المنشور

“المكارثية” لم تمت


بين الحين والآخر يجري استذكار الحملة التي قادها السيناتور الجمهوري المحافظ جوزيف مكارثي، وعرفت بالمكارثية نسبة إليه، والتي  انطلقت في  الولايات المتحدة الأمريكية عام ،1950 واستمرت لعدة سنوات، واستهدفت أبرز رموز الثقافة والفن، وكان من أبرز ضحاياها عملاق السينما الأمريكية، لا بل والعالمية، شارلي شابلن الذي اضطر لمغادرة أمريكا إلى أوروبا تحت تأثير الضغوط التي مورست ضده .

ثمة شخصية لا تقل أهمية عن شابلن كانت ضحية نموذجية للمكارثية هي الكاتب المسرحي آرثر ميللر، للدرجة التي اضطر فيها لعرض مسرحيته “البوتقة” في بلجيكا عام ،1953 قبل أن تعرض في الولايات المتحدة، وقد رفضت سلطات الأمن في حينه سفره إلى بلجيكا لحضور العرض المسرحي المأخوذ عن نصه، الذي قالت هذه السلطات إنه ينتقد الحملة ضد المثقفين الأمريكيين .

عندما كان آرثر ميللر في السادسة والثمانين من عمره، فاجأ أمريكا والعالم بنص مسرحي مفعم بالرؤية النقدية التي تليق باسمه وبتاريخه وإبداعه للسياسة الأمريكية . عنوان المسرحية هو: “بعث الأحزان”، ورغم أن الكاتب بدأ في كتابتها قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وتداعياتها، حيث الاندفاع المجنون من قبل الساسة الأمريكان نحو إخضاع العالم بإكراه لسلطتهم، لكنه قال “إن أصداء سبتمبر/ أيلول تتقافز في بعض مشاهدها”، مشيراً إلى ان إحدى شخصيات المسرحية تشير في حوارها إلى أن التورط الأمريكي في الحرب على فيتنام قد بدأ بناء على تقارير تقول إن الفيتناميين هاجموا مدمرة أمريكية وأغرقوها، ولكن الوقائع أثبتت فيما بعد أن المدمرة لم تغرق .

تدور أحداث المسرحية في إحدى جمهوريات الموز في أمريكا الجنوبية، حيث تصف وقوع أحد المتمردين النبلاء في قبضة الحاكم الذي يقرر إعدامه، وعندئذ تهرع وكالة إعلان أمريكية شهيرة للحصول على حق تصوير مشهد الإعدام مقابل 25 مليون دولار، واعتبر ميللر في حينه عمله هذا شهادة ضد حالة الجشع المادي والفقر الروحي التي تهيمن على العالم في ظلال السيطرة الأمريكية .

لقد مات جوزيف مكارثي، لكن المكارثية لم تمت، ورغم أنه لم يعد هناك اتحاد سوفييتي حتى يرمى من يعارض أمريكا، داخل أمريكا، بأنه عميل له، فإن مكارثية القرن الحادي والعشرين تخلق تهماً جديدة تلائم واقع اليوم، حتى يظل الحس النقدي في الثقافة الأمريكية الديمقراطية محاصراً .

اقرأ المزيد

القرية الكونية: عولمة لم تتعولم


كان مارشال ماك لوهان بين أوائل من تحدثوا عن “القرية العالمية”، وسرعان ما جرى تداول هذا المصطلح على نطاق واسع في أرجاء المعمورة، بل أن “أطراف” النظام الرأسمالي العالمي، تمييزا لها عن مركزه، صارت تروج لهذه المقولة بحماس شديد مصدقة إنها محتواة بالفعل داخل هذه القرية ، وان لها من الحقوق والواجبات ما لدى سكان القرية الآخرين.
 
التكنولوجيا الحديثة، خاصة تكنولوجيا المعلومات ووسائطها: الكمبيوتر وشبكة الانترنت ومحطات التلفزة التي تبث عبر  الأقمار الصناعية قادرة على خلق هذا الوهم وتزييف الوعي، لأنها تحجب تلك الفوارق الجوهرية بين الواقع، من حيث هو واقع بشر من لحم ودم وأفكار ومصالح متضادة، وبين الواقع الافتراضي الذي يوحي بنهاية جغرافية المكان، ونشوء جغرافيا جديدة خالية من الحدود، أو لا تحدها حدود.
 
إزاء هذا الكرنفال الواسع من النشوة بسقوط الواقع نفسه أمام سطوة الواقع الافتراضي، يجري إغفال حقيقة أن المتمكنين من استخدام وسائط هذا الواقع البديل، يظلون أقلية في هذا العالم الواسع من القارات والثقافات والانتماءات العرقية والدينية الذين ما زالوا أبعد من ما يكونوا عن أن يتحولوا إلى سكان قرية صغيرة يعرفون بعضهم بعضا.
 
إن التقانة الحديثة ، كما كان الحال فترة الثورة الصناعية، هي وسائل سيطرة ونفوذ بيد القوى الكبرى، القوى النافذة القادرة على إخضاع العالم ونهب ثرواته وغزو أسواقه ببضائعها. وتجير هذه الانجازات العلمية الكبرى لتحقيق الأهداف الخاصة بها، خاصة وان ما يعرف بالاقتصاد الجديد القائم على منجزات الثورة المعلوماتية والوسائط الرقمية يشكل الآن حوالي 80% من الناتج العالمي الخام، حيث يجري دمج البحث العلمي في الاقتصاد، لا بل وإعطائه دورا قياديا فيه ليذهب به نحو اكتشافات ومواقع جديدة . وهو أمر يعني أن البلدان المتخلفة، مهما سعت لمجاراة العالم المتقدم ستظل متخلفة، وتكفي الإشارة إلى أن حصة البحث العلمي في العالم العربي لا تتجاوز 0,1%، فيما تبلغ في الدول المتقدمة نسبة تفوق 3%. وهذه النتائج المتناقضة للتدويل الاقتصادي لا تنسحب على البلدان النامية وحدها، وإنما تترك آثارها السلبية على المجتمعات المتقدمة ذاتها.العولمة لا تجلب الثراء وحده، وهي لما تزل قارات متضادة من المصالح وليست قرية كونية للتكافل .

برأي الكاتب المصري جميل مطر فإن العولمة فشلت في الأمر الأساس، أي في أن تكون عولمة، برأيه أن العولمة لم تتعولم بعد، لأنه إذا استثنينا المستفيدين منها في الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى والشرائح المتعولمة في بعض البلدان النامية، فإن غالبية سكان الكوكب ما زالوا خارج منافع هذه العولمة التي يبشر بها ليلاً ونهاراً. إنهم بالأحرى ضحايا هذه العولمة، وسيظلون كذلك، وتقول مؤلفة كتاب” السيطرة الصامتة: “”لقد انتصرت الرأسمالية، ولكن غنائمها لم تصل إلى الجميع، وتتجاهل الحكومات مواطن الضعف في هذه الرأسمالية، وهذه الحكومات يزداد عجزها عن معالجة نتائج أنظمتها بسبب إجراءات السياسة التي أدخلتها”.
 
في مختلف العواصم الأوروبية، لا بل في الولايات المتحدة نفسها مظاهرات تضم عشرات الألوف، يمثلون المنظمات غير الحكومية التي تناضل من أجل أن تكف عن أن تكون العولمة في مصلحة فئة محدودة تزداد ثراء وبذخا، مقابل الإفقار المتزايد لشعوب بكاملها.المتظاهرون في باريس ولندن وبرلين وفي سياتل بالولايات المتحدة يرفعون يافطات تقول “العالم ليس سلعة”، معبرين عن الاحتجاج على التوجه الرامي لإلغاء ما تبقى من قيود على التجارة الخارجية، بإزالة الحواجز أمام ما تبقى من سلع لتشمل الخدمات الزراعية ومشاريع القطاع العام والاستثناءات الخاصة بالاستثمار والتي تعزز الرأسمال الوطني.إن هذا يعني بالأرقام أكثر من ستين في المائة من الإنتاج العالمي للثروات، وإذا حدث ذلك تكون العولمة الاقتصادية قد أطبقت الخناق على العالم.
 
أول ما يخطر على البال حين رؤية المشاهد المصورة لهذه المظاهرات هم أولئك العرب الذي ينظرون للعولمة كما لو كانت طبخت في بيوتهم، والذين يتحدثون عن هذه العولمة كما لو كانت جنة أخرى على الأرض، دون تبصر في الأوجه المعقدة للعولمة، التي إذ تتيح تدفق الصور والمعلومات وحرية الانتقال وتداخل الثقافات، فإنها تكرس، في المقابل، المزيد من الإفقار للطبقات المحرومة وتدمر البيئة وتستنزف ما تبقى من ثروات الكوكب.
 
إن من يتظاهرون في العواصم والمدن الغربية ضد هذا الوجه من العولمة إنما ينتسبون إلى تلك البلدان التي تشكل روافع هذه العملية المعقدة والمتناقضة، وبعبارة أوضح تلك البلدان التي تربح من وراء هذه العولمة التي ليست في الجوهر سوى رأسمالية عصرية، رأسمالية القرن الحادي والعشرين التي تعني كما عنت سابقاتها المزيد من الفقر والحرمان للشعوب الفقيرة، والتي تعني المزيد من الاستقطاب الحاد والعميق بين شريحة محددة تمثلها الشركات متعدية القوميات وبين غالبية شعوب العالم التي ستعاني كما عانت سابقا من الإفقار واستنزاف الثروات.
 
 وهؤلاء المتظاهرون يمثلون كتلة نوعية لأنهم ينشطون باسم منظمات جماهيرية واسعة، تحتج على تركيز الثروة في أيدي أقلية من الأثرياء، فيما يتفشى الفقر في صفوف أغلبية سكان الأرض.  بل أن وزير الاقتصاد الفرنسي الأسبق دعا إلى اعتماد “ميثاق للعولمة، يخفف من غلواء القسمة غير العادلة، ويؤمن إستراتيجية مشتركة للتنمية المتبادلة”. وثمة من يرى أن العولمة ذات الوجه الإنساني التي دعا إليها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ليست سوى توميه للتستر على الوجه غير الإنساني لهذه العولمة التي ألحقت الضرر بالبيئة والتنمية المتوازنة وقواعد العمل وحقوق الإنسان، فضلاً عن معاداتها للديمقراطية والشفافية السياسية.
 
