المنشور

ديمقراطية الدومينو – فواز الشروقي


صحت بصاحبي: «لماذا صفعت ابنك الصغير ذا السبعة أعوام؟».
قال لي: «ألم ترَ ما الذي كان يفعله؟ لقد كان يلعب الدومينو».
قلت له: «وما الضير في أن يلعب الدومينو؟ ولم كلّ هذا الانفعال؟».
قال: «لقد كان يضع قطع الدومينو بشكل متسلسل وبخطوط مستوية ومتعرّجة، وبدفعه للقطعة الأولى تتساقط القطع كلّها متتابعة».
ازدادت حيرتي وقلت له: «ابنك مبدع إذن. إنّ طفلاً عمره لا يتجاوز السبع سنوات ويتمكّن من إعداد هذه اللوحة الجميلة وهذا الترتيب المتقن هو في قّمة الذكاء والإبداع».
قال: «بل إنّه في قمّة الدهاء والمكر، وقمّة الاستغلالية والاستبداد، وقمّة الاستغفال واستلاب الإرادات. هل تسمّي ذلك ذكاء وإبداعاً». لم أعلّق على كلامه من هول المفاجأة، فبادر قائلاً: «ألا تريدني أن أقلق وأنا أرى ابني ذا السبعة أعوام بدفعه قطعة واحد يُسقط جميع القطع، فكيف سيصنع حينما يصبح عمره ثلاثين عاماً ويصبح خطيب جامع أو داعية على منبر، ألن يتعامل مع الجماهير كما يتعامل اليوم مع قطع الدومينو؟ ألن يسيّر هذه الجموع بفتوى دينية أو توجيه يدّعي استقاءه من السماء؟ ألن يكون ابني مهيأ لتسيير جموع الناس كالقطيع دون أن يكون لهم رأي أو إرادة أو اعتراض مثلما هي قطع الدومينو؟». وأضاف والحسرة بادية على وجهه: «بلدنا اليوم مثل رقعة الدومينو، آلاف من القطع الجامدة الصمّاء تنتظر أن تسقط القطعة الأولى حتى تكرّ كلّها لتشكّل صورة لا تريدها هي ولكن يريدها صاحب الرقعة، فكيف يمكن أن تنجح الديمقراطية في وسط مجتمع ليس هناك فرق بين أفراده وبين قطع الدومينو؟ هؤلاء تسيّرهم فتوى وهؤلاء تسقطهم دفعة إصبع».
قلت له: «وما الذي يجعل الناس كقطع الدومينو؟». ردّ عليّ : «الناس تجمّدت وتحجّرت. خوفهم من النّار ومن العقاب جمّدهم، وصاروا كالكتل الصمّاء، كحبّات الدومينو في يد رجال الدين. صار تصويتهم في الانتخابات بأمر ربّاني وامتناعهم بنهي ربّاني وخروجهم لمظاهرة بأمر ربّاني ورجوعهم إلى البيت بتوجيه ربّاني، فهل نرجو خيراً من ديمقراطية الدومينو هذه؟».
هممت بمغادرة منزل صاحبي من غير وداع، وسرحت في كلامه وأنا أفتح الباب، ولم يقطع سرحاني سوى صوت صفعة جديدة وصراخ صاحبي: «قلت لك يا الكلب دومينو لا يعني لا».
 
الكاتب فواز الشروقي
كاتب بحريني 
  الأيام 31 يناير 2012
 

اقرأ المزيد

تعطيل الكفاءات الوطنية


ما تقوم به بعض الجهات الرسمية والخاصة من رفض إعادة من تمّ فصلهم أو تهميش الكفاءات الوطنية التي تم إعادتها إلى وظائفها بعد تقرير لجنة تقصي الحقائق، يشي بأن بعض المسئولين لا يزالون متمسكين بمعاقبة فئةٍ من المواطنين بعيداً عن قرار الدولة، وهم بذلك يساهمون بشكل متعمد في زيادة إطالة أمد الأزمة وحالة الاحتقان الموجودة أصلاً في الشارع.
 
أكثر من ثلاثة آلاف مواطن بحريني تم فصلهم من أعمالهم بسبب التعبير عن آرائهم السياسية، العديد منهم يعتبرون من أكفأ الكوادر البحرينية سواءً في المجال الطبي أو التعليمي، أو من القيادات العليا في المؤسسات والشركات.
 
من بين هؤلاء المفصولين أطباء استشاريون في جراحة المخ والأعصاب والعقم والولادة، وهي تخصصاتٌ نادرةٌ ليس في البحرين فقط وإنّما في جميع أنحاء العالم، إلى جانب رؤساء أقسام وأساتذة في الجامعة ومدراء مدارس ومدرسين وممرضين وموظفين وصلوا إلى مراكز مهمة في مجال عملهم خلال السنوات الماضية بفضل علمهم وكفاءتهم وخبرتهم.
 
بعض المؤسسات لا تزال ترفض إعادة من تم فصلهم لأسباب معروفة تماماً، في حين أن أغلب من تم إرجاعهم إلى أعمالهم لا يزالون يتعرضون إلى الضغوط المهينة التي تتمثل في تغيير مواقع ومراكز وطبيعة عملهم وتوقيعهم على إنذارات نهائية أو تعهدات مجحفة لا تتفق إطلاقاً مع القوانين المحلية ولا المواثيق والعهود الدولية.
 
