المنشور

العمالُ أكبرُ الخاسرين


غياب أصوات العمال البحرينيين في الاحتفال البشري بعيد أول مايو هذه السنة يُظهرُ الخسائرَ المؤلمة التي تكبدها العمالُ بفعل عدم وجودِ قيادةٍ نضالية نابعة من طبقتهم.
لقد تم فصل المئات من العمال وعائلات كثيرة تعيشُ في ظروفٍ معيشية ونفسية واجتماعية سيئة.

لسنواتٍ طويلةٍ كانت الشرائحُ الطليعيةُ من عمال البحرين تتخذ مواقفَ عقلانية في الحياة السياسية بعد أن تجاوزتْ مغامرةَ هيئة الاتحاد الوطني وزجهم بطرق غير دقيقة في الصراع الوطني المشرف بطبيعة الحال حينذاك، وكذلك الزج الذي تم بفعل الجماعات القومية الهائجة في بعض سنوات الستينيات وما بعدها، ثم أخذوا يكدسون تجربةً مختلفةً عبر الاعتماد على قواهم وعدم ركونهم لأدلجةِ وتحريكِ قوى استغلالية سياسية من خارج طبقتهم، وحققوا إنجازات وتراكمات في أحوالهم والدفاع عن مصالحهم بفعل ذلك.

لكن العناصر الطليعية المحدودة داخل النقابات والعمال ككل لم تستطع أن تقاوم المدَ الدينيَّ الطائفي الذي اكتسحَ المنطقة، وأثر في وعي العمال، وصاروا مؤدلجين بشكلٍ شعاري، من دون أن يناضلوا لتحسين ظروفِ عملهم، ويصعدوا ثقافتَهم الحديثة ويفهموا الخلفياتَ الحقيقية للجماعاتِ الدينية المحافظة التي ترتكزُ على عالم الإقطاع واستغلالهِ المتخلف.

طبيعتُهم المذهبية وحماسهم السياسي النابع من هذا غيّب نقابيتهم، وجعلهم أدوات سهلة في يد القوى الدينية ذات المشروعات السياسية الخاصة.

لم تكن هذه الأعمال تقوم على نضال عمالي لتغيير البيئة العمالية وتحسين شروط العمل وتغيير العقود ونشر البحرنة العمالية، بل قفزت نحو الصراع حول السلطة السياسية وتمركزت هذه المطالبة بيدِ ثلةٍ لا تنتمي إلى العمال وتطرحُ شروطاً سياسية تعجيزية بغرض التحضير لإسقاط النظام وبجعل أجسام العمال مادة لهذه القفزة المغامرة.

لم تهتم هذه الجماعةُ بأحوالِ العمال وأسرهِم وظروفهم وجذبتهم بفعلِ المذهبية المشتركة ذات الاتجاه اليميني المحافظ الذي لا يعبأُ بآلام الكادحين بل يستخدمهم كأدوات وطالما غرقوا في فقرهم وأمراضهم من دون أن يقوم بالمساهمة في تغييرها، ومع قوى من البرجوازية الصغيرة ممن زعموا ارتباطهم بالماركسية وهي جملٌ قشورية انفعالية مقطوعة السياق عن الوطن والظروف، وتعبرُ عن مصالحهم المتذبذبة في كل حين، وعجزهم عن تصعيد وعي العمال الديمقراطي الوطني، وانجرارهم في كل وضع حسب الثقل الذي يدفعهم يساراً ويميناً لكي يركبوا الموجةَ نحو المقاعد والثروة.

ولكن تبقى هذه الفئات المفصولة وتبقى العائلات المحرومة ألماً ينزفُ في جسدنا الوطني رغم الاختلاف، ولا بأس من النقد الذاتي، والتعبير به، فهو أداةٌ للتربيةِ السياسية، والفصل بين الذاتي والموضوعي، بين الانجرار وإدراك حقائق الواقع، بين الشحن المذهبي وغياب الفهم الوطني.

