المنشور

نزيهــة.. إضـاءة في ذاكــرة الوطن

كانت نزيهة مرهون إحدى النساء اللواتي انخرطن في العمل الوطني دفاعا عن الحرية وحقوق المرأة البحرينية ونساء العالم. كان همها الأكبر هو أن يستوعب الوطن أبنائه وان تترسخ قواعد وأركان الحرية والديمقراطية في مجتمع آمن مستقر تصان فيه حقوق المرأة وكل الحقوق في ظل اتساع رقعة الإصلاحات التي تطلب أيضا الالتزام بالواجبات.
 
حياة الراحلة التي تعد إضاءة في ذاكرة الوطن يرويها وهو في ألم شديد بفقدانها احد الرفاق في منبرنا التقدمي: ولدت عام 1958في السنابس ونشأت وترعرعت بقرية الحجر وسط عائلة فقيرة مثقفة، تربيتها السياسية والوطنية تعود الى أخيها السيد ابراهيم ( ابو سلام) احد مناضلي هذه الأرض، وبالرغم من تلك الحياة الصعبة كانت متفوقة في دراستها المدرسية وفي ريعان شبابها انضمت الى صفوف جبهة التحرير، فبعد تخرجها من الثانوية العامة التحقت بجامعة البصرة ثم جامعة الصداقة بموسكو، في تلك المرحلة كانت نموذجاً طيباً على صعيد الحياة الطلابية والحزبية اذ كانت واسعة العلاقات الطلابية العربية منها والاجنبية وعلى وجه الخصوص أولئك المنحدرين من امريكا اللاتينية وافريقيا.
 
ويضيف عندما رجعت الفقيدة للبحرين لم ينقطع نشاطها الاجتماعي والسياسي رغم كل الظروف المريرة التي يعيشها الوطن وقتذاك.. كانت نشطة في جمعية فتاة الريف وفي الفترة الأخيرة من حياتها كانت نائبة رئيس الجمعية..
 
الجمعية التي ارتبطت منذ تأسيسها ارتباطا وثيقا بهموم المرأة والانفتاح والتقدم «كانت أحلامها وطموحاتها كثيرة في مقدمتها قانون موحد نير للأحوال الشخصية وان تتحقق مساواتها مع الرجل دون انتقاص أو تهميش وان تنال حقوقها الاقتصادية وهذا وفقا لقناعتها التي تصر عليها في كل مناسبة لا يتأتى الا بتطور التشريعات والقوانين والوعي عند المرأة والرجل. ومن بين تلك الأحلام أيضا تربية جيل جديد واع لقضايا الوطن ومخاطر الطائفية البغيضة التي اراد لها مروجو الكراهية في المجتمع ان تتفاقم منها مصالح ذاتية ضيقة مرفوضة.
 
في أيامها الأخيرة كانت تساؤلاتها الكثيرة لا تبارح الوطن ومن اجل الوطن. نعم كانت تتساءل لماذا يتحارب أبناء الوطن الواحد؟ ومن المستفيد من ذلك؟ لماذا الطائفية والمذهبية تمزق الوطن؟ لماذا كل هذا الاحتقان والتشظي السياسي والطائفي؟ لماذا التعصب والاندفاع نحو المجهول؟ لماذا لا تشيد وتبني وحدة وطنية حقيقية عمادها القانون الذي هو فوق الجميع؟ لماذا تسود لغة العنف؟ أليست البحرين واحة خضراء للعيش المشترك؟ لماذا يتم العبث بهذه الواحة التي غرس الأجداد أشجارها لتظلل الجميع؟ لماذا التمترس وراء شعارات وخطابات سياسية تثير التفرقة؟ أليست قيم المواطنة يجب ان تكون متساوية؟ هكذا كانت تساؤلاتها أشبه بالدوائر المنفتحة على الجميع.. هكذا ادركت دورها الوطني بما ينسجم وتحرر المرأة من ثقافة الجمود ونظام الوصاية.. وهكذا ايضا كانت تردد وبصوت عالٍ الوطن محفوظ في الصدور ومن حق الجميع ان يعشق الوطن.
وعندما كانت تصارع المرض الخبيث بجسارة كانت أكثر انشغالاً بقضايا الوطن وأكثر تفاؤلاً بالمستقبل وفي اطار هذا الصراع انتصر المرض وغابت عن الحياة أو كما قال رفيقها: غيب الموت الرفيقة نزيهة وودعت الحياة كما ودعها رفاق آخرون ولكنه وداع جسدي، حيث ظلوا جميعا بفكرهم وشغفهم للعطاء والتضحية وحبهم للعمل الجاد القائم على نكران الذات دافعا للمياه في النهر كي تكون هذه الارض خصبة خضراء. وقال ايضا: كانت تكره الأحقاد والكراهية ولغة القمع والازدواجية وتعدد الأقنعة. نزيهة رغم شدة ولوعة المرض الذي اخذ يغرس أنيابه الحادة في جسدها المنهك إلا أنها لم تتراجع ولو لحظة واحدة في تنفيذ فكرة فتح مقهى صغير في حديقة منزلها الصغيرة الغرض منه بث روح العلم والمعرفة والثقافة لدى بنات وأبناء القرية الصغار بغية رفع مستوى الوعي لديهم ولكن المرض لم يمهلها لتحقيق ذلك.

 التعازي لأسرة الراحلة وأقربائها وأصدقائها ولجمعية فتاة الريف ولمنبرنا التقدمي.
 
 
الأيام 7 يناير 2012
 

اقرأ المزيد

اذا كان رب البيــت بالــدف…!


بدت الولايات المتحدة، على جري عادتها، أكثر ألد أعداء كوريا الشمالية تحفزا فور الاعلان في بيونغ يانغ عن الوفاة المفاجئة لديكتاتور كوريا الشمالية كيم ايل جونغ، حيث نشطت خطوط اتصالاتها وتحركاتها الدبلوماسية باتجاه كافة الدول العدوة والصديقة لكوريا الشمالية في منطقة الباسيفيكي، وراحت ماكنة البروباغاندا الاعلامية تؤول وتحلل وتذهب يمنة ويسرى في محاولة للتأثير على مجريات الحدث داخل كوريا الشمالية نفسها وعلى الصعيد الاقليمي.
 
طبعا لا أحد يمكن أن يجادل في أن نظام كوريا الشمالية هو أكثر الأنظمة شمولية وقمعية في العالم أجمع. انه ينتمي الى مخلفات الانظمة الديكتاتورية المتبقية في “العالم الثالث”. بمعنى أن “العالم الثالث” آخذ في التحول بسرعة من الدكتاتوريات التي تساقطت وتتساقط الواحدة تلو الأخرى، في ذات الوقت الذي بقيت فيه الديمقراطيات الغربية على ما هي عليه..ديموكتاتوريات، أي دكتاتوريات ناعمة مغلفة بأنظمة ديمقراطية محكمة التوجيه. ولا أدل على ذلك من نظام الحزبين اللذين يتناوبان على احتكار كرسي الحكم الفدرالي وكافة مؤسسات الحكم المفتاحية منها والفرعية في الولايات المتحدة الامريكية والذي لم يتغير قيد أنملة رغم كل تيارات التغيير العاصفة التي هبت على أنظمة ومؤسسات الحكم وأساليبها في الكرة الأرضية.
 
في ذات السياق، فلقد اعتُبر صعود الحزب الديمقراطي الليبرالي في بريطانيا في الانتخابات الاخيرة (مايو 2010) ودخوله في ائتلاف حكومي مع حزب المحافظين، مفاجأة من العيار الثقيل، مفاجأة كسرت “تابو” النظام السياسي ونمط الحياة السياسية في بريطانيا، فلقد ظل حزب المحافظين والحزب الليبرالي يهيمنان، في احتكار ثنائي، على الحياة السياسية البريطانية طيلة حوالي قرنين ونصف القرن، من عام 1679 الى 1918، أي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى حيث احتل حزب العمال منذ ذلك الحين موقع “الثنائية السلطوية” محل الحزب الليبرالي الذي صار دوره هامشيا في الحياة السياسية البريطانية قبل أن يعيد تسمية نفسه في عام 1988 بعد اندماجه مع حزب آخر صغير هو الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي أنشىء مطلع ثمانينيات القرن العشرين الماضي بعد انشقاق مجموعة عن حزب العمال!  
 