من الحالات المجحفة بحق من أعيد إلى عمله ممرضاتٌ في وحدة العناية بالقلب، اللواتي تم تحويلهن بعد إرجاعهن إلى العمل إلى دار العجزة والطب النفسي ووحدة غسل الكلى. وهناك العديد من العاملين في المجال الطبي تم الخصم من رواتبهم بما يتجاوز النصف دون أسباب معروفة.
 
حالةٌ أخرى تتصل بمديرة مدرسة تم تحويلها لشغل وظيفة كتابية وأعطيت طاولة في مكتبة عامة لتداوم هناك، بالإضافة إلى تهميش العديد من الموظفين في المؤسسات الحكومية بحيث يتم تجريدهم من مسئولياتهم السابقة أو تحويلهم إلى مناصب أقل.
 
إن تعطيل مثل هذه الكفاءات بدافع الانتقام لا يضر فقط بمن اتخذ بحقه مثل هذه الإجراءات وإنّما يضر بجميع المواطنين بشكل عام، فعندما يتم تهميش الكفاءات وإحلال موظفين أقل قدرةً وكفاءةً وخبرةً وعلماً، فإن ذلك سينعكس على مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين سواءً كان ذلك في الخدمات الطبية أو التعليمية أو غيرها.
 

صحيفة الوسط البحرينية –  31 يناير 2012م
 
 

اقرأ المزيد

ننظر وتنظرون


لم تمر على شعبنا حالة من الانقسام السياسي والطائفي كالحالة التي يمر عليها الآن بعد المحنة التي تعرضنا لها واستمرت تداعياتها بين شد وجذب حتى يومنا هذا ونتج عنها حالة تباعد مقيتة زاد من مقتها البعض طمحا في مكاسب او شهرة عمياء ستنطفي بانطفاء هذه المحنة، ولن يتم ذكرهم الا بأبخس التوصيفات، ولن تغني عنهم شهرتهم الآنية شيئا ولا هم يحزنون.
 
لم يكتف بعض مروجي الفتنة والبغي السياسي من استمرار حملات التغريدات اليومية عبر شبكات التواصل من النفخ الإجرامي لتزييد الهوة بين مكونات الشعب الذي عاش متآلفا متحابا طوال عمره وان تخللتها بعض الهفوات من هنا او هناك، او تصريحات لبعض المعتوهين تسببت في جدل او هرج ومرج.
 
إلا ان ما نمر به ما هو إلا أمواج تتلاطم في بحرين وليس بحر واحد، تكثر فيها الدعوات والمصطلحات، والتكتلات والائتلافات، وكل يقول ان تشكلاته ودعواته وتجمعاته من أجل المصلحة الوطنية ووحدته الوطنية، وكلما سمعنا عن صدور أمر جديد ودعوة جديدة، قلنا (ننظر وتنظرون) حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، من وراء هذه الدعوات ومدى صدقها في حملها للهموم الوطنية، حتى وصلنا الى دعوة ومبادرة المصالحة الوطنية.
 
ولوضع النقاط على الحروف، لا بد ان نعترف ان لا الشعب ولا السلطة يقدران على تنفيذ هذه المصالحة الوطنية إلا بإرادة صادقة وحقيقية تبدأ بحل الملفات العالقة والجلوس على طاولة حوار جادة يتفق من خلالها المتحاورون على إنهاء كافة أشكال التوترات ووضع خارطة طريق سياسية متفق عليها للبدء في دخول مرحلة المصالحة الوطنية المبنية على أساس قوي، لا أن تكون مصالحة وقتية وهذا هو أمر في غاية الخطورة ويجب الانتباه إليه، عبر وضع خطط إستراتيجية لتفعيل المصالحات الوطنية الحقيقية.
 
الشجاعة ليست في إطلاق الدعوات فقط أو تشكيل الائتلافات والتكتلات أو التحالفات، الشجاعة هي ان نقول للمخطئ أخطأت بعيدا عن التقديسات التي يضعها بنو البشر، الشجاع هو الذي يقول ان مستقبل بلدي يجب ان لا يكون بيد السبابين والشتامين، ويستطيع ان يقول لهم من دون خوف كفوا حتى نستطيع ان نبني الوطن، بأمن وأمان، يحفظ فيه حق الإنسان وعرضه وماله، ويحترم فيه المعتقد، وتحفظ فيه الحقوق المدنية للمواطنين.
 
الأيام 31 يناير 2012

اقرأ المزيد

مكابدات قاسم حداد


يُهدي قاسم حداد إصداره الجديد: «مكابدات الأمل» الصادر عن وزارة الثقافة في البحرين والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، إلى كل من ليلى فخرو وهشام الشهابي وعبدالرحمن النعيمي.
 
أسماء ثلاثة رحلت من دنيانا، بعد أن تركت توقيعها الذي لا يُمحى في سجل الوطن، لكن ليست هذه الأسماء الثلاثة وحدها من يحضر في نصوص الكتاب، فمعهم يحضر أيضاً أحمد الشملان وأمين صالح وعبدالقادر عقيل وغازي القصيبي ومحمد الماغوط وغيرهم.
 
