المنشور

لسنا مضطرين للاختيار الانتحاري – د.علي فخرو

من بين أصعب القضايا التي ستواجهها مجتمعات ما بعد ثورات وحراكات الربيع
العربي الناجحة، قضية نوعية ومقدار وسلاسة التوازن بين حاجات ومتطلبات
الفرد العربي من جهة، وبين متطلبات وسلطة المجتمع من جهة ثانية.

والواقع
أنها قضيةٌ متفجّرةٌ الآن في شوارع مدن مصر وتونس وغيرهما في شكل تصادمات
عنيفة بين بعض المتشددين الإسلاميين وبين بعض من يصفون أنفسهم
بالليبراليين.

وإذا كانت المصادمات حالياً حول حفلات الغناء والرَّقص
أو حول لباس المرأة ومحلات بيع الخمور أو حول بعض مظاهر السياحة
وممارساتها، فإنها ستنتقل في المستقبل إلى قضايا أعقد وأكثر إثارةً للجدل
والاختلاف. ذلك أن جذور هذا الموضوع تتعلق أساساً بالآتي: هناك فرد يريد أن
يمتلك أكبر قدر من الحرية الفردية بشأن مسلكه الشخصي وحركته في المجتمع
وعلاقاته مع الآخرين وما يؤمن به من عقائد وأفكار، وفي المقابل هناك مجتمعٌ
يضع مرجعيات وضوابط لتنظيم العلاقات بالنسبة للأفراد والمؤسسات من أجل ما
يعتبره كبحاً للشّطط وبناءً للسّلم الأهلي، وهو يقوم بتلك المهمّة من خلال
سلطة الدولة.

هذه المواجهة بين حدود ومقدار حرية الفرد وبين ضوابط
وسلطة المجتمع هي قديمة قدم تواجد المجتمعات البشرية، وهي قد مرّت في أشكال
من الإحن والمحن في كل الأزمنة والأمكنة، ولم يستطع أي مجتمع الوصول إلى
المعادلة المثالية التي تضمن للفرد حريته وللمجتمعات حقوقها.

ولعلّ
أكثر من حلّل وكتب الكثير وجرَّب إيجاباً وسلباً بالنسبة لهذا الموضوع هم
أهل حضارة الغرب، ذلك أن الحرية الفردية تحتلُ مكاناً كبيراً في ثقافتهم
وذلك منذ بداية حداثتهم، بل إنها أصبحت صنماً مقدّساً يعبد ولا يمسُّ،
وقيمة مطلقة لا سقف لها في ثقافة ما بعد الحداثة الغربية الجديدة. وقد تمّ
كل ذلك على حساب الروابط العائلية والاجتماعية من تعاضد وتراحم وتعاون
وتقاسم للخيرات، فكان طبيعياً أن تقود تلك النظرة الأنانية المنغلقة على
الذات إلى قبول قيام نظام اقتصادي رأسمالي متوحش لا يخضع إلا لمنطق السوق
وتلبية رغبات الفرد حتى ولو كانت جامحة عبثية.

من هنا الطّرح الواسع
الحالي في دوائر الفكر الغربية للطريق المسدود الذي وصلت إليه مجتمعاتهم
بسبب هيمنة مفاهيم الحرية غير المنضبطة وشبه المطلقة، وعلى الأخص في حقل
الاقتصاد والمال، وذلك في مقابل ضعف الروابط الاجتماعية الإنسانية بين
الفرد ومؤسسات المجتمع من جهة، وبين تلك المؤسسات مع بعضها البعض من جهة
ثانية. ويحذّر البعض إلى أن عدم حلّ تلك المعادلة من قبل التنازلات
المعقولة من قبل الجميع سيمهّد الطريق لقيام أنظمة حكم شمولية متعصّبة
قامعة، أو سيؤدّي إلى تفتُّت المجتمعات واهترائها من الداخل ونكوصها إلى
حالات التوحُّش اللاّإنساني والصّراعات المدمّرة.

أنطمة ما بعد
الثورات والحراكات العربية الناجحة تستطيع أن تتعلّم الكثير من تجربة الغرب
هذه، سلباً وإيجاباً، لتجُنّب مجتمعاتها وشعوبها ارتكاب بعض المبالغات
والانحرافات التي طبعت التجربة الغربية، وفي الوقت نفسه لتخرج مواطنيها من
حالات التهميش والإذلال والقمع التي عاشها الفرد العربي عبر قرونٍ من
التخلّف.

في الماضي اتجهت بعض المجتمعات الغربية نحو الفاشستية
والنازية والشيوعية الشمولية لتحل إشكالية المعادلة التي نحن بصددها، وفي
الثلاثين سنة الماضية اتجهت نحو رأسمالية السوق المتوحّشة غير المنضبطة
بقيم وقوانين، لكنها فشلت في كلا الحالتين عن إيجاد التوازن المطلوب بين
الفرد والمجتمع. وستكون كارثةً لو أن أنظمة السلطة في مجتمعات ما بعد
الثوارت اضطرت الشعوب العربية، بسبب الأخطاء والمبالغات والشّطحات التي
ترتكبها بعض دوائر هذه الأنظمة، اضطرتها إلى أن تختار بين مجتمعات تقوم على
حرية لا تضبطها قيم وأخلاقيات وقوانين ديمقراطية متوازنة عادلة، وبين
مجتمعات سلطوية دكتاتورية فاسدة تدّعي لنفسها حماية الفضيلة واستقرار
المجتمعات والسّلم الأهلي.

سيكون ذلك خياراً انتحارياً في كلا
الحالتين. وفي اعتقادي أن في التراث الفكري العربي الإسلامي الرَّصين غير
السُّلطاني وغير المبتذل، وفي فكر وتجارب الآخرين، ما يمكن أن يجنّبنا
الوصول إلى ذلك الاختيار الانتحاري المفجع.

علي محمد فخرو
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

ثقافة الإفلات من العقاب – سوسن دهنيم

العنوان أعلاه كان عنواناً لندوة أقيمت في جمعية المنبر التقدمي
الديمقراطي بداية هذا الأسبوع، تحدث فيها المحامي حميد الملا وابن الشهيد
عيسى عبدالحسن ووالد الشهيد علي نعمة.

ما لفت النظر في الندوة،
إضافةً للتجاوزات والقصص التي ذكرها المنتدِيان؛ كان حديث والد علي نعمة
وسرده لتفاصيل فقد ابنه، حيث أكد أن ابنه قُتِل بعد أن كان ذاهباً
للاطمئنان إلى أن المكان آمن للتظاهر السلمي أم لا، لكنه حين رأى الشرطي
فرّ هارباً صارخاً أن هناك رجال شرطة في الممر، وما كان من أحدهم إلا أن
أطلق عليه الشوزن من مسافة قصيرة فأصاب ظهره، وحين قام الطفل بصعوبة بعد
الإصابة أطلق الشوزن عليه للمرة الثانية في الظهر ليبلغ عدد الشظايا التي
اخترقت جسده الضعيف 104 شظايا.

يبدو الأمر، على صعوبته، عاديّاً لمن
اعتاد سماع مثل هذه الحكايات؛ لكن ما حدث بعد ذلك يدعو إلى التساؤل عن كل
تلك التجاوزات التي حدثت بعد القتل، فإن صدقنا أن القتل كان دفاعاً عن
النفس على رغم تأكيد والد الضحية ومن معه أن الطفل لم يكن يحمل سلاحاً أو
مولوتوفاً كما ادعت الجهات الرسمية، وعلى رغم وجود الإصابة في الظهر التي
تبين أنه كان هارباً ولم يكن مواجِهاً، فماذا عن بقية التجاوزات التي سردها
والد القتيل.

يقول نعمة: «سحب ابني على الإسفلت حتى وصلوا به إلى
الشارع العام حيث مركبات الشرطة، لكنهم قبل سحبه أشبعوه ركلاً وضرباً،
ليفقد الأمل في نجاته بعد كل ذلك الضرب، ويؤكد نعمة أنهم لم يخبروا عائلته
عن مصيره بعد أن تجمعوا للسؤال عن حالته الصحية ووضعه القانوني، بل إنهم
ألقوا على ابنه قنبلة صوتية حين اقترب منهم متسائلاً عن مكان وجود ابنه
ليراه، حتى مع علمهم بأنه والده، وبعد انتظار طويل أخبره أحدهم بأن ابنه
بخير وأنهم بانتظار الإسعاف الذي وصل بعد 37 دقيقة ليحمله إلى مستشفى
السلمانية حيث يمكنهم تسلمه من هناك من دون الحاجة إلى التحفظ عليه أو
التحقيق معه، كما أكد له أحد رجال الأمن!

