المنشور

ليس فقط حادث مأساوي


أثارت في نفسي مشاعر الحزن والتعاطف، المأساة الإنسانية التي تعرض لها أربعة عمال أسيويين بتاريخ 24 يناير 2012 والتي قضوا فيها نحبهم وهم نيام داخل سكنهم في منطقة الهملة بسبب استنشاقهم لغاز ثاني أكسيد الكربون الناجم عن إشعالهم الفحم بقصد التدفئة من برودة الطقس الذي كان شديداً في ذلك اليوم.
 
أربعة من العمال الذين أتوا إلى البحرين متغربين عن بلدانهم من أجل إعالة عائلاتهم يرحلون عن الدنيا في ليلة واحدة وفي حادث مأساوي ويتركون ورائهم عائلاتهم التي تغربوا من أجل أعالتها من دون معيل.
 
من المسئول عن وقوع هذا الحادث المأساوي ؟ قد يقال بأن العمال قد أخطئوا بتركهم الفحم يشتعل وهم نيام مما تسبب في اختناقهم ولكن هذا ما هو إلا السبب الظاهر والمباشر أما في الحقيقة فأن سبب وقوع الحادث يتجاوز العمال ليطال المنظومة التشريعية التي ترسي ظروف وشروط عمل و حياة العمال الأجانب في البحرين.
 
فتردي أجور العمال الأجانب التي يتقاضونها من وراء عملهم والتي لا يحصلون من وراءها  إلا على الفتات على سبيل المثال عمال قطاع الإنشاءات و شركات الإنشاءات الكبيرة منها على وجه الخصوص ، وغياب التشريع الذي يعنى بتحديد الحد الأدنى لأجر العامل الأجنبي ، إضافة إلى طول ساعات العمل التي تتجاوز فعلياً في بعض القطاعات في أحياناً كثيرة أثنى عشر ساعة في اليوم ومن دون أي مقابل عن ساعات العمل الإضافية .
وما ترسيه آليات نظام الكفيل التي يعمل العامل الأجنبي في ظلها من علاقة بين صاحب العمل والعامل وتحدد الظروف التي يبيع في ظلها العامل الأجنبي قوة عمله وهي آليات ترسي علاقة غير متكافئة تقوم على أساس الخضوع والتحكم والابتزاز ويكون فيها العامل الأجنبي هو الطرف الأضعف وتستخدم من قبل بعض أصحاب العمل لسرقة جهد العامل الأجنبي وتعبه.
 
في ظل هذه الفوضى التشريعية وأحياناً في ظل التواطؤ من قبل الأجهزة الحكومية المسئولة عن تطبيق القانون يكدس أرباب العمل الملايين ويمتلكوا ناطحات السحاب في حين يتعرض العمال وعائلاتهم للموت اختناقا وأحياناً جوعاً وأحياناً مرضاً هم من كانوا السبب في تكديس هذه الملايين.
 
أن الدولة ممثلة في الحكومة وأجهزتها المعنية بإنفاذ القانون مسئولة عن التحقق من التزام أصحاب الأعمال وخاصة تلك الشركات التي تمتلك عمالة وافدة كبيرة بتطبيق القانون فيما يتعلق بعدد ساعات العمل وعدم استغلال العامل الأجنبي وابتزازه وإجباره على العمل أكثر من الساعات التي يقررها قانون العمل والتحقق من التزام أصحاب العمل بتطبيق شروط السلامة التي تحمي العمال من الحوادث أثناء العمل وفي محل سكناهم ومحاسبة ومعاقبة من يثبت مخالفة لهذه التشريعات.
 
 والحكومة أيضاً مسئولة إلى جانب مجلس النواب عن تطوير  التشريعات العمالية وسد الثغرات التي يمكن أن تؤدي إلى وقوع مثل هذه الحوادث و إلى أنسنة الظروف التي يعمل في ظلها العامل الأجنبي والتي هي اليوم أقرب إلى نظام السخرة منها إلى نظام عمل في مجتمع حديث تحكمه التشريعات واتفاقيات حقوق الإنسان .
 
أن من وأجب ومن مصلحة المجتمع البحريني ممثلاً في مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات سياسية وجمعيات حقوقية وبشكل خاص اتحاد نقابات عمال البحرين من واجبها جميعاً ومن مصلحتها الضغط من أجل انضمام مملكة البحرين إلى الاتفاقيات التي تعني بحقوق العمالة المهاجرة.
 

اقرأ المزيد

ثورات الخريف العربي !


هل يمكن ان تكون هبّات “الربيع العربي” من انتاج أجهزة تخطيط وتنفيذ لها أهداف جيوسياسية متوسطة وبعيدة المدى؟
مثل هذا التصور والاعتقاد برز وتعزز بعد نجاح القوى الغربية في الدخول على خط ثورات “الربيع العربي”، خصوصا على النحو الفاقع الذي شهدناه في ليبيا والآن بشكل أوضح وأصرح في سوريا.

ولاشك ان هذا الجدل المتجدد يكتسب جِدّته وحيويته مع حلول الذكرى السنوية الأولى لانطلاق ثورات “الربيع العربي” التي أشعل فتيلها الشباب العربي الغاضب واجتاح بها أنظمة بوليسية راسخة في تونس ومصر في فترة زمنية قياسية.

بعض المجادلين المرجّحين لذاك الاعتقاد، يستعيدون شريط بداية تفجر الأحداث في تونس ثم في مصر، وكان بطلاها “المجهولان”  “الفيس بوك” و “تويتر” اللذين استعان بهما شباب الثورة في تونس أولا وفي مصر تاليا، ويعيدون الى الأذهان كيف حاول نظام حسني مبارك قطع “شريان الحياة” عن شباب الثورة وسلاحهم الفتاك، أي “فيس بوك” و”تويتر”، وذلك بالمسارعة لتعليق عمل شبكة الاتصالات بهدف تعطيل شبكة التواصل الاجتماعي التي سجلت في ذلك الوقت في كل من تونس ومصر أعلى نسبة مشاركة منذ اطلاق خدمتيهما في البلدين، ويتذكرن أيضا كيف أثار ذلك الاجراء البوليسي الحكومي المصري غضب واستياء البيت الابيض ووزارة الخارجية الامريكية ومطالبتهما اللحوحة والشديدة اللهجة للرئيس حسني مبارك بارجاع خدمة الانترنت على الفور فانصاع النظام وارجع الخدمة ولو بصورة متقطعة حفظا لماء الوجه.

نحسب ان الثورات لا تُصنَّع بحيث يمكن اختيار مكانها وتحديد زمن اطلاقها (أي ساعة صفرها كما في الانقلابات العسكرية) حسبما تذهب رغبات وارادة مصنّعيها، وتبعا لما تستدعيه حاجتهم. الثورات تتخلّق على ايقاع وتيرة الحياة الاجتماعية التي يتراكم خلال تضاداتها سخط متدرج الحدة الى ان يصل الى درجة الغليان التي تسبق الانفجار، ما لم يتم تنفيسه في اللحظة المناسبة. وهذا الوضع المتفجر لا يحدث الا نادرا حيث ان عملية “احترار” السخط الشعبي العام لدرجة الغليان تأخذ وقتا طويلا نسبيا. ولذلك فان انفجار الأوضاع على النحو الذي شاهدناه في غير بلد عربي مطلع العام الماضي، كان متوقعا من قبل عديد المفكرين والباحثين الاقتصاديين، الذين كانوا يقرأون “نضج” الأوضاع واقترابها من “لحظة الانفجار”، في أرقام ومؤشرات الأداء الاقتصادي الفاشل والمفضي حتما لتلكم النتائج المدوية.

وبهذا المعنى فان ثورات “الربيع العربي” لا يمكن ان تكون بأي حال من الأحوال من مخرجات أفكار انقلابية تآمرية، بقدر ما هي نتاج حصاد متراكم من السخط الناجم عن تصاعد حدة التهميس والافقار والاذلال، مع الملاحظة هاهنا بأن الكرامة  (Dignity) كانت أحد العناوين الرئيسية التي تصدرت مشاهد الاحتجاجات الشبابية.