أسماء هؤلاء لا ترد في سياق تحيات يقدمها الشاعر لرفاقه وأصدقائه الراحلين والباقين، وإنما في سياق نصوص يجمعها العنوان اللافت الذي اختاره لكتابه: «مكابدات الأمل»، لذلك فإن الكتاب لا يتوقف عند حدود الأسماء وحدها وإنما يذهب بعيداً إلى الأفكار والأماكن وإلى الشهادات الآتية من سياق تجربته الشعرية والإبداعية، وعلينا أن نقول أيضاً من سياق تجربته الإنسانية الغنية التي يعرفها من يعرفونه.
 
سبق لقاسم أن أصدر مؤلفاً في عام 1995 حمل عنوان: «نقد الأمل»، وحتى في ذاك المؤلف لم يفلت من الهاجس المستحوذ على نصوص ومقالات كتابه الجديد، هاجس مكابدات نقد الأمل، فلعل الشاعر هو نفسه الذي قال يوماً، إن لم تخنِ الذاكرة، وهو يهجو حياتنا الراهنة، على ما فيها من قسر وعبث، بأنها تمنعك حتى من اليأس، وهو حق مشروع للفرد، حين يكون هذا اليأس باعثاً لتوليد الأمل أو حتى لمزيد من اليأس، في لحظة تكاد فيها الأشياء تتساوى، ولعلنا نجد في خاتمة تحيته لمحمد الماغوط ما يُوجز هذه الفكرة حين يخاطبه بالقول: «لستَ محسوداً على الموت، ولسنا على الحياة».
 
لكن قاسم في الإصدار الجديد اختار المكابدات فضاء لتجواله، كأن هذه المكابدات ضريبة النفوس المرهفة الموغلة في الأمل، الموغلة في الحب، وهي تداري حلمها المكسور، تماماً كما يداري طفل خائف شمعته عن الريح كي لا تنطفئ، وهذا ما يجعل من مكابدات قاسم تربية للأمل، إن نحن استعرنا التعبير الجميل لمحمود درويش، وهو يفعل ذلك في أكثر من موضع من مواضع الكتاب، مثلاً حين يقترح على الجيل الشعري الجديد أن يعيد النظر في الأسئلة التي اقترحتها عليها تجربة أسلافه، و»لكي يُحسن هذا الجيل الشغل فعليه أن يتحصن بالمعرفة»، أو حين يحذر بقسوة مشروعة، في موضع آخر، من «مسخ تاريخ نضالي بذل ذبالة روحه من أجل المستقبل، لتجري جرجرته خلف عربة تسعى حثيثاً نحو الماضي».
 
وفي الكتاب كله تطوف روح المفتتح الذي به يلج قاسم عوالم الكتاب، روح «البلاد التي كانت دمعة وصديقة لعيوننا تبكي علينا أو لنا، لكننا في آخر الأسفار نستهدي بيقظتها، ونعلن أنها فينا.. بعيداً، وأن باقي وردنا في صدرها الماسي، في تنهيدة المأخوذ نحو جمالها».
 
هل أقول أنه كتاب يأتي في وقته؟ سنظلم المؤلف بهذا القول، فكل كتب قاسم السابقة، وهو المنصرف كلية إلى مشروعه الإبداعي لا يشغلهُ عنه شاغل، تأتي في وقتها، وللإبداع ليس من وقت، لكن الأفق الرحب لتأملات الكتاب ونصوصه وأفكاره التي لا يمكن تقييدها بزمن معين، لا تنفي راهنية الكثير مما يطرحه المؤلف في هذه اللحظة من تاريخ وطن يبحث عن نفسه المضيعة.
 

اقرأ المزيد

شروط تسويات إرجاع المفصولين… أسوأ عقود الإذعان


على رغم ما خرج به تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق فيما يخص المفصولين من أعمالهم، والتأكيد على أهمية إرجاعهم لوظائفهم، إلا أن أغلب المؤسسات الحكومية والشركات مصرّة على الاستمرار في معاقبة هؤلاء المواطنين والانتقام منهم.
 
بدايةً، فإن اتخاذ قرار فصل أكثر من 3000 موظف من القطاعين العام والخاص والمئات من الطلبة من جامعاتهم على خلفية أحداث سياسية، إجراء لم نسمع به من قبل في أية دولة من دول العالم، ما حدا بجميع المنظمات العمالية والحقوقية ومنظمات حقوق الإنسان الدولية إلى استنكار هذا الفعل والمطالبة بإلغائه فوراً.
 
تقرير لجنة تقصي الحقائق يشير إلى أن «المسئولين الحكوميين هيأوا علناً أجواء الانتقام من الذين شاركوا في التظاهرات والإضرابات… وصدر منهم تشجيع مباشر للشركات على فصل الموظفين… وأن الكثير من حالات الفصل التي زعم أنها تستند إلى التغيب عن العمل كان الدافع إليها في حقيقة الأمر الانتقام من الموظفين الذين اشتبه في ضلوعهم في المظاهرات، وهذا كان واضحاً للغاية في حالات الفصل من وزارة التربية والتعليم وشركة بتلكو وشركة طيران الخليج».
 