الإسعاف لم ينقل القتيل كما
أكّد والده، بل بقي على الأرض وسط انتظار الجميع لمعرفة مصيره وكذب أحد
المتواجدين من رجال الأمن الذي أكد أن الطفل قد دخل في سيارة الإسعاف وأنه
في طريقه للمستشفى، لكن عمته لحقت بهم فأخبروها أنه ليس في السيارة وأنه
متوفى على الأسفلت.

التجاوزات التي حدثت من ضرب وسحب على الإسفلت
وإلقاء القنبلة الصوتية والكذب والاعتداء اللفظي على عائلة القتيل، ألا
تستحق تحقيقاً مستقلاً، للتحقق من وقوعها وما يترتب على ذلك من معاقبة
مرتكبيها، إضافة إلى الحادثة الأهم وهي القتل العمد الذي اعتبرته الجهات
المعنية قتلاً للدفاع عن النفس؟

لقد أكد جمهور تلك الندوة ضرورة وجود
قضاء مستقل نزيه يضمن لكل ذي حق حقه، بعد أن استمعوا لشهادة عوائل
الضحايا، ولكثير من المواقف التي سردها المحامي الملا عن مذنبين أفلتوا من
العقاب. أراد الجمهور كما غيرهم من أبناء هذا الشعب قضاءً مستقلاً ليكون
ضماناً للجميع لأن يتقدموا بشكاوى ضد كل الاعتداءات التي وقعت عليهم،
وليشعروا بأنهم مواطنون حقيقيون وليسوا مجرد أرقام في سجلات الإحصاء لا
حقوق لهم في حفظ كرامتهم وإنسانيتهم وأمنهم.

ومازالت ملفات الشكاوى
في قضايا التعذيب والقتل عالقة؛ بعضها لم يفتح بعد، ولا يعرف أصحابها إلى
أين وصلت… لأن الوقت يبدو لايزال مبكراً على معرفة الحقائق.

سوسن دهنيم
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

خواطر بحرينية أثناء متابعة الانتخابات الأميركية

يوم أمس توجهت الأنظار لمتابعة الانتخابات الأميركية، ولمعرفة فيما إذا
كان الأميركيون الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع سيمنحون أصواتهم لولاية
ثانية للرئيس باراك أوباما، أو أنهم سيختارون منافسه الجمهوري ميت رومني…
ولفتت انتباهي مقابلات وحوارات أجرتها فضائيات مع عرب أميركان تحدثوا فيها
عن وجهات نظرهم عن شخصية كل مرشح، وعن رغباتهم وآمالهم. هؤلاء العرب
الأميركان لا قيمة لرأيهم في بلدانهم الأصلية، ولم يكن أحد سيأبه بما
يقولونه، ولكن استنشاقهم الحرية والعيش في بيئة تضمن كرامتهم أفسح المجال
لهم لإبراز أفضل ما لديهم كبشر يتطلعون لمستقبل أفضل يشاركون في صنعه من
خلال عملية سياسية ديمقراطية.

ولو قارنا الإنسان العادي في أميركا،
والإنسان العادي في أي بلد من بلداننا العربية فلربما أننا لا نجد فروقات
تذكر، سوى أن المجتمع الذي تتأسس فيه الحياة السياسية على إرادة المجتمع
يستخرج أفضل ما لدى الناس، أمّا المجتمع المختنق سياسياً فلا يفسح للقدرات
الخيرة بالانطلاق، بل وترى الجوانب الجشعة هي البارزة في الحياة العامة.

أثناء
متابعتي للانتخابات الأميركية كنت أيضاً منشغلاً جداً بما يجري في بلادي
البحرين، وبين المتابعة والانشغال أجد أن في متابعتي لما يجري في أميركا
تحريكاً للفكر، وهو أشبه بالعصف الذهني الخلاق، وهذا يختلف عن متابعتي
لشئون بلدي التي يطغى على أجوائها التحشيد النفسي والعاطفي، وترى أن كثيراً
من التحليلات إنما تخضع لرؤى بالية عفا عليها الزمن.

التحليلات عن
الوضع الأميركي تنظر إلى المستقبل، بينما لا يتعدى كثير مما يطرح في
البحرين وجهات نظر ميتة ينبشها البعض بحثاً عن تبريرات لمنع عبور المجتمع
نحو مستقبل رحب يفسح المجال للجميع للعيش بكرامة ووئام. أأمل أن يتمتع
أبناؤنا بمستقبل أفضل يمكنهم من التعبير عن آرائهم بنفس الطريقة التي عبّر
فيها العرب الأميركان يوم أمس عن أنفسهم، وأأمل أن نحكم عقولنا لتحقيق
الآمال الإنسانية المشروعة، بعيداً عن الأحقاد والأوهام التي تعشش في
الرؤوس ولا تنتج لنا سوى الآلام.

منصور الجمري
صحيفة الوسط البحرينية 
اقرأ المزيد

أثر الربيع العربي في انتخابات الرئاسة الأميركية

لا تخفى على أحد حالة الترقب العربية وحتى الخوف أحياناً من المتغيرات
التي قد تطرأ مع كل إدارة أميركية جديدة تظهر بعد إعلان نتيجة انتخابات
الرئاسة الأميركية التي تتابع عن كثب في كل بلد يريد أن يعرف من سيكون
الرئيس الأميركي القادم لأقوى دولة حاليّاً في العالم.

وبلا شك؛ فإن
التطورات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، إثر ثورات الربيع العربي نفسها؛
تفرض نفسها على أجندة مرشحي الانتخابات الرئاسية الأميركية، في ظل تأثير
التطورات والتغيرات التي تشهدها دول المنطقة على المصالح الأميركية. وقد
تزايد هذا التأثير مع اغتيال السفير الأميركي في ليبيا جون كريستوفر ستيفنز
على خلفية الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة وحضور قضايا الشرق الأوسط في
المناظرات التليفزيونية بين الرئيس الأميركي باراك أوباما الساعي إلى الفوز
بولاية ثانية ومنافسه الجمهوري ميت رومني.

ويرى مراقبون أميركيون أن
مشاكل الشرق الأوسط لن تنحل خلال الأعوام الأربعة المقبلة. ومن المحتمل أن
يزداد الوضع سوءًا قبل أن يتحسن. وبهذا يصبح السؤال الرئيسي الذي سيواجهه
الرئيس الأميركي القادم هو: إلى أي حد ينوي التخفيف من مشاكل المنطقة،
والمساعدة في توجيهها للخروج من أسوأ المسارات إلى أفضلها. لكن الملاحظ
انه أثناء الانتخابات التمهيدية؛ اتخذ كلا المرشحين مواقف متباينة جدّاً.
فثمة فجوة كبيرة بين الديمقراطيين والجمهوريين فيما يتعلق بالشرق الأوسط،
فالحزبان مختلفان حول السياسة المفترض انتهاجها في المنطقة.

وعن
الدول المتحولة إلى الديمقراطية، مثل: تونس ومصر وليبيا؛ فمن الضروري أن
تتضمن المعايير الأميركية دعم تلك الدول من خلال عدم التدخل العسكري في
الشئون المدنية، واستقلال القضاء، ودعم حرية الصحافة وحمايتها. أما في حالة
الأنظمة الملكية فيجب أن تركز هذه المعايير على إتاحة الساحة السياسية
للجماعات المعارضة، وعلى انتقال السلطة تدريجيّاً إلى المؤسسات المنتخبة
بإرادة الشعب، وهو ما أشار اليه الباحث شادي حميد في ورقته التي طرح فيها
بعض السياسات التي ينبغي على الرئيس الأميركي القادم انتهاجها إزاء الشرق
الأوسط، في الحلقة النقاشية التي عقدها مركز بروكينجز في (25 سبتمبر/ أيلول
2012) لبحث التحديات التي سيواجهها الرئيس القادم في منطقة الشرق الأوسط،
وكيفية التعامل معها، وجاءت الحلقة تحت عنوان: «الحملة الانتخابية للعام
2012: الصحوة العربية».

إن التحديات التي سيواجهها الرئيس الأميركي
الجديد في المنطقة؛ لا يمكن تجاهلها، فهي بدأت تفرض نفسها على الساحة؛
ومنها كيفية استثمار الموارد بطريقة ترسي الديمقراطية والاستقرار في
المنطقة بما يخدم المصالح الأميركية، وتبني حوار مفتوح وواسع مع جميع
الأصوات الثائرة في المجتمع العربي من دون انتقائية، التوفيق بين القضايا
المتعلقة بالمشكلات الأمنية في المنطقة من ناحية، والديمقراطية والإصلاح من
ناحية أخرى، إضافة الى أهمية الحفاظ على الحوار مع الجماعات السياسية ذات
المرجعية الدينية؛ لأن الفشل في الحفاظ على الحوار من الممكن أن يضر
بالمصالح الأميركية؛ لأن هذه الجماعات ستظل جزءًا مهمًّا من المشهد السياسي
العربي لفترة من الوقت، لأن النجاح الدائم للاسلاميين لا يعني أنهم سيبقون
للأبد؛ فالبيئة السياسية ستتطور وتتغير لأنها ستخلق بيئة تنافسية تعددية.