في الأدبيات الاقتصادية والاجتماعية يدور نقاش طويل حول آليات العلاقة بين مجموعة البلدان التي كانت تدرج في خانة ما يعرف ب “العالم الثالث” وبين العالم المتقدم، او بلغة سمير أمين العلاقة بين المركز والاطراف، او ما تدعوه بعض المدارس الاقتصادية في امريكا اللاتينية خاصة، بنظرية التبعية، ولم تؤد التطورات الدولية بعد تداعي نظام القطبين، وتبوؤ المعسكر الغربي لصدارة العالم منفرداً إلا الى زيادة هذا النقاش حدة وعمقا، ويتمحور احد مفاصل النقاش حول ما اذا كانت هذه الآلية تميل نحو العزل او نحو الدمج، وهما كما نرى آليتان متناقضتان في الشكل، ولكن مساحة التداخل بينهما، رغم ذلك كبيرة.
 
في السابق كانت السيطرة او الهيمنة التقليدية المباشرة اذ تحكم سيطرتها على البلدان الفقيرة او النامية تحرص على عزل هذه البلدان بابقائها في دائرة الجهل والتخلف والعوز واستخدامها كمواطئ نفوذ إما للهيمنة على ما فيها من ثروات ان وجدت او تحويلها الى نقاط على طرق التجارة الدولية او كجسور أمامية في الإستراتيجية العسكرية خاصة في تلك الفترة التي اشتد فيها التنافس بين الضواري الاستعمارية او في فترة الحرب الباردة.
 
لكن الحديث يدور الآن عن الدمج لا عن العزل، بمعنى إشراك هذه البلدان في بنية الاقتصاد العالمي، ويتحدث البعض عن تعميم مستوى الرفاه العالمي، وتوحيد نسق الاستهلاك وإذابة الحواجز بين الشمال والجنوب، فبرأيهم انه في الاقتصاد الحديث القائم على التفريع والتخصيص ليس مطلوبا من جميع بلدان العالم ان تصبح بلدانا صناعية او منتجة، يكفيها مثلا ان تكون بلدان خدمات او سياحة وما الى ذلك.
 
لكن هذا الرأي وان تضمن عناصر صحيحة، فإنها تأتي مخلوطة وعن قصد بعناصر اخرى مغرضة، ذلك ان الدمج الراهن هو في حقيقته نوع جديد من العزل، يعيد تشكيل مفهوم التبعية وصياغته واعادة تقديمه برداء جديد، وهو يرمي الى نفي مسؤولية التقسيم الدولي الراهن للعمل عن تخلف “العالم الثالث”، كما كان يُعرف سابقاً، وفقره، ورد ذلك الى عوامل داخلية خاصة بكل بلد من بلدانه، في الوقت الذي تؤكد فيه تقارير المنظمات الدولية ان الهوة بين الشمال والجنوب هي الى ازدياد لا إلى تضاؤل، ويزداد الأفق انسداداً بوجه الغالبية الساحقة من الدول النامية، رغم كل المساعي التي تبذل  عبر السينما والشبكات الاجتماعية على تقديس ثقافة السوق  وتسويقها في صور ملونة، في الوقت الذي الذي يتم فيه التحطيم الواعي لأي نقد، هدفه تبديد هذه الأوهام، وإزالة الدثار الخادع عنها.
 
ان ثنائية العزل والدمج ليست بعيدة عن ثنائية التوحيد والتشظي التي تفعل هي الأخرى فعلها في عالم اليوم، عالم ما بعد الحرب الباردة تحديداً، فرغم ان العالم يسير قسراً او طوعاً نحو وحدة ظاهرية، الا ان مظاهر التشظي والتفكك وانقسام العالم الى دويلات يسير جنبا الى جنب مع هذا التوحيد، بل كأن آلية التشظي هذه تبدو في بعض الحالات كما لو كانت مجرد مظهر من مظاهر هذا “التوحيد” الظاهري، على النحو الذي شرحه بالتفصيل كل من جان زيغلر وريجيس وبريه في مناظرتهما الشهيرة التي صدرت ترجمة عربية لها، بعنوان:”كي لانستسلم”.
 
* نُشر في ملحق “شرفات” بجريدة عمان بتاريخ 9/4/2013
 
 

اقرأ المزيد

دور البطالة والفقر في إشعال الثورات العربية – نجيب الخنيزي


ذكرت منظمة العمل الدولية أن تفاقم مشكلة البطالة في العالم العربي كان من بين العوامل التي أشعلت شرارة الثورات الشعبية. وأوضحت المنظمة أن معدل البطالة بين الشباب العرب بلغ أكثر بقليل من 23% العام الماضي. وأضافت أن هذه النسبة ترتفع في أوساط النساء إلى أكثر من 30%، وأن مشاركتهن في سوق العمل العربية هي الأضعف على مستوى العالم. وبأن سوق العمل العربية ضعيفة ولا تحظى إلا بعدد محدود للغاية من فرص التشغيل. ومما يفاقم هذه المشكلة ضعف معدلات النمو الاقتصادي والخلل الذي يعانيه المناخ العام للاستثمار. وأشارت إلى أن ظروف العمل للشباب العرب سيئة للغاية جراء الأجور المتدنية والرعاية الاجتماعية والصحية المحدودة وعقود العمل غير الآمنة. ضمن هذا السياق حذر المعهد العربي للتخطيط من تزايد أعداد العاطلين عن العمل في الدول العربية ليبلغوا 19 مليونا في عام 2020، إذا لم تقم الحكومات بالعمل على رفع مستويات النمو وزيادة المشاريع لتستوعب الزيادة المطردة للأيدي العاملة. تقرير التنمية البشرية الصادر من الأمم المتحدة العام 1994 تضمن تحديد مؤشرات أساسية مثل مستويات دخل الفرد وأنماط نموها، وخيارات العمل والاستخدام والفقر والحماية الاجتماعية. على صعيدي الانكشاف الغذائي، وتفشي الأمراض، وقد كشف التقرير عن مظاهر اتساع رقعة الجوع وسوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي وتحديات الأمن الصحي في جل البلدان العربية.


ذكرت هيلين كلارك المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في مقدمة تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر في عام 2009 بأنه والتقارير السابقة ليست وثائق رسمية صدرت عن الأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وأن القصد من وراء إصدارها هو الدعوة لإطلاق نقاش دينامي جديد ومعمم يشمل العالم العربي (الحكومات والمجتمع المدني) والمنظمات الدولية والإقليمية..


كما جاء في ختام تصدير أمة العليم السوسوة (يمنية) مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ــ المدير الإقليمي ــ للتقرير، إن التركيز على تحقيق أمن الدولة من دون إيلاء أمن الإنسان الاهتمام المطلوب قد عاد بنتائج أقل من مرضية للدولة وللمواطن على حد سواء، وعلى المدى الطويل إن الحكومة التي تبحث عن ترسيخ أمن الدولة من دون أن تستثمر في أمن الإنسان هي حكومة لا تحقق أيا منهما، إن أمن الإنسان وأمن الدولة وجهان لعملة واحدة..


التقرير الأخير للتنمية الإنسانية العربية حذر من خطورة الضغوط السكانية (الديموغرافية) في البلدان العربية، ووفقا لإحصائيات دولية وإقليمية فإن البلدان العربية ستضم 395 مليون نسمة بحلول العام 2015 (مقارنة بـ 317 مليونا في العام 2007 و150 مليونا في العام 1980) وفي حين كان 38 % من السكان الحضر في العام 1970 ارتفعت هذه النسبة إلى 55 % في العام 2005 وقد تتجاوز 60 % بحلول العام، 2020 كما يتسم الطابع الديموغرافي للسكان بغلبة نسبة الشباب حيث لا يتعدى نحو 60 % من السكان الخامسة والعشرين من العمر، مما يجعل المنطقة العربية في مقدمة بقاع العالم على هذا الصعيد، حيث يبلغ معدل العمر فيها 22 سنة مقابل متوسط عالمي يبلغ 28 سنة. في المقابل تضمن التقرير أن هناك 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر، مشيرا إلى أن معدلات الفقر العام تراوح ما بين 28 % و30 % في حدها الأدنى في سورية ولبنان ونحو 60 % في حدها الأعلى في اليمن ونحو 41 % في مصر. كما جاء في التقرير أن الجياع في المنطقة العربية يبلغ عددهم خمسة وعشرين مليونا ونصف المليون أي نحو 10 % من إجمالي عدد السكان. المفارقة الدالة التي تطرق إليها تقرير التنمية الإنسانية لدى معاينته لمشكلة الجوع أن ثمة شرائح في البلدان العربية الغنية لا تحصل على ما يكفي من الغذاء من بينها الإمارات العربية المتحدة والكويت والسعودية.


البطالة عدت في التقرير من «المصادر الرئيسية لانعدام الأمن الاقتصادي في معظم البلدان العربية» وحسب بيانات منظمة العمل العربية (2008) كان المعدل الإجمالي لنسبة البطالة في البلدان العربية أكثر من 14 % من اليد العاملة (أكثر من 17 مليون عاطل) مقارنة بـ 3.6 على الصعيد العالمي.


هذه المشكلة معرضة للتفاقم على نحو أشد مستقبلا، لأن اتجاهات البطالة ومعدلات نمو السكان تشير إلى أن الدول العربية «ستحتاج بحلول العام 2020 إلى 51 مليون فرصة عمل جديدة». نستذكر هنا التقرير الذي حمل عنوان «التشغيل والبطالة في البلدان العربية.. التحدي والمواجهة» وقدمه مدير منظمة العمل العربية أحمد لقمان في الدورة الخامسة والثلاثين لمؤتمر العمل العربي وأشار فيه إلى حجم فرص العمل المطلوب استهدافه من التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العقد المقبل، موضحا أن القوى العاملة العربية «تنمو بمعدل يفوق 3 % سنويا أسرع من معدل نمو السكان البالغ 2 % أو معدل نمو السكان في سن العمل 2.8 %، ما يحتم إيجاد 3.9 مليون فرصة عمل جديدة سنويا».