ولكن هذه الاحتجاجات كانت من الاتساع والتداعي السريع داخليا واقليميا وعالميا، بحيث انها خلقت نوعا من ما يمكن ان نطلق عليه فوبيا “الربيع العربي”. فأمام الخوف من سرعة انتشار “عدواه”، كان لابد للقوى المضادة للتغييرات النوعية، الداخلية والجيوسياسية، التي كانت ستترتب عليه، وعلى رأسها الولايات المتحدة الحليف التاريخي للدكتاتوريات ولأنظمة الاستبداد في العالم، وكافة حلفائها في الغرب والشرق، أن تستنفر كل قواها والتحرك سريعا لوقف ذلكم التطور النوعي “الخطير” والمفاجىء والمنذر “بأوخم العواقب” الاقتصادية (المتصلة بموازين القوى) والجيوسياسية، ليس بأدوات القمع التقليدية الفاضحة، وانما عبر أساليب الاحتواء والالتفاف، وذلك بالامساك بعنان الحصان كي لا يجمح وتوجهه الوجهة المرغوبة.

وهذا ما حدث وحقق، حتى الآن، النتائج المتوخاة وأهمها تحويل الربيع العربي الى خريف متجسد في النتائج المعاكسة للمسارات التي كان “الربيع العربي” يتجه اليها والاهداف التي خطّتها ثوراته الشبابية العارمة.

فبموازاة زخم الربيع العربي، اندفعت القوى المضادة بزخم أكبر ملؤه عمليات التحايل والخداع الكبرى التي باتت فصولها شاخصة للعيان بكل سطوع ووضوح، بدءا من مصر ومرورا بليبيا وليس انتهاءا بسوريا التي يرمي الآن “التحالف الدولي لاحلال الخريف العربي محل الربيع العربي” بكل ثقله من أجل اسقاط نظامها واحلال نظام آخر مكانه جرى التوافق مع رموزه في الخارج بعد أن قدم الأخيرون أوراق اعتمادهم لدى قيادة ذلك التحالف في واشنطن وباريس. حتى ليكاد “الخريف العربي” هو الذي يحتل المشهد السياسي العربي الآن ويطبع كامل تقلباته وتطوراته بطابعه.

انما السؤال: هل تستطيع “الهندسة” الماكرة والبارعة، اعادة تحوير وصياغة النظم العربية المستبدلة أو تلك التي هي قيد الاستبدال – في اطار الأجندة الشرق أوسطية الكبرى في استخلاف “المتعاقدين” الجدد مع “المتعهد” الأكبر – ان تضع نقطة على السطر كخاتمة آمنة وسعيدة لغليان ربيع 2011؟

سوف يجد الحكام الجدد انهم مطالبون بتحقيق مطالب ليس بالسهل تحقيقها في ضوء المعطيات المتوفرة، أقلها تحقيق معدل نمو لا يقل عن 8 – 10 % سنويا لتأمين حاجات جيل واحد، ومقابلة الضغوط الديموغرافية، وتحديات التحول الديمقراطي، وامدادات الطاقة والأمن الغذائي.

فهل يستطيعون مقابلة هذه التحديات بأجنداتهم وبرامجهم غير المعلنة وبالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم أمام هذا “المتعهد” وذاك؟

اقرأ المزيد

المدخل القانوني ليس كافياً


استكمالاً لحديث الأمس حول المرسوم الخاص بإنشاء الصندوق الوطني لتعويض المتضررين، نشير هنا إلى القرار الذي اتخذته اللجنة الوطنية المعنية بتوصيات تقرير لجنة تقصي الحقائق بتكليف فريق المصالحة الوطنية باقتراح ما من شأنه الإسراع في تعويض المتضررين نتيجة أحداث فبراير ومارس الماضيين وما تلاهما، وخصوصاً تعويض عائلات المتوفين.
 
وفي هذا السياق، نود التوقف أمام دراسة لعضو اللجنة المركزية للمنبر التقدمي المحامي حسن إسماعيل حول الموضوع، توقف فيها أمام اشتراط المرسوم الخاص بتعويض الضحايا حصول المتضرر من الأحداث على حكم جنائي باتٍ في مواجهة المتسبب في الضرر، ليؤكد ما خلصنا إليه أمس أن المدخل القانوني، على أهميته، لن يكون كافياً وحده لعلاج المسألة بطريقة تؤدي إلى مصالحة فاعلة تساهم في خروج البحرين من الأزمة السياسية التي تعصف بها.
 
وحسب دراسة المحامي إسماعيل فانه ليس من اللازم أو الضروري، على سبيل المثال، لمن كان في الحبس الانفرادي أو في الحبس الاحتياطي لفترات طويلة دون محاكمة أو من اعتقل تعسفياً، أو من تم القبض عليه وتفتيش منزله خلافاً للقانون، أو من حصل على حكم ببراءته، أو من تم حفظ قضيته أو التنازل عنها، أن ينتظر صدور حكم جنائي في مواجهة من تسبب في كل هذه الحالات، فضلاً عن ذلك فان كثيراً من الأفعال قد ترتكب بطريق الخطأ ولا يتوافر فيها القصد الجنائي كركن أساسي من أركان المسؤولية الجنائية اللازم لصدور حكم جنائي ضد مرتكب الفعل.
 
لذلك، فإن اشتراط المرسوم صدور إدانات نهائية ضد المتسبب في انتهاكات حقوق الإنسان حتى يتمكن المتضرر من الحصول على التعويض، لا ينسجم مع أحكام المادة 9 الفقرة (5) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي نصت على انه «لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض» وهذا الحكم ينطبق على كافة حالات الاحتجاز أو الاعتقال بصورة غير شرعية أو تعسفية، ولا يشترط صدور حكم جنائي ضد مرتكب الفعل، كما انه من جهة أخرى لا يحقق بصورة ناجزة روح التوصية الواردة بهذا الخصوص في تقرير بسيوني.
 
إن الهدف الأساسي من سياسة التعويض هو إحقاق العدالة للضحايا، بما يشمله ذلك من إدماج عناصر الاعتراف بالضحية ورد كرامته وإعادة بناء الثقة بين المواطنين بعضهم البعض، وبين المواطنين ومؤسسات الدولة، وإرساء التضامن الاجتماعي، وأمام ما أوضحه تقرير تقصي الحقائق من انتهاكات أصبح واجباً ضمان حقوق الضحايا وتهيئة الظروف الملائمة لصيانة كرامتهم وتعويض أقصى ما يمكن منهم بهدف توفير استجابة شاملة وكاملة قدر الإمكان.
 
وحسب الدراسة فان مفهوم التعويض ينطوي على عدة وسائل من بينها التعويض المباشر ورد الاعتبار لمساندة الضحايا معنوياً وفي حياتهم اليومية، كما أن هناك مجموعة واسعة من الإجراءات الرمزية لجبر الضرر والتي يمكن أن تؤخذ كذلك بعين الاعتبار مثل الاعتراف الرسمي بما جرى من انتهاكات لحقوق الإنسان.
 
إن مثل هذه الاجرءات يمكن أن تصل إلى فئات واسعة، بما يشجع الذاكرة الجماعية ويوحدها ويخلق أسساً للتضامن الاجتماعي، ويجعل منها إحقاقاً شاملاً ومتعدد الأوجه للعدالة.
 

