المنشور

الطريق الثالث


صحيح أن المجتمع البحريني منقسم الآن إلى قسمين، من يطالب بالإصلاح، ومن يعارض الإصلاح بحجة أن الوقت مازال مبكراً لاتخاذ خطوات أكثر تقدماً يمكن أن تربك الواقع الحالي وتفرض واقعاً يغلب جهة على أخرى. ولكن الصحيح أيضاً أن المجتمع انقسم طائفياً، فهناك من أدخل الخوف في نفوس المواطنين وزرع لديهم قناعة بأن ما سيحصل عليه الطرف الآخر من مكاسب – في حال إجراء الإصلاحات – إنما سيكون على حسابهم، ولذلك أصبح هذا الطرف يخاف من أي مكسب يحققها الطرف الآخر.
 
ما لا يستطيع أحد إنكاره للأسف هو انشطار المجتمع البحريني بشكل طائفي، مع وجود أفراد قلائل يتخذون موقفاً آخر عن طائفتها تبعاً لقناعاتهم ومبادئهم أو خطهم السياسي أو حتى مصالحهم. فلقد حددت المواقف مسبقاً بحيث لا يمكن لأي طرف من الأطراف كسب تعاطف حتى أفراد قلائل من الطرف الآخر.
 
وما لا يستطيع أحد إنكاره أيضاً، أن أية شرارة يمكن أن تشعل ناراً لا تبقي ولا تذر في هذا الواقع القابل للاشتعال في أية لحظة.
 
في هذا الظرف يجب أن تكون الأولوية هي منع التجاذب الطائفي والإبقاء على نسيج المجتمع ومحاولة فتح طرق جديدة لفهم الآخر للوصول إلى اتفاق يجمع المواطنين ولا يفرقهم، ويزرع الحب بينهم بدلاً من البغض والتشفي ويلغي مخاوف كل طرف من الآخر.
 
إن المطالب السياسية إن لم تتحقق اليوم فيمكن تحقيقها في المستقبل، فلا أحد يستطيع إيقاف عجلة التطور، وليس من حق أحد أن يمنع القوى المعارضة من طرح مطالبها في أي وقت ولكن إن حدثت فتنة طائفية، فإن ذلك سيدخل البلد في وضع لا يمكن الخروج منه، وسيكرس كرهاً وحقداً لا ينسى سيتوارثه أبناؤنا جيلاً بعد جيل، وسيبعد كل طرف عن الآخر لعشرات السنين.
 
ولذلك لابد من إيجاد طريق ثالث في هذا الوقت، عندما حدثت الفتنة في خمسينيات القرن الماضي وجد نفر قليل من المواطنين الشرفاء مخرجاً من تلك الأزمة، واستطاعوا أن يوحدوا الشعب البحريني بجميع فئاته وطوائفه تحت قيادة هيئة الاتحاد الوطني بعد أن كادت الأمور أن تصل إلى حرب بين الطائفتين.
لم يكن الوضع حينها أقل شأناً مما نحن عليه الآن ولكن كان لتغليب صوت العقل والاحتكام للعدل والحق استطاع أن يجمع الطائفتين على مطالب هدفت إلى تطوير المجتمع والدولة، تمثّلت في تأسيس مجلس تشريعي ووضع قانون عام للبلاد جنائي ومدني والسماح بتأسيس النقابات.
 
البحرين لم تخلُ يوماً من العقلاء الذين يرون أن مصلحة البحرين ومواطنيها فوق أي اعتبار، ولذلك فإن الأمل لا يزال باقياً في أن يخرج إلينا مثل هؤلاء بطريق ثالث يجنب البحرين طريقاً لا يريد أحدٌ للبحرين أن تسلكه.
 

صحيفة الوسط البحرينية – 04 نوفمبر 2011م
 

اقرأ المزيد

نوابنا لا تجعلوا المستقبل مليئا بخيبات الأمل…!


