المنشور

تطوراتٌ متسارعة وقفزات


وصلت الرأسماليةُ الحكومية الشمولية الشرقية إلى مرحلةِ التحلل، ولن تجدي نفعا إقامة الأسواق المشتركة مع دول أخرى، والمنظومات القارية، في حين أن الأساس الديمقراطي غير موجود.
الأساسُ الديمقراطي هو الذي يركبُ الأسواقَ ويجعل البُنى الاجتماعية مستجيبة لقوانين الأسواق.
ولهذا فإننا سنشهدُ انهيارات سياسية كبيرة في الشرق وأزمات اقتصادية في الغرب.
الجانبان متداخلان، وهما يعبران في أزماتهما المستقلة والمتداخلة عن أزمةِ التشكيلةِ الرأسمالية العالمية في طورٍ من أطوارِها العديدةِ الكثيرة.

الانهياراتُ السياسية في الشرق تتجهُ للحلقات الأضعف، حيث الدول الصغيرة نسبيا، حيث يمكن للقطاعين العام والخاص أن يأتلفا ويكونا وحدةً اقتصاديةً تعاونية مشتركة، بشرط أن يكون البناءُ السياسي ديمقراطيا ويسمح للطبقات كافة بالمشاركة، وللدخول الوطنية أن تقدرَ على التجديد الموسع الوطني التحديثي للإنتاج، وأن تحصل الطبقات المنتجة على إمكانيات أن تعيش وأن تتطور وأن تكون لها بنيتها السكانية التعليمية الصحية المتقدمة وللعلوم كقوة منتجة أن تتفجر.
الشروطُ السابقةُ في سحق الطبقات المنتجة وعصرها سواءً على المستوى الوطني أم القاري، تلحق الأضرار بالدخول وتراكمية نمو الاقتصاد.
أي أن مستوى الطبقات المنتجة التعليمي المعيشي لم يعد مقبولاً للتطور الاقتصادي في هذه اللحظة من تطور التشكيلة الرأسمالية بقاريتها، وعمليات «الشفط» الحادة والتحكم الذاتي بالفيوض الاقتصادية ما عاد ممكناً أن تستمر وإلا هبت عواصف الفوضى والاضطراب للبنى الاقتصادية الاجتماعية.
أي أن عمليات سياسية ديمقراطية، ونموا كبيرا للوعي العقلاني في شتى النخب، باتا ضروريين، والتوجه لفهم الاقتصاد السياسي صار مهما للأحزاب والدول، بحيث لا تنظر هذه النخب إلى اعتبار المشكلات الوطنية مشكلات وطنية راجعة إلى سوء فهم فقط بل هي تعود لتشكيلة عالمية منقسمة مضطربة، ولقوانين السوق عبر المستويين الوطني والعالمي.

ان التركيز في الأدلجة الخاصة بكل نظام إلى درجة التعصب واعتباره الطريق الوحيد هما أكثر هذه الأخطاء شيوعاً التي توجه لزيادة المشكلات والأزمات ثم تكوين الفوضى العارمة.
كما حدث للمعسكر(الاشتراكي)عبرَ اعتقاد البرجوازيات الصغيرة أنها تنشئ دكتاتوريات للعمال بل هي تنشئ دكتاتوريات على العمال، ثم تؤسس من ذاتها رأسماليات حكومية لا تسيطر على الأسواق، وتتحكم في نمو القوى المنتجة، عبر النمو الديمقراطي المتدرج التعاوني، فهي تنشىءُ عمالقةً رأسمالية حكومية متناقضة في مجتمعاتها، حجّمت القوى العاملة وقزّمت جوانبَ فيها، وشكلتْ الرساميل الحكومية غير القادرة على تطوير قوى الإنتاج وربطها بالعلوم، ومن هنا ليس اعتمادها سوى على قوى العمل الرخيصة المتدنية، وعلى بيع السلاح وبيع النفط والمواد الخام.

ولهذا فإن الرأسماليات الحكومية الشرقية تتوضحُ مشكلاتُها في الثوراتِ العربية حيث قامت القوى المنتجةُ والرأسماليةُ الخاصة في الحلقاتِ الضعيفة من الرأسماليات الشرقية الشمولية، بالإطاحة بهذا الغلافِ السياسي المعرقل لتطور قوى الإنتاج.

نجدُ الفوائضَ الماليةَ مكدسةً في أماكن غيرِ أماكنِها الحقيقية، وكانت قادرةً على حلِ مشكلاتِ فوضى الأسواق، وتطوير قوى منتجة مُهمَلة، وتعليم قوى منتجة مقموعة، وتوسيع قطاعات حرفية وصناعية مأزومة، ونرى كيف أن الطواقمَ السياسية تبلعُ الكثيرَ من الدخول وتضعها في أمكنة مهدرة لها.

لكن هذا كله إعادة صقل للآلاتِ المتآكلة والصدئة، في حين أن الرأسماليات القومية المُفتتة، المحدودة التطور، ستواجه صراعات كبيرة على أسواقها واختلالات في أبنيتها الاقتصادية الاجتماعية، فهي تريدُ قوى أكثر ديمقراطية وعقلانية وتطوراً من المعتاد الرأسمالي، في حين أن الأبنية السياسية الفكرية محدودة، شعارية، شمولية، غير قادرة على رؤية التشكيلة الرأسمالية العالمية بشقيها.

وحتى هذه فإن إمكانيات النخب المشغولة بالأفكار السياسية والمواقع السياسية المهيمنة لا تنفذ لدواخلها، فلابد أن يضيع وقتٌ تاريخي طويل حتى تفرغ للمهمات الحقيقية، أو تجبرها الضرورات عليها.

وحقولُ الرأسماليةِ الحكومية الشمولية المُعدة كبالونات منتفخة مستعدة للحظات الانفجار وهي روسيا والصين وإيران وما يماثلها، فمن الممكن أن تُلقي على التطور الجاري الكثيرَ من التعقيدات المعرقلة الآن، وفوضى قادمةً لاحقة، ولهذا فإن الزمنَ الاجتماعي السياسي المعقلن مهم جدا.
 
صحيفة أخبار الخليج 2011

اقرأ المزيد

محاربة الفساد عندما تكون إنجازاً… !


التوجه بإشهار سيف المساءلة والمحاسبة ووضع ملف الفساد في دائرة الاهتمام الرسمي والإعلان الصريح عن آليات وضوابط تستهدف محاربته بعد طول إهمال، وطول انتظار نراه انجازا مهما كم كان ضروريا وملحا. الاهم من ذلك ان تكون هناك جدية كافية مقنعة تؤكد بأن محاربة الفساد لم يعد مجرد شعارات تطلق في هذه المناسبة او تلك، او مجرد توجه غير واضح المعالم، وانما فعل حقيقي وملموس وقائم على إرادة شعبية عبرت عنها مخرجات حوار التوافق الوطني، التي تحسب انها كانت القوة الدافعة لذلك ودعت الى بنية قانونية متينة، واجراءات موثوقة، وآليات فاعلة تحارب الفساد وتسد منافذه وتعزز قيم النزاهة. ما نحسبه الانجاز المهم في هذا الملف، هذا التوجه الجديد المعلن الذي عكسته العناوين التي وردت في الآونة الاخيرة في الصحف المحلية، وهي محملة بتفصيلات كثيرة لا مجال للخوض فيها، ومن دون الوقوع في فخ الاختزال والتبسيط نلفت الانتباه الى هذه العينة من العناوين:
 
– نظام شامل لمحاسبة كبار المسؤولين على مخالفاتهم المالية والادارية.
– تطوير ديوان الرقابة المالية والادارية وتنفيذ توصيات تقاريره.
– مكافحة الفساد عبر نظام محاسبة شامل.
– تحديد معايير تعيين ممثلي الحكومة بمجالس إدارات الشركات.
– إلزام الشركات الحكومية بتطبيق أنظمة الحوكمة.
– إنشاء جهاز لمكافحة الفساد.
– إنشاء هيئة لمكافحة الفساد التزاما باتفاقية الأمم المتحدة.
– تسهيل إجراءات القضاء على البيروقراطية.
– محاسبة الوزارات على تجاوزات الميزانية.
– تطوير النظام القضائي.
 