اتساع الفوارق الاجتماعية في العالم العربي


جاء في تقرير للمنظمة العربية للتربية والثقافة أن عدد الأميين العرب بلغ أكثر من 70 مليون (ثلثاهما من النساء) أمي في العام 2005 وبنسبة تتجاوز 35% وهو ما يساوي ضعف معدل الأمية في العالم. مشكلات البطالة والفقر والجوع أصبحت سمة عامة في البلدان العربية قاطبة. ولو أخذنا بلدا نفطيا وغنيا كالسعودية، فإن المعطيات الإحصائية الرسمية المتوفرة تفيد بأن معدل البطالة يصل إلى أكثر من 10% في حين تتجاوز النسبة 26% بين الإناث في حين تقدرها بعض المصادر الاقتصادية غير الرسمية فوق ذلك بكثير . من الدلالات الفاقعة على انسداد أفق التنمية المستدامة في البلدان العربية التدهور والتقلص الحاد لدور ومكانة الطبقة الوسطى التي تمثل دعامة الاستقرار والتوازن الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الحديثة حيث جرى تهميشها وإضعافها على جميع المستويات وفي المقابل نشهد تعمق الفوارق الاجتماعية والطبقية في المجتمعات العربية بين الغالبية الساحقة من الناس وغالبيتهم من الشباب الذين يطحنهم الفقر والبطالة والحرمان وبين أقلية متنفذة تمتلك وتحتكر مكامن السلطة والثروة والقوة . وفقا لتقرير أعده أربيان بزنس تضمن قائمة بأغنى 50 عربياً في عام 2010 وقد قدرت ثرواتهم بما يزيد على 245 مليار دولار ، ومن بينهم 32 سعوديا يملكون ثروات تقدر بـ 166 مليار دولار وهو ما يفوق الدخل القومي لعدة بلدان عربية مجتمعة علما ان التقرير لم يشمل أصحاب المليارات الذين يفضلون أن يكونوا في الظل أما بحكم مناصبهم الحساسة أو لشبهة الفساد في مكونات ثرواتهم . الجدير بالذكر إن ثروات الحكام العرب والمقربين منهم لا يدخلون في هذا التقييم ، غير إن ما رشح في ضوء التحركات الثورية الأخيرة يتبين كيف أن العديد من الحكام العرب وعائلاتهم والدائرة الضيقة المحيطة بهم كما هو الحال في مصر وتونس وليبيا وغيرها اكتنزوا ثروات هائلة تقدر بعشرات المليارات من الثروات النقدية والعينية . الإحصاءات و الأرقام والمعطيات المخيفة المنشورة تعكس إلى حد كبير حجم اتساع التمايزات الطبقية / الاجتماعية ، ومدى الواقع المرير الذي تعيشه الغالبية الساحقة من الشعوب العربية ، كما تبين مدى إخفاق غالبية السلطات و النخب العربية الحاكمة في تلبية ابسط شروط احتياجات الإنسان العربي في ضمان أمنه الحياتي والمعيشي ناهيك عن إهدار حريته وكرامته وحقوقه الإنسانية الأخرى . بالطبع لا نستطيع أن نحصر أو نختزل أسباب الثورات العربية في جانب أو بعد واحد فقط هو الجانب الاقتصادي / المعيشي . من الواضح إن هناك سمات عامة مشتركة للبلدان والمجتمعات العربية رغم تباين نظمها الحاكمة ، وفي مستويات تطورها السياسي / الاجتماعي / الثقافي ، و مدى غياب أو الحضور النسبي لمؤسسات المجتمع المدني العابرة للهويات التقليدية الفرعية ، وكذلك التفريق في طريقة و أسلوب تعامل الحكومات العربية مع تلك الأزمات والاحتجاجات كما حصل في تونس ومصر وكما هو الحال في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها حيث منسوب القمع المرتفع و حيث الدماء سالت وتسيل بغزارة من جهة , وما هو حاصل في المغرب والأردن حيث يتم التغيير سلميا بوجه عام ومن خلال إصلاح النظام وليس عبر إسقاطه من جهة أخرى. لكن في الحالات العربية المختلفة لا نستطيع تجاهل البعد الاجتماعي / الطبقي الرئيس ، إلى جانب العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية المتردية و المتراكمة على مدى عقود ، والتي كانت بحاجة إلى مجرد شرارة لتقوم بدور المحفز والمفجر للحراك الشعبي و الشبابي العارم وغير المسبوق على امتداد العالم العربي ، والتي يمكن اختزالها في بعدي الخبز والحرية في الآن معا .


نجيب الخنيزي
كاتب وباحث ، وناشط سياسي وحقوقي سعودي

منقزل عن موقع الحوار المتمدن.

اقرأ المزيد

من يُرجع حقوق المفصولين؟ – سوسن دهنيم

تحدّثتْ إليَّ بمرارة عن وضعها المادي والنفسي في فترة توقيفها عن العمل، ولم تكن الوحيدة في أسرتها الموقوفة أو المفصولة فلا فرق بين الحالتين من حيث الضرر الواقع؛ إذ امتد الأمر إلى ابنها وابنتها وزوج ابنتها أيضاً. وهكذا وجد زوجها الذي يتحصل راتباً بالكاد يفي احتياجاته الأساسية نفسه أمام وجه المدفع، فكان عليه هو أن يعيل ثلاث أسر براتب لا يفوق متوسط الرواتب في البحرين بشيء، وذلك لفترة طويلة امتدت لأشهر قبل أن تعود زوجته إلى العمل. وها هي الآن تحاول جاهدة أن تحصل على حقوقها في فترة توقيفها غير القانونية من غير جدوى.

ليست هذه هي الوحيدة التي تحاول الآن استعادة ما لها من حقوق، وليست المؤسسة التي تعمل بها هي الوحيدة التي تماطل في صرف مستحقات فترة التوقيف؛ إذ مازال هناك الكثير ممن يحاولون استعادة ما لهم من حقوق مادية بعد توقيفهم عن العمل منذ مارس/ آذار 2011، بعضهم مازال موقوفاً، في حين عاد بعضهم الآخر إلى عمله بحقوق مسلوبة ولكنه اضطر إلى العودة لعمله على رغم الشروط المجحفة التي وضعت له لعرقلة عودته. عاد مضطراً كي يعيل أسرته التي قد تمتد إلى أكثر من أسرة كما هو وضع صاحبتنا هذه.

نحن بحاجة إلى لجنة حقيقية، ليست كاللجان التي تفرّخها الأنظمة العربية مع كل حدث ومع كل وعد بحل مشكلة أو أزمة، بل تكون لجنة محايدة وتضم أعضاء من منظمات عمالية عالمية لدراسة أوضاع العمال والموظفين ممن تضرروا في تلك الفترة ومازالوا؛ لإعادة حقوق من لهم حقوق ولتعويضهم عن كل الأضرار التي ما زالوا يعانون منها، فكم من مفصول اضطر إلى زيارة المحكمة بسبب رفع دعوى عليه من قبل البنوك التي تزخر ملفاتها بأسماء مفصولين وموقوفين لا يستطيعون دفع أقساط القروض بسبب عدم وجود مصدر دخل يمكنهم من دفعها، وكم من كشف حساب زادت فيه نسبة أرباح البنك على القرض بسبب عدم سداد القسط في وقته المحدد له، وكم من أسرة تراكمت عليها الديون واتسع نطاقها بسبب هذا التوقيف، وكم من معيلين ساءت أوضاعهم النفسية وعاشوا صراعاً واضطراباً وقلقاً حقيقياً بسبب عدم قدرتهم على سداد مصاريف أسرهم وعدم تمكنهم من توفير احتياجاتهم فباتوا لياليهم سهارى والهم يثقل أجفانهم؟

حين يطرح موضوع الحل الجذري لمشكلة المفصولين والموقوفين عن العمل ممن مازالوا يعتصمون حتى هذا الشهر؛ احتجاجاً على استمرار تجاهل قضيتهم، لابد أن تؤخذ كل تلك الأضرار وما لم أذكرها في الاعتبار وعدم الاكتفاء بحقهم في العودة فقط، أو حقهم فيما لم يصرف لهم من رواتب.

وبما أن التصريحات الرسمية تقول إن مشكلة المفصولين قد حلّت تقريباً، ولم يتبقَّ إلا القليل منهم ممن لم يعودوا لأعمالهم حتى الآن، نحن بحاجة لأن نقرأ إحصاءات رسمية مصادق عليها من قبل الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، لتلك الأعداد ولمن تم تعويضهم وإعطاؤهم جميع حقوقهم لنعرف العدد الحقيقي للمتبقين ممن لم يحصلوا على تلك الحقوق، ونتمنى ألا يكون عددهم أكبر من أقرانهم ممن حصلوا عليها.

اقرأ المزيد

تحية لأهل البحرين! – ناصر العبدلي

الشعب
البحريني أكثر شعوب العالم تعرضا للظلم، ليس على يد الحكومة البحرينية فقط،
بل حتى من أنظمة الخليج الأخرى، رغم أن مطالبه شرعية تحض عليها الشرائع
السماوية والشرعة الدولية للحقوق، ويفترض أن تكون هناك استجابة لمثل تلك
التوجيهات من الحكومة البحرينية ومن بقية دول الخليج، إذ لا يمكن أن يعيش
ذلك الشعب الطيب مأساة بسبب تناقضات داخلية عقيمة.



تتسرب بين الحين والآخر أجواء انفراج وحل للوضع العالق بسبب أخطاء الحكومة
نفسها، لكن الأوضاع تتعقد مرة أخرى، بسبب تدخلات إقليمية، بعضها يحمل نفسا
طائفيا بغيضا، ومع ذلك لدينا نحن في الكويت على اعتبار الخصوصية بيننا وبين
الشعب البحريني أمل كبير بأن تكون هناك استجابة جدية من الحكومة البحرينية للتحديات السائدة.

سياسة التجنيس العشوائي التي تعمل بها الحكومة على قدم وساق، من أجل خلق
توازن وهمي، أو أغلبية وهمية بين الشيعة والسنة لعبة خطرة عانينا ما يشبهها
في الكويت، وإن كانت على أساس تصنيفات أخرى، وإذا كانت الحكومة تعتقد هناك
أن ما تفعله مخرج للأزمة الحالية فهي مخطئة، وسيتحول الأمر إلى «كارثة»
خلال عقد أو عقدين من الزمن على أبعد تقدير.
لا نحمل الحكومة وحدها مسؤولية ما جرى، بل تتحمله أطراف أخرى بشكل متساو،
بعضها داخل البحرين وبعضها خارجها، لكن التاريخ لا يعود إلى الوراء،
والجميع يفترض أن ينظر بتفاؤل إلى المستقبل وأن يتحمل الجراح رغم عمقها من
أجل خاطر البحرين، وعلى الجميع أن يتحمل مسؤولياته في هذا الصدد لا أن يجتر
الماضي، فهناك أخطاء وينبغي تجاوزها من أجل مستقبل أهل البحرين وأبنائهم.
تحية لأهل البحرين دون استثناء، وتحية لأولئك الذين صمدوا رغم هول ما حدث،
وتحية للذين بقوا على العهد والرغبة في أن تظل البحرين واحة أمن وأمان ووطن
يتسع للجميع، دون النظر إلى مذهب أو قبيلة أو عائلة، فحوادث التاريخ تقول
إن الخلافات المذهبية والقبلية والعائلية هي القناة التي يتسرب منها الأذى
للجميع فأبقوها مغلقة.



