المنشور

هل يمكن لإقتصادات العجز والمديونيات التغلب على أزمتها


كما هو معروف فلقد تحولت العجوزات المتراكمة في الموازنات الحكومية العامة وفي الحسابات الجارية لكل من اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية واقتصادات عدد من البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلى ديون سرعان ما اتخذت شكل أزمات مالية مزمنة، بسبب تواضع أدائها الاقتصادي الذي لا تتناسب طاقته على توليد معدلات نمو اقتصادي كافية لتغطية احتياجات عملية إعادة الإنتاج البسيطة (أي تأمين كافة الاحتياجات الاستهلاكية السنوية عبر إنتاج ناتج محلي لا يقل عن تلك الاحتياجات، مع سياسة التمويل العجزي التي تتبعها، وهي عملية إنتاجية لا يتجاوز مفعولها تحقيق نقطة التعادل “Break-even” بين إنتاج واستهلاك إجمالي الناتج المحلي). ولكن الاقتصاد بحاجة إلى ما هو أكثر من عملية إعادة إنتاج بسيطة انه بحاجة إلى عملية إنتاج موسعة، تحقق فائضاً لتغطية العجوزات المتراكمة للسنوات السابقة والتي تمت تغطيتها بالاستدانة.
 
تنتج الولايات المتحدة سنوياً ناتج إجمالي يبلغ إجماليه 14.7 تريليون دولار (2010)، في حين أن عجوزاتها – الناتجة كما قلنا عن هشاشة نموها وضعف طاقتها على توليد الفائض – قد راكمت ديون سيادية عليها بلغ إجماليها في يونيه الماضي 14.5 تريليون دولار.
 
الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة أوروبية نجح في إنشاء منطقة نقدية تضم 17 دولة من أعضائه ينتظمها نظام نقدي موحد قوامه عملة أوروبية موحدة “يورو”، هو اليوم في وضع مالي لا يقل دقة وحراجة عن الوضع المالي المتأزم للولايات المتحدة. فلم تكن تمضي عشرة أعوام ونيف على إنشاء منطقة اليورو (في عام 1999)، حتى أصبحت هذه المنطقة النقدية وعملتها (اليورو) في خطر داهم. ففي 2 مايو 2010 اضطرت دول منطقة اليورو بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي لترتيب حزمة إنقاذ مالي سريعة لليونان بقيمة 110 مليار دولار، وبعد مضي بضعة شهور (في نوفمبر 2010) اضطرت أيضاً لإنقاذ أيرلندا من ا لإفلاس بصفقة إنقاذ بلغت 85 مليار دولار، سرعان ما تبعتهما البرتغال في مايو 2011 بصفقة إنقاذ بلغت قيمتها 78 مليار دولار. ولازال الحبل على الجرار، ولازالت اليونان بهشاشتها الاقتصادية والمالية تهدد الوحدة النقدية الأوروبية. وهناك أسبانيا وإيطاليا وبلجيكا في الطريق. (شكل إجمالي الدين العام الأسباني في عام 2010 60.1% من إجمالي الناتج المحلي، واليونان 142.8%، وإيطاليا 119%، والبرتغال 93%، وأيرلندا 96.2%، وألمانيا 83.2%، وفرنسا 81.7%، وبريطانيا 80%، وبلجيكا 100%.
 
صحيح أن الاتحاد الأوروبي يحتكم اليوم على ناتج محلي يبلغ إجماليه السنوي 16.2 تريليون دولار، ما يضعه في المرتبة الأولى عالمياً قبل الولايات المتحدة، إلا أن جبل الديون السيادية لا يترك مجالاً لتفعيل دورة النشاط الاقتصادي في اقتصادات بلدانه بكامل طاقتها.
 
ما العمل والحال هذه؟ هل يمكن لاقتصادات العجز والمديونيات التغلب على أزماتها؟
 
كما صار معلوماً فلقد استنفذت هذه الدول كامل “ذخيرة” أدواتها التي تعينها عادةً على “تضبيط” اختلالاتها الاقتصادية. فقد أطلقت دفعات من حزم التنشيط المالي من أجل بث الحياة في اقتصاداتها ومنعها من السقوط في دوامة الركود فكانت النتيجة تزايد جبل الديون. واستخدمت أدوات السياسة النقدية (سعر الصرف وسعر الفائدة أساساً) حتى وصلت أسعار فوائدها البنكية إلى حدها الأدنى، ولم يتبق لديها فسحة للمناورة، لا لدى صنَّاع السياسة المالية ولا لدى صنّاع السياسة النقدية. ولم يتبق أمامها سوى إصدار التطمينات على لسان كبار مسئوليها لتهدئة مخاوف الأسواق، وكذلك رؤساء البنوك المركزية، كما حدث قبل أيام حين سارع 5 بنوك مركزية أوروبية إلى الإعلان عن دعمها للمصارف التجارية الأوروبية المعرضة لخسارة قروضها التي أقرضتها للدول الأوروبية المدينة والمطالبة في ذات الوقت بالمشاركة في ترتيب حزم إنقاذ جديدة للحكومات المعسرة. أضف إلى ذلك بطبيعة الحال القوة العسكرية الضاربة التي طالما استندت إليها في تأمين وتعظيم مصالحها الاقتصادية عبر العالم.
 
