المنشور

«المنامة عاصمة الثقافة العربية»… ثُمّ (2)

تلقيت بالأمس رداً من سفير الإعلاميين الشباب العرب هيثم يوسف حول مقالي
الأخير بشأن اختيار الملتقى للمنامة «عاصمة للصحافة العربية 2012»، وعملاً
بحق الرد أورد رسالته نصاً، وبعدها سأرد على ما جاء فيها موضحاً موقفي من
هذا الاختيار الذي ثبت فعلاً أنه لم يكن الاختيار الأفضل، بدليل أن البحرين
وهيئة شئون الإعلام ليس فقط لم تقم بما يترتب عليها من اختيارها «عاصمة
للصحافة العربية»، وإنّما لم تكلف نفسها بالرد لا على الرسائل التي بعث بها
القائمون على الملتقى، ولا على المقال الذي كتبته حول ذلك. وفيما يلي نص
الرد الذي استلمته من الأخ هيثم يوسف:

الأخ جميل المحاري

في
البداية أشكركم على اهتمامكم ونشركم رسالتنا في صحيفة «الوسط» البحرينية –
العدد 3601 – الثلاثاء 17 يوليو 2012. وانطلاقاً من أهمية عملنا الإعلامي
ورسالتنا الإعلامية العربية أحببت التواصل مع حضرتكم من منطلق حق الرد.
نحن في رسالتنا التي أرسلناها للزملاء لم نأسف لاختيارنا المنامة عاصمة
الصحافة العربية لعام 2012 وقرارنا جاء بناءً على معايير تاريخية تم ذكرها
وقت الإعلان الرسمي في شهر ديسمبر 2012 في الأردن، ونحن متمسكون بقرارنا
ولكن نحن انتقدنا هيئة شئون الإعلام وإهمالها للأنشطة التي كان من المفترض
أن نقوم بها في مملكة البحرين ولكل الزملاء البحرينيين بغض النظر عن
المذاهب. فنحن جهة محايدة ورفضنا أن نكون طرفاً ضد طرف وأطلقنا في تموز
(يوليو) 2011 رسالة البحرين قلب واحد وهي دعوة لكلا الطرفين للجلوس
والحوار. ليس لنا مكاسب مالية ولم تدفع حكومة البحرين أي مبلغ لجيوبنا
الخاصة أو تحت الطاولة، وهذا الكلام أنا مسئول عنه كوني رئيس ملتقى
الإعلاميين الشباب العرب والمؤسس.

أخي الحبيب لا أعتقد أن هناك منظمة
أو مؤسسة ترسل توضيحاً للصحافيين وتحمل الحكومة مسئولية التعاون وتدين عدم
التزامها بالاتفاقيات، نحن لم نأخذ مالاً أو مكاسب أو هدايا من حكومة
مملكة البحرين.

ولدينا قوة أن ندين الحكومة البحرينية المضيفة لنا في
حال تقصيرها أو أي جهة كانت، هذا هو ملتقى الإعلاميين الشباب العرب الذي
لا يبيع جوائزه ولا يبيع عواصم الصحافة العربية ونحافظ على سمعتنا أمام
المجتمع الإعلامي العربي الصادق والمحايد.

لقد أسست ملتقى الإعلاميين
الشباب العرب ومضى على تأسيسه 5 أعوام كرد فعل على الملتقيات والمؤتمرات
ومراكز توزيع الجوائز العربية التي تبيع الجوائز وتغلب عليها الطابع
السياسي.

نتمنى لصحيفة «الوسط» كل التوفيق ولكم كل المحبة والاحترام، آملين أن نبقى على تواصل من أجل رسالة إعلامية صادقة.

هيثم يوسف

سفير الإعلاميين الشباب العرب (انتهى نص الرسالة)

بداية
أود التأكيد أنني لست ضد اختيار المنامة عاصمةً للصحافة العربية، وكنت
سأفخر بذلك لو كان هذا الاختيار قد جاء قبل سنتين من الآن، حينما كانت جميع
الأقلام تحمل هم الوطن، ولا تحمل الوطن همومها الطائفية.

في المقال
الأخير لم أتهم ملتقى الإعلاميين الشباب العرب بالحصول على أي أموال أو
هدايا لاختيار المنامة، كما لم أطلب من الملتقى أن يكون مع طرف ضد آخر،
وإنما طلبت أن يكون موقفه داعماً لحرية الصحافة والصحافيين في البحرين،
وهذا الأمر لا يستقيم مع اختيار المنامة عاصمة للثقافة العربية في ظل
التضييق على الصحافيين وعدم السماح لهم بالتعبير بحرية عن آرائهم، في ظل
فصل أكثر من 120 صحافيّاً وعاملاً في مجال الصحافة والإعلام لمجرد انتمائهم
إلى طائفة معينة، لم يرجع منهم أحد إلى عمله حتى الآن رغم توصية اللجنة
البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق بإرجاع جميع المفصولين إلى أعمالهم.

ما
أزعجني هو اختيار المنامة عاصمة للصحافة العربية حين كانت أغلب الأقلام
تقطر كرهاً، وحين كانت تتهم الآخرين بالخيانة لوطنهم، وحين كانت تدعو
للفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وحين استخدمت أقذع الكلمات والأوصاف التي
وصلت لحد السب العلني – ومازالت – ضد كل من يخالفها الرأي. أليس من المؤسف
أن يتم اختيار المنامة عاصمة للصحافة العربية في ظل هذه الظروف وكأن
الملتقى يكافئ هذه الأقلام؟

وسؤالي للأخ هيثم: ألم تستغرب من عدم نشر
رسالتكم إلا في صحيفة «الوسط» رغم وجود عشرات الصحافيين الذين بعثتم لهم
بالرسالة نفسها، وهل يجوز ذلك في عاصمة الصحافة العربية؟

جميل المحاري

صحيفة الوسط البحرينية

اقرأ المزيد

الربيع بمذاق سوداني

تُكرر
سلطات السودان خطيئة نظيرات لها في بلدان عربية أطاحت شعوبها أنظمتها، حين
تصف الجموع المتظاهرة في شوارع الخرطوم وسواها من مدن سودانية مطالبين
بالعدالة وبلقمة العيش الكريمة، بالرعاع وشذاذ الآفاق والخونة والعملاء، من
دون أن تنسى القول إن السودان ليست مصر ولا تونس . لعلنا، في هذا المقام،
نتذكر أنه عندما اندلعت ثورة 25 يناير في مصر مستوحية النموذج التونسي،
قالت أجهزة الإعلام المصرية الرسمية إن مصر ليست تونس، وما حدث فيها لن
يحدث عندنا، ولكنه، رغم ذلك، حدث .