معظم ما أفاضت به القرائح حول الحالة البرلمانية بدءا بالانتخابات التكميلية، ثم الإعادة، والمقاطعة وإفرازاتها، مرورا بالنتائج ثم التركيبة الجديدة التي آل اليها مجلس النواب، وخارطة التكتلات والمفاجآت التي حدثت على صعيد رئاسات اللجان البرلمانية، وانتهاء بالرهانات على مستوى الأداء مجلسا وافرادا وكتلا، وما اذا كان هذا الاداء سيثرى التجربة البرلمانية ام لا..ام سيظل مستثيرا للمشاعر ومصدرا للغط والغلط؟ فانه مهما كانت الرؤى والملاحظات والمآخذات والاعتراضات والمقارنات والتوجسات المزمن منها والحديث حول تلك الامور، وحول الاستحقاقات الانية والمقبلة الملحة الملقاة على عاتق البرلمانيين وعلى مجلسهم، فانني اظن ويظن معي كثيرون بان المهم والاهم ان يشعر البحرينيون او معظمهم على الاقل المحاصرون بالازمات المعقدة ولعبة الاخفاقات وهم يشهدون مستهل دورة برلمانية جديدة، بان النواب الجدد قبل غيرهم بصرف النظر عن الملاحظات التي لهم او عليهم قد يفاجئوننا بما لم يكن في الحسبان..!! بمعنى، وبالمختصر المفيد، ثمة من رأى بان ما قاله النواب الجدد ومنهم تحديدا الذين اطلوا علينا بكتلة برلمانية جديدة باسم البحرين، وبشرونا في اول اطلالة لهم علينا، بانهم كتلة نابعة من رحم الشعب ورافضة للانتماءات الحزبية والتحزبات الفئوية والطائفية والعرقية، وان اجندتها الوحيدة هي الوطن والمواطن، ودعم الوحدة الوطنية، وانها ملتزمة بالعمل على تكريس المواطنة، وبانها كتلة لن تستنزف الوقت والجهد فيما لا نفع فيه او يعكر نسيج المجتمع البحريني، ثمة من رأي بان هذا الكلام الذي هو كلام جميل من دون شك هو رسالة تلقاها الجميع «بعلم الوصول» مفادها ان هناك نوابا لن يكونوا من النوع الذي يضيف الى الهم جرعة مضاعفة وبانهم سيخالفون توقعات من يراهن بان اداء المجلس في الفترة المقبلة سيتراجع.
 
الجميل ايضا ان يأتي هذا الالتزام في غمرة الضجيج الحاصل الان، والواقع المرير الراهن، والانقسام العمودي والافقي المستمر على قدم وساق في مجتمعنا، وطالما ان النواب المعنيين وكتلتهم الجديدة قد اكدوا بانهم متمسكين بالوسطية، وبنبرة الاعتدال، وصوت الاعتدال وكلمات الاعتدال، وانهم متأهبون على اعلى مستوى من الاستعداد لما يحقق اجندتهم التي لا تعرف سوى الوطن والمواطن وطموحات الشعب بكل انتماءاته. مادام الامر كذلك فاننا نستطيع من هذا الفيض وهذا الشرح وهذا الالتزام ان نستنتج بان الطبقة الجديدة من النواب تعرف مثلما يعرف الاخرون وعابرو السبيل بان مجلس النواب كان في يوم من الايام باعثا على صناعة القلق حينما ادت الممارسة البرلمانية وحالة التجاذبات بين الكتل الى انزلاقات ومخاطر طرقت ابوابنا من دون استئذان، وفعلت في الوطن والناس ما هو بعيد عن الحكمة وخارج عن العقل والمنطق واهدرت الدور الرقابي للمجلس وميعت استجوابات ومسائلات وطأفنتها واقحمت الممارسة البرلمانية في دائرة الدوران والتوهان واللعب على الكلام والحبال. وانهم في ضوء ذلك عازمون على اداء افضل يكترث لخطورة اللحظة التي يعيشها الوطن.
 
لسنا في حاجة الى تذكير النواب، الجدد والقدامى على حد سواء بتلك الحالة، واظن باننا لسنا في حاجة الى من يتحدث عنها ويشير اليها الان باستفاضة، ربما يكفى التذكير، مجرد التذكير بان نوابا كثر شغلوا مجلس النواب عن نفسه فنسوا مهمته ومهمتهم الاصلية في الرقابة والمساءلة والتشريع، وكاد نواب اخرون ان يكتفوا بالاشادات والمناشدات والدوران في فلك مراكز قوى وضواحيها وتوابعها وكأنهم ناطقين رسميين باسمها او موظفين في اجهزة علاقات عامة، فيما انطبق على بعض النواب المثل «ان حضر لا يعد وان غاب لا يفتقد»، مقابل اخرين تفننوا رؤية وطرحا ومواقف في مصارعة افاق غير الافاق المطلوبة «وتخبيصات» ادت فيما ادت الى لغة خطاب متدن والى توتير وتأزيم وتعصب وطأفنة كل قضية وطنية من دون حرج وبدا واقع الحالة البرلمانية مثيرا لما يفوق العجب.  
نذّكر بذلك على امل ان الذكرى تنفع المؤمنين، الهدف والرغبة ينحصران بان لا يكون النواب الجدد من محترفي تفويت الفرص، وان تكون «خميرتهم» من النوع التي تجعلهم قادرين على تقديم اداء معافٍ ومجد وفعال وقريب من القلوب والعقول ومن نبض القلقين على ما يحدث في واقعنا الراهن، اداء يبتعد بنا عن الهرج السياسي والاستعراضات المبتذلة واثارة النعرات الطائفية والمذهبية أدفينة كانت ام سافرة،كتلك التي نخشى ان تكون اول الغيث التى اطلقها النائب اياه في مستهل عمله البرلماني في تصرف ليس عادياً ولا طبيعياً ولا هو حتماً تصرف نائب مسؤول يفترض انه يمثل الشعب.. هو تصرف ان ذكّر بشي فانما يذكر بالمصارعة التي لم يعد ينقص اصحابها سوى قفازات الملاكمة وهم تحت حلبة البرلمان..!
 