عملية الانتقام مازالت مستمرة حتى الآن وحتى بعد إرجاع عدد من المفصولين. وسواءً كانت عمليات الانتقام هذه تتم من خلال تغيير مسمى الوظائف وأماكن العمل أو التهميش، فإن ذلك لا يمكن أن يعتبر تنفيذاً لتوصيات لجنة تقصي الحقائق التي تعهدت الدولة بتطبيقها.
في الفترة الأخيرة قامت إحدى الشركات الكبرى بإجبار المفصولين منها على التوقيع على عقد عمل جديد يخالف دستور مملكة البحرين، علاوةً على مخالفته لقانون العمل في القطاع الأهلي، ما يجعل منه بحق نموذجاً لعقود «الإذعان» التي لا يملك الطرف الآخر إلا القبول بها أو البقاء دون عمل.
 
فعلى رغم ما تم إثباته من أن جميع قرارات الفصل كانت تعسفيةً، إلا أن الشركة من خلال العقد الجديد تلغي جميع مستحقات الموظفين بما في ذلك التأمين الاجتماعي خلال فترة الفصل، وتلزم الموظفين بعدم المطالبة بأية مستحقات كما تلغي حقهم في اللجوء للقضاء لإثبات حقوقهم المالية بإلزامهم بشطب أية دعوى أقاموها ضد الشركة سواء لدى وزارة العمل أو وزارة العدل.
 
من الشروط التي وضعت في عقد العمل الجديد والمخالفة لدستور مملكة البحرين أن يتعهد الموظف بـ «عدم ممارسة أي نشاط سياسي سواء بالقول أو الفعل وفي حال مخالفته لذلك فإنه يحق للشركة اتخاذ الإجراء التأديبي ضده بإنهاء خدمته من الشركة»، على رغم أن التوصية رقم 1456 من تقرير لجنة تقصي الحقائق «تناشد الحكومة ضمان ألا يكون الموظفون المفصولون قد فصلوا من أعمالهم نتيجة ممارستهم لحقهم في التعبير وحرية الرأي والتجمع أو الاجتماع».
 
هذا الشرط المضحك لا يحدّد أو يفسّر ما يقصده «بممارسة السياسة قولاً أو فعلاً»، فهل أن انتقاد أداء أي وزارة أو وزير في الحكومة يعتبر حديثاً في السياسة مثلاً؟ إن كان كذلك فإن الإشادة بالوزير هي ممارسةٌ للسياسة أيضاً في المقابل. وهل تحوّل دور الشركات لدينا الآن من مراقبة أداء الموظفين وجودة إنتاجهم إلى التجسّس عليهم ومراقبة آرائهم السياسية؟
 

صحيفة الوسط البحرينية – 24 يناير 2012م
 

اقرأ المزيد

يا عقلاء البحرين اتحــدوا


الدعوة أعلاه جاءت على لسان الأخت صباح جنيد في الاجتماع الأول للقاء الوطني الذي ضمه نادي العروبة نهار السبت الماضي، وهي فيما نرى دعوة تعبر عن وجدان وضمائر كتلة كبيرة في المجتمع، أجزم بأنها الكتلة الأكبر، ولكن صوتها لم يعد مسموعاً وسط الضجيج الذي يسود البحرين اليوم، والذي يريد أصحابه أن يسود منطق الغرائز المذهبية والطائفية في العلاقة بين من تضمهم هذه الأرض الطيبة.
 
 ويكاد هذا الضجيج لشدة صخبه أن يطغى على كل نداء عاقل في الوطن يدعو إلى تجاوز المحنة، وتقليل الخسائر، وإن أمكن تفاديها كلية، لتتمكن البحرين من مداواة جروحها، ويتمكن البحرينيون من مصارحة أنفسهم حول أسباب الأزمة وسبل الخروج منها.
 
هذه الكتلة الأكبر، والمغيبة في حقيقة الأمر في اللحظة الراهنة، لأن البضاعة الرائجة هي بضاعة المزايدة على أنواعها وتلاوينها، بحاجة إلى من يعبر عنها وينطق باسمها، وتعبئة قواها لتكون سداً منيعاً يصد اندفاع الوطن نحو الهاوية المحدقة والتي نرى معالمها مرأى العين، لذلك فأن أي جهد خيَّر أو دعوة صادقة تنطلق هنا أو هناك من قبيل تلك المبادرة التي بدأ التحضير لها منذ  نحو شهور ثلاثة، ووجدت أولى ثمارها في اللقاء الوطني الذي التئم بنادي العروبة، والتي تحتاج إلى التشجيع والدعم، للتغلب على الصعوبات الجمة التي ستواجه أصحابها وهم يتصدون للمهمة التي وضعوها على عاتقهم.
 
لا مستقبل للبحرين إلا في السير على طريق الإصلاح والتغيير، وهذا ليس درس هذا العام أو العام الذي قبله، وإنما خلاصة الخبرة التاريخية الطويلة لمسار التطور السياسي الاجتماعي في البحرين على الأقل منذ بدايات القرن العشرين، وهو ما أكدته التجربة المريرة التي يمر بها الوطن منذ عدة شهور، وأي مبادرة لا تضع نصب عينيها هذا الأمر لا مستقبل لها هي الأخرى، والإصلاح المنشود هو ذاك الذي يلبي الحاجة الحقيقية للمشاركة السياسية الفعالة في صنع القرار وفي توجيه خطط التنمية وفي التوزيع العادل للثروات، وتأمين مقومات الدولة الحديثة من برلمان كامل الصلاحية وقضاء عادل ومتطور ومستقل ومن حكومة تمثل الإرادة الشعبية.
 