ولذلك ليس أمام الطبقات السياسية الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة من سبيل سوى القبول بالواقع المستجد في ميزان القوى الاقتصادية العالمية، حيث فقدت ميزاتها التنافسية أمام “الصاعدين” الجدد – ليس أمامها سوى القيام بعملية إعادة بناء هيكلية يتم من خلهلا التخلي عن اصطناع طبقة وسطى بواسطة الإفراط في الإقراض السهل، والتوقف عن الاعتماد على الإقراض الاستهلاكي لتأمين النمو، والتنازل عن جزء كبير من الدخول المتاحة (Disposable incomes) المحققة للرفاه الاجتماعي، وتوجيه الاستثمار نحو بناء الطاقات التعليمية والمهارية والإبداعية الابتكارية، والاستثمار في البنية التحتية المتقادمة والجديدة وفي الإنتاج والبحث والتطوير (R&D). وهذا يتطلب مزيجاً من سياسات خفض الإنفاق (اتباع سياسة تقشفية رشيدة) وزيادة كفاءة الجباية الضريبية وعوائدها. وعلى أن تكون مثل هذه الإصلاحات بنيوية ومُمأسسة وليس مجرد إجراءات منعزلة كما أعلنت مثلاً اسبانيا قبل أيام من انها تعتزم فرض ضريبة خاصة على العقارات لدافعي الضرائب ممن تبلغ أصولهم 700 ألف يورو (959 ألف دولار) أو أكثر، و”ضريبة الثراء” على 160 ألف من دافعي الضرائب والتي كانت ألغيت في عام 2008.

اقرأ المزيد

الحـل البحريني للأزمـة


استمعتُ منذ ايام قلائل لمداخلة أحد أفراد الفريق العامل في اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، قال فيها إن لدى البحرين من الكفاءات والكوادر البشرية القادرة على أن تضع حلولاً لتداعيات الأزمة التي تمر بها البلاد، أكثر مما يمكن أن يفعله الخبراء الأجانب.
 
وجاء هذا الحديث في سياق عرض لفكرة فحواها أنه من الخطأ تحويل الأمر إلى مجرد شأن تقني، يمكن لشركة أجنبية او خبراء أجانب أن يُقدموا بشأنه المشورة، حتى لو كانت هذه المشورة مفيدة، والصحيح هو أن يُوضع الأمر في سياقه العام، السياسي والاجتماعي، الذي لا يمكن لغير البحرينيين أن يكونوا مُلمين به، وقادرين على حله.
 
والرجل الذي قال هذا الكلام هو الدكتور محمد هلال الأستاذ في جامعة هارفرد الذي عمل على مدار عدة شهور في البحرين ضمن فريق تقصي الحقائق، وهو بنى استنتاجه هذا من خلاصة اللقاءات المتعددة التي أجراها هو وأفراد الفريق مع ممثلي الفعاليات السياسية والاجتماعية في البلد والأفراد الذين التقت بهم اللجنة لسماع شكاواهم أو آرائهم في ما جرى في البلد.
 
واعتدنا أن نسمع الاطراء في كفاءة وقدرات الكوادر البحرينية في مجالات شتى، وهو أمر تستحقه كوادر هذا الشعب الواعي والمتعلم والطموح الى المزيد من الحقوق السياسية والاجتماعية، لكن أن تأتي هذه الشهادة في أمر يتصل بتدابير الخروج من أزمتنا الراهنة، ومن رجل عضو في فريق بات ملماً بالكثير من تعقيداتها بسبب انشغاله المكثف على حيثياتها، فان لذلك أهمية خاصة.
 
هذا يقودنا الى التبصر في حقيقة أن حل الأزمة يجب أن يكون نابعاً في الأساس من الإرادة الوطنية لأهل البحرين أنفسهم، وهذا لا ينفي أن هناك تجارب جديرة بالدراسة والعناية في بلدان مختلفة في العالم مرت بأزمات حادة، ربما تشبه في بعض وجوهها ما مررنا ونمر به، وهذا ما يجري حوله حديث متواتر، ولكن هذا لا يعني أن نتصور أن خبيراً أو خبراء اجانب مهما علت كفاءاتهم وزادت خبراتهم سيكونون أكثر مقدرة منا على معرفة تعقيدات وضعنا وجذور أزمتنا الراهنة وأشكال تجلياتها، ولا تلمس الخصائص الثقافية والروحية لمجتمعنا، كما نستطيع نحن أنفسنا أن نفعل.
 
ما تحتاجه البلد حقيقة هو أن تتوفر لدى الأطراف كافة الرغبة في أن تحل الأزمة حلاً جدياً، لا الاستمرار في إعادة انتاجها أو إطالة أمدها، وهذا الأخير أمر نلمسه في مجالات شتى، فيما المؤكد أن مصلحة البلد الوطنية العليا ومستقبلها تكمن في الخيار الأول الذي يقتضي تنازلات متبادلة وصعبة في الآن ذاته، خاصة وأنه لم يعد جائزاً التصرف كما لو أن البحرين لم تمر بأزمة حادة على كافة الصعد، غير مسبوقة فعلاً لا قولاً، وبالتالي فان الحل المنتظر يجب أن يكون هو الآخر غير مسبوق. يمكن لدروس هذه الأزمة إن جرى استخلاص العبرة الكافية منها أن تشكل قاطرة للبلد نحو المستقبل، وما أكثر الشعوب التي حولت محنها إلى مناسبة تختصر مسارها نحو التقدم بسرعة مضاعفة مرات، فما كان يتعين تحقيقه خلال عقود من التطور الرتيب، يمكن تحقيقه خلال سنوات قليلة.
 

اقرأ المزيد

الانتخابات: مقدمات ونتائج وتوقعات!


قد يكون هناك مَنْ فوجئ بنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، إلا أنّها في حقيقة الأمر كانت نتائج طبيعية ويفترض أن تكون متوقعة وفقا لمقدمات ولمعطيات ولأسباب ولظروف قائمة بالفعل على أرض الواقع الاجتماعي والسياسي الكويتي.
 