تلك عينة ليس الا.. عينة من الخطوات والتوجهات والاجراءات المرتقبة التي بات البعض يراها بأنها ضوء اخضر على طريق محاربة الفساد ومحاربة الفاسدين، ربما تشجع البعض على المراهنة على القول بان ذلك في مجمله يعكس جدية غير مسبوقة لا يشوبها الشك بعد الطارئ الجديد على الوضع والساحة والجو والمواقف وربما يذهب الى ابعد من ذلك بالظن ان الآتي اعظم.. ربما..!! الطارئ الجديد المقصود به هنا هو تلك الحصيلة من الرؤى والتوافقات التي هي ثمرة الحوار الوطني بعد ان كان موضوع الفساد وضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ورفع مستوى عملية التعيين في الوظائف العليا بقدر عال من المهنية والمسؤولية، موضوعا حاضرا في مناقشات الحوار بمحاوره السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الشبابية، وربما بعد ان ملّ الناس من التعود على إثارة قضايا فساد وتجاوزات بما فيها تلك التي دأب ديوان الرقابة المالية والادارية على رصدها وتوثيقها، ولكن من دون حساب ومن دون تحديد للمسؤولين عن ذلك، وكأن يمكن ان تكون هناك تجاوزات من دون متجاوزين، وفساد من دون فاسدين، ورشاوى من دون راشين ومرتشين.
 
نعلم ان الطريق نحو معركة الفساد تكون شاقة وطويلة.. وهي معركة ليست سهلة على الاطلاق لكنها واجبة ولا يمكن تجاهلها او تجاوزها، او التعامل معها بـ”القطعة”، لان الفساد في اي مجتمع هو العدو الأول للإصلاح، كما انه خطر على التنمية والاقتصاد، وعلى منظومة العلاقات داخل المجتمع. ونعلم ان ثمة اناس لا يحبذون الحديث عن الفساد بذريعة انه يؤثر سلبا على الاستثمار وعلى جهود جذب الشركات والاستثمارات، ولهؤلاء نقول ان البيئة الاستثمارية التي تقوم على الإفصاح والشفافية وما بات يعرف الآن بالحوكمة هي بيئة صديقة للاستثمار وليست منفرة له، وانه أصبح بما لا يقبل الشك ان الاستثمار حليف قوي لنظافة اليد، وان المستثمر الذي يخشى الحديث عن محاربة الفساد يثير حوله شكوكا والتباسات. أيا يكن من أمر، فانه بعدما استرعى انتباهنا وارتياحنا تلك التوجهات، فإننا نتمنى الجدية ونرجو بأن يشكل ذلك بوادر مرحلة تلوح في الأفق تحمل رسالة لنا جميعا بأننا قد تجاوزنا رحلة إجادة الكلام فقط عن الفساد وسيادة القانون وما الى ذلك، ودخلنا معمعة الفعل المصمم على اتخاذ كل ما يلزم لمد اليد بالعلاج والتطهير لكل التقيحات والانحرافات والتجاوزات واثبات ان قيمة المساءلة الفعلية بدأت تنال حضورا فاعلا في ساحة الأداء العام والمسؤولية العامة، ولم يعد احد بمنأى عن المساءلة والمحاسبة اذا ما انحرف او اخطأ او أهمل او تجاوز او فسد وافسد.
 
لابد من إيجاد وتفعيل كل انواع وآليات المساءلة والمحاسبة السياسية، والشعبية، والبرلمانية والقضائية، ولدينا طموح كبير بان يعي الجميع بان سياسات مواجهة الفساد ترتبط ضمن ما ترتبط بإرادة تقنع الناس بوجهة لا رجوع عنها، وبمسارات وسلوكيات لا غبار عليها وليس فقط بقرارات وتوجيهات، وسيكون خطأ فادحا ان نترك بيئة الفساد تنمو داخل المجتمع والوزارات والهيئات والمؤسسات بالتستر، بالتبرير، بالاستثناءات، بالواسطات، بالمحسوبيات، بالمحاباة، بالتواطؤ بالكيدية، بالتمييز، بالخوف، بالسكوت على الأخطاء، بالسماح للمفسدين بان يخرجوا لنا كل يوم بلون جديد ليولدوا، وثوب جديد، وشعار جديد فسادا اكبر.. من دون ان ننسى بان ممارسة الطائفية وبث كل ما يؤدي الى الشقاق والخصام والاضطراب الشديد في العلاقات.. والمتاجرة بالدين والطائفية والمذهب هو نوع من الفساد.. وثمة من يرى ان الفساد والطائفية صنوان.. على الاقل حينما يرفع رجال الدين شعارات السياسة ترهيبا، ويرفع رجال السياسة شعارات الدين استقطابا. في النهاية لا مفر من مكافحة الفساد وإرساء مبادئ «الحكم الصالح» و”الحوكمة”  والمساءلة والمحاسبة والجدارة والاستحقاق وتعزيز ثقافة المساءلة، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
 يبقى السؤال الأهم على الإطلاق، هل نحن مستعدون حقا لمواجهة جدية وحاسمة وصارمة ولا مهادنة فيها ولا عودة عنها وبأقصى سرعة ممكنة ومن دون تردد او تحفظ او مواقف ملتبسة ضيقة الأفق.

               هذا هو بيت القصيد ومربط الفرس..؟!! 

 
صحيفة الأيام 15 أكتوبر 2011
 
 

اقرأ المزيد

تداعيات ما بعد سقوط نظام القذافي


من استمع الى الكلمات الحماسية التي أطلقها الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي وديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني حول ليبيا، ومنها تلك التي حفل بها خطاباهما الحماسيان في العاصمة الليبية طرابلس، حول تحرير ليبيا وتمكينها من نيل حريتها من نظام العقيد معمر القذافي – يتراءى له انه أمام مشهد من مشاهد عصور الفتوحات والغزوات والفرمانات المشحونة بنشوات النصر والفتح المبين.
 
من يدري؟ فلربما تراءى لسركوزي أيضا انه نابليون بونابرت، وربما تراءى لكاميرون أيضا انه ونستون تشرتشل أو حتى مارغريت ثاتشر، ما دامت آلة الزمن (Time machine) قد فعلت فعلها وأعادتنا في إحدى لحظات اختطافها للاوعينا والإبحار بنا، في تلك اللحظة تحديدا، الى زمن أدميرالات أعالي البحار والمحيطات والغزوات البحرية المظفرة!
 
انما الفرق أن أمثال هؤلاء “الأشاوس” المحدثين ليس لديهم ما يفخرون به في بلدانهم من انجازات يُعتد بها، بل ان بلدانهم، فرنسا وبريطانيا في الحالة التي نحن بصددها، تجتازان مرحلة عصيبة من تاريخهما المعاصر، لم يتأخر كل منهما عن الإسهام بقسطه في زيادة طينها بلة. فما كان منهما سوى أن يوليا أدبارهما صوب الخارج تصديرا للمشكل الداخلي وبحثا عن “فرص استثمار اقتناصية” علها تقدم عونا لجهود حلحلة ذلكم المشكل المتأزم.. وهو على أية حال، الأسلوب المعتاد والمفضل لدى ساسة الأمم عبر التاريخ حين تعييهم الحيلة للخروج من مآزقهم الداخلية.
 
فانهم يعمدون، والحال هذه، “لحل” مشاكل بلدانهم الداخلية عن طريق الاستحواذات (Acquisitions) الخارجية على طريقة استحواذ الأسماك الكبيرة (الشركات الكبيرة) على الأسماك الصغيرة (الشركات الصغيرة) في سوق مختلة فيه شروط المنافسة.
    
ومادام الشيء بالشيء يذكر، فلعل من المناسب التذكير في هذا المقام ان السيدة مارغريت ثاتشر التي لُقّبت بالمرأة الحديدية حين عمدت الى استخدام العنف والقبضة الحديدية ضد عمال المناجم والاتحادات النقابية البريطانية لفك اضراباتهم واعتصاماتهم ضد سياستها وسياسة حزب المحافظين الذي تزعمته بعد فوز الحزب في الانتخابات البرلمانية في عام 1979 – نقول ان السيدة ثاتشر كانت محظوظة لأن السياسة الاقتصادية الـ “نيو ليبرالية” التي اتبعتها منذ وصولها لعشرة داوننع ستريت، تزامنت بمحض الصدفة مع ارتفاع انتاج بريطانيا من نفط وغاز بحر الشمال، أي مع ارتفاع المداخيل الريعية للخزينة البريطانية، والا ما كان لهذه السياسة التي راكمت الغنى الفاحش في جانب والفقر في جانب آخر على المدين المتوسط والبعيد، ان يُكتب لها النجاح.
 
