المنشور

برامج على محـك الاختـبار


سمعتُ زعيماً يسارياً مصرياً يروي أنه التقى مؤخراً، في إحدى المناسبات، أحد قيادات حزب الحرية والعدالة «الاخوان المسلمين» في مصر فهنأه على النتائج المتقدمة التي أحرزها الأخوان في الانتخابات النيابية التي جرت مؤخراً، فبادره الزعيم الأخواني بالاجابة: «تُهنئنا على ماذا؟ هذه النتائج وضعتنا في ورطة لأنها ألقت علينا أعباء كبيرة، فحجم المشاكل في البلد كبير، وعلينا أن نثبت قدرتنا على تقديم الحلول لها».
 
هذا القول يختصر فكرة جوهرية تحتاج لشرح طويل، ذلك أن أقوى سند قُدم ويُقدم لبعض القوى غير الدمقراطية في بنيتها الفكرية والسياسية هو إبقاؤها في خانة المعارضة، وعدم الدفع بها لأن تضع ما تعد به من برامج على محك الاختبار الفعلي، لأنه من السهل جداً رفع الشعارات المعارضة، والذهاب بها إلى أقصى الاحتمالات، لكن المعضلة تنشأ حين يصبح المعارضون في السلطة، حيث يتعين عليهم إثبات أنهم قادرون على تصحيح الأخطاء والتجاوزات التي كانوا ينتقدونها.
 
بعض الباحثين حللوا الشق الاجتماعي – الاقتصادي في برامج القوى الاسلامية التي صعدت إلى السلطة أو حققت نجاحات لافتة في الانتخابات التي شهدتها بعض البلدان العربية، ولاحظوا أنه من حيث الجوهر لم تقدم هذه القوى برنامجاً مختلفاً عن ذلك الذي كانت الأنظمة السابقة تطرحه، من حيث العلاقة مع قضايا التنمية والتبعية، ومعالجة المشاكل المعيشية الحادة كالفقر والسكن وفرص العمل والتـأهيل المهني وغيرها.
 
لذا فما يبدو نجاحاً قد يتحول مع الوقت إلى مأزق، حين تنتظر الجماهير الغفيرة التي منحت أصواتها لهذه القوى تحسناً ملموساً في أوضاعها فلا تجده، وحين تشعر القوى الحديثة أن ما تحقق بفضل تحولات مديدة في مجتمعاتها من منجزات تتعرض لمخاطر المصادرة من قبل القوى الصاعدة مؤخراً، وحين يطرح المجتمع على نفسه أسئلة كبرى عن مآل الأمور.
 
هذا يؤكد صواب الفكرة التي نحن بصددها، وهو أن الرهان في هذه الحالات هو على الآليات الديمقراطية نفسها، لكي توفر فرص تغيير الخيارات الخاطئة، وتمكين الناس أنفسهم من إعادة توجيه المخرجات الانتخابية في مدار آخر، وهو يضع على عاتق القوى الديمقراطية تحدي قيادة التحرك ليس فقط من أجل التغيير، وإنما أيضاً من أجل ألا تمس الآليات الديمقراطية للتغيير، ومن ضمنها الانتخابات الحرة والشفافة.
 
للهروب من الاستحقاق الديمقراطي ثمة من كان يُردد وما يزال أن لنا ديمقراطيتنا، ولا يمكننا مجاراة شكل الديمقراطية في الغرب، ويذهب الغلو ببعضهم ليقول انظروا ماذا فعلت الديمقراطية في لبنان: لقد أحرقته، لكن ليست الديمقراطية هي من أحرق لبنان، وللدكتور سليم الحص مقولة مأثورة في هذا المجال هي:» في لبنان الكثير من الحرية وفيه القليل من الديمقراطية».
 
الراحل الدكتور إسماعيل صبري عبدالله ردّ مرة على الأطروحات القائلة بأن ديمقراطية الغرب لا تناسبنا بحجة دامغة، حين قال ما معناه: فليكن الأمر كذلك، شريطة ألا يكون البديل هو غياب الديمقراطية. ليست الشعوب هي من يتحمل غياب الثقافة الديمقراطية، إنما الحكومات، لأنها تحجب الديمقراطية وتقمع المطالبين بها، وتتطاول على فضاءات المجتمع المدني فتصادرها كاملة، وبالتالي تحول دون المجتمع في أن يكون قوة متكافئة مع الدولة، يراقبها ويُصحح أخطاءها.
 

اقرأ المزيد

الإسلام السياسي والديمقراطية


لعل أهم مسألة احتدم النقاش حولها ولا يزال، هي تلك المرتبطة بمستقبل الديمقراطية في الدول العربية التي شهدت ثورات اقتطف ثمارها الإسلام السياسي، كما جرى في ليبيا التي أكد رئيس مجلسها الانتقالي مصطفى عبدالجليل ان الشريعة الإسلامية مصدر السلطات، وكذلك الحال في تونس ومصر بعد ان فازت الأحزاب الدينية بالأغلبية في الانتخابات النيابية. أما كيف فازت؟ وهل لعب المال السياسي دوراً في شراء الذمم؟ وهل سيرسم هذا الفوز خارطة الديمقراطية التي تحترم التعددية؟ أسئلة جوهرية لا تزال مصدر اهتمام الكثير من المفكرين والسياسيين والمهتمين بشؤون الديمقراطية.
 