فالمعارضة، بغض النظر عن دقّة التسمية وانطباقها على البعض، كان متوقعا أن تحصد مقاعد الأكثرية في المجلس الجديد بعد الحراك الشعبي الواسع الذي أسقط الحكومة السابقة ورئيسها وأدّى إلى حلّ المجلس السابق وإجراء انتخابات نيابية مبكرة…
 
وفي هذا السياق كان من الطبيعي أن يفقد غالبية أعضاء المجلس السابق من المتهمين في فضيحة الإيداعات المليونية مقاعدهم… ولم يكن غريبا أن تفقد النائبات الأربع مقاعدهن على ضوء المواقف البائسة لمعظمهن تجاه عدد من القضايا الرئيسية واصطفافهن مع الحكومة السابقة ورئيسها… وكان متوقعا أن يفقد معظم النواب السابقين من أعضاء “كتلة العمل الوطني” مقاعدهم النيابية على ضوء المواقف المتذبذبة والملتبسة لبعضهم، وإن كان مؤسفا أن يفقد مقعده في هذه الانتخابات نائب سابق متميّز في مواقفه وقربه من نبض الشارع مثل صالح الملا…
 
وكذلك لعلّه من الطبيعي في ظل ازدياد الميل نحو التعصب العنصري وما ترتب عليه من اصطفافات مناطقية وفئوية وقبلية وطائفية أن تأتي النتائج على النحو الذي جاءت عليه… ولا أحسب أنّ هناك أي مفاجأة في ازدياد ثقل مرشحي الأحزاب السياسية الإسلامية من سلف وإخوان في ظل واقعنا الاجتماعي والثقافي السائد، وإذا ما أخذنا بالحسبان الإمكانيات المتاحة لهذه الأحزاب، ناهيك عن الانسجام مع ما يشهده المحيط العربي من ميل ملحوظ نحو التصويت لصالح الأحزاب الإسلامية في تونس ومصر بعد الربيع العربي الذي تحوّل في نتائجه الانتخابية إلى “ربيع إسلامي”… وربما كانت المفاجأة أن تأتي نتائج الانتخابات على خلاف ذلك كله وخارج مثل هذا السياق وبتحييد كامل للمعطيات الواقعية!
 
ولكن العنصر الأهم إنّ الانتخابات في الكويت لا تزال بعيدة عن أن تكون عملية سياسية حقيقية، وإن كانت تتخذ بعض مظاهرها وأشكالها، ذلك أنّ الطابع الفردي لا يزال هو الغالب على العملية الانتخابية، بدءا من قرار الترشيح؛ مرورا بالحملة الانتخابية، وانتهاء بالتصويت الفردي لهذا المرشح أو ذاك… وبالتأكيد فإنّ الطابع الفردي للانتخابات هو انعكاس للنظام الدستوري القاصر؛ وللنظام الانتخابي القائم؛ ولغياب الحياة الحزبية، ما يفقد العملية الانتخابية طابعها السياسي المفترض.
 
وإذا أردنا تقييم نتائج الانتخابات الأخيرة، فيمكن القول إنّها انطوت على ايجابيات محددة وسلبيات عدة… أما في شأن الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد فلن تطوي هذه الانتخابات ومخرجاتها صفحة تلك الأزمة السياسية، مثلما يوهم البعض نفسه، ما دامت الأسباب العميقة للأزمة لما تعالج بعد، إذ إنّها أزمة كامنة وقابلة للانفجار في أي وقت، على هذا النحو أو ذاك، ولهذا السبب أو سواه…
 
وأيضا فإنّ التنافس على منصب رئيس مجلس الأمة محسوم في الغالب ما لم تحدث مفاجآت بقدرة سلطوية، مع التأكيد على أنّ الأزمة السياسية لم تكن “أزمة رئاسة المجلس” مثلما كان البعض يطرح ذلك… وغير هذا لا أحسب أنّ الحكومة الجديدة ستختلف كثيرا عن سابقاتها من الحكومات من حيث نوعية التشكيل وطبيعة السياسات وأسلوب العمل واتخاذ القرار مادام النهج السلطوي ذاته، الذي أوجد تلك الحكومات مستمرا على ما هو عليه لما يتغيّر بعد…
 
وأخيرا، ربما تطول “فترة السماح” أو تقصر، ولكن من المستبعد في ظل موازين القوى الحالية أن تحقق الحكومة المقبلة أيًّا كان شخص رئيسها وأسماء وزرائها أو المجلس الجديد بغالبيته “المعارضة” تغييرا جدّيّا في نهج إدارة الدولة، ذلك أنّ للتغيير شروطه ومتطلباته التي لما تُستكمَل بعد..!
 
عالم اليوم  5 فبراير 2012
 

اقرأ المزيد

ثمار الفوضى الخلاقـة


الفوضى الخلاقة التي بشرت بها الإدارة الأمريكية السابقة لم تعد نهجاً أمريكياً فحسب، وإنما هي نهج تسير على خطاه قوى أخرى، لا يمكن أن تكون بريئة من الشبهات المثارة حولها، ترمي للدفع بالمنطقة في أتون نزاعات طائفية وعرقية تهدد الموزاييك البشري متعدد الانتماءات في منطقتنا، والذي إليه يعود الفضل في الكثير من أوجه الحيوية التي ميزت مجتمعاتنا العربية، فالتعدد والتنوع مبعث الديناميكية، والأحادية قرينة الجمود.
 
 لا يمكن النظر لاستهداف المسيحيين في العراق ومن ثم في مصر بعيداً عن هذا السياق، فالمطلوب إفراغ الشرق العربي من أحد أهم مكوناته، عبر حمل المسيحيين على الهجرة من بلدانهم، ويمكن لنا أن نفترض “سيناريو” مفزعاً لا يقل خطورة، هو حملهم على المطالبة بكيانات خاصة بهم تضمن لهم الحماية .
 
هل هي المصادفة وحدها أن دولة الجنوب السوداني التي نشأت مؤخراً نتيجة الانفصال عن شماله لتصبح دولة مستقلة، هي كيان مسيحي؟
 
هذا سؤال يجب التوقف أمامه، لا للانسياق وراء غواية نظرية المؤامرة، وهو الأمر الأسهل هاهنا لمن يريد ألا يرى الأوجه المتعددة لهذه المسألة، وإنما للتوقف جدياً أمام مسؤولية الثقافة السياسية السائدة عربياً في التعاطي مع ملفات بهذه الخطورة.
 