وعود على بدء، فان القول بقيام عديد الحكومات عبر التاريخ للهروب من استعصاءاتها الداخلية بتصديرها للخارج يصدق على مغامرة الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بمحاولتهما تحويل الأنظار بعيدا عن بلديهما المأزومين ماليا واقتصاديا، فكان تورطهما مباشرةً في الحرب التي شنها حلف شمال الأطلسي على ليبيا للإطاحة بالنظام الحاكم المستبد الذي تسيّده معمر القذافي منذ عام 1969، لا من أجل تمكين الشعب الليبي من حريته وحقه في إقامة نظام ديمقراطي يلبي طموحات الشعب الليبي كما أشاع كل منهما، وإنما هي رائحة الخزين النفطي والغازي الضخم الأخاذة التي حركت شهية الغزاة الجدد، في إعادة غير حميدة لأساليب النهب الكولونيالية العتيقة.
 
هي أساليب هيمنة واستحواذ متجددة وان غُلّفت “باكسسوارات الجذب” اللازمة، وهي تؤسس لنوع آخر، جديد أيضا، من الحروب الصغيرة في المنطقة .. حروب قبلية في ليبيا على ذات النمط الذي جُرب في أفغانستان وفي العراق وفي السودان والذي أنتجت ظروفه الملتبسة تنظيم القاعدة الإرهابي وتشكيلاته وتفريعاته المزدهرة بفعل تلك المغامرات الحربية والأطماع التي تغذيها.
 
فلا تعتقد فرنسا/سركوزي على وجه الخصوص ان أطماعها المتجددة في الشمال الأفريقي، والتي أسفرت عن وجهها في الحالة الليبية التي نحن بصددها، يمكن أن تكون ظروفها المنتجة (بكسر التاء) استثناءً بالنسبة للظروف المشابهة التي انتجت الحركات المناهضة للمصالح الغربية والتي اتخذت اشكالا مختلفة. 

فما أن يسدل الستار على مسرح الحدث وتتضح الصورة أكثر فأكثر حتى تبدأ الاستفاقة ويبدأ الفرز والاستقطاب القبلي والوطني حول رحى النتائج التي أفضى إليها المتغير الفرنسي والأطلسي في المعادلة الليبية الجديدة، ما يرجح احتمالات تكرر السيناريو العراقي وظهور تشكيلات مسلحة على غرار المليشيات المسلحة التي انتشرت في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين واعتمدت العنف والمقاومة المسلحة سبيلا لمكافحة القوات الأجنبية الغازية.
 
وحينها ستمتد الصراعات في ليبيا وتتحول البلاد رويدا رويدا من الحالة الثورية الى الحالة الفوضوية والانتقامية على الطريقة العراقية إياها. فالقبائل المنقسمة والمتنافرة والمتقاتلة حقيقة قائمة على الأرض، وعدة القتال المتمثلة في السلاح الذي صار موزعا ومنتشرا بصورة واسعة ومنفلتة، هي الأخرى موجودة.
 
ولا نقول سوى اللهم احفظ ليبيا وشعبها.
  

اقرأ المزيد

المطلوب صوت العقل


إصلاح الأوضاع السياسية المتوترة إلى حد تنذر بعواقب مشئومة على السلم الأهلي تحتاج الى مبادرات سياسية تفتح الطريق لصوت العقل، والحوار الفاعل أهم الخطوات الحضارية للتعامل السليم من أزماتنا الداخلية التي نرفض رفضا قاطعا التدخل الخارجي فيها تحت أي تبرير كان. وهذا بطبيعة الحال وبقدر ما تتطلب هذه الأوضاع الحلول السياسية الناجعة تتطلب أيضا وقف أعمال العنف الفوضي التخريب والإضرار بالمصالح العامة والخاصة وإشاعة الكراهية تجاه الآخر والشحن الطائفي والتصعيد الذي يهدد نسيجنا الاجتماعي، اذن فالخروج من دائرة التوتر والاحتقان الطائفي والأزمة السياسية كما قلنا سلفا تحتاج إلى فعاليات حوارية ومبادرات تهدف الى احترام سيادة القانون والمؤسسات الدستورية والحقوق وشروط العيش الكريم، ولا يتحقق ذلك الا في ظل التهدئة والأمن والاستقرار السياسي والنقد البناء لا بإشاعة الفوضى والتعصب والتحشيد الطائفي والتعبئة الطائفية والممارسات غير المسؤولية والخطيرة على وحدتنا الوطنية والتعايش والسلم الاهلي والمجتمعي التي تزيدنا انقساما وتفتتا.
فالمطلوب في مثل هذه الظروف السياسية الصعبة التي لا يمكن وفي جميع الأحوال النظر الى نتائجها من دون النظر الى أسبابها التي قادتنا الى المزيد من الانقسام والإقصاء والتشظي والعمل الدؤوب لترسيخ أركان العملية الإصلاحية وتطويرها وتمتين اللحمة الوطنية والالتزام بالحقوق والواجبات، والاهم هنا كما قال جلالة الملك المفدى في كلمته بمناسبة افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الثالث «سيظل التحدي هو المحافظة على معدلات نمو ايجابية والاستمرار في خلق فرص عمل مناسبة».
 
ما حدث في البحرين ليس كما يقول البعض عابراً وطارئا نعم كانت احداثا مؤلمة، كانت قاسية على البحرين أو كما يقول «بعكوف»من حالة بوماهر «ما تستاهل البحرين اللي صار لها “، وبالتالي فالبحرين تلك السفينة التي لم تبحر قط نحو الشطآن الامنة بطرف دون الآخر ولم تحلق في السماء البعيدة بجناح دون الآخر، هي أمانة في أعناقنا جميعا فالحفاظ على هذه الأمانة العزيزة على قلوب الكل تفرض الى إحياء مبادرات فاعلة بغية البحث عن نقاط الالتقاء لا الخلاف، لان المسألة ليست مسألة غالب أو مغلوب وإنما كيف نتدارك تأثيرات الأزمة السلبية على قاعدة التسامح ونبذ العنف واحترام دولة القانون والمؤسسات وقيم المواطنة، وهي مسؤولية وطنية ملقاة على عاتق الجميع.
 
ليس هناك احد فوق النقد، هذا ما أكد عليه سمو ولي العهد في كلمته الشفافة التي ألقاها في بيت التجار قائلا «بممارسة النقد الذاتي وتقييم اعمالنا في الماضي نصل الى تقييم النفس بصدق بغية إعادة اللحمة الى وطننا. وان من بين ما نطمح اليه من نقد هو ان نميز بين الحقوق المدنية التي هي حق للجميع بدون أدنى شك والحقوق السياسية التي من المحرم على الجميع ان تكون بدوافع مذهبية أو طائفية، وان نؤمن بان البحرين وطن الجميع». وفي مقابل ذلك، قال ايضا «تدريجيا حدث ما كنا نحذر منه وهو ان التصلب في الرأي يجعل الطرف الذي نختلف معه في الرأي يفقد الثقة.. البحرين قدمت مشروعاً فيه تنازلات للطرفين لو تم قبوله لما كنا بهذه الحال». ويفهم من كلام سموه، الشفاف والمسؤول ان المبادرة التي أطلقها في مارس الماضي كانت الخيار الأمثل للخروج من الأزمة السياسية والأمنية، وهنا نطرح التساؤلات الآتية: في الوقت الذي نطالب فيه بالحوار الوطني الفاعل والقائم على مبادرة سمو ولي العهد لماذا لم نتعامل وقنداك بحرية مع تلك المبادرة؟ لماذا أهدرنا الفرصة التاريخية الثمينة التي كانت على مستوى كبير من الاهمية بالنسبة للاستقرار السياسي وبالنسبة لطموحاتنا جميعاً؟
 
اجل ليس هناك احد فوق النقد وبالتالي علينا مواجهة كل التحديات الآنية والمحتملة.. علينا تهيئة الأجواء اللازمة لصياغة استراتيجيات وطنية تتجه للإنتاجية وبناء الوطن وتوفير متطلبات المواطن الملحة؛ لأن المواطن الرصيد الحقيقي لهذا الوطن «علينا ان نتكاتف ونضاعف جهودنا إذا ما أردنا ان نتجاوز أخطاءنا وعثراتنا وسلبياتنا ونصد أعداء الوطن الذي يلعبون بورقة الطائفية لتفتيته وانقسام أبنائه.
 