اقرأ المزيد

مقاومة التطبيع: ورقة مــفاهيميّة – هشام البستاني

يرد مصطلح «التطبيع» في مجالات عدة مختلفة تخدم سياقات متشابهة: ففي علم
الاجتماع، يعني «التطبيع» العمليات الاجتماعية التي تتحوّل فيها الأفكار
والأفعال والسلوكيات (التي قد تكون غير مقبولة سابقاً أو مستهجنة) إلى أمر
«طبيعي» ومقبول وعادي، وجزء من الحياة اليومية للناس ضمن منظومتهم القيمية/
الاجتماعية. أما في الدبلوماسية وعالم العلاقات الدولية، فـ«التطبيع» يعني
عودة العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية وغيرها بين
دولتين كانتا قبل ذلك في حالة حرب أو عداء أو انقطاع للعلاقات بينهما، أو
لم تتمتعا بأية علاقة كانت. وفي العربية، تستعمل كلمة التطبيع أيضاً في
سياق التعامل مع الخيل بمعنى: الترويض وتهيئة الحصان ليتقبّل راكبه ويطيعه.

أول دخول لهذا المصطلح في سياق العلاقة مع «إسرائيل» في المنطقة العربية
كان إثر توقيع معاهدة «كامب ديفيد» بين نظام أنور السادات في مصر والكيان
الصهيوني عام 1979، وبرعاية من الولايات المتحدة الأميركية التي وُقّعت هذه
المعاهدة تحت إشرافها الكامل، والتي استمرّ النظام الحاكم في مصر في
الحفاظ عليها وعلى ما ترتّب عليها من نتائج تحت رئاسة حسني مبارك، وفي حقبة
محمد مرسي والإخوان المسلمين. كنتيجة مباشرة للمعاهدة، جرى «تطبيع»
العلاقات بين «البلدين» (بالمعنى الدبلوماسي)، ومحاولة استئناف العلاقات
الاقتصادية والسياسية والثقافية والتجارية والسياحية وغيرها، مما أدى إلى
ظهور مباشر لحركة «مناهضة التطبيع» كردّ فعل في الأوساط الشعبيّة،
والثقافيّة، والحزبيّة المُعارضة، التي رفضت إقامة علاقات من أي نوع مع
«إسرائيل» على أي مستوى، ودانت وجرّمت (معنويّاً) أي اتصال أو تعاون ومن أي
نوع كان مع «إسرائيل» كنظام أو مؤسسات (حكومية كانت أو «مدنيّة»)، أو على
مستوى الأفراد.
مع فصل مصر من جامعة الدول العربية إثر توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»،
ومقاطعتها نسبيّاً على المستوى العربي، ظلت مقاومة التطبيع ومفرداتها
ومفاهيمها محصورة في القطر المصريّ ولم تتجاوزه على نحو مؤثر إلى غيره من
الأقطار العربية لانحصار الممارسات التطبيعية داخل مصر في حينه، لكن مع
انطلاق أعمال مؤتمر مدريد للسلام (1991) الذي حضرته منظمة التحرير
الفلسطينية وحكومات دول الطوق (سوريا، لبنان، الأردن) والراعيين (أميركا
والاتحاد السوفياتي) لإطلاق عملية «السلام» مع «إسرائيل» التي كانت حاضرة
أيضاً، ولتمهيد الطريق أمام توقيع معاهدة أوسلو مع منظمة التحرير
الفلسطينية (1993) ومن ثم معاهدة وادي عربة مع النظام الأردني (1994)،
وخروج العلاقات التي جمعت النظام الرسمي العربي بالمؤسسات الصهيونية من
ضبابية السرية إلى وضوح العلن، وتحوّل «إسرائيل» على الصعيد الرسمي العربي
إلى «شريك» أو «صديق» في أسوأ الأحوال، بما في ذلك افتتاح ممثليات
دبلوماسية أو تجارية لها في كثير من العواصم العربية، والمجاهرة بإقامة
علاقات تجارية أو سياسية أو ثقافية أو غيرها في أخرى، أو إلى دولة معترف
بها على حدود الأراضي المحتلة قبل عام 1967 مع عدم التحرّك لاستعادة
الأراضي المحتلّة الأخرى ضمن هذا المنطق (الضفة الغربية، غزة، شبعا،
الجولان، وغيرها) والقبول بـ/ والمحافظة على «الأمر الواقع» في أحسنها؛ مع
كل هذا، تحوّل التطبيع في تسعينيات القرن الماضي من المستوى الرسمي والمجال
السياسي (الذي كان مطبِّعاً في الأساس قبل كل تلك الاتفاقيات والمعاهدات)
إلى قضية عمّت المنطقة العربيّة كاملة بكامل مستوياتها، وصارت مفردات
مقاومتها جزءاً يومياً من النضال الشعبي لكل شعوبها، إذ صار تحدّي التطبيع
تحديّاً عاماً يطل برأسه في كل مكان: من القطاع السياحي، ومن التجارة
والمنتجات الاستهلاكية، ومن مهرجانات الأفلام واللقاءات الثقافية، ومن
الصحافة والإعلام، ومن المجال السياسي ذاته طبعاً.
ورغم هذا التاريخ الطويل لحركة مقاومة التطبيع، إلا أن المادة النظرية/
المفاهيمية المتعلّقة بها، التي يمكن على أساسها بناء المواقف والأولويات
والإجابة عن الأسئلة، نادرة. وبينما يرتكز عمل لجان مقاومة التطبيع على
تعريفات مبتسرة وسطحية وتسووية الطابع، مهتمة أكثر بنقاط التوافق بين
مكوّناتها السياسية والإيديولوجية، يغيب الفهم العميق لماهية المشروع
الصهيوني نفسه، وبالتالي بناء تعريف مفاهيمي يرتقي بكلمة التطبيع من خانة
«الشتيمة» إلى خانة «المفهوم المعرفي»، ويعمل على الانتقال بمقاومة التطبيع
من خانة «رد الفعل» الانفعالية والميكانيكية إلى خانة «الفعل» الذي يحتكم
بشروطه لا بشروط خصمه، ويقدر – بناءً على ذلك – على التأسيس للمستقبل. هذا
ما ستحاوله هذه الوثيقة.


من ردّ الفعل إلى الفعل الممنهج

في سياق تحوّل الأنظمة الرسميّة العربية من صيغة لاءات قمّة الخرطوم
الشكليّة (1967) في التعاطي مع «إسرائيل» (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض)
إلى صيغة الانخراط المتسارع والفعليّ في المشروع الصهيوني، فإن الحال
يستدعي تعميق تعريف التطبيع ومقاومته، والانتقال به من حالة ردّ الفعل
المرتبط بمواجهة النتائج (أي مواجهة العلاقات الناتجة عن معاهدات «السلام»
ومرحلة الاعتراف الرسمي بـ«إسرائيل» مثل العلاقات السياسية والاقتصادية
والتجارية والثقافية والرياضية وغيرها)، إلى مواجهة المسبّب ذاته، وهو هنا
المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ودولته.
ولنوقف الانزياح عن الجوهريّ باتجاه ما هو فرعيّ، فالجوهري في تعريف
التطبيع هو: الاعتراف بشرعية الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المسمى
«إسرائيل»، وشرعية مشروعه، وشرعية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين،
والتعاطي معها على أنها جميعها أمر طبيعي أو مسألة تحتّمها «الواقعية
السياسية» أو أي مبرّر آخر. «إسرائيل» لكونها التشكل الماديّ للاستعمار
الاستيطاني الصهيوني تمثّل ظلماً لا يمكن القبول به لمجرّد وجوده، حالها في
ذلك كحال الموقف من أي نوع من أنواع الظلم كالعبوديّة والاستغلال وغيرهما،
فكيف إن أضفنا إليها سلسلة طويلة من المذابح والاعتداءات، وارتباطاتها مع
القوى الإمبريالية والاستعمار، وتوسعيّتها ومحاولتها الهيمنة على محيطها،
بل وأدائها دوراً مسانداً للأنظمة القمعية والديكتاتورية في العالم (جنوب
أفريقيا، العديد من أنظمة دول أميركا الوسطى والجنوبيّة، وغيرها)؟
هكذا نستطيع القول إنّ التطبيع يتمثّل مادياً بمساحة كبيرة من المواقف
السياسية والممارسات المختلفة التي تبدأ من الاعتراف (المباشر أو غير
المباشر) بشرعية المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني و/ أو القبول
بقيام الدولة الصهيونية على أي مساحة مهما كانت من أراضي المنطقة العربية
المحتلة منذ الاستعمار البريطاني/ الفرنسي؛ وتمتدّ لتشمل أية علاقات (مثل
العلاقات الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الرياضية أو غيرها) مع هذا
الكيان أو مؤسساته أو أفراده، أو الترويج له بأشكال مختلفة، أو الدعوة إلى
التعايش معه والقبول به كأمر واقع، أو أية ممارسات أخرى تشرعن «إسرائيل»
ومؤسساتها وتدخلها كمكوّن «طبيعي» ومقبول في نسيج المنطقة.
وتكتسب الأفعال المترتّبة على نتائج «معاهدات السلام» أو مستحقّاتها،
«قيمة» تطبيعية أكبر، مثل أخذ تأشيرة دخول (فيزا) من السفارات
«الإسرائيلية». فمثل هذه الأفعال تعترف بِـ وتؤكد (بشكل مباشر وغير مباشر)
على شرعيّة «إسرائيل» وسيادتها على الأراضي التي استعمرتها، وبالتالي
أحقيّتها في إعطاء تأشيرات الدخول إلى هذه الأراضي (كعمل سياديّ)، وفوق ذلك
يمثّل أخذ التأشيرة «الإسرائيلية» قبولاً مباشراً بمعاهدات «السلام»
ونتائجها، فلولا مثل هذه المعاهدات لم تكن السفارات والممثليّات لتوجد في
العواصم العربيّة، ولم تكن «سلطة أوسلو» (المنزوعة السلطة في الواقع) لتوجد
كوكيل عن الاستعمار الصهيوني في بعض مناطق الضفة الغربية، ولم يكن مواطنو
الدول العربيّة ليستطيعوا أخذ مثل هذه التأشيرات والتصاريح لدخول الأراضي
المحتلة عامي 1948 و1967 من الأساس (باستثناء بعض الفلسطينيين ممن كانت لهم
عائلات في الاراضي المحتلة عام 1967 ممن كانوا يستطيعون استصدار «تصاريح
احتلال» خاصة لهم للزيارة). هذا إضافة إلى القيمة الدعائية التي تكسبها
«إسرائيل» عبر الادّعاء بأنها دولة «ديمقراطية» و»منفتحة» تمدّ ذراعيها
للجميع بينما يرفضها الآخرون «المنغلقون»، وفوق ذلك فإن هذه الممارسات تفتح
الباب رويداً رويداً في الفهم الجمعيّ للناس، وعلى مدار فترة تاريخية
أطول، لتحوّل «إسرائيل» (من خلال زيارتها) إلى أمر «طبيعي» ومقبول.
بهذا المعنى، تتساوى مقاومة التطبيع مع مقاومة الصهيونية والمشروع
الصهيوني. كلاهما مصطلحٌ يفيد المعنى ذاته، لكن مفهوم مقاومة التطبيع يشير
أكثر إلى التحوّلات التي نشأت في فترة «السلام» والعلاقات العلنيّة للأنظمة
العربيّة مع «إسرائيل»، وانزياح هذه العلاقات عن المستوى السياسي فقط
(أثناء العلاقات السريّة) إلى كافة المستويات الأخرى، ويؤكد على الطبيعة
«الشعبيّة» والاختراقيّة الأعمق للتطبيع، وعملها على مستوى تزوير الوعي
والذاكرة الجمعيّة والتاريخ، بالإضافة إلى أن لا طبيعية الكيان الصهيوني
الناتجة عن التقسيم الاستعماري للمنطقة العربية تحيلنا أيضاً على لاطبيعية
الكيانات القُطرية الناتجة عن نفس التقسيم، والعلاقة العضوية التي تجمع كل
هذه الكيانات بعضها ببعض ككيانات وظيفيّة مفرغة من امكانيات التحرّر وتابعة
للقوى الإقليمية والدولية (بنى الهيمنة)، وهو ما يؤكد بدوره على ضرورة
ترابط العمل على هذه السياقات والعوامل الداخلية والخارجية بسبب تشابكها
العضوي، ويجعل من الضروري تقديم خطاب متكامل يقدم رؤية لا تتناقض مستوياتها
المختلفة مع بعضها البعض، وتوضح ترابط بنية الاستعمار الخارجي مع الهيمنة
الداخلية، وتقدم نقداً شاملاً لإفرازات بنية الهيمنة هذه وأدواتها
المتناقضة بكليّتها مع العدالة ومصالح المجموع الاجتماعي.
لذلك كله فإن مفهوم «التطبيع» ومقاومته أشمل وأعمق، وأكثر ارتباطاً بواقعنا
المعاصر، ويحيلنا لا على الصهيونية بشكلها المنفصل المجرّد، بل على
الصهيونية والاستعمار والامبريالية معاً، وارتباطهم الوثيق، وافرازاتهم
الجغرافية والسياسية والهوياتية والفكرية.