 وحول علاقة الإسلام السياسي بالديمقراطية، كتب المفكر عزمي بشارة قبل عدة سنوات دراسة تحت عنوان «مدخل إلى معالجة الديمقراطية وأنماط التدين» اشار في مقدمتها الى انه لا تقوم بين الديمقراطية والدين علاقة تشتق بموجبها الديمقراطية من الدين أو الدين من الديمقراطية، فالمفهومان ينتميان الى مستويين مختلفين من التجربة جوهر مصطلح الدين، أيُّ دينٍ هو «المقدّس» ولكن عملية التعامل مع المقدّس هي اجتماعية تتم في ظروف تاريخية محددة. وجوهر الديمقراطية، أي ديمقراطية هو تنظيم عملية السلطة والسيطرة بشكل محدد في الحياة الدنيوية. السؤال حول علاقة الدين بالديمقراطية. كما يقول – سؤال حول علاقة بين مفهومين ينتميان الى عالمين مختلفين، ولا فائدة نظرية ترجى من وراء هذا السؤال. كذلك لا فائدة من سؤال حول التلاؤم أو التخارج بين الاسلام والديمقراطية، والحقيقة ان من يطرح مثل هذا السؤال يجد نفسه في سياق البحث مرغماً على التعامل مع سؤال آخر أكثر تحديداً يدور حول الاسلام العيني في مكان وزمان محددين، ومن خلال ممارسات اجتماعية التدين في الزمان والمكان نفسهما من اجل التمكن من البدء بالتعامل مع هذا السؤال.
 
وإذا أصر الباحث على اثارة السؤال حول التلاؤم أو التخارج بين الاسلام والديمقراطية أو بين المسيحية والديمقراطية فإنه سوف يجد اجابة واحدة ثابتة ولا فائدة نظرية ترجى من ورائها وهي: لا تلاؤم قطعاً.
 
وحول ذلك يستعرض «بشارة» عدداً من الأدلة والشواهد، فهو يقول يشهد العالم العربي الإسلامي في الآونة الأخيرة محاولات متعددة للإسلام السياسي الأصولي للتعامل مع الديمقراطية وأرْقَاها محاولة راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، فهو الى جانب قبوله الديمقراطية سياسياً. وتكتيكياً من اجل الوصول الى السلطة وتبديد المخاوف من سيطرة الحركة الاسلامية على السلطة يحاول تأكيد هذا القبول فلسفياً بمحاولة لملاءمة الاسلام مع الديمقراطية أو العكس، لتعني «الشورى» ديمقراطية بالمعنى الحديث. ولكن الغنوشي يتجاوز هذا الادعاء بأن الاصلاح الديمقراطي في اوروبا لم يكن ممكناً دون اصلاح ديني سبقه مغيّراً العقليات والنفوس، بكلمات أخرى يدعي الغنوشي ان الحركة الاسلامية لا تستطيع التعايش مع الديمقراطية فحسب بل هي الطريق الوحيد الممكن الى الديمقراطية؛ لأن تنفيذ مهمة الاصلاح منوط به ولزملائه ويعتقد الغنوشي – وهنا مربط الفرس – ان سلطة أو سيادة القانون تابعة نظرياً مفهومياً من سيادة الله، أي من فكرة وجود سلطة عليا لا تتغير مهما تغير الافراد وتعاقبوا على السلطة، «ويتوقف «بشارة» عند تجربة اخرى تفيد بعدم وجود توافق بين «الاسلام» والديمقراطية، وهنا يشير الى سيد قطب في رفضه أي فكرة لسيادة الشعب واعتبارها تعدياً على سيادة الله، وكذلك الحال بالنسبة الى حفظ الله نوري الذي يعتبر فكرة المساواة وهي اساس الديمقراطية مرفوضة في «الاسلام»، فلا اساس برأيه في «الاسلام» لمساواة الزوج والزوجة والغني والفقير والمؤمن وغير المؤمن والعالم والجاهل والمريض والصحيح.. الخ. كما ان الاسلام ليس بحاجة الى مجالس تشريعية!!
 
وفي هذا السياق، يتطرق ايضا الى المرجعية الواحدة التي تقر بالتعددية ضمن الشريعة وليس الشريعة ضمن التعددية، واذا كان كما يرى الباحث أن هذا التيار الغالب في الاسلام السياسي يقصر التعامل مع الديمقراطية على الجانب السياسي، معتبراً هذا الجانب مقبولاً بدرجات متفاوتة، إلا انه يعود الى تقييد هذا الجانب ايضاً بحكم الشريعة، ومن الواضح انه يستطيع تقييده في حالة وصوله الى السلطة، ويدلل «بشارة» على ذلك بنص ليوسف القرضاوي ورد في كتابه «الحلول المستوردة وكيف قضت على أمتنا»، يقول القرضاوي: ان افضل جوانب الليبرالية الديمقراطية – في نظري – هو جانبها السياسي الذي يتمثل في اقامة حياة نيابية يتمكن فيها الشعب من اختيار ممثليه، الذين تتكون منهم السلطة التشريعية في البرلمان»، في هذه الحالة تصبح الامة مصدر السلطات وتراقب السلطة المنتخبة السلطة التنفيذية: «ان هذه الصورة طيبة ومقبولة من الوجهة الاسلامية – في جملتها – وإنما قلت في جملتها لأن الفكرة الاسلامية لها بعض التحفظات على أجزاء معينة من الصورة، فالسلطة المنتخبة لا تملك التشريع فيما لم يأذن به الله.. ولهذا يجب ان يقال: ان الامة مصدر السلطات في حدود شريعة الاسلام. كما يجب ان يكون في المجالس التشريعية هيئة من الفقهاء القادرين على الاستنباط والاجتهاد، تعرض عليها القوانين لترى مدى شرعيتها أو مخالفتها».
 
الخلاصة، لا توجد هناك علاقة بين تيار الاسلام السياسي والديمقراطية وإن وجدت فإنها ليست إلا تكتيكاً للوصول إلى السلطة.
 
الأيام 14 يناير 2012

اقرأ المزيد

هل نستبدل الاستبداد بآخر – 2


استوقفني تقرير لمنظمة العفو الدولية تنتقد فيه قيام رئيس وزراء تونس الجديد بتعيين رؤساء تحرير في التلفزيون الرسمي، معتبرة ذلك خطوة غير ديمقراطية في بلد بالكاد تخلص من نظام حكم استبدادي، ويُشرع في عملية التحول نحو الديمقراطية، أو هكذا يُفترض. لكن التقرير نفسه يُشير إلى أمر شديد الأهمية هو أن هذا الإجراء الذي وصفته المنظمة بأنه مؤشر خطير لانتهاك حرية التعبير في البلاد، قوبل باحتجاجات واسعة لمئات الصحفيين الذين تجمعوا أمام مكتب رئيس الوزراء للاحتجاج على هذه الخطوة مطالبين بالتراجع عنها.