صحيفة الأيام 15 أكتوبر 2011
 

اقرأ المزيد

كيف سيتم التعامل مع تقرير «لجنة بسيوني»؟


من المفترض أن تقدم اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق حول الأحداث في البحرين تقريرها نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري بعد أن قامت بمقابلة جميع الأطراف المعنية من مسئولين حكوميين وجمعيات سياسية وضحايا ومتهمين.
 
تقرير اللجنة يمكن أن يكون بداية لفهم الأحداث التي جرت خلال الأشهر الماضية والتي خلقت شرخاً بين مكونات الشعب البحريني من وجهة نظر محايدة، كما يمكن أن يستغل هذا التقرير لتأسيس قاعدة يمكن من خلالها إعادة الثقة بين الناس، إن تم التعامل مع ما سيخلص إليه بشكل وطني بعيد عن التحزبات الطائفية والمصالح الآنية والشخصية.
 
ومع أن البعض يتوقع أن يتضمن التقرير المخالفات التي حدثت من جميع الأطراف بحيث يخرج بصورة متوازنة لا تلقي اللوم على طرف دون آخر، إلا أن ذلك لا يمنع أن يتم النظر إليه بشكل إيجابي بحيث يتم تصحيح الخطأ وإعادة الحق.
 
حتى الآن تعرض رئيس اللجنة محمود شريف بسيوني إلى انتقادات من الطرفين بسبب تصريحاته، الانتقاد الأول وجه إليه بعد أول اجتماع له مع الجمعيات السياسية عندما أعلن أن اللجنة ستركز في عملها على الانتهاكات التي حدثت من قبل الدولة تجاه حقوق الإنسان في البحرين وقال «سنحقق في كل انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار الماضيين، وما أدى إلى وقوع العنف وتبعاته بعد تلك الفترة. كما سيتضمن التحقيق أسباب مقتل 33 شخصاَ، وكذلك حالات الإصابات والجرحى التي وصلت إلى نحو 400 إصابة، وادعاءات التعذيب، ووقائع ما حدث للطاقم الطبي والتي تم توثيقها أيضاً من قبل منظمات دولية».
 
بعد هذا التصريح تعرض بسيوني لهجمة من الانتقادات التي تضمنت أن اللجنة ستركز على الانتهاكات التي حدثت لطرف دون آخر، إذ أبدى رئيس تجمع الوحدة الوطنية الشيخ عبداللطيف المحمود، قلق التجمع وتخوفه من نشاط اللجنة، وقال «إن التجمع يخشى من عدم تطبيق معايير الحيادية بالنسبة إلى لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الملك، حيث أن اللجنة جعلت مهمتها تتثبت من أي انتهاك لحقوق الإنسان بالنسبة إلى المتهمين في الفتنة التي مرّت بالبحرين… نحن ننتظر أن يكون تقرير اللجنة شاملاً لكل من انتهكت حقوقه من المتهمين ومن المعتدى عليهم بفعل تلك الجمعيات والمنظمات السياسية الدينية».
 
كما تم توجيه الانتقادات من قبل الطرف الآخر لبسيوني عندما قال «إن الجرائم ضد الإنسانية تحتاج إلى عنصرين لتأكيدها وإثباتها، هما عنصر (المنهجية) وعنصر (السياسة)، وأنه وخلال الفترة الزمنية ما بين 1 يوليو/ تموز حتى الآن لم يجد أية أدلة تثبت ذلك في البحرين».
 
ما نأمله هو أن يخرج التقرير بشكل منصف ولدينا كل الثقة في ذلك مما لرئيس اللجنة وأعضائها من تاريخ مشرف في قضايا التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان في العالم. كما نأمل أن لا يتم تفريغ هذا التقرير من محتواه وأن يستغل في تصيد الأخطاء البسيطة وتضخيمها ونسيان ما هو أهم معرفة حقيقة ما جرى ومن هو الضحية بالفعل.
 
 

صحيفة الوسط البحرينية – 11 أكتوبر 2011م

اقرأ المزيد

نحو مبادرة وطنية شجاعة


هل هناك ثمة مواطن عاقل مخلص محب لوطنه يقبل لوطنه ومواطنيه أن يصلوا إلى درك سفلي يحترق فيه الوطن ومواطنوه؟ هل في حرق الوطن ومواطنيه انتصار لأحد؟ ألا يمثل مثل هذا الانتصار – إن جاز للبعض أن يسمي ذلك انتصاراً – وهماً بالانتصار؟ هل يمكن أن يكون هناك انتصار لأحد في وطن ممزق إلى طوائف وأحزاب متناحرة؟ هل يمكن أن يكون هناك انتصار لأحد في وطن محطم اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً؟ ألا تمثل الحالة القائمة في الوطن نوعاً من الجنون يتشارك فيه الجميع بإرادة من البعض أو بدون إرادة من البعض الآخر؟ هل التحريض على روح الكراهية والانتقام يبني وطناً؟ هل تجاوز من يشاركني الوطن وعدم الأخذ بعين الاعتبار لرغباته وقناعاته يبني وطناً؟ هل العمل على التمييز والتفريق بين أبناء الوطن يبني وطناً؟
 
هل يمكن أن يكون هناك انتصار لأحد في وطن مهزوم في مجمله؟ هل نحب لوطننا أن يكون مهزوماً؟
 
إذا سرنا وراء هل وهل… فإن هل الاستفهامية الاستنكارية لن تنتهي، لكن بالتأكيد أنه لا يوجد من بيننا من يحب لوطنه أن يكون مهزوماً. ما دمنا جميعاً لا نحب لوطننا أن يكون مهزوماً، فلماذا لا نعمل جادين في البحث عن انتصاره وتعزيز أسباب هذا الانتصار؟
الأمة الحية هي الأمة التي تتجاوز هزائمها وعثراتها، الأمة الموحدة هي التي تستطيع تجاوز الهزائم والعثرات. الأمة التي تعيش في طوق هزائمها، ويعيش أفرادها منقسمين على أنفسهم، تمزقهم الخلافات، مثل هذه الأمة تعيش الهزيمة ولا تستطيع التخلص منها ومن آثارها. فهل نريد لوطننا ولأنفسنا هزيمة دائمة نعيشها، بل نورثها لأحفادنا وأحفاد أحفادنا؟
المطلوب أن نعود إلى رشدنا وأن نحكم ضمائرنا. الأحقاد والكراهية وتمزيق مكونات الوطن، ذلك لا يبني وطناً سليماً معافىً مزدهراً ينعم بالأمن والطمأنينة. من يعتقد خلاف ذلك لا يعدو أن يكون جاهلاً مريضاً ضاراً بنفسه وبوطنه.
 
مباشرة وبعد الميثاق كان هناك مطلب لتشكيل هيئة للحقيقة والإنصاف تتناول الفترة ما قبل ميثاق العمل الوطني. لا ندري ما دمنا نقول إننا دخلنا مع ميثاق العمل الوطني مرحلة الإصلاح لماذا لم يتم القبول بتشكيل مثل هذه الهيئة؟ الآن أصبحنا أكثر حاجة وأكثر إلحاحاً لتشكيل هيئة للحقيقة والإنصاف لمداواة جروح وآلام ما قبل الميثاق مضافاً إليها المزيد من الجروح والآلام لما بعد 14 فبراير/ شباط 2011 والتي هي مستمرة في النزف والتقيح وممنوع معالجتها ومداواتها حتى الآن. إن استمرار النزف والتقيح فيه ذبح للوطن بمجمله. سيكون واهماً من يعتقد أنه بعيد عن هذا الذبح وآثاره. فهل نقبل بالذبح لوطننا وأهله؟ وللأسف نقول: هناك كُثر ممن يعمل على تمزيق الوطن وذبحه باسم حب الوطن والدفاع عنه، وفي مقدمتهم بعض أصحاب الكلمة، سواء بوعي من البعض أو دون وعي من البعض الآخر.
نعم نحن بحاجة لجرأة تاريخية في لحظات تاريخية، نريد من هذه الجرأة إنتاج مبادرة وطنية جريئة يخلدها تاريخنا الوطني. نحن بحاجة لمبادرة وطنية جريئة تؤسس لحالة وطنية مستقرة تعيش مع الأجيال، مبادرة تسلب الأرضية من تحت أقدام المتطرفين أياً كانوا من هنا أو هناك. نحن بحاجة لمبادرة وطنية شجاعة تشفي وطننا من أمراض مزمنة وجروح غائرة.
لماذا نعمل بجهل منا أو بدون جهل لأن يكون وطننا ويظل ولعقود طويلة يعيش محطات متكررة من العذابات؟ نحن جميعاً زائلون وذاهبون، ليس من بيننا من سيكون خالداً، من هذه العائلة أو تلك، من هذه الطائفة أو تلك، غنياً أو فقيراً، يسكن قصراً أو عشة، الخالد الوحيد هو الوطن. هل نريد لوطننا أن يكون خالداً، لكنه وطن في خلوده يتحارب ويتعادى فيه أهله مع بعضهم البعض؟ ذلك بالتأكيد ليس هو الوطن الحقيقي الذي ننشده ونتمناه.
المبادرة الشجاعة ترتكز على شجاعة أطرافها، ولن تمر المبادرة الشجاعة دون شجاعة أطرافها الذين يبحثون عن انتصار الوطن، وليس عن انتصار العائلة أو القبيلة أو الطائفة، مبادرة يقبل أطرافها بالتنازلات المتبادلة من أجل الوطن وأهله.
 
