المنشور

أهلاً ووداعاً للطبقة الوسطى


 

 

 
منذ نحو عقدين عقدت في القاهرة ندوة بعنوان: “وداعاً للطبقة الوسطى”، كانت تبحث تحديداً في تراجع مكانة الفئات الوسطى في الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، على ضوء سياسات التهميش والإفقار التي شهدتها مجتمعاتنا، وأدت إلى استقطاب حاد وعميق بين فقر مدقع يشمل الأغلبية الساحقة من الفئات الاجتماعية، وبين ثراء فاحش ينحصر في فئة محدودة غارقة في المزايا التي تنهبها عادة من المال العام، وهو الأمر الذي ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطات الحاكمة في البلدان العربية، وقاد إلى الانفجارات الحادة التي شهدناها .

 
بعض الباحثين يتحدث عما يصفونه بانشطارات الطبقة الوسطى في بلداننا العربية، في إشارة إلى أن هذه الطبقة ليست كتلة واحدة، وإنما هي فئات متنوعة، ويمكن أن نستطرد هنا فنقول إن المنابت الاجتماعية لهذه الفئات متنوعة ومتعددة، وهو الأمر الذي ينعكس على مزاجها السياسي والفكري الذي يبدو هو الآخر متنوعاً ومتعدداً . لكن لا يمكن إلا الوقوف بجدية أمام الآراء التي يلحظ أصحابها أن استمرار ارتفاع الأسعار والتضخم المتزايد وثبات الأجور عند حالها يؤدي موضوعياً إلى تآكل الفئات الوسطى، وتعرض أجزاء منها للإفقار، وهو أمر يمكن أن يزداد في الفترة المقبلة أيضاً . وطبيعي أنه يترتب على ذلك مفاعيل اجتماعية واقتصادية عدة، خاصة إذا ما تذكرنا القاعدة القائلة، إن الفئات الوسطى بالذات هي الحافظة للتوازنات الاجتماعية، وكلما اتسعت قاعدتها وازدادت رسوخاً وثباتاً، أمكن تأمين درجة من الاستقرار وسلاسة التطور الاجتماعي والسياسي .

 
ومؤخراً وقعت عيني على حوار أجرته مجلة “الثقافة الجديدة” الصادرة في بغداد مع الأكاديمي العراقي عامر حسن فياض كُرس للحديث عن “تواري الطبقة الوسطى وتعثر التحول الديمقراطي في العراق الجديد”، وليس توارد خواطر أن الأمر هنا يدور تحديداً عن تواري هذه الفئات، فرغم أن الحوار يدور عن الحالة العراقية حصراً، إلا أنه يمكن الاستفادة من معطياته واستنتاجاته من أجل فهم أفضل لواقع الفئات الوسطى في البلدان العربية الأخرى، على الأقل منها تلك القريبة في خصائص تطورها السياسي والاجتماعي من العراق، حيث يُردّ ضعف الفئات الوسطى فيه وهشاشتها في العقود الماضية، رغم كبر حجمها، أمام جبروت الدولة، إلى كون مصدر ميسورية هذه الفئات وكذلك استنارتها هو الدولة نفسها، فإذا كان لهذه الفئات من قوة ومن دور وطاقة، فإن مرد ذلك هو ما حظيت به من فرص للتعليم ومن رواتب حكومية، لأنها محرومة أصلاً من الملكية الكبيرة، وهذا ما أفقدها دورها المستقلّ، وحين تصدعت أو انهارت الدولة الأمنية إما بفعل الاحتلال الأجنبي وإما بالمتغيرات الداخلية، تصدعت معها هذه الفئات التي لم تعد تملك سوى كفاءاتها المهنية، وهي ما عادت مطلوبة في ظل سياسات الإحلال الوظيفي للنخب الحزبية الجديدة غير المؤهلة غالباً .

 
“أهلاً ووداعاً للطبقة الوسطى”، يقول فياض، فما كادت فئاتها تتسع، حجماً ووعياً، حتى وجدت نفسها محمولة على مغادرة المشهد الاجتماعي والسياسي، وهذه المغادرة تُسعفنا في تلمس أسباب التعثر في التحول الديمقراطي في البلدان العربية التي قامت فيها هبات وثورات مطالبة بالديمقراطية، وهو تعثر عائد إلى غياب الحاضنة الضرورية لهذا التحول، إن على صعيد الوزن الاجتماعي المؤثر، أو على صعيد العقول المفكرة المنتجة للثقافة الديمقراطية .
اقرأ المزيد

عـبـد الرحـمـن الـنعـيـمـي …!