الأمر
نفسه قاله معمر القذافي الذي ظل يزعق: “من أنتم؟”، مكيلاً الشتائم إلى
أبناء شعبه واصفاً إياهم بالجرذان والحشرات، وشيء مشابه قِيل في اليمن،
وهاهو عمر البشير، يهش على المريدين بعصاه وهو يهدد ويتوعد، قائلاً: إن ما
يجري في بلاده لا علاقة له بالربيع العربي .

ولكن،
إنصافاً للتاريخ، يتعين القول إن الربيع السوداني سبق “الأَرْبِعَة
العربية” كلها، حين أسقط السودانيون في انتفاضة سلمية حُكم جعفر النميري
الذي سبق أن علق على المشانق خيرة أبناء السودان وأذكاهم، وأقاموا حكومة
ديمقراطية، لكن ثنائي حسن الترابي وعمر البشير أسقطاها بانقلاب عسكري، ذهب
بما اختاره أبناء السودان وبناتها . ولولا هذا الانقلاب، كان سيقُيض
للعملية الديمقراطية التي أطلقتها انتفاضة السودانيين على حكم النميري، أن
ترسخ قاعدة  للتداول السلمي للحكم،
وأن تُجنب البلاد الكثير من المآلات الدامية التي قادتها إليها هذه
السلطة، من حروب أهلية، أفضت في ما أفضت اليه، إلى تقسيم السودان إلى
دولتين، وما زالت مخاطر الانفصال تهدد أقاليم أخرى في ما تبقى من  الدولة السودانية بعد انفصال الجنوب عنها، ناهيك عن التوترات وحالات الكر والفر على الحدود بين دولة الشمال ودولة الجنوب .

ربيع
السودان لم يأتِ متاخراً، لأنه، في العمق، امتداد لربيع سابق تم إجهاضه من
قبل القوى التي اتخذت من الإسلام عباءة لها، وعلى خلاف ما يقال الآن في
أكثر من مكان عن أن التيارات الإسلاموية لم تمنح فرصتها في تسلم السلطة في
العالم العربي من قبل، فإن القاعدة الإيديولوجية للحكم السوداني الراهن هي
قاعدة “إسلاموية” بامتياز، وقد اختبرت في الممارسة بما يكفي ويزيد من
الوقت، وكانت الحصيلة علقماً مراً، ولعل هذا ما يفسر، إلى حدود كبيرة، كيف
ألا تحظى انتفاضة السودانيين الحالية بما هي أهل له من احتضان ودعم من
القوى التي استوت إلى الحكم في الآونة الأخيرة، بعد انتفاضات وثورات صنعتها
الشعوب، وقطف ثمرتها من التحقوا بها متأخرين، في واحدة من المفارقات
العربية .
السودانيون
يضعون بصمتهم في التحولات الجارية في العالم العربي، وهي بصمة خاصة،
مختلفة، من خلال ربيعهم ذي المذاق المختلف، لا في مسميات أيام جمع الاحتجاج
التي برعوا في اختيارها، وإنما، في الأساس، لأنهم يوجهون رسالة تحذيرية
إلى الشعوب العربية الأخرى بألا تسمح بتكرار نموذج الحكم السوداني الراهن
المعجون من الصلصال ذاته الذي عجنت منه القوى التي استوت، أو تتهيأ
للاستواء، على كراسي الحكم في البلدان العربية التي طالتها وتطالها
التغييرات، عبر فرض الآليات الديمقراطية التي تفتح لهذه الشعوب آفاق
التغيير المستقبلي وتمنع “تأبيد” المكوث على الكرسي .

اقرأ المزيد

مانديلا… نضال من أجل الحرية لا العبودية

يحتفل الزعيم التاريخي لجنوب إفريقيا نلسون مانديلا ( اليوم) الاربعاء
بعيد ميلاده الـ 94 بعيداً عن الأضواء، كما اعتاد منذ سنوات، بحسب وكالة
الأنباء الألمانية.

ومبادئ مانديلا من أجل الحرية والنضال مازالت حية
باقية عند الشعوب التواقة للحرية الغائبة، ولاسيما في بلدان المنطقة
العربية التي تشهد ثورات واحتجاجات شعبية منذ العام 2011 وحتى اليوم، من
الخليج إلى المحيط.

زمن مانديلا لم يغب عن أذهان من آمنوا بنضاله
الطويل ضد العنصرية البغيضة في جنوب إفريقيا والتاريخ الإنساني الذي يحفل
بكثير من التجارب من أجل الحرية. هذا الشعار الذي ألهم الكثيرين من أبناء
شعوب العالم للنهوض والتحرك من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية.

وما
تشهده الساحة العربية من متغيرات وتحول نوعي هو نتيجة لتراكمات تاريخية
بسبب تفاقم الظلم والتمييز والفساد، ولا شك أن المرحلة الحالية حملت معها
ملامح جديدة لصحوة أعادت من جديد التذكير بمبادئ الإنسان في الحرية
والمساواة. ولو رجعنا إلى صفحات ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى العام 1917
التي فجّرها لينين كصحيفة «البرافدا» (الحقيقة) الروسية ونشرة «الشرارة»
الثورية التي كانت تسلح الجماهير الكادحة بالفكر الثوري ضد القياصرة الذين
كانوا يحكمون روسيا بالحديد والنار. تلك الصحيفة وتلك النشرة كانتا بمثابة
انترنت وشبكة تواصل اجتماعي في ذلك الوقت، إضافة إلى أن الساحة الحمراء في
قلب موسكو كانت قبلة الجماهير الثائرة على الظلم والاضطهاد.

واليوم
ها نحن نرى التاريخ يعيد نفسه في الميادين على امتداد الوطن العربي، الذي
اكتظ بدماء الشهداء والجرحى من مختلف الأعمار، رجالاً ونساءً وأطفالاً.

مانديلا
هو جزء من نضال الشعوب التواقة للحرية ضد العنصرية والظلم، وهو ملهم رئيسي
للشباب العربي في صرخاته وصولاته في الشوارع العربية، فبقوة الأمل انتصر
مانديلا على العنصرية، وبقوة الأمل أصبح للشعوب العربية مسار آخر لتحقيق
حريتها.