من مصلحة إسرائيل بالدرجة الأساسية وخلفها قوى كثيرة تريد لهذه المنطقة العربية أن تتفكك إلى مجموعة من الكيانات المذهبية والعرقية، فلا يعود بالوسع التفريق بين المتن والهامش، بين الثابت والطارئ. وبدل أن يجري التصدي لهذا المنهج الشرير، فإن سياسات عربية كثيرة سهلت وتسهل نجاح هذا السيناريو بالتقسيط وعلى دفعات.
 
تعزز ذلك ثقافة سياسية سائدة لا تقيم الاعتبار المطلوب لحقيقة ودور أقليات عدة في عالمنا العربي، بعضها يشاركنا الدين، وبعضها الآخر يشاركنا اللغة، ولكنها مشمولة بمسار التطور الحضاري الجامع لهذه المنطقة، الذي كانت الحضارة العربية الإسلامية واستمرت وعاءه الحاضن. رغم معرفتنا، على سبيل المثال، بأن بعض القيادات في جنوب السودان كان يروق لها خيار الانفصال منذ أمد، ولكن الجنوبيين ذهبوا إلى هذا الخيار تحت ضغط حروب فُرضت عليهم ممن يقررون الأمور في العاصمة السودانية، وتحت ضغط سياسة لم تراع أن السودان لا يقطنه المسلمون وحدهم، من دون التبصر في خطورة نهج كهذا لا يرضاه الإسلام نفسه.
 
وما يقال عن الجنوب يمكن أن يقال، رغم اختلاف الملابسات، عن إقليم دارفور السوداني، ويمكن أن يقال عن كردستان العراق، فلولا تعاقب الأنظمة التي حكمت من بغداد في قمع الأكراد قمعاً دموياً، ومصادرة حقوقهم الثقافية والسياسية عبر حكم ذاتي حقيقي، لما وجدنا إقليمهم اليوم فيما يشبه الكيان المستقل تماماً الذي لا ينقصه سوى الإعتراف الدولي.
 
للأسف الشديد فإن مصير الأوطان يقرن بمصير الحكام، فيصبح الحاكم مستعداً لمقايضة بقائه في الحكم بالتضحية بمصير الوطن، والهروب من حل القضايا الكبرى للأوطان عبر الهش بالعصا على الدهماء المجلوبة للساحات قسراً، لتبارك الخيارات المدمرة، التي تندفع نحوها الأوطان بجنون في غياب القرار الرشيد بمنع الإنزلاق نحو الهاوية.

اقرأ المزيد

هل يمكن الخروج من الأزمة؟


حتى وإن بدا الأفق قاتماً والأبواب موصدة ولا مخرج من الأزمة التي تمر بها البحرين لما يقارب العام، فإن العقل يقول إن «دوام الحال من المحال» وإن عجلة التاريخ لابد وأن تسير للأمام، وإن الشعوب والدول المحتضرة تجد طريقها نحو المصالحة والحوار.
 
لقد عانت البحرين خلال العام الماضي ظروفاً يصعب التغلب عليها أو نسيانها، سقط خلالها أكثر من 60 قتيلاً، ومئات الجرحى، وفصل آلاف من المواطنين من أعمالهم، وفصل مئاتٌ من الطلبة من جامعاتهم، وتم فرض حالة السلامة الوطنية.
 
لقد انقسمت البحرين خلال العام الماضي إلى جزئين، وانقسم البحرينيون إلى قسمين، ولا تزال هناك حالة من توجيه الاتهامات المتبادلة، بعضهم يخوّن الآخر، ويتهمه بمحاولة إلغائه حتى كاد أن يصل الأمر إلى مصادمات بين الطرفين. وشهدت الساحة مصادمات وعنفاً، وتعرضت بعض المنازل لهجوم من قبل مجهولين، في عدد من المناطق مثل المحرق ومدينة حمد ودار كليب، كما تعرض عددٌ من المحال التجارية للتكسير والنهب، وهي أمور نقلتها وكالات الأنباء.
 
وبعد انتهاء مؤتمر الحوار الوطني، عاد العنف والعنف المضاد، وعلق البعض المشانق في الساحات، وبدأت المناوشات تدخل أزقة القرى، وسقط فيها عدد من الضحايا من أعمار مختلفة. وعادت مظاهر الاحتجاج مرة أخرى إلى الشوارع، وأغلقت ممرات القرى، وتعرضت للغازات المسيلة للدموع.
 
فهل يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه؟ ولعل الكثيرين يتساءلون: أليس هناك من مخرج من الأزمة؟
 
للأسف هناك من يقف حجر عثرة أمام أيِّ تقدم أو إصلاح، كما أن هناك من يحاول تضميد الجراح، وإنعاش ما تبقّى من روح في جسد الوحدة الوطنية.
 
ولعلَّ من الإنصاف القول إن على من يقف حجر عثرة في طريق أيِّ إصلاح سياسي أو توجُّه نحو الحل والمصالحة الوطنية، أن يضع برنامجه وتصوُّره للخروج من الأزمة، وأن لا يكتفي بتسفيه كل من يسعى لإعادة اللحمة الوطنية، ووضع العراقيل أمام أي طرف وطني يسعى للحل. فالوحدة الوطنية هي قدر الشعب البحريني الكريم، سواءً تحققت الآن أو بعد سنين، ولكنها لا تحتاج إلى المزيد من الضحايا، فما قدّمه الشعب البحريني من تضحيات مازلنا نعاني آثارها حتى اليوم، وهي تكفي لعشرات السنين المقبلة. ولذلك ليس من شأن هذا الشعب أن يرضي شهوة بعض من يفكرون بالمزيد من الدماء والانتقام والتشفي.
 
وأخيراً… لابد من التأكيد أن المصالحة الوطنية الحقة لا يمكن أن تأتي إلا من خلال المبادئ الإنسانية العامة في الحق والعدل والمساواة، التي تعتمدها كل شعوب ودول العالم. فإن أراد البعض أن يرجع الوحدة الوطنية إلى ما كانت عليه سابقاً فعليه أن يعترف أولاً بحق شريكه الآخر في حرية الرأي والتعبير. وبذلك يمكن أن نتقدم خطوة للأمام في حل الأزمة الراهنة.
 