أعتقد أنه ليس هناك من لا يعرف مقومات وعناصر المبادرة الوطنية الشجاعة، ما نفتقده هو فقدان الجرأة لدى البعض بقبول عناصر المبادرة الوطنية الشجاعة، مضافاً إلى ذلك بعض الأوهام التي تعشعش في عقول البعض. فهل نريد وطناً يسمو بنا ونسمو به؟
المواطنة الحقيقية غير المنقوصة وغير المشوهة هي التي تبني وطناً يسمو بنا ونسمو به. فلنعمل جميعاً من أجل وطن يسمو بنا ونسمو به
 
صحيفة الوسط البحرينية – 11 أكتوبر 2011م
 
 

اقرأ المزيد

رئيس الغفلة!


ربما سحرك بشخصيته كخطيب مفوه وبمفردات خطابه التي تجرأت على ملامسة جانب من جوانب الضعف والهشاشة في النظام المؤسسي الأمريكي وفي بنيان الدولة الأمريكية ومقومات استدامتها وفتنة حلمها الذي صار استمرار الادعاء به زعما مُرسَلا. فقلة من الرؤساء الأمريكيين من تجرءوا على تسليط الأضواء على تلك “البقع الداكنة” في النظام المؤسسي وفي بنيان الدولة الامريكية ومنهم وابرزهم دوايت ايزنهاور الرئيس الرابع والثلاثين الذي حكم خلال الفترة من 1953 الى 1961. فهو أول من أطلق تحذيره الشهير للشعب الأمريكي من مغبة هيمنة شبكة مصالح رأس المال المستثمر في الانتاج الحربي مع زمرة من الجنرالات في وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون)، على مستقبل البلاد ورفاهها الاقتصادي وحرياتها المدنية. حيث أفصح عن هذا الخطر الداهم في خطابه الوداعي الشهير الى الأمة في 17 يناير/كانون الثاني من عام 1961 بالقول: “ان اتحاد المؤسسة العسكرية الضخمة مع الصناعة الحربية الواسعة لَيُشكل ظاهرة جديدة في التجربة الامريكية، وان تأثيرات هذا المجمع الصناعي-الحربي (وكانت هذه أول مرة يُستخدم فيها تعبير المجمع الصناعي-الحربي) الاقتصادية والسياسية وحتى الفكرية لَتُلمس في كل مدينة وفي كل حكومة كل ولاية وفي أية دائرة من دوائر الحكومة الفدرالية…..”.
 
ولسوف يُسجَّل للرئيس باراك أوباما أيضا بأنه أحد الرؤساء الأمريكيين القلائل الذين تجرءوا على تسليط بعض الضوء على بعض أوجه الاختلالات الهيكلية، الجوهرية، في المؤسسة الامريكية الحاكمة. فقد جاء بحملة انتخابية محورها التغيير وشعارها “نعم نستطيع”. ولم ينتظر الرئيس أوباما “الوقت المناسب” (كما فعل دوايت آيزنهاور عندما ضبط توقيت تصريحه المدوي الشهير بشأن خطورة ما أسماه بالتجمع الصناعي-الحربي على المجتمع الامريكي مع انتهاء فترة ولايته الثانية)، وانما سارع لطرح أحد أهم محاور مخططه للتغيير، وهو تعميم فوائد وعوائد نظام الخدمات والرعاية الصحية، تحقيقا للعدالة الاجتماعية التي أخل بها توحش نموذج الرأسمالية الامريكية. ولربما كانت هذه إحدى سقطات الرئيس أوباما التي بسببها فتح على نفسه مبكرا أبواب عواصف مراكز قوى المصالح الكبرى النافذة، لاسيما اليمين المتطرف الذي جاء الى الكونغرس بأكثر أجنحته تطرفا وهو “حزب الشاي” لينهض كابوسا منغصا على كل حركة أو إيماءة يبديها الرئيس أوباما وحزبه الديمقراطي. حيث استثمر هذا الجناح المتطرف الأغلبية التي يتمتع بها الجمهوريون في مجلس النواب والتجليات الاجتماعية للأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد، وراحوا يطلقون بمكر ودهاء شديدين حملات تخويف للأمريكيين مما أسموه السياسات المتخبطة للرئيس وحزبه الحاكم، فكان أن انهار الرئيس وخضع لابتزازهم عند أول معركة حقيقية يخوضها لانفاذ برنامجه للتغيير الوطني الذي أوصله الى البيت الابيض، وكان ذلك في اختبار القوة الذي خاضه مــع
 
 
 
 
 
 
 
 
الزمرة الصغيرة من نواب حزب الشاي  في موضوع رفع سقف الاستدانة الوطني، فخذل بذلك أتباعه وأنصاره الذين عوّلوا عليه في إحداث التغيير المطلوب في ميزان القوى الاجتماعية من خلال إعادة نشر الثروة وتحقيق نوع من التوازن المختل بصورة فظيعة بين مختلف فئات المجتمع الامريكي.
 
فكان ذلك إيذانا ببدء فقدان الرئيس لمصداقيته في الداخل الامريكي، ثم سرعان ما يفقدها في الخارج أيضا اثر خطابه الاسرائيلي الفاقع يوم الاربعاء 21 سبتمبر/ايلول 2011 أمام الاجتماع السنوي للجمعية العامة للامم المتحدة. فلقد كان ذلك الخطاب رثا بائسا بتزلفه الفاضح لجمهور الناخبين الامريكيين اليهود ولمافياتهم الاوليغارشية بصورة لا تصدق، خصوصا حين يضع المراقب هذا الخطاب قبالة خطابات الرئيس أوباما في جامعة القاهرة وتركيا واندونيسيا. حتى الصحف الامريكية وبعض كتاب الصحف الاسرائيلية، وقد صدمتهم “اللغة الاسرائيلية” التي استخدمها أوباما في خطابه، لم يترددوا في انتقاده وانتقاد خطابه بل وحتى الهزء به والسخرية منه ومن طريقة استجدائه لليهود الامريكيين لمد يد العون له في انتخابات العام المقبل.
 
الرئيس أوباما، بهذا المعنى، ينطبق عليه القول المأثور “أسمع كلامك يعجبني أرى أفعالك أتعجب”. وقد يقول قائل انما هذا، على أية حال، هو ديدن السياسة والاستخدامات المراوغة والماكرة لأدواتها وتجهيزاتها غبر التاريخ. وهذا قول لا غبار عليه ولا جدال فيه إلا حيثما اقتضى بعض تفصيلاته الاشكالية ذلك.
 
ذلك في الاطار العام للجدل المجرد حول السياسة وفرسانها الحاذقين والماهرين، والخائبين والمتطفلين عليها على حد سواء. أما في الاطار الخاص المتصل حصرا في الحالة النموذجية المثالية للدراسة والتحليل التي نحن بصددها، وهي حالة الرئيس باراك أوباما ومقاربته للسياسة التي رفعته الى أعلى مراتب ومراكز صناعة القرار في القوة العظمى الأولى في العالم، فان الأيام كشفت لنا كم أن هذا القائد الذي بدا للجميع تقريبا، لأول وهلة، ملهما، ليِّن العريكة سرعان ما يتسلل اليه الضعف فيستسلم وينكسر وهو ما لا يليق بطبيعة الحال برئيس دولة عظمى تشكل قيم القوة والتفوق والإقدام ركنا أساسيا في ثقافتها. 
   