لقد كتب مانديلا عن نضاله مع الحرية قائلا: «إن الحرية لا
تقبل التجزئة، لأن القيود التي تكبل شخصاً واحداً في بلادي إنما هي قيود
تكبل أبناء وطني أجمعين. وإن المتأمل في تاريخ البشرية، المنقب في تراثها
الغني، الباحث عن جوهر التاريخ ودروسه، لابد وأن يستوقفه مدى الظلم والحيف
والجشع الذي يلطخ تاريخ البشرية عبر مسارها الطويل، ذلك الجزء من التاريخ
الذي صنعه الطغاة والعنصريون، مستندين إلى شهوة الدم والقتل، مستمدين
شريعتهم من الجيوش والآلات والسجون، رافعين سلاح الشر والباطل والبطش
والقتل والاستبداد، ليقتلوا قيم الحرية والعدالة والمساواة».

شوارعنا
العربية مليئة بالقصص والأحداث، التي تتكلم عن الحرية الغائبة في مفهوم
أنظمتنا السياسية التي لا تعرف إلا لغة القمع والتمييز ضد من يطالب بحقه
كإنسان، لأن قيمة الإنسان الحقيقية هي حريته.

أبطال الميادين
والساحات العربية كثر، وهم في ازدياد، منذ أن هبت رياح الربيع العربي، فمن
فاتسلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا السابقة وثورات أميركا اللاتينية جمعيها،
وقبلهم غاندي وغيره من عظماء التاريخ. أما نلسون مانديلا، زهرة ربيع
إفريقيا السوداء، فقد أصبح زهرة لكل ربيع في كل أنحاء العالم، واحتفالنا
بيوم مانديلا هو احتفال بيوم من أيام الكرامة. ولا ننسى أن مانديلا توج
أعظم مثالٍ عن صراع الإنسان ونضاله من أجل الحرية، بعد نضال دام نصف قرن،
أمضى منها سبعة وعشرين عاماً داخل السجن، ليزيح واحدةً من أسوأ النقط
السوداء التي لطخت تاريخ البشرية، في نظام التفرقة العنصرية الذي حكم جنوب
إفريقيا لمدة ثلاثة قرون.

ريم خليفة

صحيفة الوسط البحرينية

اقرأ المزيد

«المنامة عاصمة للصحافة العربية»… ثُمَّ؟!

عندما أعلن ملتقى الإعلاميين الشباب العرب اختيار «المنامة عاصمة
الصحافة العربية 2012»، وبدأت فعاليات الملتقى في البحرين في شهر فبراير/
شباط الماضي، كتبت حينها أن «الصحافة البحرينية ومنذ نشأتها في العام 1939
لم تشهد أسوأ من هذه المرحلة، إذ لم تشهد الصحافة البحرينية تدنياً في
الخطاب على مدى تاريخها الطويل كما هو حاصل الآن».

وكان من المحيّر
فعلاً كيف يتم اختيار المنامة عاصمة للصحافة العربية في هذا الوقت بالذات،
حين تم فصل عددٍ كبيرٍ من العاملين في مجال الصحافة والإعلام وتكبيل
الآراء، ولكن يبدو أن هناك من أراد أن يربط اسم البحرين بأية فعالية دولية
أو عربية وبأي ثمن كان. ولذلك تم الإعلان عن «المنامة عاصمة الثقافة
العربية للعام 2012»، وأنها «عاصمة للصحافة العربية» و«المنامة عاصمة
السياحة العربية».

بعد انتهاء فعاليات ملتقى الإعلاميين الشباب العرب
الذي استمر لمدة ثلاثة أيام فقط، لم نسمع أو نر ما يشير إلى أن المنامة
عاصمة للثقافة العربية للعام 2012، فلا ندوات ولا مؤتمرات نظمت بهذا
الخصوص، ولا ورش عمل ولا دورات تدريبية ولا حتى لقاءات بين المسئولين
البحرينيين والقائمين على الملتقى.

ولذلك لم أستغرب كثيراً عندما
وجدت أمس في البريد الإلكتروني رسالةً من ملتقى الإعلاميين الشباب العرب،
تأسف لهذا الاختيار الذي لم يدرس بشكل جدي، جاء فيها: «الزملاء الكرام: بعد
انتهاء فعاليات ملتقى الإعلاميين الشباب العرب ومنحنا المنامة عاصمة
الصحافة العربية، تلقينا العديد من الرسائل التي تستفسر عن خططنا والتي
تحدّثنا عنها في وسائل الإعلام البحرينية والعربية، ولكي نكون واضحين أمام
الجميع قرّرنا أن نضعكم في الصورة، لكي نحافظ على ملتقانا ووعدنا لكم
وأمانة أن تكون المنامة عاصمة الصحافة العربية.

لقد راسلنا (الجهات
المعنية) بعد انتهاء ملتقى الإعلاميين الشباب العرب، ولكن للأسف إلى الآن
لم نجد أي رد على أي مقترح قدمناه، ولم يتم تنفيذ الدورة التدريبية المخصصة
للمراسلين والتي أعلن عنها بشراكتنا وأعلنت عنها في الصحف البحرينية ولم
نسمع عنها.

لقد خاطبنا المعنيين في البحرين ولم نتلق أي اتصال أو
رسالة، كان من المفترض نقل جميع فعالياتنا السنوية إلى مملكة البحرين من
دورات تدريبية وندوات لتفعيل المنامة عاصمة الصحافة العربية، وللأسف لم نجد
بعد مغادرتنا مملكة البحرين أي صوت أو أي رغبة في تنفيذ العديد من الأنشطة
إلى نهاية العام 2012».

لقد حصلت المنامة على لقب «عاصمة للصحافة العربية»، بوعود لم يتحقق منها شيء، وستظل كذلك حتى نهاية العام ولن تحقق شيئاً سوى الاسم.

جميل المحاري

صحيفة الوسط البحرينية

اقرأ المزيد

التاريخ الصافي والتاريخ المونتاج

ما زلنا شهوداً على مجريات وتداعيات ما اعتدنا وصفه بالربيع العربي، ورغم ذلك فإننا بصدد روايات متعددة، لما جرى ويجري، هذا ونحن لمانزل نقع في الحاضر، فما يدور حولنا  لم يصبح ماضياً بعد، رغم أن الأحداث التي نشهدها هي أحداث تاريخية بامتياز،  منظوراً إليها من زاوية جسامتها وكونها كسراً لرتابة وجمود امتدا طويلاً . ولكن ما تراكم كمياً تحت السطح عبر ويُعبر عن نفسه بنقلات نوعية، لا سبيل إلى نكران دوره الحاسم في الأخذ بنا من حال إلى حال، بصرف النظر عن طبيعة الحال الجديد أو طريقة تقييمنا له .