ما هي «الصهيونية»؟

تتلخّص أعمدة خطاب التأسيس والتثبيت المشرعِن للحركة الصهيونية في ثلاثة
أمور جميعها مفبركة: الأوّل العمل على تحويل الدين اليهودي (الذي ينتمي
الأفراد المعتقدون به ـــ مثلهم مثل المعتقدين بأية أديان أخرى أو أولئك
الذين لا يعتقدون بأي دين – إلى مروحة واسعة من القوميات والاثنيات
والخلفيات والمرجعيات الفكرية والسياسية والهوياتيّة) إلى قوميّة ذات أصل
عرقيّ واحد وتاريخ مشترك…إلخ، الثاني ادّعاء التمثيل الحصري لليهود
واليهوديّة (رغم وجود جماعات يهودية متديّنة وعلمانية ترفض الصهيونية)،
وتتساوى بذلك الصهيونية مع الأصوليات الدينية التي تدّعي لنفسها تمثيلها
وحدها للدين، وصوابيّة تفسيرها الحصريّ للنص الديني، وتنفي تنوّع وتعدّد
القراءات والتأويلات والتفسيرات والمذاهب داخل بنية الدين الواحد، وتجعل
منه ظاهرة ما فوق تاريخية، الثالث الاستناد إلى فهم محدّد وحرفيّ للمقولات
الأسطورية التوراتية (التي لا أساس حقيقي لها في الواقع) في سياق تبرير
الحق التاريخي في الاستعمار الاستيطاني وإبادة السكان الأصليين (وهي
بالمناسبة ذات المفاهيم التوراتية التي استعملها المستعمرون البيض الأوائل
في الأميركيتين)، وتحويل الرواية التوراتية الأسطوريّة إلى رواية تاريخية.
هذه هي الأعمدة المفبركة التي يسقط في فخّها الكثير ممن يُشغلون بمقاومة
الصهيونية والتطبيع، بينما تقوم تصوّراتهم الردّ – فعليّة بتعزيز المشروع
الذي يراد مواجهته. فالقول (مثلاً) إن الصهيونية تساوي اليهودية، وإنهما
وجهان لعملة واحدة، يعزّز مقولات الصهيونية الثلاث جميعها: فيؤكد النظر إلى
اليهودية كقومية لا كدين يتوزّع أفراده على كل القوميّات والخلفيّات
الفكريّة، ويؤكد تمثيل الصهيونية الحصريّ لليهود (رغم خطأ ذلك)، ويعزّر
الفهم المحدّد والحرفيّ للمقولات الأسطورية التوراتية ويتبنّى تاريخيّتها
المزوّرة رغم وجود تيارات إصلاحية وتفكيكية كبيرة داخل اليهودية والمسيحية
لا تفهم النص الديني بحرفيّته، هذا بالإضافة إلى النقد العلمي/ العلماني
الذي يأتي من خارج النص الديني لا من داخله. وفق ذلك، سيؤدي الموقف العدائي
من اليهود بصفتهم يهوداً، إلى دفع المزيد منهم إلى أحضان الصهيونية، بدلاً
من العمل على العكس.
الحركة الصهيونية حركة براغماتيّة، ولا مشكلة لديها في العمل على، وترويج،
عناصر ليست أساسية فيها: فهي لا تجد مشكلة في توظيف القومية من جهة، وتوظيف
الدين والخرافات الدينية من جهة أخرى، رغم أنها قامت أصلاً على أكتاف غير
المؤمنين والعلمانيين (بن غوريون وموشيه دايان مثلاً)، وكان خيار تأسيس
مشروعها في الجنوب الغربي لبلاد الشام واحداً من عدّة بدائل جغرافية أخرى
في مناطق أخرى من العالم، مما يعني أن آباء الصهيونية المؤسسين كانوا واعين
تماماً للتزوير الذي تقوم عليه أطروحتهم؛ إلا أن هذه الطروحات البراغماتية
تنكشف تماماً عند فحص تناقضات المجتمع «الإسرائيلي» الداخلية: الصراع
الشديد بين العلمانيين والمتديّنين، والتمييز السافر بين «الإسرائيليين»
البيض (الأوروبيين) واليهود الملوّنين (العرب والأفارقة)، ووجود مستعمرين
من غير اليهود (من الروس تحديداً)، كل هذا يدحض فكرة أن العامل الموحّد
للمجتمع «الإسرائيلي» هو الدين اليهودي، ويؤكد على أن الرابط الاستعماري
الاستيطاني هو الأساس (مع ما تفرزه الرأسمالية من واقع طبقي داخل مجتمع
المستوطنين أنفسهم، وهو واقع لا يلغي حقيقة أن جميع تلك الطبقات هي جزء من
مشروع الاستعمار الاستيطاني بكليّته)، وأن الحركة الصهيونية هي في الأساس
حركة استعمار استيطاني مرتبطة عضوياً بالبنى الاستعمارية والامبريالية
والرأسمالية، وأن هذا هو العامل الأكثر أهمية في مواجهة مشروعها وتفكيكه من
حيث أخلاقيته وشرعيته أولاً، وفعاليته ثانياً.
لهذا تعمل الصهيونية على نحو حثيث على تحويل مقولاتها المزوّرة إلى حقائق
«طبيعية»، وصرف النظر عن الأساس الموضوعي للصهيونية من خلال تطبيع النسخة
المزوّرة من «الحقائق» والمفاهيم والأسس، مما يضمن الانتقال من مستوى تفكيك
هذه الأخيرة، إلى مستوى مناوشة النتائج المترتّبة عليها، مع ملاحظة الفارق
النوعيّ الكبير بين الأمرين، وهو ما يؤدي إلى استبباب القواعد التأسيسية
للصهيونية وتحويل النظر إلى مفرزاتها فقط.