وعلى ذلك وإزاء حالات الضعف التي أظهرها الرئيس أوباما في بعض القضايا الحاسمة والحساسة، فان المتوقع أن يدفع ثمن هذا الضعف المتجسد في تنازلات وتراجعات فاضحة بالانضمام الى زمرة الرؤساء الامريكيين الذين لم يعمروا في الكرسي الرئاسي للبيت الأبيض سوى دورة واحدة، وجلهم تقريبا ينتمون الى الرعيل الأول من الرؤساء الامريكيين مثل جون آدمز (1797-1801)، وجون كوينسي آدمز (1825-1829)، ومارتن فان بورتن (1837-1841)، وجيمس بولك (1845-1849)، وميلارد فيلمور (1850-1853)، وفرانكلين بيرس (1853-1857)، وجيمس بوكنان (1857-1861)، وأندرو جونسون (1865-1869)، وروثرفورد هيس (1877-1881)، وتشيستر آرثر (1881-1885)، وجروفر كليفلاند (1885-1889)، وبنجامين هاريسون (1889-1893)، وهربرت هوفر (1929-1933)، وأخيرا جيمي كارتر (1977-1981).   
 
فهل يتمكن الرئيس أوباما من إنقاذ عهده فيما تبقى له من بضعة أشهر؟
 
كل شيء جائز طبعا في السياسة وفي “لعبة” موازين القوى التي تتحرك في خضمها. بيد ان حظوظ الرئيس أوباما تبدو ضئيلة للغاية إن لم تكن معدومة في ضوء الحالة السيئة للاقتصاد الامريكي، فضلا عن إدارته المهتزة والمتذبذبة التي خذل بها جمهور ناخبيه.
 
سمعنا عن عريس الغفلة، ويبدو أننا على موعد قريب مع رئيس الغفلة!
 
 

اقرأ المزيد

حـــرب عــــلى التفـــــاؤل….!


مرة أخرى يضع عاهل البلاد النقاط على الحروف، على الأقل فيما يتعلق بالمعاني ذات الصلة بإذكاء روح التسامح والتكاتف والعيش المشترك معا وأبدا. شكر عميق للعاهل الذي ظل في دأبه يؤكد على هذه المعاني، ويدعو اليها والالتزام بها والى استئناف الاشغال والاعمال التي تدفع الى اعتماد منطق الاعتدال في الأقوال والأفعال ووقف حمل معاول الهدم المؤدية بنا الى آفاق ضيقة خانقة تجعلنا وكأننا في حرب على التفاؤل..!،
لذا كان هما كبيرا للعاهل وهمنا معه حتما هو استنهاض الضمير الوطني الذي يؤسس عليه – بين ما يؤسس له- ايجاد المعالجات السريعة التي من شأنها اعادة الروح او بعض الروح او شيء من الروح الى الصيغة الفذة والنموذج والمثل في التعايش والعيش المشترك والمصير المشترك الرافض للفئوية والطائفية والمذهبية والتشرذم وهي المعاني الذي ظل العاهل يشدد عليها.
 
وبهذه المعاني، وبهذه الروح، وبهذه الرغبة يكون هم العاهل وهمنا معه اليوم ان تنطفئ شرارات الفتنة ولا نترك نارا تحت الرماد وان نتطلع صوب المستقبل بأمل معقود على العقل. العقل الذي يرى أبعد من الحاضر، ويعي بأن البلاد لا تحتمل هذا الذي جرى ويجري، ولا تحتمل هذه الاثارات والمماحكات التي في غير موضعها، ولا هذه «الجعجعة» التي لا تقرب حلا، ولا تقرب احدا من احد، وتدفع لمزيد من الامعان في الخطأ والخطايا.
 