عبر هذا التعبير للرأي العام وللشركات والإدارات السياسية والاقتصادية يمكن تشكيل لحظة سياسية مختلفة، تضعُ حداً من قوى العمال للدخول في المغامرات السياسية، وتنفصل عن قوى المغامرين الدينيين والسياسيين الذين يتلبسون أثوابَ المذهب والدين واليسار الزائف، لاستخدامهم أدوات في مشروعاتهم القافزة دائماً على الواقع، من أجل المزيد من التطوير في حياة العمال والكادحين البحرينيين والعمال الأجانب، وطي هذه الصفحة والتطلع لوحدة عمالية مستمرة تكون حاجزاً أمام قوى الاستغلال والمغامرات.

أخبار الخليج  1 مايو 2011

اقرأ المزيد

المعطى الخارجي في الزوابع العربية


في انعطافة حادة ومدهشة، وضعت حداً لعقود من الستاتيكية الجامدة لحد السأم، فجأة وعلى حين غرة وُضع العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه على صفيح ساخن . فما أن أطل العام الجديد 2011 برأسه حتى انتقلت الثورات وحركات الاحتجاجات المنظمة من بلد عربي إلى بلد عربي آخر، مستهدفة إحداث تغييرات في البنى الفوقية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) القائمة .
 
فما تفسير هذه الانفجارات المتداعية التي أضحى العالم العربي بسببها محط اهتمام العالم وانشغاله وتدخلاته السافر منها والمقنع؟
 
ما من شك في أن بقاء معظم العالم العربي على مدى خمسة عقود ونيف مراوحاً في مكانه (محلك سر) في ما يتصل بالتنمية السياسية، في ذات الوقت الذي كانت دينامياته الداخلية تفسح في المجال لدواليبه الاقتصادي وقواه المنتجة، قد أفضى إلى المآل الدراماتيكي للأحداث التي تشهدها منطقتنا العربية على نحو غير معهود بل ومثير للقلق . بمعنى أن جعبة العالم العربي كانت حُبلى بالعناصر والعوامل الموضوعية الداخلية المتجمعة والمتراكمة على مدى الفترات الطويلة من شبه الركود أو المراوحة اللذين طبعا البنى الفوقية  من دون البنى التحتية  للمجتمعات العربية .
 
إنما السؤال الذي تستدعيه الحيرة والدهشة العاقدة للسان في هذه الأحداث الدراماتيكية، والذي صار طرحه الآن أكثر إلحاحاً هو: هل كانت  ولا تزال  العوامل الداخلية هي وحدها فقط المسؤولة عن تحريك تلك الأوضاع شبه الراكدة؟ ربما من فرط الدهشة والانفعال الإعجابي بهذه التحولات الكبرى التي فجرتها الاحتجاجات الشعبية العارمة، لم تحظ “الأنوف” الخارجية المدسوسة في حمأة تلك الأحداث بالاهتمام والتركيز اللذين تستحقانهما، مع أن حضور أصحابها الساطع والواضح، لحد الفجاجة أحياناً، في ذلكم المشهد العربي المتحول، كان شاخصاً بصورة لا تخطئها عين .
 
منطقتنا العربية ليست كما بقية المناطق العالمية كأمريكا اللاتينية بوجه عام على سبيل المثال التي يمكن أن يقل فيها حضور العامل الخارجي إذا ما أرادت عواملها الداخلية التعبير عن دنو أجلها في إحداث التغيير والتجديد في بناها المختلفة . منطقتنا العربية عدا عن كونها أحد أهم المرتكزات الاستراتيجية لجهة الجغرافيا، فإنها الأهم في العالم على الإطلاق بالنسبة لحقن الاقتصاد العالمي يومياً بما يحتاجه من مصادر طاقة تقليدية أساسية (النفط والغاز)، وهي ثروات كانت قد أسالت  ولا تزال  لعاب الامبراطوريات الاستعمارية القديمة والجديدة وطواغيت رأس المال، الغربي خصوصاً، الطامعين في الفوز بالامتيازات الحصرية لهذه الثروات . وهي  أي منطقتنا العربية  تبقى على الدوام في صدارة اهتمامات واستراتيجيات القوى العظمى وشركاتها وممثليات مصالحها على اختلافها .
 