اقرأ المزيد

تعديلات دستورية أم أزمة سياسية جديدة؟


على رغم شدة التباين في المنطلقات، وحدة التباعد في الخيارات بين أطراف الأزمة البحرينية (السلطة، القوى المعارضة، قوى الموالاة) وبالتالي انعكاس هذا الأمر على اختلاف وجهات النظر في تفسير أسباب وجذور الأزمة، وسبل معالجتها، على رغم كل ذلك؛ فإن هذه الأطراف ومعها كل المتابعين من الداخل والخارج يتفقون جميعاً على أن هذه الأزمة وتداعياتها التي لاتزال تتفاعل بشكل سلبي وعلى كل المستويات، تعتبر واحدةً من أكثر الأزمات صعوبةً وتعقيداً في تاريخ البحرين الحديث، وأنها على درجة من الاتساع والعمق والشمول بحيث طالت الأوضاع السياسية، وهزت البنية الاجتماعية والثقافية، وخربت بعض الجوانب الأخلاقية والإنسانية في المجتمع. 
إن هذه الحقيقة باتت ساطعة كالشمس، لم تعد قابلة للإنكار أو الإخفاء، لأنها تعلن نفسها يوميّاً وتفصيليّاً في العديد من المواقف الحدية والسلوكات المتشنجة من هنا وهناك. 
 في موازاة هذه الحقيقة؛ هناك حالةٌ من الإنكار والرفض تتلبس البعض الذي لا يريد أن يقر أو يعترف بأن هذه الأزمة تعود في أسبابها الرئيسية إلى أن البحرين قد ذهبت سياسيّاً واجتماعيّاً وإنسانيّاً بعكس الاتجاه الذي كانت قد وعدت أن تسير فيه منذ انطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك العام 2000. وهو المشروع الذي جاء أصلاً لتصحيح أوضاع النظام السياسي في البلاد، وتعزيز الصورة الديمقراطية التي أراد جلالته تكريسها من خلال تصفية كل مواريث الحقبة السابقة لتوليه الحكم، وإنصاف كل من أصابه الأذى من تلك الحقبة.
 
هذا هو جوهر المشروع الإصلاحي الذي وجد طريقه للتنفيذ بعد توافق الإرادة الملكية مع الإرادة الشعبية. وهنا علينا أن نقول بكل وضوح ومن دون أي لبس: صحيح أن النضال الوطني الديمقراطي لشعب البحرين وقواه السياسية يمثل أحد العوامل الرئيسية في التعجيل بمشروع الإصلاح، إلا أن أي منصف أو محلل موضوعي عارف بسياقات الوضع السياسي في بلد مثل البحرين، وفي محيطه الإقليمي، لا يسعه إلا الإقرار بأن الإرادة الملكية قد اختصرت الطريق على الإرادة الشعبية العامة والمنطلقة للإصلاح والتغيير في تلك الفترة. لذلك فإن صدور ميثاق العمل الوطني الذي عكس تلاحم الإرادتين (الملكية والشعبية) كان هو عنوان المرحلة والقاطرة التي أوصلت البلاد عند حدود أو مشارف الديمقراطية، عندما أعلن تأسيس الجمعيات السياسية، وإجراء انتخابات برلمانية، وجرى صراع أو تنافس بين قوى عريقة وناشئة ومستحدثة، وكان إعلان (الملكية الدستورية) هو الشعار أو المطلب الذي وحد وجمع حوله الجمهور السياسي والاجتماعي، من غالبية الانتماءات والتوجهات، وبذلك صار هذا الشعار مطلباً شعبيّاً بعد أن كان مطلباً سياسيّاً نخبويّاً ترفعه بعض القوى أو النخب السياسية فقط.
 
كانت نقطة البداية لحالة الافتراق وتدشين الخصومة السياسية قد جاءت بإعلان دستور 2002، وهو ما جعل الجمعيات السياسية وبعض الجماعات السياسية تعلن معارضتها لهذا الدستور بعد أن رأت في إصداره بهذه الطريقة تراجعاً سياسياً، وجاءت الكثير من المواقف السياسية والشعبية لتعبّر عن هذا الرفض، وتعكس في الوقت نفسه مدى إصرار واستعداد هذا الجمهور السياسي والاجتماعي لاستمرار المطالبة بـ (الملكية الدستورية)، عبَّر عن نفسه من خلال الفعاليات والتحركات المتواصلة التي تم تتويجها بإعلان «المؤتمر الدستوري» تأكيداً لأهمية هذه القضية بالنسبة إلى القوى السياسية والشعبية. كان ذلك قبل أن تتمكن الدولة من كسب المعركة الدستورية، عندما عملت على حصار «المؤتمر الدستوري» في الحلبة الضيقة والشروع في توجيه الضربة القاضية له، التي جرى استكمالها بعد ذلك بإعلان مراسم موت ودفن هذا المؤتمر على يد بعض القائمين والمؤسسين له!
 
في الضفة المقابلة، كانت بعض القوى المتضررة من الإصلاح والتغيير تحاول استثمار هذه الظروف لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة إنتاج الوضع السياسي القديم بأشكال وصور مختلفة، تجسدت في قطف بعض المكاسب السياسية والدستورية التي تضمنها ميثاق العمل الوطني. ورأينا تراجعاً ملحوظاً في الحريات (حرية التعبير والتنظيم والتظاهر) وجرى تضييق الخناق على الجمعيات السياسية، وفرض القيود التي تحدُّ من حركة وحرية المنظمات النقابية ومؤسسات المجتمع المدني، وغابت الشفافية والمحاسبة، ما ساعد على استشراء الفساد في الكثير من مؤسسات الدولة، ووجدنا الأراضي تختفي من على «الخريطة الجغرافية» والسواحل يجرى ابتلاعها أمام أعين الناس الذين «ضاقت بهم الأرض بما رحبت»، الأمر الذي أوصلهم إلى حال من الإحباط واليأس.
 
كان هذا الشعور مع ما يجري على أرض الواقع من سياسات حكومية من جهة وتواضع المكاسب البرلمانية من جهة أخرى؛ أكد حقيقة النواقص والثغرات في التجربة الإصلاحية وكشف حجم الخلل في البنيان السياسي والدستوري في البلاد. وهو الذي من أجله بُحَّ صوت القوى السياسية المعارضة ومن معها من الشخصيات الوطنية والحقوقية وهي تدعو إلى سد هذه الثغرات ومعالجة مواطن الخلل من أجل إعادة الشرعية والصدقية للعمل السياسي في البلاد، بعد أن وضعت يدها على الجرح وخصوصاً في مسألة فصل وتوزيع السلطات على نحو متوازن، والتمسك بمبدأ «الشعب مصدر السلطات»، ولكن الدولة ومن معها لم تكن ترى هناك ضرورةً أو حاجةً للقيام بأي تعديلات دستورية تصلح به الوضع القائم. وهو ما زاد في تفاقم التوتر السياسي والاجتماعي في البلاد، وتصاعده حتى شهد انعطافةً مفصليةً ومهمةً في 14 فبراير/ شباط 2011 مع نشوء ظروف سياسية جديدة في سياق انطلاق مسلسل «الثورات» و»الانتفاضات» العربية، أو ما أطلق عليه «بالربيع العربي» لتجديد المطالبة بإصلاح النظام السياسي.
 
لقد كانت رسالة هذا التحرك واضحة وجلية، ملخصها أن القميص السياسي الذي ألبس البلد والناس قبل عقد من الزمن، بدأ يضيق ويضغط عليهم لدرجة الاختناق، من دون أن يجدوا تفهماً أو استجابةً من الدولة لفتح «نوافذ» سياسية جديدة، أو «آفاق» دستورية عادلة يتم معها تجديد «الهواء السياسي»، والسماح بالتالي لدخول «نسائم ديمقراطية» تحرك الأجواء والمياه الراكدة. ولم يكن لأحدٍ من المراقبين المنصفين أن يتوقع غير هذه النتيجة الطبيعية والمنطقية، التي هي إفراز طبيعي لتمسك الدولة والسلطة السياسية برؤيتها في معالجة الأوضاع السياسية، وهي رؤية كما كشفت عنها الحوادث، من قبل ومن بعد، تنطلق من إعلاء شأن الخيار الأمني والصعود به إلى أقصى حدوده الممكنة، والتقليل من شأن الخيار السياسي الديمقراطي والنزول به إلى أدنى حدوده المتوقعة! وهذه رؤية ليس باستطاعتها أن تأخذ البلد إلى مصاف «الديمقراطيات العريقة» كما بشّر بها ميثاق العمل الوطني.
 