 



تغريد
 
 


 
عام يمر على غياب القائد الوطني المناضل عبد الرحمن النعيمي
وما زال وسيبقى يتألق حضوراً كقامة وطنية وملء الأسماع والأبصار والقلوب ومناراً في طريق النضال من أجل وطن لا يرجف فيه الأمل. 
 





عـبـد الرحـمـن الـنعـيـمـي …! 





 
ســــلامٌ عــلى أمــــلِ الآمــلِ        ســـلامٌ عـلى الـقـائدِ الـراحـلِ
بحيث(النعيمي)حليف الُسُـرى       يـعـيــشُ بإيـــثــارِهِ الــمـاثــلِ
ســلاماً رفيـقَ نجــومِ الـدُجى       وطِـبـتَ بـتـأريـخـكِ الـحـافــلِ
تمـرُ السـنـونُ وأنـت السَـنـا        ملأتَ الـدُنــا بالـعُـلا الشاغــلِ
ســــلامُ الكَـمـيـلـةِ والكـامــلِ       ســـلامُ الـمُـثـقـَّـفِ والـعـامــلِ
ســلامُ صبـاحِ ِالنـَدى والفِـدا       عـلى الـرائـدِ الـمـاجـدِ الباسلِ
أبـا أمـلٍ أنـت رمـــزُ الـوَرى       وفـعــلُ نـضالاتــنــا الـفــاعـلِ
ومـا زلــتَ مـنّا وفـيـنا هدىً        إلى مهرجانِ الضُحى الشاملِ
أبـا أملٍ لـك شكـوى الأســى       من الظـلِّ والفـصلِ والفـاصلِ
فـقـد غُـودرَ الحقُّ يا ســيدي       وعـــدنـــا إلى أمـسـنــا الأولِ
أبـا أمـلٍ وشــــكـاة الـجـــوى      مـن الحـيـفِ في ليـلِـنـا الأليـلِ
فـقـد سامنا بالأذى من طغـى       وصِــرنا لــه تــرةَ الــقــاتــلِ             
فهل صكَّ سـمـعَـك ما راعنـا       بما شَـرعَن الظـلـمً بالـعـاجـلِ
أحـيـطَ بـنـا وأستـباحَ الدجـى       حِــمــانــا بـطـأفـــنـةِ الغـائــلِ
وسيـقـت غـصونٌ إلى حتفِها       بــمـقـتــلـةِ العـاطـشِ الـذابــلِ
وسالَ نـزيـفً الشبـابِ الـذي       سَقى أرضـَـنـا بـالـدمِ الهاطـلِ
وضاقـت قـيـودٌ على مِعـصَـمٍ       وأطبـقَ صمـتٌ على القــائــلِ
وأّجهِضَ حلمُ النفـوسِ التــي       رنـت لـغــدٍ بــاهــرٍ واصـــلِ
وبيـعـت ضـمائـرُ مـن زَيَّفـوا      سـمــاتَ الحقـيــقـةِ بـالبــاطـلِ
تــنـاسوا بأن مصيــَر الخَـنـا       لـمـزبــلـةِ الحَــشـْرِ بـالــزائـلِ
ستـشـرقُ شمسُ البرايا غـداً       على أرخـبـيـلِ الحِـمى الكـافلِ
وتـضـمنُ وحدتــُنـا شـعـبـَنـا       ويـصفـو لـنـا الـوِردُ بالمنهـلِ
 
 
عبد الصمد الليث 
1 سبتمبر 2012م
 

اقرأ المزيد

أهمية التعاون الاقتصادي بين “التنين” و”المهراجا”