لكن إذا كنا إزاء الحدث الجاري حولنا نملك هذا العدد من الروايات المتناقضة في زمن بات كشف الحقائق فيه أيسر وأسرع، كما يُظن، بسبب نفوذ الميديا ووسائل الاتصال الحديثة، فما بالنا بأحداث جرت منذ قرون؟ أين لنا أن نتيقن من أن ما قرأناه أو درسناه عن وقائع التاريخ هو ذاته الحقيقة الصافية التي لم تخالطها الأهواء والتأويلات غير المنزهة من الغائية؟

بوسع عالم الفيزياء أو الكيمياء أن يجري الاختبارات العديدة، المتكررة، في المختبر للتحقق من النتائج العلمية التي بلغها، فلا تعدو “حقيقة” متداولة إلا بعد فحصٍ متأنٍ، فيما الباحث في العلوم الاجتماعية يشتغل في فضاءات اجتماعية ومعرفية معقدة تجعله عرضة للخطأ أكثر من عالم الطبيعة، لأنه لا سبيل سريعاً إلى اختبار خلاصاته والتحقق من صحتها .

الاختبار والتجربة أمران غير ممكنين في الدراسة التاريخية، فكل واقعة من وقائع التاريخ المسلم بها قائمة بذاتها، وليس في الإمكان تصور ظروف يتكرر فيها وقوعها حتى يمكن الجزم بصحة ما قيل من استنتاج عنها، لذا يبدو طبيعياً ألا يتفق المؤرخون على ما هو مهم وما هو ليس كذلك .

ويبدو أن الحاجة الدائمة التي لا تنتهي إلى إعادة التأويل، حيث لا منجز نهائياً في هذا المجال، حين تصبح جميع الأحكام خاضعة لإعادة الفحص والتدقيق، هي ما يفسر ما ذهب إليه ابن خلدون في “المقدمة” من “إن التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار سياسية عن الدول والسوابق من القرون الأول، إلا أنه في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في علومها وخليق” .

منذ أن وثّقت “سي إن إن” بالصورة الفورية مجريات حرب إخراج القوات العراقية من الكويت، بات مألوفاً أن كاميرا الفضائيات كثيراً ما تكون موجودة في الحروب لحظة إطلاق الصواريخ أو قصف الطائرات لأهدافها أو تصويب المسلحين بنادقهم نحو من يصطفونه ضحية لهم . لكن من قال إن هذه الكاميرات حرة من الأهواء ومنزّهة من داء انتقائية الزاوية التي منها تلتقط الصورة؟ وكم من الوقائع في الحرب ذاتها، وفي البلد ذاته، التي تغيب عنها الكاميرا المعنية، وفي كثير من الأحيان ليس بمحض المصادفة وحدها؟

لذا علينا ألا ننقاد للوهم بأن هذا التوثيق الحي المصور يعني أن التاريخ يسجل كما هو من دون رتوش أو حذف أو إضافات . إنه يقدم بالطريقة ذاتها التي قدم بها، مجزأ ومحرفاً تبعاً لأهواء من يختار المكان المناسب لمنصة التصوير، أو من يقوم بإجراء “المونتاج” اللازم للواقعة، فنكون إزاء التاريخ المونتاج لا التاريخ الصافي .

اقرأ المزيد

درس عماني هل يتعلم إعلامنا منه؟

حكاية جرت في سلطنة عُمان الشقيقة جديرة بأن نتعلم منها شيئا في بلدنا، حيث قامت الصحف العمانية بنشر ما عممته وكالة الأنباء العمانية في التاسع من يوليو الجاري عن الأحكام التي صدرت بحق أربعة من الادباء وهم الشاعر حمد الخروصي والقاص حمود الراشدي والمدون علي المقبالي والشاعر محمود الرواحي ، مع صور تُظهِر وجوههم وهم بلباس الاحتجاز وقد بدا عليهم التعب والإنهاك ، على غير عادة الصحافة العمانية في تغطيتها لأخبار المحاكمات.

ستون مثقفاً وكاتباً وإعلامياً عمانياً أصدروا بياناً استنكروا فيه هذا التصرف الذي اعتبروه حطاً بكرامة المثقفين الأربعة، مطالبين الوكالة والصحف المعنية بالاعتذار عن ذلك، وبإعادة نشر صور الكتّاب بـ”ما يليق بمكانتهم الأدبية والفكرية”، مؤكدين في بيانهم بأن الكلمة مسؤولية والإبداع رسالة واحترامهما هو ما يبني وعيا مستنيرا يعلي من مكانة الوطن ويعزز قيم المواطنة ويؤصل لأخلاق الإنسان الرفيعة.

الصحيفة الأبرز هناك، صحيفة “عُمان”، التي تعد صحيفة رسمية أو شبه رسمية نشرت على صدر صفحتها الأولى افتتاحية مهمة بعنوان”عمان لكل العمانيين”، لم تقل فيها للمثقفين الموقعين على البيان: الحسوا كوعكم يا شذاذ الآفاق، يا خونة، يا عملاء الأجنبي على نحو ما تفعله جهات إعلامية ورسمية عندنا وفي أكثر من بلد عربي، وإنما أشارت فيه إلى بيان المثقفين المذكور الذي اعتبرته آتيا في سياق الرأي والرأي الآخر، وفي فضاء تعددية الأفكار التي لا بد أن نؤمن بها جميعا، وأن الجريدة تؤكد أنها تمارس عملها كوسيلة إعلامية حرة تقوم بدورها في نقل أي خبر يحدث في الداخل أو في الخارج دون أن تكون طرفا فيه، أو أن لا تنحاز إلا للحق أو للحرية المسؤولة، وكل ما يؤدي لصالح عمان وشعبها”.

 وبسلوك متحضر إعتذرت الجريدة عن نشرها لتلك الصور قائلة أنها لم تكن تضمر، من وراء ذلك إلا إكمال الخبر بصوره الحية، دون أن يكون لديها أو لدى محرريها أي نية أو هدف في جرح أحد أو إهانة كرامته، وإن حدث التباس في فهم مقصدها فإن الجريدة لا تستنكف أن تعتذر لقارئها الكريم، وتؤكد له أنها ماضية على الدوام في الإعلاء من شأن كرامة الإنسان وحفظها وصونها كما نص النظام الأساسي للدولة، وكما تنص عليه كل العهود والمواثيق الدولية والإنسانية.

