الصليبي عن أن اليهود خرجوا من الجزيرة العربية حتى وصلوا إلى فلسطين السليبة، فأثارت تلك الأطروحة غبارا وتم الصمت عنها عمدا، فلا احد بإمكانه مسك إسرائيل بعدها بالادعاء عن مواطن كثر في جغرافية هذه المنطقة، وستصبح كل المساحات والأتربة والمعمار ملكية تاريخية لليهود! هل سيهتم الأخوة المفكرون بموضوع النصوص التوراتية التي تم تحريفها حسب ادعائهم أم سيهتمون بالحركة الصهيونية كنتاج فكري قومي تاريخي له محددات أخرى وظروف مغايرة دفعت لبروزها وتطورها حتى لحظة الإعلان عن تقسيم فلسطين! هل سيصبح المفكرون قوة جديدة إضافية للسائد في المنطقة على المستوى الاركيولوجي، فالأحجار بالإمكان تزييف المنطق حولها ولكن الأشعة ما فوق الحمراء و الحقائق التاريخية الدامغة مثار نقاش مستمر عند المختصين في هذا الجانب وبين المهتمين لوقائع تاريخية متحركة باستمرار تنسفها دوما الكشوفات الأثرية.
 
ما نخشاه ليس أن يكون التجمع شرعيا أو غير شرعي مؤثرا أو غير مؤثر، يدافع عن الحق أو يزايد عليه، يوظفه لغاية في نفس يعقوب أو خلاف ذلك، وإنما الخوف من اختلاط الأوراق التاريخية وزرع بذور الكراهية إزاء الكتب المقدسة للديانات الأخرى وترويج روح الكراهية للشعوب وديانتها، لكون ان هناك حركة صهيونية داخل تربة واسعة اسمها التاريخ والسياسة والاثنيات والثقافات المتلاطمة.

ومن الضروري أن تحصر تلك الجماعات أو المجموعات نفسها في إطار محدد؟ من هي تلك الجماعات التي تود هذه المجموعة فضح تزويرها؟ هل التجمع موجه لفضح أي نوع من التزوير في التاريخ؟ الأنظمة السياسية على سبيل المثال؟ الأفكار والقيم الدينية التي تم تزويرها وإلا لما نشبت خلافات واختلافات في بنية تلك المجتمعات؟
 
فإذا كان النص التوراتي مصدر ذلك الحوار وانعكاساته على الواقع العربي الفلسطيني والدولة العبرية فإننا بهذا التشكيل نؤسس لمشروع يحفر بشكل معاكس ومضاد لمشروع السلام والتعايش، ويؤكد بعدم جدوى التصالح التاريخي بروح متوترة وعدوانية واستعلائية من الجانبين. من سيرفعون لواء مكافحة التزوير عليهم تحديد طبيعة البحيرة التي سيعومون فيها، وإلا غرقوا فيما لو دخلوا محيطا واسعا من التزوير في التاريخ، إذ ليس اليهود وحدهم من مارسوا هذا التزوير، إذ هناك مناطق جغرافية واسعة لم يتدخل فيها اليهود لا من بعيد ولا من قريب، اللهم أنهم صاروا دوما شماعة لكل مصائبنا الداخلية والنابعة من صلب مكوناتنا الثقافية والمجتمعية والدينية. نبارك التجمع كلما تواضع بتغيير تسميته المضخمة ونبارك لهم روح التفهم للتاريخ والابتعاد عن الوقوع في شرك الكراهية بوعي أو دون وعي، فقد سبقتهم منظمات بدأت بنفس الروح وانتهت بضياع البوصلة والأهداف ودخلت إلى نفق العدوانية الأسود، فصرنا نحن والآخر على مستوى واحد من العصبيات. ما يمنعنا دائما الانخراط في تجمعات حماسية مستعجلة تلك الأوراق المختلطة والعناوين المضخمة فهي تذكرنا بوجوه قديمة خاطت وباضت في قبرص، وتغدت وتعشت على موائد فواتير الأنظمة والبارودة الثورية للإخوة الفلسطينيين وإعلامهم في الجزيرة بعد خروجهم المنكسر في بيروت.
 