صحيفة الوسط البحرينية – 07 فبراير 2012م

اقرأ المزيد

بعض الإعلام حين يدفع إلى الانقضاض


يعمل الإعلام حين يكون غير أخلاقي في تعاطيه مع قضايا الناس والأوطان، على الإسهام في تراكم التراجعات والانتكاسات التي تطول كل مناحي الحياة، بدءًا بأسس اللعبة السياسية وليس انتهاء بالاقتصاد والبيئة. نعم البيئة نفسها يطولها أثر التراجع والانتكاس إنْ بشكل أو آخر.
 
يبحث الإعلام النزيه في الأمم المستقرة عمّا يثبّت ويدعم ذلك الاستقرار. يبحث عن الأماكن والمفاصل والبؤر التي لم يقدّر له الوصول إليها. يبحث عن المسكوت عنه من قضايا الناس واحتياجاتهم الأساسية الغائبة أو المغيّبة، والكامن فيها انفجار لن يطول اختباؤه. يعي ضرورة ووطنية دوره في ألا ينتظر حدوثه ومن ثم يشرع في مراحل البحث عن الحلول بعد سلسلة من التنظير الذي لن يقدم ولن يؤخر بعيداً عن المبادرات والفعل على الأرض. يبادر دور وضع كل ذلك بأمانة وتجرّد أمام الضوء. يستقطب خبراء ومحللين ومختصين يقدّمون رؤاهم وحلولهم ومقترحاتهم العملية كي لا يتهدّد ذلك الاستقرار.
 
وفي أمم ومجتمعات ضمن عالمنا وجغرافيتنا، لا يحتاج إعلامها إلى تحسّس أماكن ومواطن وبؤر الخلل تلك. هو في إجازة مفتوحة. ضميره في ذمة الله. يعمد إلى التعتيم على كل ذلك، وتلك هي مهمته؛ بل مهمته الأبرز في هذا الصدد نفي حقيقة أنها موجودة أساساً. إعلام «نفي» لما يراد له أن ينفى. وإعلام إثبات ما هو غير موجود أساساً.
 
ليست الخطورة في هكذا توجّه فحسب. الخطورة تكمن في أن يعمد مثل ذلك الإعلام، وفي لحظات توتر وقلق مركّز ومضاعف إلى استدراج تلك اللحظات لمرحلة الصدام المباشر؛ إما باستفزاز جزء من المكونات في المجتمع وتخوينه من دون نسيان اللازمة المملة التي باتت سخيفة: «الارتباط بأجندات خارجية».
 
يراد لبشر جغرافيتنا أن ينكفئوا على حالات التمييز والتفرقة التي تمارس ضدهم وأن يصمتوا ويغضوا الطرف ويتجاهلوا التفكير في التصريح بها كي يثبتوا وطنيتهم، لحظتها هم مواطنون بالصفة، وغرباء وطارئون على الأرض بالمعنى، إذا تحول الأمر إلى الحديث عن الحقوق على الأرض. وحين يضج ويرتفع صوت أولئك البشر احتجاجاً على ممارسات هنا وهناك؛ سيكون الإعلام متحفزاً… حاضراً لقيادة مكنة التخوين والتسقيط والتبعية إلى الخارج وأجنداته!
 
يسهم مثل ذلك الإعلام في تعميق الكراهية وتوجيهها وارتفاع منسوبها. إعلام كذاك لا يمكن له أن يتحدث عن أخلاقيات المهنة ومواثيق الشرف. بينه وبين الشرف برزخ بامتداد السماوات والأرض. لا يمكن له أن ينبس ببنت شفة ساعة الحديث عن القيم. كانت موضوع وطء لحظة الممارسة. مثل ذلك الإعلام يضرب الأخلاقيات ومواثيق الشرف في مقتل، من دون أن ينسى نجومه من ذوي الابتسامات الصفراء الذين يتبجحون بوسامتهم أمام الكاميرات وعبر الأعمدة التي هي بمثابة أوكار لتفتيت أواصر ولحمة الأمة والأخذ بها إلى حتف أو احتراب لا يعلم مدى خسفه وضحاياه إلا الله. لن ترى بعد ذلك الفعل إلا القبح كل القبح. الوسامة في مهب رياح محصلات ذلك الفعل وما ينتج عنه من غنائم.
 
يأخذك مثل ذلك الإعلام إلى محارق بالجملة أكثر من الأخذ بك إلى عمارة الحياة وبشرها. يأخذ بك إلى ثقافة استسهال وتبرير ألا ترى غيرك ينعم بالحياة في تساوي الحقوق والواجبات. يدفع باتجاه تحويل المجتمعات بمكوناتها إلى كانتونات وحالة مرَضية نصْب عينها الانقضاض. مثل ذلك الإعلام هو في الذروة من إبادة الحياة، وأشد وقعاً من أدوات الإبادة الشاملة.
 
إعلام كذاك، عليه أن يخجل من الكذب على نفسه قبل الكذب على الناس بالحديث عن أخلاقيات المهنة ومواثيق الشرف
 

صحيفة الوسط البحرينية –  06 فبراير 2012م
 

اقرأ المزيد

في مديح القرن العشرين


شهد القرن العشرون حربين عالميتين مدمرتين، وشهد كذلك انبثاق أفكار شمولية قائمة على إقصاء الآخر، لا بل إبادته، من أجل تسويد عرق معين أو فكرة بعينها، كما هو حال النازية.
 
حتى الثورات التي وقفت خلفها أفكار نبيلة تنشد التغيير إلى الأحسن، وغيرت وجه التاريخ، لم تخل هي الأخرى من فظاعات كبرى، سقط فيها ضحايا أبرياء كُثر. ويمكن وضع قائمة طويلة لا نهاية لها من الآثام والموبقات والبشاعات والفظائع التي يمكن أن تنسب إلى القرن الفائت، خاصة أنه أصبح ماضياً.
 