إضافة إلى ذلك أعلنت الجريدة: “أن رسالتها لا يمكن أن تكتمل دون مشاركة الجميع، وأن مساحاتها مفتوحة لكل الآراء الجادة والناضجة، وأن نتقبل الآخر مهما اختلفنا معه، وأن نفتح باب الحريات المسؤولة، والمساهمة في بناء الوطن لأن ذلك خيارنا الوحيد في المرحلة التي يعيشها العالم، وهو في النهاية خيار إنساني صميم لا حياد عنه”.

لم يرق هذا الاعتذار تماماً لبعض مثقفي عمان واعتبروه غير كافٍ، وهذا من حقهم، ولكننا نتحدى أجهزتنا الإعلامية ومنابرنا الصحفية في البحرين أن تتقدم بربع الاعتذار الذي تقدمت به الجريدة العمانية، جراء ما اقترفته وتقترفه هذه الأجهزة والمنابر من تشهير وإساءة بحق مثقفي وفناني وكتاب وأدباء هذا الوطن ودعاة حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي فيه، الذين باتوا ضحية مستهدفة من هذه الأجهزة، عبر كافة أشكال الإساءة تارة باحاطة صورهم بالدوائر وبثها على الشاشات والصحف ووسائل الاتصال الاجتماعي، وتارة بنعتهم بنعوت التخوين والبذاءة.

اقرأ المزيد

هل لكلٍ “بسيونه”؟

النسبة في العنوان أعلاه، رغم عدم دقتها لغوياً، عائدة إلى البرفيسور محمود شريف بسيوني رئيس اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، التي وضعت تقريرها الشهير حول ما جرى في البحرين في عام 2011، وهو التقرير الذي بات يُعرف باسم رئيسها بالذات: تقرير بسيوني.
أما مناسبة إثارة السؤال الذي منه اتخذنا لهذا المقال عنواناً، فهو الكم المتواتر من الكلام المُقال أو المكتوب في وصف وتشخيص ما جرى في البلاد، وكأن عاهل البلاد لم يقم بخطوته المهمة في تشكيل تلك اللجنة المستقلة، وكأن هذه اللجنة  لم تمكث هي والفريق الميداني للتحقيق في البحرين بضعة شهور لوضع هذا التقرير، قبل أن تقدمه إلى جلالة الملك في حفل أذيع على الهواء مباشرة، وألقى فيه رئيس اللجنة خلاصة التقرير قبل أن يتسلمه عاهل البلاد منه، وكأن جلالة الملك لم يعلن قبوله بالتقرير والتزام مملكة البحرين بتنفيذ ما حمله من توصيات.
البعض ما زال يصر حتى اللحظة على تكرار الكثير من الكلام الذي نفاه التقرير ذاته، ويتمسك بالرواية التي سوقت على مدار شهور قبل أن نحصل على تقييم نزيه ومستقل ومحايد من لجنة مرموقة وضع جلالة الملك ثقته في أعضائها، ووجد بعض ما أوصت به طريقه للتنفيذ، فيما يتعين تنفيذ الباقي بالصورة التي اقترحتها اللجنة.
استناداً إلى التقريرهناك تهم أسقطتها النيابة العامة ذاتها عن مئات المتهمين، وهناك أحكام نقضها القضاء، وهناك متهمون ثبتت براءتهم رغم ما نالوه من أذى وتشهير، وهناك عشرات المئات ممن عادوا إلى أعمالهم لأن قرار فصلهم أو توقيفهم كان غير قانوني حسب تقرير بسيوني، ومع ذلك نجد من لا يزال مصراً على موقفه في التعريض بالأبرياء والافتراء على وطنيتهم وإخلاصهم لبلدهم، ومن هللوا للأحكام القاسية التي صدرت إبان مرحلة السلامة الوطنية بدعوى احترام استقلالية القضاء عادوا يشككون في نزاهة وحيادية القضاء عندما ألغى بعض هذه الأحكام أو خففها، معتبرين كل ذلك رضوخاً للضغوط الخارجية.
لجنة بسيوني المستقلة تشكلت بناء على قرار سيادي بحريني، إتخذه جلالة الملك من أجل جلو الحقيقة ومساعدة البلد على الخروج من أزمتها، ولم تُشكلها دول أجنبية أو منظمات خارجية، وقد قبلتها الدولة حتى قبل أن ترحب المعارضة والقوى المجتمعية المختلفة بها، وعلى ضوء نتائج التحقيق التي توصلت اليها اللجنة اتضح بطلان الكثير من المزاعم التي سيقت، ولكن البعض يعز عليه أن يقبل الحقيقة، لأنه يعلم علم اليقين أن السوق لن تكون رائجة لبضاعته المسمومة، التي توغل في المجتمع تقسيما وتمزيقاً بغية منافع ذاتية أنانية.
هناك لجنة واحدة مستقلة لتقصي الحقائق رأسها البرفيسور بسيوني، وهناك تقرير واحد وضعته اللجنة واضح العبارة ودقيقها في كل ما روى وما أوصى به، ولا يحتمل التقرير قراءات متناقضة حتى يلوي البعض عنق الحقيقة، فهو واضح ودقيق، والالتزام بما رواه التقرير وأوصى به هو معيار الحرص على مصلحة الوطن ومستقبله. هناك بسيوني واحد على الجميع الالتزام بما جاء به، وليس لكلٍ “بسيونه” الخاص به يؤول أقواله على هواه.

اقرأ المزيد

تكليف شعبي منقوص

في فرنسا أُجريت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في السادس من مايو الماضي بين الرئيس المنتهية ولايته نيكولاس سركوزي ومرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند، ولم تكد تمضي 24 ساعة حتى أُعلنت النتيجة بفوز هولاند.

أما في مصر فقد أُجريت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي تنافس فيها مرشح الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي والمرشح المحسوب على النظام السابق الفريق أحمد شفيق على مدى يومين (16 – 17 يونيه 2012). ورغم تقارب الكتلتين الانتخابيتين في البلدين (مع الفارق في إمكانيات البلدين طبعاً)، إلا أن في مصر حبس الناس أنفاسهم لمدة ستة أيام قبل أن تُعلن اللجنة العليا للانتخابات بصورة رسمية النتيجة بفوز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة.