الأيام  16 يناير 2011
 

اقرأ المزيد

الموت بسيف التقاعد…!


للمواطن البحريني ، الذي يعمل في القطاعين ، العام والخاص ،حقوق مكتسبة ، بحكم القانون ، الصادر بهذا الخصوص ، والمنظم لتلكم الحقوق ، التي تم الحصول عليها ، بعد خوض النضالات السلمية المختلفة وعلى كافة الأصعدة ، ودفع أكلاف باهضة الأثمان ، تمثلت بالعذابات والتجويع والمطاردة والسجون والمنافي ، التي عانى ويلاتها المناضلون ، من العمال النقابيين وأنصار المطالب العادلة ، وهذه الحقوق بالمناسبة ، ليست فضلاً أو هبة من أي أحد على الإطلاق ، لأنها تؤخذ غلاباً ولا تعطى .

وفي الوقت الذي ينتظر فيه ذلك المواطن المنكود، بفارغ الصبر، وبعد سنين عجاف طوال، الحصول على بعض  الحقوق القانونية التي كفلها نظام توحيد المزايا التقاعدية، في القطاعين الخاص والعام، والذي وتعهدت بتطبيقه السلطة التنفيذية، بعد مخاض عسير جداً، وبعد نقاشات مستفيضة  بهذا الخصوص ،أعقبت فضائح الفساد الإداري والمالي في التقاعد والتأمينات  ، في هذا الوقت تباغتنا الحكومة ، بالتنصل من الإلتزام القانوني بذلك التنفيذ، متذرعة بضغوط الميزانية ، جراء الأزمة المالية الخانقة ، التي يعاني منها إقتصاد السوق عالميا، وهي ذات الأزمة التي أنكر المسئولون ، وبإصرار ، عدم تعرض اقتصادنا لأية مشاكل من جرّائها، طبعاً لا ندري كيف ، وها هي مؤشرات بعض التداعيات ، المباشرة وغير المباشرة ، تطل برؤوسها المتعددة ، وتنتظر الحلول.
 
لقد عالجت صحفنا المحلية ، بعض بوادر الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها وطنياً ،وكذلك نتائج تقرير ديوان الرقابة  المالية والإدارية للعام 2009،الذي كشف بعض مستور الفساد والتلاعب وهدر المال العام ، وأدلى ذوو الإختصاص بآرائهم حولها ، مطالبين – كلٌّ حسب اجتهاده – بوضع الحلول الآنية والخطط الإستراتيجية ، بتدخلّ الدولة ، من خلال  إنتهاج سياسة نظام السوق الإجتماعي ، وحصر الدعم بالمواطنين المحتاجين ، للخروج من الأزمة ، تفادياً لانعكاساتها المؤلمة على أوسع الشرائح المجتمعية في وطننا الغالي.
 
من جملة الكتاّب الذين تناولوا شأن هذه الأزمة ، كان الدكتور حسن مدن ، الأمين العام للمنبر الديمقراطي التقدمي ، حيث نشر في جريدة “ألأيام ” البحرينية ، في عددها المرقم 7931 بتاريخ 27 ديسمبر 2010 م ، مقالاً بعنوان: ” من الوظيفة إلى القبر مباشرة “، جاء فيه ( أبلغ تعبير ، وأكثرها مدعاة للأسى ، نسمعه تعليقا على ما نسب للمسؤولين في الهيئة العامة للتقاعد الإجتماعي عن النيةً في رفع سن التقاعد من ستين عاماً إلى خمسة وستين عاماً، أي إنهم قرروا إرسال المواطنين مباشرة من أعمالهم إلى قبورهم….وهذا ما تدل عليه المؤشرات الرقمية عن متوسط الأعمار في البحرين والتي بالكاد لا تتجاوز السبعين إلا قليلاً ، وفق احدث إحصائية تعود إلى سنوات خلت…. غريب أمرنا في هذا البلد ،….فإن أول ما يخطر في أذهان القائمين على حل الأمور هو التوجه نحو مكتسبات الناس “.
 