لكن ثمة خلاصة أخرى من واقع تجربة شعبنا التاريخية لا تقل أهمية، وهي أنه لا إصلاح حقيقياً سينجز في مجتمع منقسم على ذاته، بالصورة التي  عليها مجتمعنا اليوم، وأكبر الناس عمراً من المخضرمين في الحقلين السياسي والثقافي يجزمون أنه لم يسبق أن بلغت البحرين ما هي عليه اليوم من انقسام، وهذا أمر لا يجب الاستخفاف به، وإدارة الظهر له، ناهيك عن الإمعان في النهج الذي يعمقه ويزيده، دون الالتفاف الى نتائجه الوخيمة التي نعيشها، والتي ستزداد خطورة في المستقبل إن لم يُصر إلى تدارك الأمر بمبادرات شجاعة.
 
إن أخطاء جسيمة وقعت وتقع في البلاد سواء من قبل الدولة أو من قبل بعض فئات المعارضة، وفي حالات كثيرة يشعر المرء بالذهول حين نرى غياب الرغبة في الاتعاظ من تلك الأخطاء التي لا سبيل لنكرانها، عبر الاصرار في السير على النهج ذاته الذي قاد للأزمة، في الوقت الذي كان فيه متاحاً، ولا يزال متاحاً الخروج منها.
 
 

اقرأ المزيد

مؤشـر الحـرية !


مع كل ما يمكن أن يُثار من ملاحظات انتقادية وما قد يدور من شكوك وشبهات حول الطابع الغرضي والأجندات السياسية المعلنة والخفيّة لبعض المؤسسات الدولية “أو بالأحرى المؤسسات الغربية” الناشطة في مجالات حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات، إلا أنّه من الخطأ الاستخفاف بما تعده هذه المؤسسات من مؤشرات وما تصدره من تقارير.
 
وقد صدر قبل أيام التقرير السنوي الجديد لمنظمة “بيت الحرية” حول وضع الحريات في العالم للعام 2012، وتحديدا حول مؤشري الحقوق السياسية والحريات المدنية، حيث يقسّم التقرير بلدان العالم إلى ثلاث مجموعات: دول حرة؛ وهي التي تقع درجاتها بين 1 إلى 2.5 ضمن المؤشر المكوّن من سبع درجات، ودول شبه حرة تتراوح درجاتها بين 3 إلى 5 درجات، ودول غير حرة تزيد درجاتها عن 5.5 وتصل إلى 7 درجات.
 
وفي التقرير الأخير نلحظ بعض التحسّن الذي طرأ على وضع الحريات في تونس ومصر وليبيا؛ وذلك تحت تأثير التحوّلات الثورية التي شهدتها هذه الدول الثلاث، إذ انتقل تصنيف تونس من دولة غير حرة في تقرير العام الماضي إلى دولة شبه حرة في التقرير الأخير، فيما حدث تحسّن طفيف جدا لدرجات مصر وليبيا ضمن المؤشرين؛ إذ إنّهما تصنفان إلى الآن ضمن الدول غير الحرة، ما يعني أنّ هناك تحديات ليست قليلة أمام هذه البلدان لتحقيق الانتقال الفعلي إلى الديمقراطية، حيث لا يكفي سقوط الرموز الاستبدادية الحاكمة لضمان تحقيق هذا الانتقال بصورة تلقائية؛ بل لابد من تلبية الاستحقاقات والمتطلبات الديمقراطية…
 
 أما دول مجلس التعاون الخليجي فالمؤسف، وهذا هو الواقع، أنّ خمسا من هذه الدول الست لا تزال تصنّف ضمن الدول غير الحرة، مع ما يُلاحظ من تراجع في درجات بعض هذه الدول الخليجية ضمن التصنيف ذاته، إذ تراجع خلال العام الماضي مؤشر الحريات المدنية في البحرين والسعودية والإمارات، فيما لم يطرأ أي تحسّن على المؤشر المتدني بالأساس للحقوق السياسية فيها…
 
 أما الكويت فقد تمّ تصنيفها كالعادة ضمن الدول شبه الحرة، مع ملاحظة تراجع مستوى الحريات المدنية فيها عن مستوى الحقوق السياسية!
 
إنّ تصنيف الكويت ضمن الدول شبه الحرة يعني أنّ الهامش النسبي المتوافر من الحقوق السياسية والهامش المتقلّص من الحريات المدنية ليسا كافيين ضمن المعايير الدولية للقول إنّ الكويت دولة حرة تتمتّع بنظام ديمقراطي… فهناك حقوق سياسية لا تزال منتقصة مثل التجمّع والتظاهر؛ وإشهار الأحزاب السياسية؛ والتداول الديمقراطي للسلطة التنفيذية في ظل احتكار مناصبها، وعدم انتخاب كامل أعضاء مجلس الأمة جراء منح الوزراء غير المنتخبين عضوية المجلس، فيما هناك انتقاص متواصل للحريات المدنية، بدءا من حرمان الكويتيين البدون من معظم هذه الحريات، مرورا بالقيود المفروضة على الحريات الشخصية للأفراد في الكويت، وصولا إلى تقييد حرية الإضراب عن العمل؛ وانتهاء بالوصاية الحكومية المفروضة على حرية تكوين مؤسسات المجتمع المدني ونشاطاتها…
 