منذ 25 يناير 2011 ومصر تتقلب فيها الأحوال بين مد وجزر لقوى الثورة التي اندلعت في هذا التاريخ في أعقاب ثورة الياسمين في تونس، ومد وجزر لقوى الثورة المضادة التي نجحت على مدى الثمانية عشر شهراً الماضية في إرجاع قوى الثورة إلى المربع الأول أكثر من مرة، إلى أن جاءت “الثواني الأخيرة من عمر المباراة” لتحمل لكل القوى التي حلمت بيوم آخر مشرقاً بعد نجاحها في إزاحة رأس النظام، الخبر الذي ربما أعاد إحياء ذلك الأمل المكبوت منذ نيف وثلاثة عقود.

لقد أعلن المستشار فاروق سلطان رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فوز المرشح محمد مرسي بمنصب الرئاسة المصرية. وجاء هذا الإعلان بمثابة “دش” بارد على ميدان التحرير وعلى ساحات أخرى في مصر المحروسة كانت متحفزة لردود أفعال لم يكن يعلم بمآلها إلا الله لو قُدِّر وجاءت نتيجة الانتخابات على غير ما تشتهيه أنفسهم وما ذهبت إليه توقعاتهم.

ولكن وكما يقول المثل “بعد السكرة ها قد جاءت الفكرة”. فاز الدكتور مرسي والفرحة لا تكاد تسع الإخوان (المسلمين) في مصر. ولكن مهلاً، وقبل أن يركب الغرور بعض قيادات الحركة و”تشطح” بعيداً على نحو ما فعل أحدهم في احتفال المحلة الكبرى بفوزهم “التاريخي”، حين زعق في الحشد بأن فوز الدكتور محمد مرسي هو بداية انطلاقة مشروع الخلافة الإسلامية، أي أنهم سوف يصدِّرون نموذجهم – الذي لم يبدأ ولم تتشكل ملامحه بعد – إلى بقية أصقاع الجوار العربي وبقاع العالم الإسلامي النائية – نقول لهم تمهلوا قليلاً وعاينوا ودققوا في أرقام النتائج النهائية لفوز مرشح حزبكم (حزب العدالة والتنمية) في الانتخابات الرئاسية.

الأرقام تطالعنا بالآتي: بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 51.8% حسب إعلان اللجنة العليا للانتخابات.

حصل الدكتور محمد مرسي على عدد 13 مليون و270 ألف صوتاً بنسبة 48.27%.

والآن لنحاول قراءة هذه الأرقام سياسياً:

-    سوف يجد الدكتور محمد مرسي نفسه وجهاً لوجه مع واقع صعب للغاية لا يستطيع القفز عليه أو نكرانه، وهو ذلك المتمثل في حكمه لشعب منقسم إلى ثلاث فئات كبرى رئيسية، الفئة الأولى وهي المتمثلة في نسبة الـ 51.73% التي أعطته أصواتها، والفئة الثانية وتمثلها نسبة الـ 48.27%، وهي الفئة التي أعطت أصواتها للفريق أحمد شفيق، وهناك فئة ثالثة تصل نسبتها إلى 48.2%، وهي الفئة التي حجبت أصواتها عن المرشحين الاثنين، ذلك أن مجموع الذين أدلوا بأصواتهم بلغ 26 مليون ناخب من أصل أكثر من 50 مليون مسجل في القوائم الانتخابية.

   ولو ترجمنا النسب عاليه إلى أرقام مطلقة فسنجد أن الكتلة الأولى المناصرة للدكتور محمد مرسي يبلغ قوامها بالتمام والكمال 13,230,131 (أي حوالي ثلاثة عشر مليون وأقل قليلاً من ربع مليون)، فيما يبلغ قوام الكتلة الثانية المناصرة لشفيق 12,347,380 (أي حوالي اثني عشر مليوناً و350 ألفاً). وتحوز الكتلة الثالثة الحاجبة لأصواتها – أو الكتلة الصامتة – تقريباً نفس العدد. وما تقدم يؤكد ما ذهبنا إليه من أن رئيس مصر الجديد سيقود بلداً منقسماً إلى ثلاث كتل كبرى رئيسية متساوية تقريباً.

-    أيضاً سوف يرث الرئيس الجديد خزينة دولة متآكلة بعد أن انهارت احتياطيات البنك المركزي المصري من 36 مليار دولار قبل اندلاع ثورة 25 يناير إلى 15.21 مليار دولار في شهر أبريل الماضي، وفقدان الجنية المصري لحوالي 5% من قيمته أمام الدولار منذ يناير 2011.

-    تزايد أعداد العاطلين عن العمل وارتفاع نسبتهم إلى 12.4% (إحصاءات ديسمبر 2011) من 9.9% قبل الأحداث. وهناك تراجع واضح وخطير في الطاقات الإنتاجية والأداء الاقتصادي لقطاعات مختلفة في الاقتصاد المصري.

-    يضاف إلى ذلك التوجسات والمخاوف الداخلية والخارجية التي شكلها ويشكلها وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، والتي وجدت صداها في الفتور الذي قوبل به إعلان فوز الدكتور مرسي بالرئاسة من جانب عديد الأطراف الإقليمية والدولية التي لا تنظر بعين الارتياح إلى الثقافة السياسية للإخوان عطفاً على تاريخهم الذي ينوء بأحمال ثقيلة على كاهلهم قبل غيرهم وعلى أجندتهم غير المعلنة التي لطالما شكلت مادة دسمة للمبارزات والمنابذات السياسية بين الإخوان ومناوئيهم. ترتيباً على ذلك فإن من غير المستبعد أن تجد مصر نفسها في ظل حكم الإخوان في موضع العراق اليوم الذي لازال يعاني من فتور علاقاته الإقليمية.

ثم أن على الإخوان المنتشين بالفوز بكرسي الرئاسة أن يتذكروا دائماً وأن يضعوا في اعتبارهم أنهم حين تنافسوا مع التنويعات الاجتماعية والثقافية للطيف السياسي المصري في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، لم يحصلوا سوى على 5 مليون وحوالي 765 ألف صوت (للدقة 5,764,952 صوت) بواقع 24% من المشاركين في التصويت.

    فهم بهذا المعنى لا يستطيعون الادعاء بأنهم يمثلون غالبية قطاعات الشعب المصري. وانهم لولا فزعة اللحظة الأخيرة لكل أولئك الناقمين في النظام “السابق” واعتبارهم التصويت ضد المرشح الفريق أحمد شفيق جزءً من تصفية الحسابات معه باعتباره أحد رموز نظام مبارك (أكثر منه تصويتاً للمرشح الدكتور محمد مرسي)، لما كانوا استفادوا من هذا الاصطفاف السياسي الطارئ وخرجوا فائزين في “الدقائق الأخيرة من عمر المباراة”، كما أسلفنا (الصراع بين النظام “السابق” وقوى الثورة)!