وقد جاءت الأزمة الأخيرة لتضيف إلى المشاكل السياسية والدستورية مشكلة جديدة لم تكن مطروحة بهذه الصورة القاتمة والمرعبة، وهي الانقسام المجتمعي والطائفي الذي وضع البحرين على مشارف الانهيار السياسي والاجتماعي. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بتفاصيل ما حصل من أحداث وتطورات سياسية وأمنية، فقد أصبحت جميعها راسخة في الذاكرة الجمعية للوطن، نظراً إلى حجم التضحيات وكلفة الأثمان التي قدمت في ظل حال السلامة الوطنية. فهناك الشهداء والجرحى والمعتقلون، وهناك من انتهكت حقوقهم وقطعت أرزاقهم وفصلوا من وظائفهم. وهناك مبادرة ولي العهد التي أجهضت وهي «جنين» لقطع الطريق على الحل السياسي الذي وفّرته هذه المبادرة. وهناك مؤتمر الحوار الوطني الذي أثار الكثير من الأسئلة في البدء والمنتهى، وأحاطت بنتائجه الكثير من الشكوك فيما إذا كانت تعكس الشراكة الحقيقية لإرادات المجتمع البحريني كله أو أنها تعبر عن التوافق الوطني الحقيقي الذي جرى الحديث عنه كثيراً.
 
وأخيراً وليس آخراً، هناك اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق، وما سجلته من وقائع وأحداث مريرة، تتعلق بقضايا حقوق الإنسان، وما خرجت به من توصيات لمعالجة الانتهاكات والأخطاء التي حصلت.
 
هذه اللمحة السريعة ضرورية لإضاءة جوانب كثيرة في الأزمة ومن بينها المسألة الدستورية التي تحتل مكانة خاصة في وعي الناس وفي المجتمع السياسي البحريني والتطور الذي سلكته هذه القضية بدءاً بصدور أول دستور العام 73 مروراً بدستور 2002، وانتهاءً بآخر التعديلات الدستورية التي أعلنها جلالة الملك في خطابه يوم 15 يناير/ كانون الثاني الجاري، وهي على ما يبدو المحطة الأخيرة التي استقر عندها القرار السياسي وكانت الجواب الرسمي على كل ما كان ينتظره الشارع والرأي العام لإخراج البلد من أزمته الطاحنة.
 
فهل بعد كل هذا المخاض العسير، وكم الآلام التي رافقته وبعد كل هذا النزيف الذي أنهك جسد الوطن، يأتي المولود الذي انتظره الناس بفارغ الصبر بهذا الحجم والشكل؟ يعني بوضوح هل الأوضاع الداخلية والإقليمية لا تسمح حقاً بأكثر من هذه الصيغة الدستورية التي حملتها التعديلات الأخيرة؟
 
إننا نطرح مثل هذه الأسئلة المشروعة والتي تحمل القلق على الحاضر والمستقبل، من دون أن نتجاهل حقائق الوضع السياسي في البلاد وتوازنات القوى السياسية والاجتماعية فيه، ونعرف بالتالي ما هي الحدود الممكنة لمطالب الإصلاح والتغيير. ومن دون أن نقع في شراك النظرة الاختزالية، التي تركز على جانب وتضرب صفحاً عن جوانب أخرى، ومن دون أن نكون أسرى للمواقف الحادة والانفعالية، وبعيداً عن السجلات التي تثار عادة في مثل هذه الحالات بين التمسك «بالمبدئية الديمقراطية» أو القبول بـ «الممكن الديمقراطي»، نستطيع التأكيد وبكل ثقة واطمئنان أن هذه التعديلات قد حملت بعض الجوانب الإيجابية إلا أنها ليست سوى خطوة واحدة قصيرة في طريق الألف ميل الذي كان على السلطة أن تقطعه. وهذه التعديلات لن تكون قادرةً على تقديم الإجابات الوافية لكل «الانتظارات» السياسية والدستورية التي طال مداها.
 
لكل ذلك هي لن تستطيع أن توفر للدولة الاعتراف الجماعي بشرعية هذه الخطوة، التي اعتبرها البعض محبطة للآمال، باعتبار أنها محدودة جدّاً وغير توافقية، ولا يمكنها أن توفر حياة سياسية مستقرة ومنتظمة في البلاد، طالما ليس لها علاقة بآلية التوافق والتراضي، التي نحن نعتبرها آلية شرعية ومبدأً يمكن من خلاله مقاربة الكثير من الخلافات الداخلية وتحكيمها في فض المنازعات.
 
إننا نشدد هنا على مسألة التوافقية، في ظروفنا الراهنة، لأننا ندرك عمق الخلافات بين مكونات المجتمع وقواه السياسية، ودرجة تباعد مسافات التفاهم بينها، وربما يتعذر حتى مجرد اللقاء بين هذه الأطراف للوصول إلى توافقات محددة في ظل الاحتقان الطائفي المخيم على البلد. فالأزمة التي عصفت بالبلاد قد كشفت كم أن المجتمع البحريني خاوٍ ويعاني نقصاً فادحاً في قيم السياسة وقواعدها. فما يجري اليوم ليس تنافساً أو صراعاً سياسيّاً يتم وفق أصول السياسة وقواعدها المتعارف عليها، بل مجرد صراعات مذهبية، ومناكفات طائفية حيث يحاول فيها طرف كسر عظم الطرف الآخر، ويسود فيها منطق أو عقلية «المنتصر»صاحب القوة والغلبة، الذي يقدم «للمهزوم» بعض «فتات» الديمقراطية وعليه قبولها أو أن «يشرب من البحر»!
 
إن هذه القضية تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة ووقفة نقدية شجاعة للذات والتفكير بجدية ومسئولية في المصلحة العليا للوطن، ومن المهم معرفة أن المطالب الديمقراطية الشعبية لم يعد ممكناً تجاهلها أو الإعراض عنها، في ضوء المتغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة، وأن اختيار طريق التجاوب والاستيعاب الايجابي لها، هو أفضل وأقصر الطرق لضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهو الخيار الأقل كلفة لتعزيز نظامنا السياسي الدستوري العادل والقادر على توزيع السلطة والثروة وفق قواعد العدالة والمساواة والمواطنة الحقة.
 

صحيفة الوسط البحرينية – 26 يناير 2012م

اقرأ المزيد

تشريعية النواب هل تشرّع للفساد؟ – عيسى سيار

يمكنني القول إن تشريعية النواب لها الفضل في أن تستثيرني وبالتالي تفك عقال قلمي الذي عقلته ولم أصوبه قط تجاه مجلس النواب مباشرة، لأنني وصلت إلى قناعة ربما هي القناعة نفسها التي وصل إليها معظم الشعب البحريني وهي أن مجلس نواب بصلاحيات رقابية وتشريعية ناقصة أو قاصرة في ظل وجود غرفة شورية معينة بالكامل، وبلائحة داخلية تجعل من أدوات مجلس النواب الرقابية كالاستجواب وإلزام النائب بتشكيل دعاوى قضائية وإمكانية عدم التعاون مع الحكومة، مجرد تربيت أو «طبطبة» على أكتاف السلطة التنفيذية!
 
في هذا المجلس اقتصر دور نواب الشعب فقط على استجداء المكرمات ومراقبة الخطوط الحمراء خشية أن يتجاوزوها فتقع على رؤوسهم الواقعة! وأعتقد أن عدداً من النواب لهم فهم خاص حول معنى الشراكة بين السلطة التنفيذية والتشريعية، وهي شراكة في نظرهم تقوم على أن تنصب السلطة التشريعية نفسها محامياً للسلطة التنفيذية، وهذا ما لمسته من موقف عدد من النواب خلال حوار التوافق الوطني، عندما رفضوا أن يمنح البرلمان صلاحيات تشريعية أكثر من مجلس الشورى!
 