تلك
هي التحديات المصاحبة لمرحلة ما بعد الربيع العربي، وتحديداً في مرحلة
الصحوة العربية، على رغم أن المنطقة العربية من خليجها إلى محيطها من أكثر
المناطق التي تراعي فيها الولايات المتحدة الأميركية إبقاء ما يسير مصالحها
وعلى رغم هبوب رياح التغيير في مطلع العام 2011، ولذلك فإنه في عشية
انتخابات الرئاسة الأميركية تنتاب الأنظمة العربية المنشغلة بقمع احتجاجات
ربيع الشوارع حالة من الترقب وخاصة وهم يشعرون بأمن من يبقيهم في السلطة
وهو ما يأتي ضمن حسابات ومعادلات خاصة تتبنى نظرية المصالح في مقابل قمع
الشعوب.

ما عاشته شعوب المنطقة العربية على مدى أربعين عاماً لم يكن،
حقيقة، «استقراراً» بالمفهوم السياسي الصحيح؛ لأنها كانت أربعين عاماً مرت
من الاستبداد السياسي واقصاء الآخر واستياء شبابي واحتكار اقتصادي في ظل
جو لا يخلو من الفساد بأنواعه وأشكاله… لذلك فانه من الضروري العمل مع
القاعدة الشعبية ودعم الاستقلالية الفردية وتكافؤ الفرص، وهذا لن يتم الا
من خلال دعم السياسات الجديدة في منطقة الربيع والصحوة العربية.

ريم خليفة
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

«نورانا» الحلم المفقود

أرى ما يقال عن أن جيل الستينات والسبعينات من القرن الماضي هم الأكثر
حظاً في البحرين، صحيحاً تماماً، وأنا أراقب الأطفال يوم الجمعة الماضي
يلهون ويسبحون على الشواطئ المدفونة بالقرب من قراهم في مشروع «نورانا».

ففي
أقل تقدير فإن من ولد في الستينات والسبعينات، قد حظي بفرصة أن يرى الجمال
الطبيعي لجزر البحرين وكانت له الفرصة في طفولته أن يصطاد الطيور المهاجرة
بالفخاخ وأن يقطف بعض الثمار المحلية، كاللوز والكنار والباباي من الحقول
والمزارع المحيطة بالقرية، وأحيانا يمكنه الإغارة مع أصدقائه في غفلة على
«الحظور» القريبة من الساحل ليسرق بعض الأسماك الصغيرة، ومع ذلك لم يكن أحد
من أصحاب المزارع أو «الحظور» يغضب من ذلك، وإنما كانوا يغضون الطرف عن
هذه السرقات الصغيرة.

كانت المزارع ممتدة على مرمى البصر، ومياه
البحر تضرب بأمواجها حيطان البيوت في بعض القرى، قبل أن يستولي المتنفذون
الكبار على جميع المزارع ويحولونها إلى مبان شاهقة ويستولون على الشواطئ
ويسيجونها بحيطان لا يمكن للمواطن البسيط أن يجتازها لمجرد أن يرى البحر
الذي يحيط بدولته من جميع الجهات، ومع ذلك لا يمكن أن يراه أو أن يستمتع
بالسباحة فيه، أو حتى أن يشم رائحة الهواء المشبع برائحة ملحه وأمواجه،
فحسب تقرير لمنظمة «الفاو» فإن المتنفذين استولوا على 97 في المئة من شواطئ
البحرين ولم يبق للمواطنين غير 3 في المئة فقط.

ومثلما يشعر هذا
الجيل بالحسرة والألم وهو يرى أجزاء من وطنه تنهب يوما بعد يوم، فإنه يشعر
بالألم وهو يرى أطفال قرى كرانة وجنوسان وباربار وجدالحاج، وهم يسرقون
فرحتهم لفترة وجيزة على سواحل قراهم ويسبحون للمرة الأخيرة على شواطئ وطنهم
قبل أن تحاط بأسوار عالية يقف على أبوابها حراس يمنعونهم من الوصول لهذه
الشواطئ. فقد وجد بعض الأهالي في المنطقة المدفونة من البحر لمشروع
«نورانا» متنفساً لهم يستمتعون به أيام الجمع والعطل الرسمية.

مشروع
«نورانا» الذي يقع على مساحة مليوني متر مربع من الأراضي المدفونة في البحر
على شواطئ أربع قرى من المقرر أن يحتوي على مدينة نموذجية تتضمن مناطق
تجارية وسكنية ومقاهي ومطاعم ومنشآت ضيافة وتسلية وترفيه راقية، على بضع
خطوات من أفقر القرى في البحرين وأكثرها احتياجاً للبنى التحتية والخدمات.

مشروع
«نورانا» لم يكتفِ بالاستيلاء على شواطئ هذه القرى، وإنما استولى أيضا على
قطعة أرض مملوكة للديوان الملكي تبلغ مساحتها 16 هكتارا، وتتسع لقرابة 480
وحدة سكنية، خصصت لمشروع إسكاني للأهالي منذ العام 2004.

ورغم أن
المشروع لم يحصل على موافقة المجلس البلدي ويعتدي على الشواطئ والسواحل
والمنافذ البحرية ويدمر الصيد والثروة البحرية والبيئة، وينال من المشروعات
الإسكانية المخصصة للقرى المجاورة له، وهو مخالف للمخطط الهيكلي
الاستراتيجي للبحرين، لم يستطع أحد إيقافه، ليقطع جزءاً آخر من الوطن، يمنع
المواطنون من الدخول إليه أو حتى رؤيته.

جميل المحاري
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

خطآن إزاء التحول الديمقراطي



في
الكثير من البلدان العربية التي عانت من حكم الفرد أو الحزب الواحد، ومن
غياب الانتخابات أو من تزويرها، أزف الوقت، بعد متغيرات عام ،2011 لإجراء
انتخابات توافرت على مقادير معقولة من النزاهة وعدم التزوير بشهادة
المراقبين الدوليين، لكن مخرجات هذه الانتخابات “النزيهة”حملت إلى رئاسة
الجمهورية أو الحكومة، فضلاً عن المجالس التشريعية، بقوى وأفراد لا يمكن أن
يصنفوا في خانة القوى المؤمنة بالديمقراطية، فهي نتاج منظومات فكرية
شمولية، غير عصرية، ومعادية للديمقراطية، مبنى وفكراً، حتى لو كانت استخدمت
هذه الديمقراطية قاطرةً لها إلى السلطة .


ستبرهن
التطورات التي تلت ظفر هذه القوى في الانتخابات على صحة هذا القول، وعلى
جدية مخاوف القوى الأخرى التي حذرت مما ينتظر مجتمعاتها من مخاطر القوى
الظافرة، ولنا في التطورات الراهنة في مصر وتونس مثال، وجاء مضمون التسجيل
المسرب عن لقاء زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي مع ممثلي التيارات
السلفية في بلاده، ليكشف عن الوجه الحقيقي للحركة التي صنفت بأنها الأكثر
اعتدالاً بين نظيراتها العربيات، لنجد أن خلف القشرة الخارجية البراقة يقبع
مضمون إقصائي، أبعد ما يكون عن فكرة الحداثة ووجهتها .


إزاء
ذلك نحن أمام أطروحتين، إحداهما لا يخفي أصحابها حنينهم إلى الأنظمة
المطاحة في البلدان المذكورة، بحجة أنها على مساوئها كانت أفضل ممن جاؤوا
بعدها، على الأقل من زاوية عدم التعدي على الحريات الفردية والمدنية، فهي
لم تسعَ إلى فرض نمط عيش متزمت على الناس بالقسر، وهو قول لا يخلو من
الصحة، لكن أصحابه يغفلون عن حقيقة أن ما تجنيه الشعوب اليوم على أيدي
الأنظمة الجديدة هو الثمرة المرة كالعلقم لنهج الاستبداد الذي دام عقوداً
ودمر مواقع الحداثة في المجتمع وهمّشها وأفرغها من محتواها، وعطل الممارسة
الديمقراطية الكفيلة بخلق الوعي الديمقراطي الذي لا يتشكل إلا عبر هذه
الممارسة التي من خلالها نختبر قابليات الناس لأن يحسنوا استخدام
الديمقراطية، حتى تصبح هذه الديمقراطية ثقافة وتعليماً نتلقاهما في كل
مفاصل الحياة، بما في ذلك في غرف البيوت وفصول الدراسة . 