    وعلى ذلك فإن الأنظار ستتوجه وستتركز منذ الآن فصاعداً على الحزب الحاكم الجديد في مصر، وهو حزب العدالة والتنمية، وعلى ممثله في قمة هرم السلطة وهما الحزب والدكتور محمد مرسي، اللذان ما برحا يطلقان الوعود تلو الوعود ويوزعانها يمنة ويسرى: فريق رئاسي يضم قبطياً، وحكومة ائتلاف وطني برئاسة شخصية وطنية بارزة، والحفاظ على هوية الدولة المدنية .. ووعود وتطمينات أخرى أُطلقت كرسائل معنونة للداخل والخارج، قبل وبعد إعلان فوز الدكتور محمد مرسي. وليس قيام نشطاء على شبكة الانترنت الدولية بإطلاق حركة شعبية لمراقبة أداء الرئيس المصري الجديد ومدى التزامه بما قطعه على نفسه في برنامجه الانتخابي وخلال وبعد حملته الانتخابية خلال المئة يوم الأولى من فترة رئاسته ابتدأ عدها التنازلي على موقع الحركة الذي أطلقت عليه اسم “مرسي متر” اعتباراً من 30 يونيه/حزيران الماضي – ليس سوى عينة من تلك الأعين التي ستبقى مفتوحة تراقب وتتابع أداء جماعة الإخوان المسلمين المصرية وهي تدير دفة الحكم في مصر بفضل جسارة وجرأة شباب وشابات مصر الذين صنعوا الحدث الأول وثبتوه في ميدان التحرير.

    فهل ستكون تداعيات الثورة المصرية ومعطيات صناديق الاقتراع التي عرضناها آنفاً حاضرة في توجهات الحكم الجديد والتي توضح أن التكليف الشعبي الذي حصل عليه المرشح الرئاسي الفائز، منقوص بشكل فادح، أم أن الحسابات الخاصة ستجعل منها هباءً منثوراً؟!

اقرأ المزيد

ديناميات جديدة للهيمنة

في
العام 1987 نشر بل كيندي أطروحة “أن التوسع الإمبريالي المفرط” يمكن أن
يكون عبئاً على الولايات المتحدة، كما حدث قبل ذلك لبريطانيا . وبناء على
هذه الأطروحة بالذات، قام بعض المحللين بالمقارنة بين “واشنطن دي سي”، وبين
روما الإمبراطورية، ولندن القرن التاسع عشر، ليثبتوا أن تلك العاصمة
المتغطرسة، المتعجرفة، لإمبراطورية منهارة، تحكمها نخبة فاسدة محصنة .

“إن
كثيراً مما حدث حينذاك يحدث الآن”، هكذا كتب أحدهم، مُلاحظاً شدة
الاستقطاب الاقتصادي واضمحلال الطبقة الوسطى وانتشار الترف، مستنتجاً أن
“أعراض الاضمحلال تقف دليلاً على الاضمحلال ذاته” . وتبدو الإجراءات
السياسية للتعامل مع هذا الوضع أكثر سلطوية، مع تنامٍ في القوة البوليسية،
وانتشار العداوات العرقية وأعمال التمرد، وقمع الحريات الشخصية .

هذا
النفس التشاؤمي لا يأتي من هواجس مَرَضيّة أو من مواقف عدائية، لأن الحديث
عائد إلى مؤلفين أمريكيين يُحبون وطنهم ويخشون عليه، ومن طبيعة الباحث ذي
الحاسة النقدية أن يدفع باستنتاجاته إلى حد التشاؤم، لأنه يرى أبعد مما
تراه النظرة العجلى التي تبشّر ولا تحذّر .

منذ
أكثر من عقدين، كان كاتب أمريكي قد لاحظ أنّ أي ناشر ذكي يعنون الكتب التي
تصدرها داره بما يشي بوجود أزمة في أمريكا، لكن آرثر هيرمان مؤلف كتاب
“فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي”، يرى أن هذه الرؤية التشاؤمية تشبه كل
الرؤى الخاصة بمستقبل أمريكا . هناك الكثير الذي يدعو إلى مثل هذا التشاؤم،
خاصة مع الأزمة المالية المدمرة التي تعصف بها، وبالنتيجة بالعالم كله،
وتدفع إلى حالٍ من التشوش العميق وعدم الثقة في المستقبل .

كان
على المجتمعات، حكومات وشعوباً، أن تدفع ثمناً باهظاً لكي تختبر
الليبرالية الجديدة حظوظها في التطبيق، منذ أن وضع الثنائي الشهير ريغان –
تاتشر قواعدها في الممارسة . فالمحللون يصفون هذه السياسة بأصولية السوق
التي وجدت تعبيرات لها في مفردات من نوع: الخصخصة، والتحرير، والبنوك
المركزية المستقلة التي تركز على التضخم .

إنها
أزمات بنيوية، وليست مظاهر عابرة يمكن تسويتها، كما يحاول البعض إيهامنا،
وإن العالم كله يتضرر من آثارها، كما تضرر من سياسة الهيمنة والعدوان
واحتلال أراضي البلدان الأخرى، ودعم أنظمة الاستبداد، ومجمل النهج القائم
على الغطرسة والاستخفاف بالتضاريس الثقافية والفروق الحضارية في العالم،
وإخضاعه بالقوة لنهج لا يحظى بالقبول لدى قطاعات تعد بالمليارات من البشر .
ستتوسل
السياسة الغربية خطاباً خادعاً عنوانه دمقرطة المجتمعات غير الديمقراطية،
وهو خطاب خادع، لأن هذه السياسة بالذات كانت مسؤولة، وعلى مدار عقود، عن
رعاية الاستبداد وحمايته في غير منطقة من العالم، وكانت الاستخبارات
الأمريكية مدبراً للعديد من الانقلابات العسكرية في الشرق الأوسط وفي
أمريكا اللاتينية التي مارست الاستبداد الدموي ضد القوى الديمقراطية
والتقدمية، وأعاقت المسار الديمقراطي في هذه البلدان . حدث هذا مع الانقلاب
الدموي على حكومة الدكتور مصدق في إيران في الخمسينات، ومع الانقلاب على
حكومة الدكتور سلفادور الليندي في تشيلي، وما بين هذين الانقلابين وما
قبلهما وما بعدهما عشرات الانقلابات المشابهة، فضلاً عن توفير الدعم لأنظمة
غير ديمقراطية وإطالة أمد بقائها . ما يجري هو إعادة صوغ أشكال الهيمنة
على العالم، ومدّها بديناميات جديدة بعد أن فقدت الديناميات السابقة زخمها .