ورفع الصحافيون شعارات تطالب الحكومة بعدم السعي لتركيع الإعلام ورفع يدها عنه، معتبرين أن هذه التعيينات تذكر بعهد الرئيس السابق بن علي الذي كان يمسك الإعلام بقبضة من حديد، فيما قالت جهات حقوقية، إنه في حال ظلَّ الإعلام صوتا للحكومة، فان تونس لن تخرج من المنظومة التي سادت فيها سابقاً.

هذا الخبر استوقفني لأمرين على الأقل، وأنا أفكر في مخاطر استبدال استبداد عربي بآخر في البلدان التي شهدت التغييرات في العام الماضي، وأول هذين الأمرين هو ما ذهبنا إليه في الحلقة الأولى حول هذا الموضوع من خشية أن يفكر من استووا إلى السلطة في نتيجة الانتخابات التي جرت في بعض هذه البلدان في إعادة إنتاج ذات الممارسات غير الديمقراطية للأنظمة التي أسقطتها الانتفاضات الشعبية، وليس الاستحواذ على وسائل الإعلام إلا أحد هذه الممارسات الفاقعة.

فأن يقوم رئيس حكومة يُمثل الإسلام السياسي بتعيين مسؤولين ومحررين من حزبه على رأس الإعلام، يعني الاستمرار في «أدلجة» الإعلام وتأميمه، وهو في هذا السلوك لا يختلف عن نهج نظام زين العابدين في الإمساك بمفاصل الدولة ووسائل تكوين الرأي العام، فيما المفروض أن الإعلام العمومي صوت للجميع وأن يتيح المجال لكل التيارات لا أن يكون صوتا للحكومة فقط.

أما الأمر الثاني في الأمر فهو احتجاج مئات الصحافيين على هذا الإجراء، وهذا لا يؤشر فقط إلى قوة المجتمع المدني في تونس فحسب، وإنما إلى مناخ الحرية الذي أتاحته التحولات التي جرت في البلاد، مما يوصلنا إلى بيت القصيد، وهو أن الممارسة الديمقراطية في مجتمعٍ حر غير مكبل قادرة على تصحيح أي تجاوز للديمقراطية، ومنع الراغبين في صنع أشكال هيمنة، جديدة في الشكل وقديمة في الجوهر، من التمادي في نهجهم.

وفي كل الأحوال فإن هذه معركة يجب أن تُخاض. فالديمقراطية لا تتأسس بالانتخابات وحدها، وإنما بتكوين الحوامل أو الرافعات الاجتماعية والسياسية لها، والتي لا مناص لها من أن تلتزم بشروط الحداثة والمدنية، وإلا فانها ستبُقينا في دائرة المراوحة في المكان نفسه، بل قد تحمل مخاطر الارتداد عن قيمٍ ومكتسبات حققتها الدولة القطرية العربية في المراحل السابقة، رغم كل التشوهات التي اعترت سلوك هذه الدولة.

وتعد تونس بالذات مختبراً لهذه الخيارات والتحديات لما لها من فضل الريادة في أمور كثيرة، ليس أولها الموقف من حقوق المرأة، وليس آخرها أنها البلد الذي منه انطلقت شرارة التغيير، ربما لأن منجزات الحداثة فيها أهلتها له قبل سواها.


 
12 يناير  2012
وللحديث صلة. 



هل نستبدل الإستبداد بآخر؟


1

 

اقرأ المزيد

صعقــة النخــب !


في ظل الاجواء السياسية والاجتماعية والثقافية المشحونة والمضطربة في العالم العربي، منذ اندلاع حركة الاحتجاجات والهبات الشعبية مطلع العام الجاري، تطغى النزعات الكيدية والرغائبية المشبوبة بالعواطف المنفلتة ونوازع التشفي، على كثير من التداولات والقراءات التحليلية الذاتية للاوضاع الجارية.

وقد يكون الاضطراب واللايقين هما القاسم المشترك في كل تداعيات تلك الانتفاضات الشعبية العارمة وغير المسبوقة التي اجتاحت العالم العربي شرقا وغربا ومحصلة نتائجها الأولى التي بدأت تترى رويدا رويدا. وبالكاد يستطيع المرء المراقب احصاء من تمكن، سواء من الأحزاب أو الحركات الاجتماعية أو النخب الثقافية المتوزعة، فرديا أو جماعيا، على قوس الاستقطابات الذي شُرِّعت أبوابه تحت وقع صيحات النفرة والفزعة المندفعة فجأة من كمونها المريب في اللاوعي – بالكاد يستطيع احصاء من تمكن من الابقاء على نفسه بمنجاة من هذا “التيه” الذي يصعب التنبؤ بمآلاته، خصوصا في ظل استمرار زخمه بموجات متقطعة، مستفيدة من الخزين الوفير للسخط المتولد من “بركات” الاستبداد بالغة الكرم والعطاء!

حتى معشر الحكماء الذين أطلوا برأسهم لوهلة في خضم حالة البلبلة والاضطراب السياسي التي سيطرت على الشارع المصري ابان وفي اعقاب نجاح ثورة 25 يناير في اطاحة رأس وبعض من رموز النظام السابق، والذين كانوا من بين من أفرزتهم أحداث الثورة، كبارقة أمل توسم المحيطون بقوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات، فيها خيرا يمكن أن يبدد القلق الذي راح يتسرب الى نفوسهم جراء فداحة وهول مخاطر عدم السيطرة على جموح عوامل التفخيخ والتفجير المحدقة بدول المنطقة وشعوبها من كل حدب وصوب – حتى ذلكم النفر من الحكماء والعقلاء سرعان ما اختفى وذاب وسط الضجيج وموجات السخط العارم وتكالب المتكالبين.