 لذلك فان رؤى عاهل البلاد حفظه الله خاصة في كلمته في العشر الاواخر من رمضان، ثم في لقائه الاخير بعدد من العائلات البحرينية تلقى صدى وتجاوبا عند البحرينيين الغيورين على المصلحة العليا للبلد والشعب والذين آلمهم وأوجعهم كل الذي جرى، ويحلمون بوطن خال من المنغصات والحساسيات والتعقيدات والمنزلقات الآخذة مجراها غير متوقفة اجلالا واحتراما لكل المشتركات والانصهارات التي ظلت دوما تجمع وتقرب وتوحد ولا تفرق وجعلت قضية الحفاظ على نسيجنا الوطني أولوية غير قابلة للمساومة ابدا وعلى الدوام.
غير ان الواقع الراهن محزن ومزعج ومضن ومهلك للاعصاب ومفقد للراحة ومقلق من جميع الوجوه، خاصة واننا لازلنا نرى ان هناك من يريد ان يمضي بنا مستمتعا بـ»نكش» كل ما يزيد التأزم ويخلق المناخات التي تجافي الحكمة وبعد النظر، وعلينا ان ننتبه ونتنبه ونحذر من هؤلاء الذين يذكون ويؤججون الوضع وينفشون السموم بأقوى من الريح العاتية ويمارسون ما يمثل عبثا غير مسؤول بنسيج المجتمع.. يريدون أن يلعبوا ويتلاعبوا بنا كحجارة الشطرنج .. ومنهم من أصحاب الرؤى القاصرة والمتشاطرة والحسابات الصغيرة والذين مارسوا أداء سياسيا رديئا بكل المقاييس ومعهم الذين يطرحون الشيء ونقيضه وكذلك الطارئين على حياتنا العامة وكذلك وأصحاب التطلعات الشخصية ومدعي تمثيل الطوائف وهم كثر، والانتهازيين وأصحاب المآرب الذين عرفوا كيف يحولون الازمة الى فرصة وهم اكثر، والجهلة الذين يظنون – رغم ان بعض الظن اثم- بان التصدي لأي مشكلة او قضية هي اليوم حكما تكون على حساب الاخرى وضدها وكأن ليس ثمة مشترك من اي نوع يجمع مع الآخر، ويريدون ان تعالج المشاكل والقضايا على طريقة مداواة المرض بالمرض، او مطالبة الدواء من اهل الداء.
أولئك من الضفتين وقلنا بأنهم كثر لا تعجبهم تلك الرؤى بل لهم من الأقوال والتصرفات ما لا يعرف البراءة حينما يستهدف عرقلة المحاولات الدؤوبة التي يراد لها ان تقف بوجه من يريد ان يقطع الوشائج بين أطياف المجتمع وثوابته وان يزرع بذور الفتنة بين ابنائه وينبش رفات الفرز الطائفي وإطلاق موجات تشكيك ضربت واساءت لكثير من المواقع والشخصيات. لذلك هم يقفون بالمرصاد ويتحفزون للانقاض وبأفعال شتى لكل التطمينات والوعود والاشارات بفرج قريب يعيد مناخات التوافق والوئام التي من شأنها ان تسرع من التوصل ولو بالخطوط العريضة الى ما يوقف الهواجس التي تغرق فيها الآمال بعد الاحلام، والذين ظهروا لنا متفننين ومبدعين في كل ما ينقل البلاد من تصعيد الى آخر، وهم الذين نغبطهم – ونكاد نحسدهم – على قريحتهم في ابتكار الشعارات الرافضة علنا لكل محاولات تكريس الطائفية والداعية الى محاصرة بذور الفتنة وكأن الفتنة فعلا مجهول الفاعل. هؤلاء يفعلون ذلك متجاهلين او جاهلين -لم تعد تفرق- بان محاصرة الفتنة تفرض من بين ما تفرض، معرفة أبعادها والذين يقفون وراءها ثم الذين يشاركون في تشعبها وامتدادها ومن يتوزعون الادوار في السر والعلن ربما بذلك نستطيع ان نمارس فعل التصدي ولا نبقيه في مرحلة تأجيل، لان اعلان الحرب على الفتنة وحده لا يكفي لمحاصرة الفتنة والتصدي لها اذا لم يكن هناك فعل ينطلق من الايمان بالسلم الاهلي والعيش المشترك والوحدة الوطنية الذي ستظل كما كانت دوما الخيار الأوحد والاستحقاق الذي لا يفيد التهرب منه.
إذن الوحدة الوطنية.. الوحدة الحقيقية والملموسة والمحسوسة، مهما ظن بعض الحاذقين والحاقدين ممن يريدون شرعنة الانكفاء وجعلنا عاجزين عن توليد الحلول والتماهي في محاولات وممارسات لا طاقة لنا على تحملها ولا حاجة للشرح، مهما ظن هؤلاء بان الوقت قد فات لتدارك الوضع بعد كل هذه الافرازات والتداعيات التي يزخر بها المشهد المحلي، إلا انه ليس أمامنا سوى ان نجعل ملف الوحدة الوطنية موضع اهتمام وعقول الجميع من كل الافرقاء والأطياف. واذا كان من حق أي كان مهما عظم شأنه ان يكون له موقف أو رأي إلا انه ليس من حقه أبدا ان يجرنا الى محنة وطنية.
رجاء.. وقبل ان يدهمنا اليأس.. افعلوا شيئا يعيد الجميع الى جادة الصواب، ولابد ان تخطى الدعوة الاخيرة لصاحبي السمو رئيس الوزراء وولي العهد «لاعتماد خطاب وطني جامع يمثل شعب البحرين الواحد ويحارب الفئوية، ويجعل الوطنية لا الطائفية هي المحور الذي يلتقي عليه الجميع، والتوقف عن الخطاب الذي يفرق ولا يجمع».. صداها على أرض الواقع، وهي دعوة اذا التزم الجميع بها قد تعيد لحياتنا العامة شيء من الرونق والحيوية وقد يكون ذلك بداية لعمل وطني حقيقي مطلوب لا يكتفي بالتغني فقط بالوحدة او اللحمة الوطنية ولابد ان ندرك بان الوقت لم يفت لتدراك الوضع متى ما اقتنعنا وعملنا على أساس أن وقت الإصلاح الحقيقي لا يفوت أبدا..!! أما ان يبقى الحال على ما هو عليه فذلك ليس أكثر من بداية طريق طويل من المآسي والآلام، وسيكون في وضع كهذا صوت كل مخلص، وكل مبادرة مجرد صدى في برية، وهو أمر لاشك انه باعث على ارتياح كل من يريد ان يوصلنا الى طريق مسدود. نعلم بأن هناك من بات لا هم لهم اليوم الا ان تكون كل مجريات الأمور في غير محلها وفي غير السياق الطبيعي، لذلك يجعلون انعكاسات اي كلام طيب، او اي خطوة نبيلة في الهدف والمقصد تنقلب بقدرة قادر رأسا على عقب حينما تظهر لتصيب الطرف الآخر، لذلك يبقى المشهد العام مؤلم وموجع ومهين لكل بحريني مخلص مهما كان انتماؤه. هؤلاء يبدو انهم يريدوننا ان نكتفي بالشعارات ونغرق فيها رغم انهم يحرفونها عن اهدافها كيفما يشاؤون، و”بالحنجلة” التي لا تؤدي الا الى حال من المراوحة والعبث بكل الاعراف والتقاليد التي شكلت حزام الامان للجميع او يعقل هذا الاستهتار، هذه اللامبالاة بمصلحة البلد والناس، والمصلحة العامة والخاصة على حد سواء، وكم يستطيع الناس ان يتحملوا، ويصبروا، ويسكتوا.
وهل من المعقول على المعنيين بالوضع السياسي وطواويس السياسة ومسرحياتها وكرنفالاتها مهما تعاظمت قوتهم وقدراتهم وبحثهم عن فوز او انتصار او استئثار ان يتوهموا انه يمكن قبول هذا الوضع الى مالا نهاية.
ليس علينا فقط ان نشدد دوما على الوحدة الوطنية، والوفاق الوطني، والتوافق، وان نبدي حرصا على الالتزام بتفعيل مخرجات الحوار الوطني، بقدر ما علينا ان نمارس فعلا حاسما يوقف كل ممارسات الترهيب والترويع من اي نوع والتي تخلق المزيد من المناخات التي يراد لها ان تحقق المزيد من الافتراق والتباعد فيما بين ابناء البلد لتحكمنا الاحقاد والضغائن، نهاجم بعضنا بعضا، ونجعل الثوابت الوطنية مجرد صورة وهمية وصورية، وبات واضحا ان ما كان يقال تلميحا او تلويحا صار يقال صراحة من دون تردد ومن دون رادع، ومن دون نظر في نتائج، وهو امر في كل الاحوال يضرب الثوابت في الصميم، ويهيئ لإشعال فتنة هل هذا ما نريد..؟ لابد أن نتحرك بروح عالية من المسؤولية وبالحد الأقصى من الغيرة على الوطن وأن نفكر بوسائل تقفل الأبواب أمام كل المنغصات الطائفية التي صارت العنوان الأول في يوميات كل مواطن وأن نعمل بمنتهى الجدية على ما يحشد الصف الوطني للدفاع عن المصلحة العليا للبلد والشعب المهددة من كل صوب، وسيكون من الخطأ الفادح الذي لا يجوز الاستهانة به ان نجعل مستقبل الوطن في مهب المجهول اذا لم نعد الاعتبار لأجواء التعقل والاعتدال والتوافق.
 
جريدة الأيام  3 أكتوبر 2011

اقرأ المزيد

الديمقراطية الهندية إذ تجدد نفسها


تعتبر الديمقراطية الهندية في حكم التجارب الديمقراطية الشابة في “العالم الثالث” وفي العالم قاطبة. فعمرها من عمر انعتاق الهند من ربقة الاستعمار واستقلالها عن بريطانيا في عام 1947.

ومع ذلك فإن الديمقراطية الهندية تندرج في مصاف الديمقراطيات العريقة في العالم، من حيث انها تستوعب أوسع تمثيل مصلحي لكتلة بشرية تربو على المليار نسمة، ومن حيث جوهرها التداولي السلمي للسلطة، حيث الكلمة الفصل في هذا التداول تعود إلى صوت الناخب الحر والصندوق ألاقتراعي. فكان أن وفرت هذه الصيغة المجتمعية التوافقية (التعاقدية) لتداول السلطة في إطار المنافسة البرامجية، المختبرة المصداقية، للأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية الهندية – أن وفرت الاستقرار المنشود للهند، والذي مكنها بدوره من الالتحاق بركب الدول الصاعدة إلى قمة المجد الاقتصادي والتنموي في العالم، رغم ما تزخر به خريطتها الاجتماعية من قوميات وأثنيات وديانات وطوائف لا حصر لها، يجمعها العيش المشترك المُشاد على أساس المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات.

ومع الثورة الاقتصادية التي أطلقها بامولابارتي فينكاتا ناراسيمها راو رئيس وزراء الهند خلال الفترة من 1991 – 1996 على غرار ثورة دينغ هسياو بينج في الصين في عام 1987، حيث أطلق العنان للمبادرة الخاصة وفتح أبواب الاقتصاد الهندي أمام الاستثمار الأجنبي – فقد كان لابد وأن يترافق ذلكم التوسع الرأسمالي الشرس مع اتساع نطاق الفساد في مختلف أجهزة السلطة، التنفيذية والتشريعية والحزبية.

ومن المفارقات التي تُذكر في هذا الصدد أن حكومة بامولابارني فينكاتا ناراسيمها راو، وهو الزعيم الذي خلف رئيس الحكومة الراحل راجيف غاندي في زعامة حزب المؤتمر بعد اغتياله على أيدي المتشددين التاميل، والذي أطلق، كما أسلفنا، شرارة الإصلاحات الاقتصادية الكاسحة – المفارقة أن حكومته قد سقطت تحت دوي فضيحة فساد كبرى في عام 1996، دفع ثمنها حزب المؤتمر الحاكم في الانتخابات التي أُجريت في ذلك العام، حيث فقد السلطة لصالح ائتلاف أحزاب اليمين قبل أن يتمكن حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي المتشدد الذي تأسس في عام 1980، كثاني أكبر الأحزاب الهندية بعد حزب المؤتمر العريق، من إدارة دفة الحكم في البلاد في عام 1998 بقيادة مؤسس وزعيم الحزب آتال بيهاري فاجبايي.

ولكن سقوط حكومة حزب المؤتمر برئاسة ناراسيمها راو تحت صدمة فضيحة الفساد في ذلك العام، لم يكن إيذاناً بفتح ملف الفساد المستشري بفعل التوحش الرأسمالي. فكان لابد للديمقراطية الهندية كآلية تسيير مجتمعية مستقرة، من أن تستدرك هذا الاختلال الخطير بين غاية الديمقراطية الهندية كآلية لترشيد الأداء الإنتاجي الكلي وتنقيته من الشوائب وبين ما آلت إليه محصلتها خصوصاً في العقدين الأخيرين.