لقد كان العالم شاهدا على حجم القمع الذي مورس، ولازال، على حركة الاحتجاجات السياسية والاجتماعية التي اندلعت ضد دكتاتورية رأس المال ونخبته ومشيخته السياسية والتنظيرية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والتعتيم الاعلامي شبه الكامل عليها. فالتصريحات العذبة المطنبة عن حقوق الانسان في العلن لا تتطابق مع ما تمارسه هذه النخب الحاكمة في الخفاء. وليس خافيا في هذا الصدد ما قامت به الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا الغربية من أعمال تعذيب ممنهجة وواسعة النطاق سواء مباشرة من قبيل تلك التي قيض للحقيقة اظهارها والتي حدثت في سجن أبوغريب أو سجن غوانتانامو أو في القواعد العسكرية الامريكية والأخرى التابعة للناتو في أفغانستان، أو بالوكالة حيث أرسلت السي آي ايه “دفعات” غير معلومة العدد من المعتقلين الى عدد كبير من البلدان في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط لتعذيبهم بغرض انتزاع اعترافات منهم بالقوة. وكلنا يعلم أن ادارة الرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش كان لديها فريق سري يرأسه نائب الرئيس ديك تشيني مكلف بتنفيذ عمليات اغتيال وتصفية سرية في جميع أنحاء العالم للمشتبه بانتمائهم لتنظيم القاعدة. وهناك جرائم الحرب التي ارتكبها الجنود الامريكيون في العراق والتي شملت حالات اغتصاب لصبايا وقتلهم والتخلص من جثثهن حرقا، والتي لم تسفر سوى عن محاكمات للجنود الصغار واصدار أحكام مضحكة بحقهم.
 
وبحسب صحيفة واشنطن بوست (وهو مصدر لا يمكن الطعن فيه واتهامه بمعاداة الولايات المتحدة بطبيعة الحال) “فانه وفي تطور مقلق خلال الاسابيع القليلة الماضية تم استخدام مادة رذاذ الفلفل الكيماوية ضد المتظاهرين المسالمين في الولايات المتحدة، والذي يسبب احمرارا وتورما وسعالا ولهاثا ويستمر لوقت طويل، وقد يؤدي الى تلف أنسجة الجهاز التنفسي. وهي مادة محظورة بموجب اتفاقية حظر انتشار الاسلحة الكيماوية” (موقع الصحيفة على الانترنت الأربعاء 23 نوفمبر 2011). وتنتج هذه العبوات من الغازات المسيلة للدموع شركة “كومبايند سيستم انك” (Combined Systems Inc. –CSI) ومقرها جيمس تاون بولاية بنسلفينيا. وتزود هذه الشركة قوات الامن في الولايا المتحدة وفي بقية أنحاء العالم بهذه العبوات. وكلنا يعلم كيف تعاملت قوات الأمن الخاصة الأمريكية بوحشية مع التظاهرات السلمية ضد طغيان وفساد وول ستريت وكيف اقتحمت حرم جامعة ديفيس بولاية كاليفورنيا وهاجمت الطلاب بخراطيم رذاذ الفلفل.
 
جاء في الكلمة التي ألقاها الفيلسوف الامريكي “سلافو جيجيك” أما حشود المحتجين في وول ستريت: “انهم يعملون بالفعل على الاضعاف من هذه الصيرورة بذات الطريقة التي نحصل بها على قهوة من دون كافايين وعلى مثلجات بلا دهون، سيحاولون ان يجعلوا من هذه الصيرورة مجرد احتجاج أخلاقي غير مؤذ، صيرورة بلا كافايين. تابعوا اليوم وسائل الاعلام فحسب، من جهة أولى، في ما يتعلق بالجنس وبالتكنولوجيا، كل شيء يبدو ممكنا. بامكانك التجول على القمر، بامكانك أن تصبح خالدا غبر البيولوجيا الجينية، بامكانك ممارسة الجنس مع الحيوانات أو أيا يكن، ولكن انظر الى ميدان المجتمع والاقتصاد، هنا، كل شيء تقريبا يُعتبر مستحيلا. ترغب بزيادة الضرائب قليلا على الاغنياء، يخبرونك ان ذلك مستحيل، سنفقد القدرة التنافسية، مستحيل ، معناه دولة توتاليتارية، هناك خطب ما في العالم، حين يسمح لك بأن تصبح خالدا فيما ليس بامكانك أن تنفق قليلا على العناية الصحية”.
 
وهكذا فان هذه الرأسمالية في مرحلتها المتقدمة من اصرارها العنيد على المواءمة بين اتجاهاتها المتوحشة وبين آليات ضبطها الديمقراطية..لا تستطيع ديمقراطيتها وقد جاوز سنها الستمائة سنة، أن تمنعها من القاء أعباء أزماتها المالية على كاهل عموم العاملين والسطو على مدخراتهم وحيازاتهم السكنية كما ترينا أحداث اليونان وايطاليا واسبانيا والبرتغال وغيرها.
 
فهل بعد هذا يمكن للمؤسسات الحقوقية عبر العالم أن تتوقع من حكومات هذه الرأسماليات التي تمارس التعذيب الممنهج والقمع “الذكي” للاحتجاجات داخل بلدانها، أن تتحرك لحث الآخرين بصدق على عدم اتيان هذا الفعل الذي يعد أحد أنواع الجرائم التي تنظرها محكمة الجنايات الدولية!  
 
هي تستطيع مع ذلك، برغم تآكل طاقاتها الانتاجية (على سبيل المثال كانت الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تضطلع بحوالي 80% من انتاج البتروكيماويات في العالم حتى مطلع ثمانينيات القرن العشرين الماضي واليوم لا تتجاوز حصتها 37%) وتراجع تنافسيتها الاقتصادية – تستطيع استنادا الى ما بحوزتها من أرصدة اقتصادية متينة وهيبة عسكرية لا تضاهى، أن توفر الكثير من الجهد والوقت والمال والموارد من خلال التحرك بصدق لوضع حد للاستبداد وللفساد المرافق له في كافة ارجاء المعمورة. 
 
 

اقرأ المزيد

روايتان حول عريضة امتيازات النواب


هناك روايتان متناقضتان عما أشيع من رفع عددٍ من النواب عريضة تطالب بامتيازات إضافية لهم، وفي حالة صحة أي من هاتين الروايتين؛ فإن أقل ما يمكن أن يقال إن المجلس النيابي المفترض فيه الدفاع عن حقوق المواطنين ومراقبة السلطة التنفيذية وسن التشريعات… قد فقد بوصلته وأصبح لا يمثل الناس بقدر ما يمثل أعضاءه.
 
الرواية الأولى تشير إلى أن عدداً من النواب قاموا بتوقيع عريضةٍ تطالب بامتيازات إضافية، علاوةً على ما يحصلون عليه من مخصصات تصل إلى 4750 ديناراً شهريّاً، وأن هذه الامتيازات تتضمن «تخصيص مكتب خاص لكل نائب و5 موظفين وموازنة خاصة للضيافة لمكتب كل منهم، إلى جانب منحهم جوازات سفر دبلوماسية أسوةً بممثلي السلطتين التنفيذية والقضائية، ومساواتهم في المخصصات والمكافآت والعلاوات، فضلاً عن تخصيص علاوة هاتف»، كما أشار خبر نشر في إحدى الصحف المحلية أمس.
 
وفي حين نفت الأمانة العامة لمجلس النواب تسلمها أية عريضة بهذا الخصوص، إلا أن عدداً من النواب أكّدوا وجودها، وأنه عرض عليهم التوقيع على هذه العريضة إلا أنهم رفضوا ذلك!
 
الرواية الثانية في هذا الخصوص تؤكد أنه لا وجود لهذه العريضة أساساً، وأن هناك من قام بتزوير هذه المطالب وإرفاقها بتوقيع 17 نائباً كانوا قد وقّعوا عريضةً سابقةً تخص الاعتراض على القرار الذي اتخذه رئيس المجلس بإسقاط العقوبة التي اتخذها المجلس بحق النائب أسامة مهنا بإيقافه عن حضور 20 جلسة نيابية، بدليل أن الأسماء الموجودة في العريضتين هي نفسها وبالترتيب نفسه.
 
وتربط هذه الرواية تزوير العريضة بما يدور في المجلس من صراع من أجل السيطرة على الأمانة العامة للمجلس، وخصوصاً بعد إيقاف أو توقف الأمين العام للمجلس عن العمل ومحاولة البعض فرض ممارسات وأعراف جديدة بعيداً عن اللائحة الداخلية التي تحدّد مهام وواجبات الأعضاء بمن فيهم مكتب المجلس.
 