لن أكون متحاملاً أو متجنياً على تشريعية النواب أو مجلس النواب بأكمله وعلى مدار العشر السنوات من عمره، إن قلت إن هذا البرلمان قد ولد من الأصل خديجاً ناقصاً. فهو لم يستطع حتى الآن أن يسحب الثقة عن أي وزير، أو حتى أن يضع فراش وزير على منصة الاستجواب! والطامة الكبرى أن في عهد هذا البرلمان المجيد لم نسمع أن مسئولاً رفعت ضده دعوى قضائية بسبب سطوته أو تلاعبه بالمال العام، على رغم الغسيل الدسم الذي يعد صيداً ثميناً، في ديوان الرقابة المالية والإدارية عن عدد من مسئولي الحكومة، وعلى مدار الثماني سنوات الماضية، وتحت سمع وبصر نواب الشعب الذين يعلمون علم اليقين أن أموال الشعب تتعرض للاعتداء جهاراً نهاراً، حيث تضع التقارير أدلة مادية في أيديهم ولكن يقتصر دور النواب فقط على إطلاق الزوابع الصوتية والبالونات بل الفقاعات الهوائية عند صدور تقرير الديوان. وبعد ذلك ينتهي التقرير في الأدراج، على رغم أنه يتوجب على نواب الشعب حماية أموال الشعب، من خلال سن التشريعات الصارمة لحمايتها.
 
إن تقديمي هذا ما هو إلا ردة فعل طبيعية لأي مواطن قرأ ما تناقلته الصحف المحلية بأن تشريعية النواب ترفض إنشاء هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد، ولها صلاحيات قانونية في مكافحة الفساد. وقد برّرت تشريعية النواب رفضها إقرار القانون كالتالي: أنه بالنظر إلى رأي المستشار القانوني بمجلس النواب ورأي الجهات المختصة، تبين لتشريعية النواب أن الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي وقعت عليها البحرين لا تلزم أعضاءها بإنشاء هيئة مختصة لمكافحة الفساد…»!
 
وهنا أطرح تساؤلاً محورياً على تشريعية النواب بالله عليكم أخبرونا من هي الجهات المختصة التي تتكلمون بالنيابة عنها؟ وهل نصبتم أنفسكم سلطة تنفيذية أو وكيلاً عنها لكي تبرروا للسلطة التنفيذية عدم إنشاء هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد يا من انتخبكم الشعب؟ أليس واجبكم إصدار التشريعات وإنشاء الهيئات واللجان المستقلة التي تراقب وتحافظ على المال العام؟ وإذا كانت القوانين المعمول بها في مملكة البحرين كما ترون تتضمن تجريم الكثير من جرائم الفساد وبالتالي يمكن الاكتفاء بتعديل القوانين القائمة في هذا الشأن، فكم سنة ستأخذون لتعديلها؟ وإذا كانت التشريعات الحالية تقوم باللازم كما ادعيتم، فلماذا لم نرَ مسئولاً يخضع قط للمحاسبة بسبب تورطه في قضية فساد؟ أين مجلسكم المجيد من قضايا الفساد وعلى رأسها التقرير الذي توصلت إليه لجنة التقصي والتحقيق في أملاك الدولة؟ وأين القوانين التي أشرتم إليها والتي تجرم الفساد في قضايا الأراضي؟ وأين القوانين مما يجري في طيران الخليج وشركة ألبا وصندوق العمل (تمكين) وغيرها من الملفات؟
 
أتعلمون لماذا لا يقيم الوزراء لكم وزناً؟ لأنكم بكل بساطة توفرون حماية وتغطية على ما يجري من تجاوزات، ولا داعي لأن أذكركم بأمر يهمكم فأنتم بالتأكيد تعلمونه، ألا وهو لماذا لا يقوى أي وزير كويتي على الوقوف على رجليه عندما يطلبه النواب على منصة الاستجواب؟ فـ «هناك نواب يفكون الدروازة، وعندنا نواب العازة»!.
 
أما بالنسبة لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها مملكة البحرين بتاريخ 4 فبراير/ شباط 2010 والتي وجدت تشريعية النواب وخبيرها القانوني أنها لا تلزم الأطراف الموقعة عليها بإنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، فإليكم ما يدحض ما ذهبت إليه تشريعية النواب: لقد ورد في الباب الثاني من الاتفاقية وتحت عنوان التدابير الوقائية، مادة (6) هيئة أو هيئات مكافحة الفساد والوقائية «تكفل كل دولة طرف وفقاً للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، وجود هيئة أو هيئات بحسب الاقتضاء تتولى منع الفساد ومن خلال سياسات وممارسات مكافحة الفساد والوقائية ونشر ثقافة مكافحة الفساد». وهنا نتساءل وبحرقة: هل البحرين يا تشريعية النواب في ظل استشراء الفساد بين جنبات المجتمع والذي أصبح ظاهرة، ليست بحاجة إلى هيئة مستقلة لمكافحته؟ إذاً من يكافح الفساد؟ هل وزارة الداخلية؟ أم لجان حكومية تتبع للوزارات؟
 
هل اطلعتم على وضع البحرين المتراجع سنوياً بناءً على مقياس منظمة الشفافية العالمية بالنسبة لانتشار ظاهرة الفساد في الدول؟ وهل ما يرد في تقارير ديوان الرقابة من فساد وتجاوزات لا يستحق أن نؤسس من أجله هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد؟
 
وأنصح هنا مخلصاً نواب الشعب قراءة الاتفاقية بالكامل حتى يعيدوا النظر فيما إذا كانت البحرين بحاجة إلى هيئة مستقلة من عدمه، قبل أن يتخذوا قرارات لا تخدم الوطن والمواطن، حيث يتوجب على الدول التي توقّع على الاتفاقية أن تعمل على تأسيس منظومة متكاملة لمكافحة الفساد ومنها إنشاء مثل هذه الهيئة الوطنية المستقلة.
 
وأخيراً نتساءل: هل لجان مجلس النواب لجان نواب شعب أم نواب سلطة؟ أعتقد أن هكذا نواب هم يمثلون أنفسهم فقط، فمن يوقف أو يمنع إصدار تشريع يكافح الفساد لا يستحق أن يمثل الشعب. ومن هنا أضم صوتي إلى الكثير من المواطنين الذين يطالبون اليوم قبل الغد بحل هذا البرلمان والذي لا يستطيع حتى أن «يكش بعوضة»… فمن يرفع الشراع؟
 

صحيفة الوسط البحرينية – عيسى سيار
كاتب بحريني
 19 يناير 2012م
 

اقرأ المزيد

صندوق تعويض ضحايا الأحداث


اقرَّ مجلس الشورى منذ يومين المرسوم بقانون الخاص بإنشاء صندوق وطني لتعويض المتضررين. وفي وقت سابق كان مجلس النواب قد وافق، هو الآخر، على المرسوم.
 
ينص المرسوم بقانون على أنه يُنشأ صندوق يسمى (الصندوق الوطني لتعويض المتضررين) يتمتع بالشخصية الاعتبارية المستقلة، يختص بالمساعدة في توفير تعويضات فعالة للمتضررين المنتفعين بأحكامه إعمالاً للمبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية بشأن الحق في الانتصاف والجبر لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي والصادر بها قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2005.
 
وحدد المرسوم الأشخاص الذين يجوز لهم اللجوء إلى الصندوق للمساعدة في الحصول على التعويض نتيجة للأحداث العنيفة التي وقعت خلال شهري فبراير ومارس العام 2011 أو نتيجة لحوادث عنيفة مماثلة من ذات الطبيعة حدثت بعد هذا التاريخ بأنهم الفئات الآتية: أي شخص أصيب بأضرار مادية أو معنوية أو جسدية بسبب قوات الأمن العام أو الموظفين العموميين، وأي فرد من أفراد قوات الأمن العام أو أي موظف عام أصابته أضرار مادية أو معنوية أو جسدية أثناء أو بسبب تأديته لوظيفته وتسبب فيها أي من الأشخاص، بالإضافة إلى أي شخص آخر لحقته أضرار مادية أو معنوية أو جسدية بسبب تلك الأحداث أو بسبب تدخله لمساعدة المجني عليهم المذكورين.
وبيَّن المرسوم بقانون أن «فئات المتضررين المذكورين في البنود السابقة تشمل المجني عليهم، وكذا أقاربهم حتى الدرجة الرابعة أو من يعولونهم، ولا يجوز لغير تلك الفئات اللجوء إلى الصندوق بطلب التعويض»، مشترطة لصرف المساعدة للتعويض صدور حكم جنائي نهائي من المحكمة المختصة بإدانة مرتكب الفعل. فيما قالت المادة الرابعة إنه «لا تخلُّ الأحكام المنصوص عليها في هذا القانون بحقوق المتضررين في التعويض طبقاً للقواعد العامة المقررة في القوانين السارية».
 