ما الذي يعنيه ذلك؟ … انه يشي، بمعنى من المعاني، ان “البنية التحتية” (Infrastructure)، للعقلانية وللتفكير العقلاني الرشيد في العالم العربي، غير متوفرة كما يستلزم أن تكون عليه، أو انها غير مكتملة الاركان والشروط في أحسن الاحوال. المجتمع المدني ضعيف البنية بسبب حداثة التكوين نسبيا (الحديث يدور هنا عن حالة المأسسة)، واستقلالية المؤسسات المعاصرة والأفراد هي الاخرى نسبية، حيث نجحت القوى المهيمنة على أجهزة التسيير الحكومية في تضخيم وتحويل الدولة الى تنين متغول ومتوغل في حياة المجتمعات العربية واحالت سكانها من مواطنين وفقا للنصوص الشكلية للدساتير السارية الى مجرد رعايا تابعين وخاضعين بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة لمشيئة ومزاجية السياسات المتقلبة لذلك الجهاز المتضخم والمتعول ولابتزازاته، المرئي منها والمخفي.

ولعل هذا ما يفسر وجود كتلة بشرية، تصغر هنا وتكبر هناك، اختارت الصمت والفرجة والمراقبة من بعيد، مفضلة الانزواء العفيف والنأي بنفسها عن حالة الصراع اللامعقول التي أنشأها “القديم” كرد فعل مضاد وممانع لتقدم “الجديد” في غير موقع. وما درت هذه الكتلة ان انزواءها انما يساهم في تعقيد الموقف ويزيد بلبلته واضطرام نيرانه.

مثلما يفسر أيضا ازدياد سخط ونقمة اولئك الشباب الثائرين الذين أشعلوا فتيل الثورات العربية اعتبارا من مطلع هذا العام وقدموا التضحيات الجسام من أجل استمرار زخمها حتى تحقيق أهدافها، وذلك بعد النتائج المحبطة والمخيبة لآمالهم التي أسفرت عنها انتخابات ما بعد الثورات. ويكفي للوقوف على ذلك القاء نظرة سريعة على عناوين عديد المقالات التي كرسها كتابها لنعي الديمقراطية العربية التي طالما شكلت حلما عربيا موؤودا.

ونجد تجليات هذا السخط النخبوي على النتائج المثيرة لقلق أوساط مجتمعية واسعة على مستقبل الدولة المدنية ومسارات التحديث في العالم العربي، متجسدة في كتابات من قبيل “العرب يعيدون انتاج تخلفهم..ولكن عن طريق الديمقراطية هذه المرة” .. وفي محاولة اسقاطية لا تخلو من فطنة بالغة الصحة، يكتب وهيب أيوب مستحضرا التاريخ البعيد وتحديدا مقولة ابن خلدون التي تعود لستة قرون خلت ومفادها “ان العرب لا يحصل لهم الملك الا عن عصبية دينية”، وذلك عطفا على نتائج الانتخابات التونسية والمغربية والمصرية… و”الخير لَقُدّام” كما يقول المثل الشعبي.

ونسجت كتابات تحليلية ساخطة على نفس المنوال، على نحو ما ذهبت اليه الكاتبة المصرية المعروفة نوال السعداوي التي وجهت نقدا لاذعا لمجاميع المثقفين الذين سرعان ما ينقلبوا على أعقابهم لدن وقوع أي انعطافة في الاحداث بقولها: “مقالاتهم “الثورية”(!) الجديدة تشتم الرئيس السابق (اعطوه لقب المخلوع)، هو الذي أنعم عليهم بالجائزة الكبرى والوسام، لا يعرفون النقد المؤدب الرصين بل الشتيمة والهجاء والسوقية في اللغة والتعبير، واتهام الآخرين بالعمالة وتلقي أموال من الخارج، وينسون انهم سعوا للقاء الرئيس الامريكي باراك اوباما في الخارج، وانهم صفقوا له طويلا حين القى خطبته في جامعة القاهرة”.

وكما هو واضح، فان النخب المحسوبة على الاتجاهات الليبرالية والتحديثية، تبدو مصعوقة ومنزعجة مما آلت اليه هبات التغيير الشعبية الكاسحة في العالم العربي. فلم تكن لتتصور ان “تستخلف” في الحكم من كان يحكمها باستغلال فوبيا الاسلاميين بمن سيحكمها باستغلال الدين. فماذا تُرى عساها فاعلة ازاء هذه المحنة التاريخية الجديدة التي سيتعين على البلدان والشعوب العربية اجتيازها؟

نحسب انه لابد من احترام ارادة الشعوب، فاذا هي اختارت بمحض ارادتها قوى الاسلام السياسي فانها هي نفسها من سيتحول الى خيار آخر اذا ثبت لها بالدليل القاطع ان هذه القوى قد خذلتها..بشرط ان يتم تثبيت مبدأ التعددية والتداول السلمي للسلطة في الدساتير الجديدة، وذلك لقطع الطريق أمام أي محاولة جديدة “لاعادة تأميم” السلطة واحتكارها، وبما يضمن انهاء ظاهرة الاستبداد المستدام مرة والى الأبد في الحياة العربية.
 

اقرأ المزيد

استحقاق إلغاء القوانين المقيّدة للحريات


يمثّل إلغاء القوانين المقيّدة للحريات والحقوق الديمقراطية والمتعارضة مع الدستور واحدا من أهم استحقاقات الإصلاح السياسي التي يفترض أن تكون مدار الاهتمام في المعركة الانتخابية الجارية؛ إذا كنا نريد حقًّا اتباع نهج جديد في حياتنا السياسية.