لكن هل بوسعنا نحن أبناء ذلك القرن الذين عشنا الجزء الأكبر من أعمارنا فيه، أن ندير ظهرنا له، ونغفل الصفحات المشرقة الكثيرة فيه. هذا سؤال يراودنا مرات ونحن نستمتع بقراءة كتاب المؤرخ البريطاني ايريك هوبزبوم، الموسوم «عصر مثير»، مع عنوان فرعي هو: «رحلة عمر في القرن العشرين»، وعاش المؤلف أكثر من ثمانين عاماً في ذلك القرن، أي أنه في كلمات رافق مسار قرن بكامله، بما له وبما عليه.
 
ولم يسبق لي أن قرأت مزاوجة بين السيرة الذاتية وبين التاريخ كما يفعل مؤلف هذا الكتاب، الذي عاصر أحداثاً جساماً، وكان من موقعه، كمؤرخ، قريباً منها، لا بل شريكاً فيها، كونه كان وثيق الصلة بالحركة العمالية والديمقراطية لا في بلاده بريطانيا وحدها، وإنما في بلدان أوروبية أخرى.
 
مصدر قوة هذا الكتاب ومحور الجذب والتشويق فيه ناجم عن هذه المزاوجة، فلربما لا تعنينا كثيراً تفاصيل حياة الرجل، ولكنها أصبحت تعنينا حين قارناها بمجريات العصر المثير الذي عاشه.
 
في تقديرنا إن القرن العشرين، على ما فيه من بلاوٍ وكوارث، كان قرن الأمل، قرن الأفكار الكبرى والثورات التي غيرت مجرى التاريخ، لا في السياسة وحدها، وإنما في الثقافة والفلسفة والعلوم وغير ذلك.
 
بدت نهاية القرن كأنها انتقاماً من بداياته المفعمة بالتفاؤل، فبدت الكثير من الأحلام وقد أَفَلَتْ، لتسود الكوكب نزعة رجعية معادية لحرية الإنسان وتوقه إلى أن تكون دنياه أجمل، وأن تنتهي المظالم وأشكال الاضطهاد.
 
وبوسع القارئ العربي للكتاب أن يطرح على نفسه سؤالأ فحواه التالي: لو أن أحد كُتابنا العرب ممن عاشوا حياة ممتدة في القرن العشرين أن يكتب سيرة هذا القرن كما تجلت في بلداننا العربية، أكان سيخلص إلى النتيجة نفسها التي خلص اليها مؤلف الكتاب سالف الذكر أعلاه؟
 
أذكر أن إحدى الصحف الخليجية قدمت على مدار شهر كامل في نهاية القرن العشرين عدداً من الملفات التي كتبها مفكرون وسياسيون ومثقفون عرب من مختلف البلدان العربية عن انطباعاتهم عن ذلك القرن، خلص فيها الكثيرون منهم إلى أن شحنة الأمل في بداياته كانت أقوى وأكثر زخماً.
 
ويبقى السؤال: هل كان بإمكان تاريخنا نحن الذين عشنا في القرن العشرين، أن يتخذ منحى آخر غير الذي آل إليه، وهو، كما يذهب المؤلف عن حق، ليس سؤالاً عن الماضي بل عن الحاضر، حيث يتعين علينا ألا نكف عن الأمل والعمل في سبيله، فالعالم لن يتغير من تلقاء ذاته.
 

اقرأ المزيد

الحل في التسوية التاريخيـة


يوحد أهل البحرين تاريخ مشترك من الكفاح في سبيل الحرية والعدالة، قبل أن تتسيد المحاولات التي أعادت فرز المجتمع على أسس مدمرة، خالقة الوهم لدى أفراد هذه الطائفة أو تلك بأن الخطر الذي يتهددها آت من الطائفة الأخرى، مما يدفع الجميع إلى التخندق داخل شرنقة طائفته بدل الانصهار في البوتقة الوطنية الشاملة.
 
المخرج من الوضع الراهن لن يكون إلا مخرجاً وطنياً، بمعنى أنه مخرج متوافق عليه بين مكونات المجتمع البحريني المتعددة، وأن ينبني هذا المخرج على الاستجابة للمطالبات بالإصلاح السياسي وتأمين شروط حياة أفضل للمواطنين.
 
وعند تقييم الوضع الناشئ في البحرين اليوم يتعين رؤية الموضوع من زواياه المختلفة، لا من زاوية واحدة فقط، ومن ذلك أن ننتبه إلى مخاطر الاستقطاب الطائفي المتصاعد في المجتمع، ومخاطر ذلك على النسيج الوطني في البلاد، ومستقبل العيش المشترك فيها.
 
والخبرة السياسية المستخلصة من تاريخ البحرين الحديث تشير إلى أنه لتحقيق أي مطلب من المطالب، لا بد من تأمين التوافق الوطني عليه، فالسنة مثل الشيعة حريصون على أن تتطور بلادهم وتتقدم سياسياً، والمطلوب اليوم حالة وطنية عامة تعكس المزاج المشترك للمجتمع البحريني بمكوناته المختلفة، وبما يؤكد الطابع المتنوع للشعب البحريني، ليس من وجهة النظر المذهبية فقط، وإنما أيضاً من وجهة نظر التنوع السياسي والفكري والاجتماعي.
 
ومن هنا ننظر بايجابية إلى أي مسعى يشمل الفاعلين في الحراك القائم اليوم من مواقعهم المختلفة، من أجل إخراج البلاد من حال التوتر السياسي الراهن، وعدم السماح لحال الاستقطاب الطائفي بأن تستفحل أكثر، وتهدد ما بنته وضحّت في سبيله أجيال من البحرينيين على مدار عقود طويلة، وان يستلهم مما نجحت الحركة الوطنية في خمسينات القرن الماضي فيه حين وحدت الشعب، في إطار وطني شامل من أجل الاستقلال والحرية وإطلاق الحريات العامة والمشاركة السياسية، وعلى هذا الدرب المشترك سارت التنظيمات التي قادت شعب البحرين في نضاله على مدار عقود.
 