رغم
العداء التاريخي بين الهند والصين، حيث خاض البلدان الجاران حرباً تقليدية
في عام 1962 بسبب خلافاتهما الحدودية على امتداد 3225 كيلومتراً من جبال
الهملايا، ورغم أن الهند تغبط الصين على ما حققته من انجازات اقتصادية،
ولكنها تعزي نفسها بالمقابل بديمقراطيتها العريقة التي تفتقر إليها الصين
(مع أن ديمقراطية الهند “تنتج” فساداً مالياً وإدارياً أكبر حجماً مما
ينتجه نظام الحزب الواحد في الصين)، نقول رغم ذلك إلا أن البلدين العملاقين
الصاعدين اقتصادياً قد وجدا نفسيهما وجها لوجه أمام موضوعية وقوة حركة
عوامل الإنتاج عبر حدود بلديهما . وباستثناء حركة رأس المال البينية
الضعيفة نسبياً، ورغم عدم وجود رحلات طيران مباشرة حتى الآن بين كبرى المدن
الصينية بكين وشانغهاي وبين المرفأ المالي والتجاري للهند “مومباي”، إلا
أن التجارة البينية للبلدين شهدت طفرة نوعية بعد الانفتاح الاقتصادي الهندي
في عام 1991 حين كان الغرب مازال يهيمن على الاقتصاد العالمي، حيث أصبحت
الصين اليوم ثالث أكبر شريك للهند في التجارة السلعية والأول إذا ما أضفنا
هونغ كونغ)، حيث عادت هذه التجارة بالفائدة على الهند وإن كان الميزان
التجاري للبلدين يميل لغير مصلحتها (مقابل كل دولار واحد من الصادرات
الهندية للصين هناك ثلاثة دولارات من الصادرات الصينية للهند، ما أنتج
عجزاً تجارياً هندياً بلغ 40 مليار دولار حتى نهاية السنة المالية في
مارس/آذار 2012) . فمعظم واردات الهند من الصين هي سلع رأسمالية مثل معدات
وتجهيزات محطات الطاقة وشبكات الاتصالات التي تدفع الهند ثمنها في الأغلب
بقروض صينية منافسة (ميسرة لجهة سعر الفائدة) .

وإذا
كان الصينيون قد نجحوا في احتلال مناطق في الهملايا في حرب 1962 قبل أن
ينسحبوا منها ضمن اتفاق وقف اطلاق النار، فإنهم في السلم أيضاً نجحوا في
النفاذ إلى ألأسواق الهندية بحصد الشركات الصينية عقود البناء والهندسة في
عدد من قطاعات الإنتاج المفتاحية الصينية ومنها قطاع الطاقة على حساب
الشركات الهندية . وغنيٌ عن القول إن تحدي المنافسة الاقتصادية أقوى وأعقد
من تحدي معارك الميدان، فليس لدى الهند الكثير الذي يمكن أن تصدّره إلى
الصين، وهو الأمر الذي كان أدركه المستعمرون البريطانيون للهند فحاولوا سد
فجوته بإجبار الصينيين على استيراد محصول زراعة الأفيون الهندي (شنت
بريطانيا حرب الأفيون الأولى ضد الصين لمدة عامين من 1840 إلى 1842 لاجبار
الصين على فتح أسواقها أمام الأفيون الذي كانت تزرعه شركة الهند الشرقية
البريطانية في الهند وغنمت من تلك الحرب جزر هونغ كونغ، وشنت حرب الأفيون
الثانية، ومعها فرنسا هذه المرة، ضد الصين خلال الفترة من 1856 إلى 1860)،
حيث ترتكز صادرات الهند للصين على المواد الخام لا سيما المعادن وخصوصا
كريات الحديد الخام وكذلك القطن . إلا أن حملة الحكومة الهندية على مصادر
الفساد في العام الماضي والتي شملت مكافحة أنشطة التعدين غير الشرعية قد
أدت إلى تقليص صادرات الهند من خام الحديد إلى الصين عبر مقاطعة “جوا” على
الساحل الغربي للهند بنحو 20% . كما أدت مخاوف الحكومة الهندية من حدوث نقص
في امدادات القطن للسوق المحلي إلى قيامها بحظر تصدير القطن في شهر
مارس/آذار الماضي .

وفي
حين يشكو الهنود مما يسمونه سياسة إغراق صينية انعكست سلبياً خصوصاً على
صناعة معدات الطاقة الهندية وأجبرت الهند على اللجوء للسياسة الحمائية،
تشكو الشركات الصينية من عوائق استخراج تأشيرات الدخول للهند . وتطمح الهند
الى تعظيم صادراتها للصين، وقد أبرم البلدان خلال قمة مجموعة العشرين
الأخيرة صفقة ضخمة لتصدير مزيد من الأرز الهندي الى الصين . كما تتطلع
الهند لتمكين صناعاتها ومنها الصناعات الدوائية وصناعة السيارات وتكنولوجيا
المعلومات من النفاذ إلى السوق الصينية، التي نجح بعضها في خلق موطئ قدم
لها في السوق الصينية حتى وإن كان للفوز بعقود المشتريات الحكومية، وقد
سمحت الهند بالمقابل لبنك صيني واحد لفتح فرع له في الهند .