فهل توقيت وتزامن تداعي كل تلك التحركات الاحتجاجية المتقافزة من بلد عربي إلى آخر، وفقاً لجداول زمنية محددة ومتقاربة، هو محض صدفة؟ فأي صدفة هذه التي تجعل عوامل التفجير الداخلية (الركود السياسي والفساد والتهميش والفقر والإفقار وانسداد الأفق) تنضج وتنفجر في وقت واحد حتى لو سلمنا بوحدانية المزاج العربي العام وتبادل تأثيراته؟
 
لن نبادر للزعم بوجود العامل الخارجي في الأحداث التي تشهدها منطقتنا العربية، فنحن لسنا مضطرين أصلاً للقيام بذلك، ما دام المراقب المتمعن في الأحداث هو نفسه لن يجهد نفسه طويلاً، إذ سيجد أن كل معطيات المسألة موضوع معاينته مفروشة أمامه بالتمام والكمال متجلية في غزارة تصريحات كبار المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين والآخرين في النواحي المحاذية والمجاورة للإقليم العربي، وتكثف زيارات مندوبي الدول الغربية، سراً وعلانية للمنطقة، وترتيب وتنظيم الاجتماعات واللقاءات التنسيقية الدولية على نحو عاجل وسريع، بما في ذلك مجلس الأمن للبت في القضايا المتعلقة بأحداث منطقتنا واتخاذ القرارات الجاهزة مسبقاً بشأنها .
 
طبعاً هذا لا يعني أننا نقلل من شأن عوامل التفجير الداخلية . إطلاقاً، ولكن علينا بالمقابل أن نتفكر في ما وراء وفي تبعات هذه التداعيات المثيرة للأحداث في منطقتنا “المخفورة”، كما قلنا، بحضور غزير وثقيل ومتنوع للعامل الخارجي بأجندات غير معلومة بواطنها، وإن أشيعت ظواهرها .
 
حرر في 22 ابريل 2011

اقرأ المزيد

عن عيد العمال


نرفع بداية أجمل التهاني لجميع العمال وسواعدهم التي قامت ببناء التنمية على مدار عقود طويلة من الزمن، لم تكل ولم تتعب، تجفف عرقها بيدها اليسرى وتقوم بحمل الشاكوش باليد اليمنى.

يمر عمالنا هذا العام وسط تجاذبات نقابية وسياسية كبيرة، في ظل ملفات عمالية وضعت في الأدراج نتيجة لهذه التجاذبات والصراعات السياسية، إلا ان اليوم أمام هذه الحركة ان تعيد حساباتها جيدا للمحافظة على الجسم العمالي بعيدا عن أغراض ونزوات التسييس او الحماس والانفعالات السياسية التي انعكست خلال الفترة الماضية على الأمانة العامة والتي باتت الآن في عنق الزجاجة بعد موجة التسريحات التي شهدها القطاع العمالي، نتيجة لمواقف غير محسوبة وغير دقيقة، لم تعد بالنفع على أحد.

هناك مكتسبات عمالية تحققت خلال الفترة الماضية، وحظي الاتحاد العمالي باحترام من قبل الجهات الرسمية، إلا انه اليوم بات ملزوما ان يعيد حساباته من اجل ان يكون خير مدافع عن الحركة العمالية.

المطلوب من العمال محاسبة من يريد محاصصة مناصب النقابات، وتشكيلة الأمانة العامة، أعرف حجم الجهد الذي يبذله العمال ويبذله الاتحاد إلا إننا اليوم نتصارح ولا زعل من المصارحة التي تهدف الى التقويم وحسن الاتجاه بدلا من الدخول في منزلقات غير محسوبة عبر مغامرات سياسية عمالية دفع بها البعض.

بات من المؤكد ان مطالب محددة يتفق عليها الجميع من العمال هي التي يجب ان يتولاها الاتحاد العام ومنها ملف تحسين الأجور الذي أسماه النقابي غازي الحمر «أم المشاكل».