من الناحية المهنية؛ فإني أشك كثيراً فيما جاء في الرواية الأولى، فلو كان ما يطرح من خلال هذه الرواية صحيحاً لتم نشر أسماء الأعضاء الموقعين على هذه العريضة كخطوة أولى، وكخطوة ثانية فإن المطالب أو الامتيازات المطالب بها لم تنشر إلا بعد ثلاثة أيام من نشر الخبر الأول بشأن هذه العريضة والذي جاء مبهماً. كما أن تنصل الجميع من هذه العريضة وما جاء فيها من تناقضات كالمطالبة بالجوازات الدبلوماسية على رغم أن القانون يعطي النواب الحق في الجوازات الخاصة يثير الاستغراب.
 
من خلال هاتين الروايتين يمكن استنتاج عددٍ من الملاحظات المهمة، أولها أن غياب الأطراف المعارضة عن المجلس لم يوجد حالةً من الانسجام بين الأعضاء والكتل البرلمانية كما كان متوقعاً، وإنما العكس. فقد أوجد هذا الغياب حالةً من الصراع حتى وإن بدا الآن خفيّاً للحصول على أكبر قدر من المكاسب لكل كتلةٍ من الكتل.
 
الأمر الآخر هو أن هذه الصراعات أبعدت المجلس عن دوره المفترض ليصبح المجلس صورةً باهتةً عمّا كان عليه في الدورات السابقة، حتى وإن قام بعض النواب بخلق معارك وهمية مع عدد من الوزراء لأهداف انتخابية بحتة! فيما يصرّ نوابٌ آخرون على إكمال المسلسل الطائفي في استهداف وزراء من الطائفة الأخرى
 

صحيفة الوسط البحرينية –  الجمعة 30 ديسمبر 2011م
 

اقرأ المزيد

لتكن جرأتنا في المصارحة والمصالحة ومعالجة القضايا من جذورها


اللجنة الوطنية المعنية بتوصيات تقرير تقصّي الحقائق قالت في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2011 إنها طلبت تقديم تفسير لبعض العبارات الواردة في الفقرتين (1716) و(1722 – ب) من تقرير بسيوني كعبارة «آلية محايدة ومستقلة»، وعبارة «تلك الموجودة في سلسلة القيادة العسكرية والمدنية»، وعبارة «المعايير الدولية – للمسئولية العليا». وردّت الحكومة على اللجنة بأن وفداً من الخبراء والفقهاء القانونيين البارزين على المستوى الدولي من بريطانيا سيقوم بزيارة إلى البحرين نهاية ديسمبر 2011، بغرض «تقديم الدراسة والمشورة بشأن تفسير عدد من التوصيات الواردة في تقرير اللجنة المستقلة لتقصّي الحقائق، بما في ذلك التفسير الذي طالبت به اللجنة». والخبيران الدوليان هما السير دانيال بثلم Sir Daniel Bethlehem والسير جفري جاويل Sir Jeffrey Jowell ، وهما سيساعدان الحكومة على تنفيذ توصيات بسيوني.
 
بداية، فإن إفساح المجال لتقصّي الحقائق من قبل لجنة تتكون من شخصيات دولية يعتبر خطوة كبيرة لصالح القيادة السياسية، ومن دون شك، فإن قبول جلالة الملك بأن يقرأ رئيس لجنة تقصّي الحقائق محمود شريف بسيوني ملخصاً في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 أمام العالم أجمع يُعبّر أيضاً عن خطوة شجاعة استحقت الشكر والثناء من الأمم المتحدة وجميع عواصم العالم المؤثرة في القرار الدولي.
 
ولقد كنا نأمل مواكبة هذه الخطوة الشجاعة بتنفيذ سريع لتوصيات تقرير بسيوني من قبل الجميع، ولاسيما أن مؤسسات الدولة كانت قد أعلنت استعدادها للتنفيذ السريع والقبول بنتائج التقرير.
 
يساورني الشك أن هناك ممن يعنيهم الأمر ربما لم يقرأوا ما جاء في تقرير بسيوني، ولذا عندما يذكر أحد شيئاً ما – وهو موجود في تقرير بسيوني منذ نوفمبر الماضي – يُصاب البعض بالدهشة ويستغرب «أين توجد هذه المعلومات؟»، والغرابة تكون أكبر عندما يأتي الجواب: «في تقرير بسيوني».
 
وهناك من قرأ التقرير ويشعر بالحيرة، أو بالصدمة، أو بالذنب عندما يطلع على تفاصيل بعض ما جرى في البحرين خلال الأشهر الماضية. ونأمل أن يكون كل ذلك جزءاً من مسيرة تصحيحية، تتخللها مصالحة وطنية شاملة، وحوار جاد يجمع كل الأطراف المعنية على أسس واضحة تحترم حقوق الإنسان وتتبنى رؤية ديمقراطية مستقبلية تجمع كل البحرينيين من دون استثناء، ضمن معادلة تقوم على جبر الضرر والتراضي والعدل.
 
إن ما حدث من انتهاكات لم يأت عبثاً، وإنما كان نتيجة حتمية لما ساد من ثقافة وإجراءات… وللتوضيح على ما أقول، فإن هناك دراسات علمية تثبت أن البيئة المحيطة بأي شخص عادي قد تحوّله إلى وحش كاسر. ففي العام 1961 أجرى عالم النفس الأميركي ستانلي ميلغرام تجربة أعطت نتائج مذهلة، وكشفت التجربة، التي يطلق عليها Milgram experiment ، أن فرداً عادياً بإمكانه أن يقوم بأعمال خارج الأخلاق والإنسانية ضد فرد عادي آخر بمجرد أن تُوفَّر له البيئة السلطوية. فعالم النفس المذكور أعلن في الصحافة عن رغبته في الحصول على متطوعين للقيام بتجربة… وخصص التجربة على سياق أن يسحب كل متطوع ورقة تحدد إذا كان سيصبح أستاذاً أو تلميذاً. ورتب عالم النفس الأوراق بحيث يكون أحد الممثلين المشاركين في التجربة تلميذاً، بينما يكون المتطوع أستاذاً. وبعدها قام عالم النفس بإعطاء أسئلة يوجهها المتطوع (الأستاذ) إلى التلميذ (الممثل الذي وُضع في غرفة ملاصقة)، وأنه في كل مرة يخطئ فيها التلميذ يقوم الأستاذ بصعقه بتيار كهربائي مقداره 15 فولت. طُلب من المتطوع أن يتذوق صعقة كهربائية بهذا المقدار قبل بدء التجربة، وقيل له إنه يستطيع أن يزيد الصعقات كلما أخطأ التلميذ، إلى أن تصل إلى حدٍّ قاتل وهو 450 فولت.
 
التجربة تبدأ بعد أن يقوم الممثل بنزع الأسلاك الكهربائية (من دون علم المتطوع)، ويبدأ الأستاذ (المتطوع) بطرح الأسئلة على التلميذ (الممثل)، وإذا أخطأ التلميذ يقوم الأستاذ بالصعق… تبدو المسألة مثل اللعبة في البداية، وبعد فترة يتعود المتطوع على الصعق، بل إن بعض المتطوعين يتلذذ بصرخات الألم التي يسمعها من التلميذ. وفي حال أراد المتطوع الانسحاب من التجربة يقوم عالم النفس (أو مَن يعمل معه) بتوجيه أوامر للأستاذ (المتطوع) أربع مرات بالتدرج. في المرة الأولى يقول له «واصل التجربة رجاءً». في المرة الثانية يقول له «إن التجربة مهمة وتتطلب أن تواصل ما تقوم به». في المرة الثالثة يأمره «إن الأهمية القصوى تتطلب منك أن تواصل التجربة». في المرة الرابعة يأمره «ليس أمامك أيّ خيار ويجب عليك أن تواصل التجربة».
 
اكتشف عالم النفس أنه وبسبب الطريقة التي حضّر فيها للتجربة وجهّز الأجواء، فإن أكثرية المتطوعين واصلوا التجربة حتى إيصال الصعق الكهربائي إلى درجة الموت، عندما يقوم الممثل بالصراخ وهو يمثل دور المحتضر وثم الميت. ووجد عالم النفس، أن الأكثرية خضعت للبيئة السلطوية، وأثبت إمكانية تحويل شخص عادي إلى قاتل لشخص آخر. وهذا يعني أن معظم الناس قد يتصرفون في حالات بشكل خارج نطاق الإنسانية بمجرد أن تتوافر لهم البيئة السلطوية المحرضة.
 