وكتب آخرون عن تآكل قيمة العملة وقوتها الشرائية ، لارتباطها الإقتصادي العضوي بالدولار الإمريكي ، الذي يتم طبع المليارات منه دونما غطاء، فيتناقص أمام سلّة العملات العالمية ، التي تستورد من مناشئها مختلف المواد.  
لقد كتب الإقتصاديون وذوي الشأن والمهتمّون بالأوضاع الإقتصادية والاجتماعية وغيرها ، العديد من المقالات وضربوا الكثير من الأمثلة المقلقة حقاً ، عند تناولهم غول الغلاء الفاحش وارتفاع أسعار المواد المعيشية الضرورية .
 
الأدهى والأكثر إيلاماًً واستفزازاً لمشاعر الغالبية العظمى من أبناء شعبنا ، هو إقرار قانون تقاعد السادة النواب ، إذ تشير هذه المهزلة ، وبشكل واضح فاضح ، على مدى التناقض الصارخ بين امتيازات الأقلية وبؤس الأكثرية ، فبالله عليكم كيف تستقيم حياة البذخ والإسراف والتمييز مع ما يعيشه المواطن من شظف العيش والحرمان ؟
 
على السادة النواب ، واجب حتمي ، للقيام بأداء وظيفتهم القانونية ، بالرقابة والتشريع ، لوضع حدّ مباشر وفوري للفساد المالي والإداري، بمعاقبة المفسدين والمقصّرين، لحماية المال العام وحقوق المواطنين، حتى ولو أكد معالي وزير المالية المحترم، بأن الحكومة الموقرة، ليست في وارد تمديد فترة الخدمة إلى خمسة وستين عاماً. 
 
إما المتاجرة بالإصرار على وجوب إقرار علاوة الغلاء من قبل السادة النواب، كشرط لقبولهم بتمرير إقرار الموازنة، فهو ضحك فاشل على الذقون ليس إلا، إذ يعرف الجميع، أن هذه العلاوة البائسة لا تغني ولا تسمن من جوع، حيث زيادة الأسعار الفاحشة شملت كل المواد المعيشية الأساسية، فأصبحت هذه العلاوة ذات الخمسين دينار بحريني، لا تساوي فارق الأسعار قبل موجة الغلاء الأخيرة .

كتب الصحفي الأستاذ خالد القشطيني ، في جريدة “الشرق الأوسط”بعددها المرقم 11580بتاريخ 12 أغسطس 2010 مقالاً بعنوان ” القبور الضاحكة ” ورد فيه “…أستمتع بزيارة المقابر الأجنبية، فكثيراً ما تكون آية من آيات الجمال  والفن …يظهر أن الشاعر العراقي الأستاذ حسن جبر شاركني بهذا الهوس في المقابر .لاحظ أثناء طوافه بمقبرة… قبراً كتبوا عليه ” هنا يرقد جون هكسلي . ولد عام 1925 . وتوفي عام 1980 عن عمر يناهز عشرة أيام “إستغرب من الأمر فتساءل . قالوا له “…نحسب عمر الإنسان بالأيام السعيدة التي عاشها” عاد للبيت فقال لزوجته :” عيني أم سعد ، إذا متّ فاكتبوا على قبري”هنا يرقد حسن جبر من بطن أمه للقبر”.


ألا ترون معي أن هذه التراجيديا السوداء، المضحكة المبكية، تنطبق علينا ؟



إضــــــــاءة

 
يـا خـِيــرة َالشـعــب ِالـكِـثــارْ          أصـغــوا لـواعـيــة ِالـمَـسـارْ
وتــنــكـــبــــوا درب َالأســى           وتــعـــاهــدوا حـلـم َالـنـهـارْ
إن الــنــضــــال َســعـــــــادةٌ           إن الـتـعــاســةً َفــي الـفـرارْ
فـخــذوا الحـقــــوق َوغـالـبوا           بـالسـلـم ِتــزدهــرُ الــديــــارْ
  
 

اقرأ المزيد

تفريغ العالم العربي من مسيحييه


كيف يمكن قراءة التاريخ الثقافي والسياسي العربي الحديث دون التوقف ملياً أمام الدور الريادي الذي لعبه أخوتنا المسيحيون في مجالات عدة في التأسيس لمشاريع ثقافية وفكرية وسياسية وحضارية مهمة.