ان الملفات العمالية هي ملفات ذات طابع مشترك لا يمكن ان تطفـئن إلا من قبل المرضى، فسواعد رجالات هذا البلد لم تعرف معنى الطائفية ابدا، بل كانت تعرف معنى الشغل والكدح، هؤلاء هم عمال البحرين، صمام أمان، عزة وشموخ ورفعة.

انظروا الى تاريخهم الحافل بالنضالات الطويلة لم نجد فيه رائحة كريهة نابتة من جسد المرضى المهووسين بالفتنة، همهم كان دفع عجلة التنمية الى الأمام لا تعطيلها ووقفها.

فكروا جيدا.. فوحدة الصف العمالي مهمة ولا يمكن ان تعود إلى سابق عهدها إلا بعد إعادة هيكلة النظام غير المعلن المعمول به داخل الغرف التي يصنع فيها القرار.
 
الأيام 2  مايو 2011

اقرأ المزيد

لسنا فقط سنة وشيعة – للكاتب عيسى الشارقي


اختصرونا في مذاهبنا، فقيل لنا أنتم شيعة، وأنتم سنّة، فهل يمكن اختصار الشعب البحريني في أنَّه تجمع من سنة وشيعة؟ وهل نريد ذلك ونقبله؟ أليست لنا عناوين أخرى نعتزّ بها، وننتمي إليها، ونؤمن بها، ونعمل على هدي منها لنختصر هذا الاختصار المخلّ؟ ألسنا من بني الإنسان أولا؟ فتحق لنا الكرامة التي يستحقها كل بني الإنسان فوق كل انتماء؟ ألسنا عربًا نستحق أن نفخر بما يفخر به العربي من جميل تراثه، ونحزن لما يحزن له العربي من قبيح تراثه؟ ألا يحقّ لمن كان منا من أصول فارسيّة أن يفخر بأصوله الفارسيّة الموغلة في تاريخ الحضارات آلافًا مؤلفة من السنين؟ ومن كان منا من أصول إفريقية ألا يحق له أن يعتزّ بأصله الأوّل لكل البشرية؟ ويعتزّ ولو بأدواته الموسيقية البسيطة وروحه المرحة التي يحفل بها؟ ألم ننفخ معه “الصرناي” ونرقص على قرع طبوله؟ ويغني الأفراح معنا؟

أليس منا القوميون والشيوعيون والاشتراكيون والليبراليون واللا أدريّون والفوضويون والحداثيون ومن كل فكرة وملة وثقافة؟ فنحن شعب حيّ متفاعل، ولسنا فقط مقلدة فقهاء، وتبعة خطباء، وعبدة دنانير السلاطين، فلماذا يختصرنا الإعلام والصحافة البائسة في مذاهب هي أضيق من فكرنا وهويتنا؟ لماذا يراد لنا أن ندخل الكهف المذهبي؟ وأن لا نطلّ على الوجود إلا من فتحة في صندوق المذاهب؟

مَن مِن أطبائنا أو مهندسينا أو تجّارنا أو باعتنا أو عمالنا أو غيرهم .. كان يضع في اعتباره مذهب مريضه أو زبونه أو تلميذه؟ كلّ من أجاب بنعم على هذه وأمثالها فهو متجنٍّّ على الحقيقة، وإن حصلت من بعض المتعصّبين من المذهبيّين المهووسين في هذا الزمن الأسود، فهي بكل تأكيد ليست من طبيعة البحرينيين ولا من شيمتهم، وبصفتي معلمّاً ليس ثمة معلّم في البحرين بحريني أو أجنبي يفرح برسوب أحد من تلاميذه لاعتبارات مذهبية، ولقد علّمت في هذا الزمن الأسود أطفالاً غالبيتهم من السنة وأبناء المجنّسين من سوريين ويمانيين وآخرين من غير العرب، وكان بينهم قليل من الشيعة، فلم أشعر بعطف مذهبيّ ولا عرقيّ تجاه تلميذ على آخر، ولم أشعر بأنّ مذهبه وعرقه وجنسيّته مانعة بيني وبين مودّته أو الجدّية في منعه من الإهمال المضرّ به، ولم أبخل على طفل منهم بالنصيحة بما فيه صالح مستقبله، إنّي إذا لمن الظالمين.