العالم النفسي ستانلي ميلغرام توفي العام 1984، ولكن تجربته أثرت كثيراً في فهم كيف تجري الأمور ضمن ظروف معينة، ولا أعتقد أنني سأفيد الخبيرين الدوليين بشيء مما ذكرت أعلاه، ولكن بودّي أن نتعلم نحن البحرينيين مما حدث، وأن تكون جرأتنا في إنقاذ أنفسنا وبلادنا عبر إيقاف مسببات المآسي التي حدثت، وأن نبدأ مسيرة المصالحة الوطنية الشاملة والإصلاح السياسي الحقيقي الذي يعالج القضايا من جذورها، والحلول واضحة أمام الجميع. نعم، فلتكن جرأتنا في المصارحة والمصالحة ومعالجة القضايا من جذورها
 

صحيفة الوسط البحرينية – 05 يناير 2012م
 

اقرأ المزيد

لا تتركوهم يضربون اللحمة الوطنية والسلم الأهلي في مقتل ؟! – عيسى سيار


لست من الذين يعرف اليأس طريقاً إلى نفوسهم، أو أن يرى الخطر محدقاً بالوطن وأهله ويتجاهله، أو أن يرى الاصطفاف والتخندق المذهبي أصبح واقعاً ملموساً ويسكت عنه، لذلك قررت أن أستجمع كل ما أملك من قوة وعزيمة لمواجهة الفتن والتخندق والتشرذم المذهبي والطائفي، الذي أصبحت سمة القول والفعل بين مكونات الشعب البحريني.
 
وما دعاني إلى كتابة هذا التقديم هو أن هناك عدداً من الإخوة السنة سامحهم الله طالبوني بألا أمسك العصا من الوسط وأن أقوم بالاصطفاف مع المصطفين والتخندق مع المتخندقين! فكان جوابي لهم واضحاً «أنا فعلاً متخندق ولكن مع البحرين وأهلها قلباً وقالباً والبحرين لا تقبل القسمة على اثنين»!.
 
لقد تبين لي وبعد البحث والتقصي في القرى والفرجان والمجالس والتجمعات، أن الناس وصلوا إلى مرحلة التعصب الأعمى فبمجرد أن تنتقد خطيباً أو كاتباً أو قائداً سياسيّاً من هذه الطائفة أوتلك بشأن خطأ ما ارتكبه بحق الوطن، تنبري له وبكل تعصب الجماعة المذهبية التي ينتمي إليها الخطيب أو الكاتب أو السياسي بالدفاع عنه إلى حد الاستماتة العمياء، يصل الى حد الإسفاف فكل ما يقوله وبكل علله موضع ترحيب من قبل جماعته!
لقد وصل الأمر من بعض الخطباء والوعاظ والكتاب الصحافيين والقادة السياسيين إلى حد توزيع الاتهامات وتحديد وتعريف من هو الخائن ومن هو الشريف ومن هو الوطني، ومن هو الكافر ومن هو… وأوقعوا البلاد والعباد في دوامة الحوارات المذهبية التي تبتعد عن الأصول والقطعيات التي توحدنا في الدين وتركز على الفروع والفتاوى غير المسئولة!
 
إن تقرير لجنة تقصي الحقائق المستقلة (بسيوني) لم تخون أية جمعية أو شخصية في مملكة البحرين ولم تجد من الأدلة ما يثبت أن أيّاً من الفرقاء السياسيين قد استقوى بالخارج وحتى دعوة النظام الرسمي في البحرين لقوات درع الجزيرة وجدته لجنة تقصي الحقائق فعل اًجاء ضمن اتفاقيات دفاعية مبرمة بين دول مجلس التعاون الخليجي، إذن ماذا تريد هذه المجاميع والشخصيات والتي كانت قبل 14 فبراير/ شباط 2011 تعيش على هامش المجتمع وغير مرحب بها من قبل المجتمع البحريني، والآن بقدرة قادر أصبحت تتصدر الأحداث والفضائيات وتصول وتجول بخطبها ومقابلاتها التلفزيونية وكتاباتها الصحافية التي تنفث من خلالها السموم بين جنبات المجتمع البحريني وتزرع الفتنة بين مكوناته!! والأمر المؤسف أن كثيراً من الناس في البحرين قد انطلت عليهم أفكار وأجندات هؤلاء المأجورين وذلك بسبب عمليات غسل الدماغ الممنهجة التي اتبعها هؤلاء الخطباء والقادة السياسيون والكتاب الصحافيون وكذلك صيحات التخويف من المجهول التي يطلقونها أينما تواجدوا لذلك اذا عرفت السبب بطل العجب كما يقال!
 
ومن هنا أطالب الناس في البحرين بأن يفيقوا من سباتهم ويعرفوا الحقيقة المرة عن أجندات هؤلاء المحرضين المأجورين والمأزومين ومن يقف وراءهم ويدفع لهم المال وييسر لهم السبل والذين سيضعهم المجتمع البحريني قريباً فوق الأرفف أو يرمي بهم إلى مزبلة التاريخ، إن الخفافيش تعيش وتتحرك تحت جنح الظلام وتقتات على الدماء وتنشر الفوضى والرعب في المواقع التي تحط فيها، وهكذا هو حال المحرضين الذين يستقون منهم، فهم يعيشون ويقتاتون على الفتن والصراعات والمشاكل، فهذا هو ميدانهم الذي يلعبون فيه ويكسبون من ورائه الأموال والعطايا وتسلط عليهم الأضواء وتصفق لهم الأكف وتصدح الحناجر بحياتهم وتشجعهم على المزيد من التحريض والتشهير والتخوين والتخندق.
 
إن البحرين التي صوت السنة والشيعة مجتمعين لعروبتها واستقلالها في مطلع السبعينات، تدعو أهلها الشرفاء الطيبين الذين كانوا ولايزالون وسيبقون مثالاً يحتذى به في الأخوة والتسامح والمحبة، ألا يدعوا خفافيش الظلام يعيثون في البحرين فساداً ويضربونه اللحمة الوطنية والسلم الأهلي في مقتل… فمن يرفع الشراع؟
 

صحيفة الوسط البحرينية – 05 يناير 2012م
الكاتب:  عيسى سيار
كاتب بحريني

اقرأ المزيد

يجب استكمال ملف المفصولين


ابتدأ ملف المفصولين من أعمالهم بالتحرك بعودة الموظفين المدرجين في قوائم الخدمة المدنية إلى أعمالهم منذ يومين، وهو أمر يتجاوب مع توصيات اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق ومع جهود لجنة متابعة تنفيذ هذه التوصيات، ولكن يظل أن المطلوب في هذا الملف أكثر بكثير مما تحقق حتى الآن على أهميته.
 
ومن ذلك أن أمورا إدارية ووظيفية ترتبت في مواقع العمل خلال الشهور التي فصل فيها هؤلاء عن أعمالهم، وإن من حق العائدين أن يعودوا إلى الأعمال التي كانوا على رأسها لحظة فصلهم، طالما أن القاعدة القانونية التي بني عليها قرار فصلهم ليست صحيحة وفق تقرير لجنة بسيوني التي خَطأَتْ إجراء فصل أي موظف أو عامل لمجرد ممارسة حقه في التعبير عن رأيه، مع ما يترتب على ذلك من عدم جواز حرمانهم من الترقيات والعلاوات، بما في ذلك تعويضهم عن فترة فصلهم.
 
نقطة أخرى مُهمة في هذا الملف سبق أن خصصنا لها مقالاً هذه الزاوية منذ فترة قريبة تتصل بالمفصولين من الوزارات والهيئات الحكومية من ذوي العقود المؤقتة، ويبدو أن عددهم لا يقل كثيراً عن عدد المفصولين من ذوي العقود الدائمة، ويتوزع هؤلاء على العديد من الوزارات كالصحة والتربية والتعليم والبلديات وهيئة شؤون الإعلام وغيرها.
 
إن الردود الحكومية لتبرير عدم إعادة هؤلاء ليست مقنعة، كالقول بأنهم فصلوا بناء على بنود في العقود المبرمة بينهم وبين الوزارة أو الهيئة التي يعملون فيها، وأن فصلهم لا يأتي على خلفية الأحداث التي شهدتها البلاد، فهذا الفصل الجماعي في وقت واحد لا يمكن النظر إليه بهذه الصورة، وأعرف أن بعض هؤلاء تلقوا في رسائل فصلهم ما يفيد بأن الفصل جاء على خلفية مشاركتهم في أحداث فبراير/ مارس.
 
إن اعتماد قاعدة أن من فصلوا بناء على قرارات لجان التحقيق ومجالس التأديب هم وحدهم المشمولون بالقرار الملزم بإعادتهم غير صائب لا من الوجهة القانونية ولا الإنسانية، بل أن في وجه فصل هؤلاء من التعسف ما يفوق فصل زملائهم الآخرين، لأنهم لم يمنحوا حتى فرصة الدفاع عن أنفسهم أمام لجان التحقيق ومجالس التأديب.
 