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر غامر أخوان من مسيحيي لبنان المتعلمين هما بشارة وسليم تقلا بإصدار صحيفة «الأهرام» في الإسكندرية، التي هاجرا إليها من بلدهما لبنان، لتصبح هذه الصحيفة واحدة من أهم الصحف العربية وأكثرها شهرة لا في مصر وحدها، وانما في العالم العربي كله حتى يومنا هذا.

كيف يمكن التوقف أمام تاريخ المشروع النهضوي العربي دون النظر الجاد في مساهمات شيلي شميل وفرح أنطون، بل كيف يمكن التوقف عند الدراسات المتصلة بالتاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية دون مطالعة ما كتبه البحاثة المسيحيون العرب حولها، على نحو ما فعل الفلسطيني إميل توما مثلاً.

كيف يمكن النظر إلى الجهد الفكري والنقدي المنسوب إلى العرب دون تذكر ادوارد سعيد، والمنجز الروائي دون التوقف عند إميل حبيبي، وأخشى أن استطرد فلا يتسع المقام هنا إلا لبعض الأسماء، وما فاتنا أكثر بكثير.

من وجهة نظر قومية عربية، فإن المسيحيين العرب هم مكوّن أصيل راسخ من مكونات هذه الأمة، وهم إلى ذلك كانوا وظلوا من حملة مشروع النهضة والحداثة والتنمية في مجتمعاتنا العربية التي تواجدوا فيها، في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق ومصر وغيرها.

ولو ألقينا نظرة على تاريخنا القريب لوجدنا أن الكثير من قادة ومناضلي الحركات والأحزاب السياسية القومية والوطنية العربية التي ناضلت ضد الاستعمار والصهيونية ومن أجل الاستقلال الوطني والوحدة العربية والنهضة هم من المسيحيين، الذين تجاوزوا الانحيازات المذهبية، وناضلوا في سبيل صوغ وبلورة الهوية القومية والمجتمعية الجامعة الموحدة.

في ظروف اليوم تنطلق الغرائز المذهبية والعرقية من عقالها، وتفرض صراعات دامية شوهت بنية مجتمعاتنا، وأعملت سكاكينها في النسيج الوطني لهذه المجتمعات، لتردها إلى جاهليتها الأولى: مذاهب وقبائل وملل تتنازع في ما بينها.

ويبدو المسيحيون العرب هدفاً للقوى المتطرفة التي تسيء للإسلام، من حيث استخدامها اسمه في ما تقترفه من آثام بحق الأبرياء من أخوتنا المسيحيين، على نحو ما حدث للمصلين في كنيسة سيدة النجاة في بغداد التي أزهقت فيها أرواح العشرات، إمعاناً من الجناة في ضرب صورة العراق المتسامح الذي كان، حيث أنتج انصهار مكوناته الدينية والإثنية في نسيج واحد الديناميكية التي طبعت حياته السياسية والثقافية والإبداعية، ونمط المعيش الاجتماعي فيه.

ولا تنجو من هذا الإرهاب الطائفي المعادي للحضارة بلد مثل مصر المجتمع الأكثر رسوخاً واستقراراً عبر التاريخ، التي قدمت المثل الأوضح في التعايش بين المكونات المختلفة، وهي البلد الذي امتلك قدرة مدهشة على دمج هذه المكونات في بوتقة وطنية متماسكة وخلاقة.

الجرائم التي تستهدف المسيحيين في مصر والعراق وغيرهما ترمي، بالإضافة إلى الاستمرار في توتير الأوضاع الأمنية، إلى تفريغ مجتمعاتنا من جزء من مكوناتها، وهذا أمر يستدعي من قادة الرأي العام من سياسيين ورجال دين وأحزاب ومؤسسات مدنية، وقفة جادة لإنقاذ المنطقة وأهلها من هذا المخطط الشرير.
 