على اي حال، هل يمكن التعويل بان يكون النواب الجدد وحتى القدامى رغم كل الملاحظات التي لهم وعليهم وامام زحف مختلف آفات التقاطع والانشطار، والرهانات على البرلمان التي هي من النوع الذي يزيد الهموم ولا ينقصها، هل يمكن المراهنة والتعويل بأن يكونوا قادرين ومتمكنين ومؤهلين وقبل ذلك هل هم جادين ومخلصين على فعل ذلك وعلى عدم اغتيال المستقبل أو على الاقل عدم جعله مليئا بخيبات الأمل .. هذا هو التحدي .. او فلنتهيأ لخيبة أمل مجددا.
 
على الهامش هل تذكرون ذلك التصريح الوعد لرئيس لجنة التحقيق البرلمانية في تجاوزات مستشفى الملك حمد المنشور في الصحافة المحلية في 15 يونيو 2011. هذا التصريح لم يسقط من الذاكرة، ونعود اليه مجددا لنذكر به فهو يعبر إجمالا عن احد أوجه الخلل في الأداء البرلماني، وخاصة على صعيد المساءلة والمحاسبة والرقابة. نعود الى صلب الموضوع .. الى التصريح اياه فرئيس اللجنة المذكورة اعلن بانه سيكشف في الايام القادمة عن التجاوزات وبالتفاصيل وبالاسماء والارقام. وقال ان التجاوزات فاقت التوقعات وان ميزانية المشروع ارتفعت بقدرة قادر الى 94 مليون دينار فيما قيمة المشروع لا تتجاوز 40 مليونا. ذلك كله منشور وموثق .. مرت الايام تلو الايام .. والناس تنتظر وتترقب.. وتم السكوت فجأة عن الموضوع .. هل نضب الكلام، ام ان ذلك الكلام كان عابرا، على اي حال نذكر النائب المحترم بكلامه وبوعده وبشيء اسمه المصداقية..!
 
صحيفة الأيام  23  أكتوبر 2011

اقرأ المزيد

التشاؤم الذي يقترب من جَلْدِ الذات


في أول زيارة لي إلى مصر المحروسة  وكانت زيارة عمل  بعد قيام ثورة 25 يناير، وإن كانت زيارة خاطفة، إلا أنها كانت كافية لطمأنتي عن البلد الذي يعدّ بمنزلة عاصمة العرب ومرجعهم في النهضة والحداثة، وعمقهم البشري وطاقاتهم المثبتة والكامنة، والرقم الصعب في المعادلة التقدمية العربية . لم ألمس ما يدل على أن شيئاً قد انكسر في مصر، لا على الصعيد المادي العمراني  باستثناء مبنى المقر الرئيس للحزب الوطني الذي لم يُعرف إلى اليوم المسؤول عن إحراقه  ولا على الصعيد الإنساني المعنوي والنفسي، حيث مازالت الشخصية المصرية محتفظة بسجاياها الفطرية الأميل إلى الهدوء والمرح والتفاؤل .
 
لم لا وقد قام أبناء النيل بثورة فريدة من نوعها في التاريخ الحديث، ثورة حازت إعجاب وتعاطف الدول والشعوب قاطبة في مشهد نادر الحدوث تجلّى في الموجات البشرية المليونية المتتابعة والهادرة إصراراً على إحداث التغيير في البلاد وإعادتها إلى سكة التطور المستقل بعد أن أنهكها حكم الثلاثة عقود الاستبدادي، وأفسد معها مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة .
 
ولكن هل هذا كل شيء؟ كلا بطبيعة الحال، فما إن بدأت ثورة شعبية عارمة غطت مدن وبلدات وقرى ونجوع مصر من أقصاها إلى أقصاها، ونجحت في إسقاط (النظام)، سرعان ما تحولت في غمضة عين إلى محاولة اختطاف بارعة في رابعة النهار أيضاً .
 
فمصر، كما نعلم، هي “الكريمة” التي انقضّت عليها أيدي الطامعين المتربصين لحظة جاهزيتها، والتي سوف تظل تتنازعها قوى عديدة متحيّنة، في الداخل كما في الخارج، من أجل إعاقة عملية حصاد الشعب المصري وقواه الحية لما حققته بالتضحيات الجسيمة، من نقلة نوعية في بنية السلطة والنظام .
 
وهذا ما حدث على أرض الواقع، فالثورة نجحت في إجبار النظام المتسربل والمتمكن في أجهزة الدولة ومؤسساتها كافة، على سحب رأس النظام وحسب، من “التداول”، بينما بقي القسم الأعظم من جسم النظام “سليماً” لم تطله الإصلاحات التي قامت من أجلها الثورة، باستثناء بعض التغييرات التي يقوم المجلس العسكري، بوصفه وصياً على الثورة إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية، بإحداثها بأسلوب التنقيط من أعلى كلما عادت موجات الغضب إلى ميدان التحرير .
 
وهنا بالتحديد يقع مكمن الخطر الذي دفع الكاتب المصري المعروف مأمون فندي إلى مهاجمة مواطن التخلف في مصر والمجتمع المصري على طريقة جَلْدِ الذات بمحرك الحمية والغيرة على أبناء وطنه بطبيعة الحال، ودفع أيضاً  ويا للمصادفة  الكاتب والمفكر الكبير سيد القمني إلى الكتابة الهجائية بذات الاتجاه في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2011 .
 
فهل من مبرر حقاً لهذا الخوف وهذه القراءات المتشائمة للمشهد المصري ما بعد الثورة؟
 
نعم، هناك أكثر من مبرر لهذه المخاوف وهذه النظرات السوداوية، وذلك عطفاً على حالة الانقسام السريع والغريب الذي حدث بين مكونات المجتمع الأساسية، مسلمين ومسيحيين (أقباط)، خصوصاً، وبين القوى والأحزاب السياسية التي بقيت متوحدة في ميدان التحرير حتى لحظة سقوط رأس النظام . وما إن سقط رأس النظام ومعه بعض رموزه الكبيرة، حتى “انفض مولدها”، كل يلوذ “بصومعته”، ومن لا يملك “دكاناً حزبياً”، اندفع بكل همة وحماسة لإنشاء “دكانته” الحزبية حتى وصل عدد الأحزاب إلى 56 حزباً .
 
وما زاد الطين بلة هو أنه ما إن شعر المنتفضون بانتهاء مهمتهم المتمثلة في الخلاص الجماعي من الحالة الشمولية التي يرمز إليها رأس النظام، حتى تحولوا إلى الخلاص الفردي، حيث عمّت الإضرابات المهنية مختلف مواقع قطاعات الإنتاج، كل أعضاء نقابة مهنية يطالبون بحقوقهم التي لم يمكّنهم منها النظام السابق، ولم يكن ليسمح لهم بالتعبير عن الغبن الاجتماعي الواقع عليهم .
 
وحيث إن البلاد لم تكن تنقصها الفوضى، وقد تركها النظام السابق في حالة من الفساد المهول والمستشري، والفوضى التنموية التي تشبه الحالة التي آلت إليها روسيا، إبان حكم الرئيس الراحل بوريس يلتسن قبل أن يجيء فلاديمير بوتين ويعيد إليها، بأسلوب إدارته الشمولي الصارم، بعض عافيتها، فإن حالة التشظي التي جنح إليها المجتمع المصري بكل قواه السياسية والاجتماعية، المدنية والدينية، قد عقّدت الموقف وزادت من صعوبة عبور المرحلة الانتقالية إلى بر الأمان .
 
في هذا الخضم ظهرت على السطح وبانت الفروق واضحة بين قوى الدولة المدنية وقوى الدولة الدينية، حيث بدت القوى الدينية أكثر تنظيماً وائتلافاً على عكس القوى المدنية التي بدت مفككة وضعيفة التنظيم، وأقل استعداداً لمقابلة الاستحقاقات المقبلة (الانتخابات البرلمانية  والرئاسية وصياغة الدستور) .
 
ونحسب أن هذا هو ما يفسر الانتقالة اليائسة والحادة من جانب بعض أفراد الطيف النخبوي المصري نحو المواقع التشاؤمية السوداوية . وهم وإن كانوا محقين في قراءاتهم وتشخيصاتهم لجوانب من مواطن العلل والخلل في مصر، فإن استغراقهم العميق في الشؤم الأسود المتولد من حصيلة تلك القراءات الأحادية الجانب، ليسوا على كامل الحق فيه، فهذه النظرة التشاؤمية تضعهم في مقام الفاعل على تضييق مساحة العيش إلى حدّ إضاعة الأمل، وهو ما لا يستقيم مع ما ذهب إليه الحكيم الثاقب في قوله “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل” .
 
 
حرر في 4 نوفمبر 2011

اقرأ المزيد