لذا لا يجوز السكوت عن وضع هؤلاء ومن الضروري أن يجري الإصغاء للمطالبات المتكررة في المجتمع وفي وسائل الإعلام وداخل جلسات لجنة متابعة تنفيذ التوصيات بالإعادة الفورية لهؤلاء لأعمالهم ووظائفهم أسوة بمن عاد.
 
وإلى هؤلاء هناك وضع المفصولين من القطاع الخاص، خاصةًً من الشركات الكبرى المملوكة للحكومة، والإنصاف يقتضي القول أن بعض هذه الشركات بدأت في إعادة عشرات من هؤلاء إلى أعمالهم، ولكن أعداد ممن لم تجر إعادتهم لا يزال كبيراً، وسط أنباء عن تفاوت التعاون في هذا الملف بين إدارة شركة وأخرى، ففي حين تبدي بعض الإدارات تجاوباً ملحوظاً، ما زالت إدارات أخرى تماطل في الموضوع.
 
كما سبق أن قلنا أن هذا الملف الشائك هو ملف إنساني واحد يتصل بأرزاق الناس وأمنها المعيشي وكرامتها، وليس من المقبول أن تجري تجزئته، فمثل ما كان الفصل جماعياً، يجب أن تكون عودة الناس إلى أعمالها جماعية.
 

اقرأ المزيد

مفارقــات ليــس إلا…..!


مريعة هذه المفارقة التي سيظل تلمسها سهلا على الدوام، ونحسب ان الذين يتعاطون مع الشأن العام يدركون هذا، فهي باتت صورة من صور الهم العام، بيد ان هذه المفارقة ليست الوحيدة فيما يحصل على أكثر من صعيد ونجد في تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية مثالا ليس إلا..
 
وفي ذلك منتهى الكفاية، ففي التقرير مفارقات صارخة ومدهشة ومنها ما لا يخلو من سخرية، يمكن ان نستخلص منها ما نشاء من خلاصات أكاد ان أكون على يقين بأنها ستقودنا إلى الاعتراف بان ثمة قدر كبير من التلوث في واقعنا مازال موضع تجاهل مدهش لا يخفى على فطنة اللبيب..!
 
مفارقة حين نجد ان كل الخروقات والتجاوزات والمخالفات من كل نوع مالية وإدارية وقانونية والتي يرقى بعضها بحسب التقرير الى مستوى الجرائم الجنائية، سواء على صعيد المناقصات والمزايدات والمشتريات والمبيعات الحكومية، والميزانيات المعتمدة، او على صعيد إضعاف او تغييب أنظمة الرقابة الداخلية، والمشروعات التي أديرت خارج نطاق اللوائح الرسمية وما تيسر من التنفيعات السريعة وعلى المكشوف، بجانب المخالفات في التعيينات والترقيات وغياب مصداقية التقييمات الوظيفية.
 
كل تلك الخروقات والتجاوزات بالجملة والمفرق لم تؤد الى ظهور مسؤول واحد يقر بتحمله مسؤولية اي خطأ او خلل او قصور في سياساته او في أداء الوزارة او المؤسسة التي يديرها، لم نسمع عن ذلك، كما لم نسمع عن استقالة او إقالة مسؤول واحد على خلفية اي من الأخطاء والاخفاقات والتجاوزات الجسيمة، مع رجاء الانتباه ان ذلك هو قيمة شائعة في البلدان التي تفرض تطبيق المسؤولية الأدبية والسياسية على كل من يتولى مسؤولية عامة، ولا تجعل من اي مسؤول محصنا من المساءلات القانونية، ولا تعهد لمن اخطأ ومارس قدرا لا يستهان به مما يستوجب المساءلة بإعادة حساباته لكي يصلح الانحرافات التي هو مسؤول عنها، بل انها دول جعلت المحاسبة عنوان قوة وقدرة على تصحيح الاخطاء..!
 
يا ترى لو كنا نحاسب بمعيار المسؤولية الحقة كم من الأخطاء والخطايا الجسيمة والكوارث كان يمكن تفاديها وتجنبها، ويا ترى كم مسؤولا في موقع المسؤولية العامة سنكتشف ان عليه ان يتوكل ويرحل من المشهد طوعا او قسرا..!
مفارقة حين ينشد المرء دورا للنواب في معركة الفساد الظاهر والمستتر، في الوقت الذي يزداد الشك في جديتهم وقدرتهم على اتخاذ خطوات حازمة وحاسمة ورادعة، ويراهم يمارسون لعبة شراء الوقت وانتظار المجهول ليس فقط فيما يخص التجاوزات والانحرافات التي كشفت عنها تقارير ديوان الرقابة على مر السنوات، وانما ايضا حيال قضايا فساد شكلت في يوم من الايام قضايا رأي عام. كقضية الفساد الكبرى في «البا» كمثال ليس الا، وتكتمل المفارقة حين يعّول الناس على المؤسسة النيابية في القيام بدور في اجتناب الفساد ومواجهة الفاسدين والمسؤولين عن هدر المال العام، الا ان تقرير الرقابة الاخير فاجأنا بما ينطبق عليه المثل «باب النجار مخلع»، فهو يكشف عن قيام نواب مرشحين لانتخابات الفصل التشريعي الثالث كلفوا موظفين بمجلس النواب لتنظيم حملاتهم الانتخابية وقبلوا تمرير مبالغ بدل ساعات العمل الإضافي!! وهو امر اقل ما يمكن ان يقال عنه بانه في حد ذاته سيئ وأسوأ في دلالته، ناهيك عن عشرات المخالفات الادارية التي غض النواب النظر عنها، وذلك باب يورط نوابا في شبهات ولا يبعدهم عن نطاق التواطؤ والاتهام وهم النواب الذين احاطت بمعظمهم خيبة الامل من كل صوب.
 وتتوالى المفارقات واحدة تلو أخرى لنكتشف بان أصحاب السعادة النواب الذين يفترض ان يعملوا على توفير كل ما يعزز الدور الرقابي ويخلق تنوعا في الآليات الشعبية الفاعلة التي تقوم بهذه المهمة وتعمل على محاربة الفساد، هم الذين يعترضون على إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد، فلجنة الشؤون التشريعية والقانونية النيابية نفاجئ برفضها مشروع قانون الهيئة في اجتماعها في 20 ديسمبر الفائت بذريعة وجود عدد من القوانين والاعراف الدولية المطبقة فعليا على ارض الواقع والتي تجرم اعمال الفساد والحد منها، وبذريعة وجود عدد من الهيئات والمؤسسات القائمة، مع العلم ان الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادقت عليها البحرين تجعل انشاء مثل تلك الهيئة من أولى ما تقتضيه تلك الاتفاقية.
 
 المشهد مسكون بمفارقات كثيرة، ومن بين ما يستحق الملاحظة، هذه المفارقة ذات الصلة هذه المرة بالجمعيات السياسية «16 جمعية»، فما أثير بشأن معظمها مثير لقائمة من علامات التعجب والاستفهام، خاصة بان هذه الجمعيات تطرح نفسها على أساس أنها تحارب الفساد ومن حملة لواء الدفاع عن المال العام وتطالب بالحفاظ على موارد الدولة، ولكن التقرير فاجأنا ان من بين هذه الجمعيات ما ارتكب مخالفات مست مشروعية أوجه صرف مواردها المالية، وغيبت الأنظمة المالية المعتمدة وتجاهلت الإمساك بسجلات محاسبية منتظمة تفرضها متطلبات أنظمتها الأساسية..!! وذلك امر لا يجب الاستهانة به فهو يثير في اقل التقديرات سؤالا لا ينبغي هو الآخر عدم الاستهانة به: هل يمكن ان تكون هذه الجمعيات مع الشيء ونقيضه في نفس الوقت؟!
 
في التقرير ثمة مفارقات اخرى كثيرة وصادمة قد تفجع المرء في التفاصيل وكثير منها تصدر عناوين الصحف، ولكن يهمنا بقدر اكبر هذه العينة المركزة من العناوين التي أبت إلا ان تفرض نفسها: مشاريع وزارة العدل تدار في كثير من الاحيان خارج القانون ترقى الى مستوى الجرائم الجنائية، وتواطؤ شركات مقاولات وتزوير للوثائق في مشاريع ومنشآت دينية، وترقيات لموظفين غير منضبطين، وصرف تذاكر سفر ومخصصات دون وجه حق، والقائمة طويلة من التجاوزات وهي تفرز اسئلة حساسة كثيرة يتهامس بها الناس، تجعلنا نتلقى من الغم جرعات مضاعفة، غير اننا ونحن نمعن النظر في تلك المفارقات لابد من تنويه وتذكير، تنويه بانه لم يعد مقبولا الارتهان لوعود بالمساءلة والحساب لا تتحقق ابدا ولا توقف سير التجاوزات، وتذكير بتصريح لرئيس مجلس النواب بان المجلس سيتعامل مع تقرير الرقابة بكل مسؤولية..
 