منظومة التطبيع الاقتصادية: الاستعمار والامبريالية والرأسمالية

علينا ألا ننسى أن الاستعمار (البريطاني والفرنسي) كان هو العامل
الأساسي في إنشاء «إسرائيل» ودعمها كقاعدة استعمارية متقدّمة له في سياق
سعي الاستعمار لنهب موارد الدول المستعمَرة لصالح اقتصادها الرأسمالي،
ولفتح أسواق جديدة لمنتجات وسلع هذا الاقتصاد، وحيث إن المنطقة العربية
تمتلك أهمية جيواستراتيجية كبيرة في ما يتعلق بطرق التجارة العالمية
البريّة والبحريّة، وتمتلك احتياطيّات كبرى من النفط – عصب الاقتصاد
الرأسمالي المعاصر -، فقد أُنشئت «إسرائيل» في قلب المنطقة العربية، لتكون،
من جهة، قاعدة استعمارية متقدّمة للحفاظ على المصالح الاستعمارية والتدخل
العسكري أو السياسي المباشر من أجل ذلك، ولتشكل، من جهة أخرى، ضامناً
لإدامة تبعيّة المنطقة عبر إعاقة تحرّر شعوبها، وهو ما يؤكد أن «إسرائيل»
هي دولة وظيفية مرتبطة عضوياً بالاستعمار والقوى العالمية المهيمنة في
سياقها الرأسمالي، ولهذا لم يكن مستغرباً أن تتحوّل الحركة الصهيونية
و«إسرائيل» من الحاضنة البريطانية (قبل وبعد الحرب العالمية الأولى) إلى
الولايات المتحدة (بعد الحرب العالمية الثانية) مع صعود هذه الأخيرة كأكبر
قوّة إمبريالية في العالم، وليس مستغرباً أن الدعم العسكري والمالي
والسياسي لـ«إسرائيل» تضطلع به الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد
الأوروبي على نحو خاص، ولن يكون مستغرباً إن تحوّلت «إسرائيل» في المستقبل
إلى جزء عضوي من إمبريالية أخرى في حال تغيّر ميزان القوى العالمي.
علينا أن نلاحظ محاولات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المستمرة لدمج
«إسرائيل» اقتصادياً في المنطقة لهذا الغرض، من خلال تعزيز وتشجيع التجارة
البينية، واتفاقيات التجارة الحرة والمدن الصناعية، والتصدير من خلال
الموانئ الاسرائيلية، ومشاريع البنية التحتية الكبرى مثل قناة البحرين
وشبكات الكهرباء والغاز وسكك الحديد وغيرها. إن محاولة «إسرائيل» التحوّل
إلى المحور الاقتصادي الأكبر والمحوري في المنطقة العربية وما بعدها (ما
سمّته الولايات المتحدة: الشرق الأوسط الأوسع) من خلال إخضاع المحيط
اقتصادياً وتحويله إلى مخزن للعمالة الرخيصة (اتفاقيات التجارة الحرّة
والمدن الصناعية المؤهلة QIZs مع الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية على سبيل
المثال) ومنفذ استهلاكي للتسويق السلعي يشير على نحو مباشر إلى مسألتين:
الأولى هي مركزية المنظومة الاستغلالية/ الهيمنية الرأسمالية بالنسبة
لـ«إسرائيل» ووضعها هي نفسها كجزء فاعل من هذه المنظومة على المستوى
العالمي، الثانية أن رؤية «إسرائيل» لمحيطها الحيوي المباشر تتعدى حدودها
الميثولوجية (من النيل إلى الفرات) إلى منطقة تمتد من المغرب على الأطلسي
إلى آسيا الوسطى شرقاً، وهو ما يفسّر التنافس الشرس بين القوى الإقليمية
الثلاث («إسرائيل»، تركيا، إيران) في مدّ النفوذ في هذه المساحة.
كل هذا يؤدي بنا إلى القول بأن مواجهة المشروع الصهيوني والتطبيع، تعني
مواجهة الرأسمالية أيضاً، من حيث أن الأولى هي جزء لا يتجزأ من بنية
الثانية.


التطبيع والتمويل الأجنبي

«الاندماج [الاقتصادي] الإقليمي يمنع النزاعات من خلال جعل الشركاء
التجاريين معتمدين أكثر على بعضهم البعض»، هذا ما يرد حرفيّاً في
«استراتيجية التعاون التنموي مع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أيلول 2010 –
كانون الأول 2015» لوكالة التنمية الدولية السويدية (SIDA) التابعة لوزارة
الخارجية السويدية، هذه الاستراتيجية التي تركز على مشاريع المياه
الإقليمية الكبرى العابرة للحدود (مع «إسرائيل» طبعاً)، وعلى دمج «إسرائيل»
اقتصادياً في المنطقة العربية، كمقدّمة أساسية لتصفية قضية الاستعمار
الاستيطاني الصهيوني وتطبيع «إسرائيل» في المنطقة العربية (بلغة وكالة
التنمية السويدية: «منع النزاعات» كما يرد أعلاه)، وكمقدّمة لإلحاق المنطقة
تماماً بالسوق الرأسمالية العالمية (بكلمات وكالة التنمية السويدية:
«الاندماج [الاقتصاديّ الاقليمي سيكون، خطوة باتجاه الاندماج في السوق
العالمية»).
الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC) تضع ضمن أولوياتها لمنطقة «الشرق
الأوسط» تحقيق «سلام مستدام» ودعم «الوسائل السلميّة لحل النزاعات»،
والإشارات واضحة إلى «إسرائيل»، فمع من سيتم تحقيق «السلام» وحلّ «النزاع»
في منطقة «الشرق الأوسط» إن لم يكن الأمر متعلّقاً بإسرائيل؟
جئنا بهذين المثالين من دولتين لهما تأثير سياسي قليل (السويد وسويسرا)
للبرهنة على أنه حتى مثل هذه الدول «الصغيرة» ذات التأثير القليل، تدفع
بكامل قوّتها باتجاه إدماج «إسرائيل» في المنطقة وتطبيعها (من خلال
المشاريع المشتركة، التعاون والتواصل عبر الحدود، مبادرات السلام، مبادرات
حل النزاعات، التعامل مع «الإقليم» كوحدة واحدة متكاملة). فإذا كان هذا حال
المنظّمات التمويلية التابعة للدول «الصغيرة»، فكيف الحال إذا مع الممولين
الكبار مثل الـUSAID التابعة للخارجية الأميركية، أو الاتحاد الأوروبي
ومؤسساتها الكبرى مثل مؤسسة آنا ليند التي تعلن بكل وضوح أهدافها
التطبيعية؟
معظم وكالات التمويل والمعاهد الثقافية تتبع لوزارات الخارجية في بلادها
(SIDA، USAID، SDC، CIDA، British Council، Institute Francis، وغيرها)
وبالتالي فهي جزء من ذراع السياسة الخارجية لبلدانها التي تدعم «إسرائيل»
بالمطلق وفي كل المحافل وتحت كل الظروف. أما المؤسسات الألمانية (فدريدرش
ناومان، فريدريش إيبرت، هاينرش بول، روزا لوكسمبورغ) فهي تتبع الأحزاب
الألمانية (الديمقراطي الحر، الاجتماعي الديمقراطي، الخضر، اليسار) وجميعها
يدعم «إسرائيل» ويقبلها وبالمشروع الصهيوني الذي أنتجتها.
لا نسمع شيئاً من هذه الجهات عن الاستعمار الاستيطاني والتوسعية والعدوانية
والقتل والتشريد والمذابح والهيمنة، كل ما نسمعه منها هو عن «السلام» و«حل
النزاعات» و«التعايش» و«مدّ الجسور» و«الدمج الاقتصادي» و«مشاريع البنى
التحتية المشتركة» والمشاريع الثقافية المشتركة. إن هؤلاء المموِّلين
(والجهات التي تأخذ الأموال منهم وتنفذ مشاريع بالتعاون معهم) لا يوزّعون
الأموال هكذا دون تبعات، فكلّهم يعملون وفقاً لاستراتيجيّات مكتوبة وواضحة
في ما يتعلّق بمنطقتنا، وبالتالي فهم يشاركون بشكل كبير بإعادة انتاج
المنطقة ودمج «إسرائيل» فيها بالمعنى البنيوي وعلى الصعد الاجتماعية
والاقتصادية والثقافية، وتشكيل فئات مرتبطة مالياً بالمموّلين، بما يؤدي
إلى إنتاج تبعية اقتصادية كبرى داخل المجتمعات لا تستطيع الانفكاك عن
المموّلين (الضفة الغربية كنموذج واضح على هذا الأمر)، وبنفس الوقت، يعمل
التمويل على تدمير محاولات انجاز استقلالية مالية للمشاريع المحلية لأن
التمويل – وببساطة – موجود من الخارج، وهو ما يؤدي إلى المزيد من التبعية.
التمويل الأجنبي إذاً هو جزئية داخل بنية التطبيع الكبيرة بأبعادها
الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية التي شرحناها سابقاً، بل إنها أكبر
أثراً لأنها تعتمد على انتاج التبعية المالية المباشرة، وبالتالي تأبيد
الهيمنة، ووأد محاولات إنجاز المشاريع بشكل مستقل، وتعمل على تطبيع
«إسرائيل» من خلال مسارات عميقة (نفسية، اجتماعية، ثقافية) تعمل على
مستويات الوعي والخطاب. وهكذا فإن مقاومة التمويل الأجنبي هو جزء لا يتجزأ
من مقاومة التطبيع.
بين مقاومة التطبيع، ومقاطعة «إسرائيل» وداعميها
المقاطعة ليست استراتيجية عمل. المقاطعة آلية – قد تكون واحدة من ضمن آليات
أخرى كثيرة – لتحقيق استراتيجية. الاستراتيجية نأخذها من مقاومة التطبيع،
وفي حالة «إسرائيل»، ينبغي أن تكون الاستراتيجية هي إنهاء الظلم التاريخي
الناتج عن المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، أي تصفيته. هذا يتطلب
جهداً أممياً/ دولياً على صعيد القوى المناهضة للظلم والاستعمار
والامبريالية، لأن مواجهة «إسرائيل» تعني وبالضرورة مواجهة القوى الدولية
الكبرى المساندة لها والمرتبطة بها عضوياً (الولايات المتحدة والاتحاد
الأوروبي على نحو أساسي)، ومواجهة النظام الاقتصادي الاستغلالي الهيمني
الذي تمثله (الرأسمالية). لن تستطيع قوى محلية الطابع هزم «إسرائيل» ومَن
هم وراءها. «عولمة المقاومة» في مواجهة المشروع الصهيوني هي ضرورة، لكن
الضروري أيضاً تحديد الهدف الذي تريد تحقيقه هذه المقاومة: تصفية المشروع
الصهيوني، لا الوصول إلى تسويات معه (حل الدولتين، حل الدولة الثنائية
القومية، حل الدولة الديمقراطية العلمانية).
حملات المقاطعة العربية والدولية تحوّل مواجهة «إسرائيل» إلى مسؤولية
فرديّة/ اجتماعيّة من جهة، وعالمية من جهة أخرى، وهذا أمر هام جداً، لكن
إشكاليتها الكبيرة هي انحصارها في العمل على الأداة (المقاطعة) دون العمل
على تبني استراتيجية جذرية واحدة هي التي أشرنا إليها أعلاه، وهذه نقطة
ضعفها. ولهذا فلا تعارض بين المقاطعة ومقاومة التطبيع إن تبنّت حملات
المقاطعة مفاهيم واستراتيجيّات مقاومة التطبيع الموضّحة في هذه الورقة،
وهذا ما نشجّعه.
* كاتب أردني (هذه الورقة هي إحدى وثائق «مسار تحرري»: http://taharruri.net)

** يودّ الكاتب أن يشكر أحمد الشولي، ومجد محسن، وثريا الريّس، ونضال
الزغيّر، ورامي أبو جبارة، وأيضاً المشاركين في الندوة والورشة حول مقاومة
التطبيع التي أقامها «مسار تحرري» يومي 2 شباط و8 آذار 2013، لمساهماتهم
المباشرة وغير المباشرة في هذه الورقة.