ويضاف إلى ذلك ما شهده العامان الماضي والأسبق من إجراءات أمنية متعسفة؛ واعتقالات متعددة؛ وملاحقات سياسية للمعارضين؛ وتضييقات على المدونين والمغردين، وغير ذلك من ممارسات مؤسفة ضيّقت بالملموس على الهامش النسبي من الحقوق السياسية المتاحة وقلّصت أكثر من الهامش المحدود جدا للحريات المدنية، وإن تراجعت في الأسابيع الأخيرة وتيرة مثل هذه الممارسات.
 
والمهم، أنّ واقعا جديدا بدأ يتشكّل وسيفرض بالضرورة حدوث تطورات ديمقراطية ملموسة خلال السنة الحالية في العديد من البلاد العربية، وبالأخص المغرب؛ والأردن؛ وتونس؛ وليبيا؛ ومصر؛ واليمن، ولابد أن تنعكس آثار هذه التطورات الديمقراطية على أوضاع المنطقة العربية، وبينها بالطبع دول مجلس التعاون الخليجي، التي لا يمكن أن تكون بمنأى عن منطق التطور التاريخي.
 
 
عالم اليوم  22 يناير 2012 
 

اقرأ المزيد

السير على الجانب الصحيح من التاريخ


عدد من الظواهر المؤسفة نشهدها في البحرين حالياً، بعضها يتعلق بما يعتبر خارج الإطار السلمي، والبعض الآخر يتعلق بارتفاع أصوات تدعو إلى إنهاء الحديث عن أيِّ إصلاح، والبعض يضع «فيتو» ضد تنفيذ أية خطوات تصحيحية جادّة.
 
بين كل هذه الظواهر قد تسمع من يقول إن الإصلاح في البحرين قد حصل وانتهى قبل عشر سنوات، وهذا الطرح مخالف لسنّة الحياة التي تتحدث عن ضرورة الإصلاح المستمر لصون المنجزات أو لعدم ضياعها أو لتطويرها لمواكبة المتغيرات التي لا تتوقف عند سنة محددة أو عند حدث معيّن.
 
وفي مثل الظروف الصعبة التي نمر بها يتوجب أن نؤكد على سلمية العمل السياسي، وهذا هو المنطق الصائب الذي يدحر الخطاب الرافض للإصلاح والذي يكرر مقولة إن استخدام «القوة والعقاب الرادع» هو السبيل الأمثل لمواجهة كل من سوّلت له نفسه أن يطرح مطالب تتحدث عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وعن المفاهيم الأخرى التي تسود عالم اليوم.
 
الغريب أن هناك ممن يرفض الإصلاح حتى بعد أن صدر تقرير بسيوني، وحتى بعد أن تكشفت قضايا كانت مخفية وأصبحت الآن معروفة للقاصي والداني. ومن المؤسف حقاً أن الرافضين للإصلاح يتحدثون وكأن ما يقولونه جزءٌ من «عقيدة راسخة»، ولا يلتفتون إلى ما تسببوا به من مآسي عندما لجأوا إلى أساليب محاكم التفتيش وساروا على نهج لا يمكن لأيِّ مخلوق يفكر ولو لدقيقة واحدة مع نفسه أن يؤيده مهما كانت المبررات المطروحة، هذا على الرغم من أن معظم الأقاويل المكررة ليست سوى مجموعة من الخرافات التي اتخذت كغطاء لتنفيذ انتقامات أو للحصول على مغانم.
 
وفي وسط هذا اللغط، يتحدث البعض عن «الإجماع الوطني»، وهو قول سليم في ظاهره، ولكن سرعان ما ينكشف الأمر عن «فيتو» يوضع أمام كل خطوة إصلاحية، سواء كانت منطلقة من إحدى توصيات تقرير بسيوني، أو من بنود «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي أصبح ملزماً بحكم العهود والاتفاقيات المستمدة منه والتي اعتمدتها البحرين رسميّاً لدى الأمم المتحدة. هذا «الفيتو» يشترط موافقة الجماعات المعادية للإصلاح على أيّة خطوة إصلاحية، وهذا تناقض يستحيل تحقيقه.
 
ليس من المستحيل أن نسير على الجانب الصحيح للتاريخ، وأن نوجّه واقعنا بما يتلاءم مع الجانب الجميل من عالمنا الذي أصبح أفضل وأفضل – من الناحية الإنسانية – يوماً بعد يوم، ويمكننا أن نربح جميعاً من خلال سلسلة من الإصلاحات الواضحة، والتي يمكنها إيقاف النزيف المكلف لوطننا، وتخرجنا من دوامة لا تهدد فئة دون أخرى. 
 

صحيفة الوسط البحرينية – 29 يناير 2012م

اقرأ المزيد

ابراهيم أصلان رائد من رواد التنوير


في مطلع هذا الشهر نعي رجال الأدب والثقافة في مصر والعالم العربي ولا سيما التنويرون منهم الكاتب الروائي المبدع ابراهيم أصلان..
 