فهناك قائمة طويلة من القوانين والمراسيم بقوانين المتعارضة مع المبادئ الديمقراطية والمخالفة صراحة لروح الدستور ونصوصه، التي تمكّن الطرف السلطوي طوال العقود الخمسة الماضية من تمريرها بالاستناد إلى الغالبية النيابية الموالية في المجالس المتعاقبة؛ أو استطاع فرضها منفردا كمراسيم بقوانين عبر سلطة الأمر الواقع خلال فترتي الانقلابين على الدستور الأولى من 1976 إلى 1981 والثانية من 1986 إلى 1992.

ذلك أنّه على خلاف ما تقرّه المبادئ الديمقراطية من حريات وحقوق أساسية كفلها الدستور وأحال أمر تنظيمها إلى القوانين، جاءت تلك القوانين والمراسيم بقوانين المعيبة لتصادر الحريات العامة وتنتقص من الحقوق الديمقراطية، وهذه بعض الأمثلة الصارخة عليها:

القانون رقم 24 لسنة 1962 في شأن الأندية وجمعيات النفع العام الذي يفرض وصاية حكومية على إشهار مؤسسات المجتمع المدني ونشاطها… والقانون رقم 31 لسنة 1970 بتعديل قانون الجزاء الذي فرض قيودا غير مقبولة على حرية التجمعات، وجرّم نشر المبادئ والأفكار، وتوسع في تجريم حالات التعبير عن الرأي… والقانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة الدستورية الذي انتقص من حقّ الأفراد ذوي الشأن من اللجوء مباشرة إلى القضاء الدستوري للطعن في القوانين واللوائح المتعارضة مع الدستور… والمرسوم بقانون رقم 65 لسنة 1979 في شأن الاجتماعات العامة والتجمعات، الذي سبق أن قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية أحكامه ومواده المتصلة بالاجتماعات العامة، فيما لا يزال معمولا بالأحكام والمواد المقيّدة لحرية التجمعات… والمرسوم بقانون رقم 20 لسنة 1981 بإنشاء دائرة بالمحكمة الكلية لنظر المنازعات الإدارية الذي عطّل حقّ التقاضي المكفول دستوريا، وحصّن القرارات الحكومية في مسائل الجنسية الكويتية والإقامة وتراخيص الصحف ودور العبادة؛ مهما كانت جائرة، واستثناها من ولاية القضاء الإداري.

  وبعيدا عن أي مبالغة أو تهويل فإنّ هذه القوانين والمراسيم بقوانين تكبّل الحريات العامة وتنتقص من الحقوق الديمقراطية، وبالتالي فإن إلغاءها يمثّل استحقاقا أساسيا من استحقاقات الإصلاح السياسي، بحيث يفترض أن تشرّع بدلا منها قوانين ديمقراطية تنظم ممارسة الحريات والحقوق لا أن تصادرها أو تفرض قيودا ثقيلة عليها.
وهذا ما يتطلّب طرح هذا الاستحقاق خلال المعركة الانتخابية الدائرة، وذلك ليكون ضمن خطوات الإصلاح السياسي المفترض أن تُدرج على أجندة مجلس الأمة المقبل… وفي مقالي اللاحق سأتناول خطوات أخرى مستحقة للإصلاح السياسي، فللحديث صلة عن الخطاب الانتخابي وقضاياه.

عالم اليوم  
8 يناير 2012

اقرأ المزيد

زمن الغازات المسيلة للدموع

 


حسب موسوعة ويكيبيديا، فإن الغاز المسيل للدموع أو الغاز المدمع (Malotrinilode Chlorobenzylidene) يعد من الوسائل القديمة المستخدمة في السيطرة على الاحتجاجات المدنية وفض التجمعات الاحتجاجية، وإنهاء أعمال الشغب. ويتكون من رذاذ الفلفل الأسود وثلاث مواد كيميائية يرمز لها اختصاراً بالحروف (CN) و(CR) و(CS) قامت بصنعه شركة بريطانية في خمسينيات القرن العشرين.

وتشير الموسوعة إلى أن التعرّض للغازات المسيلة للدموع لفترات طويلة وفي أماكن سيئة التهوية، يتسبب في حدوث مشاكل صحية خطيرة، من بينها الغلوكوما المسبب أحياناً للعمى، والحروق من الدرجة الثانية، والموت الناشئ عن حروق كيميائية للرئتين أو البلعوم، وتعريض النساء الحوامل لخطر الإجهاض.

لا أعرف دولةً أخرى في العالم تستخدم فيها الغازات المسيلة للدموع بهذه الكثافة ولأشهر عدة على معظم القرى كالبحرين، فما أن يقوم عددٌ من الصبية بحركات احتجاجية محدودة حتى تمطر قريتهم بمن فيها بالعشرات من قنابل الغاز المسيلة للدموع، حتى ضجّ المواطنون من هذا الأسلوب المتعمد لخنقهم داخل منازلهم.

في الماضي كان المواطنون يحتفظون ببقايا علب الغازات المسيلة للدموع للذكرى، فلم يكن من الشائع رؤية مثل هذه الأمور إلا في الحالات النادرة، أما الآن فإن معظم الأهالي يقومون بجمعها من منازلهم في أكياس بلاستيكية ورميها في القمامة، فمن يحتاج إلى تذكار ما عليه إلا التوجه صباحاً إلى أية قرية ليجمع من شوارعها الضيقة ما شاء من الطلقات والعبوات المختلفة الأحجام والنوعيات والألوان.

هناك شكوك حول عدد من الوفيات التي يقال إنها حدثت بسبب تعرضها للغازات بشكل كثيف داخل منازلها، كما أن هناك العديد من الشكاوى حول تعرض المنازل بشكل متعمد للقنابل المسيلة للدموع واحتراق وتضرر عدد لا بأس به منها كما حدث في الصالحية والشاخورة قبل عدة أيام. كما أن المواطنين يتساءلون، إن كانت الغازات المسيلة للدموع تستخدم في الدول الأخرى لفض المظاهرات والتجمعات الاحتجاجية وأعمال الشغب فلماذا تستخدم في البحرين على القرى لمجرد قيام عددٍ من الصبية بإصدار أصوات معينة.