مسار تحرري – مقتطف من الوثيقة الأساسية

من أجل نضال وحدويّ طبقي لادينيّ عابر للوطنيّات والقوميّات: على النضال
في منطقتنا (التي سنصطلح على تسميتها «المنطقة العربية» لتسهيل التصوّر
الجغرافي لها لا أكثر) أن يتجاوز فكرة الهوية الوطنية أو القومية أو
الدينية أو الطائفية بالكامل، الوحدة التي يجدر الحديث عنها وعن إنجازها هي
وحدة المضطهدين، خارج هذا التعريف، فإننا نجد أن فكرة تأسيس الهوية على
«القومية» أو «العروبة» أو «الوطنية» أو «الدين» أو «الطائفة» هي مجرد فكرة
ضبابية تميل إلى الشوفينية وتؤدي إليها في نهاية المطاف. الفكرة من
مشروعنا هو إنهاء هذه الشوفينيات والسجون الهويّاتية، والعمل من خلال
ممارسة نضالية لادينية عابرة للقُطريات والقوميات على حد سواء، هكذا نتغلّب
على المنطق التفتيتي الذي لا يكتفي بتقسيم العرب إلى سنة وشيعة ومسلمين
ومسيحيين، بل يستخدم أيضاً التناقضات «القومية» بين العرب والفرس، وبين
العرب والأتراك، وبين العرب والأكراد، وبين العرب والأمازيغ، وهكذا. وظيفة
هذا المشروع هي تجاوز هذا المنطق بالتحديد. الحديث إذاً عن «وحدة عربية»
سيكون خارج السياق. يفترض بنا الحديث عن «وحدة الشعوب المضطهدة» أو «وحدة
الفئات المتضررة» في صيغة نسترجع فيها ما تم تفتيته كنتيجة للخطاب «القومي»
و«الديني» و«الطائفي». إننا نرى أن الصراع في المنطقة العربية ضد
الامبريالية وأدواتها وحلفائها من الصهيونية ونظم الحكم القُطرية هو صراع
ضد منظومة متكاملة تنتج الاستغلال الذي ترزح شعوب المنطقة تحت وطأته، صراع
عليه أن يكون دائم التجدد موضوعيا لضرورات العمل الشعبي المشترك العابر
للأديان والطوائف والقوميات والاثنيات والوطنيات نحو التحرر، وهو ما يمثل
مساهمتهم الإنسانية الملتحمة مع حركات التحرر والنضال العالمية في خلخلة
قواعد النظام الرأسمالي الذي يقبع على صدور كل البشر كناظم لآليات
الاستغلال والإفقار وإدامتها.



المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

اقرأ المزيد

أول تهديد علني باستخدام السلاح النووي


ارتبط الطابع الكوني للحرب باستخدام السلاح النووي فيها منذ أن استُخدم هذا السلاح في الحرب العالمية الثانية على اليابان من قِبل الولايات المتحدة . ولذلك لم يُضف الطابع العالمي لكل الحروب التي أعقبت تلك الحرب رغم أنها كانت كذلك من حيث المشاركون فيها، ولم تكتسب بالتالي مسمى الحرب العالمية الثالثة.
 
فجأة يظهر التهديد الكوري الشمالي بتوجيه ضربات نووية للأراضي الأمريكية بصورة علنية ودراماتيكية، ليُطلَق أول جرس إنذار حقيقي عن احتمال نشوب حرب نووية، لابد أن تضع نهاية لمختلف أشكال الحياة على أجزاء من كوكبنا الأرضي، ويمكن أن تستدرج دولاً أخرى بُعيد اندلاعها لتتحول إلى حرب عالمية ثالثة سوف تتواضع كارثية الدمار الذي خلفته الحربان العالميتان الأولى (1914 – 1919) والثانية (1939 – 1945) أمام الأهوال العظيمة لهذه الحرب.
 
إنه بالتأكيد تطور نوعي وخطر وليس نكتة من النكات السياسية العابرة، بدليل أن الولايات المتحدة شعرت بوخز خطر هذا التهديد، وراحت تتصرف بوحي من فضيلة التعقل الذي ينجح عادة في احتواء زفرة نوبة الغضب المجنون كالتي سيطرت فجأة على قيادة كوريا الشمالية.
 
إنما السؤال: ما الذي دفع بالغضب الكوري الشمالي للانتقال في حربها الباردة مع الولايات المتحدة إلى هذا المستوى غير المسبوق من التهديد . . التهديد باستخدام السلاح النووي؟
 
لم يحدث في تاريخ العلاقات الدولية ما بعد الحرب العالمية الثانية أن هددت دولة دولة أخرى بمهاجمتها بالسلاح النووي . يذكر بعض أساتذة القانون الدولي والعلاقات الدولية الروس أن الولايات المتحدة هددت الاتحاد السوفييتي باستخدام الأسلحة النووية سبع عشرة مرة . وكان ذلك بصورة سرية . ومع ذلك فإن هذه المزاعم تحتاج إلى تدقيق، حتى إذا ما صحّت فإنها ربما تكون قد أُطلقت خلال الفترة الواقعة بين استخدام أمريكا للسلاح النووي على اليابان عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 ونجاح السوفييت في إجراء تجربتهم النووية الأولى في 29 أغسطس/ آب 1949.
 
صحيفة “وول ستريت جورنال” وفضائية “سي . إن . إن” كشفتا في الرابع من إبريل/ نيسان الجاري عن أن البنتاغون كان يطبق خطة “خطوة خطوة” أُعطيت اسماً كودياًه playbook ويعني كتاباً يتضمن وصفات لاستراتيجية رياضية أو نشاط مؤسسي . وهي خطة كان قد صممها، بحسب “سي إن إن” وزير الدفاع السابق ليون بانيتا قبل أشهر، وأيدها بقوة خلفه تشاك هاغل وأقرها البيت الأبيض . وتضمنت الخطة إرسال طائرات “بي-52” القادرة على حمل أسلحة نووية يومي 8 مارس/ آذار و26 مارس/ آذار ،2013 وطائرات بي-2 القاذفة يوم 28 مارس/ آذار الماضي، وطائرات إف-22 رابتور المتطورة يوم 31 مارس/ آذار الماضي، إلى كوريا الجنوبية . وادعت واشنطن أن تلك محض تدابير “دفاعية”، مع أن قاذفات “بي-52” و”بي-2” الاستراتيجية النووية ليست دفاعية . وكانت في الواقع رسالة إلى كوريا الشمالية بأن الولايات المتحدة قادرة على توجيه ضربات نووية إلى أي مكان في شمال شرق آسيا . وقد صاحب ذلك إعلان البنتاغون عن نصبه نظاماً مضاداً للصواريخ البالستية في منطقة آسيا الباسيفيكية ونصب بطاريتين على الساحل الكوري الجنوبي لتدمير الصواريخ . وقد وُضعت الخطة على أساس تقديرات المخابرات الأمريكية، بأن هناك احتمالاً ضئيلاً جداً لرد فعل عسكري من جانب كوريا الشمالية، وأنه لا يوجد أي تهديد جدي من جانب كوريا الشمالية.
 
إلا أن تلك التقديرات لم تكن دقيقة على ما بدا، حيث أوضح مسؤولون أمريكيون لم تُكشف هوياتهم بأن واشنطن أخطأت الحسابات وأنها اضطرت إلى التراجع مدفوعة بالقلق من أن تؤدي استفزازاتها إلى خطأ في الحسابات لدى كوريا الشمالية .
 
ومع أن واشنطن شعرت بخطورة ردة الفعل الكورية الشمالية على استفزازاتها واتخذت خطوات تهدئة (تأجيل تجربة إطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى، وإرسال وزير خارجيتها جون كيري إلى الصين لطلب مساعدة بكين على إقناع كوريا الشمالية بتهدئة الوضع)، إلا أن كبرياء القوة دفعها من جديد للوقوع في خطة حملة الاستفزازات، من خلال تصريح وزير دفاعها تشاك هاغل يوم الثالث من إبريل/ نيسان الجاري، بأن التهديد العسكري الكوري الشمالي يشكل “خطراً جدياً وواضحاً” استُخدمت في الماضي لتبرير الحروب العدوانية الأمريكية على بلدان بعينها.
 
سياسة حافة الهاوية التي اتبعتها واشنطن نحو بيونغ يانغ بإرسالها طائرتي “بي-52” من نوع الشبح ومقاتلات “F-22 “ إلى كوريا الجنوبية، حيث باستطاعة الأسلحة النووية التي تحملها طائرتا الشبح تدمير كامل الطاقات الصناعية والمنشآت العسكرية في كوريا الشمالية وقتل أكثر من المليونين من المدنيين الذين قتلوا خلال السنوات الثلاث من الحرب التي شنتها أمريكا على كوريا (1950-1953) . . وردة الفعل الموازية من جانب بيونغ يانغ باتباع السياسة المحفوفة بالمخاطر ذاتها والتي تستهدف التوصل إلى صفقة مع واشنطن وحلفائها تنهي عقوداً من الحصار الغربي والدولي المفروض عليها، وتفتح أبواب كوريا الشمالية سوقاً ذا عمالة رخيصة تستقطب الشركات الدولية،  ما بين هاتين السياستين المحفوفتين بالمخاطر، تحبس شعوب منطقة واسعة من غرب وشرق آسيا وجنوبها . . وصولاً إلى نيوزيلندا، أنفاسها ارتعاباً من أهوال الحرب النووية الأولى في العالم التي يمكن أن يتسبب في نشوبها أي خطأ بشري أو تقني في حسابات طرفيها تأثراً بوطأة الضغط الذي تمارسه عليهما سياسة حافة الهاوية.