أصلان كان شعلة مضيئة في عالم الحداثة فارق الحياة – وفق ما نشر في جريدة القاهرة الثقافية – بعد فترة مرض قصيرة اثر تناوله عقاقير طبية مقاومة لنزلة برد أثرت سلباً على عضلة القلب، خصوصاً ان أصلان كان قد أجرى عمليتي «قلب مفتوح» لكن قلبه لم يحتمل ضربة أخرى.
 
أصلان غادر الحياة عن عمر يناهز 77 عاماً اذ كان كما وصفه أدباء التنوير والحداثة في مصر نموذجاً للمثقف التنويري في مصر والعالم العربي. وتضيف «القاهرة» وفاة أصلان هي الأسوأ للحياة الأدبية والثقافية لهذا العام، الحق أصلان بصديقه وزميله في الجيل الستيني خيري شلبي.
 
من هو أصلان؟ ولد في المحافظة الغربية، ونشأ وتربى في حي «الكيت كات» بالقاهرة الذي كان لها الحضور في كل أعماله، بداية من مجموعته القصصية الأولى «بحيرة المساء» مروراً برواية «مالك الحزين» التي تحولت الى فيلم سينمائي «الكيت كات» أخرجه داوود السيد، ومن أعماله ايضاً «حكايات فضل الله عثمان» وراية «عصافير النيل «خلوة الغليان» غرفتان وصالة، شيء من هذا القبيل». وتتابع: نعاه الجميع، الشاعر حسن طلب قال ان اصلان واحد من ابرز الناس الاصلاء والطيبين المخلصين لفنهم في جيل الستينات كله، اما الروائي احمد صبري ابو الفتوح فقال: هو استاذي وشيخ الصنعة ورمز الشرف والادب في مصر المعاصرة.
 
منذ بدأ وهو كاتب كبير وقيمته الادبية ليست محل جدل هكذا كان يقول الروائي ابراهيم عبدالمجيد، ويقول ايضاً كانت مجموعته القصصية الاولى «بحيرة المساء» فتحاً جديداً في مجال القصة القصيرة وكان مقلاً في اعماله لأنه كان نحاتاً في اللغة، يبحث عن مفردات جديدة لكل عمل يكتبه، فكانت تأخذ منه هذه العملية وقتاً طويلاً..
 
أصلان كان يسكن في المقطم الى جوار الكاتب سعيد الكفراوي الذي قال: ان أصلان توفى بطريقة مشابهة لخيري شلبي الذي رحل في سبتمبر الماضي، مضيفاً من الصعب الحديث عنه في تلك اللحظة لكنه كان كاتباً محترماً وموضع تقدير من الجميع، وابداعاته تعد اضافة مهمة للأدب العربي كما رهن حياته للكتابة وللأبداع وعاش 60 عاما من الكفاح ليصل الى تلك المكانة.
 
اما وزير الثقافة د. شاكر عبدالحميد اعتبر أصلان واحداً من أعمدة الأدب والذي جسد مقولة الروائي الروسي الشهير «تشيخوف» العبقرية بنت التركيز، اذ تمتعت أعماله بالتكثيف والتركيز والايجاز الشديد.
 
اما الكاتب محمد سلماوي رئيس كتاب مصر فقال: ان رحيله خسارة كبيرة للادب وللمثقفين في مصر والوطن العربي في وقت نحن في امس الحاجة لمثل هذه القامات التنويرية الكبرى. وان ادب أصلان باقٍ لأنه من الآداب التي تعيش عبر العصور..
 
أصلان كان إنسانا بمعنى الكلمة، تجسيداً لفكرة ان الاديب الفنان ينبغي ان يكون انساناً راقياً نبيلاً في اخلاقه. وتستطرد «القاهرة» وتقول: لم يحقق اصلان تعليماً منتظماً منذ الصغر فقد التحق بالكَّتاب ثم تنقل بين عدة مدارس حتى استقر في مدرسة لتعليم فنون السجاد، لكنه تركها الى الدراسة بمدرسة صناعية، التحق اصلان في بداية حياته بهيئة البريد وعمل لفترة كبوسطجي ثم في احد المكاتب المتخصصة للبريد وهي التجربة التي ألهمته مجموعته القصصية «وردية ليل»، التحق في اوائل التسعينات كرئيس للقسم الادبي بجريدة الحياة اللندنية وواجه أصلان قبل عشر سنوات ازمة كبيرة بسبب قيامة بنشر رواية «وليمة لأعشاب البحر»، لحيدر حيدر في سلسلة آفاق عربية التي كان يرأس تحريرها، وتزعمت صحيفة الشعب التي كانت تصدر عن حزب العمل من خلال مقالات الكاتب محمد عباس حملة على الرواية حيث اعتبرها الكاتب تمثل تحدياً سافراً للدين والأخلاق.
 
في حينها كتب وائل الابراشي في «روز اليوسف» وتحديدا في يناير عام 2000: بدا واضحاً الآن ان حزب العمل يلعب بكرتين ناريتين كرة التكفير السياسي والتخوين الوطني وكرة التكفير الديني، ويسعى قادة الحزب – الذي اصبح غطاء لإخوان المسلمين المتطرفة والمحظورة – الى الحصول على مكاسب حزبية والدخول في مساومات وصفقات سياسية من خلال التهديد بإثارة الفوضى والاضطراب واشعال الفتن باستخدام الكرتين الناريتين. ولكن يبدو ان المارد خرج من القمقم ولم يعد بالامكان السيطرة عليه بعد المظاهرة الهمجية التي قادها الحزب وصحيفته لتكفير وزير الثقافة فاروق حسني والمبدع السوري حيدر واربعة مثقفين مصريين من بينهم المبدع ابراهيم اصلان.
 