كان بودي أن يقدم أحد نوابنا الأفاضل سؤالاً إلى وزارة الداخلية حول الهدف من الاستخدام المفرط للغازات المسيلة للدموع ونوعية هذه الغازات، ولكن يبدو أن نوابنا يعيشون في دولةٍ أخرى ولا يشعرون بما يقاسيه المواطنون وبشكل يومي من هذه الغازات، أو أن لديهم أموراً أكثر أهمية من صحة الناس وأمنهم، ولذلك فلتسمح لي إدارة الإعلام الأمني بوزارة الداخلية أن أوجه لها عدداً من الأسئلة راجياً الإجابة عليها:

-1 ما هي الكميات التي اُستخدمت من القنابل المسيلة للدموع خلال الأشهر الماضية؟

-2 هل هناك خطة محددة للاستخدام المفرط لهذه الغازات؟

-3 هل يجوز إطلاق الغازات المسيلة للدموع داخل المنازل والغرف الضيقة؟

-4 ما هي نوعية الغازات المستخدمة؟ وما هي المضاعفات التي يمكن أن يصاب بها من يتعرض لمثل هذه الغازات؟

-5 هل يمكن أن يفضي التعرض لهذه الغازات في مكان ضيق ولفترة طويلة إلى الوفاة؟

إن وزارة الداخلية تعرف أكثر من غيرها بأنه ليس جميع المواطنين يستحقون أن يستنشقوا هذه الغازات بشكل يومي، وهي تعرف أيضاً بأنه ليس جميع سكان القرى بمن فيهم من أطفال رضع وعجزة ونساء كبيرات في السن هم من يقومون بالاحتجاجات أو سد الطرقات، ولذلك يجب عليها على الأقل أن توضح لهؤلاء أثر مثل هذه الغازات عليهم
 

صحيفة الوسط البحرينية – 10 يناير 2012م
 

اقرأ المزيد

هل نستبدل الإستبداد بآخر؟


هناك خشية تتزايد في أوساط سياسية وفكرية في البلدان العربية من أن يؤدي سقوط الاستبداد في بعض البلدان العربية التي شملتها موجة التغييرات التي شهدناها في العام المنقضي إلى نشوء استبداد جديد تُمثله مخرجات الانتخابات التي جرت وستجري في هذه البلدان، وهي خشية لا يصح الاستخفاف بها لأسباب عدة.
 
من بين هذه الأسباب هشاشة التقاليد الديمقراطية في البلدان العربية عامةً، بما فيها تلك البلدان التي كانت أكثر قابلية وجاهزية للتغيير، بعد عقد طويلة من سطوة الاستبداد التي اقتلعت أي غرسه تكاد تنمو للديمقراطية، بل أن هذا الاستبداد نفسه، كما هو الحال في مصر، قام على وأد بواكير التحولات نحو الديمقراطية بين مطالع ومنتصف القرن العشرين، حين أدى حكم الضباط الأحرار إلى تصفية الحياة الحزبية في البلاد.
 
ومن هذه الأسباب غياب أو ضعف الحامل الاجتماعي والسياسي للديمقراطية، فالقوى التي حملتها وستحملها الانتخابات في البلدان العربية قادمة من منابت غير ديمقراطية، ولم يُعرف عنها، فيما سبق، انفتاحها على الأفكار الأخرى، بل أنها في بُنيتها الفكرية والسياسية تحمل ميولاً إقصائية واستحواذية، رأينا تجليات كثيرة لها.
لا بد هنا من استدراكين: الأول ينطلق من بعض  المعطيات أو الإرهاصات التي يمكن القول أنها ما تزال جنينية عن توجهات بعض هذه القوى للتغلب على بُنيتها المُغلقة، والانفتاح على الممارسة الديمقراطية، من حيث هي في الجوهر قبول بالآخر، ولكن لأنها إرهاصات جنينية فلا بد من الانتظار لإختبار مدى جديتها وقابليتها للنمو والبقاء، وهذا يتطلب وقتاً قد يطول.
 
أما الاستدراك الثاني فيكمن في انه لا يجوز أن نوافق على استمرار الاستبداد القائم وتعطيل نمو الحياة السياسية بكسر حالة الجمود وتخثر الدماء في عروق النظام السياسي العربي بحجة الخوف من البديل المحتمل الذي قد لا يكون بالضرورة أفضل من القائم، وهذه فكرة سنتوقف عندها في حديثٍ لاحق.
 
الثقافة الديمقراطية في أي مجتمع لا تنفصل عن الممارسة الديمقراطية، وإذا كانت الأفكار تُمهد للتحولات، فان التحولات هي التي ترسخ الأفكار وتوطد دعائمها وتجعل منها نمطاً من الوعي والعيش، وبالتالي فإننا لا نتوقع أن تشيع الثقافة الديمقراطية في مجتمعٍ يهاب الممارسة الديمقراطية ويخشى ما ينجم عنها من مفاعيل.
أنظمة الاستبداد في الشرق، وعالمنا العربي جزء من هذا الشرق، روجت، وما تزال، أن شعوبنا غير جديرة بالديمقراطية، لأنها ليست ناضجة لها، فهي تتطلب وعياً وثقافة وتعليماً، ولكن هذه حجة العاجز أو الخائف من ولوج الممارسة الديمقراطية، لأنه يجد فيها تهديداً لمصالحه في الانفراد بالسلطة والثروة، فيما الديمقراطية تتطلب المشاركة والتقاسم في الأمرين.
 
الثقافة الديمقراطية تفترض الممارسة الديمقراطية، التي من خلالها نختبر قابليات الناس لأن يُحسنوا استخدام الديمقراطية، التي تتطور تدريجياً. والمجتمعات كافة، من خلال التدريب الديمقراطي، تتدرب على إدراك أهمية الديمقراطية وأهمية ما يقترن بها من مكتسبات، وأهمية أن تصبح هذه الديمقراطية ثقافة وتعليماً نتلقاهما في كل مفاصل الحياة، بما في ذلك في غرف البيوت وفي غرف الدراسة.
 