لم يستمر الأمر على هذا المنوال في العقدين الماضيين، فأمام انفجار الهويات المذهبية في غير مكان من محيطنا العربي والإسلامي، اندفعت نحو صدارة المشهد السياسي قوى تنحصر صفتها التمثيلية في إطار هذا المذهب أو ذاك، وبهت الخطاب الموحد أمام سطوة الخطابات الناطقة باسم الطوائف. لكن جوهر القضية في البحرين هو جوهر وطني بامتياز، فليس طلب الإصلاح والعدالة الاجتماعية أمراً خاصاً بأحد وحده.
 
كل أهل البحرين يتطلعون إلى أن يروا في بلادهم مقادير أكبر من المشاركة السياسية ومن الحريات الديمقراطية ومن العدالة في توزيع الثروات، وخطيئة أن تجري تزييف مطالب الإصلاح بإضفاء الطابع المذهبي عليها، والهروب من خيار الإصلاح المستحق بدفع الأمور نحو الاصطفافات الطائفية. وكما في كل مناسبة يجري التطلع إلى أية آلية جدية للحوار كمخرج واقعي سليم من الوضع المأزوم بالاتفاق على جدولة زمنية لأجندة الإصلاحات المطلوبة، كي يفضي إلى ما نريد أن نسميه تسوية تاريخية قابلة للعيش طويلاً، تؤمن للبلد استقراره وأمنه والتنمية المتوازنة فيه، وتنتشل البلد من وضعه الراهن الذي لم يعد من الصالح الوطني العام أن يستمر أكثر مما استمر.

اقرأ المزيد

إحباط لجنة تقصي الحقائق وتنفيذ التوصيات


زيارة الوفد الذي يمثل اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، وما صرح به رئيس اللجنة البروفيسور محمود شريف بسيوني في عدد من المقابلات في وقت سابق، يشي بأن اللجنة التي تشكلت بأمر ملكي ليست راضيةً عمّا تم تنفيذه حتى الآن من توصيات عكفت على مدى أكثر من ثلاثة أشهر على صياغتها لتخرج البحرين من الوضع المتأزم الذي أدى إلى أحداث فبراير ومارس الماضيين.
 
هذه الزيارة التي سيتم خلالها الاجتماع بمختلف المؤسسات الرسمية والأهلية تأتي بغرض «التعرف على أرض الواقع لما تم تنفيذه من التوصيات، وجمع المعلومات وتحليلها لعرضها على رئيس اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق البروفيسور محمود شريف بسيوني»، كما أشار الوفد في لقائه مع رئيس اللجنة الوطنية لتنفيذ توصيات اللجنة علي صالح الصالح.
 
ورغم أن الوفد يؤكد أن اللجنة «تعمّدت أن تبتعد عن التدخل في خصوصية مملكة البحرين، لذا جاءت توصياتها مرنةً بالشكل الذي يسمح لحكومة مملكة البحرين بتنفيذها بما يتوافق مع المعايير الدولية المعروفة»، إلا أن ما أثار حفيظة بسيوني هو أن البحرين لم تستفد من هذا التقرير أو التوصيات وكأنه لم يكن.
 
لجنة تقصي الحقائق أوصت في التقرير الذي أصدرته في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي بما يقارب من 30 توصية بعضها يتعلق بأمور إجرائية، والبعض الآخر بتعديلات تشريعية لم يتحقق منها بعد مرور أكثر من شهرين غير ثلاث أو أربع توصيات، ولم تكن بشكل كامل، وما تم لا يتعدى تعهدات حكومية بالنظر في كيفية تحقيق التوصيات وتكليف خبراء قانونيين دوليين لوضع تصورات لتنفيذ هذه التوصيات.
فالحكومة حتى الآن لم تضع جدولاً زمنياً لتنفيذ التوصيات الواردة في التقرير، كما أنها لم تنفذ ما جاء في الفقرة رقم 1722(أ) والخاصة بالقيام بتحقيقات فاعلة في حوادث القتل المنسوبة لقوات الأمن وتحديد المسئولين عنها، باستثناء تقديم 5 من رجال الشرطة إلى المحاكمة المدنية بعد تبرئتهم من المحكمة العسكرية بتهمة قتل اثنين من الموقوفين على رغم أن النائب العام علي البوعينين ذكر أن النيابة العامة تسلّمت 113 قضية بتهم التعذيب تضم 62 متهماً.
 
كما لم تقم الحكومة بتنفيذ التوصية الخاصة بالتحقيق في جميع دعاوى التعذيب من قبل هيئة مستقلة. ولم تقم بإلغاء أو تخفيف جميع الأحكام الصادرة بالإدانة على الأشخاص المتهمين بجرائم تتعلق بحرية التعبير السياسي والتي لا تتضمن تحريضاً على العنف كما جاء في التوصية رقم 1722(ح). ولم تقم حتى الآن بتعويض عائلات الضحايا المتوفين بما يتلاءم مع جسامة الضرر وتعويض كل ضحايا التعذيب وسوء المعاملة.
 
ولم تخفف الرقابة على وسائل الإعلام والسماح للمعارضة باستخدام أكبر للبث التلفزيوني والإذاعي والإعلام المقروء، والأهم من كل ذلك فإنها حتى الآن لم تطرح برنامجاً للمصالحة الوطنية يتناول مظالم المجموعات التي تعتقد أنها تعاني من الحرمان من المساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بغية أن تعم الفائدة منها على كافة طوائف الشعب البحريني كما جاء في التوصية رقم 1725 (ب).
 
كل ذلك أدى إلى طرح تساؤلات حول مدى جدية الحكومة في تنفيذ التوصيات التي خرجت بها اللجنة.
 
صحيحٌ أن مهمة اللجنة انتهت بمجرد تقديمها التقرير في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ولكن المسئولية الأدبية للجنة لن تنتهي عند ذلك، وخصوصاً أن الهدف الأساسي من تشكيلها هو معرفة ما حدث بالضبط، والأسباب التي أدت لذلك، وعدم تكرار المأساة مرةً أخرى.
 