 حصل اصلان على عدد من الجوائز منها: جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية «مالك الحزين» عام 1989، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2004، وجائزة كفافيس الدولية عام 2005، وجائزة ساويرس عام 2006، ورشح قبل ايام لنيل جائزة النيل من قبل اكاديمية الفنون.
 
لقد مات أصلان وهو لم يصارع المرض فقط بل أعداء ثقافة التنوير وهي الرسالة التي ستظل باقية لتجعل الحياة أكثر تجديداً.
 
ألأيام 28 يناير 2012
 

اقرأ المزيد

قضايا ليست في النيابة


في كل يوم تتكشف أوجه إعاقة جديدة لإعادة المفصولين من أعمالهم إلى وظائفهم السابقة، ونجد جهات العمل الحكومية والخاصة تتفنن في اختراع الأسباب التي تعيق إنجاز هذه المهمة على الوجه المناسب.
 
فتارةً نسمع أن من فصلوا كانوا حديثي التوظيف في وظائفهم ولم يُكملوا مدة الاختبار اللازمة لاعتبارهم موظفين دائمين، وأن فصلهم جرى لاعتبارات مهنية ولا علاقة له بالمشاركة في الأحداث التي جرت، رغم أن خطابات الفصل التي وجهت إليهم تتضمن إشارات واضحة إلى أن هذا الفصل تم بناء على السبب الثاني، ناهيك عن توقيت الفصل والصورة الجماعية التي اتخذها.
 
وتارة أخرى نسمع أن الفصل تم بناء على أسباب وظيفية أو مهنية، بسبب عدم كفاءة أو إهمال من طالهم الإجراء، وهذا أمر مكشوف في زيفه، فهاهنا أيضاً تم الفصل أو التوقيف بصورة جماعية، وطال موظفين وعاملين مضت عليهم سنوات طويلة على رأس أعمالهم، وهم يؤدونها بكفاءة. وفي تارة ثالثة نجد بعض جهات العمل الحكومية والخاصة، على حدٍ سواء، وكذلك بعض المؤسسات التعليمية، كالبوليتكنيك، تتذرع في معرض رفضها أو تلكؤها لإعادة المفصولين من أعمالهم أو دراستهم فيها، بأن السبب يعود لوجود قضايا عليهم في النيابة العامة، ولا يمكن، حسب هذه المؤسسات، إعادة هؤلاء إلا بعد أن يبت القضاء في القضايا المرفوعة ضدهم.
 
لكن بقليلٍ من النقاش سوف نكتشف هشاشة هذه الذريعة، فالغالبية الساحقة من القضايا التي أحيلت للنيابة تندرج فيما صنفه تقرير بسيوني بالحق في ممارسة حرية الرأي والتعبير، وسبق للنائب العام أن أعلن عن إسقاط هذه التهم جميعها، موضحاً في بيانه أن أكثر من 300 شخص استفادوا من هذا الإجراء، الذي اتخذ إعمالاً لإحدى توصيات تقرير بسيوني ذاته، ورغم هذا الإعلان مازالت الجهات المذكورة مصرة على عدم إعادة هؤلاء إلى أعمالهم.
 
هذا أولاً، وثانياً فان الكثير من القضايا حفظتها النيابة، وبالتالي باتت في حكم المنتهية، وهذا ما عرفه الكثير من المفصولين أو الموقوفين الذين راجعوا النيابة لمعرفة طبيعة التهم المنسوبة إليهم ومصيرها، فقيل لهم بأنها حفظت، ورغم هذا التوضيح البات ما زالت جهات العمل أو التدريس المذكورة تتلكأ في إعادة المفصولين.
 
وثالثاً فان الكثيرين تعرضوا للتحقيق في مراكز الشرطة، وقيل لهم بأن قضاياهم سترفع للنيابة، ومع ذلك فانها لم ترفع، لأنهم عند مراجعتهم للنيابة أُفيدوا بأنه لا توجد في سجلات النيابة أية قضايا ضدهم، وفي هذه الحال أيضاً تزعم جهات العمل بأن لديها إفادات بأنها تلقت معلومات بإحالة هؤلاء للنيابة مما يحول دون عودتهم لأعمالهم.
 
هذه الذرائع، كونها لا تستند على واقع قانوني، يجب أن تسقط، ولا نعرف ما هو الإجراء المطلوب من النيابة في مثل هذه الحالات، لكننا نرى وجاهة أن تعلن النيابة العامة في بيان واضح قاطع أسماء من شملهم إسقاط التهم المندرجة في نطاق حرية الرأي والتعبير، وكذلك القضايا المحفوظة، وأن تزود من يراجعوها، على وجه السرعة، بإفادات تفيد أنه لا قضايا ضدهم في النيابة، لكي لا تظل جهات العمل تلك تتذرع بالأمر.
 

اقرأ المزيد