وفي
ما يتعلق بالاستثمار المباشر فإن الاستثمارات الصينية المباشرة نجحت في
“الإقامة” في بعض ولايات المهراجا الهندي مثل ولاية غوجارات وولاية
مهاراشتا، حيث أنشأت فرص عمل وتوظيف للهنود المحليين، كما أقامت مركز أبحاث
وتطوير في بنغلور .

وعلى
ذلك فإن حاجة الهند للاستثمار الأجنبي المباشر الموجه للصناعات والبنية
الأساسية، وبالمقابل توفر فوائض مالية لدى الصين تبحث عن أقنية توظيف جديدة
خارج اطار الأوراق المالية والأصول الامريكية، فهذا يعني أن الوقت قد حان
للبلدين لتدشين مرحلة الاستثمار المباشر في ما بينهما، وليس أفضل للانتقال
لمرحلة جديدة متقدمة من التعاون الاقتصادي بين هذين العملاقين الاقتصاديين
الآسيويين، من إبرام اتفاقية تجارة حرة بينهما تتناول كل معوقات المبادلات
الاقتصادية من تأشيرات الدخول إلى الإجراءات الحمائية الكمية وغير الكمية .
ولن يطول بنا الوقت قبل أن نرى البلدين وهما يتوصلان إلى هذه الاتفاقية،
التي إن حدثت فإنها سوف تغير شكل الخريطة الاقتصادية الآسيوية وميزان القوى
الاقتصادية العالمي بالضرورة .

اقرأ المزيد

أي مستقبلٍ ينتظرنا؟

ليست
هي المرة الأولى التي يثار فيها هذا السؤال: إلى أي مستقبل نحن ذاهبون؟
ولن تكون الأخيرة، ومع ذلك فان الأجوبة المقدمة لا تشفي الغليل، ربما لأننا
اعتدنا تحاشي البحث في المستقبل، لو قارنا الأمر بمقدار الحديث عن الحاضر
وعن الماضي . نتحدث عن الحاضر لنهجوه، ربما لأنه لا يستحق سوى الهجاء، أو
دعونا نقول إن ما فيه من عناصر إخفاق وبواعث إحباط تحمل على الهجاء أكثر
مما تحمل على شيء آخر سواه، ونتحدث عن الماضي لأننا غالباً ما نجد فيه
العزاء، رغم أن المرء لو توقف ملياً لوجد أن الماضي الجدير بالثناء يبدو
بعيداً جداً، موغلاً في القدم، وأن ماضينا القريب حين يدور الحديث لا عن
العقود الأخيرة، وإنما أيضاً عن القرون القليلة الماضية باعث، هو الآخر،
كما الحاضر على خيبة الأمل . لا فكاك، إذاً، من بحث المستقبل بصرف النظر أي
مستقبل نعني: مستقبل السنوات القليلة القادمة، أو مستقبلنا بعد عقد أو
عقدين أو أكثر، أو مستقبلنا بعد نصف قرن مثلاً أو قرن بكامله، لأن
المستقبل، حتى ذاك الذي يبدو بعيداً اليوم، سيغدو في ومضة عين حقيقةً علينا
أن نعيشها بكل دقائقها، خاصة أن العالم الآن مشغول بما يدعى المستقبليات،
وهو علم يرمي لاستشراف المستقبل وترجيح السيناريوهات الممكنة لتطوره في ظل
واقع يندفع فيه هذا العالم بأقصى سرعة عرفها التطور البشري نحو آفاق
واكتشافات وسياسات سرعان ما تتقادم لتحل بدائلها الجديدة في حياة لم تعد
تعرف السكون والبطء وحتى البلادة التي ميزت تاريخ الإنسان في العصور
السحيقة يوم كانت الحضارات تعمر طويلاً، أما اليوم فان صورة العالم تكاد
تتبدل كل ربع أو نصف قرن تبدلاً كلياً، إما بحكم الحروب، وما تفرزه من
وقائع على الأرض، وإما بحكم ثورات العلم والتكنولوجيا والاتصال .