ويغفل
أصحاب هذا الرأي عن حقيقة أن الأنظمة المنهارة موضوع الحنين وهي تهمش
مواقع الحداثة وقواها، كانت تشجع وتمالئ القوى المتزمتة والمحافظة، بل إنها
جعلت منها مخالب قط ضد القوى التقدمية والقومية، حتى جاءت اللحظة التي
ترسّخ نفوذ المتزمتين والإسلامويين، فاخترقوا بنى المجتمع ومواقع النفوذ
فيه، وتعززت إمكاناتهم المادية والتعبوية، بحيث باتوا القوة الأفضل تنظيماً
وجاهزية لتنقض على المجتمع والدولة في اللحظة المناسبة .


أما
الأطروحة الثانية فيذهب أصحابها إلى القول إن هذه الموجة الإخوانية،
والإسلاموية عامة، هي من القوة والتأثير، فليترك للناس امتحانها في الواقع،
حتى يصلوا في نهاية المطاف إلى قناعة بعجزها عن حل مشكلاتهم وتحسين
أوضاعهم، فينصرفوا نحو اختيار البديل . لكن يعيب هذا الطرح نزعته
الاستسلامية أمام هذه الموجة المدمرة التي ستعيدنا عقوداً إلى الوراء،
والحق أن التطور الموضوعي للظاهرة الإسلاموية مصيره الإخفاق، لكن وعي الناس
بهذا لن يتحقق تلقائياً إنما بعمل مثابر، حيث على قوى الحداثة استنهاض
طاقاتها، وهي ليست قليلة أبداً، من أجل تقصير مخاض التحول الراهن وتحويله
إلى المسار الذي يستجيب لمصالح أوطاننا في الكرامة والتقدم والتنمية وتوجيه
الثروات لمصالح الشعوب .
اقرأ المزيد

الإفلات من العقاب هل هي سياسة ممنهجة أم حالات فردية؟


 

أقيمت مساء أمس بمقر جمعية المنبر التقدمي ندوة عن “  الإفلات من العقاب سياسة ممنهجة أم حالات فردية ؟” تحدث فيها المحامي حميد الملا ومجموعة من الأهالي والضحايا.


هنا ننشر الورقة التي قدمها المحامي حميد الملا بالتفصيل:

فيما يتعلق بندوة الإفلات من العقاب، وهي جريمة من الجرائم الماسة بالمجتمع، على إعتبار بأن الإفلات من العقاب يساهم ويسهل مرتكبيه في المزيد من الإنتهاكات دون أي رادع يذكر، وبالتالي غياب العقوبة لمن تسببوا في القتل خارج نطاق القانون والتعذيب والإختفاء القسري والإعتقال التعسفي. 


كل هذه الإنتهاكات المجرمة بموجب القوانين المحلية والدولية، هي مسئولية خاصة بالدولة التي يفترض بها أن تقوم بحماية مواطنيها، ومن ثم عليها أن تردع من يعتدي عليهم من خلال إيجاد ترسانة من القوانين والآليات التشريعية لتجريم الإفلات من العقاب. 


وهذه الآليات والقوانين لن تتمكن أي دولة من سنها، إلا في ظل الإعتراف بوجود هذه الإنتهاكات، فإن لم تعترف الدولة بحصول هذه الإنتهاكات وبالتستر عليها فإنه من المستحيل حصول إنصاف للضحايا، وعليه لا بد من أن يساق هؤلاء الجناة إلى العدالة ومن ثم يتسنى إنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب بخلاف ما نراه حالياً بأنه هنالك محاولة خجولة في تقديم بعض هؤلاء الجناة إلى المحاكم وعلى إستحياء ليدخلوا من باب المحكمة كمتهمين ويخرجوا بالبراءة من الشباك. 


وبهذه المناسبة، نود أن نلفت عنايتكم إلى توصيف هايدمان للحكم التسلطي في حلته الجديدة والتي تتناسب والعصر، والتي حددها في أربعة بنود، والتي طبقتها البحرين بحذافيرها وبشكـل يفـوق مـا توصـل إليـه هايدمان نفسه. 


أولاً: الإستيلاء على المجتمع المدني وإحتواءه. 


ثانياً: إدارة الإعتراض السياسي. 


ثالثاً: حيازة فوائد الإصلاح الإقتصادي. 


رابعاً: تنويع الروابط الدولية. 


فإنه لم يعد مخيفاً بأن الدولة وهي التي تمتلك القمع والإكراه أن تكون مقيدة بالمراقبة الدولية ومعايير إحترام حقوق الإنسان، فأي سلوك مخالف يعد إنتهاكاً لتلك الحقوق المعترف بها دولياً وتصنف في هذه الحالة في خانة الجرائم ضد الإنسانية كالتعذيب والمعاملة السيئة والإختفاء القسري والإعتقال بسبب الرأي والمس بالحق في الحياة والقمع الثقافي والإقتصادي ومنع ممارسة الحقوق السياسية والتطهير العرقي والطائفي. 


وفي هذا الصدد، لا بأس من ذكر من أن كل تلك الجرائم وعلى مدى عقود من الزمن وبتطور مفاهيم حقوق الإنسان، وجدت لها مكاناً في محاكمات دولية، كمحكمة نورمبرغ ضد النازيين ومحكمة طوكيو لمجرمي الحرب من اليابانيين ومحكمة مجرمي يوغسلافيا السابقة ومحكمة مجرمي رواندا، وأخيراً المحكمة الجنائية الدولية. 


وبناءٍ عليه، فإن أهم ما جاءت به حقوق الإنسان هو المسائلة بالنسبة لجميع المؤسسات والأفراد ليصبح العقاب مجالاً ملزماً ومنظماً لسير حُسن العدالة. 


ولو إستعرضنا التاريخ الحقوقي والسياسي للبحرين، فإننا سنجد على مدى عقود طويلة من الزمن بأنه لم يتعرض أي من المسئولين عن القتل خارج القانون والمعذبين لأي عقوبة، والتاريخ السياسي يشهد بأن في سجوننا دخل الكثير وإستشهد الكثير، ولازال معذبيهم وقاتليهم ينعمون بالحياة المرفهة، بل حصلوا على مكافآت على جرائمهم، وحصِنوا من الملاحقة القضائية بموجب قوانين أصدرت خصيصاً لهذا الغرض وقانون 56 لسنة 2002 مثالاً على ذلك، والأدهى والأمّر، فإن من قُدِموا بجناية القتل والتعذيب لازالوا طُلقاء، على الرغم من فداحة هذا الجرم، كما أن آخرين لم تحرك النيابة أي دعاوى ضدهم بحجة عدم كفاية الأدلة أو دفاعاً عن النفس، والمثال الصارخ هو ما توصلت إليه النيابة في قضية الشهيد حسام الحداد من أنها أي النيابة (إستخلصت من خلال كافة مجريات التحقيق وسلوك طرفي الواقعة إنما قام به رجل الأمن كان أمراً حتمياً عليه، لدفع ضرر محدق ألّم به يكاد أن يؤدي بحياته). كما أن النيابة في قضية أخرى في إستشهاد علي حسين نعمة، ذكرت (بأن ما قام به الشرطي كان أمراً حتمياً عليه لدفع ضرر محدق ألّم به يكاد أن يؤدي بحياته)، وبناءً عليه تم حفظ الأوراق في الواقعتين، على الرغم من وجود تقارير طبية وصور تؤكد خلاف ذلك، ومثالاً على ذلك التقرير الطبي الصادر بتاريخ 28 سبتمبر 2012م  من قبل مستشفى السلمانية والخاص بالشهيد علي حسن نعمة والذي يبين بأن سبب الوفاة هي إصابة نارية (شوزن) بالظهر. 


بينما حوصرت قرية بأكملها، ألا وهي قرية العكر، عندما إتهمت الداخلية بأن هنالك هجوم وقع على أحد منتسبيها أدى إلى وفاته وذلك بتاريخ 17 أكتوبر 2012م 


وإنطلاقاً من المقدمة، وبناءٍ على ما توصلت إليه اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق (لجنة بسيوني) والتي أصبحت الآن تعهدات أمام الدول الأعضاء بمجلس حقوق الإنسان ويتابع تنفيذها خبراء حقوق الإنسان التابعون لآليات الأمم المتحدة، من المفيد إستعراض البعض منها من أجل إطلاعكم على تلك التوصيات وما آلت إليه للإرتباط لما نحن بصدده من موضوع. 


فكما تعلمون، بأن التوصيات التي نتجت عن المراجعة الدورية الشاملة لملف البحرين الحقوقي في جنيف كان عددها 176 توصية، وافقت الحكومة على 145 منها بشكل كلي و13 بشكل جزئي، كما أن الحكومة قد وافقت لاحقاً على توصيتين أخريين. 