ومع أن الديمقراطية الهندية لا تعدم وسائل تصحيحها الداخلية، فقد جاءها المدد من الفلسفة الغاندية التي تعتبر الأب الروحي للديمقراطية الهندية بما تمثله من نقاء وتصوف سياسيين.
فلقد اختار الناشط وداعية الحقوق المدنية الهندي “آنا هزاري” طريق إحياء التراث النضالي لزعيم الهند الأعظم المهاتما غاندي المتمثل في النضال السلمي وبضمنه الإضراب عن الطعام من أجل لفت الانتباه وإثارة الرأي العام الهندي إلى خطر الفساد المحدق بالأمة وبالدولة الهندية. وعلى مدى ثلاثة عشر يوماً من إضرابه استطاع هذا الشيخ الجليل (73 عاماً) استقطاب تأييد ملايين الهنود لحركته السلمية، وإجبار الحكومة والبرلمان بالموافقة على أهم مطالبه المتمثلة في سن قانون لإنشاء ما يسمى “لوكبال”، وهي هيئة مستقلة للتحقيق في قضايا الفساد وملاحقتها جنائياً وقضائياً. وبعد إعلان رئيس الحكومة الهندية ماموهان سينج قرار البرلمان بالموافقة على معظم مطالب هزاري، أنهى الأخير إضرابه عن الطعام بأخذه كأساً من مشروب جوز الهند من طفلين سلماه إياه كي يدشن إنهاء إضرابه عن الطعام، لترتفع الحناجر بعدها مرددةً: “دع الشعلة مشتعلة أيها الأب هزاري، فمعركة التغيير قد انطلقت، ونحن معك” فأجاب هزاري الحشود قائلاً بأنني سوف أواصل حملتي إلى أن ترى “لوكبال” النور”.

في ذات الوقت سوف يستثمر هزاري وأنصاره انتصارهم في قضية الفساد بالمبادرة لتوجيه الأنظار وتركيز الاهتمام على قضايا أخرى لا تقل إلحاحاً وإشكالية، مثل تعزيز صلاحيات وإمكانيات المجالس القروية وإعادة تجديد وتحديث النظام الانتخابي بما يُمكِّن الناخبين من رفض السياسيين الذين يخذلونهم.
وكما قال هزاري “لقد أنهيت إضرابي عن الطعام ولكن نضالي سوف يتواصل إلى أن تتحقق كل تلك الأهداف.
لقد انتصر المجتمع المدني الهندي على الحكومة الهندية في واحدة من أهم معارك إعادة صياغة النظام الديمقراطي الهندي، وأثبتت حركة هزاري أن النظام الهندي يمكن أن يعمل وأن يتطور سلمياً، فقد سير أنصار حركة هزاري مظاهرات ضخمة في قلب العاصمة الهندية من دون أن تتخللها أعمال عنف أو مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين.

اقرأ المزيد

تصليحُ قوس اجتماعي مكسور


مع تنامي العملية الانتخابية واكتمالها فإننا نشهدُ ظاهراتٍ عدة متضادة ومنوعة؛ فثمة مناطقٌ تزدهر ومناطقٌ منغلقة تعاند. وثمة فئاتٌ من القوى السياسيةِ الصغيرةِ اجتماعيا وهناك صعودٌ للوجوه الرأسمالية الكبيرة، أولئك ذوو خطاباتٍ صارخة مثلوا مراوحة تاريخية، وهؤلاء بعد لم يعثروا على مواقع أقدامهم الاجتماعية ويشكلوا عمالهم المتطورين المواطنين ذوي الظروف الحسنة.
الرأسمالية الحكومية الشمولية كنموذج تاريخي في حالاتِ إفلاس متعددة، وأصواتُها السياسية المحلية التي لم تقرأ السيرورةَ التاريخية، وتطرحْ نموذجَها المسدودَ في الريف الباحث عن أي تنمية ولو يسيرة، وتُضيعُ أرضَ الفرص والتحولات التاريخية.
قدرةُ الأصواتِ الجديدة والوجوه المختلفة الصاعدة للعمل البرلماني هي في مدى مدِ أيديها إلى العمال الوطنيين وإلى العاطلين وتكوين مشروعات سياسية واقتصادية تحولية.
وفيما مناطق تحطمُ بعضَ الأدوات المعدة للخدمات ثمة مناطق أخرى تمتلئ بأناس يحتشدون في مطاعم راقية.
ثمة مناطق تختنق وثمة مناطق تنفتح فلماذا؟
هناك أفقٌ سياسي جديد بحاجة إلى الانتشار وتكوين مؤسسات واسعة مؤثرة في الجمهور، وهناك أفق مختنق وصل إلى طريق مسدود وليست لديه شجاعة الاعتراف بهذا الطريق المسدود، أو لا يملك تلك الخطوط ليحلل ويعترف ويراجع.
هذا الطريق المسدود بدأ منذ اعتبار القوقعة الطائفية مشروعا سياسيا، ثم تحويله إلى حلقاتٍ ذات أنصال مرهفة تتغلغلُ في اللحم الشعبي المتعدد الآلام، وترفضُ التراكمَ ونشر أشكال البناء المتعددة الصبور، فضاع أكثر من ربع قرن على حرب العصابات الاجتماعية.
هل لدى الفئات الاقتصادية الكبيرة قدرة على فهم لحظة التجاوز الراهنة؟ أو تثبت أن المراهنة عليها يمكن أن تصنع مرحلة جديدة، مرحلة بناء حقيقية؟
هل لديها قدرة على صناعات شعبية وعمالة وطنية كثيفة وتغيير طابع الفندقة الغريبة وتحويلها لفندقة بحرينية؟ هل ستقاربُ الجزرَ الاقتصادية من الشباب الواعد البحريني المتعطش للفرص؟
العمليتان السياسية والاقتصادية متشابكتانِ، فاللغة السياسية البنائية في مجال الوعود الانتخابية محدودة وغير ذات تجذر في فهم الواقع، فهي ذات كلمات عامة مثل التركيز في الوحدة الوطنية كشعاراتٍ مجردة، لكن كيف تتحول هذه الشعارات إلى مشروعات؟ لماذا لا يتثقف أربابُ العمل عبر الثقافات الحديثة ويطالعون تفجر قدرات النمور في مختلف قارات التنمية؟
فكما أن جيلاً شحب وتجمد سياسيا لا نريد للجيل الجديد أن يتاجر في الكلمات والشعارات.
كيف سيتم توجيه الفوائض لمشروعات الإسكان الكبيرة التاريخية التي تغدو عمليات مفصلية وتغير جزءًا من حياة السكان؟
كيف تتم مناقشات وتقديم مشروعات لاستعادة الشباب للعمل والتصنيع وإنشاء المصانع الصغيرة ومعامل الثروة العلمية الخاصة بهم ونشر القنوات الحرة والمجال المفتوح في البحث عن النفط؟ كيف يمكن جعل مقاومة التلوث وارتفاع الأسعار والايجارات عمليات شعبية؟
كيف يمكن أن تتحول الجلسات البرلمانية إلى بحث عن تغيير وحلول للمشكلات والتأزيمات؟
يمكن للرأسمالية الكبيرة أن تكون ثورية ولكن بشكل عملي مربح، وبأشكال جديدة ومبتكرة، وليست التجربة التركية بعيدة عن تطورنا.
في المجال السياسي لابد من وعي إمكانيات التحول المفتوحة لدول مجلس التعاون، وأن هناك ثروات مطمورة بحاجة إلى قيادات ومغامرات الشباب، فثمة آفاق هائلة أكبر بكثير والكثيرون من الأجانب يستفيدون فيما آخرون غير قادرين على تكوين الثورة في الاقتصاد والتنمية والتشغيل فثمة كنوز ترقد عليها دول الخليج العربية.
لابد من إعلام مختلف، إعلام يخرج الشباب من الكهوف قبل أن يجدوا أنفسهم يفقدون ليس الكراسي السياسية بل أيضاً الوظائف والأعمال والثروات التي تجتاحها حشودٌ من القوى الأجنبية.
إن إزالة القوس المكسور يتم من خلال طبقة بناءة تعبر من هوة الايديولوجيا والصراخ السياسي إلى مؤسسات الاقتصاد الوطني التي لا تخاف التضحية وتكسب المستقبل.
 
أخبار الخليج  29 سبتمبر 2011
 

اقرأ المزيد