وإذا
كان البحث الاجتماعي والسياسي العربي يشكو من علل كثيرة، فان كبرى هذه
العلل هي هذا الاستخفاف بالمستقبل وعدم تهيئة العدة لاستقباله، لذا كثرت
المرات التي وجدنا أنفسنا فيها أمام كوارث، ربما كان بالإمكان تفاديها، لو
أن صناع القرار اهتموا ببحث احتمالات التطور المختلفة . يمر العالم العربي
اليوم بمنعطف حاسم في مجرى تطوره، ليس العرب وحدهم هم من يُقرر وجهته
وسيرورته، والصورة التي سيرسو عليها بعد حين يطول أو يقصر، فقوى كبرى،
دولية وإقليمية لها مصالح واستراتيجيات باتت طرفاً فاعلاً في ما يدور وما
سيدور، فهناك رؤية أمريكية وضعت بعناية تأخذ في الحسبان حجم مصالح واشنطن
في هذه البقعة الحيوية من العالم، وهناك رؤية أوروبية تتقاطع في نقاط
وتفترق مع أخرى مع رؤية أمريكا، وهناك طموحات إقليمية معلنة لدى تركيا ولدى
إيران، وقبل هذا وبعده هناك مشروع الهيمنة الصهيوني بعيد المدى . إنه
منعطف جدير بأن يبحث وتُدرس آفاقه وما سيجره من نتائج مستقبلية، أمام
احتمالات وسيناريوهات شتى لا يقل أي منها خطراً عن الآخر، إن تركت الأمور
تسير وفق ما يريدها لها الآخرون، الذين لا يعنيهم أبداً أن يكون العالم
العربي أفضل وأقوى مما هو عليه، هذا إن لم يكن الكثيرون منهم يريدونه وقد
ازداد تفككاً وضعفاً وتخلفاً وجهلاً .

اقرأ المزيد

موجة أصولية منفلتة

كانوا
قد أتموا للتو يوم صيامهم السابع عشر من شهر رمضان المبارك المصادف للخامس
من أغسطس/آب، واجتمعوا وتحلّقوا حول مائدة إفطارهم هناك في شمال سيناء على
الحدود الشرقية لمصر المتاخمة ل”إسرائيل”، مجموعة صغيرة من ضباط وجنود مصر
العزيزة، وإذا بهم أمام حفنة من القتلة المهووسين يباغتونهم غيلةً ويفتحون
عليهم النار ويردون منهم 16 قتيلاً ويصيبون منهم سبعة آخرين، قبل أن
يستولوا على مدرعتين خفيفتين متوقفتين أمام مركز الشرطة الحدودي الذي كان
مسرحاً للجريمة، ويحاولوا التسلل بهما إلى داخل قطاع غزة لتنفيذ عملية
“بطولية” (!!) ضد “إسرائيل”، وهي البطولة التي لم تظهر سوى على الجنود
المصريين الهاجعين، عُزّلا، لتناول وجبة إفطارهم . وفي تونس راحت الجماعات
الأصولية تستعرض عضلاتها على المجتمع والدولة التونسية معاً . ولم تكتف
بتنظيم أعمال الشغب في شوارع المدن والبلدات والأرياف التونسية، بل ذهبت
إلى أبعد من ذلك، حيث شنت العديد من الهجمات المسلحة على بعض مؤسسات الدولة
ومرافقها واشتبكت مع قوات الأمن التونسية بالأسلحة النارية في تصعيد خطير
يعيد إلى الأذهان الطريق الذي سلكته الجماعات السلفية المسلحة في الجزائر
حين لجأت إلى العمليات الارهابية سبيلاً للقفز إلى السلطة .

وفي
ليبيا، التي خرج منها مئات من كوادر ومقاتلي “القاعدة”، استغلت المجموعات
السلفية أجواء الانتفاضة الشعبية ضد نظام أسرة القذافي وانسلّت إلى صفوف
المنتفضين معلنةً بصورة سافرة عن تواجدها في الميدان العسكري والمشهد
السياسي الليبي الجديد . بل إنها استغلت هذا الجو بما في ذلك فوضى انتشار
السلاح، لتوسيع رقعة عملياتها في تهريب السلاح و”الجهاديين” جنوباً نحو
النيجر وتشاد ومالي التي احتلت المجاميع الارهابية المسلحة المتبنية لفكر
“القاعدة” مساحات شاسعة من أراضيها، ما يعني عملياً أن مالي أضحت في عداد
البلدان الساقطة ضحايا الارهاب الاصولي الأرعن الذي لم يوفر حتى أماكن
العبادة المسجلة لدى اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي، وكذلك نيجيريا
التي يستبيح فيها الإرهاب الأسود لمنظمة ما تسمى “بوكو حرام” تحت راية
الفكر القاعدي التكفيري، أبناء البلاد المسيحيين وكنائسهم وممتلكاتهم .

أما
اليمن الذي دخل منذ البداية على خط حركة الاحتجاجات الشبابية الواسعة
الموجهة نحو التخلص من بُنى الاستبداد والفساد القديمة والبحث عن مستقبل
آخر جديد لليمن خارج ذلكم “الصندوق البالي” الذي وضعهم فيه ذلكم النظام
العسكري/القبلي المتوارث منذ عهد الامامة . .فقد وجد تنظيم “القاعدة” في
الحراك الشعبي اليمني أرضاً خصبة مواتية للخروج العلني والانقضاض على
المناطق الهشة وابتلاعها ونشر رائحة الموت والدم فيها لترويع وإخضاع سكانها
على النحو الذي حدث لمحافظة أبين في جنوب اليمن، التي كشفت الصور التي
نقلتها أجهزة الاعلام مطلع شهر يوليو/تموز الماضي بعد تمكن قوات الجيش
اليمني بمساعدة الأهالي وقوات الدفاع الشعبي من طرد مسلحي القاعدة فيها، عن
الحجم المهول للدمار الذي خلفته القاعدة هناك، حيث بدت أبين من خلال الصور
المرعبة وكأن إعصاراً مدمراً قد ضربها، لدرجة أن تصنيفها بالمنطقة
المنكوبة لا يبدو كافياً للتعبير بما يكفي عن الحال الكارثية التي تكلفها
احتلال القاعدة لها . وفي العراق فإن الجماعات الارهابية المسلحة لا يكاد
يهنأ لها بال من دون أن تترك يومياً تقريباً بصمات أفعالها الاجرامية
قتلاً، وأشلاءً متناثرةً، ودماً مسفوحاً، ورائحة موت منبعثة من تحت أنقاض
الأماكن التي يرتادها الناس الأبرياء . وبقليل من التفحص والتبصر سوف يجد
المراقب النبيه أن الوضع الجنيني لانتقال المجاميع السلفية التي قطعت شوطاً
في تسييس رؤيتها الكونية الساذجة، من ميدان التنظير التكفيري والإلغائي
إلى الشروع في إنشاء التشكيلات القتالية لتنفيذ تلك الرؤية، نقول إن ذلك
الوضع الجنيني هو اليوم يكاد يكون شبه مكتمل حتى في البلدان العربية التي
لم تزل، حتى الآن، بمنأى عن الموجة الجديدة من الارهاب الأصولي الجارف،
متشجعةً في ذلك “بالهزات الارتدادية” التي أشاعها “زلزال” الربيع العربي
مطلع العام الفائت، والتي وضعت الجميع، في حيرة من أمرهم بشأن مآلاتها غير
المعروفة وغير المستقرة بعد .
وهكذا،
كأنما المنطقة العربية أصابها إعصار سلفي “جهادي” راح يجتاحها طولاً
وعرضاً تزامناً مع “هبات” الربيع العربي منذ إطلالته الأولى مطلع عام 2011
الماضي . وهو إعصار لا يختلف عن تلك الأعاصير الطبيعية كاعصار كاترينا
المدمر الذي ضرب مدينة نيو أورليانز الامريكية في 29 أغسطس/آب 2005 . وكما
أن للأعاصير الطبيعية أسبابها الجيوفيزيائية فإن للأعاصير “البشرية” التي
نحن بصددها أسبابها هي الأخرى، ومنها وأبرزها ربما نهوضها كرد فعل وقائي
على ما بدا أنه “إعصار ربيع عربي” غير محمود العواقب (على سبيل المثال تم
في اليمن إخراج “المارد” من قمقمه، وفي السودان تم التلويح به علناً ووو . .
.، مع أن التجربة أثبتت الخطورة الارتدادية لمثل هذه الاستعانات)، خصوصاً
بعد أن اتضحت القوة الاجتياحية “الدومينوية” ل “الربيع العربي” في غير ساحة
عربية، وحجم “التداعيات” التي يمكن أن يحدثها في الجدران التي طالما نظر
إليها الناظر بمهابة متانتها الشاخصة ككتلة سرمدية . الأدهى من ذلك أن ذلك
الاعصار السلفي يطلقونه باسم الدين الحنيف ومن دون أن يلقى ردود أفعال
تضاهيه وزناً وزجراً .

اقرأ المزيد