اقرأ المزيد

ولو ذرة من الشرف

غضب الكتاب والصحافيون الوطنيون جداً، والشرفاء جداً، عندما قال ممثلو
القوى الوطنية المعارضة إن وسائل الإعلام لدينا تلعب دوراً تأزيمياً
وطائفياً، وكأن تقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق لم يقل ذلك من قبل،
وأن هؤلاء الصحافيين والكتاب لا تعنيهم جميع عبارات التخوين والتحريض
الطائفي المدفوعة الأجر، ولا يعنيهم ما يكتبونه بشكل يومي من التحريض
المباشر لاعتقال جميع المعارضين في البحرين والتعامل مع الاحتجاجات بقبضة
من حديد، حتى وصل الأمر لأن يحرض أحدهم الدولة على اعتقال آباء كل الأطفال
الموقوفين أو المسجونين على ذمة قضايا تتصل بالوضع السياسي، وتعذيبهم – أي
الآباء – حتى يعترفوا على جميع من يشارك في الاحتجاجات.

في جميع
أنحاء العالم حتى أكثرها عداءً للديمقراطية لا يتم اتهام القوى المعارضة
بالخيانة لوطنها، في حين تعتبر المعارضة في الدول المتقدمة جزءاً أساسياً
من الدولة والمجتمع، بحيث لا يمكن تجاهلها فضلاً عن محاولة إلغائها
بالكامل.

وفي الطرف الآخر فإن وسائل الإعلام تعتبر في المجتمعات
المتحضرة السلطة الرابعة التي تراقب وتفضح أخطاء السلطات الثلاث أو
تجاوزاتها في حين يقتصر عملها في المجتمعات المتخلفة على تمجيد السلطة
التنفيذية والتي هي في الغالب المسيطرة على جميع السلطات.

ولذلك لا
يمكن الحديث عن إعلام مستقل ومحايد ونزيه في هذه الدول، فهو لا يرى إلا ما
يراد له رؤيته ولا يتحدث إلا كما يشاء المسئولون، مثل هذا الإعلام يصور
المسئولين كملائكة لا يخطئون، ويسبغ عليهم صفات الأنبياء.

لقد ذكرت
في مقال سابق حول «مفهوم الوطنية والخيانة» أنه «لو طبَّق ما يريده هؤلاء
الكتَّاب على تاريخنا البحريني من تفسير لمفهوم الوطنية والخيانة، لكان
بلغريف، أكثر وطنية من عبدالرحمن الباكر، وعبدالعزيز الشملان، وعبدعلي
العليوات، وجميع أعضاء هيئة الاتحاد الوطني، وخصوصاً أن هؤلاء قد تمت
محاكمتهم وإدانتهم، ونُفوا للخارج بسبب مواقفهم، ولكان أيان هندرسون أشرف
وأكثر حباً للبحرين من سعيد العويناتي، ومحمد غلوم، والشيخ عبدالأمير
الجمري، وعبدالرحمن النعيمي، وأحمد الشملان، والآلاف من أبناء البحرين
الذين قتلوا وسجنوا وشردوا في المهجر».

أتساءل أحياناً عن كمية الحقد
لدى بعض الكتاب والصحافيين لدينا، كم يبلغ ثمنه؟ وهل يقاس بالفهرنهايت، أم
بالكيلوغرام، أم بالمتر المربع؟ وهل يمتلك مثل هؤلاء الكتاب ولو ذرة من
الشرف؟

اقرأ المزيد

مارغريت تاتشر


المصادفة وحدها هي التي جعلتني أتحدث، منذ نحو أسبوع، عن مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الأسبق، التي رحلت عن الدنيا منذ يومين . حدث هذا في لقاء أقامته جماعة “مجاز للثقافة” في البحرين لمناقشة كتاب: السيطرة الصامتة” لمؤلفته نورينا هيرتس، والصادر ضمن سلسلة “عالم المعرفة” في دولة الكويت .

تعالج المؤلفة بمنظور نقدي هيمنة الشركات الكبرى على الاقتصاد العالمي، وإزاحة الدولة عن القيام بمسؤولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، وتذهب، كما يذهب الدارسون في الاقتصاد السياسي عامة، إلى أن تزامن انتخاب تاتشر رئيسة لوزراء بريطانيا عام ،1979 ورونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، قد أسس لمنهج في إدارة الاقتصاد وصف بالريغانية- التاتشرية، مثل انقلاباً على النهج الذي سارت عليه دولة الرعاية في أوروبا الغربية، بعد الحرب العالمية الثانية .

تاتشر، ومعها ريغان، رفضا أن يكون للدولة دور في إعادة توزيع الثروة، واعتبرت معايير الفقر النسبية لا مكان لها . . وفي معرض ردها، على المعارضة في مجلس العموم، قالت: “نحن لانسيء للفقراء عندما نعمل على رفع رواتب المسؤولين الكبار” .

وحين أضرب عمال المناجم عن الطعام احتجاجاً مطالبين برفع رواتبهم، وعلت المناشدات بإنقاذ أرواحهم، قالت قولتها التي لا تنسى: “دعهم يموتوا”!، فيما قال وزير التوظيف في حكومتها غامزاً من قناة المضربين: “إن والدي لم يشاغب، بل ركب دراجته ليبحث عن عمل” . حينها اتخذت عبارة: “اركب دراجتك”، شعاراً للفلسفة التاتشرية في إدارة الاقتصاد وقمع النفس الاحتجاجي للحركة العمالية والنقابية في بريطانيا ذات التقاليد العريقة، وهو أمر فعله، فيما بعد، ريغان ضد الحركة النقابية في الولايات المتحدة .

اقتصاد السوق منفلت الضوابط الذي قادته تاتشر وريغان سيغدو النموذج الأنجلو – سكسوني الجديد الذي سرعان ما انتشر في العالم، وستصبح الخصخصة كلمة السر الجديدة التي سيجري تداولها على نطاق واسع في البلدان النامية ضعيفة التطور، حيث جرى تفكيك قطاع الدولة وتخريبه، ومحله نشأت مافيات فتية لاعهد لها بتقاليد البرجوازية العريقة وخبرتها .

وستتكفل وسائل الاتصال الحديثة ووصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بإلغاء الدعم الحكومي للسلع بدورهما في تعميم هذا النموذج الذي لم يجلب سوى الكوارث على الشعوب، خاصة منها الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل التي ازدادت عوزاً أمام ازدياد ثراء الموسرين .

لا بأس من التذكير بذلك وسط كرنفال الاحتفاء ب”منجزات” تاتشر المستمر .

اقرأ المزيد

رافعة الوحدة الوطنية


ستبقى الحاجة قائمة دائماً للإعلاء من فكرة الوحدة الوطنية. والتأكيد على هذه الفكرة ليس ترفاً، ولا من باب القول المرسل الذي اعتدناه في العقود الماضية يوم كنا نؤكد في شعاراتنا على ما بات مؤكدا في وجدان الناس وأذهانهم حول هذه المسألة، فالوحدة الوطنية لمجتمعنا في خطر جراء المساعي المحمومة التي تقف وراءها أكثر من جهة معروفة بمذهبيتها الضيقة في مواجهة استحقاقات الإصلاح الكبرى.
 
وتبدو أوجه الخطر على الوحدة الوطنية في المجتمع ماثلةً بصورة خاصة في المقاربات السياسية التي ترمي لتصوير التناقض أو الصراع في المجتمع كما لو كان صراعاً بين الطوائف والمذاهب، لا بين المصالح الاجتماعية والسياسية المختلفة، التي من شأنها أن توحد المواطنون، سنة وشيعة، في المطالب والطموحات، على النحو الذي عرفناه في الخمسينيات، أيام هيئة الاتحاد الوطني ،  وفي انتفاضة مارس عام1965، وفي النضالات العمالية والجماهيرية في السبعينات والثمانينات قبل أن تجتاحنا هذه الغلواء الطائفية.
 
وهي الغلواء المسؤولة عن إعادة فرز المجتمع على أسس واهية وهشة، خالقة الوهم لدى أفراد كل طائفة بأن الخطر الذي يتهددها آت من الطائفة الأخرى، مما يدفع  الجميع إلى التخندق داخل شرنقة طائفته بدل الانصهار في البوتقة الوطنية الشاملة.
 
كمما قيل مراراً من قبل المخلصين، وما أكثرهم في هذا الوطن، أن الرد على هذه الغلواء الطائفية يمر عبر بناء صف وطني واسع يتجاوز التصنيفات المذهبية والطائفية، والتجربة الملموسة على مدار السنوات المنقضية تؤكد ان الوحدة الوطنية  لن تنشأ إلا من خلال الروافع الجديرة بانجاز هذه المهمة، ونعني بها القوى الوطنية والديمقراطية غير طائفية التكوين، وهو أمر يقتضي المزيد من الحوار حوله، فمقياس جدية أي خطاب لا ُتختبر من خلال ما يضفيه أصحابه على هذا الخطاب من صفات راديكالية، فيما هو في الجوهر لا يعدو كونه خطاباً معبراً عن رؤية طائفية أو مذهبية محدودة.
 
الاختبار الحقيقي لجدية أي خطاب تكمن في وطنيته، والمقصود بوطنية الخطاب مقدرته على التعبير عن المصالح المشتركة لجميع مكونات الشعب، ومقدرة أصحابه على مخاطبة هذه المكونات جميعاً، وتلمس مصالحها ومطالبها وتطلعاتها، ولأن في الإعادة إفادة كما يقال فما من تيار قادر على استنهاض هذا المزاج الوطني المشترك سوى تيار الحركة الوطنية الديمقراطية بمعناه الواسع الذي يضم القوى والتنظيمات والشخصيات المؤمنة بأهداف هذا التيار، الذي دعونا في سلسلة مقالات في هذه الزاوية بالذات لأن يشكل ما وصفناه بالكتلة الديمقراطية التي تشكل مركز استقطاب محوري في المجتمع بديلاً لمراكز الاستقطاب الأخرى.
 
وهذا التيار هو الأقدر على الدفع في اتجاه مسار التحول باتجاه حياة ديمقراطية حقة، دون أن تثار حوله الشكوك والأوهام، وهذه ليست مهمة سهلة، لكن بدونها لن يخطو المجتمع إلأى الأمام، إذا ما استتمر دفعه نحو الاصطفافات المذهبية أو الطائفية التي ستعيدنا عقودا إلى الوراء وستصرف الأنظار عن مهام التحول الديمقراطي الحقيقي الذي ناضل شعب البحرين وضحى في سبيله، وستغرقنا في دوامة من الجدل حول تفاصيل صغيرة تحجب ما هو رئيسي وجوهري، بل أن التهاون في التصدي لها، من داخل الجمعيات الوطنية ومن خارجها، سيجعل من المتعذر ترميم الخراب الكبير الذي أصاب ويصيب مجتمعنا.

اقرأ المزيد