ومن ضمن تلك التوصيات التي وافقت الحكومة عليها، هي التنفيذ الكامل للتوصيات الواردة في تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، وعلى الأخص في ذلك وضع برنامج للمصالحة الوطنية، وتلبية تطلعات المجموعات التي هي ضحية للتمييز، وضمان تحقيق المحاكمة العادلة للمعتقلين أمام المحاكم الجنائية العادية، ووفقاً للمعايير الدولية، ورفع جميع القيود المفروضة على تنقلات الصحفيين الأجانب والمنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان، والعمل على تنفيذ الإلتزامات الوطنية بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وإتفاقية مناهضة التعذيب وإتفاقية حقوق الطفل، والإفراج الفوري ودون قيد أو شرط عن جميع الأشخاص المحكوم عليهم بسبب ممارستهم لحقوقهم الأساسية في حرية التعبير والتجمع، وخصوصاً خلال الإحتجاجات المناهضة للحكومة في فبراير 2011م، والتحقيق في حالات الوفاة في الحجز، ومحاكمة جميع المسئولين عن التعذيب وسوء المعاملة وعمليات القتل الغير قانونية، والإعتقالات التعسفية على نطاق واسع وتنفيذ الإلتزام بإعادة بناء المساجد التي تم هدمها، وإلغاء أو تعديل قانون الصحافة لعام 2002م بإزالة جميع القيود على حرية الصحافة والتي لا تتفق مع الأحكام ذات الصلة بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وبذل كل الجهود لتخفيف الرقابة، ومنح الجماعات المعارضة المساحة المناسبة لها عبر وسائل الإعلام، وإلغاء الأحكام القانونية التي تقيد على نـحـو غير ملائم المظاهرات السلمية، وإزالة القيود المفروضة على حرية التعبير والسماح للمعارضة بالوصول إلى وسائل البث التلفزيوني والبث الإذاعي والإعلام المطبوع. 


أما التوصيات التي رفضتها الدولة، فقد تمثلت في 6 توصيات تتعلق بالإنضمام للمحكمة الجنائية الدولية، وكما تعلمون بأن الإنضمام إلى هذه المحكمة يعني ضرورة إصدار تشريعات وطنية عبر البرلمان ونشرها في الجريدة الرسمية وإعتماد إجراءات كاملة للتعامل مع المحكمة، حيث أن هذه المحكمة تنظر في القضايا الخطيرة لإنتهاكات حقوق الإنسان بمجرد أن يحال الملف إليها من مجلس الأمن الدولي أو كون تلك الدولة المشتكى عليها عضو صادق على الإنضمام إلى المحكمة. 


والحكومة أيضاً قد رفضت توصيتين أخريين بإعتماد البروتوكول الإختياري لإتفاقية مناهضة التعذيب، وهذا البروتوكول يسمح لخبراء الأمم المتحدة بزيارات منتظمة للأماكن التي يعتقد أن تعذيباً قد جرى فيها. 


كما رفضت الحكومة 3 توصيات بإعتماد البروتوكول الإختياري الأول الذي يسمح لخبراء الأمم المتحدة بإستلام شكاوى المواطنين مباشرة، ورفضت الحكومة عدة توصيات طالبتها بإلغاء عقوبة الإعدام بصورة مطلقة ضد أي شخص وبخصوص أي جريمة. 


كما رفضت الحكومة توصيات أخرى، من ضمنها توصية صادرة عن السويد بإزالة جميع القيود عن مؤسسات المجتمع المدني وإفساح المجال لها للمشاركة العلنية في كل ما يخص حقوق الإنسان، وتوصية أخرى صادرة عن الدانمارك التي طالبت بإستلام الناشط الحقوقي المعتقل عبدالهادي الخواجة لتلقي العلاج بحسب إتفاق تم بين البلدين في 14 مارس، ورفضت الحكومة توصية الفلبين بالتصديق على الإتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأعضاء أسرهم وخدم المنازل. 



الأخوة والأخوات،،،




ومن هنا فقد أصبح على الدولة إلتزامات لم يعد بالإمكان التملص منها، إلا بالإلتفات عليها أو تنفيذ البعض منها في حدود عدم المساس بالجوهر، ولذلك فأنتم ترون بأم أعينكم كيف أخذت تلك التوصيات مجرىً آخر يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق أغراضهم في عدم تنفيذ أي من التوصيات. 


وإستناداً إلى ذلك، وما يهمنا في موضوع الإفلات من العقاب، فقد عمدت الحكومة إلى تشكيل هيئات ومؤسسات ولجان شكلية تُعنى بتنفيذ تلك التوصيات، وعلى إثرها قامت النيابة بتأسيس وحدة خاصة بشكاوى التعذيب يشرف عليها المحامي العام، وهذه الوحدة كما تعلمون قد حققت مع مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين تعرضوا للتعذيب وعلى الأخص الطاقم الطبي والذي بلغ عدد من قدموا بلاغات بشأن التعذيب ما يقارب 28 طبيباً ليقدم فقط للمحكمة عدد 6 أطباء، ليس من بينهم الدكتور علي العكري، وهو الذي تعرض لأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي، لتعرفوا مقدار التلاعب والإلتفاف على تلك التوصيات، هذا إلى جانب لجان عدة على هذه الشاكلة. 


وقد حضيت قضية الصحفية نزيهة سعيد بما لم تحضى به أي قضية أخرى كبقية القضايا عدى الأطباء، والتي بموجبها برأت المحكمة ملازم أول من الشرطة النسائية لتعديها على الصحفية المذكورة بقصد حملها على الإعتراف بجريمة، وهي إحدى المشكو ضدهم بالتعذيب والذين لم يقدموا حتى تاريخه، أما قضايا قتل المؤمن وعبدالحسن فقد برأت المحكمة المتهمين فيها أثنين من الأمن العام بتهمة الإعتداء المفضي إلى الموت، حيث قضت المحكمة فيهما ببراءة المتهمين مما نسب إليهم، بعد أن سبق للمحكمة أن عدلت وصف التهمة الموجهة للمتهمين في القضية المذكورة من الضرب المفضي إلى الموت إلى القتل العمد. 


وكون المجني عليها صحفية، إهتمت الصحافة المحلية والعالمية بموضوع التعذيب الذي تعرضت له كما ذكرنا سابقاً، حيث تمت تغطيته من قبل وسائل إعلام عديدة ومتعددة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: لوفيغارو الفرنسية، وكالة الأنباء الفرنسية، فرنسا 24 في محطاتها الثلاث، إذاعة مونتي كارلو الدولية، الموقع الإلكتروني للأصوات الليبرالية، الموقع الإلكتروني لكيم أندرو، موقع مراسلون بلا حدود باللغات الثلاث، موقع اللجنة الدولية لحماية الصحفيين، موقع 972 ، السفير اللبنانية، القدس العربي، الدستور الأردنية، صوت المنامة، ديلي تريبيون، الوسط وباقي الصحف المحلية كالأيام ، البلاد، أخبار الخليج، الوطن. 


وللأسف الشديد، رغم فداحة الجرم الذي إرتكبته قوات الأمن والشرطة بقتل المتظاهرين في أحداث فبراير 2011م، فقد إنتهت المحكمة إلى براءة المتهمين، بقتل المؤمن وعبدالحسن، ولم يحضون بذات التغطية، عدى متابعة المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان. 


ونظراً لحجم ما كُتب ونشر في الإعلام العالمي والمحلي عن قضية نزيهة سعيد، فقد إهتمت وزارة الداخلية بالموضوع بعد أن فتحت تحقيقاً نادراً في مثل هذه القضايا أثناء فترة السلامة الوطنية، كما قامت بعرضها على طبيب شرعي وأثبت ما بها من إصابات، فقدمت إحدى المتهمات بالتعذيب أمام المحاكم العسكرية أثناء السلامة الوطنية بتهمة الإعتداء على سلامة جسم الغير وحوت الصحيفة على 5 تهم: 


1) بأن قامت بصفعها على وجهها، وضربها بواسطة أنبوب بلاستيكي(هوز)، وركلها في جميع أنـحاء جسدها، دون أن يفضي ذلك الإعتداء إلى مرضها أو عجزها عن أعمالها الشخصية مدة تزيد عن 20 يوماً، على النحو المبين بتقرير الطبيب الشرعي. 


2) رمت غيرها بإحدى طرق العلانية بما يخدش الشرف أو الإعتبار، وكان ذلك أثناء قيامها بوضع رأس المذكورة في (مرحاض الحمام)، على النحو الوارد في التحقيقات. 


3) لم تؤدي العمل المنوط بها بأمانة وإخلاص، ولم تخصص وقت العمل الرسمي لأداء واجبات الوظيفة. 


4) لم تكن معاملتها للمواطنين حسنة ولم تحافظ على شرف الخدمة وحسن سمعتها، وذلك بأن قامت بسكب الماء على رأس ووجه المدعوة نزيهة أثناء تواجدها بالمديرية، على النحو الوارد بالتحقيقات. 


5) أتت عملاً يتنافى مع كرامتها العسكرية، على النحو الوارد بالأوصاف السابقة. 