طموحنا -او هذا الطموح- ان يكون هذا هو الأمل الذي له سند على ارض الواقع بعيدا عن البيانات والتصريحات التي توزع على الصحف… تابعوا ودققوا واحكموا..!!.. فلنتهيأ ونستعد ونبدأ العد والأيام بيننا.
 
الأيام 5 يناير 2012

اقرأ المزيد

مواقع الجمعيات السياسية ونشراتها


خطوة ايجابية قامت بها هيئة شؤون الإعلام أمس الأول بإعادة فتح المواقع الاليكترونية المحجوبة لعددٍ من الجمعيات السياسية المسجلة، ونحن ننظر إلى هذا الإجراء على أنه تصحيح لخطأ وقع حين تم حجب هذه المواقع بقرارات إدارية ودون العودة إلى القضاء، والقرار خطوة لتوسيع حرية التعبير، وتمكين القوى المعارضة من طرح وجهات النظر البناءة، من موقع نقدي، من أجل تعزيز أفكار المشاركة السياسية، ومنح جميع الأفكار والآراء حقها في أن تكون تحت ضوء الشمس بما يثري التجربة السياسية في البلاد، ويوسع نطاق الشفافية.
 
وهذه الخطوة الايجابية بحاجة لاستكمال بأن تعيد هيئة شؤون الإعلام النظر في قرار آخر سيق لها أن اتخذته بسحب تراخيص أربع جمعيات سياسية هي المنبر التقدمي ووعد والوفاق والعمل الإسلامي، وهو إجراء لا علاقة له بالأحداث التي اندلعت في البحرين بدءاً من منتصف فبراير الماضي، ذلك أن تاريخ هذا القرار يعود إلى شهر سبتمبر من العام قبل الماضي، 2010.
 
وقد قلنا في حينه أنه لا يمكن النظر إلى هذا الإجراء إلا بوصفه تراجعاً عن أمر متحقق، جاء كثمرة من ثمرات التحولات السياسية في البلاد، التي وسعت من نطاق حرية التعبير من خلال قنوات مختلفة، بينها النشرات الناطقة باسم الجمعيات الفاعلة في المشهد السياسي، والقول إن النشرات المذكورة خرجت عن نطاق التصريح الممنوح للجمعيات التي تنطق باسمها، بحاجة إلى مراجعة لا من وجهة نظر التقيد الحرفي بمحتوى هذا الترخيص، وإنما من زاوية ضرورة الارتقاء بالتشريعات لتواكب الحراك السياسي في البلاد.
 
ونحن هنا نتحدث عن نشرات تنطق باسم جمعيات تتحلى بالرشد السياسي في إدارة خطابها، انطلاقاً من ثوابت العملية الإصلاحية في البلاد، ومن منطلق الحرص على الحفاظ عليها وتطويرها، وهذا ما عكسته إلى حدود بعيدة النشرات التي طالها قرار سحب الترخيص.
 
فالجمعيات التي تصدر هذه النشرات تعمل بموجب القانون، وهي حريصة على التقيد بأحكامه، وجوهر قانون الجمعيات السياسية يقر بالطبيعة الحزبية لهذه الجمعيات، بصفتها مظهراً من مظاهر التنظيم السياسي في المجتمع وتطلعات فئات واسعة من المواطنين، تجد في هذه الجمعيات السياسية معبراً عن تطلعاتها وأهدافها.
 
والعمل الحزبي الذي يضمنه قانون الجمعيات السياسية، لا يمكن أن يستقيم بدون قنوات تواصل مع الجمهور لطرح آراء هذه الجمعيات ومواقفها ورؤيتها حول أوضاع البلد في مختلف المجالات، وفي مقدمة هذه القنوات تأتي الصحافة الحزبية، لذا فان المطالبة بأن تقتصر الجمعيات السياسية على نشرات إخبارية توزع على الأعضاء فقط يخل بشروط العمل الحزبي المتعارف عليها، ولنا في هذا المجال أن نقتدي بتجربة بلد عربي فيه الكثير من أوجه الشبه مع تجربتنا السياسية وهو الأردن.
 
وحتى يتحقق تطوير التشريعات الضامنة لحق القوى السياسية في أن تكون لها منابرها الإعلامية ليس مطلوباً مصادرة ما أنجزه المجتمع من حريات، وإنما توفير متطلبات حمايته، ومن هنا تنبع دعوتنا إلى معالي رئيس هيئة شؤون الإعلام وكافـــة الجهات المعنية في الدولة باستتباع قرار فتح المواقع الاليكترونية، بقرار آخر تعود بموجبه نشرات الجمعيات السياسية للصدور.

اقرأ المزيد

دول الفائض واللاتوازن في الاقتصاد العالمي


في المفاوضات الخاصة بتحرير التجارة العالمية، لاسيما التجارة في السلع والتجارة في الخدمات، في إطار منظمة التجارة العالمية، لا تحبذ الولايات المتحدة وحليفاتها الدول المتقدمة، التفاوض على أساس مبدأ “التبادلية” الذي تعتمده عادة أطراف التفاوض للدول النامية، وإنما تفضل الدفع بمبدأ الإجراءات المتعادلة أو المتوازية في التفاوض على خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في إطار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ .
 
ومع ذلك فإن المتتبع لمواقف الدول المتقدمة في الاجتماعات والملتقيات الدولية المكرسة للتفاوض على معالجة الاختلالات في الاقتصاد العالمي، سوف يجد أن المقاربة الأثيرة إلى قلوب المفاوضين الأمريكيين والأوروبيين خصوصاً هى مقاربة التوازن الاقتصادي العالمي المتمثلة، من وجهة نظرها، في عدم جواز استمرار تمتع الدول النامية الصاعدة بفوائض مالية وبموازين مدفوعات إيجابية في حين أنها تعاني عجوزات مالية هائلة واختلالات كبرى في موازينها التجارية وموازين مدفوعاتها .
 
هذا اللاتوازن في الاقتصاد العالمي لم يأتِ من فراغ، وإنما هو نتاج الممارسة الاقتصادية الحرة وفلسفة الاقتصادات المفتوحة التي ترفعها الدول الغربية إلى مراتب قدسية حين تتحدث عن فضائلها وتدعو لها ولتطبيقاتها، وهو ما فعلته الصين على أية حال في وقت متأخر (في النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين الماضي) والهند في ما بعد وبقية منظومة الدول النامية التي صارت تصنف اليوم ضمن ما تسمى بالاقتصادات الصاعدة .
 
وبسبب استرخاء وتراجع إنتاجية مجتمعات بلدان “العالم الأول” (الدول الرأسمالية المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية)، ومن جهة أخرى، تنامي إنتاجية ونمو مجتمعات عرفت بتميز ثقافتها الانضباطية في احترام الوقت والولاء للعمل والتواضع والموازنة بين الاستهلاك والادخار، كان لابد أن يعمل قانون التراكم الرأسمالي عمله، ويحيل دول الفائض إلى دول عجز ودول العجز إلى دول فائض، وهو الوضع الذي أضحى عليه ميزان القوى الاقتصادية العالمي منذ حوالي عشر سنوات، والذي درجت ماكينة الدعاية والإعلام الغربية على توصيفه بوضع اللاتوازن في الاقتصاد العالمي .
 
ولكن “اللاتوازن” الحادث في الاقتصاد العالمي هو في الحقيقة طريق ذو مسارين متعاكسين، بمعنى أن آثاره السلبية والوخيمة ليست حكراً على دول العجز، وهي هنا تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لاسيما الرئيسية منها مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، التي راحت شكواها تتعالى من اتساع نطاق هذه الظاهرة في ميزان القوى الاقتصادية، نتيجة لتراكم عجوزاتها وديونها في جانب مقابل تراكم فوائض ودائنية دول الفائض مثل الصين وبلدان جنوب شرق آسيا والهند وبعض الدول الأخرى الصاعدة في سماء الاقتصاد العالمي، في جانب آخر .
 
تمظهرات هذا اللاتوازن كثيرة ومنها تغير معدلات النمو الاقتصادي وبالتالي الطلب المحلي وبالتالي حجم العرض النقدي وبالتالي معدلات التضخم وبالتالي معدلات أسعار الفائدة البنكية . اليوم مثلاً أسعار الفائدة في الاقتصادات الغربية المتأزمة خصوصاً الاقتصاد الأمريكي تكاد تلامس القاع في محاولة من المصارف المركزية لتفادي الأسوأ من الركود، في حين أن الصين الواقعة على الطرف الآخر من معادلة اللاتوازن تتعرض لضغوط تضخمية غير عادية إذا لم يحسن بنك الصين (البنك المركزي الصيني) التعامل معها بسرعة فإنها يمكن أن “تقضم” جزءاً عزيزاً من الفوائض ومن الثروة الصينية ومن الثقة العالمية، خصوصاً الاستثمارية في الاقتصاد الصيني .
 
وعلى ذلك فإن اللاتوازن الاقتصادي العالمي يحمل في طياته تهديداً “مبطناً” لدول الفائض أيضاً وليس لدول العجز فقط .

اقرأ المزيد

الربيع العربي وسؤال الهوية – عبدالله حسن العبد الباقي


في هذا الربيع العربي  ،الذي فرض ذاته على كامل الكرة الأرضية  ، وتحولت فيه ميادين التحرير والتغيير  الى أيقونة عالمية  يحتذي بها شباب العالم  ، كان الشباب العربي ، من خارج السلطة ومن خارج قوى المعارضة التقليدية ، هو الصاعق والمحرك والفاعل والمبادر والرائد والقائد والمضحي بدمه . بقية الشعب وبقية القوى التحقت بثورتهم بعد ان كسروا هم حاجز الخوف . هذا الشباب لم ينتفض فقط من اجل لقمة العيش بل من اجل انتزاع حريته وتحقيق كرامته. إنها ثورة الكرامة .

صفعة الشرطية للبوعزيزي  ، كانت اهانة لكرامته  الإنسانية . تلك الاهانة التي رفضها ورفض الحياة التي تجعل منه مهانا ومذلولا وخانعا ومستسلما . وقد انتفض الشباب من اجل استعادة تلك الكرامة المنتهكة . وخرجوا بصدورهم العارية رفضا لاستمرار الخنوع الذي اصبح ولا زال ، في العديد من الدول ، هو السمة السائدة نتيجة التعامل المهين للمواطن العربي في بلده ونتيجة التهميش والاقصاء واستمرار الفساد المكشوف والنهب المتواصل من قبل السلطات العربية المستحوذة على كل مصادر القوة في ظل تزاوج مقيت بين السلطة والثروة .

الشباب هنا بفعلهم هذا  ، قالوا رسالة واضحة لجميع  الجيل القديم بما فيهم قوى المعارضة التقليدية ، مفادها انكم جيل خانع ذليل  وانكم فشلتم في بناء اوطان نفتخر ونعتز بها بين الأمم وها نحن ننتفض لاستعادة تلك الكرامة .

الكرامة هنا مرتبطة كل الارتباط بمفهوم الهوية المنتفضة على ذاتها والتي ترفض الثقافة القديمة و سلوك الخنوع والذل  المرتبط بها . انها انبعاث جديد لهوية مغيبه قسرا من قبل السلطات السياسية التي تمثل مافيات مرتبطة باعداء الهوية المستلبة . والتي لا يريدون لها ان تتواجد بين هويات الامم الأخرى .
ولتتحقق تلك الكرامة ( الهوية المنتفضة ) لا بد من تحقيق أمور عده تشمل ليس فقط إزاحة قمة السلطة القديمة وإنما تغيير النظام بالكامل، وهو شعار رفعه الشباب وأصبح جزءا من تلك الأيقونة، بل أصبح الشعار المشترك لكل الثورات ” الثورة “. الأمر الذي يعني بناء اقتصاد قوي منتج ومتماسك وقادر على التشغيل ، ويتطلب إطلاق الحريات العامة وبناء وإرساء دولة القانون والمؤسسات وضمان المشاركة الشعبية الواسعة التي تحقق دولة المواطنة لا دولة الرعايا والتابعين . وذاك لا يمكن تحقيقه بدون ثورة في التعليم والاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية والفنية وفي كل شئون الحياة لتكون نتيجته هوية محددة المعالم والصفات . ، بل ايضا من خلال  قدرة الشعب االعربي على التصدي لأعدائه الداخليين والخارجيين والذين يعملون من أجل مصالحهم على حسابنا وعلى الضد من كرامتنا ، و الذين يعملون  من أجل إذلالنا وسلب حقوقنا بكل غطرسة . وهنا يبرز العدو الصهيوني الغاشم الذي مارس الاذلال والتركيع على سلطاتنا وشعوبنا وبمساعدة وتآمر الغرب الرأسمالي  باعتبارهم اعداء حقيقيين لهذه الثورات ، ليس فقط من خلال دعمهم للأنظمة القمعية والشمولية والفاسدة ، بل من خلال الاحتلال المباشر والاستيطان والتهجير  والقمع والقتل على رؤوس الأشهاد . ولا أعتقد ان الكرامة التي اراد تحقيقها الشباب العربي تقتصر على ازاحة بعض رموز السلطة والفساد بل هي بالضرورة تتضمن مواجهة أعدائنا الحقيقيين والذين لا يريدون لهذه الكرامة ” الهوية ” ان تنبعث. 

الشباب العربي ، أراد القول بوضوح انه لا يختلف عن بقية الأمم والشعوب ، وانه يمتلك من الإمكانيات الذهنية التي لا تختلف عن بقية الشعوب ان لم تتفوق عليها بدليل صنعه للثورة التي عمل أعداء الأمة بكل امكاناتهم من اجل ألا تأتي . الشباب العربي أراد ان يستعيد كرامته التي غابت لغياب هويته العربية الفاعلة في التاريخ والناتجة للتجهيل والتعطيل والإذلال.

انه يعرف انه لا يستطيع تحقيق كرامته داخل وطنه وهو مذلول من قبل قوى خارجية لا  تتعامل معه  بتكافؤ وندية ، ولا يستطيع ان يحقق كرامته وغذاءه ينتجه الآخرين وكذا ملبسه واداواته وسلاحه وكل ما يستخدم هو من صنع الغير ، مما يجعله مرة أخرى رهينة بيد الآخرين . وبالتالي يفقد الكرامة التي انتفض من أجل استعادتها .

الأمر الذي لم يتبلور بعد ،هو استيعاب حقيقة أساسية ومهمة وهي ان اي بلد عربي على حدة ، بما فيها مصر وسوريا والعراق واليمن وهي بلاد حضارات قديمة ، لا يستطيع ان ينهض حضاريا ويكون شخصية ناهضة وقادرة على التنافس بدون العمق العربي وارتباطه بهويته العربية التي تجسدت بكل وضوح في الربيع العربي لا المصري ولا التونسي ولا السوري ولا اليمني ولا اي مسمى لبلد ، انه ربيع عربي، وخصوصا في ظل  المنافسة الشرسة للتكتلات الاقتصادية الكبرى الدولية والإقليمية ، والذين ليس لديهم مانع من ان تحصل على بعض الحريات العامة في داخل كل بلد لكنهم يعملون من اجل ابقاءك مجرد سوق لمنتجاتهم  وخصوصا الغرب وامتداده اسرائيل الحريصين كل الحرص على إبقاء شعوبنا رهن التبعية الاقتصادية ورهن هيمنة وغطرسة اسرائيل ، التي انشأت وزرعت في الوطن العربي من اجل منع وحدتنا وزعزعة استقرارنا .
” أتمنى الاستماع لمحاضرة الدكتور عبدالرحمن العصيل بعنوان لا تنسوا اسرائيل التي لا نعرف ” ليتضح لكل ذي بصيرة الدور المناط بإسرائيل في المنطقة وهي  بالمناسبة موجودة على اليوتيوب .

  الحقيقة التي لا تخطؤها العين ان ثورة تونس انتشرت كالنار في الهشيم ممتدة الى مصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا والمغرب والاردن لان الشباب العربي واحد يمارس علية ذات الذل وبقية الشباب العربي لا يختلف عن اخوته في كل مكان . كلهم في الهم عرب خاضعين للذل الداخلي والخارجي ويتأثرون ببعضهم ، ورغم قيام ثورات في العديد من دول العالم منذ سقوط النظام الشمولي في “الدول الاشتراكية ” الا انهم تأثروا ببعضهم لانهم امة واحدة كحقيقة موضوعية لا يمكن انكارها . بل ابعد من ذاك انهم يعيشون تحت انظمة بذات الصفات ورفعوا ذات الشعارات ولهم ذات المطالب.

ـ كيف السبيل لتحقيق الهوية اذا :

ما اود التنويه اليه هنا هو ضرورة معرفة القرية الكونية ” العالم ” بشكله الشامل ، بمعنى ضرورة معرفة القوى الدولية والاقليمية ورؤية هذه القوى من منطلق مصالحها واستراتيجياتها وموقع العالم العربي في تلك الاستراتيجيات ، لان كل الدول والكيانات فخورة بقوميتها وتدافع عن مصالحها وفي السياسة كما هو معروف ، ليس هناك صداقات دائمة بل مصالح دائمة والفارق بين هذه الدولة او التكتل اوذاك هو في موقعها الجغرافي السياسي ومقدار الثروات ونظام الحكم ومن يمثل من الطبقات في بلده.

الغرب عموما واسرائيل جزء لا يتجزأ منه همه من منطقتنا النفط والحفاظ على اسرائيل وتكريس بلداننا كسوق لمنتجاته وخصوصا ان انظمة الحكم في هذه البلدان تمثل واحد في المئة من شعبها كما رفع شباب احتلوا في تلك البلدان  وهم القوى الرأسمالية العسكرية والمدنية والتي هي في طريق الاحتضار نتيجة الازمات الاقتصادية البنيوية العميقة وفشلها عسكريا ايضا امام منافسيها ونتيجة ازمة الديون التي وباعتراف الغرب ذاته غير قابلة للحل الجذري ويجري استغلال شعوبنا لمحاولة تأجيل التراجع عن القمة ان لم يكن الانهيار .

هناك الصين العملاق الاقتصادي القادم والذي هو الآخر يدافع عن مصالحه الإستراتيجية وبالتحالف مع دول بريكس التي تشمل روسيا والهند والبرازيل وجنوب افريقيا وهي الدول ذات الاقتصاديات الصاعدة وكلها تدافع عن مصالحها وكل المؤشرات تدل على بزوغ هذه القوى ودخولها عالم المنافسة وازاحة الهيمنة الامريكية والغربية وفتح المجال لتعددية قطبية لن تستطيع فيها الولايات المتحدة ان تقرر مصير الكون كما فعلت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

وفي الاقليم هناك ثلاثة دول مهمة وفاعلة ومنافسة اقليميا وبالتعاون مع القوى الدولية هي ايران وتركيا واسرائيل ، وكل دولة من هذه الدول تعمل من اجل تحقيق مصالحها القومية ، تركيا تعمل من اجل مصلحة القومية التركية وبالذات البرجوازية منها وتعمل ليل نهار من أجل  ترويج بضاعتها وتوسيع نفوذها القومي وبالتحالف مع الغرب ، اما إسرائيل فليس هناك عربي لا يعرف من هي وموقعها منا ، وهناك ايران التي هي الأخرى تعمل من اجل مصلحتها القومية وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في مجالها الإقليمي . كل هذه الدول اذا تسعى من اجل تحقيق مصالحها ، السؤال هنا من المسؤول عن الدفاع عن مصالح العرب ؟ هل ننتظر من الآخرين الدفاع عنها ، ام انها مسؤلية اصيلة لا يجب التخلي عنها؟الم يأتي هذا الربيع العربي لانتزاع الحرية وتحقيق الكرامة ؟ هل يمكن تحقيق الكرامة بدون وجود حضاري يدافع عن مصالح وقيم العرب ؟ والسؤال الأكثر أهمية هو من هي القوى الفاعلة على الساحة العربية التي تستطيع تحقيق هذه الهوية الحضارية ؟

القوى الفاعلة في الساحة والمطلوب منها :

عند الحديث عن القوى الفاعلة سياسيا في الساحة العربية التي تقف السلطات على الضد منها باعتبار مجمل السلطات العربية تمثل مصالح القوى الدولية او الاقليمية وتتطابق مصالحها مع تلك المصالح، وهي بالتالي معادية بطبيعتها للكرامة والهوية العربية والربيع العربي لم يأتي الا من اجل إزاحتها.

هناك ثلاث قوى أساسية تعمل وتؤثر في الشارع العربي وان بشكل متفاوت نتيجة ظروف المنطقة وطبيعة هويتها . هذه القوى هي قوى الاسلام السياسي والقوى القومية والقوى اليسارية .ومن وجهة نظري  ورغم الادعاء مؤخرا بوجود قوى ليبرالية الا ان الليبرالية بمفهومها القومي والطبقي لا يمكن ان تنشأ في بلدان غير منتجة وغير مصنعة ، ما هو موجود هو برجوازية كمبرادورية همها تسويق منتجات بلدان أخرى وهي بطبيعتها ومصالحها مرتبطة بمصدر بضائعها الذي هو الأجنبي الذي تستورد منه بضاعتها وبالتالي ليس من همها خلق هوية حضارية عربية.

ما هو الخيط الجامع الذي يربط الاسلاميين بالقوميين باليساريين ، انها هذه الهوية الحضارية التي بدأ بزوغها بالربيع العربي ، لكنها تحتاج الى البرامج والخطط  والاستراتيجية التي توصل الى بناء هذه الهوية . وهنا على الاسلاميين بكل تفرعاتهم اخوانهم وسلفييهم سنتهم وشيعتهم ان يتذكروا جيدا ان النبي عربي والقرآن عربي ولا تقبل صلاة مسلم الا بالعربي وان ابوبكر وعمر عربيان وعلي والحسين عربيان وهذا يضع عليهم مسؤولية كبرى باعتبارهم الاكثر معرفة بلغتهم وبالتالي الاكثر معرفة بكتابهم المقدس وعليهم ان يقدموا مشروعهم الاسلامي الحضاري  العربي المتوافق مع العصر والاكثر حرية وعدالة من الاسلام التركي او الفارسي او الماليزي او غيرهم ، عليهم ان ينتفضوا على مفاهيمهم القديمة وينتجوا فكرا تنويريا ذو مواصفات ونكهة عربية احتراما لعروبة نبيهم وقرآنهم الذي دعى إلى العدل والرأفة والإحسان والمغفرة والذي طرح قبل كل المواثيق الدولية  ” من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” والذي طرح بوضوح ان لا اكراه في الدين بل ان الحرية شرط من شروط الايمان ذاته.

اما القوى القومية فعليها مراجعة وتقييم تجارب الحكم التي مارسها ” القوميين ” منذ تجربة عبد الناصر ذات الايجابيات والسلبيات  مرورا بتجارب البعث التي كانت شوفينية وفاشية وتحولت الى عائلية ووراثية، ومن اجل الوصول الى فكر قومي مدني ديمقراطي ومدافع في ذات الوقت عن الهوية العربية الناهضة وتحقيق دولة عربية قائمة على مراعاة مصالح كل الشعب العربي وتراعي الفوارق والتباينات بين أجزاء الأمة وتعمل بشكل تدريجي ولكن برؤية استراتيجية وعلى الأسس الطوعية وصولا إلى دولة عربية واحدة قادرة على المنافسة والابداع والابتكار والتصنيع والانجاز.

وعلى اليسار العربي ان يستوعب المكونات الثقافية والروحية للشعب العربي ، مراعيا دور الإسلام كدين للاغلبية ومراعيا القومية التي خلقت على الدوام التفاعل والتأثير المتبادل بين العرب  وعليهم تذكر ان من لا يكون وطنيا حقيقيا لا يمكن ان يكون امميا حقا وان العدالة التي يسعون الى تحقيقها على المستوى الإنساني والطبقي يمكن تحقيقها عبر إبداعهم في معرفة الطبيعة الثقافية والحضارية لبلدهم العربي المسلم.
الهوية القومية هي ذلك الهدف المشترك والموجود في ضمير كل الذين يعيشون على هذا التراب بغض النظر عن تياراتهم التي عليها ان تتنافس من اجل إعلاء شأن هويتهم وكرامتهم .
 
اعرف ان الصراع لا زال في بداياته ، واعرف ان قوى الثورة المضادة ستظل تعمل ليل نهار من اجل اجهاض الثورة العربية وبالتحالف مع اعداء الامة ، لكنني مؤمن بقدرة الشباب العربي على الصمود واجتراح المعجزات وسيواصل ثوراته مرات ومرات وسيكشف عبر كل التجارب الآتية وخصوصا القضية الفلسطينية اعداءه الداخليين والخارجيين وسيحاربهم وسينتصر .

هذا هو منطق الأمم الأصيلة التي لا تموت وان كبت لفترات طويلة . لذا انا واثق من أن الهوية العربية ستعود ناهضة بين الأمم ولو بعد حين.
 
منبر الحوار و الإبداع
عبدالله حسن العبد الباقي
كاتب وناشط اجتماعي
المملكة العربية السعودية

اقرأ المزيد