في هذا السياق نذكر أن اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق وهي تطالب في الفقرة 1679 من توصياتها العامة بوجوب تعويض عائلات الضحايا المتوفين بما يتلاءم مع جسامة الضرر، وبتعويض كل ضحايا التعذيب وسوء المعاملة والحبس الانفرادي، رحبت بهذا المرسوم، وذلك قبل إحالته لمجلسي النواب والشورى اللذين أقراه على نحو ما أشرنا أعلاه.
 
يتعين النظر إلى هذا المرسوم على أنه خطوة ايجابية في طريق المصالحة الوطنية التي ننشدها، ونرى أنها تتطلب حزمةً من الإجراءات، هي جوهر التوصيات التي نص عليها تقرير بسيوني، التي إذا طُبقت بحذافيرها، فإنها ستشكل قاطرة حقيقية نحو الحل. وسأعيد هنا طرح وجهة نظري التي تقدمت بها في اجتماعات اللجنة المعنية بمتابعة تنفيذ توصيات التقرير حول هذه النقطة تحديداً، وهي أن اشتراط المرسوم لصرف المساعدة للتعويض صدور حكم جنائي نهائي من المحكمة المختصة بإدانة مرتكب الفعل، يعني أننا سندخل في دوامة طويلة من الإجراءات التي قد تؤدي إلى إعاقة تحقيق الغاية المنشودة من المرسوم.
 
إن المسألة التي نحن بصددها هي مسألة تعالج سياسياً فقط، رغم ما يبدو من ظاهرها أنها قضية قانونية أو حقوقية، ولذا فإننا نتطلع إلى مبادرة سياسية شاملة تنهي هذا الملف باتجاه المصالحة الوطنية.
 
 

اقرأ المزيد

أمريكا والمنطقة العربية


أحد الباحثين الأمريكان من غلاة المحافظين الجدد كتب بحثاً، هو أقرب إلى أن يكون مرافعة دفاع عن النهج الذي اختطه صانعو القرار في الولايات المتحدة تأثراً بأطروحات أولئك المحافظين الجدد.
 
ومن اللافت في تلك الدراسة قولها أن أصحاب تلك الأطروحات عادوا فيما عادوا إليه، إلى رواية جورج أوريل الشهيرة: «1984»، وكذلك إلى أعمال الكاتب الروسي ألكسندر سولجنستين، الذي مُنح جائزة نوبل وعاش ردحاً من حياته في أمريكا ذاتها ليعود إلى موطنه بعد سقوط النظام الاشتراكي فيها.
 
كان سولجنستين قد حذَّر وهو ينتقد النظام السوفيتي من احتمال ألا يفيق الناس، إلا بعد أن يكون الذئب قد نهش ما فيه الكفاية من لحم ضحيته، أما أعمال أوريل سواء في الرواية المذكورة أو في روايته الأخرى الشهيرة أيضاَ: «مزرعة الحيوان»، فكانت مثل أعمال سولجنستين موجهة لنقد الاستبداد والنظام الشمولي، وكان بصره مصوباً على الشرق الأوروبي، يوم كانت فيه أنظمة اشتراكية.
 
ما لم يدر بخلد أوريل نفسه أن رواياته ستغدو شهادة إثبات لا ضد الأنظمة التي خرجت من التاريخ لأنها لم تُؤَمِن لنفسها مُقومات بقاءها، وإنما ضد الأنظمة التي قادت الهجوم المضاد على نموذج التطبيق الاشتراكي في شرقي أوروبا، وتحديداً في الحقبة الريغانية- التاتشرية، وليس صدفة أن رونالد ريغان بالذات جلب عدداً من المحافظين الجدد للعمل داخل إدارته في مجال السياسة الخارجية.
 
حين سقط الاتحاد السوفيتي قال أحد هؤلاء أن حركة المحافظين الجدد انتهت، و” لكن الذي أنهاها لم تكن هزيمتها، فهي ماتت لأنها نجحت، وليس بسبب إخفاقها “، بل أن صاحب نظرية نهاية التاريخ فرانسيس فوكاياما تملص من هذه الحركة قائلاً «أنها أصبحت اسما بلا مسمى».
 
لكن سرعان ما تبين بطلان هذا الاستنتاج، فالمحافظون الجدد اخترعوا لأنفسهم خصوماً جدداً، فوجدوا في الحرب على العراق، مثلاً، امتدادا لنهجهم السابق، وجرت صياغة مفهوم الدول المارقة لإعادة ضخ الدماء للنظرية ذاتها. لم تكن إدارة أوباما هي من صاغ شعار دمقرطة الشرق الأوسط، وإنما صاغته إدارة بوش الابن برعاية المحافظين الجدد، ولم يكن باعث ذلك هو الحرص على الديمقراطية في هذه المنطقة، وإنما توفير الأداة الأيديولوجية لما عرف بالحرب على الإرهاب، بناء على تعميم فكرة أن السبب الأصلي لهذا الإرهاب يكمن في طبيعة السياسة الثقافية الاجتماعية المُشربة بالعنف في الشرق الأوسط. وحين جاء الديمقراطيون للبيت الأبيض ثانية بزعامة أوباما، لم يكن بوسعهم مغادرة هذا النهج، رغم تظاهرهم بالقطيعة مع المحافظين الجدد، وقبل التحولات في تونس ومصر وغيرهما من البلدان العربية في العام الماضي قال أحد المقربين من المحافظين الجدد أن المنطقة العربية هي المنطقة الوحيدة التي تغيب عنها الديمقراطية، ويبدو هذا القول حمَّال أوجه، أو على الأقل حمَّالاً لوجهين، فهو إما أن يعني أنه حان دور هذه المنطقة لتصبح ديمقراطية، أو أن هناك عوامل ثقافية وسياسية ودينية تؤخر انتشار المد الديمقراطي.
 
على هذين الاحتمالين ستظل السياسة الأمريكية تراوح دون ترجيح أحدهما بالمطلق، فما يحكم هذه السياسة، سواء كان سيد البيت الأبيض ديمقراطياً أو جمهورياً، هو المصالح، أما المبادئ فإن كان لها من مرتبة، فانها مرتبة ثانوية.
 
حرر في 24 يناير 2012
 

اقرأ المزيد

مجلسنا النيابي والفسـاد


لا نعرف كم عدد البرلمانات في العالم التي يختار أعضاؤها أن يقفوا بأنفسهم ضد توسيع صلاحياتهم التشريعية والرقابية، فمن المؤكد أن مثل هذه البرلمانات موجودة في بلدان أخرى، لكن ما نعرفه، معرفة اليقين، أن مجلس النواب البحريني أرسل ويرسل إشارات ساطعة على أنه، وبامتياز، واحد من هذه البرلمانات، حين قرر أعضاء إحدى لجانه، وهي اللجنة التشريعية، وبمحض إرادتهم، هذا في حال افترضنا حسن النية، أن يرفضوا مقترحاً  نيابياً بتشكيل هيئة عليا لمكافحة الفساد.
 
وحسب بيان المنبر التقدمي الصادر منذ يومين فان هذا الموقف  أفصح بوضوح عن عدم جدية غالبية الكتل النيابية في التعاطي مع قضية من أهم القضايا التي تؤرق مجتمعنا وتسمح بمصادرة ثرواته والتعدي على ممتلكاته العامة، وهو ذات الموقف الذي تكرر مراراً من قبل المجلس بشكل عام خلال السنوات الأخيرة، والذي يأتي على عكس المطالبات الشعبية الواسعة الداعية لوقف الفساد ومحاسبة الفاسدين، وضد التوجه الذي أضحى مُتبعاً في العديد من دول الديمقراطيات العريقة والناشئة على حد سواء تحقيقاً لمساءلة وملاحقة العابثين بالمال العام.