وللحق لم أشهد لمعلّم شيعي ولا سنّي فرحة أو شماتة برسوب تلميذ من تلاميذه، بل على العكس يشعر بالغضب أو الحزن جرّاء إهمالهم وتفريطهم.

وأشهد أيضا بأنّ المعلمين السعوديّين حتى المتديّنين السلفيّين هم أيضا بعيدون عن روح التمييز بين طلبتهم، وأنَّهم لا يفرحون لتخلّف تلميذ من تلاميذهم، ويحبّون لو أنّ الجميع كان متميّزًا، وكلّ من كان على غير هذا الخلق من المعلمين فهو شاذّ ونادر لا يقاس عليه.

من الواجب على كلّ بحريني اليوم أن يعيد شريط حياته، منذ أن وُلد وإلى الآن، إن كان سنيًا فليتذكر كم ممّن هم من الشيعة قد أحسن إليه ولو بتلقيه بوجه حسن، أو بمداعبته بنكتة ضحكا فيها سويًا، وإن كان شيعيًا فليتذكّر كم من سنّيّ قد أحسن إليه ولو بدلالته على طريق أو محلّ لم يكن ليهتدي إليه لولا معونته.

فلنعد بالذاكرة للحيّ والمدرسة والسوق والشارع والملعب والشاطئ والعمل والأفراح والأتراح، فمنا مَن قد مرّت عليه سبعون ومنّا من مرّت عليه ستون، وخمسون ومنا من لا يزال في ريعان الصبا يلاعب أترابه، ولنتصفّح دفتر الذكريات، ولنستخرج منها أحلى ما فيها، وإنّ فيها الكثير، وليحدّث نفسه والآخرين عن “سعد جوهر” وعن “عليّ جعفر” والذوادي والمرهون، حينما كانت القلوب نقية والنفوس زكية، ولم تكن المذاهب هي كلّ الهوية، ولينشر في كل موقع ذكرياته، لعلّ القلوب تعود لما كانت عليه من الوداد، فإنّ الله سبحانه قد نصح أهل الخصام بتذكّر الفضل الذي كان بينهم قبله فقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، ونصح أهل الجدال بالتي هي أحسن، فما التي هي أحسن؟ إنّها أن تذكر مجادلك بأفضل ما فيه من الحسنات، وتقرّ له بأفضل ما هو عليه من الصالحات، قبل مواضع الخلاف، ذلك إن كنت تريد الإصلاح حقّا لا الخصومة.

وإن أردت أن أبدأ بنفسي؛ فمع أني ابن قرية، إلا أنّ حياتي لم تخل في مرحلة من مراحلها من معرفة إنسان آخر ليس على مذهبي، إن كان لا بدَّ لنا أن نجادل في الدين والمذهب، فمنذ طفولتي وإلى الآن عرفت رجالاً ونساءً شيبًا وشبانًا وكهولاً ومن كل الأعمار والمناطق، في المدرسة تلميذًا وفي المدرسة معلّمًا وفي السوق بائعًا ومشتريًا، درست مع أبناء البديع والجسرة، والحورة والرفاع، ثم علّمت أبناء البديع والجسرة، وأبناء الرفاع ومدينة حمد، وعملت في سوق الرفاع عشر سنين تعرّفت خلالها على ربّات بيوت، عشر سنين لم تعرف واحدة منهن اسمي الحقيقي، إذ كن يخاطبنني باسم المحلّ دائما، ظانّات أنّ اسم المحل هو اسمي، وحتى الآن إذا لقيتني واحدة منهن تظلّ تحيّتها باسم المحل، لم يكن بيننا إلا المعروف، ولا أذكرهنّ إلا بخير.