 للحديث صلة
10 يناير 2012

اقرأ المزيد

المدارس الصديقة لحقوق الإنسان


تقدم الباحث التربوي فاضل حبيب، وهو، والحق يُقال، من أفضل الباحثين البحرينيين في شؤون التربية والتعليم بورقة بعنوان: “المدارس الصديقة لحقوق الإنسان”، انطلق فيها من توصيات تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، خاصة في الفقرات المتصلة بالفهم الأفضل لاحترام حقوق الإنسان بما في ذلك احترام التنوع العرقي، وبوضع برامج تعليمية وتربوية في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية لتشجيع التسامح الديني والسياسي والأشكال الأخرى من التسامح، علاوة على تعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون، ويستهدف المشروع الهيئتين الإدارية والتعليمية بجميع مدارس مملكة البحرين، الحكومية والخاصة، وكذلك الطلاب والطالبات.

ويتمثَّل مشروع فاضل حبيب في تعزيز مضامين حقوق الإنسان في الميدان التربوي ضمن فضاء حُرٍّ تفاعلي لنشر الثقافة الديمقراطية في جميع المراحل التعليمية، وغرس الثقافة العالمية لحقوق الإنسان في المؤسسات التعليمية ودعم البرنامج العالمي للتربية على حقوق الإنسان في جهوده لإدماج التربية على هذا البرنامج في أنشطة المدارس الأساسية والثانوية، وكذلك دعم توجُّه وزارة التربية والتعليم والذي يؤكد على تكوين المتعلِّم تكويناً وطنياً وعلمياً ومهنياً وثقافياً ، و” تنمية الوعي بمبادئ حقوق الإنسان وتضمينها في المناهج التعليمية ” كما نصَّ على ذلك قانون التعليم في مملكة البحرين 2005.

ويدرك الباحث أن هناك ركائز يتعين أن يقوم عليها المشروع، من دونها تصبح التربية على حقوق الإنسان مسألة عبثية ليس من شأنها أن تغير شيئاً على مستوى الميدان التربوي، ومن باب المثال لا الحصر فانه يتوقف، بشكلٍ أساسي، أمام دور الإدارة المدرسية التي لا بد أن تكون ديمقراطية، بحيث تشجِّع على فرص العمل الجماعي (التعلُّم التعاوني)، وإتاحة فرص التعبير الحر عن الآراء، وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص في الترقيات والحوافز، وفتح الباب أمام الجميع في اتخاذ القرارات، وتعزيز العلاقات الإنسانية، وتنمية الاتجاهات السليمة، القائمة على الثقة والاحترام بين الجميع.

كما يدعو إلى إعداد أفراد هيئة التدريس على ثقافة حقوق الإنسان، بحيث تكون لديهم الدافعية نحو جعل الفضاء المدرسي موئلاً لتنمية الوعي بهذه المبادئ، ويُعول أيضاً على دور مجالس الطلبة التي يعتبرها بمثابة البرلمان الذي يتعلم منه التلاميذ كيفية الترشُّح والانتخاب، وكذلك آداب التسامح والحوار والنقاش والنقد البنَّاء وقبول الآخر، وكيفية الدفاع عن حقوقهم وحل خلافاتهم بصورة ديمقراطية وإيجابية..

والأمر نفسه يصح على دور الإعلام المدرسي في إرساء دعائم الديمقراطية، كونه من أدوات التعبير الحُرِّ عن الآراء والمشكلات من خلال الصحافة ومجلات الحائط والإذاعة المدرسية، وتوظيف وسائط التواصل المختلفة بقصد تشجيع المدرسة علـى مواكبة المستجدات التي تطرأ في حقول المعرفة.

ولن يتحقق ذلك إلا من خلال النهوض بالمناهج الدراسية وتطويرها، من خلال تضمين هذه المناهج للمواد والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية السيداو.

ويضع فاضل حبيب خطة تنفيذية لمشروعه الذي أوجزنا أعلاه محتوياته الجديرة بالاهتمام من قبل القائمين على الشأن التربوي لتكييف العملية التربوية والتعليمية وفق أهداف التنشئة الديمقراطية، وبما يساعد على إرساء أسس المصالحة الوطنية والتعايش الخلاق في مجتمع متعدد الانتماءات مثل مجتمعنا.

اقرأ المزيد

لا مفر من الحل التوافقي


يجب النظر الى ما جاء في تقرير بسيوني نظرةً كُلية شاملة في تناوله لجميع الأمور التي بحثها، وأي معالجة سياسية وإدارية وحقوقية للقضايا التي وضع التقرير توصيات بشأنها يجب أن تنطلق من هذه النظرة الشاملة، فإن جرى إغفال أي جانب من الجوانب الواردة في هذه التوصيات، بقينا في نطاق المعالجات المجتزئة، وبعُدنا عما هو مطلوب اليوم في أن تكون هناك منظومة كاملة للحل.
 
 والأصل هو أن يكون الحل سياسياً يتناول أسباب الظاهرة ومقدماتها وليس فقط نتائجها أو تجلياتها، لكي نزيل الظروف التي أدت إليها، ونخلق الآلية السياسية والقانونية التي من خلالها نضمن التغلب على الوضع المأزوم والمشحون حالياً.
 
 الجميع مدعو، كل من موقعه، للتأكيد على العمل السلمي وتأكيد ما استقر عليه الوجدان العام لهذا الشعب من عيشٍ مشترك وتآخٍ، وهذا ما يمكن للمنابر الدينية والسياسية والتربوية أن تقوم به، بنبذ خطابات الشحن الطائفي وبث الكراهية ضد أي مكون من مكونات المجتمع، فالبلاد بحاجة إلى خطاب بناء مسؤول، لا إلى خطابات التحريض والتشفي.
 