  ليست لدينا أوهام كبيرة على أن هذه الهيئة العليا لمكافحة الفساد، حتى لو تشكلت، ستحقق المعجزات، ولكن، في كل الأحوال، فان وجودها سيكون أمراً محسوباً لصالح المجلس، وخطوة في الاتجاه الصحيح، يتعين العمل بعدها على أن تقوم هذه اللجنة بدورٍ ما في محاربة أوجه الفساد المتفشية في مفاصل إدارية كثيرة في الدولة.
 
رغم ذلك فان اللجنة النيابية المذكورة هربت من هذا الاستحقاق، لتكشف بهذا السلوك عن غياب الجدية في مكافحة الفساد، وهو أمر يجد له تعبيرات في مسائل عديدة، ومن الأمثلة الساطعة على ذلك  كيفية تعاطي المجلس مع النتائج الخطيرة التي أظهرها، ويُظهرها سنوياً، تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية الذي يكشف، في كل سنة، كماً مريعا من وجوه الفساد والتجاوزات المالية والإدارية والتي تضخمت كثيرا خلال السنوات الأخيرة.
 
وأمر بالغ الدلالة أن هذا التضخم في معدلات الفساد والتجاوزات يتم في ظل وجود مجلس نيابي منتخب يفترض أن يقوم بدوره الرقابي على أحسن وجه، لكن المفارقة أن  التقرير الأخير هو الأضخم ضمن سلسلة التقارير التي صدرت حتى الآن، نظراً للتراخي الفاضح تجاه التعدي على المال العام  وإضاعة الموارد والتسيب الإداري والمحسوبية.

  فقد اختفت لجان التحقيق النيابية وانعدمت الجدية المطلوبة والمساءلة في متابعة ملف الفساد، مما سمح لقواه في مختلف أجهزة الدولة ووزاراتها أن ترتكب هذه المقادير المتزايدة من التجاوزات المالية والإدارية، التي تتكرر أوجهها في كل التقارير، في ظل غياب أية متابعة لمحاسبة المسؤولين وتصحيح الأخطاء والتعديات.
 
في بيانه المذكور دعا المنبر التقدمي، بهذا الخصوص، إلى  وقفة صارمة من اجل استعادة موارد الدولة وممتلكاتها وتحجيم المديونية العامة للدولة بدلا من السماح بتضخمها بشكل غير مسؤول، وتقديم المتجاوزين والفاسدين للنيابة العامة تحقيقا للمساءلة، واستعادة الممتلكات والثروات المصادرة، على أن تبدي السلطتان التشريعية والتنفيذية حزماً تجاه الموقف من الفساد والتعدي على المال العام  حماية لثروات الوطن، وحفاظا على نصيب الأجيال القادمة في هذه الثروات.
 

اقرأ المزيد

الربيع العربي باعتباره ماركة عربية مسجلة


تعليقا على الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت في الولايات المتحدة تحت مسمى حركة “احتلو وول ستريت” التي سرعان ما انتشرت في أماكن مختلفة من العالم، وخلال لقاء جمعه منتصف شهر اكتوبر الماضي مع الرؤساء التنفيذيين لنحو 20 شركة عالمية بينهم روبرت دادلي رئيس شركة بي.بي، قال رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين: “ان الخطط الروسية لزيادة الانفاق الاجتماعي ستمنع اضطرابات مماثلة في روسيا”.

مثال آخر على هذا النوع من محاولة دفن الرؤوس في الرمال تقدمه ماليزيا الدولة المسلمة في جنوب شرق آسيا، حيث بقيت مجموعة من المتنفذين داخل “تنظيم اتحاد المالايو الوطني” الذي يهيمن على السلطة في ماليزيا ويحتكرها منذ خمسة عقود “بفضل قبضته الفولاذية المشرّعة في وجه الاقليات العرقية والدينية، لاسيما الصينية والهندية – بقيت مجموعة متنفذة داخل حزب الأغلبية المالاوية تعتقد انه بامكان ماليزيا تفادي رياح التغيير التي هبت على أنظمة الحكم في العالم العربي.
ولعلنا نتذكر ان أحمد أبوالغيط، آخر وزير خارجية لمصر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، قال في أحد تصريحاته تعليقا على امكانية انتقال رياح التغيير التي هبت على تونس عبارته الشهيرة “ده كلام فارغ”!

ولكن دوام الحال من المحال، وشتان ما بين التمني أو التفكير الرغائبي (Wishful thinking) كما تذهب توصيفات علم العلاقات الدولية وعلم ادارة الازمات، وما بين قوانين التطور الاجتماعي ومنها قانون وصول “الجديد” الى قناعة باستحالة العيش بنمطية “القديم”.
في مصر رأينا كيف ان الاحداث لم تمهل كلمات أبوالغيط المكابِرة وتعطيها الفسحة المطلوبة من الوقت لبث الطأنينة في نفوس الكثيرين الوجلين آنذاك من المجهول، اذ سرعان ما أصبح هو والنظام الذي عمل لديه، جزءا من الماضي.

وفي روسيا فان البحبوحة النسبية التي نجح النظام المركزي القوي الذي أشاده رجل المخابرات الروسية السابق فلاديمير بوتين على انقاض أطلال النظام البائس الذي أداره الرئيس الراحل بوريس يلتسن، وذلك بفضل عوائد مصادر الاقتصاد الريعي (النفط والغاز ومواد الانشطة التعدينية) – فان تلك البحبوحة لم توفر لرئيس الحكومة فلاديمير بوتين الذي يتهيأ للعودة لمنصب الرئاسة لفترة رئاسية ثالثة في انتخابات هذا العام، مأمنا من موجة الاحتجاجات الشبابية والشعبية التي تجتاح العالم على وقع استمرار تداعيات الازمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد العالمي في الفصل الثالث من عام 2008. فالهيكلية السياسية التي أنشأها بوتين وميَّز فيها وضع حزب روسيا الموحدة بصورة استثنائية واحتكارية في النظام السياسي الروسي الجديد، على نمط فلسفة الحزب الوطني في مصر حسني مبارك، قد أفضت بسرعة، “بفضل” آفة الفساد، الى تحويل حزب روسيا اليوم الى بيت يضم كبار رجال الاعمال والمتنفذين وبالطبع قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى الصاعدة في روسيا مع انتقال روسيا الى مصاف الاقتصادات الصاعدة الرئيسة مثل الهند والبرازيل. واليوم غير الأمس، فالناس لن تصبر طويلا، كما في الماضي، على الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة معا وتمتع جزء صغير من السكان بالجزء الاعظم من الثروة.

ولعل الأمر نفسه ينطبق على ماليزيا، فبعد أن امتد الزمن باستبداد حزب “اتحاد المالايو الوطني” واحتكاره للسلطة على مدى العقود الخمسة الأخيرة بذريعة تمثيله لغالبية السكان من المسلمين المالايو الذين يشكلون حوالي 60% من السكان، بدأ ضغط المعارضة الماليزية يزداد ويضيّق الخناق على الحزب الحاكم الذي سرعان ما اعترف بتنامي هذا الضغط من أجل التحول الى الديمقراطية الحقيقية وانهاء نظام الامتيازات العرقي التي (الامتيازات) تم تكريسها قانونيا لصالح من يوصفون في مليزيا بـ “البوميبوترا” (أي أبناء الأرض). ولما كان نظاما حصريا (حصر الامتيازات في المواطنين المالايو وحجبها عن باقي العرقيات)، فكان لابد وان ينتهي به المطاف ليكون انتقائيا حتى في حصريته، ما استدعى تململا ثم سخطا من جانب المالايو أنفسهم الذين راحو يشتكون من أن النظام (نظام الامتيازات) يتعرض للانتهاك من جانب نخبة فاسدة تسعى للتربح وتوسيع نفوذها وهيمنتها على الدولة ومؤسساتها ومرافقها، وهي هيمنة مستمرة منذ الاستقلال عام 1957.