صحيفة الوسط البحرينية – 03 فبراير 2012م
 

اقرأ المزيد

هل ثورة تونس اصبحت ضد حرية الرأي؟


الناقد جابر عصفور كتب بحثا عن الأصولية يقول فيه: تتحول الأصولية الى نزعة قمعية خالصة لا تتردد في ممارسة العنف على خصومها عندما تعمل في حماية أو خدمة دولة تسلطية تمارس العنف نفسه على كل المستويات، عندئذ تغدو الأصولية الوجه الفكري لهذه الدولة بالقدر الذي تحول به الفكر الأصولي في فعل ممارسته الى أداة من أدوات الدولة القمعية التي تمنحه شرعية الوجود ومبرر البقاء، ذلك ما حدث للأصولية القومية والأصولية الدينية على مستويات الممارسة المختلفة سواء بواسطة الأفراد الذين ينقلبون بالمعتقد النظري إلى دغما عملية أو بواسطة الدولة التسلطية التي نعاني نماذجه في العالم الثالث أو بواسطة المجموعات المتطرفة الموازية لسلطة الدولة والمعادية لها في آن.
 
حقيقة هذا الكلام يجرنا الى تجربة الثورات في دول «الربيع العربي» كالحال في تونس مثلا التي استلم فيها التيار الديني السلطة بعد ما يسمى “بثورة الياسمين منذ قيام الثورة التونسية” و”التوانسه” تتملكهم مخاوف شديدة لا تنقطع حول افاق الدولة التونسية الحديثة وابرز هذه المخاوف مدى التزام هذا التيار بشروط تأسيس الدولة الديمقراطية المعاصرة التي تحترم حقوق الانسان وحرياته.
 
نعم هناك مخاوف وهواجس وتساؤلات كثيرة من قبل الشارع التونسي الذي يطالب المجلس التأسيسي أو بالأحرى التيار الاسلامي الذي حظي بنصيب الاسد في الانتخابات البرلمانية بضرورة تأسيس تلك الدولة وفق الشروط والمبادئ الديمقراطية اهمها واساسها حرية الرأي والتعددية وحقوق المرأة.
 
ومن بين هذه الهواجس مصادرة حرية الرأي والتعبير وبالتالي ما جرى في القناة «بسمه» الفضائية التي تجري الآن محاكمتها بحجة تعكير الصفو العام وذلك لعرضها فلم «كارتون» يعتقد انه يمس «الذات الالهية» دليل واضح على ذلك والاخطر من ذلك اذا كان الهدف من تلك المحاكمات تصفية حسابات باسم الدين وكذلك تكميم الافواه وتقييد الاصوات الليبرالية واليسارية والتقدمية التي رفضت ولا تزال ان تمضي تونس بعد عقود من النضال من اجل الديمقراطية وحقوق الانسان في نفق التزمت الديني المظلم الذي بدأت عتمته بسلب حرية الرأي او قمعها او كما سبق واشرنا فان القيود على الحريات يجعل الغد أكثر ظلمة، وبالتالي فان هذه القيود التي فرضت على هذه القناة التنويرية لم يأت من فراغ وانما من منهجية فكرية ايديولوجية يسودها الشك وانتهاك الرأي الآخر!! وعلى هذا الأساس، فلا عجب عندما تمنع المحكمة المصورين والاعلاميين الذين جاءوا ليغطوا وقائع محاكمة نبيل القروي مدير القناة بدعوى الاساءة الى المعتقدات والاخلاق، والادهى من ذلك لقد هددت بعض الجماعات الاسلامية المحسوبة على التيار السلفي باستباحة دم «القروي» وكذلك افراد اسرته ولم تتردد تلك الجماعات لحظة واحدة في الاعتداء على مظاهرة التضامن التي خرجت امام المحكمة لتعلن تضامنها مع تلك القناة المذكورة ومع مديرها تحديدا.  ومن الشخصيات الليبرالية التي تم الاعتداء عليها عضو المجلس التأسيس السينمائية سلمي بكار والقانوني عبدالحليم مسعود وغيرهم من الكتاب والسياسيين ونشطاء في مجال حقوق الانسان!!
 
كل هذا العنف وكل هذه الانتهاكات لحرية الرأي والتعبير حدثت في قاعة المحكمة وفي خارجها دون ان يحرك الامن ساكنا بمضي حينما تم الاعتداء على المتظاهرين لم يتدخل الامن المتواجد وقتذاك اطلاقا وهذا ما يدفع الى عدة تساؤلات: هل الامن متواطئ مع المعتدين؟ لماذا تصادر الحقوق في تونس الثورة؟ واذا كانت هذه المصادرة تشكل نقطة البداية في طريق الاستبداد والقمع فمن الطبيعي ان يتوجس الرأي الآخر من الغد الذي قد يشهد محاكمات لحرية الرأي وللأعمال الادبية والفنية على غرار محاكمات التفتيش في القرون الوسطى؟! ولا شك ان هذه الممارسات اللاديمقراطية تشغل بال القوى الديمقراطية والتقدمية التونسية التي تطمح الى دولة مدنية تعددية اساسها وجوهرها فصل الدين عن الدولة وعن السياسة وكذلك الحال بالنسبة لليبيا ومصر والمغرب الواقعة في قبضة الاسلام السياسي الذي منذ نشأته لجأ الى العنف وتكفير وتخوين الرأي المختلف!!
 
خلاصة القول لا يمكن لاحد ان يشكك في ثورة الشباب في تونس وغيرها من دول «الربيع العربي» التي دحرت الانظمة الاستبدادية ومع ذلك ستظل المخاوف واردة طالما هناك من يميل في تلك الدول الى تقييد الحريات، وهذا كما قلنا سلفا – يطرح مجموعة من الاسئلة اهمها ما يدور في الاوساط الوطنية والديمقراطية: هل ثورة تونس اصبحت ضد حرية الرأي؟!
 
الأيام 4 فبراير 2012

اقرأ المزيد