ولقد إنتهت المحكمة العسكرية إلى إدانة المتهمة بما نسب إليها وغرمتها 200 دينار عن التهمة الأولى و 200 دينار عن التهمة الثانية والحرمان من العلاوة السنوية لمدة سنة واحدة عن التهمة الثالثة والرابعة والخامسة. 


وبناءٍ على الحكم المذكور، فقد إستأنفت المتهمة ذلك الحكم، وقضت المحكمة بإحالة الأوراق إلى المحاكم المدنية، بناءٍ على المرسوم بقانون رقم 28 لسنة 2011 بشأن القضايا الخاصة بحالة السلامة الوطنية، والمرسوم رقم 62 لسنة 2011 بإحالة القضايا التي لم تفصل فيها محاكم السلامة الوطنية إلى المحاكم العادية، وإستناداً لقرار وزير الداخلية الصادر في 8/12/2011م بإحالة جميع القضايا العسكرية المتعلقة بإتهامات الوفاة أو التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية إلى النيابة العامة. 


أمام هذا الوضع، كان لزاماً على المحاكم المدنية أن تنظر هذه الدعاوى المحالة إليها، والعجيب في هذا الأمر هو أن تقوم النيابة العامة بإعداد صحيفة إتهام ضد الملازم أول (المتهمة) وتقييدها جنحة بدلاً من جناية، وذلك من أجل تخفيف العقوبة إلى أقصى حد، لتعيد المحكمة التي نظرت الدعوى للنيابة مرة أخرى لتقيد من جديد على أنها جناية وليست جنحة، وبعد عدة جلسات وبعد أن قدمنا كل ما لدينا من دفاع ودفوع وشهود وتقارير طبية وصوراً عن آثار التعذيب الموجودة في جسمها، ليصدر الحكم في نهاية المطاف بالبراءة، معللين ذلك بتناقض أقوالها ولم تأتِ متفقة مع الدليل الفني وهو تقرير الطبيب الشرعي، مع العلم بأن تقرير بسيوني في الفقرة رقم 1603 قد أشار إلى حالتها، مستنداً إلى التقارير الطبية التي قدمتها بما فيها تقرير منظمة أطباء بلا حدود. 


وبصدور حكم البراءة في هذه القضية وغيرها من القضايا، فإن مثل هذه الأحكام لا تعدو إلا ان تكون ترسيخ لثقافة الإفلات من العقاب. 
ومن أجل ذلك، ونظراً لحجم إخفاقات النيابة والوحدة المشكلة تحديداً في نظر شكاوى التعذيب، فقد صرح المحامي العام بتاريخ 30أكتوبر2012م بأن الأحكام التي صدرت بالبراءة، فإن النيابة تطعن في أحكام براءة المتهمين بقتل المؤمن وعبدالحسن وتعذيب نزيهة سعيد.


من هنا، نجد بأن السلطات يوماً عن آخر تثبت وبما لا يدع مجالاً للشك بعدم جديتها، حيث تنصلت وتتنصل من إلتزاماتها جراء تصديقها على المواثيق الدولية، وأبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وتنكرها للتعهدات التي وافقت عليها أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف بقبولها عدد 158 توصية في سبتمبر الماضي. 


ومن أجل مناهضة الإفلات من العقاب، فإنه أصبح لزاماً زيادة الضغط على السلطات وتشبث الضحايا وأهاليهم بتوفير كافة الضمانات اللازمة لعدم إفلات الجناة من العقاب، كما يصبح من المهم عدم نسيان الشهداء وتسليط الضوء بإستمرار على هذه الجرائم التي أرتكبت خلال مختلف الحقب. 


من هنا، تأتي أهمية من أن يكون هنالك إصلاح جدي من خلال وضع السلطة التنفيذيذة تحت المحاسبة من قبل سلطة تشريعية كاملة الصلاحيات ومن خلال حكومة ممثلة من قبل الشعب حتى تسير قاطرة الإصلاح في الإتجاه الصحيح، إلى جانب إصلاح القضاء وكافة الأجهزة الأمنية وإخضاعها للمراقبة الدورية من قبل السلطة التشريعية، ولن يتأتى كل ذلك إلا من خلال وضع دستور عقدي يلبي متطلبات الإصلاح. 


وعليه، فإنه يصبح من أولويات عمل مؤسسات المجتمع المدني بمختلف توجهاتها السياسية والإديولوجية العمل على: 


أولاً: تقوية الترسانة القانونية لضمان عدم الإفلات من العقاب. 


ثانياً: ضبط ورصد ومتابعة أجهزة الدولة، بعدم السماح بتكرار الإفلات من العقاب، من خلال تقوية مؤسسات المجتمع المدني، وعلى الخصوص منها المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان.




ثالثاً:تعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان. 


رابعاً: تجريم الإعتقال التعسفي والتعذيب.


خامساً: ضمان المحاكمة العادلة. 


سادساً: الإنضمام للإتفاقيات الدولية. 


سابعاً: تعزيز إستقلال القضاء. 


ثامناً: معاقبة المسئولين عن إنتهاكات حقوق الإنسان، أياً كانت درجتهم ومركزهم. 


تاسعاً: وضع إستراتيجية لعدم الإفلات من العقاب. 





المحامي/حميد علي الملا

اقرأ المزيد

عن أية ليبرالية يدور الحديث؟



يكثر الحديث في الظروف العربية المستجدة عن دور ما يوصف ب “التيار الليبرالي«، ولكن يغلب على الكثير من هذا الحديث طابع سياسي مبتذل، فرغم أن الآمال تبدو كما لو أنها متجهة أو معلقة على دور هذا التيار، لكنه ذاته لا يظهر أنه في مستوى هذه الآمال، ويفتقد في الغالب الشجاعة الضرورية في الدفاع عن فكرته، ربما بسبب هشاشة الأرضية الاجتماعية  الفكرية التي ينطلق منها في غياب برجوازية وطنية قوية مستقلة عن الدولة، وفي الظروف الصعبة اختار من يدعون بالليبراليين اليوم الانكفاء والابتعاد عن العمل السياسي المباشر، وحين نشأت ظروف لعودة حد أدنى من الحياة الحزبية، فإن ورثة الليبرالية العربية القديمة لم يظهروا الاستقلالية والحزم اللذين وسما أسلافهم .


ليس خافياً على المراقب أن بعض “التيار الليبرالي”في كثير من الحالات هو اليوم أسير لعبة سياسية من الأنظمة العربية التي كانت في وقت سابق قد شجعت التيارات الإسلامية والمذهبية لتواجه اليساريين والقوميين، فلما اشتد ساعد الإسلاميين وقوي عودهم وأصبحوا خطراً على هذه الأنظمة، صار الحديث يكثر عن ضرورة التيار الليبرالي لمواجهة خطر “التطرف الإسلامي«، وهذه مصيدة ينساق إليها من يصفون أنفسهم بالليبراليين إن هم حاصروا مهمتهم في الاستجابة لحاجة الحكومات، وإلى هذا يمكن أن نعزو هامشية الدور الذي اضطلعت به التيارات الليبرالية في التغييرات التي شهدها العالم العربي، حيث بدت كمن بوغت بها، ولم تستطع أن تجد لنفسها الدور المنشود منها في قيادة وتوجيه هذه التغيرات، خاصة أنها بسبب تقاعسها في مكافحة استشراء الفساد والاستبداد لم تعد تحظى بثقة القطاعات الأوسع من الناس، التي انتظرت من يقودها، فوجدت الساحة تكاد تكون خلواً على التيارات الإسلامية، التي وإن خلعت على نفسها دور المعارضة، لكنها لا تملك برنامجاً للمستقبل كذاك الذي يجدر بالليبراليين أنفسهم أن يقدموه .


التطرف الإسلامي والتعصب المذهبي ينطويان على مخاطر كبيرة جديرة بالتصدي لها، والتيار الليبرالي معني بذلك ولا شك، وهذا ما يدل عليه سياق التطورات في عدة بلدان عربية اليوم، خاصة تلك التي شهدت تغير الأنظمة فيها، كمصر وتونس وليبيا وغيرها، ولكن على هذا التيار أن يظهر في المقابل شجاعة في مواجهة أوجه الفساد والتسلط في ممارسات الحكومات وعبثها بالمال العام وفشلها الذريع في تحقيق تنمية مستقلة مستدامة وحقيقية، واستمرار قمعها للحريات، وأن يظهر وفاءه للفكرة الليبرالية الأصلية القائمة على الإيمان بالتعددية الحزبية والفكرية وباقتصاد السوق، وهذا يتطلب منه مواجهة شجاعة للفساد والتعسف لا أن يخدع نفسه بأن مهمته تنحصر في مواجهة التيارات الإسلامية إرضاء للسلطات، المسؤولة بدرجة كبيرة عن صعود هذه التيارات وتمكينها في المجتمع والدولة .