زعيم “اتحاد المالايو الوطني” رئيس الوزراء الماليزي نجيب عبدالرزاق تعهد للمعارضة المتنامية والمتأثرة بحركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة في العالم العربي، بأنه سوف يعلن عن اجراء انتخابات مبكرة (في غضون شهور) وانه سيعمل على الغاء قانون أمني قمعي يتيح للحكومة احتجاز المعارضين دون تقديمهم لمحاكمة وغيرها من وسائل القمع الاخرى. كما تعهد بالانتقال من الماضي الاستبدادي لماليزيا الى ما أسماه “ديمقراطية حديثة وناضجة”.

انما هذا وحده لن يكون، بطبيعة الحال، كافيا لتحقيق تلك الغاية ما لم يواكب ذلك تغيير المؤسسات التي ستنفذ القوانين والتشريعات والاجراءات الجديدة، لاسيما أجهزة الدولة ومؤسساتها ومنها المؤسسة الأمنية.

بدوره تعهد رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين بأنه سوف يجري حوارا مع المعارضة الروسية التي نظمت أكبر احتجاجات تشهدها روسيا منذ صعود بوتين الى السلطة في روسيا في عام 1999، حيث أدلى بتصريح للصحافيين بهذا الصدد قائلا: “يجب ان يُجرى الحوار. ماذا سيكون شكله؟ سأفكر في هذا”.

ولكن هذا التصريح كان يوم الاربعاء 28 ديسمبر 2011، فبعد يومين من هذا التصريح وعشية عيد رأس السنة الميلادية السبت 31 ديسمبر 2011 أوضح رئيس الوزراء الروسي (بوتين) في رسالة متلفزة الى الشعب الروسي (اعتاد الرؤساء الروس توجيه رسالة الى الشعب قبل الساعة الثانية عشر ليلا يوم الحادي  والثلاثين من ديسمبر/كانون أول من كل سنة بمناسبة انتهاء عام وحلول عام جديد، ولأن في روسيا الآن ثنائية القيادة فقد استجد، وبصورة استثنائية، قيام الرئيس ورئيس الوزراء بتوجيه هذه الكلمة) – أوضح فيما خص الاحتجاجات اياها قائلا: “بالطبع نحن نخوض دورة سياسية، وفي تلك الاوقات دائما ما يستغل السياسيون مشاعر المواطنين وتشهد الامور اضطرابا نوعا ما وفورة مشاعر”.

هو أيضا يعتقد ان بامكانه الاطمئنان الى الأداء الريعي الجيد للاقتصاد الروسي من دون ان يضطر لاحداث اصلاحات حتى مهندس النظام السياسي الذي أشاده بوتين ومنظره الرئيسي فلاديسلاف سوروكوف أقر بضرورة الاسراع في اقرارها وتنفيذها حين أدلى بتصريحات تعليقا على الاحتجاجات قال فيها: “ان أفضل الممثلين عن المجتمع يخرجون من الشارع”، وتساءل مستغربا : “من يرغب في الحفاظ على الفساد والظلم وصون نظام أصم ليزداد حماقة؟ لا أحد، حتى أولئك الذين يشكلون جزءً منه”. وقد تكون تصريحاته هذه هي التي عجلت باخراجه من الكرملين.

من كل هذه التجارب يمكن للمراقب أن يكثفها في عنوان عريض مفاده المماطلة والتسويف والتحايل السياسي، ولكأن الاصلاح والتطوير المُواكب لحركة الناس والحياة يمكن تجنبهما!

يبقى أن ننوه الى ان عدوى الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق ذات الخصوصية العربية التي اكتسبت شهرةً واسما “كوديا” هو الربيع العربي، والتي انتقلت الى محطات عالمية واتخذت لها طابعا تدويليا، لم يتسن لمؤرخيها بعد تسجيلها كماركة عربية مسجلة رغم حصول بعض رموزها على تكريم وجوائز عالمية، فضلا عن حصول الربيع العربي نفسه كشخصية اعتبارية على اعتراف وتقدير عالميين، لاسيما على المستوى الاعلامي والاكاديمي.  

اقرأ المزيد

المواطنة والتحول الديمقراطي


في أحد الأعداد الأخيرة من مجلة “الحياة الثقافية” التي تصدرها وزارة الثقافة في تونس مَلفٌ مهم عن ثقافة المواطنة، وأهمية هذا الملف لا تأتي فقط من أهمية الموضوع الذي يُعالجه، وإنما أيضاً من علاقة هذا التناول بالأسئلة التي تطرحها التغيرات الدراماتيكية في العالم العربي خلال الشهور الماضية، والمخاض الذي نعيشه الآن، الذي ليس بوسع أحد أن يجزم بصورةٍ باتةٍ عما سيسفر على وجه الدقة، فوقائع الحياة ومساراتها هي في الغالب أغنى من التخطيطات النظرية المجردة.
 
لذا فان واضعي الأبحاث المنشورة في الملف المذكور لم يتوقفوا عند حيثيات الوضع الداخلي في تونس، باعتبارها مختبراً نموذجياً للتحولات الجارية ولما يمكن أن تفتحهُ من آفاق في هذه الوجهة أوتلك، وانما طرحوا الموضوع من زاوية عامة تصلح للقياس على الوضع العربي العام، وبالتالي فهناك ما يمكن أن نستفيد منه نحن في البحرين أيضاً، ونحن نتحدث عن وضعنا الراهن وعن سبيل الخروج من مناخ الأزمة إلى أفق الحل.
 
لمزيدٍ من تقريب الفكرة يمكن أن نشير إلى بعض عناوين هذا الملف، فهو على سبيل المثال يناقش مسائل من نوع: المواطنة في ميزان العقل والنقل ونظرية الرموز الثقافية، الانتقال الديمقراطي والمواطنة، المواطنة الايجابية، المواطنة والعولمة:التوافق والتعارض، ثقافة المواطنة، المواطن والمدينة في الاسلام، السلطة السياسية ومسألة الشرعية.
 
ولن يتسع حيز صغير مثل هذا لبسط الأفكار الواردة في أبحاث الملف، ولكن ما هو جدير بالتوقف أمامه أكثر من غيره هو ذلك النقاش عن جدلية العلاقة بين قضايا التحول الديمقراطي في أي مجتمع وبين مفهوم المواطنة كما تقره المواثيق والمعاهدات الدولية، لأننا هنا بصدد مفهوم معياري لا يحتمل تأويله مزاجياً، وإنما العمل وفق روحه ونصه في عالم اليوم المترابط والمتشابك بصورة لم نشهدها من قبل.
 
يذهب الباحث التونسي المشارك في هذا الملف محمد بالراشد إلى ان المواطنة هي جوهر الديمقراطية، فلا ديمقراطية بدون مواطنة تعبر عن نفسها بالمشاركة الطوعية للأفراد في الشأن العام، وهذا يقتضي توفير مناخ هذه المشاركة للجميع سواء عبر التعددية السياسية أو التعددية الاجتماعية، وهنا نصير أمام أحد شروط الانتقال الديمقراطي ألا وهو ضمان التنوع والاختلاف والتعددية، لأن طغيان اللون الواحد والمنطق الواحد والتفكير الواحد من شأنه أن يخل بأهم شروط المشاركة.
 
وفق هذا الفهم فان المشاركة تعبير عن الثقة في الذات وتجسيد للتمتع بالحقوق والواجبات، ولكنها في نفس الوقت إعتراف بأن للآخر مهما كانت اختلافاتنا معه رأي في الشأن العام، وان له نفس الحقوق التي لنا، فالمواطنة ليست مجرد جنسية أو وضعية قانونية يُعترف فيها للفرد بحقوق، ثم يجري تقييدها بقوانين أو تشريعات أو ممارسات تفرغها من جوهرها، أو بغياب فكرة التسامح التي تتطلب من الجميع القبول بالعيش في مجتمع متعدد الانتماءات والهويات، وكما يقول الباحث نفسه فإن “التسامح متعلق بالأفكار وليس بالشتائم وبالاعتداءات أو الأفعال الإجرامية”.
 
وينبني على هذا ان الانتماءات الفردية أو الفرعية يجب ألا تؤثر سلباً على العيش الجماعي، فالانتماءات الضيقة تجعل الذات متمركزة حول نفسها، مما يعيق تواصلها مع الآخر.
 
22 يناير 2012

اقرأ المزيد