اقرأ المزيد

ماذا بعد تقرير الرقابة المالية؟


أثار تقرير ديوان الرقابة المالية جدلاً واسعاً في الأوساط البحرينية ومن تابع هذا التقرير أو التقارير التي سبقته منذ ست سنوات يقدر الجهد الذي يبذله ديوان الرقابة في الكشف عن التجاوزات المالية ويقدر أيضا التزامه بمبدأ الشفافية من اجل الحفاظ على المال العام. اما هل بالفعل لامست كل هذه التقارير دوائر الفساد فهو أمر يطول الحديث عنه.

هناك سؤال لابد ان نطرحه وهو ماذا بعد التقرير؟ وبعبارة أكثر وضوحاً كل سنة يصدر فيها ديوان الرقاية تقريره نسأل أنفسنا ما الذي ستفعله السلطة التشريعية حيال ما تم ضبطه من فساد في أكثر من وزارة وجهة حكومية؟ فنتائج التقرير يا نواب الشعب واضحة وضوح الشمس وبالتالي لماذا لا تشكل الكتل النيابية التي كانت حملاتها الانتخابية تهدد بمكافحة الفساد وتتوعد المفسدين لجان تحقيق ومساءلة بغية محاسبة المتورطين!

فعلى مدى الثلاثة الفصول التشريعية الماضية لم يشهد البرلمان محاسبة للفساد وانما شهد توصيات لا غير، يقول احد الراصدين «مجلس النواب لم يتعاطَ مع التقارير من منطلق وطني وفق مسؤولياته وصلاحياته، ففي الفصل التشريعي الاول المجلس لم ينهِ الا تقرير 2003 وبدأ في وضع توصياته لتقرير 2004 وفي الفصل التشريعي الثاني بدؤوا في توصيات 2004 وناقشوا تقارير 2004 و2005 في ثلاث سنوات، وفي السنة الأخيرة ناقشوا تقارير 2006 و 2007 في جلسة واحدة خرجوا دون نتيجة ولذلك المجلس اليوم لديه فرصة ذهبية يشكل فيها لجان تحقيق لكل الوزارات والجهات الحكومية المتجاوزة والمخالفة.

نعم.. لماذا لا تتشكل تلك اللجان ونوابنا الأفاضل أدرى من غيرهم بحجم الفساد الذي تضمنه التقرير الذي كشف عن تلاعب وهدر للمال العام!
لا نريد الدخول في تفاصيل التقرير فيكفي لنا ان نقف عند بعض مفاصله من بينها ان شركة البحرين للاستثمار العقاري «ادامة» لم تقم بتوريد الايرادات المحصلة للعقارات المملوكة والمؤجرة من قبل وزارة المالية عن السنوات الثلاث من 2007 الى 2009 والتي بلغ مجموعها 521 الف دينار الى الحساب العمومي لوزارة المالية ومن ملاحظات التقرير ايضا ان الوزارة المذكورة خولت الشركة بالاحتفاظ بايرادات الايجارات بالكامل كمقابل لأتعابها في حين ينص القانون على انه لا يجوز تغطية مصروف معين من المصروفات العامة إلا بقانون ويعني ذلك ان «ادامة» لم تحول ايرادات تصل الى 521 الف دينار الى الميزانية.

واذا كان التقرير سجل ملاحظاته على هيئة الاذاعة والتلفزيون لكون هذه الجهة لم تلتزم لا بشروط مجلس المناقصات والمشتريات الحكومية وخاصة فيما يتعلق بشراء البرامج الاجنبية ولا بسياسة التوظيف التي اقرها ديوان الخدمة المدنية وتحديداً حول عدم اخطاره بتوظيف 35 أجنبياً تتراوح رواتبهم من 5 الى 9 آلاف دينار فانه وفي مكان آخر انتقد حلبة البحرين لسباق السيارات التي وصلت خسائرها لغاية ديسمبر 2009 الى 86.8 مليون دينار!!

ولا يختلف الامر بالنسبة لصندوق العمل الذي وجه اليه الكثير من الانتقادات من بينها ان الصندوق يدير 40 مشروعًا بميزانية تتجاوز 90 مليون دينار، ويدير تلك المشاريع 14 موظفا فقط، وان الكثير من المشاريع التي شملتها الرقابة لم تتمكن من تحديد الاهداف المرسومة لها مثل مشروع التدريب في قطاع الضيافة الذي تخرج منه 687 متدرباً وصرف عليه 1.9 مليون دينار حتى نوفمبر 2009 وبلغت نسبة التوظيف الفعلي فيه 21%!!

وكذلك الحال بالنسبة لادارة اموال القاصرين اذ انتقد هذه الادارة لادارتها استثمارات عقارية ومالية بقيمة 48 مليون دينار من دون خطط واستراتيجيات من اجل تحقيق الاهداف التي انشئت من اجلها، وحول مشروع البيوت الآيلة للسقوط كانت ملاحظات التقرير ان الانجازات التي حققها المشروع خلال السنوات الثلاث الماضية تعد متواضعة اذا ما قورنت بالمبالغ المعروفة والفترة المنقضية، حيث بلغت تكاليف المشروع للفترة من يونيو 2007 حتى سبتمبر 2009 مبلغ 16 مليون دينار لهدم 590 بيتاً واعادة وبناء 326 بيتاً منها 81 بيتاً قيد الانشاء!!

وينتقد التقرير قيام بعض المجالس البلدية بالصرف على فعاليات وانشطة خارجة عن اختصاصات المجالس مثل تكريم الطلبة المتفوقين والاعلاميين والصحافيين والمتقاعدين وتمويل انشطة رياضية وحملات تبرع بالدم والمساهمة في الزواج الجماعي ودعم انشطة دينية مثل حملات العمرة ومراكز تحفيظ القرآن وفضلاً عن ذلك تنظيم سفرات وصرف مخصصات وتذاكر سفر على الدرجة الاولى لاعضاء المجالس من دون وجود مستندات مؤيدة لفترة المهمة، والادهى ان الدعوات الاستطلاعية والزيارات لا توجد لها دعوات، او برامج من الجهات المستضيفة!! وان عدد مهمات المجالس البلدية بلغ 226 مهمة تضمنت 504 مشاركين منهم 449 عضواً و55 موظفاً من موظفي المجالس خلال الاربع سنوات الاخيرة بتكلفة بلغت 640.714 ديناراً.

وعلى مستوى نبك البحرين للتنمية، انتقد التقرير الكثير من اجراءات البنك حول منح قروض جديدة لمقترضين متعثرين في سداد قروض ما تزال قائمة!!
الخلاصة سعادة النواب نحن امام فساد مستشرٍ لا يفيد معه التهديد والوعيد وانما اتخاذ تدابير رقابية فعلية تتلخص في تشكيل لجان التحقيق والمساءلة، اما غير ذلك فمن الصعب محاربة الفساد والمفسدين.. ويا ترى متى ستتشكل هذه اللجان؟ العلم عند نواب الشعب.
 
الأيام 15 يناير 2011
 

اقرأ المزيد

هل هو تذويب للعالم العربي؟


بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وجدت القوى الغربية العسكرية الكبرى نفسها في مأزق تاريخي، فليس ثمة “عدو”، يبرر هذه المصروفات العسكرية الهائلة خاصة في الولايات المتحدة، التي هيمنت هذه القوى فيها على الحياة السياسية طويلاً من خلال المجمع العسكري – الصناعي.

ومن المعروف كثيراً في الأدبيات السياسية انتشار موضوع ابتكار العدو البديل الإسلامي وضرورة استمرار ماكينة الحروب في إنتاج أكبر الأرباح، وكانت الجماعات والدول الدينية في العالم الإسلامي أقوى مرشح بدلاً من بعبع الشيوعية الزائف.

ومع غليان الأحداث في العالم العربي وتفجر الأزمات، والاقتطاعات الكبيرة من أجسام الدول التي كانت موحدة، أصبحتْ ملامح هذه السياسة متجسدة.

غدت الاقتطاعات والدول الجديدة الهشة حقيقة واقعة، وهذه سياسة ظهرت كذلك في الدول التي كانت تسير في فلك روسيا.

وكانت اندونيسيا في زمن سوهارتو حليفا قويا لدول الغرب هذه في زمن الحرب الباردة وبعدها قلت قيمتها. وفي تلك الحرب فإن وحدة اندونيسيا كانت مهمة لتلك الدول وبعدها غدت عمليات استقلال الجزر الاندونيسية عن الوطن الأم متاحة وأُيدت انفصالات المسيحيين فيها خاصة.
وحين طلبت اندونيسيا مساعدتها على أزمتها المالية في السنوات الأخيرة طرحتْ هذه الدولُ حقيقةَ أهداف سياستها:
“وهي تحرير التجارة الخارجية، وتخفيض التعريفات الجمركية، والإسراع في الخصخصة بالسماح للشركات الأجنبية بشراء الشركات المحلية، وإلغاء مشروعات التصنيع الكبيرة في إندونيسيا”.

إن الدول الرأسمالية الكبرى تواجه عالماً ينضب تدريجيا من المستوردين وكثيرا من الدول تتحول للتصنيع، وتفكك الاتحاد السوفيتي أوجد مثل هذه الدول الهشة التي تعيش في زمن ما قبل العصر الصناعي، وكذلك توجد الدول العربية والإسلامية، والدول الافريقية، فهذه مطلوب أن تظل بهذا المستوى الاقتصادي في زمن ما قبل التصنيع أو التصنيع على الطريقة الخليجية والعربية عامة: إنتاج المواد الخام.

ومن هنا نرى أهمية الحفاظ على البعبع الإيراني وأشباحه المختلفة وعلى القاعدة والصلف الإسرائيلي، مثلما كانت عمليات تقوية النظام العراقي السابق، وكلها من أجل تبرير هذه المصروفات العسكرية الهائلة وإبقاء الانقسامات وعدم نشوء عمالقة اقتصاديين عرب وإسلاميين.

وتكوينات العالم العربية المفتتة هي بحد ذاتها خدمة موضوعية لهذا، فالثالوث التعاوني: مجلس الشمال العربي الإفريقي، ومجلس التعاون العربي، ومجلس التعاون الخليجي، لم تنتج عنها قوة اقتصادية عربية صناعية كبرى أو صغرى.

وفيما تضخ الدولُ العربيةُ الخليجية الأموالَ في بطون أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية تتنامى تلك الدول وتشكل سياساتها المغايرة:
“إن سيطرة الاتحاد الأوروبي على 30% من معدل التجارة العالمية والنمو المطرد لمستقبل التجارة العالمية في حوض البحر المتوسط سيزيدان من قوة وهيمنة الاتحاد الأوروبي، وذلك على حساب التجارة العربية”.

قادتنا سياسات الدول العربية برأسمالياتها الحكومية المتخلفة ومختلف أنواع الايديولوجيات الشمولية التي نتجتْ عنها إلى هذه الحال التحللية.

أخبار الخليج  15 يناير 2011

اقرأ المزيد

شمال السودان يهرب للأمام


نعلم أن لويس مورينو أوكامبو رئيس الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية ليس بذلك الرجل الشجاع الذي لا يخاف في قول الحقيقة والإتيان بفعلها لومة لائم، وإنما هو امعة تساق حيث يشتهي سائسها، وإنه لو كان رجل موقف بحق لكان طالب برأس “إسرائيل” ولو مرة واحدة في إحدى تجليات جبروتها وطغيانها، وهي ترتكب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية حسب تصنيفات المنظمات الدولية وحسب التقارير الأممية الموثقة بما فيها تقرير الوكالات المتفرعة عن الأمم المتحدة .
 
وندرك استناداً، على الأقل، إلى الوثيقة التي نشرها موقع “ويكيليكس” أن استهدافه وملاحقته قضائياً للرئيس السوداني عمر حسن البشير، فيهما الكثير من الكيدية أكثر منه بحثاً عن عدالة مطلوبة . فلقد نسب الموقع إلى أوكامبو قوله في إحدى مراسلاته مع وزارة الخارجية الأمريكية إن الرئيس السوداني قد سرق 9 مليارات دولار من الإيرادات النفطية لبلاده وأودعها في “بنك لويدز” البريطاني وبنوك أخرى، وإن أوكامبو أكد للأمريكيين في رسالته تلك على ضرورة التركيز على هذه الحادثة لتعزيز شرعية محاكمة البشير وتأليب الشعب السوداني ضده . وبعيداً عن صحة أو فبركة هذا الاتهام (بنك لويدز البريطاني نفى بالمناسبة أن يكون لديه حساب مصرفي للرئيس السوداني)، فإن هذه الوثيقة التي سرّبها موقع “ويكيليكس” تدين أوكامبو أكثر مما تدين البشير . فالوثيقة تشير إلى أن أوكامبو يراسل ويرفع تقاريره إلى الأمريكيين، وأنه ينسق معهم في تدبير وفبركة أية أدلة يمكن أن تساعده والأمريكيين في الدعوة التي حركها ضد الرئيس البشير، مع أن مرجعيته هي المحكمة الجنائية الدولية .
 
كل هذا ندركه، وندرك أيضاً أن نفط الجنوب السوداني ليس بعيداً البتة عن أطماع وصراع الجبابرة “الكبار” . ولكن كل هذا “كوم” ودور النظام السوداني “كوم تاني”، كما يذهب القول الدارج في بلاد النيلين .
 
فليس مُسَوغاً ولا مُبَرراً، والحال هذه، أن نقفز إلى حاضنة ثقافة الفزعة القومية العروبية والدينية للتستر على الأخطاء الفادحة التي ارتكبها نظام الحكم في السودان، وتقديم الغطاء السياسي لممارساته التي أفضت إلى تلكم النتائج الكارثية التي نعرفها .
 
هي ليست مجرد أخطاء من ذلك النوع الذي يمكن تداركه وتدارك نتائجه، وإنما هي تتجاوز مفردة الأخطاء الملطفة نفسها، أخطاء من وزن تشظي كيان الدولة بخسارة السودان لجنوبه، بكل ما يمثله هذا الانفصال من خسارة جيوسياسية استراتيجية وثروات نفطية .
 
والأدهى من ذلك، أن الرئيس البشير لا يريد الاكتفاء بهذا والاتعاظ من دروسه، فقد توعد بتشديد تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال فور انفصال الجنوب، وذلك من خلال إحداث تغييرات دستورية سريعة لجعل الإسلام الدين الرسمي ومصدر التشريع الوحيد، وذهابه إلى حد القول إنه لن يكون هناك مجال للحديث بعد الانفصال عن تنوع عرقي وثقافي في ما تبقى من السودان، وهو ما سيطلق بؤرة توتر بين الجماعات العرقية المختلفة التي تربو على 600 جماعة عرقية يشكو الكثير منها من سيطرة وهيمنة النخبة العربية على البلاد .
 
وإذا ما أضفنا إلى ذلك جبهة الحرب الأخرى المستعرة بين الجيش النظامي السوداني والجماعات المسلحة في إقليم دارفور، والتي ستتشجع بنجاح الجنوبيين في الانفصال عن الوطن الأم لتزيد ضغوطها العسكرية على النظام في الخرطوم .
 
خطاب الرئيس البشير في جوبا عاصمة الجنوب السوداني يوم الثلاثاء الرابع من يناير/ كانون الثاني ،2011 يضج بتناقاضت صارخة تشي بمآل التوجه المأساوي الذي ينوي اقتفاءه في الشمال . فهو في الوقت الذي وجه فيه رسالة سلام وتسامح إزاء حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم واستقلالهم، فإنه سوف يستدير لفرض أحكام الشريعة الإسلامية على الشماليين، مع أن فرض الشريعة كان أحد الأسباب الأساسية التي حدت بالجنوبيين للمطالبة بالاستقلال والعمل على انتزاعه .
 
إنه بلا شك مآل محزن جداً للسودان ولشعبه الشقيق، بما يمثله هذا المآل من نذر شؤم طالعنا بها العام الجديد . وهو مآل محتم على من يفكر في أن بإمكانه إهدار المكون الإنساني في علاقات البشر بعضهم بعضاً، لمجرد تنطعه واستنفاره للفزعات العصبية من قومية أو دينية أو نحوها .
 

اقرأ المزيد