وفي معهد المعلّمين نضجت بيننا العلاقات، فتزاورنا، وأكلنا وشربنا، وأقمنا الرحلات، والتقطنا الصور: فؤاد، عبد الرزاق، عبد الجليل، من أبناء الحورة، وعبد الله من الزلاق، أعرف ألقابهم ولكن أتركها حفظًا للخصوصية، أحببتهم ولا أزال، لم أفكّر يومها ولا الآن أنهم سنّة- وماذا يضرّهم حين يكونون سنّة؟ – لأنّ هناك عناوين أخرى كثيرة تجمعنا صنعناها بأنفسنا ولم يصنعها لنا الآخرون، فهم زملاء وأصدقاء وبحرينيون وهم وهم..، فلماذا أختصرهم ويختصروني في مذاهب لم نصنعها بأنفسنا يومًا، ولم ندخلها مختارين؟

ولست أنسى وفاء عبد الله للمودة، فما أنْ رآني بعد أكثر من ثلاثين سنة، في حفل رسمي عام وكبير، كان هو راعيه، حيث أصبح مسئولاً رفيعًا، وكنت مدرّسًا يتقاعد أقع تحته في سلّم الدرجات بمنازل كثيرة، فما أن رآني مقبلا لاستلام شهادة التقاعد منه، حتى تنحّى عن المنصة ونزل ماشيًا نحوي يستقبلني قبل أن أصل إليه قائلاً: شارقي!! واعتنقني دون مبالاة للبروتوكول، ودون أن يحفل بردّة فعل القاعة الممتلئة بالحضور، وطلب من المصوّر صورة خاصة، نعم فقد يكون وكيلاً أو وزيرًا، ولكنَّه حينها عاد عبد الله الصديق القديم، فلا سنّيته وهو المتديّن ولا شيعيتي منعتنا من المودّة وذكر الإخاء، وكيف يمنع الدين المودّة؟ اللهم إلا دين التعصب البعيد من الله ورسوله.

أعلم أنّ الحال لم يعد كما كان لكثير من الناس، وأنّ شيطان التعصّب المذهبي قد تصاعدت في الناس أبخرته، ولكني أعلم أنّ أكثر الناس لا تزال على طيبتها، وأنّ روحها لم تفسد بعد، ولم يمسخ جوهرها؛ اللهم إلا القليل منهم، ممّن يرى التعصّب المذهبي دينًا، أو ممّن يحمله ضعفه وخوفه على مجاراة المتعصّبين.

فيا أيها البحرينيون: هذا وقت يجب فيه على كل واحد منا أن يتذكّر إحسان الآخر إليه، وفضل الآخر عليه، ممّا قلّ منه أو كثر، فاذكر جميل من علّمك صغيرًا أو كبيرًا، ومن طبّبك مريضًا، ومن باع لك واشترى منك، ومن أوصلك بسيارته مشوارًا، أو دفع لك سيارتك المتعطلة، أو أصلح عجلتها، أو أعانك بأسلاك بطارية، أو سامحك في مخالفة مرورية، أو أسقط عنك غرامة مالية، أو توسّط لك عند مدير أو وزير، ومن أكرمك ولو بصبّ فنجان قهوة، أو دلّك على طريق، وتحدّث به في المجالس، واكتبه في المواقع والصحف، فهناك اليوم أفواه شرّ كثيرة لا تذكر معروفًا ولا إحسانًا، يسرّها أن يغير الأخ على أخيه، والجار على جاره، وأن ينسى الناس كلّ فضل كان بينهم، تسلق بألسنةٍ حِدادٍ أشحةٍ على الخير، وتدوس بقلوب غلاظ مثقلة بالحقد، تروّج للكراهية، وتنكأ الجراحة، وتشمت بالمصيبة، تناست كل فضل أسدي إليها، وأنكرت كل حسنة أصابتها، وتمادت في الغي، حتى بلغت في الحقد حدّ السرف، وقد نصح كتاب الله عباده فقال: (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ *الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء:151/152).

 
 
عيسى الشارقي
جمعية التجديد الثقافية – مملكة البحرين
 

اقرأ المزيد