إن صعود التيارات الإسلامية ظاهرة مركبة ومعقدة تحتاج إلى دراسة مستقلة وافية، ومواجهتها تتطلب معالجة التربة الاجتماعية  السياسية المسؤولة عن هذه الظواهر من خلال الإصلاحات السياسية العميقة، ومن خلال محاربة استشراء الفساد وأشكال التمييز الاجتماعي كافة، ووضع حد للتواطؤات الضمنية بين الحكومات وبين التيارات المتشددة، عبر إشاعة الثقافة العصرية في مضامينها الإنسانية والروحية العميقة في أنظمة التربية والتعليم وفي أجهزة الثقافة والإعلام ونشر قيم التسامح والاعتدال وحرية الرأي والرأي الآخر واحترام حقوق الإنسان وصون كرامته .
اقرأ المزيد

دول الربيع العربي من الإصلاح إلى الثورة – د.شفيق غبرا

الأنظمة العربية، وبشكل أساسي الأنظمة السياسية الجمهورية التي وقعت
فيها ثورات، وبالحالة التي نراها الآن، لا تعفي الأنظمة الملكية من
مسئوليات متشابهة، من قبيل الفشل في تحقيق المطالب العادية للناس، والفشل
الاقتصادي والبطالة، وضعف الأداء والفساد، وسرقة الأموال العامة والهزائم
السياسية أمام الأعداء، وحتى في العلاقة مع الأصدقاء، مع تراجع الدور
وانتشار المشكلات في الداخل وحول الإقليم.

نشاهد هذا في مصر وتونس،
كما نشاهده أيضاً في أنظمة ملكية أخرى، وحتى لا أضع تفرقة كبيرة، نحاول أن
نفهم الجذور التاريخية، إذ النظام السياسي في هذه الأنظمة تحوّل إلى نظام
أقلية، أب وابن وأخ وابن عم وأقرباء وأصدقاء، وتحوّل إلى مركزية شديدة
وتوريث. وقضية التوريث كانت مؤثرة في الأنظمة التي وقعت فيها الثورات، وإن
صح التعبير الأنظمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة، بمعنى بيع القطاع
العام إلى القطاع الخاص دون ضوابط ودون أخلاقيات، ودون تدقيق أو منافسة
حقيقية صادقة، تسمح بأن يكون هذا البيع حقيقياً. فقد تمّ البيع من النظام
إلى النظام، من النظام إلى من يعملون معه أو من أقربائه، وهذه إشكالية
أخرى. وهذه العملية فشلٌ في بناء دولةِ مساءَلةٍ ومسئولية، فلا فصل بين
السلطات، ولا سلطة مستقلة في عملية المساءلة على كل الأنواع والمستويات.

الثورات
التاريخية في العالم جميعاً ربما تأتي بعد فشل حقيقي في محاولة الإصلاح،
وأنا من الذين يقولون ان الدول التي لم تقع فيها ثورات مازالت لديها فرصة
الإصلاح، وإذا نجحت في هذا الإصلاح هناك فرصة أن توفر على نفسها إمكانية
الوصول. بمعنى أن الشعوب التي ثارت لم تكن في البداية تريد الثورة، وأن
الشعوب التي قامت لم تكن في البداية تريد أن تصل إلى هذه المواجهة وبهذا
الشكل، وإنّما كانت تريد إصلاحاً هادئاً مضموناً. الرئيس حسني مبارك عندما
وعد بالإصلاح في العام 2001 – 2002، لو قام بتحديد مدة الولاية؛ ولم يحول
مسألة الورثة إلى جمال مبارك؛ وأوقف الأحكام العرفية، وعمل مصالحة وطنية مع
التيارات الأخرى في المجتمع، وأدخل قطاعات من الشباب، وأصلح الحالة
البرلمانية، لوصل بمصر إلى موقع أفضل واستطاع أن يدخل التاريخ، كمصلح بلا
ثورة.

فشل وعود الإصلاح في الدول العربية، يؤدي عادةً إلى أن تتطور
الأمور، كما حدث في سورية بعد مجيء بشار الأسد وإطلاقه الوعود بالإصلاح،
وانتهى بفشل ربيع دمشق. وأحد الأسباب التاريخية أن هذا النوع من الأنظمة
كثيراً ما لا يرى الحقيقة، ويركّز على ذاته وأمنه واستمراره، وهنا تكمن
الإشكالية وصعوبة الإصلاح. فهو إذا دعا إلى اجتماع، اعتقد أن الكل معه،
ويتبين خلاف ذلك، كما حصل مع تشاوشيسكو. فإذا كان الحاكم لا يسمع ولا يناقش
ولا يساءل، ويركز فقط على الجانب الأمني، فكيف يعرف الحقيقة؟

وهذا
ما أدّى إلى تمادي الأنظمة في تزوير الانتخابات والتنقيح المفاجئ للدستور،
كما وقع في مصر، ما يعتبر إهانةً كبيرةً إلى المجتمع. ثم يستمر التمادي في
انتهاك الحقوق، إلى أن يصل الوضع إلى حالة معينة من التعبير المفاجئ
الغاضب. ولكن عندما ننظر إلى الجذور التاريخية للثورات أو الربيع العربي،
فإن كل هذا يمكن أن يحدث في مجتمع ما ولا تقع ثورة، لكن جاءت عوامل إضافية،
من ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت وعياً، فلماذا نحن هكذا بينما
غيرنا مختلف عنا؟ ولماذا يتمتع غيرنا بطريقة مختلفة؟ وجاءت هذه الحالة من
المعرفة على أرضية نمو جيل جديد عربي، يمثل 60 إلى 70 في المئة من المجتمع
العربي، وهذا الجيل الجديد بدأ يرى العالم بطريقة مختلفة عما تقوله وسائل
الإعلام والتلفزة، وبدأ الشباب يتساءلون ويتحدثون مع بعضهم البعض بعيداً عن
أجهزة الرقابة، وبعيداً عن الشمولية، وبعيداً عن الممنوع.

هذا
الإطار الجامع تفاعل مع الجيل الجديد الذي فجّر هذه الثورات، ولم تفجرها
الأحزاب التقليدية ولا الجيل السابق. الجيل السابق عمل ودفع ثمناً، ولكن
الأجيال الصاعدة أخذت المبادرة وجرّت الجميع معها، بينما كان الجميع
متخوفاً من أن ينجر من البداية. جاء كل ذلك مع نمو الوعي بحقوق الإنسان
ودور المواطن ومسألة اللاعنف وطرق التغيير ومواجهة القوة بوسائل شعبية.

عامل
آخر ساهم في هذه الجذور التاريخية للثورات العربية، وهو أن العالم المحيط
بنا يشكل ديمقراطياً، فنحن لسنا في الخمسينيات حيث كان ثلثا العالم مشكلٌ
دكتاتورياً أو شمولياً، وكان عدد الدول الديمقراطية قليلاً. وقد وقعت ثورات
ديمقراطية عديدة في العالم، وهي تصل إلينا الآن، وبالتالي هو تطور تاريخي،
لأن الشعوب تريد أنظمة تقدم لها أجوبة وحقوقاً وعدالةً. تريد رئيساً ورئيس
وزراء ووزيراً يتغيّرون.

في الوعي المسلم، برز النموذج التركي، فهل
الأتراك أحسن منا؟ فهم مسلمون أيضاً ويعانون من مشاكل التخلف نفسها؟ وكيف
نجحت تركيا في التحول إلى قوة إقليمية وقوة عالمية. وبالمثل كيف تحوّلت
البرازيل؟ ربما كان الشاب المصري سابقاً يقارن وضع مصر أحسن من سورية أو
أفغانستان فيقول: دعنا على ما نحن فيه. أما الآن فيقارنها بتركيا
والبرازيل. هذه الأبعاد ساهمت في تشكّل الوعي.

طبعاً الثورات لا تصنع
وإنما تأتي نتيجة عوامل تاريخية، ومن عمق التاريخ والتناقضات والصراعات.
وتأتي تلك اللحظة الخاصة، بإطلاق الشرارة، فمن توّقع أن البوعزيزي إذا أحرق
نفسه سيحصل ما يحصل؟ وهل عرفت أجهزة الشرطة والاستخبارات في الاسكندرية
انهم إذا قتلوا خالد سعيد وأخفوا الأدلة، سيكون هناك مليون على صفحة
الفيسبوك يرددون «كلنا خالد سعيد». وهذا ما ينتج عنه ثورة بالمحصلة دون أن
تدرك الأجهزة ذلك.

عندما تتكلم مع الثوريين المصريين في ميدان
التحرير، يقولون لك: كنا ننزل التحرير ونتعرض للضرب ونقاد للشرطة، وفي
المرة الأخيرة امتلأت الساحة بنص مليون مواطن، يؤمنون بأن الحرية «عيش»
وحرية وعدالة، ولم يفكر الناس بإسقاط النظام أو تفجير ثورة، فالثورة ليست
عملية سهلة، وهي لحظة غريبة في التاريخ الإنساني، تتجاوز الأفراد تصبح
عملية جماعية معقدة، لها أسباب متداخلة. ولكن بمجرد ما بدأ إطلاق النار
وسقط الضحايا انفجرت الثورة المصرية.