 وتوصيات تقرير بسيوني اهتمت، فيما اهتمت به، بالجانب التربوي وهي ترسم خريطة طريق للمصالحة الوطنية المنشودة، من أجل تعزيز ثقافة التسامح والتربية الديمقراطية، وكما تدل تجربة كل المجتمعات، خاصة منها تلك التي اجتازت أزمات مشابهة لما نمر به، فانه لابد من تعزيز قيم المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وإزالة الشعور بالغبن والإحباط الذي يخلق مزاجاً يائساً في المجتمع، وتربية الناس على العيش المشترك في مجتمع متعدد الهويات، لا سبيل أمام أبنائه سوى التعايش الخلاق، خاصة وأن البحرين تمتلك تراثاً يعتد به في هذا المجال، جرى الأضرار الكبير به في السنوات الأخيرة، ولابد من إستراتيجية بعيدة المدى لتحقيق هذه الأهداف لتدخل في صلب التنشأة الاجتماعية والسياسية.
 
كل تطوير في البنية التشريعية والدستورية في البلد يؤدي الى تحقيق هذا الهدف هو أمر حميد، بل إننا صرنا اليوم على دراية أوسع بمكامن الخلل والقصور في هذه البنية بعد اطلاعنا على تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق التي شخصتها بدقة، ووقفت عند التشريعات والنصوص التي تحتاج الى تعديل أو تغيير، واقترحت، إضافة إلى ذلك، استحداث تشريعات جديدة.
 
 لكن نية التطوير هذه لن تُغنينا عن ضرورة البحث في الأسباب والمساهمة في العلاج، فنحن إزاء ساعة مصيرية من تاريخ هذا الوطن، تضع على عاتق الجميع مسؤوليات جسام لكي لا يستمر انزلاق مجتمعنا إلى ما لا تحمد عقباه، والوقت لم يفت بعد لتحقيق ذلك بوجود إرادة خيرة لدى قطاعات كبيرة في مختلف المواقع تستطيع أن تدفع بقوة نحو خيار المصالحة الوطنية، وهو خيار بحاجة إلى تهيئة الأجواء له، بالإسراع في تسوية الملفات الأشد حيوية المتصلة بأرزاق الناس وحرياتهم في التعبير، وما زالت الأبصار معلقة على المزيد من الخطوات التي تساعد على تهدئة النفوس، وتفتح الطريق أمام تدابير إصلاحية جذرية لا يصح تأجيل استحقاقاتها، لإخراج البلد من مناخ الأزمة، ووضعها على طريق الحل التوافقي الذي لا مفر لنا جميعاً منه.
 

اقرأ المزيد

هل وصلنا إلى طريق مسدود؟


هل وصلنا إلى طريق مسدود لا يمكن التراجع عنه أو اجتيازه؟
 
من الصعب الإجابة على هذا السؤال… ولكن ما نشاهده يوميّاً من تصاعد وتيرة العنف وسقوط المزيد من الضحايا يشير إلى أن طريق الحوار مازال بعيداً، وأن العقاب الجماعي وخنق القرى بالغازات المسيلة للدموع أصبح الحل الوحيد لمواجهة الاحتجاجات.
 
وللأسف؛ فإن الاحتجاجات نفسها بدأت بانتهاج أسلوب عنيف كردة فعل، وذلك ما لا نتمناه.
في الفترة الأخيرة ظهرت مؤشرات أخرى لامتداد حالة العنف لتصل إلى شكل مواجهات بين المواطنين، وهو ما ينذر بخطر كبير إن لم يتم إيقافه بأسرع وقت.
 
فقبل أيام بسيطة قام عدد من «المجهولين» بالهجوم بالحجارة والآلات الحادة على المواطنين في مدينة حمد وقرية دار كليب في المنطقة الغربية، ما أوقع عدداً من المصابين. كما قام هؤلاء «المجهولون» بالاعتداء على ممتلكات المواطنين وتكسير نوافذ منازلهم وسياراتهم.
 
ولم يكتفِ هؤلاء بما قاموا به من ترويعٍ للمواطنين، والاعتداء عليهم والتعدي على ممتلكاتهم وتكسير أبواب بيوتهم وسياراتهم، وإنما أرسلوا رسائل تهديد إلى عددٍ من المواطنين بحجة قيامهم بتصوير الأحداث الجارية بالقرب من منازلهم، إذ توعدت أصحاب هذه الرسائل المجهولة أصحاب المنازل وعوائلهم بـ «أنهم سيكونون هدفاً» في حالة تكرار تصوير ما يحدث على الشارع الرئيسي لمدينة حمد.
هذه الحالة من انتشار العنف في شوارع وقرى البحرين يمكن أن تمتد وتأخذ أشكالاً أخرى حين يغيب الحل السياسي ولا يبدو في الأفق أي أمل، فهل وصلنا حقاً إلى طريق مسدود ولا يوجد أمامنا طريق آخر غير العنف والعنف المضاد؟ أم أن هناك طرقاً أخرى لكنها تحتاج إلى كثيرٍ من الشجاعة والمبادرة والتنازل المتبادل من جميع الأطراف… وقبل كل ذلك إرادة سياسية.
 
إن من يقف أمام الحل ويقاوم أي جهود نحو المصالحة الوطنية عليه أن يفهم تماماً أن التطور لا يمكن إيقافه، كما لا يمكن تهميش أكثر من نصف المواطنين إلى الأبد. فلدى الجميع الحقّ في العيش بكرامةٍ في وطنه، وليس من المقبول في هذا القرن تصنيف المواطنين إلى فئتين، فئة من الشرفاء والمخلصين الذين يجب أن ينعموا بكل خيرات البلد وتكون لهم الامتيازات الخاصة… وفئة من الدرجة الثانية ليس لها إلا أن تقبل بأقل القليل.
 

صحيفة الوسط البحرينية –  06  يناير 2012م

اقرأ المزيد