اقرأ المزيد

مساعدة الثورات على بنائها الذَّاتي – د.علي فخرو

أكثر ما يخلق البلبة ويثير الشكوك في أذهان الشعوب العربية بشأن موضوع
الثورات والحراكات العربية هي بعض المناقشات العبثية في بعض وسائل الإعلام
العربي وبعض الكتابات المنغمسة في التحليل والمهووسة بالاستنتاجات التي لا
تقدٍّم ولا تؤخّر والتي يتلّذذ بكتابتها بعض الكتاب العرب صباح كل يوم في
هذه الصحيفة أو تلك.

يظهر من مستوى واستمرارية ذلك الانغماس أن هؤلاء
لم يقتنعوا بعد أن الذي يجري في أرض العرب هي انعطافة كبرى شعبية ضخمة
تريد قطع الصٍّلة بفترة سابقة تميَّزت بالذلِّ المخجل وبالاستخفاف الحقير
بكرامة وحقوق الشعوب وبالنهّب والسَّرقة والفساد. مازال هؤلاء لا يصٍّدقون
أننا لسنا أمام أحداث سياسية عابرة ومماحكات بين السلطات وبين بعض القوى
المعارضة.

من هنا يستمع المواطن العربي كل يوم للمناقشات ويقرأ ما
يكتب بشأن الموقف الأميركي أو الأوروبي أو الصهيوني أو بعض دول الإقليم من
هذه الثورة أو تلك، من هذا الحراك أو ذاك. يمعن هؤلاء، تحليلاً وتنبؤاً
وهلعاً، في النّظر إلى هذا الموقف أو التصريح أو التعليق أو ذاك، لمسئولي
هذه الدولة أو تلك. ويعطون كل كلمة يتلفظ بها الآخرون أهمية كبرى إلى الحدّ
الذي يُشعر المستمع أو القارئ العربي أن مصير الثورات والحراكات تقرّر
وسيتقرَّر في واشنطن أو باريس أو أنقرة أو القدس المحتلّة.

والأمر
نفسه ينطبق على تصريح بليد ينطق به أحد الإسلاميين المتزمتين المتخلفين أو
يخرج من فم أحد الليبراليين المغتربين السذَّج الذين قطعوا الصٍّلة مع
مجتمعاتهم وثقافتها. هنا تثار المخاوف من تراجع الأمة إلى عوالم التخلف أو
توهانها في التبعية لهذه الايديولوجية أو تلك الحضارة.

وينطبق الأمر
نفسه على مظاهرة غوغائية صغيرة تطرح شعارات هامشية تخرج في هذه المدينة أو
تلك القرية أو على خطأ عفوي ترتكبه تلك المجموعة السياسية المحسوبة على
الثورة. عند ذاك يبدأ النُّواح والعويل مبشّراً بانحراف الثورات ومؤكداً أن
الشعوب العربية لم ترتقِ بعد لتكون من الشعوب القادرة على خوض الثورات إلى
نهاياتها.

تلك المناقشات والكتابات، بالإصرار اليومي على إبرازها
وانتشارها وبالمستوى السَّاذج أو المريب الذي تتمّ فيه وبتكرار بعض الوجوه
المشبوهة في التّعاطي معها، لا يمكن إلاَ أن تؤدٍي إلى الآتي:

أولاًَ:
زرع الشُّكوك المحبطة بشأن قدرة الثورات والحراكات على الدًّفاع عن نفسها
ضد التدخلات والمؤامرات الخارجية، لكأن قدر العرب الذي لا مفرَ منه هو بقاء
حاضرهم ومستقبلهم رهناً لإرادة الغير. وهو قدر لا خروج منه تحت أيِّ حكم
كان، وأن سقوط الأنظمة السابقة الفاسدة الضعيفة أمام تدخلات الخارج ومجيء
أنظمة جديدة من رحم الثورات وبهدي من شعاراتها لن يغير شيئاً، فالخارج سيجد
له طريقاً للتحكم بالداخل.

والواقع أنه أذا كان تصريح لوزيرة خارجية
أميركا أو تعقيب لمسئول صهيوني في فلسطين أو في أوروبا أو في طهران سيكون
له تأثير على مسار ثورات الأمّة العربية وعلى عنفوان صعودها بقوى الدّاخل
الذاتية… فإن تلك الثورات لا تستحق الوجود أو الدعم وأن مصيرها سيكون
الفشل والعبث. والذين يؤمنون بتلك الثورات لن يسلّموا بذلك قط.

ثانياَ:
إن انتقال مجتمعات الثورة من حياة الاستبداد والبطش الأمني الظالم إلى
حياة الحريات لا يمكن إلاً أن يؤدّي، وخصوصاً في مراحله الأولى الانتقالية،
إلى وجود من يسيء استعمال تلك الحريات في شكل مظاهرات واحتجاجات لا معنى
لها أو في شكل اتخاذ مواقف أو النطق بتصريحات غير مسئولة وغير منضبطة. إن
اعتبار حدوث مثل هذه الإساءات والأخطاء كحكم على نقاء ونبل ومستقبل الثورات
هو حكم ظالم، إن لم يكن مشبوهاً انتهازياً.

ثالثا: المنطق والوطنية
وتبني أحلام الأمة تتطلب أن تركز أغلب المناقشات والكتابات جهودها على نقاط
القوة والضعف في سيرورة ومكونات الثورات لتقوي عزيمة القائمين بها من جهة
ولتساعدهم على إصلاح نقاط ضعفها من جهة أخرى.

إن ما يهم في هذه
المرحلة بالذّات هو تجييش الجماهير وتقوية إيمانها بالثورة، والتركيز
العميق الدائم على إنهاض وتنويع القدرات الذاتية، وإعطاء فرصة كبيرة لخروج
شباب الثورات على المسرح السياسي والإعلامي، والتعامل العلمي الوطني مع
عثرات الحراكات ليتم تصحيحها.

أما ما يقال، بل وحتى ما يحاك في
الخارج فإنه أولاً خارج سيطرتنا، وأن إعطاءه الاهتمام الذي يحظى به الآن
سيكون على حساب البناء الذاتي للثورات.

علي محمد فخرو

صحيفة الوسط البحرينية

اقرأ المزيد