في المجتمعات العربية لا توجد
وسيلة سلمية للتغيير، ومن هنا تقع مجتمعاتنا في موقف صعب، لأنها لم تصل
لمرحلة التغيير السلمي والتداول على السلطة. والجذور التاريخية لهذه
الثورات انها ككرة الثلج، متى ما بدأت في مكان انتقلت لمكان آخر، فرفعت
الوعي وكسرت حاجز الخوف محلياً وإقليمياً. وهكذا دخلت المنطقة العربية في
هذا الفضاء، لتطرح السؤال حتى على الأنظمة التي لم تحدث فيها ثورات: هل
تبقى أمامها وقت للإصلاح، أم تلتزم العناد، وما هو ثمن ذلك؟

الإصلاح
صعب ومعقد، وفي الوقت نفسه يستغرق وقتاً، وهذا هو التحدي الكبير أمام هذه
الأنظمة. والعرب في هذه المرحلة التاريخية يعيشون مرحلة استقلال ثان،
الاستقلال الأول كان من الاستعمار بمعناه التقليدي، وكان صراعاً بيننا وبين
الآخر، أما اليوم فهو استقلال من نوع ثان… استقلالٌ عن الأنظمة وأنماط
مختلفة في الديكتاتورية، والسعي إلى بناء واقع جديد.

ولكن المرحلة
الأصعب بعد انتصار الثورة، كما نشاهد اليوم، حيث تظهر كل المشاكل
المتراكمة، حيث تكون المرحلة الانتقالية حساسةً في التعامل مع الثورات.

شفيق الغبرا
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

لا ليس خريفاً ولا شتاءً… إنه ربيع – د.علي فخرو

بعض كتاب وشعراء ومتحدِّثي العرب يوقعون الناس في حيرة. إنهم أحياناً
يتصرفون كأطفال سذَّج تجاه قضايا المجتمع المعقَّدة والتي تخضع لمنطق
التاريخ البشري. لقد بدأنا مؤخَّراً نقرأ لهم كتابات وقصائد تعميمية محبطة
لآمال الناس في نجاح ثورات وحراكات الربيع العربي، مبشِّرين بأن الربيع قد
انتهى إلى خريف عربي، وبعده سينتهي إلى شتاء قارس عاصف مدمّر.

والسّبب؟
حدوث مشاكل وأحياناً تراجعات في مسيرات ثورات وانتفاضات الشعوب العربية.
إنه منطق السَّذاجة الذي يحلم بألا تزيد الثورات والانتفاضات عن نزهة قصيرة
الأمد وعن إسقاط لهذا الطاغية أو ذاك، لتتحقق بعدها أهداف تلك الثورات
والانتفاضات وتدخل المجتمعات في بحبوحة عيش وعلاقات سلام. كذا يراد لثقافة
الاستبداد والاستغلال في مؤسسات الطغيان ولثقافة الخضوع والطاعة والذلّ في
المجتمع، تلك الثقافة التي تكوَّنت وتجذَّرت عبر القرون، يُراد لها أن
تختفي خلال سنة أو سنتين دون صراعات مريرة ودون سقوط ضحايا ودون منطق
التاريخ في الصُعود والهبوط.

لكنَّ منطق الثورات ليس بهذه البساطة
والبراءة. إنه منطق متعرّج، يمرُّ بمراحل، ينجح ويخفق، يعتمد على ويتعايش
مع عامل الزَّمن، عامل النَّفَس الطويل، ذلك لأنه منطق اجتثاث كلي للماضي
وبناء كلي جذري للمستقبل. أما الحاضر فيجب أن ينظر إليه كجسر عبور وكفترة
تهيئة لما هو قادم. وهو الأصعب والأخطر والمغموس بالآلام والأحزان.

ولذلك
فمنذ بداية الثورات والحراكات عبر الوطن العربي، نبَّه الكثيرون إلى أن
تلك الثورات والحراكات طرحت شعارات بالغة الروعة والسموّ، لكنَّ عفويَّة
انطلاقها من غضب شبابي، الذي بدوره أجَّج غضباً شعبيّاً، لم يسمح لها بأن
تطرح أكثر من شعارات. أما المشروع الثوري المتكامل؛ فقد ترك للزَّمن
ولأحداثه لكي ينضج ذلك المشروع الذي بدونه ستبقى الثورات والحراكات في خطر
دائم وعرضة للتّيه الفكري والمنهجي والتنظيمي.

وعليه فليتوقف
الناقدون المتباكون عن نشر الرثائيات التي تحبط وكتابة النَّقد المتحذلق
الكلامي، وليضعوا خوفهم المبرَّر على الثورات في شكل مساهمات فكرية
وتعبيرية لبناء المشروع الثوري الذي ينبغي إكماله في المستقبل القريب.
لنذكّر هؤلاء بأنَّ هناك جوانب نقص في الثورات والحراكات العربية تحتاج إلى
معالجتها وتقديم فكر نيّر بشأنها.

هناك جانب مشاعر العروبة
والانتماء للأهداف القومية الكبرى، وفي مقدّمتها التضامن القومي ووحدة
الأمة العربية والوطن العربي الكبير، إذ هما باهتان ومهمَّشان في حياة ما
بعد الثورات والحراكات. ومن هنا تبدو قضية العرب الكبرى، قضية دحر المشروع
الصهيوني وتحرير فلسطين، وكأنها محاصرة في زاوية ضيِّقة، لا يعبر عنها
إلاَّ تبادل السفراء من حاملي رسائل الودّ والصداقة المعيبة.

ومن هنا
يبدو الوجود الاستعماري الأميركي الجاثم على أرض العرب، احتلالاً
وتدخُّلاً يوميّاً وزيارات لمسئولين لا تنقطع، وتنسيقاً من قبل أجهزته
الأمنية مع أجهزة الأمن العربي وتأجيجاً للمشاعر الطائفية والعرقية، يبدو
مكانه أمراً طبيعيّاً وقدَراً لا رادّ له، متروكاً لكل قطر عربي أن يتعامل
معه بالطريقة التي يراها، حتى ولو تمّ ذلك على حساب مصلحة الأمة العربية
العليا المشتركة. من هنا لم يجد قادة أنظمة ما بعد الثورات أية حاجة لأن
يدعوا إلى مؤتمر قمَّة عربَّية للتباحث في أمور الجحيم الذي تعيشه الأمّة.

هناك
أيضاً قضية الصّعود والانتشار للإسلام الجهادي العبثي المتطرّف، القائم في
أكثره على أسس طائفية كريهة، غير المفرق في كثير منه بين الأبرياء
والمذنبين. إنه الآن يمتزج بفكر سياسي إسلامي سلفي بالغ الانغلاق والجمود
والتخلف؛ ليكوّنا فيما بينهما صورة للإسلام خارج إطار الإسلام السياسي
السّلمي الديمقراطي المعتدل الرّاغب في التعايش مع الإيديولوجيات الأخرى،
الذي يحاول التعايش مع العصر العولمي ومتطلباته المعقّدة.

نحن هنا
أمام ملحمة متفجرة داخل الإسلام نفسه؛ تنتظر من يساهم في إطفاء حرائقها.
وأي حريق أكبر من وقوف أحد كبار العلماء السلفيين في دولةٍ عربيةٍ مؤثّرة
بالمال والمكانة السياسية ونقده الشّديد اللاّذع المبطّن للحركات السياسية
الإسلامية التي قبلت التعايش مع مفهوم الدولة الديمقراطية المدنية، أحد
شعارات الثورات والحراكات. إنه وأمثاله يدشّنون معركة مزدوجة ضدّ الإسلام
المعتدل وضدّ كل ما جاء به الربيع العربي.

نحن هنا أمام معركة
التجديد الحضاري التي يجب أن تكون فاصلةً، ويجب أن تستقطب جهود كتاب وشعراء
ومتحدّثي العرب، لا مرثياتهم وبكائياتهم.

إذن هناك حاجة ملحّة
للتوقُّف عن التعامل مع ثورات وحراكات الربيع العربي، نعم ربيعها وليس
خريفها أو شتائها، بأسلوب طفولي مستعجل. الحاجة الآن هي للذين يستطيعون
المساهمة في سدّ الثًغرات والنواقص والاندماج العاطفي والفكري في الوهج
الذي سيأتي به المستقبل. هل نطمع من المتباكين ألا يجسّدوا قول أحد فلاسفة
السياسة من أن أكثر الثوار جذريةً ينقلبون إلى محافظين رجعيين يوماً واحداً
فقط بعد انتهاء الثورة؟

علي محمد فخرو
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد